المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العرب المستعربة: والطبقة الثالثة من طبقات العرب -على رأي أهل الأخبار- - المفصل فى تاريخ العرب قبل الإسلام - جـ ٢

[جواد علي]

الفصل: ‌ ‌العرب المستعربة: والطبقة الثالثة من طبقات العرب -على رأي أهل الأخبار-

‌العرب المستعربة:

والطبقة الثالثة من طبقات العرب -على رأي أهل الأخبار- هم "العرب المستعربة""المتعربة"، ويقال لهم: العدنانيون أو النزاريون أو المعديون. وهم من صلب "إسماعيل بن إبراهيم" وامرأته "رعلة بنت مضاض بن عمرو الجرهمي"1. قيل لهم "العرب المستعربة"؛ لأنهم انضموا إلى العرب العاربة، وأخذوا العربية منهم، ومنهم تعلم "إسماعيل" الجد الأكبر للعرب المستعربة العربية، فصار نسلهم من ثَمَّ من العرب واندمجوا فيهم، وموطنهم الأول مكة على ما يستنبط من كلام الأخباريين، فيها تعلم "إسماعيل" العربية، وفيها ولد أولاده، فهي إذن المهد الأول للإسماعيليين2.

ويذكر أهل الأخبار أن "إسماعيل" ولد من زوجه "رعلة"، اثني عشر رجلًا هم:"نابت" وكان أكبرهم، و"قيذر" و"أذبل"، وميشا، ومسمعا، وماشى، ودما، وأذر، وطيما، ويطور، ونبش، وقيذما3. وأكثر هذه الأسماء ورودًا في الكتب العربية نابت وقيذر. وقد أخذ النسابون هذه الأسماء من التوراة، فقد جاء فيها:"هذه أسماء بني إسماعيل بأسمائهم على حسب مواليدهم: نبايوت بكر إسماعيل، وقيدار، وأدبئيل، ومبسام، ومشماع، ودومة، ومسا، وحدار، وتيما، ويطور، ونافيش، وقدمة4".

ولم تذكر التوراة اسم المرأة التي تزوجها إسماعيل، فأولدها هؤلاء الأولاد الذين انتشروا، فسكنوا في منطقة تمتد من "حويلة" إلى "شور"5.

وعدنان في نظر العدنانيين هو جدهم الأعلى، كما أن قحطان هو الجد الأعلى للقحطانيين6. ولما كانت الطبقة الأولى من العرب قد بادت وذهبت، تكون

1 ابن هشام "1/ 3"، السيدة بنت مضاض بن عمرو الجرهمي، ابن خلدون "2/ 37"، الطبري "1/ 161"، ابن الأثير "1/ 49"، الطبقات "1، 1، ص25"، تاج العروس "1/ 375"، ونابت بن إسماعيل عليه السلام ولي بعد أبيه، أمه السيدة بنت مضاض بن عمرو الجرهمي، تاج العروس "1/ 590".

2 المصادر المذكورة، نهاية الأرب "2/ 392" طبقات، لابن سلام "ص4".

3 ابن هشام "1/ 3"، ابن خلدون "2/ 39"، الطبري "1/ 161"، ابن الأثير، الكامل "1/ 49"، مع اختلاف في ضبط الأسماء.

4 التكوين، الإصحاح 25، الآية 12 فما بعدها.

5 التكوين، الإصحاح 25، الآية 18.

6 تاج العروس "9/ 275".

ص: 26

العرب الباقية وكلها من ولد قحطان وعدنان، استوعبت شعوب العرب كلها.

وقد رأينا أن "قحطان" هو "يقطن" أو "يقطان" في التوراة، أما "عدنان"، فلا نجد له اسمًا فيها. وقد رأينا أن بين "يقطان" و"سام" ثلاثة آباء أو أربعة، أما بين عدنان وسام، فعدد كبير من الآباء.

وقد اختلف النسابون في عدد من كان بين إسماعيل وعدنان من الآباء، فرأى بعضهم أنهم أربعون، وروى غيرهم أنهم عشرون، وقال آخرون: إنهم خمسة عشر شخصًا1، وقالت جماعة: إن المدة طويلة بين عدنان وإسماعيل بحيث يستحيل في العادة أن يكون بينهما هذا العدد من الآباء2.

وقد اختلف الأخباريون وأصحاب الأنساب في نسب عدنان اختلافًا كبيرًا، واختلفوا بينهم حتى في كيفية النطق بتلك الأسماء، على حين أننا لا نرى اختلافا بينهم في نسب قحطان، ولا في كيفية النطق بتلك الأسماء3. وقد علل محمد بن سعد الواقدي ذلك بقوله:"وكان رجل من أهل تدمر يكنى أبا يعقوب من مسلمة بني إسرائيل قد قرأ من كتبهم، وعلم علمهم، فذكر أن بورخ بن ناريا كاتب إرميا، أثبت نسب معد بن عدنان عنده، ووضعه في كتبه، وأنه معروف عند أحبار أهل الكتاب وعلمائهم، مثبت في أسفارهم، وهو مقارب لهذه الأسماء. ولعل خلاف ما بينهم من قِبَل اللغة؛ لأن هذه الأسماء ترجمت من العبرانية"4.

ويقول الواقدي في موضع آخر: "وهذا الاختلاف في نسبته يدل على أنه

1 النويري، نهاية "2/ 324"، ابن عبد البر، القصد "22".

