الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بعضٌ آخرون إلى احتمال أن يكون "مجان""مكان" في العربية الشرقية في موضع عمان1.
وقد ذكر الملك "شروكين""Sharrukin" ملك آشور أن في جملة الأرضين التي خضعت لحكمه أرض "تلمون""Tilmun" و"مجانا""مجان""مجنا""Maganna"، وتقع في البحر الجنوبي، ويريد به الخليج. ويشير الى أنه فتح هذه الأرضين بيده، وذلك قبل الميلاد بمئات السنين "1980-1948 ق. م."2. وقد رأى "ينسن" "P. Jensen" أن المراد بـ"تلمون" جزيرة "قشم"، على الرغم من ذهاب كُثُرِ الباحثين إلى أنها البحرين. وأما "مجان" فإنها في نظره أرض "عمان"3.
وجاء اسم "ملوخا""ملوخه""Melluhha" واسم "تلمون""Tilmun" في جملة أسماء الأرضين التي كان يحكمها ملك آشور "توكولتي نينورتا""Tukulti-Ninurta"، وقد نعت نفسه بـ"ملك كردونيش""Karduniash" وملك سومر وأكاد، وملك سيبار "Sippar" وبابل، وملك تلمون وملوخا، وملك "البحار العالية" و" البحار التحتية"، وقصد بجملة "البحار العالية""بحيرة وان" على ما يظهر، وتقع أعلى آشور، وبجملة "البحار التحتية" البحر الذي يقع أسفل مملكة آشور، أي: في جنوبها، ويظهر أنه أراد به الخيلج العربي. ومعنى ذلك أنه حكم منطقة واسعة امتدت رقعتها من "بحيرة وان" حتى الخليج، وفي ضمنها "البحرين" والسواحل الواقعة إلى غربها، وهي سواحل "ملوخا""ملوحا"4.
1 Leemans، P. 12
2 Reall. I، Dritte Lieferung، S. 237، 240
3 المصدر نفسه.
4 Reall، I، Funfte Lieferung، S. 374، Berlin، 1931
دلمون:
ويجرنا الحديث عن "مجان" و"ملوخا" إلى الحديث عن موضع آخر ورد في النصوص "الأكدية" و"السومرية" و"الآشورية"، هو موضع
"ني، تك""Ni–Tuk""Ni–Tuk–Ki" وهو "دلمون""Dilmun" أو "تلمون""1Tilmum". وقد اشتهر بتمره وخشبه ومعادنه مثل النحاس والبرونز، وكانت فيه مملكة يرأسها ملوك2. وقد رأينا أن "جوديا" "Gudea" كان قد أشار إليه وإلى موضع "مجان"، وقد ذكر أنه استورد الخشب منه، كما رأينا اسم هذا المكان في ضمن الأماكن المذكورة في نص "سرجون"، وقد ورد أيضا في نص للملك "آشور بانبال"3، وفي نص للملك "سنحاريب" "سنحريب"، وقد ذكر هذا الملك أنه بعد أن تمكن من "بابل" ودكَّها دكًّا، عزم على ضم "دلمون" إلى مملكته، فأرسل وفدًا إلى ملكها يخبره أمرًا من أمرين: إما الخضوع لـ"آشور" وإما الخراب والدمار؛ فوافق ملك الجزيرة على الاعتراف بسيادة "سنحاريب" عليه، وأرسل إليه بجزية ثمينة4. وكذلك كانت هذه الجزيرة في عداد الأرضين التي خضعت لـ"آشور بانبال"5.
ويظهر من النصوص أن "دلمون" كانت جزيرة تتمتع بقدسية خاصة، فكانت تعد من الأماكن المقدسة، وقد رُويت عنها أساطير دينية، وعبدت فيها آلهة تعبد لها أهل العراق، مما يدل على الاتصال الثقافي المتين الذي كان بين العراق والبحرين. ووجد اسم الإله "إنزاك" في كتابة عثر عليها في البحرين6، وتشير أسطورة "أنكي" وزوجه "ننخرساك" وملحمة "كلكمش""جلجامش""جلجمش"، وأسطورة "أرض الحياة"7 وغير ذلك من القصص الشعبي، إلى هذا الاتصال الطبيعي الذي كان بين جنوب العراق والعروض.
