الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثالث عشر: تأريخ الجزيرة القديم
مدخل
…
الفصل الثالث عشر: تأريخ الجزيرة القديم
ليس من السهل بقاء العاديات، التي تتألف من مواد منزلية وأدوات ضرورية لحياة الإنسان، مدة طويلة في أرضين مكشوفة سهلية، وفي مناطق صحراوية لا حماية فيها لتلك الأشياء. وليس من السهل أيضًا احتفاظ مثل هذه التربة بجدث الإنسان وبعظام الحيوان أمدًا طويلًا، وهي معرضة لحرارة شديدة قاسية ولرياح عاصفة قاسية؛ ولهذا لا يطمع الباحثون في الحصول على كنوز غنية من المناطق السهلة المكشوفة التي تغلب عليها الطبيعة الصحراوية والتي تؤلف أكبر قسم من جزيرة العرب.
ومن هنا سيتَّجه أمل الباحثين عن الآثار إلى الأودية التي تتوافر فيها الوسائل الكفيلة بنشوء المجتمعات على اختلاف أشكالها، وإلى السهول التي تبعث النهيرات والينابيع والآبار الحياة فيها، وإلى الهضاب والجبال حيث توجد المياه وتتساقط الأمطار وتتوافر الكهوف والصخور، وهي من العوامل المساعدة على نشوء الحضارة وحفظ الآثار؛ للاستفادة منها في الحصول على آثار تحدثنا عن تأريخ جزيرة العرب في آلاف السنين الماضية قبل الميلاد.
وليس في استطاعتنا في الزمن الحاضر التحدث عن جزيرة العرب في العصور الجليدية؛ لعدم وجود بحوث علمية عن هذه العصور في هذه البلاد. كذلك لا نستطيع أن نتحدث عن بلاد العرب في العهود الحجرية؛ لعدم وجود موارد
كافية تساعدنا في الكشف عنها كشفًا علميًّا. نعم، عثر على أدوات حجرية في موضع يقال له "الدوادمي""Dawadmi" وهو يبعد "375" ميلًا عن الخليج، عثر عليها مدفونة في الأرض، وكان بينها فأس طولها سبع عقد ونصف عقدة، ولها لون يميل إلى الخضرة1، وعثر على أدوات حجرية أخرى في أنحاء من جزيرة العرب، وفي جملتها الأحساء وحضرموت، ولكن ما عثر عليه ما زال قليلًا، لا يمكن أن يعطينا رأيا واضحا علميا في تلك العهود في هذه البلاد.
وقد تبين من فحص الأدوات الحجرية التي عثر عليها في الأحساء، أنها تتكون من أحجار لا توجد في العروض، وبينها أحجار بركانية، أو من حجارة "الكوارتز" ومن أنواع أخرى من الصخور؛ لهذا رأى فاحصوها أنها أدوات استوردت من العربية الغربية. كما تبين من فحص الأدوات الحجرية التي عثر عليها في اليمن وفي حضرموت، أنها من النوع المستورد من فلسطين أو من بلاد الشام؛ لأنها تشبه الأدوات الحجرية التي عثر عليها هناك2.
أما الأدوات الحجرية التي عثر عليها في مواضع من حضرموت، فليست محكمة دقيقة الصنعة، بالقياس إلى ما عثر عليه في فلسطين أو في بلاد الشام أو في إفريقيا، وقد عزا بعضهم ذلك إلى طبيعة أحجار هذه المنطقة، وعزاه آخرون إلى تأخر حضارة أهل حضرموت في ذلك العهد بالقياس إلى الحضارات الأخرى3. ورأى بعض الباحثين أن أرض حضرموت كانت في عزلة عن البلاد المتقدمة في الشمال، وأن صلاتها بإفريقيا كانت أقوى من صلاتها بشمال جزيرة العرب وبالهلال الخصيب وبحضارة البحر المتوسط؛ ولذلك صارت الأدوات التي عثر عليها بدائية بعض الشيء بالقياس إلى ما عثر عليه في أعالي جزيرة العرب، حيث كان الاتصال وثيقًا بالحضارات المتقدمة.
ومن الأدلة التي تثبت أن اتصال حضرموت بالسواحل الإفريقية المقابلة كان
1 p. b. cornwall، ancient Arabia، exp;orations in hasa، 1940-1941، p. 39، in geogra. Journ. Cvii، febr. 1946
2 georg، journal. Vol. xciii، no، I، January، 1939، pp. 30
3 georg. Journal. Vol. xciii، no. I، January. 1939m "an exploration in the hadhramaut and journey to the coast" by، freya strk
قويًّا ووثيقًا في العصور الـ"الباليوليثية"، هو عثور المنقبين على فئوس يدوية في حضرموت تعد من صميم الصناعات التي ظهرت في تلك الأنحاء من إفريقيا. ووجودها في حضرموت وعثور المنقبين على أدوات أخرى هي من صناعات إفريقيا، دليل على شدة العلاقات ومبلغ توثقها بين إفريقيا والسواحل العربية الجنوبية1.
ويظن أن الزجاج البركاني المتكون من فعل البراكين "Obsidian" المتخذ أشكالًا هندسية؛ مثلثًا أو هلالًا أو مربعًا، الذي يعود إلى الدور المعروف عند علماء الآثار بدور صناعات النصل "Blade Industries"، والذي عثر على نماذج منه في حضرموت، هو من المستوردات التي يرجع أصلها إلى سواحل إفريقيا الشرقية. وقد كانت هذه الصناعة مزدهرة في حوض البحر المتوسط وفي أوروبا قبل الألف الثالثة قبل الميلاد، أما في العربية الجنوبية، فيعود عهدها إلى الألف قبل الميلاد2.
واكتشفت أدوات من العصور الحجرية في "الحملة" ورأس "عوينات علي""عوينت علي" وجنوب "دخان" من "قطر"، منها فئوس ومقاشر ونبال وكميات من حجر الصوان. وهذه الصخور هي من العصور "الباليوليثية" و"النيوليثية"3.
وعثر في مواضع متفرقة أخرى من جزيرة العرب على أدوات من عهود مختلفة قبل التأريخ، عثر على أكثرها في مواضع شتى تقع عند الأودية والطرق والمواضع التي تتوافر فيها وسائل الحياة. وسيكون لبحث من يأتي بعدي فيقوم بوضع خارطة أو مخطط للمواضع التي عثر فيها على آلات وأدوات مما قبل التاريخ شأن كبير، ولا شك في الكشف عن مواضع السكنى والحضارة في بلاد العرب قبل التأريخ، وفي الكشف عن نظرية تغير الجو في جزيرة العرب ونظرية الهجرات وارتحال السكان من مكان إلى مكان.
1 b.r. 527، "restricted"، geogeaphical handbook series for official use only، western Arabia and the red sea، june، 1946، naval intelligence division
وسيكون رمزه: Naval
2 Naval
3 تقرير شامل عن الحفريات الأثرية في جزيرة "فيلكا"، 1958-1963م، الكويت "ص24".
وعثر على آثار متنوعة من العصور الـ"الباليوليثية""Palaolithikum""Palaeolithic" والـ"النيوليثية""Neolithikum""Neolithic" في الكويت والبحرين وحضرموت ومواضع أخرى من العربية الجنوبية واليمن. وقد ذهب "فيلد""H. Field" إلى أن اليمن وعدن كانتا مأهولتين بالسكان في العصور "النيوليثية"، ثم هاجر قسم من الناس إلى عمان والخليج، وهاجر قسم آخر بطريق باب المندب إلى الصومال، و"كينيا""Kenya" و"تنجانيقا"، وهاجر فريق آخر بطريق مأرب ونجران إلى شبه جزيرة سيناء وفلسطين والأردن1.
وعُثِرَ على آثار من العصور المذكورة في مواضع من المملكة العربية السعودية تمتد من الأحساء "الهفوف" إلى الحجاز، ومن مدائن صالح إلى نجران، وقد عثر على أدوات حجرية في "تل الهبر". وقد كان الصيادون في عصور ما قبل التأريخ يتنقلون باتجاه الأودية من مكان إلى مكان حيث كانت الأحوال فيها خير مما عليه الآن، وقد ترك هؤلاء الصيادون ثم الرعاة بعض الآثار في الأمكنة التي حلوا بها ما برح السياح وخبراء شركة "أرمكو" وغيرهم يعثرون على قسم منها بين الحين والحين2.
ووجدت في "كلوة""Kelwa" التي تقع على سفح "جبل الطبيق" آثار من العهود "الباليوثيكية" القديمة: "Chelleen" والـ"Acheuleen" والـ"Levalloisien"، وقد قدر بعض الباحثين تأريخ السكنى في هذا الموضع إلى الألف الثامنة قبل الميلاد. وقد اكتشف هذا الموضع "هورسفيلد""G. Horsfield" و"كلويك""N. Glueck"، فوجدا آثارًا وصورًا على الصخور، قدر أنها ترجع إلى آلاف من السنين قبل الميلاد من مختلف العصور3.
وعُثِرَ على كهوف وقد صورت على جدرانها صور حيوانات، وصور الشمس
1 a. grohmann، s. 15، h. fleld، papers of the Peabody museum، 48/2 "1956" pp. 117.
2 h. fileld، papers، 48/2 "1956"، 63، a. grohmann، arabien، s. 15
3 n. glueck، the other side of the Jordan، new haven، con. 1940، pp. 43، h. rothert، transjordabien، vorgeschichtliche forschungen، Stuttgart، 1938، s. 161، a. grohmann، arabien، s. 16
والهلال، وذلك على طريق التجارة القديمة في العربية الجنوبية، بين وادي يبعث ووادي عرمة. وهي تشبه في أهميتها من دراسة الناحية الأثرية، الصور المتقدمة التي عثر عليها في "كلوة" في الأردن1.
فأس من الحجر تعود إلى عصر الـ"Palaeolithic" المتأخر، عثر عليها في "دوادمي".
صنعت هذه الصورة عن صورة نشرت في مجلة: "The Geographical journal" جزء شباط سنة 1946، أرسلها لي صديقي الدكتور جورج ماثيوس من الظهران.