2 الطبري "2/ 191"، ابن هشام "1/ 3 فما بعدها"، مروج "1/ 394" طبقات ابن سعد "1، 1، ص28 فما بعدها"، ابن خلدون "2/ 298" نسب عدنان "2"، صبح الأعشى "1/ 307"، نسب قريش لأبي عبد الله المصعب بن عبد الله بن المصعب الزبيري "تحقيق ليفي بروفنسال"، "ص3 فما بعدها".

Enc.، vol.، p.، 142، wuestenfeld، register، zu den general

Tablelln der arab. Stamme، s.، 47، caussin de perceval، essal، I، 8، 175، j.d. bate، an examination of the cailms of ischmael، 1884، p.، 109، sprenger، life of mohammad، 57، note 3، and 4، mills، history of mohammadanishm، 7، pocock، specimen، 40

3 نهاية الأرب "2/ 306".

4 الطبقات "جـ1، ق1، ص29".

ص: 27

لم يحفظ، وإنما أخذ من أهل الكتاب، وترجموه لهم، فاختلفوا فيه، ولو صح ذلك؛ لكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم الناس به. فالأمر عندنا على الانتهاء إلى معد بن عدنان، ثم الإمساك عما وراء ذلك إلى إسماعيل بن إبراهيم"1، وقال أيضًا: "ما وجدنا في علم عالم ولا شعر شاعر أحدًا يعرف ما وراء معد بن عدنان بثبت"2.

ونقل ابن خلدون رأي من تقدمه في هذا الاختلاف، فقال:"ونقل القرطبي عن هشام بن محمد فيما بين عدنان وقيدار نحوًا من أربعين أبًا، وقال: سمعت رجلًا من أهل تدمر من مسلمة يهود وممن قرأ كتبهم يذكر نسب معد بن عدنان إلى إسماعيل من كتاب إرمياء النبي عليه السلام وهو يقرب من هذا النسب في العدد والأسماء إلا قليلًا، ولعل الخلاف إنما جاء من قبل اللغة؛ لأن الأسماء ترجمت من العبرانية"3.

ويرجع بعض أهل الأخبار اختلاف الناس في عدد الآباء والأجداد فيما بين عدنان وإسماعيل إلى أيام النبي، فهم يذكرون أن الناس كانوا في خلاف فيما بينهم في عددهم، وأن الرسول لما رأى خلافهم هذا، نهاهم عن تجاوز نسب "معد بن عدنان"، وأمرهم بالتوقف عنده، وانتسب النبي صلى الله عليه وسلم إلى عدنان، وقال:"كذب النسابون، فما بعد عدنان، فهي أسماء سريانية لا يوضحها الاشتقاق"4.

وقد جعل بعض الأخباريين اسم والد "عدنان""أُدَدًا"، وساقوا نسبه على هذا الشكل:"عدنان بن أدد بن يرى بن أعراق الثرى"5، وساقه آخرون على هذا الوجه: "عدنان بن أدد بن الهميسع بن سلامان بن عوص بن يوز بن قموال بن أبي بن العوام بن ناشد بن بلداس بن تدلاف بن طابخ بن جاحم بن ناحس بن ماخي بن عيقي بن عبيد بن الدعا

" إلى آخر ذلك

1 الطبقات "جـ1، ق1، ص29".

2 الطبقات "جـ1، ق1، ص30".

3 ابن خلدون "2/ 298"، ابن سلام، طبقات "11"، ابن حزم، جمهرة "6".

4 الاشتقاق "20"، ابن خلدون "1/ 3"، البلاذري، أنساب "1/ 12".

5 الطبقات "جـ1، ق1، ص28".

ص: 28

من سلسلة مفتعلة ولا شك، رواها "ابن الكلبي"1. وقد سبق النسب على هذه الصورة أيضًا:"عدنان بن أدد بن الهميسع"2، وروي بصور أخرى في كتاب نسب قريش لـ"الزبيري"3.

ولم يذكر أهل الأخبار شيئًا عن "أد" أو "أدد"، ولا عن كيفية توصلهم إلى أحدهما أو كليهما. وقد زعم بعض علماء اللغة أن "أدّ" من "أَدَّ"، والكلمة فعل من المودة، "قلبت الواو ألفًا لانضمامها"4.

وذكر الأخباريون أن "وُدًّا"، وهو الصنم الشهير الذي تغلب على دومة الجندل وتعبدت له "كلب" و"قريش" وقبائل أخرى عديدة، كان يهمز أيضًا، فيقال "أُدّ"، وبه سمي "عبد وُدّ"، كما سمي "أد بن طابخة"، و"أدد جد معد بن عدنان"5.

ونجد بين آلهة الشعوب السامية اسم صنم يقال له: "أدد""Adad" و"أدو""Addu"6، أرى أن لاسم هذا الصنم علاقة باسم "أدد".

وقد ساق "محمد بن إسحاق" نسب عدنان على هذه الصورة أيضًا: "عدنان بن مقوم بن ناحور بن تيرح بن يعرب بن يشجب بن نابت بن إسماعيل"7، فجمع بين نسب "عدنان" ونسب "يعرب"، وأرجعهما كما ترى إلى "إسماعيل"، وساقه في مكان آخر بصورة أخرى.