وذكر "هومل" أن من كبار آلهة "دلمون": "لخامو""لخامون"، وهو إلهة أنثى8. وأشار أيضا إلى نص أرخ في السنة السابعة من سني "فيلبس"
1 O'leary، P. 46
2 Burrows، Tilmun، Bagrain، Paradis، in Orientalia، Heft، 2، Scriptura Sacra et Monumenta orientis Antiqui، Roma، 1928، P. 5، 30
3 Luckenbill، Ancient Records of Assyria and Babylonia، II، 41، 76، 92، 185
4 LUckenbill، Ancient، II Sect. 438
5 مجلة سومر، الجزء الثاني من المجلد الخامس، 1949، "ص137".
6 Burrows، P. 30
7 S.N. Kramer، in BOASOOR، Num. 96، "1944"، P. 18
8 Hommel، Grundriss، I S. 130
"Philippus""فيلفوس"1 وتقابل سنة "317 ق. م."، وهو نص "بابلي" ورد فيه اسم أرض دُعيت "برديسو""Pardesu"، وتقابل هذه الكلمة كلمة "pildash"2 "Pardes" بالعبرانية3 و"فردوس" بالعربية، وتقع في
معبد من حضارة ديلمون "3000 ق. م"
من نشرة دائرة الإعلام: حكومة البحرين
القسم الشرقي من جزيرة العرب، بين "مجان" و"بيت نبسانو""Bit Napsanu" التي هي جزيرة "دلمون"4. وقد حملت هذه التسمية بعض العلماء على التفكير في أن ما ورد عن "جنة عدن" في التوراة، إنما أريد به هذه المنطقة التي تقع في القسم الشرقي من جزيرة العرب وعلى سواحل الخليج5.
1 "فيلفوس"، الطبري "1/ 694، 738"، "طبعة ليدن".
2 Hommel، Grundriss، I، S. 166
3 Enc. Bibli. P. 3569
4 Hommel، Grundriss، I، S. 250
5 لمعرفة النظريات التي ذكرها علماء التوراة عن "جنة عدن" يستحسن مراجعة:
Enc. Bibli. P. 3574
وقد ذهب أكثر العلماء إلى أن أرض "دلمون" هي جزيرة البحرين، أو جزيرة البحرين والساحل المقابل لها؛ وذلك لأن المسافة التي ذكرت في نص "سرجون" تكاد تساوي بعد البحرين عن فم نهر الفرات، وهذا مما حملهم على القول: إن موضع "دلمون" هو جزيرة البحرين. ثم إن الصلات بين العراق والعروض كانت قوية، والأرض هي على امتداد واحد، فلا موانع ولا حواجز؛ ولهذا رجحوا كون "دلمون" هي البحرين1.
وعرفت "دلمون" أو البحرين في الكتب "الكلاسيكية" باسم "تيلوس""Tylus"، ويرى بعض الباحثين أنه حرف عن "تلوون""Tilwun"، وهو "Dilmun" في الأصل، وورد معه اسم "أرادوس""2Aradus، وقد ذكر "بلينيوس" "Pliny" أن جزيرة "Tylos" "Tylus" معروفة باللؤلؤ، وبها مدينة عرفت بهذا الاسم كذلك. وعلى مقربة منها جزيرة صغيرة، وهي تقابل الساحل الذي يسكنه الـ"الجرهائيون" "Gerrhaens"، نسبة إلى مدينتهم "جرها" "3Gerrha". وينطبق وصف "بلينيوس" لجزيرة "Tylos" "Tylus" على جزيرة البحرين كل الانطباق.
وقد ورد في بعض نصوص "أور""Ur" أنها صدرت الصوف في السفن إلى "تلمون""4Tilmun"، كما أشير إلى قوافل كانت تذهب من "أور" إلى هذا الموضع، وقد عادت بأرباح كبيرة5. ويظهر من هذه النصوص ومن نصوص أخرى أن الإتجار بين "تلمون" و"أور" كان متصلًا مستمرًّا، وأن جماعة ممن تجار "أور" كانوا يرسلون قوافل من السفن "إلى "تلمون" للاتجار، تحمل إلى هذا الموضع ما بها حاجة إليه من حاصلات العراق ومن الأموال الواردة إلى العراق من الأسواق الخارجية مثل إيران وبلاد الشام وآسيا الصغرى وربما من اليونان وأسواق أوروبا، فتبيعها هناك، وربما يشتريها تجار "تلمون" أو غيرهم
1 P.B. Cornwall، in BOASOOR، 1946، P. 3. ff. The Geographical Journal، CVII، NOB، I، and 2، Febr. 1946، 28-50، The National Geographical Magazine، April، 1948.