وقد ذهب بعض الباحثين إلى أن جزيرة البحرين كانت مأهولة بالناس أيام العصور الجليدية المتأخرة في أوروبا، أي: قبل خمسين ألف سنة، وأن ساحل الخليج، ولا سيما المنطقة الواقعة بين "الدوادمي" وشمال القطيف، كان مزدحمًا
1 Naval، p. 214
بالسكان في العصور البرونزية، أي حوالي "3000-2500 ق. م"، كما عثر على أدوات من العصور "الباليوثيكية" في موضع "رأس عوينت علي""عوينات علي" في شبه جزيرة "قطر"1.
وقد ذهبوا أيضا إلى أن جو البحرين آنذاك -أي أيام العصور الجليدية- كان يشبه جو بلاد اليونان في الوقت الحاضر، وأن أرض البحرين كانت مخصبة خضراء، مغطاة بكساء من الغابات؛ ولعلها كانت متصلة إذ ذاك بالأرض الأم -أرض جزيرة العرب-. أما سكانها فقوم من الصيادين، عاشوا على ما يقتنصونه من حيوانات، وفي مقدمتها الأسماك. وقد عثر على أدوات من حجر الصوان، استخدمها أولئك الصيادون في صيدهم وفي تقطيع لحوم الفرائس التي يوقعها سوء حظها في أيديهم، عثر عليها في مواضع متعددة من البحرين، وبعدد كبير أحيانا، مما يدل على أن تلك الأماكن كانت مستوطنة آهلة بالناس.
وليس في هذه الأدوات الصوانية ما يشير إلى أصل أصحابها، أو إلى أسمائهم وأسماء المواضع التي كانوا فيها. وكل ما يستفاد منها أنها من أواسط العصور "الباليوثيكية""Paleothitic"، وذلك بدليل مشابهتها لأدوات من الصوان ترجع إلى هذا العهد، عثر عليها في شمال العراق وفي فلسطين وفي شمال غربي الهند2.
وقد عثر في البحرين أيضا على عدد من رءوس حراب وسكاكين صُنعت من الصخور الصوانية، قدر بعض الباحثين عمرها يتراوح بين عشرة آلاف واثني عشر ألف سنة، وهي ترجع إلى أواخر أيام الرعي وابتداء عهد الاستيطان والاستقرار والاشتغال بالزراعة. وبين ما عثر عليه من هذه الأدوات، أحجار سنّت وشذبت لكي تكون بمثابة آلات لحصد المزروعات ولقطع الحشائش واجتثاثها من الأرض3.
وفي العربية الغربية والعربية الجنوبية جبال ترصعها كهوف، اتخذها الإنسان
1 p.b cornwall، ancient Arabia: explorations in hasa، 1940-1941، a. grohmann، Arabian، s. 255.
وسيكون رمزه: Arabien.
2 james h.d. belegrave، welcome to Bahrain، London، 1965، pp. 50.
3 المصدر نفسه، "ص51".
مساكن له، فأقام فيها قبل الميلاد بأمد طويل، لا نستطيع تقدير زمانه، واتخذ بعضها معابد ومواضع مقدسة وأماكن للخلوة والتأمل الروحي والعبادة، وبعضها مقابر يودع فيها أجداث آبائه وأجداده وأهله، ولكن أكثر هذه الكهوف قد عبث بها الزمن وعبثت بها أيدي الإنسان، أكثر من عبث الطبيعة بها؛ فانتزعت منها ما نبحث الآن عنه من بقايا عظام، وتركات سكنى، وآثار فن، فحرمنا بذلك الوقوف على حياة الإنسان في جزيرة العرب في تلك الأيام.
وقد أشار الكتبة "الكلاسيكيون" إلى سكان الكهوف في بلاد العرب، وعثر السياح على بقايا تلك الكهوف التي كانت منازل ومساكن آهلة بالناس. ولا يزال الناس يسكنون الكهوف في حضرموت وفي مواضع أخرى من جزيرة العرب1، وقد يكون من بينها كهوف كانت منازل الأجداد النازلين اليوم بها منذ آلاف من السنين.
ولما كانت زيارات السياح لهذه الكهوف زيارات سريعة خاطفة، لم يتعمق السائحون فيها في داخل الكهف، ولم تتناول ما على جدر الكهوف من رسول أو زخارف، وقد يأتي يوم يعثر فيه الباحثون على كنوز من فن سكان الكهوف، ومن مخلفات لهم وعظام تكدست تحت أطباق الثرى، نستخرج منها وصفًا لحياة الإنسان في تلك المناطق من جزيرة العرب، وقد تفيدنا في دراسة الصلات والعلاقات التي كانت بين أهل الجزيرة وبين بقية أنحاء العالم في تلك العهود السحيقة.
فيتبين من هذه الآثار القليلة أن بلاد العرب كانت مأهولة بالناس منذ العصور "الباليوثية""Palaeolithic"، أي العهود الحجرية المتقدمة، وأن من أقدم الآثار التي عثر عليها آثارًا من أيام العصور المعروفة بـ"Chellian" بين علماء الآثار، أي: الأدوار الأولى من أدوار حضارة العصر الحجري، وأنه قد عثر على أدوات من الصوان في الربع الخالي وفي حضرموت من عهد الـ"Neolithic" والعصور "البرونزية"، وعثر على أدوات من الصوان من عصور الـ"Chalcolithic" هي من النوع الذي عثر عليه في جنوب فلسطين2.
1 van der meulen، aden to the hadhramaut، p. 120، 200، 208
2 naval. P. 213
ولم يوفق الباحثون للعثور على هياكل كاملة لإنسان ما قبل التاريخ، لا في جزيرة العرب ولا في "سيناء"1. وللعثور عليها أهمية كبيرة بالنسبة إلى البحث في تأريخ ظهور الإنسان وتطوره؛ للوقوف على الزمن الذي عاش فيه في بلاد العرب.
والجماجم والعظام مادة مفيدة جدًّا في دراسة التأريخ، ولكن الباحثين لمَّا يتمكنوا من الحصول على مقدار كافٍ منها يكوِّن عندهم فكرة علمية عن العصور التي ترجع إليها وعن أشكال أصحابها. وقد عثر رجال شركة "أرمكو" للبحث عن البترول في العربية السعودية على بقايا عظام وأسنان لبعض الحيوانات "الحلمية""Mastodon" وعلى قسم من جمجمة حيوان قديم في موضع يبعد تسعين ميلًا إلى الغرب من "الدمام" ووجد مثل هذه البقايا الحيوانية في أنحاء أخرى من جزيرة العرب، ولكن ما عثر عليه لا يزال قليلًا، لا يكفي لإعطاء آراء علمية عن الحياة في جزيرة العرب في التأريخ القديم2.
وقد تعرضت تلك المقابر لعبث الطبيعة ولعبث الطامعين بما فيها من أشياء ثمينة؛ لذلك أصاب أجسام الموتى التلف، ولم يبقَ منها غير بقايا من جسم، إلا ما كان من مقابر البحرين، فقد أعطت الباحثين هيكلين كاملين لم يصبهما أي سوء أو تلف. فقد تبين من فحصهما أن أهل الميت وضعوا جسمي الميتين على الجانب الأيمن ووجهوا الوجهين نحو المشرق، وأمدوا رجلي الميتين. ويبعث وضع الميتين على هذه الصورة الاحتمال بأن أهل البحرين كانوا يتبعون هذه العادة في دفن موتاهم، وهي عادة كانت عند أهل العراق أيضا، في الألف الثالثة قبل الميلاد3.
وقد عثر في مواضع من جزيرة العرب على مقابر، تبين أنها من نوع المقابر التي يقال لها "تمولي""Tumuli" التي عثر عليها في البحرين، في نهاية القرن التاسع عشر. أما مقابر البحرين، فهي تلال تكونت من قطع من الصخور، وضع بعضها فوق بعض، لتكون غرقة أو غرفتين، تكون إحداهما فوق الأخرى في الغالب؛ لتتخذ قبرًا يوضع فيه الموتى، وتكون سقوف الغرف من ألواح
1 naval. P. 213
2 cornwall، ancient. P. 39
3 james h.d belgrave، p. 52
الصخور. وبعد إغلاق باب القبر يهال التراب على الصخور، حتى تتخذ شكل تلال. وقد عثر على بقايا خشب فيها، مما يدل على استعمال الخشب في بناء هذه القبور، التي يصل قاعدة بعضها إلى حوالي خمسين ياردة في العرض وحوالي ثمانين قدمًا في الارتفاع. ويقدر الباحثون الذين بحثوا عن هذه المقابر عددها بزهاء خمسين ألف تل، وبزهاء "100" ألف تل في تقدير بعض آخر، أي: خمسين ألف قبر أو "100" ألف قبر1، قبر فيها الإنسان والحيوان جنبًا إلى جنب، كما يتبين ذلك من بقايا العظام التي عثر عليها فيها. والغالب أنهم دفنوا الحيوان مع الإنسان؛ ليستفيد منه الميت في العالم الثاني في عقيدة أهلها يومئذٍ، وكما نجد ذلك في اعتقاد المصريين واعتقاد غيرهم من الشعوب؛ ولهذا دفنوا مع الموتى أواني وأدوات بيتية وحليًّا وجواهرَ وفخارًا وغير ذلك مما يحتاج إليه الإنسان2.
وقد عثر في هذه المقابر على عدد من الجِرَار، تشبه الجِرَار المستعملة في الوقت الحاضر، مما يدل على أن الناس في الوقت الحاضر لا يزالون يسيرون على سيرة أجدادهم الذين عاشوا قبل الميلاد في عمل الجرار وسائر الخزف. وقد صنعت تلك الجرار من الطين، وضعه الخزاف على قرص دولاب يديره برجليه، واستعمل يديه في إكساب الطين شكل الجرة التي يريدها، ويميل لون هذه الجرار إلى الحمرة. كما عثر على قشور بيض النعام، وقد قطعت بصورة تجعلها كأسًا يشرب بها، وعثر على أدوات أخرى، وكل ما عثر عليه غير مكتوب ولا مؤرخ؛ لذلك لا نعرف من أمره اليوم ولا من أمر أصحابه شيئًا3.