والغريب أن الرواة الذين رووا هذه الأنساب وشجرات النسب التي يتصل سند روايتها بهم، كابن الكلبي ومحمد بن إسحاق وأمثالهما، هم أنفسهم يروون هذا النسب بأشكال مختلفة ومتضاربة؛ وطالما حرفوا الأسماء العبرانية، ورووها بصور متعددة، وقد يحشون بينها أسماء عربية. وقد روى رواياتهم هذه أناس متعددون، ولكنهم متفقون على أنهم سمعوها منهم، أو نقلوها من مؤلفاتهم،

1 الموارد المتقدمة، وتاج العروس "9/ 275".

2 تاج العروس "9/ 275".

3 نسب قريش "ص3 فما بعدها".

4 اللسان "4/ 496".

5 اللسان "4/ 496".

6 Schrader، KAT، S.، 443.FF

7 الطبقات "جـ1، ق1، ص28".

ص: 29

كما يتبين ذلك من السند. ولما كان أكثر هذه الأسماء الواردة في عمود نسب "عدنان" محرفة، وكانت غير موجودة في التوراة، وإنما هي أسماء عبرانية ممسوخة أحيانًا؛ فإن هذا يدل على أن الرواة اليهود الذين كانوا يتحدثون بمثل هذه الأمور إلى ابن الكلبي ومحمد بن إسحاق وغيرهما ممن مال إلى الأخذ منهم، كانوا إما جهلة بما يتحدثون به، وإما كذابين أو ممن كانوا يحاولون التقرب إلى المسلمين بهذه التلفيقات لمآرب خاصة، أو ادعاءً للعلم، غير أننا لا نستطيع أن نبرئ هؤلاء الرواة أنفسهم من وصمة الجهل أو الكذب، ولا سيما أن الكلبي الذي تفرد برواية معظم هذه الأخبار. الجائز أنه كان يلجأ إلى أهل الكتاب ليأخذ منهم ما عندهم، ومن الجائز أنه كان يضيف إليها، أو يخترع من عنده؛ ليتحدث به إلى الناس، وإلا فإن من الصعب صدور هذا الخلط من رجل ثقة يعي ما يقول.

وقد استغل نفر من أهل الكتاب مثل اليهودي التدمري المذكور، الذي أسلم كما يقول الرواة، هذا الجشع الذي ظهر بين أهل الأخبار في البحث عن الأنساب القديمة، أنساب أجداد العرب القدامى، فصنعوا ما صنعوا من أسماء عليها مسحة توازنية، قدموها إليهم على أنها مذكورة في التوراة، وقد أخذها الرواة على عادتهم من غير بحث ولا مراجعة للتوراة، وما الذي يدفعهم إلى البحث والمرجعة، فإن كل ما يطمعون به ويريدونه هو الحصول على مادة يظهرون بها على أقرانهم من أهل الرواية والأخبار.

ولم يرد اسم "عدنان" في النصوص الجاهلية، ولا في المؤلفات "الكلاسيكية"، أما في الشعر الجاهلي، فقد ورد في شعر ينسب إلى "لبيد"، وفي شعر آخر ينسب إلى "عباس بن مرداس". "ولم يجاوز أبناء نزار في أنسابها وأشعارها عدنان، اقتصروا على معد، ولم يذكر عدنان جاهلي قط غير لبيد

وقد يروى لعباس بن مرداس بيت في عدنان"1. وهذا يدل على أن "عدنان" لم يكن

1 ممن ذكر عدنان من شعراء الجاهلية، لبيد. قال:

فإن لم تجد من دون عدنان والدًا

ودون معد، فلتزعك العواذل

وفي ديوان "لبيد"، تحقيق إحسان عباس الكويت 1962م، باقيا في موضع والدا "ص255".

وعباس بن مرداس، قال:

وعك بن عدنان الذين تلعبوا

بمذحج حتى طردوا كل مطرد

وفي رواية "بغسان"، مكان "بمذحج"، ابن سلام، طبقات الشعراء "ص5".

ابن هشام "1/ 6".

ص: 30

جدًّا كبيرًا في الجاهلية، كما صوره أهل الأخبار والأنساب، فلو كان جدا كبيرا، لوجب عقلًا تردد اسمه، وورود شيء عنه. والغريب أننا نجد اسم "معد" مذكورًا عند "بروكوبيوس" وفي القديم من الشعر الجاهلي، مع أنه ابن "عدنان".

وقد وردت في الكتابات النبطية والثمودية أسماء قريبة من اسم "عدنان"، مثل "عبد عدنون" و"عدنون"1. أما الكتابات الجاهلية التي عثر عليها في اليمن، فلم يرد فيها هذا الاسم، أو اسم آخر قريب منه.

لقد كان من السهل علينا الوقوف على المنبع الذي أمدَّ أهل الأخبار بأصل كلمة "قحطان". أما بالنسبة إلى "عدنان"، فإن من العسير علينا أن نتحدث عن المنبع الذي أمد أهل الأخبار باسمه. فليس في التوراة اسم يشابهه بين أسماء أبناء إسماعيل، أو غير أبناء إسماعيل، وليس فيها اسم ملك عربي أو سيد قبيلة عربية اسمه يشابه اسم "عدنان". ثم إننا لا ندري كيف عثر عليه أهل الأخبار، وكيف صيروه على الوزن الذي صِيغَ به اسم "قحطان"؟ ، هل ابتدعوه ابتداعًا، أم أخذوه من أفواه أناس أدركوا الجاهلية وكانوا قد وقفوا على اسمه بين أهل مكة أو بين القبائل التي تنسب إلى إسماعيل؟ وهل كان اسم قبيلة أو اسم حلف من الأحلاف، ثم صير اسم رجل فيما بعد؟. هذه أسئلة يجب أن نعترف بأن من غير الممكن الإجابة عنها في الزمن الحاضر؛ لعدم وجود مادة لدينا تساعدنا في استنباط أجوبة منها، لذلك نترك أمرها إلى المستقبل، فلعل الأيام المقبلة تأتي بمادة جديدة، تزيح النقاب عن هذا الجهل المطبق باسم عدنان، وبفكرة عدنان.

ويظهر من روايات أهل الأخبار أن "تهامة" هي موطن العدنانيين، ومكة من تهامة، ولكن أحوالًا قاهرة أحاطت بالقبائل العدنانية فاضطرتها إلى التفرق والهجرة، وكانت "قضاعة" أول من تشتت وتفرق بسبب قتال وقع بينها وبين نزار2. ثم أعقب هجرة قضاعة هجرات أخرى من العدنانيين، فانتشروا في

1 savignac، mission، nos، 38، 328، hardings، some thamudie inscriotion، leiden، 1952، g. strenzisk، die genealogle der nordaraber nach ibn al-kalbi، koln، 1953، enc، vol.، I، p.، 210

2 الأغاني "11/ 154 فما بعدها"، ابن خلدون "2/ 240".

ص: 31

مناطق واسعة من جزيرة العرب حتى وصلوا إلى العراق والشام، واختلطوا بالقبائل الأخرى، وتفرقوا في كل مكان.

ويظهر من تلك الروايات أيضًا أن القبائل العدنانية، كانت قبائل متشاحنة يحارب بعضها بعضا، دفعها إلى تشاحنها هذا طبيعة البداوة وفقر البادية، والتقاتل على الكلأ والماء، حتى ضرب بها المثل في التفرق، والتشتت1.

ونجد اسم "نزار" على أنه اسم قبيلة، مذكورًا في نص "امرئ القيس" مع أنه ابن "معد"، أي: حفيد عدنان، ولا نجد اسم جده في هذا النص. وهذا مما قد يبعث الظن في نفوسنا أن فكرة "عدنان" لم تظهر إلا في الجاهلية القريبة من الإسلام وفي الإسلام.

وأولد الأخباريون عدنان عددًا من الأولاد، أشهرهم وأعرفهم في نظرهم: معد، وعد2. وقد زعم الأخباريون أن معدًّا عاش في أيام "بختنصر"، وأن معدا خلص إلى "حران" حينما هاجم ملك بابل أهل "حضورا" في اليمن. أما "عدنان" والده، فلقي "بختنصر" فيمن اجتمع إليه من "حضورا" وغيرهم في "ذات عرق"، فهزمهم "بختنصر"، ومات "عدنان في أيامه. فلما هلك "بختنصر" خرج "معد" من "حران" إلى مكة، فوجد إخوته وعمومته قد لحقوا بطوائف اليمن، وتزوجوا فيهم، فرجع بهم إلى بلادهم3.

ورجع "الزبيدي" أيام "معد" إلى أيام "موسى" إذ قال: "وكان معد بن عدنان في زمن سيدنا موسى عليه السلام كما يعرفه من مارس علم التواريخ والأنساب".

وقد جعل بعض أهل الأخبار أم معد بنتًا من بنات يشجب، قالوا: إن اسمها "تيمة" وإنها "تيمة بنت يشجب بن يعرب بن قحطان"4. فربطوا بذلك

1 قال البجلي في تفرق بجيلة:

لقد فرقتم في كل أوب

كتفريق الإله بني معد

البكري، معجم "1/ 57".

2 ابن خلدون "2/ 299"، المعارف "ص29"، نسب قريش "ص5" ابن حزم، جمهرة "8"، نهاية الأرب "2/ 352"، الطبري "2/ 29".

3 ابن خلدون "2/ 299".

4 الاشتقاق "ص27".

ص: 32

نسب معد بنسب قحطان من جهة الأم، بل ذهب هؤلاء إلى أبعد من ذلك بأن جعلوا أم "عدنان" بنتًا من بنات "يعرب"، وقد قالوا لها "بلهاء"1؛ فصار "يعرب بن قحطان" بهذا الزواج خالًا لعدنان ولذريته العدنانيين.

وجعلها بعض آخر من جديس أو من طسم، وقالوا: إن اسمها "مهدد بنت اللَّهم"، ويقال "اللهم بن جلحب بن جديس"، وقيل ابن طسم، وقيل ابن الطوسم، ومن ولد يقشان بن إبراهيم2.

ومن بقية ولد عدنان على رأي أهل الأخبار: عدن بن عدنان، وزعم أنه صاحب عدن، وأبين بن عدنان، وهو صاحب "أبين" على بعض الآراء، وأد بن عدنان وقد درج، والضحاك، والعي، وأم جميعهم أم معد على بعض الروايات3.

ونجد لمعد ذكرًا في الشعر الجاهلي، فقد ورد في شعر "امرئ القيس"4، وفي شعر "النابغة الذبياني"5، وفي شعر "زهير بن أبي سلمى"6، وفي شعر "قيس بن الخطيم"7، وفي شعر "بشر بن أبي خازم الأسدي"

1 الاشتقاق "ص27".