وعثر رجال شركة "أرمكو" على عدد كبير من هذه المقابر على حافات جبل "المذرى" الشمالي، قدرها "كورنول" بالألوف، وعثروا كذلك على عدد آخر من هذه المقابر في جبل "المذرى" الجنوبي4. وقد حافظت بعض
1 j.h.d belgrave، welcome to Bahrain، p. 51
2 bent، the Bahrain islands، proc. Roy. Gerogr. Soc. 12، London، 1890، jouanin، a، "les tumuli des bahrain"، memoirs de la delegation in perse، t.، viii، 1905، survey of India، annual rep. 1908-1909، Calcutta، sanger، the Arabian peninsula، p. 141
3 belgrave، p. 52
4 cornwall. P. 36
حجر يظهر أنه من الأحجار التي توضع شاهدًا على القبور يمثل صورة امرأة يقال لها:
"غللت بنت مفدت" ويقال للبنت في العربية الجنوبية "بت" أيضا، وقد توسلت إلى
الإله "عشتر" بإنزال الويل والثبور على من يتجاسر فيغير هذا الحجر عن موضعه.
هذه القبور على أشكالها محافظة جيدة، ويشبه بعضها القبور التي عثر عليها "فلبي" في الأقسام الجنوبية الغربية من جزيرة العرب1. ووجد "كورنول" مقابر أخرى في موضع "الرديف" الواقع على بعد "110" أميال من شمال غربي "الدمام"، وفي موضع يقع شمال "عين السبح"، بمسافة أربعة أميال، حيث بلغ قطر إحدى تلك المقابر "33" ياردة وارتفاعها "13" قدمًا. وقد تمكن من الحصول على هيكل عظمي وعلى فخار وقطع من العاج وقشور بيض للنعام وأسلحة مصنوعة من البرونز2.
وعثر على مقابر في موضع "المويه" الواقع على "143" ميلًا من شمال شرقي مكة3. وقد وصف "فلبي" المقابر التي عثر عليها في "الرويق" وفي مرتفعات "العلم الأبيض" و"العلم الأسود"، فقال: إن أكثرها قد عبث به العابثون، فأخذوا ما كان داخل الغرف التي كان يوضع فيها الموتى من ذخائر ومواد، وهي مختلفة الأحجام والارتفاع. ويظهر من وجود هذه المقابر في محال صحراوية بعيدة عن موضع العمران وفي أماكن لا يقيم فيها الناس، أن هذه المناطق كانت مأهولة قبل الإسلام، وأنها كانت ذات تأريخ قديم جدًّا، ربما يرجع في رأي "فلبي" إلى أيام قدماء "الفينيقيين" وربما كان "الفينيقيون" في رأي "فلبي" أيضا من الأفلاج والخرج، حيث هاجروا بعدئذٍ إلى البحرين4.
وقد سمع "فلبي" بوجود مقابر أخرى من هذا النوع، تعرف بين الناس باسم "الخشبة"، وسمع "Thesiger" بمقابر أخرى في موضع "رهلة جهمين"5. وعثرت شركة "أرمكو" على مقابر عادية كثيرة العدد في "وادي الفاو" و"القرية"، لم تحدد هوية أصحابها حتى الآن، وقد زارها "فلبي" ووصفها، وتبين له أن الموضع وهو "القرية" كان محاطًا بسور، وجد في داخله آثار بيوت ومقابر، وبين أنقاض المقابر أحجار مكتوبة تدل على أنها كانت شواهد قبور. وعلى مسافة من "القرية" كتابات وصور حيوانات مثل النعامة والأيل، وصور أناس نقشت على الصخر6.
1 Cornwall، P. 36، Phllby Sheba s، P. 373.
2 Cornwall، P. 37.
3 Phllby، Sheba s، P. 373.
4 Phllby Sheba s، P. 373.
5 Beitrage، S. 16.
6 Beitragae، S. 12.
ويظهر من وصف "جيرالد دي كوري""Gerald de Gaury" و"فلبي" لمقابر الخرج أنها كثيرة العدد، وأنها في مواضع متعددة من هذه الإيالة عند "فرزان" و"السلمية" و"الدلم"، وهي متفاوتة الأحجام والارتفاع1.
ولم يتمكن "دي كوري" من تعيين تأريخها، ولا يمكن التثبت من ذلك بالطبع إلا بعد القيام بحفريات دقيقة وفحوص للعظام ولمحتويات القبور لمعرفة مكانها في التأريخ.
وقد وجد أن أبواب مقابر البحرين قد وضعت في الجهة الغربية، مما يبعث على الظن على أن لهذا الوضع صلة بدين القوم الذين تعود إليهم تلك المقابر. وقد وجد أن المواد والأدوات التي عثر عليها في هذه المقابر تشبه المواد والأدوات التي عثر عليها في المقابر الأخرى التي عثر عليها في المواضع المذكورة من جزيرة العرب. ويظن بعض الباحثين أن أصحاب هذه المقابر كانوا يقيمون في الجهة المقابلة لجزيرة البحرين من الجزيرة، أي: على ساحل الخليج، وكانوا قد اتخذوا الجزيرة مقبرة لهم، فينقلون إليها موتاهم لدفنهم هناك. ومنهم من يرى أن تلك المقابر هي مقابر رؤساء الفينيقيين وأشرافهم الذين كانوا يقطنون البحرين، وأن عهد تلك المقابر يرجع إلى ما بين 3000-1500 سنة قبل الميلاد2.
وقد عثرت البعثة الدانماركية في سنة "1959م" في البحرين جنوب طريق "البديع" على أربع مقابر، تبين من فحصها أنها ترجع إلى العصور الحجرية3. وعثر السياح على تلال في مواضع متعددة من عمان وقطر، تبين أنها مقابر لعهود سبقت الميلاد.
وليست لدينا الآن دراسة علمية شاملة عن هذه المقابر: مقابر البحرين، ومقابر المواضع المذكورة من جزيرة العرب، إلا أن آراء من زاروها ورأوها تكاد تتفق في القول بوجود ترابط في الزمن فيما بينها، ويرجعون أيامها إلى عصر الـ"Chalcolithic" أو إلى العصر البرونزي. ومنهم من يرى أنها من العصر البرونزي المتأخر4، ويرى أن المقابر المقامة على المرتفعات هي مقابر جماعة
1 geogr. Journal. Vol، cvi، numb. S، 4، sept-octo. 1945 p. 152، philby، heart of Arabia، vol. 2، p. 26.
2 sanger the Arabian peninsula، p. 141، enc. Vol. I، p. 585.
3 p.v glob، archaeological intestlgations in four arab states، kuml، 1959، p. 238.
4 sanger، p. 141.
من الصيادين أو الرعاة. أما المقابر المقامة على السهول المنبسطة فيرون أنها مقابر قوم مزارعين مستقرين1.
تابوت من الفخار على شكل حوض وأدواته ترجع إلى عام 600 قبل الميلاد
من نشرة دائرة الإعلام: حكومة البحرين
ويظن أن المقابر التي عثر عليها في جزيرة "أم النار" في "أبي ظبي" هي مقابر أقوام عاشوا في الألف الثالثة قبل الميلاد، وقد عثر فيها على هياكل عظمية وعلى خرز وفخار عليه رسوم. وقد كُسيت هذه المقابر وغُطيت بحجارة منحوتة، حفرت عليها صور ثيران وجمال وأفاعٍ وحيوانات أخرى، وقد نحتت
1 Cornwall، P. 37.
واجهة الحجر المحيطة بالصور لتظهر الصور بارزة عالية1. ويظهر من دراستها أنها من عمل أيدٍ أتقنت مهنتها، وأجادت في فنها بالقياس إلى تلك الأزمنة. وهي تحتاج إلى دراسة لمعرفة مدى تأثرها بفنون الشعب الأخرى التي كان لها اتصال بهذه البلاد.
إن هذه المقابر تستحق الدراسة حقًّا؛ لأنها تتحدث عن وجود روابط فكرية مشتركة بين أصحابها، وعن احتمال ارتباطهم بعقيدة دينية واحدة. ولا يستبعد أن تكشف بعض القبور السالمة التي لم تعبث بها أيدي البشر العاتية، عن كتابات مطمورة في غرفها، أو عن صور ونقوش ورموز تتحدث إلينا عن هوية أصحابها وعن مكانتهم في التأريخ وفي الحضارة البشرية بالنسبة إلى الأيام التي عاشوا ليها. وعندئذ نكون قد انتقلنا إلى مرحلة جديدة من مراحل تأريخ العرب القديم، لا نعرف اليوم من أمرها إلا هذا النزر اليسير الذي نتحدث عنه.
ولست أستبعد أيضًا احتمال عثور المنقبين في المستقبل على آثار أصحاب هذه المقابر في مواضع لا يمكن أن تكون بعيدة عنها، إذ لا يعقل أن يكون ذوو أرحام الموتى قد سكنوا في مواضع قصية نائية عنها. وإن قومًا لهم هذه المهمة في عمل هذه القبور، لا بد أن يكونوا على درجة من الحضارة، والمخلفات التي عثر عليها في بعض هذه القبور هي خير شاهد على ذلك؛ فقد عثر فيها على حلي وعلى أوانٍ من الفخار وعلى آثار أخرى مصنوعة تظهر براعة في الصنعة والإتقان، ولا يستبعد العثور على أمثالها في مستوطناتهم متى عثر عليها.
هذا، وقد عثر بعض السياح على قبور جاهلية في حضرموت وفي اليمن وفي مواضع أخرى من جزيرة العرب، إلا أن هذه المقابر هي أحدث عهدًا من تلك، ثم إنها قبور نحتت في الصخور نحتًا، ولم تعمل على هيئة تلال على النحو الذي وصفناه. ولـ"كارل راتجن""Carl Rathjens" وصف مفصل لمقابر منحوتة زارها، تقع على مقربة من مدينة "كوكبان" في اليمن، وهي كثيرة منحوتة في جانب الجبل؛ منها المنفردة المنعزلة ومنها ما نحتت بعضها فوق بعض، وقد وجد أن أكثرها قد لعبت بها الأيدي، فأخذت ما كان فيها، فخلت من كل شيء. وقد عثر على كتابة سبئية عند أحد أبواب هذه المقابر، مما يدل على
1 تقرير شامل عن الحفريات الأثرية في جزيرة "فيلكا"، 1958-1963م، الكويت "ص24".
أنها كانت لقوم من سبأ1. ولا يستبعد بالطبع أن يكون أولئك الناس قد توارثوا هذا النوع من القبور من أسلاف لهم كانوا قد نحتوها.
وعلمنا بأحوال جزيرة العرب في العصور "البرونزية"، لا يزيد على علمنا بالعصور الحجرية فيها، فهي ضحلة يسيرة؛ لأن ما عثر عليه من مخلفات تلك العصور ليس بشيء يذكر ولا يكفي لاستنباط آراء منه. ولا يستبعد بالطبع احتمال عثور المنقبين في المستقبل على آثار قد ترجع إلى هذه العصور ستهتك الحجب التي تحول الآن بيننا وبين التعرف على تلك الحقب القديمة من تأريخ الجزيرة. وقد وجدت "البعثة الدانماركية" التي نقبت في جزيرة "فليكا" من جزر الكويت على آثار من هذه العصور2، إلا أن ما عثر عليه لا يكفي لإعطاء رأي علمي كافٍ عن العصور البرونزية في هذه الأرضين.
وقد عثر في جزيرة "فيلكا" على آثار سكنى وبقايا أبنية وهياكل يرجع عهدها إلى الألف الثالثة قبل الميلاد، وقد تبين أن هذه الجزيرة والجزر الأخرى الواقعة في الخليج كانت ملاجئ يلجأ إليها أصحاب السفن والتجار في تلك الأزمنة للاستراحة، ولشراء ما يجدونه عند أهل السواحل المقابلة، وللتمون بما يحتاجون إليه من ماء وزاد. ولأهميتها هذه اهتمت بها وبالسواحل المقابلة لها حكومات العراق، فاستولى عليها الأكاديون والآشوريون واليونان.
وقد عثر على مواد مصنوعة من حديد من العصر الحديدي، غير أنها قليلة لا يمكن أن تكون لنا رأيا واضحا عن العصور الحديدية في جزيرة العرب.
وعثر على بقايا جماجم بشرية في "الظهران" تبين من دراستها وفحصها على أنها من العصور "البرونزية"3.
وتدل الأدوات المكتشفة -على قلتها- على أن شعوب جزيرة العرب حتى في الأزمان البعيدة عن الميلاد كانت على اتصال بالعالم الخارجي ولا سيما العراق وبلاد الشام وحوض البحر المتوسط والقارة الإفريقية، وأنها كانت تستورد منها ما تحتاج
1 carl rathjens، sabaeica، I، s. 105
2 تقرير شامل عن الحفريات الأثرية في جزيرة فيلكا، 1958-1963م، الكويت، مطبعة الحكومة، من منشورات وزارة التربية والتعليم، "ص9".
3 h. field، papers of the Peabody museum، 48/2 "1956". 58، A. grohmann، arabien، s. 15
إليه من مواد وتبيع لها ما عندها من سلع خام أو من سلع تستوردها من السواحل الإفريقية أو الهند، وأنها لم تكن في يوم من الأيام بمعزل عن بقية العالم.
والعراق وبلاد الشام، أي: الأرضون التي يقال لها "الهلال الخصيب" في الزمان الحاضر، هي من الناحية الطبيعية وحدة لا يُستطاع فصلها عن جزيرة العرب، وامتداد طبيعي لها1. وليست البادية الواسعة التي تملأ باطن الهلال إلا جزءًا من جزيرة العرب، وامتدادًا لها، لا يفصلها عنها فاصل، ولا يحد بينها حد، وإذا ما تنقلت من بادية الشام إلى بوادي المملكة العربية السعودية، فلا تجد أمامك شيئًا يشعرك بوجود فروق بين طبيعة هذه الأرضين الواسعة، أو وجود حواجز تمنع سكانها من الهجرة نحو الشمال أو إلى الجنوب2؛ ولهذا كان من الطبيعي تنقل الناس في هذين الأرضين منذ وجدوا فيها وظهروا عليها بكل حرية، وبحسب الظروف السياسية والعسكرية والاقتصادية.
وتأريخ ظهور العرب في بادية الشام وفي أطراف الهلال الخصيب تأريخ قديم جدًّا، ولكننا لا نستطيع تحديد مبدئه، ولا تثبيته؛ لأننا لا نملك أدلة علمية تعينه وتحدده. ثم إن كلمة "العرب" لم تكن تعني عند الشعوب التي عاشت قبل الميلاد غير معنى "أعراب"، وكانت إذا ما ذكرت لفظة "عرب" تقصد البدو على نحو ما ذكرت في الفصل الأول في تحديد معنى هذه اللفظة. أما العرب المستقرون، أو شبه الحضر، فقد عرفوا عندهم بأسمائهم؛ ولهذا اشتبه أمرهم علينا، وعسر على العلماء تعيين هوياتهم؛ لعدم نص الكتابات أو الكتب القديمة على أنهم عرب بمعنى جنس للسبب المذكور، فصرنا في حيرة من أمرهم، وفي التوراة أسماء قبائل كثيرة، نسبت إلى آباء وأجداد، يجب أن تعد من العرب، ولكن التوراة لم تطلق عليها لفظة "عرب"؛ لأنها لم تكن قبائل بدوية وليست اللفظة فيها إلا بهذا المعنى، فحار العلماء في تعيين أصل كثير منها، وما زالت حيرتهم هذه حتى اليوم. وليس من المستبعد أن يكون بين الشعوب القديمة شعوب عربية، إلا أنها لم تعد من العرب؛ لأن اللفظة لم تكن علمًا على جنس قبل الميلاد.
1 الهلال الخصيب "Fertie Crescent" اصطلاح أطلقه "برستيد""H.Brested" لأول مرة بهذا المعنى، على القوس المتكون من العراق وبلاد الشام.
2 franz stuhlmann. Der kampf um arabien، s. i
وإذا ما أخذنا بنظرية القائلين: إن جزيرة العرب هي مهد الساميين، جاز لنا أن نقول عندئذ: إن معظم أهل الخصيب والبادية هم من معمل تفريخ الجنس السامي الكائن في تلك الجزيرة، وإن ذلك المعمل هو الذي أمد هذه الأرضين الممتدة من إيران إلى البحر المتوسط بسلالات الساميين. فصلة جزيرة العرب بالهلال الخصيب صلة قديمة ترجع إلى الأيام الأولى من أيام الساميين، على هذه النظرية، وربما ترجع إلى أقدم من تلك الأيام.
وسنرى فيما بعد أن حكام العراق كانوا قد استولوا على العروض في الألف الثالثة أو قبلها قبل الميلاد، وأنهم نزلوا في البحرين وفي جزر أخرى من جزر الخليج، وأن أصل الفينيقيين هو من البحرين في رأي كثير من العلماء، منها هاجروا إلى أرض "فينيقية" وسواحلها، وما كان ذلك ليتم لو كانت جزيرة العرب بمعزل عن الهلال الخصيب أو عن بادية الشام، أو أن الهلال والبادية كانا بمعزل عن جزيرة العرب.
وقد ذكر أن جماعة من تجار "أور" كانوا يتاجرون في حوالي السنة 2000ق. م مع البحرين، وكانوا قد أنشئو أسطولا لنقل التجارة1. ويقال: إن "سرجون" الأكادي استولى في حوالي السنة "2300 ق. م." على البحرين وقطر، وإن البحرين كانت في حوالي السنة "1750 ق. م." في يد قبيلة اسمها "أكاروم""أجارم""Agarum"، وهو اسم قريب من "أجرم"، وإنها كانت تدفع الجزية إلى الملك "أسرحدون"2. وقد ذهب بعض الباحثين إلى أن "Agarum" هم أهل مدينة "هجر" التي هي الأحساء3.
وقد كانت العلاقات التجارية مستمرة دومًا بين البحرين وبين العراق، إذ كانت "دلمون" محطة مهمة جدا للتجارة بين الهند وإفريقيا وسواحل الخليج والعراق، تستورد الأخشاب من الهند ومن إفريقيا كما تستورد الحاصلات الأخرى وتنقل النحاس من عمان، فتبيع ذلك إلى جنوب العراق، وربما حملت تلك التجارات بسفن يملكها أهل "أور" أو غيرهم خلال نهر الفرات، لنقلها من
1 p.v. golb، Bahrain، kuml، 1954، 103، bahrains oldtidshovedstad، kuml، 1954، 169.
2 arabien، s. 257، h. field، ancient and modern man in southwestern asia، 108، archive fuer orientforschung. 16، "1952-1953"، 6-9
3 arabien، s. 257
هناك إلى بلاد الشام ومنها إلى البحر المتوسط لبيعها إلى أهل اليونان وبقية أرجاء "أوروبا". وقد تبين من الأخبار التي تعود إلى أيام الأسرة الثانية من أسر "أور" أن سفن ذلك الوقت "2200-2100 ق. م" كانت تقوم برحلات منتظمة فيما بين البحرين و"أور"؛ وذلك لنقل ما يرد إلى هذه الجزيرة من نحاس ومن أحجار ثمينة من عمان، ومن ذهب وأخشاب وأفاويه ومواد أخرى ثمينة من الهند1.
وقد نزلت جاليات عراقية في البحرين، كما هاجرت جاليات من البحرين إلى العراق فسكنت به. وما الإله "إنزاك""Inzak" الذي عُبِدَ في جنوب العراق وشُيدت المعابد باسمه، إلا علامة على هجرة أهل البحرين إلى العراق، وتأثر أهل العراق به؛ فهذا الإله هو إله أصله من آلهة أهل البحرين. وانتقال عبادته إلى العراق دليل على تأثر العراقيين بثقافة أهل البحرين، ونقل أهل البحرين له معهم إلى وطنهم الجديد.