2 الطبري "2/ 27" القاهرة 1939م، "2/ 270""دار المعارف".

3 الطبري "2/ 270""دار المعارف".

4

فأبلغ معدا والعباد وطيئًا

وكندة: أني شاكر لبني ثعل

شرح ديوان امرئ القيس للسندوبي "ص160"، Enc.، Vol 3، P. 58.

5

علوت معدا نائلا ونكاية

فأنت لغيث الحمد أول رائد

ديوان النابغة، شرح البطليوسي "ص34، 78".

وإن الغدر قد علمت معد

بناه في بني ذبيان باني

6

عظيمين في عليا معد هديتما

ومن يستبح كنزًا من المجد يعظم

أبى الشهداء عندك من معد

فليس لما تدب به خفاء

بلاد بها عزوا معدا وغيرها

مشاربها عذب، وأعلامها ثمل

هم خير حي في معد علمتهم

لهم نائل في قومهم وفعنائل

شرح ديوان زهير بن أبي سلمى، للإمام أبي العباس ثعلب، طبع دار الكتب المصرية، سنة 1944م، "ص17، 81، 106، 109"، الزوزني، شرح "ص79"، "صادر".

7

ورثنا المجد قد علمت معد

فلم نغلب ولم نسبق بوتر

شعر قيس "ص33".

8

هم فضلوا بخِلَّات كرامٍ

معدا، حيثما حلوا وساروا

ديوان بشر بن أبي خازم الأسدي، تحقيق الدكتورة عزة حسن، دمشق 1960م "ص72".

ص: 33

وفي شعر "عمرو بن كلثوم التغلبي"1، وفي شعر "عبد المسيح بن عمرو الغساني"2، وفي شعر "المثقب العبدي"3، وفي شعر "سلامة بن جندال السعدي"4، وفي شعر ينسب إلى "الحاجب بن زرارة"5، يقولون: إنه قاله يرد فيه على "الحارث"، وفي شعر ينسب إلى الشاعر "ابن دارة"، زعموا أنه قاله في مدح" حاتم الطائي"6، وفي شعر ينسب إلى "زهير بن جناب الكلبي"7، وغيرهم، كما ورد اسم معد في شعر المخضرمين8.

وقد استعملت كلمة "الحي المعدي" في شعر لـ"حاجب بن زرارة"9، كما ورد "حي في معد"10، مما ينبئ أن معدًّا كانت مؤلفة من أحياء، لا من حي واحد، وجاء في شعر عمرو بن كلثوم:"وقد علم القبائل من معد"11، ويدل ذلك على أن معدا كانت مؤلفة من قبائل، وأنها لم تكن قبيلة واحدة. ونلاحظ أن شعراء الجاهلية القدامى كانوا يستعملون: "قد

1

ورثنا المجد قد علمت معد

نطاعن دونه حتى يبينا

معلقة عمرو بن كلثوم، شرح المعلقات السبع، للزوزني "ص125"، "دار صادر".

2

تقسمنا القبائل من معد

علانية كأيسار الجزور

الأغاني "11/ 58"، السجستاني، المعمرون "37".

3 المفضليات "293"، ديوان زهير "106".

4

همت معد بنا همًّا فنهنَهَهَا

عنا طعان فضرب غير تعذيب

المفضليات "ص47"، "سندوبي".

5

وقد علم الحي المعدي أننا

على ذاك كنا في الخطوب الأوائل

الأغاني "11/ 150".

6

تحن قلوصي في معد وإنما

تلاقي الربيع في ديار بني ثعل

العقد الفريد "1/ 309".

7 البلاذري، أنساب "1/ 19".

8 قال أبو ذؤيب:

فإن تك أنثى في معد كريمة

علينا فقد أُعطيت نافلةَ الفضلِ

ديوان الهذليين، "طبعة دار الكتب المصرية"، "1/ 37"، شرح أشعار الهذليين للسكري "1/ 88".

9

وقد علم الحي المعدي أننا

على ذاك كنا في الخطوب الأوائل

الأغاني "11/ 100"، "دار الكتب المصرية".

10 قال زهير بن أبي سلمى:

هم خير حي في معد علمتهم

لهم نائل في قومهم وفضائل

ديوان زهير بن أبي سلمى، لثعلب "ص106".

11 بيت 94 من معلقة عمرو بن كلثوم، Goldziher، Muh. Stud.، I، S، 91.

ص: 34

علمت معد"1. ويقول علماء اللغة: إن معدًّا "غلب عليه التذكير، وهو مما لا يقال فيه من بني فلان، وما كان على هذه الصورة، فالتذكير فيه أغلب، وقد يكون اسمًا للقبيلة"2. ويستنتج من هذا أن معدا لم تكن في الأصل اسم علم لرجل تنتمي إليه قبيلة معينة، وإنما كانت كلمة عامة تشمل قبائل تشترك في طراز الحياة وإن كانت تعتقد أنها ترتبط بعضها ببعض برباط النسب.

وقد استعمل حسان بن ثابت كلمة "معد" في مقابل "الأنصار"، وذكر أن الأنصار "لها في كل يوم من معد قتال أو سباب أو هجاء3"، وأن الأنصار نصروا رسول الله على رغم أنف معد4، وأورد اسم معد في أحد الأبيات مع قحطان5، كما قال عن "بني أسد": إنها "تذبذب في معد"6، فاستعمل كلمة معد في شعره للدلالة على خصوم الأنصار، كما استعملها في مقابل قبائل معينة، وخصوم الأنصار هم قريش والمهاجرون. ولما كان الشاعر يعد نفسه من اليمن، وأهل مدينته من أصل يماني، فإن من الجائز أن نقول: إنه عبر عن فكرة معد وقحطان في هذا الزمان، وعن رأي أهل مدينته خاصة في النسب عند ظهور الإسلام.

وبينما يصرف حسان بن ثابت كل فنه إلى هجاء خصوم الأنصار، أي: أهل مكة والدفاع عن أهل يثرب، والافتخار بقومه على قوم معد ونزار7، نرى أنه لا يسمي من يهجوهم عدنانيين، ولم يستعمل في شعره الواصل إلينا المطبوع اسم عدنان، فَلِمَ أغفل حسان اسم عدنان؟ أليس عدنان والد معد؟ ألم يكن

1 Goldziher، Muh. Stud.، I، S.، 91.

2 تاج العروس "2/ 503"، اللسان "16/ 407"، "دار صادر".

3

وقال الله قد يسرت جندًا

هُمُ الأنصار عُرضَتُها اللقاءُ

لنا في كل يوم من معدٍّ

سباب أو قتال أو هجاءُ

شرح ديوان حسان، للبرقوقي "ص6"، ديوان حسان، "ص1"، "طبعة هرشفلد".

4 ديوان حسان "ص5، 6، 25".

5

فلو سئلت عنه معد بأسرها

وقحطان أو باقي بقية جرهما

ديوان حسان "ص44"، البرقوقي، شرح "ص398".

6 ديوان حسان "ص47".

7

وكل محارب وبني نزار

تبين في مشافره الرضاع

ديوان حسان "ص36".

ص: 35

من الأجدر به ذكر عدنان وتقديمه على معد؟ ألم يقسم علماء النسب العرب إلى أصلين: أصل قحطاني وأصل عدناني؟ ألسنا نجد في كتب الأنساب والتاريخ اسم عدنان مقدمًا على معد، وأن قبائل معد تعد نفسها عدنانية، كما أن قبائل قحطان تعد نفسها قحطانية؟ لا يعقل بالطبع أن يكون حسان قد ترك عدنان والعدنانية ولجأ إلى استعمال "معد" لو لم تكن لفظة "معد" أشهر وأعرف وأكثر استعمالًا في أيامه من عدنان. وهذا هو ما نلاحظه أيضًا في سائر الآثار التي تعود إلى الجاهلية وصدر الإسلام.

ويلاحظ أن حظ مصطلح "عدنان" و"عدنانية" و"قبائل عدنانية" قد برز في الإسلام بروزًا لا نلحظه في الجاهلية، بل حتى في الجاهلية الملاصقة للإسلام؛ ولهذا غلب على مصطلح "معد" و"معدية" و"قبائل معدية"، فصار "عدنان" في مقابل "قحطان" ومن هنا صار العرب قحطانيين أو عدنانيين؛ واختفت بالتدريج المصطلحات الانتسابية الأخرى التي شاعت في الجاهلية أو في صدر الإسلام.

ويستنتج من أقوال علماء اللغة أن لفظة "معد" تعني: الشظف في العيش، والغلظ في المعاش والتقشف1، وأنها تعني: حياة بدوية شاقة بعيدة عن كل وسائل الحضر وترف أهل المدر، وهذا بالنظر لأهل المدن وأهل المدر نوع من الخشونة لا يحمد الإنسان عليه، وقد وصفت ملابسهم بالخشونة كذلك فميزت عن غيرها، جاء:"عليكم باللبسة المعدية" أي: خشونة اللباس، وروي:"اخشوشنوا وتمعددوا"2، وبهذا المعنى ورد:"تسمع بالمعيدي خير من أن تراه"3. فالظاهر أن كلمة معد كانت تعني ما تعنيه "أريبي" "عريبي" عند الآشوريين، أي: البدو والأعراب، غير أنها خصصت بعد ذلك بقبائل خاصة هي القبائل التي نسبت نفسها إلى عدنان وإسماعيل، وأكثرها من مكة وما حولها، ثم تغلبت عليها "العدنانية" في العصر الأموي فما بعده.

والمثل: "تسمع بالمُعَيْدِي خير من أن تراه"، من الأمثال المشهورة

1 اللسان "4/ 414"، الاشتقاق "1/ 20"، تاج العروس "2/ 503".

2 اللسان "4/ 414 فما بعدها"، ديوان النابغة مع شرحه للبطليوسي، "ص10"، اللسان "16/ 407"، "دار صادر".

3 تاج العروس، "2/ 503"، الميداني، مجمع الأمثال "1/ 129"، المثل رقم 655.

ص: 36

المعروفة حتى الآن، ويرتفع أهل الأخبار بزمنه إلى أيام الجاهلية، ويقولون: إن النعمان بن المنذر تمثل به يومًا1. ولفظة "معيدي" تصغير "معدي"، ويراد بها رجل من معد، وفي إطلاق هذا المثل بهذا المعنى دلالة على المعاني المتقدمة. وفي رواية: أن قائل هذا المثل هو "المنذر بن ماء السماء"2. وقد استخف النابغة الذبياني بمعد أيضا إذ قال:

ضلت حلومهم عنهم وغرَّهُمُ

سن المعيدي في رعي وتغريب3

ولا أستبعد أن يكون بين لفظة "معيدي" و"مِعْدان" التي تطلق في العراق اليوم على الغِلاظ السود من بعض الأعراب، وبين "معد" صلة، فقد كانت مواطن "معد" في العراق أيضًا، والصفات المذكورة تنطبق على المعدان كذلك.