وقد كانت البحرين ترتاح كثيرًا عند انشغال أهل العراق بالتحارب فيما بينهم، أو بانشغال الحكومات المهيمنة عليه بمحاربة جيران العراق من الدول القوية الكبيرة، إذ تلهيهم تلك الحروب عن التفكير في السيطرة على البحرين وابتزاز الأموال من أهل الجزيرة، وتكون مثل هذه الظروف فرصة ثمينة للدلمونيين؛ إذ يجدون أسواقًا رائجة تشتري منهم ما يأتون به إلى جنوب العراق، كما يجدون الحكومات مشغولة في معالجة مشكلاتها، فلا تشتطّ كثيرًا في أخذ الضرائب من أولئك التجار.
والكتابات الآشورية هي أقدم سجل، لا شك في ذلك، يشير إلى وجود "العرب" في الأرضين الواسعة الممتدة من الفرات إلى مشارف بلاد الشام، ولكن العرب فيه هم أعراب لا أقل من ذلك ولا أكثر: أعراب متنقلون في الغالب، هائمون في البادية حيث الماء والكلأ والارتزاق من الغارات على الآشوريين وعلى غيرهم. وإلى هذه الغارات يعود، ولا شك، فضل اضطرار الآشوريين إلى الإشارة إليهم في تلك الكتابات، ولولاها لما ذكروا فيها ولا أشير إليهم. وقد وجد هؤلاء الأعراب قبل زمان هذا التسجيل بأمد طويل من دون ريب، ومن يدري؟ فقد يعثر على كتابات جديدة من زمن سحيق، يسبق زمن الكتابات
1 Belgrave، P. 55.
الآشورية، يرد فيها شيء من الأعراب؛ فترتفع بذلك معارفنا عنهم إلى زمن أبعد من هذا الزمن المنصوص عليه في كتابات الآشوريين.
أما الموارد الإسلامية، فقد اضطربت في تعيين الزمن الذي ظهر فيه العرب في بادية الشام ومشارقها وفي العراق، ولكنها كلها لا تعرف تأريخًا يسبق التاريخ المذكور في النصوص الآشورية، وما ذكروه عن ظهور العرب في هذه البلاد، فهو مأخوذ من قصص إسرائيلي. ويظهر من رواية لـ"هشام بن محمد الكلبي" أن العرب كانوا في أرض العراق في أيام "بختنصر"، وأنهم كانوا تجارًا يقدمون العراق للتجارات، وذلك في أيام "معد بن عدنان"، وأن "بختنصر" جمع من كان في بلاده من العرب حين هَمَّ بغزو العرب في جزيرتهم، إذ نزل وحي من الله على "برخيا"، فبنى لهم "حيرًا" على النجف وحصنه، ثم ضمهم فيه، ووكل بهم حرسا وحفظة، ثم نادى في الناس بالغزو. وانتشر الخبر فيمن يليهم من العرب، فخرجت إليه طوائف منهم مسالمين مستأمنين، فأنزلهم "بختنصر" السواد على شاطئ الفرات، فابتنوا عسكرهم بعد، فسموه "الأنبار"، وخلَّى عن أهل الحيرة، فاتخذوها لهم منزلًا، فهذا كان مبدأ نزول العرب في العراق1.
ويظهر من رواية أخرى لـ"ابن الكلبي" كذلك أن الذي أنزل العرب في العراق هو "تبع"، فالعرب الذين نزلوا الحيرة والأنبار هم قوم يمانيون. و"تبع" هذا حكم -على زعمه- بعد "ياسر أنعم" الذي حكم بعد بلقيس، وهو "تبان أسعد"، وهو" أبو كرب بن ملكي كرب بن تبع بن زيد بن عمرو بن تبع"، وهو "ذو الأذعار بن أبرهة تبع ذي المنار بن الرائش بن قيس بن صيفي بن سبأ"، وكان يقال له:"الرائد". وقد خرج من اليمن حتى نزل على جبلي "طيء"، "جبل شمر"، ثم سار يريد "الأنبار". فلما انتهى إلى "الحيرة" ليلًا، تحير فأقام مكانه، فسمي ذلك الموضع "الحيرة". ثم سار، وخلف به قوما من "الأزد" و"لخم" و"جذام" و"عاملة" و"قضاعة"، فبنوا وأقاموا به، ثم انتقل إليهم بعد ذلك ناس من طيء وكلب والسكون و"بلحارث بن كعب" و"إياد"، ثم توجه
1 الطبري "1/ 291""المطبعة الحسينية".
إلى "الأنبار" ثم إلى "الموصل"، ثم إلى "أذربيجان" فلقي الترك، ثم انكفأ راجعًا إلى اليمن، وأقام العرب في العراق، "ففيهم من قبائل العرب كلها من بني لحيان وهذيل وتميم وجُعْفى وطيء وكلب"1. فهذا كان مبدأ نزول العرب السواد من أرض العراق.
وحكى "الطبري" رواية أخرى عن "ابن الكلبي" متممة للرواية الأولى عن نزول العرب أرض العراق، خلاصتها: أن العرب الذين أسكنهم "بختنصر" الحيرة، انضموا بعد وفاة هذا الملك إلى أهل "الأنبار"، وبقيت الحيرة خرابًا. فلما كثر أولاد "معد بن عدنان" ومن كان معهم من قبائل العرب، وملئوا بلادهم من تهامة وما يليهم، فرقتهم حروب وقعت بينهم، وأحداث حدثت فيهم، فخرجوا يطلبون المتسع والريف فيما يليهم من بلاد اليمن ومشارف الشام، وأقبلت منهم قبائل حتى نزلوا البحرين، وبها جماعة من "الأزد" كانوا نزلوها في دهر "عمران بن عمرو" من بقايا "بني عامر"، فاجتمع بالبحرين جماعة من قبائل العرب، فتحالفوا على "التنوخ"، وهو المقام، وتعاقدوا على التآزر والتناصر، فصاروا يدًا على الناس، وضمهم اسم "تنوخ". وتطلعت أنفس من كان بالبحرين من العرب إلى ريف العراق، وطمعوا في غلبة الأعاجم على ما يلي بلاد العرب منه، أو مشاركتهم فيه، واهتبلوا ما وقع بين ملوك الطوائف من الاختلاف، فأجمع رؤساؤهم على مسير إلى العراق ووطن جماعة ممن كان معهم على ذلك، فكان أول من طلع منهم "الحيقار بن الحيق" في جماعة قومه وأخلاط من الناس ثم أعقبتهم موجات أخرى استقرت في الحيرة والأنبار وغيرهما من الأماكن بعد أن تغلبوا على "الأرمانيين"2.
ورُوي عن "ابن الكلبي" أن "أردشير" لما استولى على الملك بالعراق، كره كثير من "تنوخ" أن يقيموا في مملكته وأن يدينوا له؛ فخرج من كان منهم من قبائل "قضاعة" الذين كانوا أقبلوا مع "مالك وعمرو ابني فهم" و"مالك بن زهير" وغيرهم، فلحقوا بالشام إلى هناك من قضاعة. ثم وصلت إليهم جموع أخرى من قبائل العرب، فكونوا ممالك وإمارات، سوف أتحدث عنها3.
1 الطبري "2/ 3""المطبعة الحسينية".
2 الطبري "2/ 59""المطبعة الحسينية".
3 ابن خلدون" 2/ 278".
هذا ما وصل إليه علم الأخباريين عن العرب في الهلال الخصيب، وهو علم لا يستند بالطبع إلى نصوص عربية جاهلية، وإنما أخذ من روايات شفوية، وأخبار وردت على ألسنة الأخباريين ومن روايات أهل الكتاب.
ومن الخطأ بالطبع أن نتصور أن وجود العرب في بادية الشام وشاطئ الفرات وأطراف دمشق يرتقي إلى أيام الآشوريين أو قبل ذلك بقليل؛ فوجود العرب في هذه الأرضين هو أقدم من هذا العهد بكثير. وإذا كنا قد أشرنا إلى وجودهم في المواضع المذكورة في هذا العهد؛ فلأن الكتابات الآشورية هي أقدم كتابة وصلت إلينا ووردت فيها إشارة إلى العرب، وإلا فإن العرب هم في هذه الأرضين قبل هذا العهد بكثير. في عهد لا نستطيع بالطبع تعيين ابتدائه؛ لأن هذه الأرضين هي امتداد لأرض جزيرة العرب، والتنقل بينها وبين جزيرة العرب هو تنقل حر ليس له حاجز ولا حدود، فلا نستطيع إذن أن نقول: متى سكن العرب بادية الشام؟.
وقد لاقت القبائل العربية مقاومة شديدة وعنتًا شديدًا من الحكومات التي حكمت العراق والحكومات التي حكمت بلاد الشام، فقد وقفت تلك الحكومات منذ الدهر الأول لها بالمرصاد، وأبت أن تسمح لها بالتوغل في داخل أرضها التي تحكمها حكما فعليا؛ ذلك لأنها كانت تهاب الأعراب وتخشى من البداوة، إذ لم يكن من السهل على البدو تغيير سننهم واقتباس سنن الحضر، ثم إنهم كانوا يغيرون على الحضر وعلى الحدود لأخذ ما يجدونه أمامهم. وقد ترك غزو الأعراب للحدود أثرًا سيئًا راعبًا في نفوس الحكام جعلهم لا يتسامحون في دخول البدو إلى أرض الحضارة، ما دامت للحكام قوة، ولم يتساهلوا معهم إلا بالوصول إلى حدود الحضارة ومشارفها؛ وذلك لأنهم نصبوهم حرسا لهم، بمنع القادمين الجدد من البادية من الدنو من أرض الحضارة، ويدافع عن الحدود ساعة الخطر، ويهاجم مع القوات النظامية للحكومة الحاكمة أرض العدو في الحروب، وفي أيام السلم لإلقاء الرعب والفزع في نفس العدو وإكراهه على تنفيذ مطلب يراد منه.