وقد اتهمت "معد" بالمكر والحيلة والكيد، فورد في الأخبار:"وإن هذه المعدية لا تخلو من مكر وحيلة" وورد: "كنت أخبرك أن معدا لا ينام كيدها ومكرها"، وورد:"إن عدي بن زيد فيه مكر وخديعة، والمعدي لا يصلح إلا هكذا"4 مما يدل على أن ملوك الحيرة كانوا لا يأمنون من القبائل المعدية ولا يعتمدون عليها؛ ولذلك كانوا يحذرونها.

كما اتهم ولد نزار بالحيل، قال "المسعودي":"ورأيت ببلاد مأرب من أرض اليمن أناسًا من عقيل محالفة لمذحج، لا فرق بينهم وبين أحلافهم؛ لاستقامة كلمتهم، فيهم حيل كثيرة ومنعة، وليس في اليمن كلها أحيل من نزار بن معد غير هذا الفخذ من عقيل، إلا ما ذكر من ولد أنمار بن نزار بن معد، ودخولهم في اليمن حسب ما ورد به الخبر"5.

وورد في كتاب "تأريخ الحروب" لـ"بروكوبيوس procopius" المتوفى

1 فقال النعمان: تسمع بالمعيدي لا أن تراه، البيان "1/ 173، 237"؛ "لأن تسمع بالمعيدي خير من أن تراه"، الميداني، مجمع الأمثال "1/ 228"، الاشتقاق "244".

2 تاج العروس "2/ 507"، مجمع الأمثال للميداني "113".

3 ديوان النابغة الذبياني "17".

4 الأغاني "2/ 22".

5 مروج "1/ 173"، "طبعة محمد محيي الدين عبد الحميد".

ص: 37

سنة "565م"، أي: في زمن لا يبعد كثيرًا عن ميلاد الرسول، ذكر قبيلة من قبائل "السركينوى" Sarakenoi سماها "Maddenoi" "Maddeni" وقال: إنها كانت خاضعة لحكم Homeritae، وأن "يوسطنيانوس""جستنيانس""527-565م"1 قيصر الروم، أرسل رسولًا إلى ملك الـ Homeritae لينضم إلى الروم ويوافق على تعيين شيخ اسمه "Caisus""Kaisus" على Maddeni، وتأليف جيش مشترك من "هوميريته" و"مديني""معديني" لمهاجمة الفرس وشن الغارات على حدودهم، وقد نصب ملكًا على "مديني" ورجع الرسول ليخبر القيصر، غير أن الملكيين لم يغزوا أرض الفرس2.

وقصد "بروكوبيوس" بـ"مديني" Maddeni "معدا" وبـ"هوميريته" Homeritae "حمير"، وعنى بذلك اليمن. وكانت معد خاضعة يومئذ لحمير، وكان هذا الزمن زمن استيلاء الحبشة على اليمن، و Caisus الذي نصب ملكًا على "معد" هو "قيس"، وكان صاحب كفاءات، شجاعًا محاربًا، وكان قد قتل أحد أقرباء ملك Homeritae، وكان هذا الملك هو Esimiphaeus، أي "السميذغ أشوع"، الذي نصبه النجاشي نائبًا عنه على اليمن، فتلقب بلقب "ملك"، والظاهر أن وساطة القيصر لدى "السميذع" إنما كانت لإصلاح ذات البين، ولتسوية ذلك الحادث. وقد تم على ما يظهر ونجحت الوساطة، وتلقب "قيس" وهو رئيس "معد" بلقب ملك، ولا أستبعد أن يكون "قيس" هذا أحد رؤساء القيسيين.

وقد ذكر "بروكوبيوس" أن معدا هم جماعة من "السركينوى"، أي: جماعة من القبائل التي عرفت عند اليونان باسم "السرسين" أيضا، كما ذكرت ذلك في السابق. وهذا يعني أن معدا لم تكن في أيام ذلك المؤرخ الذي لم يبعد عهده عن الإسلام كثيرًا، على النحو الذي يصوره الأخباريون، وكل ما في الأمر أنها قبيلة أو مجموعة قبائل تسمى بـ"معد"، وأنها كلها أو قبيلة منها كانت خاضعة لحمير، أي للسلطة الحاكمة على اليمن يومئذ، وهي الحبشة، ثم استقلت عنها. أما بقية معد، فلم يتحدث المؤرخ عنهم؛ لذلك لا ندري

1 "يوسطنيانوس"، الطبري "1/ 743"، "طبعة أوروبا"،

Procopius، history of the ears، p، 181، "H.B. Dewing"

2 procopius، history of the wars، p.، 181

ص: 38

أكان "معد""بروكوبيوس" هم كل معد أم جماعة منها.