وقد اضطرت الحكومات إلى دفع أكل وطعم وهبات وعطايا سخية لسادات القبائل الحُرَّاس في مقابل قيامهم بحراسة الحدود. إذ لم يكن في استطاعة تلك الحكومات القيام بها بنفسها، ولا سيما في تعقب الأعراب وملاحقتهم في البوادي وغزو أعراب العدو، فصارت لسادات القبائل جعالات سنوية وهدايا وألطاف
وبعض امتيازات لاسترضائهم وإسكاتهم ما داموا أقوياء أعزاء، وجعلت معهم في بعض الأحيان حاميات من قوى تلك الحكومات عليها سياسيون وقادة لمراقبة أعمال سادات القبائل والحد من غلوائهم، ولمساعدتهم عند ظهور سيد آخر قوي منافس في الميدان يريد مهاجمة الحدود أو انتزاع الرئاسة من سيد القبيلة صاحب الامتيازات.
والحكومات هم عادة إلى جانب سادات القبائل ما دام السادات أقوياء أعزاء. فإذا بدا الوهن عليهم، وتبين أن الأمر قد أفلت من أيديهم، وأن ساداتٍ جددًا أصحاب كفاءات وقُدَر ورؤساء أقوى من رؤساء القبائل القديمة قد برزوا في الميدان، وقد أخذوا على أيدي السادات القدامى، وأن المصلحة تقتضي الآن التحول من القديم إلى الجديد؛ تحولت تلك الحكومات إلى السادات الجدد، واتفقت معهم على شروط مرضية، للقيام بأداء المصالح والواجبات المذكورة حتى يظهر منافس جديد، يتطاول على القديم فيأخذ مكانه. وهذا هو سر تعدد حكم سادات القبائل، وانتزاع قبيلة الحكم من قبيلة أخرى، وتغير حكم "آل فلان" و"آل فلان"، وحلول حكم قبلي محل حكم قبلي سابق.
وسادات القبائل هم على هذه السنة أيضًا، فكانوا إذا وجدوا ضعفًا في الحكومة المهيمنة على العراق أو على بلاد الشام وأدركوا أنها في وضع محرج، تقدموا إليها بمطالب جديدة وبشروط جديدة، تكون متناسبة مع حرج الموقف. فإذا لم تجب قام سيد القبيلة بتهديد مصالح الحكومة وبغزو أرضها أحيانا، وقد يفاوض العدو للاتفاق معه عليها، وقد يثور ويخرج عن طاعتها، ويظل هذا شأنه حتى تجاب مطالبه، أو يتفق معها على شروط يرضى عنها. وينطبق هذا الوضع على الأعراب الذين يجاورون الحضر، فعلى الحضر دفع جعالة إلى سيد الأعراب في مقابل حمايتهم لهم ومنع القبائل الأخرى المجاورة من الإغارة على أولئك الحضر، ويتقيد هؤلاء السادة بعهودهم مع الحضر ما دامت في مصالحهم. أما إذا رأوا أن الحضر في وضع حرج وأن الحكومة التي ترعاهم، أو حكومة المدينة ضعيفة غير قادرة على الدفاع عن نفسها، فإن الأعراب يفرضون على الحضر مطالب جديدة، ويأخذون منهم امتيازات إضافية مثل حق الارتواء من الآبار ومن مجاري الماء، وحق رعي ماشيتهم في زرع الحضر، إلى غير ذلك من شروط يضطر الحضر إلى الموافقة عليها للمحافظة على حياتهم وأموالهم، وإلا تعرضوا للغزو ولكوارث أخرى قد تنزل بهم أضرارًا تزيد على ما يطلبه
الأعراب منهم بكثير.
وللسيطرة على حركات الأعراب ولضبطهم، أقامت حكومات العراق وبلاد الشام لها "مسالح"، أي: مواضع حصينة تعسكر فيها قوات نظامية في البادية يترأسها ضباط، وضعت فيها كل ما يحتاج إليه من سلاح ومؤن وذخائر وقوات كافية للقيام بمثل هذه المهمات الخطيرة في البوادي. وقد حفرت لها آبارًا للارتواء منها، ونصب ضباط هذه الحصون أنفسهم حكامًا يتحكمون في البوادي التي يشرفون عليها؛ يفضون مشكلات القبائل، ويحافظون على الأمن، ويراقبون تحركات الأعراب وتنقلاتهم؛ ليكونوا على حذر منهم ومن غزواتهم المفاجئة للحدود، وقد بقيت هذه "المسالح" إلى أيام فتوح المسلمين للعراق ولبلاد الشام. وكان من واجبات هذه الحصون توزيع الأرزاق على الأعراب أيام الشدة والضيق، والتقرب إلى سادات القبائل، وعقد صداقات معهم؛ ليستفاد منهم في كبح جماح أتباعهم، ويحولوا دون تحرشهم بهم، ولئلا يقوموا بمهاجمة الحدود.
وكان أقصى مكان سمح للعرب بالوصول إليه هو الشاطئ الغربي لنهر الفرات، وحدود الحضارة لبلاد الشام وأعالي البادية، أي: قصر البادية الأعلى. أما ما وراء ذلك، فكان من الصعب على العرب الوصول إليه؛ لتشدد الحكومة في منعهم من الدنو منه، وتصلب الحضر تجاههم، ولم يدخله من العرب إلا أفراد أو جماعات تنكرت للبادية ولسننها، وكفرت بسنة الغزو، ورأت في الزراعة وفي احتراف الحرف شرفًا لا يقل عن شرف رعي الإبل والتنقل بها من مكان إلى مكان. أما الذين وقفوا عند هذه الحدود، وهم السواد الغالب، فقد بقوا على سنن البادية، مخلصين لها مؤمنين بحق الغزو والقوة، إلا من اشتم رائحة الحضارة وتنفس قليلا من ريح الحضارة، وجاور الفرات ومشارف الشام، حيث تلوح معالم الحضر، فقد طور نفسه بعض التطور، واستقر في الأرض بعض الشيء وصار وسطًا بين الحضارة والبداوة، لا هو حضري كل الحضرية، ولا هو أعرابي تام الأعرابية، وإنما وسط بين بين، ومنزلة بين المنزلتين.
ولم يكن من الممكن للأعرابي أن يدرك قيمة الزرع والغرس وحياة الاستقرار؛ لأن الماء وهو جوهر الزرع غير متوافر لديه، ولأن الأمن غير موجود عنده، فهو متى زرع واستقر وكون مجتمعا حضريا صغيرا، هاجمه من هم على شاكلته من أهل البادية وسلبوه كل ما لديه. ومجتمعه مجتمع صغير لا يستطيع الاعتماد
على نفسه والركون إلى قوته في صد عادية الغزاة؛ لذلك حالت هذه الظروف دون السكنى والزرع والاستقرار، إلا في الأماكن التي وجدت فيها مياه، وتوافرت لديها القوة، كما لم يكن من السهل على سادات القبائل إكراه أتباعهم على الاستيطان والسكنى في بيوت من مدر؛ ذلك لأنهم هم أنفسهم أبناء بادية، وآراءهم آراء أعرابية ولا يفكر في هذه الشئون إلا من كان حضريًّا مستقرًا ومن ولد ونشأ وتثقف في أرض الحضارة، ثم إن تنفيذها يستدعي وجود مال وأمن وقوة رادعة تمنع الأعراب من إفساد ما يقوم به الحضري من عمل مجهد. ولم تكن هذه متوافرة عند سادات القبائل، ولم يكن في وسع سيد القبيلة الذي يجب أن يكون محترسا يقظا حتى لا يفاجئه منافس طامع من أهل البادية فيأخذ مكانه، أن يأمر قومه بالاستيطان، ووضعه على هذه الحالة من القلق وعدم الاستقرار؛ لذلك قضت طبيعة هذه البيئة على غالبية الأعراب التي جاءت إلى هذه الأماكن بأن تعيش عيشة أعرابية أو عيشة رعي، تعيش على ماشيتها بدلًا من الاستقرار استقرارًا دائمًا والاشتغال بالزراعة والاتجار بالزرع.
لقد كانت القبائل العربية قد توغلت في "طور سيناء" منذ القدم، ولا بد أن تكون هذه القبائل قد نزلت مصر أيضًا، فمن يصل إلى "طور سيناء" يكون قد طرق أبواب مصر. ذهبت تلك القبائل إلى مصر تحمل إليها ما عندها من سلع، وفي جملتها البخور والمر والحاصلات الأخرى التي عرف العرب بالاتجار بها، غير أننا لا نملك ويا للأسف نصوصًا تأريخية نستطيع أن نعتمد عليها في إثبات ذلك الاتصال. نعم، عُثِرَ على صور ومدونات مصرية للسلالات الملكية الأولى، تشير إلى البدو، والبدوي هو "عمو" في اللغة المصرية1، غير أننا لا نستطيع أن نؤكد أن أولئك البدو، هم أعراب من أعراب طور سيناء، أو من بدو مصر، أو من أعراب جزيرة العرب.
والذين يتحدثون اليوم عن صلات السلالات الملكية المصرية القديمة بالعرب وببلاد العرب، إنما يتحدثون عن حدس وتخمين، لا عن وثائق ونصوص أُشِيرَ فيها صراحة إلى العرب وإلى بلاد العرب، وإن كنا لا نشك كما قلنا بوجوب وجود صلات قديمة جدا ربطت بين مصر وبلاد العرب، لا سيما أن مصر متصلة
1 breasted، ancient records of Egypt، vol. I، 450، 483، o'leary، Arabia، p. 28، naval، p. 214
فعلًا بجزيرة العرب من ناحية البر عن طريق "طور سيناء"، ثم إنها على الساحل المقابل للجزيرة، فلا بد أن يكون هناك اتصال بري وبحري قديم بين العرب والمصريين. ولا يستبعد احتمال عثور المنقبين في المستقبل على آثار قد تتحدث عن هذا الاتصال.
ويظهر من أقوال "هيرودوتس" و"بلينيوس" وغيرهما من "الكلاسيكيين"، أن الأقسام الشرقية من "مصر" ولا سيما المناطق المتصلة بـ"طور سيناء" كانت مأهولة بقبائل عربية، وقد ذكرت أسماء عدد منها في كتب هؤلاء1. ولم تستقر هذه القبائل في أيام هؤلاء "الكلاسيكيين"، بل سكنت قبلهم بأمد طويل كما يظهر ذلك من كتبهم. وقد أطلق "الكلاسيكيون" على البحر الأحمر اسم "الخليج العربي""Arabici Sinus""Sinus Arabicus"، وفي هذه التسمية معنى يشير إلى نفوذ العرب وهيمنتهم على هذا البحر2.
ومعارفنا بصلات العرب بالحكومات العراقية القديمة، مثل حكومة السومريين والأكديين "الأكديين"، لا تزيد على معارفنا المذكورة بصلات المصريين بالعرب، فهي حتى الآن قليلة ضئيلة، ولكن ضآلة ما لدينا من معلومات لا يمكن أن تكون سببًا في الحكم بعدم وجود صلات وثيقة بين سكان الخليج وسكان العراق ولا سيما القسم الجنوبي منه في أيام السومريين، بل وقبل أيامهم أيضًا، فالعراق هو امتداد طبيعي لتربة ساحل الخليج، وهو جزء طبيعي من جزيرة العرب. وهو من ثَمَّ لا يمكن أن يكون بمعزل عن أرض الساحل وعن بقية أرض جزيرة العرب.
وقد يكون لاسم أرض "دلمون"، وهي أرض السلامة والنظافة، والأرض التي لا تعرف الموت ولا الأمراض والأحزان، والتي لا ينعب فيها غراب، ولا ترفع الطيور أصواتها بعضها فوق بعض، والتي لا تفترس أسودها، ولا يأكل ذئب فيها حملًا، الجنة في الأسطورة السومرية، علاقة بـ"دلمون" التي هي جزيرة البحرين في لغة قدماء أهل العراق. وقد حول الخيال السومري، أو خيال من عاش قبلهم على تلك الأرض إلى أرض مسالمة مثالية لا قتال فيها ولا موت
1 herodotus، vol. I، p. 118، 129، 190، pliny، natr. Hist. vol. ii. Bk. Vi، 165 p. 463ff.
2 forster، ii، 154
ولا حزن، استمده من تلك الجزيرة المسالمة الواقعة في الخليج1.
ويحدثنا نص كُتب عن فتوحات "لوكال، زكه، سي""Lugal – Zagge – Si""2400-2371 ق. م."، وهو من رجال السلالة الثالثة من ملوك "الوركاء""Uruk"، أن فتوحاته كانت قد امتدت من "البحر الأسفل""الخليج العربي" إلى "البحر الأعلى""Upper Sea"، أي: البحر المتوسط، ومعنى هذا: أن حكمه كان قد شمل الخليج العربي2.
وفي أخبار "سرجون" الأكدي، المعروف بـ"شروكين""Sharru – Kin""3371-2361 ق. م"، أي: العادل، أن فتوحاته بلغت "البحر الجنوبي""البحر التحتاني""البحر الأسفل"، أي الخليج العربي، وأنه استولى على مواضع منه3. و"سرجون" هو أقدم ملك أكدي، يقص علينا خبر وصول الأكديين إلى تلك الجهات.
ويلاحظ أن قدماء العراقيين كانوا يطلقون على البحر المتوسط "البحر الأعلى"، وعلى الخليج العربي "البحر الجنوبي""4The Lower Sea. وذهب بعض العلماء إلى أن المراد من "البحر الأعلى" بحيرة "وان"5.
وقد أرسل الملك الأكدي "منشتوسو""Manishtusu""2306-2292 ق. م" حملة عسكرية بحرية، يظهر أنها ركبت السفن من الجزء الجنوبي الغربي من إيران من "شريكم""Shirikum"، فعبرت الخليج "البحر الأسفل" إلى الساحل المقابل، أي: الساحل الشرقي لجزيرة العرب. ولما وصلت سفنه الساحل، تجمع ملوك "المدن"، وبلغ عددهم "32" ملكًا، وقرروا محاربة جنوده، غير أن جنوده انتصروا -كما يقول ملك أكد- على جنود ملوك المدن، واندحر أهل الساحل، واضطروا إلى الاستسلام والخضوع، وسلمت تلك المدن له، وبذلك فرض سلطان "أكد" عليها إلى موضع "مناجم الفضة". وقد استولى على الجبال جنوب "البحر الأسفل"، وأخذ ما وجد
1 ancient iraq، P.94
2 ancient iraq، P. 122
3 acienr iraq، P. 129
4 W. F. Leemans، trade in the old babylonian period، P. 4، leiden، 1960
5 reallexikon der assyriologie، I، funfte liefrung، s. 374
فيها من أحجار، فصنع منها تماثيل قدمها نذرًا للإله "إنليل" "1Enlil.
وأغلب الظن أن مراد الملك من الجبال أسفل "البحر الأسفل" هي أرض عمان، وهي أرض متصلة من البحر بالبحرين وبالعراق من البر والبحر، كما أن تحرك السفن من جنوب غربي إيران، أي: من الأرض العربية المسماة بـ"عربستان" في الزمن الحاضر إلى الساحل المقابل، أي: ساحل جزيرة العرب الشرقي، يحمل الذهن إلى أن الجبال التي ذكرها الملك هي جبال عمان، وإذا صح هذا الرأي يكون هذا الملك الأكدي قد وصل في فتوحاته إلى أرض عمان.
وجاء في كتابة مدونة على تمثال الملك "نرام سن""نارام سن""نارام سين"2 "2291-2255 ق. م"3 أنه أخضع موضع "مكان""مجان""مفان""Magan"، وتغلب على ملكه "مانو""مانيوم""Manium""مانودانو""Mannu – Dannu"، وأسره4.
ويظهر أن أهل "مجان""مكان"، وهم قوم لم يشر إلى اسمهم "منشتوسو" والد "نارام سن""Naram – Sin"، وهم أهل عمان في رأي أكثر العلماء -كما سأتحدث عن ذلك بعد قليل- كانوا قد ثاروا على العراقيين الأكديين الذين أخضعهم لحكمه والد "نارام سن"، وذلك في أيامه أو في أواخر أيام والده، فأرسل لذلك "نارام سن" حملة تأديبية قضت على ثورتهم وأعادتهم إلى حكم الأكاديين، وعاد بذلك ساحل الخليج العربي من عمان إلى أعلاه، فصار جزءًا من مملكة أكد.
وقد ورد اسم "مكان""مجان" في نصوص سومرية وأكادية، نشر
1 G.A. barton، the Royal inscriptions of sumer and akkad، new haven، 1924، P. ff. ancient iraq، P. 131
2 نحو "2300 ق. م" حتى "ص43" الترجمة العربية، و"2400 ق." في الطبعة الثالثة باللغة الإنجليزية "ص36"، "2730 ق. م" في:
Rostovtzelf، a history of the ancient world، vol. I، oxford 1930، P. 397، ancient iraq، P. 132
3 L. W. King، studies in eastern history، ii، "charonicles concerning early babylonian kings،" vol. I، P. 8، 51، 52، vol. ii، P. 10، 38، 39
4 king، I، P. 51، the cambridge ancient history، vol. I، P. 415، cambirdge، 1923، bruno meissner، koenige babyloniens und assyriens، s. 31، king، vol. ii، P. 10، 38، 39.
بعضها العلماء، منها نص للملك "شلجي" أو "دلجي" أو "ونجي" الملقب بـ" ملك سومر وأكاد" أفاد وجود صناعة بناء السفن في هذا المكان1. والواقع أن أهل الساحل الشرقي لجزيرة العرب عرفوا ببناء السفن منذ القديم، وقد ركبوا البحار وتاجروا، وتوسطوا في نقل التجارة من مختلف السواحل، ولا تزال صناعة بناء السفن الشراعية معروفة حتى اليوم مع قلة ربحها، وعدم تمكنها من منافسة البواخر، إلا أنها على كل حال مورد رزق لأصحابها لاقتناعهم بالقوت القليل.
ويدل عثور المنقبين على أختام ومواد أخرى من عمل الهند، في "أور" وفي "كيش" و"البحرين" ومواضع أخرى من الساحل العربي الشرقي، على أن الاتصال التجاري بالبحر كان معروفًا في الألف الثالثة قبل الميلاد، وأن حركة الاتصال هذه كانت مستمرة عامرة، وأن بعض مواضع الخليج مثل "البحرين" كانت من مراسي السفن الشهيرة في تلك الأيام، تقصدها السفن القادمة من العراق في طريقها إلى الهند، والسفن القادمة من الهند في طريقها إلى العراق2.
وقد دُعيت "مكان""مجان" في نصوص أخرى "Matu – Ma – Gan – Na" أي: "أرض مجان"3. ويظهر أن الملك "مانيوم" "مانئوم" "مانوم" هو الملك "منودنو" "Mannu – Dannu" نفسه الذي ورد في نص آخر4. وقد كتبت على التمثال لفظة "بلو""Belu" بمعنى "سيد"، أي سيد "مجان"، وهو "مانيوم"، وقد جيء بحجر التمثال من "مجان". وتعني كلمة "دنو""المقتدر"؛ ولذلك يرى بعض الباحثين أنها صفة ألحقت بالاسم، فهي لقبه، وليست جزءًا من الاسم5.
1 S. H Langon، the cambirdge ancient history، vol. I، P. 415، f. thureau- dangin، die sumerischen und akkadischen koenigsinschriftten، bd. I، s. 66، 72، 76، 78، 104، 106، 134، 164، 166، H. R Hall، the ancient history of the near east london، 1947، P. 190، ancient iraq، P. 142
2 C. J. gadd، seals of aniecnt andian style found at Ur، pba، xviii، P. 191-210، sir m. wheeler، the
3 king، ii، P. 38، 39
4 king، I، P. 8، 51، 52، de morgan، délégation en pers، mémoires VI، P. 2 1905
5 King، I، P. 52، cambridge ancient history، I، P. 415
وفي أنباء "جوديا" غوديا" "Godea"، وهو "باتيسي" مدينة "لكش"1، أنه جلب الحجر من "مجان"؛ وذلك لصنع التماثيل، كما جلب الخشب منه ومن "دلمون"2، وذكر مع موضع "مجان" اسم موضع آخر هو "ملوخا"، وقد ذكر "جوديا" "غوديا" أنه جلب كميات كبيرة من "حجر أحمر" من "ملوخا"3. وقد أخذ العلماء في تقصِّي هذين المكانين اللذين أخذ منهما هذا الـ"باتيسي" أحجاره وأخشابه، وكذلك أسماء مواضع أخرى ذكرت مع المكانين4.