وإذا كان الشعر المنسوب إلى "ابن بقيلة" وهو من نقباء الحيرة وساداتها صحيحًا، تكون كلمة "معد" معروفة في ذلك العهد، على نحو يفهم منه أنها كانت تعني قبائل عديدة أعرابية تنضوي كلها تحت هذه التسمية. فقد جاء في شعره ألم وتوجع لما حل بأهل الحيرة بعد الفتح، فقد رأى "سوام" تروح بالخورنق والسدير بعدما كانا مكانين مختارين للمنذرين، وبعد فرسان النعمان، يرى الناس قلوصًا بين "مرة والحفير"، وصاروا بعد هلاك "أبي قبيس" كجُرب المعز في اليوم المطير، وقد تقاسمتهم القبائل من معد، علانية كأيسار الجزور، بعد أن كانوا أناسًا لا يرام لهم حريم، وصاروا كضرة الضرع الفخور، يؤدون الخراج بعد خراج كسرى، وخراج من قريظة والنضير، ثم خلص إلى نتيجة يخلص إليها من ييأس ويقنع، فقال:

كذاك الدهر دولتُه سجالٌ

فيوم من مساءة أو سرور1

وقد ذكر "الطبري" أن خالدًا لما أمره "أبو بكر" بفتح العراق، وقصد الأُبلّة، حشر ثمانية آلاف من ربيعة ومضر إلى ألفين كانا معه2، وربما قصد "ابن بقيلة" من "معد" هذه القبائل التي انضافت إلى خالد، ولكن القبائل التي انضافت إلى خالد في العراق أو التي حاربته هي من مضر وربيعة في الغالب، وبين سكان الحيرة قوم يرجعون أنسابهم إلى تميم وإلى قبائل معدية، فكيف يتأفف "ابن بقيلة" من إدبار الدنيا ومن إعراضها عنه وعن أمثاله حتى صاروا في حكم "معد"، وقد اقتسمتهم قبائل معد؟ ، فالظاهر أنه كان يتأفف؛ لأن الأمر أدبر منه ومن سادة أهل الحيرة والقرى، وهم حضر مستقرون، لهم نعيم وملك وقصور وبيوت وعيش رغيد، ولكن الدنيا أدبرت عنهم، وسلمت الأمر إلى قبائل من معد، وهم أعراب، وصار أمرهم إليهم، فتأفف من ذلك الزمان.

وقد عرف "حذيفة بن بدر" سيد غَطَفان بـ"رب معد"3، وكان من

1 الطبري "3/ 362".

2 الطبري "3/ 347".

3 المعارف "ص38".

ص: 39

أشرف بيوتات هذه القبيلة، التي كانت محالفة لـ"أسد"، وقد عرفتا بـ"الحليفتين"1 مما يدل على أنهما كانتا متحالفتين. ويدل هذا النعت الذي نعت به "حذيفة" وهو "رب معد"، على أن معدا كانت قبائل، وكل منها تنتسب إليها، وأنها لم تكن قبيلة معينة، أي: إنها كانت قبائل ترى نفسها أنها من نسب واحد، وإن قبيلة واحدة منها إذا برزت وظهرت جاز لها أن تمثل قبائل معد، وأن ينعت رئيسها نفسه ببعض النعوت التي تدل على ترؤسه لها، ومنها "رب معد".

فيتبين من كل ما تقدم أن "معدا" كلمة أريد بها أعراب كانوا يتنقلون في البوادي، يهاجمون الحضر والأرياف بصورة خاصة؛ لأنها كانت أسهل صيد للأعراب بسبب بُعد أهلها عن سيطرة الحكومة المركزية، وعدم وجود قوات دفاعية رادعة لتدافع عنهم. وكانوا يباغتون الناس ويفاجئونهم، وكانت حياتهم حياة قاسية صعبة، ولم يكونوا قبيلة واحدة، ولكن قبائل عديدة، تتشابه في المعيشة، وتشترك في فقرها وفي تعيشها على الغزو والتنقل، وقد كانت تقيم في البوادي وعلى أطراف الحضارة، كانت مواطنها بادية الشام ونجد والحجاز والعربية الشرقية. ثم صارت اللفظة علمًا لرجل صير جدًّا للقبائل التي عاشت هذه المعيشة، وعرفت بهذه التسمية على الطريقة المعروفة عند العرب وعند غيرهم من الساميين من تحويل أسماء الأماكن أو الأصنام أو المحالفات إلى أسماء أجداد وآباء.

وقد كانت "تهامة" موطن أبناء معد على حسب رأي أهل الأخبار، سكنت قضاعة من ساحل البحر حيث أنشأت "جدة" فيما بعد إلى حيز الحرم، وسكن أبناء جنادة بن معد منطقة الغمر: غمر ذي كندة، وكانت كندة قد أقامت بها أيضا فعرفت بها، وسكن أبناء قنص بن معد وسنام بن معد وبقية ولد معد أرض مكة، حيث أقاموا مع بقايا جرهم. ظلوا على ذلك متساندين متآلفين تضمهم المجامع، وتجمعهم المواسم، حتى وقع الشر بينهم، فتفرقوا وتخاذلوا وقاتل بعضهم بعضًا، يقتل العزيز منهم الذليل2.

1 وسمع عيينة النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " غفار وأسلم ومزينة وجهينة خير من الحليفتين أسد وغطفان "، الاشتقاق "2/ 173".

2 قال مهلهل:

غنيت دارنا تهامة في الدهر

وفهيا بنو معد حلولا

فتساقوا كأسًا أمرت عليهم

بينهم يقتل العزيز الذليلا

البكري، معجم "1/ 18"، "طبعة السقا".

ص: 40