وقد بحث "ونكلر" عن موضع "مجان"، ويقع على رأيه في الأقسام الشرقية من جزيرة العرب5، وقد نبه على اقتران اسم" ملوخا" باسم "مجان" في الغالب، ويرى أنهما اصطلاحان يقصد بهما في البابلية القديمة بلاد العرب، فيراد من "مجان" القسم الشرقي من الجزيرة من أرض "بابل" إلى الجنوب، وأما "ملوخا، فيراد بها القسم الشرقي من جزيرة العرب. ويرى أيضا أن ما وفع في جنوب المنطقتين عرف باسم "كوش" أي: الحبشة، وأن البابليين لم يكونوا يتصورون بلاد العرب شبه جزيرة تحيط بها البحار من الشرق والجنوب والغرب، بل تصوروها منطقة واسعة تمتد من الحبشة إلى الهند، وأن "كوش" تقابل مصر التي هي القسم الشمالي من جزيرة العرب. فما ذكر عن "كوش" ومصر في التوراة لا يقصد به الحبشة ومصر، بل يقصد به جزيرة العرب وشمالها. وقد جاء على ذلك بأمثلة من العهد العتيق، ذكر أن من الصعب أن يكون المراد بها مصر والحبشة.
وقد ألف "ونكلر" رسالة سماها "مصري وملوخا ومعين" بيّن فيها رأيه في أن "مصري" هي أرض عربية شمالية، وأن مصر المذكورة في التوراة
1 "باتيسي" في السومرية في مقابل كلمة "إشاكو""Ischakku"، و"الكرب" أي: الحاكم الكاهن، الذي يجمع بين السلطتين الزمنية والدينية.
2 schrader، die keilschriften und das alte testament، s. 15. ff
وسيكون رمزه: KLT
3 ancient iraq، P. 141
4 "مجان وملوخا، جمعتا الخشب من جبالهما.... وجوديا جلب الخشب منهما إلى مدينة جرسو"، ancient iraq، P. 141
5 KLT، s. 15
هي في بلاد العرب، لا في إفريقيا. وقد أثارت نظرية "ونكلر" هذه جدلًا بين العلماء وقُوبلت بنقد شديد؛ لأنها تعارض ظاهرة نصوص التوراة1.
وذهب آخرون إلى أن "مجان" هي في المنطقة المسماة "Gerrha" عند "الكلاسيكيين"، وهي الأحساء، وأما "ملوخا" فتمتد من المنطقة الواقعة إلى الجنوب من البحرين إلى عمان2. وقد اشتهرت "ملوخا" بوجود الذهب فيها3، ومنها حصل "جوديا" "Gudea" "غوديا" على الذهب4، كما اشتهرت بالخشب الثمين المسمى5 "Uschu". وأما "هومل"، فيرى أن "مجان" في الأقسام الشرقية من جزيرة العرب، وأن "ملوخا" تقع في وسط جزيرة العرب، أو في القسم الشمالي الغربي منها.
وذهب "جيسمن" إلى احتمال وقوع "مجان" على مقربة من ساحل الخليج، في موضع في الرمال جنوب "يبرين"، فيه بئر جاهلية، قال: إن اسمها قريب من "مجان""Magan"، ويعرف هذا المكان باسم "مجيمنة"6.
وقد عارض "فلبي" رأي "جيسمن" هذا؛ لأن الموضع المذكور يقع في منطقة صحراوية بعيدة عن ساحل البحر، ولا توجد فيه آثار عاديات تشعر أنه كان من المواضع الجاهلية العتيقة، ولا صخور من نوع "الديوريت" الذي صنع منه تمثال "نرام، سين"، ولا أي نوع آخر من الصخور، يبعث على الظن أنه المكان الذي نقلت منه الحجارة إلى العراق. وقد رأى "فلبي" أن موضع "مجن" الواقع على مقربة من الساحل عند مصب وادي "شهبة"، هو أقرب إلى "مجان" من الموضع الذي اختاره "جيسمن"؛ ولهذا ظن أنه هو المكان المقصود7.
ويرى "موسل" أن من الصعب جدًّا الاتفاق على تعيين موضعي "مجان"
1 Huge winckler musri، meluhha، main، mitteilungen der vorderasiatischen gesellschaft، 1898، I، berlin، "hefte
2 o'qleary، P. 47
3 o'leary، P. 49
4 thureau-dangin، die sumerischen und akkadien koniginschriften، leipzig، 1907، s، 70
5 Fr. Hommel، grundriss، I، s. 13، arnorld t. wilson، the persian gulf، oxford، 1928، P. 28
6 philby، the empty quarter، P. 119. ff
7 major cheesman، in unknown arabia، P. 266
و"ملوخا"؛ لأن مدلولي الاسمين قد تغيرا تغيرًا مرارًا. فالذي يفهم من نصوص الألف الثالثة قبل الميلاد، أنهما يقعان في جزيرة العرب على سواحل الخليج وعلى سواحل المحيط الهندي. فـ"مجان" في نص "نرام، سين" أرض تحدُّ إقليم "بابل"، أو هي لا تبعد عنه كثيرًا1. وهي كذلك في كتابة "جودية" "جوديا" "غوديا"، وفي بعض النصوص التي عثر عليها في "أور" حيث أشير إلى طريق قوافل يوصل من "السوس "إلى "مجان"2. وهذا مما يبعث على الظن أن أرض "مجان" و"ملوخا" المذكورتين في نصوص الألف الثالثة قبل الميلاد تقع على الخليج، في الأرضين التي سكن فيها الـ"جرهائيون""3Gerrhaens". وقد كان سكان هذه السواحل يتاجرون منذ القديم مع الهند وإيران والسواحل العربية الجنوبية، ومع إفريقيا أيضا. ويرى احتمال شمول اسم "ملوخا" منطقة واسعة تشمل ما يسمى "كوش" في التوراة، والسواحل العربية الجنوبية التي كانت تعرف بـ"كوش" كذلك4.
ويرى "موسل" أن مدلول "مجان" قد توسع في الألف الأول قبل الميلاد فشمل منطقة كبيرة شملت مصر أيضا، فعنى في النصوص الآشورية التي ترجع إلى الألف الأول قبل الميلاد بـ"مجان" طور سيناء والأقسام المتاخمة لها من مصر، وإلى هذا الرأي ذهب "مايسنر" كذلك5، أما "ملوخا"، فقد قصد بها الحبشة والسودان. وقد توسع مدلول "حويلة" المذكور في التوراة أيضا، فشمل المنطقة التي تقع غرب "بابل" إلى طور سيناء والسواحل الشرقية الواقعة على خليج العقبة؛ ولهذا ظن بعض العلماء أنها صارت تعني "ملوخا"6.
وقد ذهب "كيتاني" إلى أن "مجان" هي "مدين"؛ لأن أرض "مدين" كانت في حوالي خمسة آلاف سنة قبل الميلاد كثيفة الأشجار، وكانت تصدر الأخشاب التي تصلح لبناء السفن، ومن مدين أخد البابليون الذهب والنحاس
1 Musil، negd، P. 306. ff. British Museum Tablet، 26، 472، K. 2130
2 Musil، Negd، P. 307
3 Musil، Negd، P. 307
4 Musil، Negd، P. 307
5 Konige، S. 31، Musil، Negd، P. 307
6 Musil، Negd، P. 307
والأخشاب. أما "موسل"، فيعارض هذا الرأي، ويرى أن من الصعب تصور نقل الأكديين والسومريين والبابليين الأخشاب والصخور الثقيلة من مدين على ظهور الجمال إلى بلادهم مع اتساع الشقة وبعد الطريق، ويرى أن من الصعب تصور نقلها في البحر الأحمر فالبحر العربي فالخليج؛ فإن ذلك يستدعي زمنًا طويلًا ومتاعب كثيرة، ثم إن النصوص لم تشر إلى ذلك. فمن المعقول أن تكون "مجان" في العربية الشرقية على ساحل الخليج1.
ويرى "كلاسر" أن "Magon Kolpos" الذي ذكره "بطلميوس" لا يعني "خليج المجوس""Magorum Sinus" حتمًا، إذ يجوز أن يكون المراد منه "مجان""Magan"، أي موضع "مجان" الذي نتحدث عنه2. ويقع -في رأيه- على ساحل الخليج، وربما كان عند "القطن" "قطن"، ويحتمل -في رأيه أيضا- أن يكون "Maka" المذكور في نص "دارا"3.
ويرى "أوليري" أن "مجان" هي "Gerrha"، وتمثلها الأحساء في الزمن الحاضر، أما "ملوخا""Meluhha" فتقع -في رأيه- جنوب الأحساء، في عمان. وقد استدل على ذلك بنص دُوِّن في عهد "سرجون""722-705 ق. م."، جاء فيه أن مملكته بلغت مسيرة 120 "بيرو" من سقي نهر الفرات إلى "ملوخا" على ساحل البحر4، وأن موضع "دلمون""Dilmun" يقع على مسافة 30 "بيرو" من رأس الخليج؛ فيجب أن يكون موضع "ملوخا" إذًا بعد موضع "دلمون". ولما كان موضع "دلمون" هو "تيلوس""Tylus" في رأي أكثر العلماء، أي: البحرين؛ فإذن تكون أرض "مجان" وأرض "ملوخا" في العرض، وفي المواضع المذكورة6. وذهب
1 المصدر نفسه.
2 Glaser، Skizze، II، S. 223. F. Forster، I، P. 298، 306، II، 215
3 Skizze، II، S. 225
4 Schroder، Keilinschr. Verschiedenen Inhalts، Nol. 92، O'Leary P. 46
5 "بيرو"، وفي القراءات القديمة "قصبو""قصبة""Kaspu" عوضًا عن "بيرو"، وهي مقياس للمسيرات، سومر، الجزء الثاني "1949، من المجلد الخامس "ص134".
6 O'leary، P. 46. ff