2 Enc. I، P. 584
3 Glaser، Skizze، II، S. 74
4 UET III، 1507، Leemans، P. 22
5 UBTV 526، UETV 678، Leemans، 25، 26، 27، 28، 29
لتصديرها إلى أماكن أخرى بعيدة مثل الهند، أو إفريقيا، أو قلب جزيرة العرب. فإذا انتهى هؤلاء التجار من بيع تجارتهم، يعودون ببضائع من البحرين، هي في الغالب من تجارة الهند أو إفريقيا، في جملتها المعادن والأخشاب والعطور والأشياء النفيسة الأخرى التي كانت تباع بأثمان باهظة، فيربح هؤلاء التجار من هذه التجارة ربحًا كبيرًا.
وقد كان تجار "تلمون" يأتون بسفنهم إلى "أور" يحملون ما استوردوه من تجارات من الهند أو إفريقيا أو جزيرة العرب؛ لبيعه في أسواق "أور" ثم يعودون بسلع أسواق أور، من حاصل العراق وما جلب إلى أور من الخارج. وقد كان هؤلاء التجار يدفعون العشر، ضريبة عن هذا الإتجار1.
وقد عثر على نصوص تبين من دراستها أنها عقود واتفاقيات عقدت بين تجار للإتجار بين "أور" و"تلمون"، وبينها وثائق تتعلق بتجارة تجار قاموا بأنفسهم بالإتجار مع "تلمون". ويظهر من دراستها أن أولئك التجار كانوا يستوردون النحاس بمقياس واسع من "تلمون"؛ لأنه مطلوب في العراق؛ ولأن أسعاره هناك أرخص بكثير من سعره في أور، وكان في جملة السلع التي استوردوها من "تلمون" الفضة و"عين السمك"، أي: اللؤلؤ على ما يظن2.
ولا بد أن يكون هذا النحاس من جملة المواد المستوردة من مواضع أخرى إلى "تلمون"، وقد تكون أرض عمان في جملة الأماكن التي أمدت هذا الموضع به. فقد عثر في عمان على آثار منجم عند مكان يسمى "جبل معدن" يقع على مسافة "75" ميلًا إلى الشمال الغربي من الجبل الأخضر3. فلعل هذا المنجم القديم كان مستغلًّا في تلك الأيام يستخرج النحاس منه.
ولقد عثر في البحرين على مقابر قديمة كثيرة كما ذكرت قبل، وقد وجد بعد فتحها أنها خططت على نمط واحد، وتتجه مداخلها نحو الغرب، وذلك مما يبعث على الظن أن لهذا الاتجاه علاقة بشعائر دينية عند القوم أصحاب المقابر. وقد وجدت فيها كما سبق أن قلت عظام بشرية، منها جمجمتان بشريتان،
1 Leemans، P. 31
2 Leemans، P. 48، 50
3 Leemans، P. 122
وعظام حيوانات يظهر أنها دفنت وهي حية مع أصحابها وفق العقائد الدينية التي كانوا يدينون بها، وعثر على مصوغات من الذهب وعلى خرز وأحجار زينة، غير أن هذه الأشياء لم تعطِ الباحثين حتى الآن فكرة يقينية عن تأريخها وعن أيام أصحابها. والرأي الشائع بين الذين عنوا بدراستها وفحصها أنها مقابر "فينيقية"؛ لأن البحرين كانت الموطن القديم للفينيقيين1، وإن لم يصدر حتى الآن رأي جازم في هذا الشأن.
وقد عثر كما ذكر "ولسن""wilson" في مقبرة من هذه المقابر على حجر أسود مكتوب بكتابة تشابه الكتابات المسمارية2.
ويستشهد العلماء الذين يذهبون إلى أن تلك المقابر هي مقابر "فينيقية"، وأن سكان البحرين هم فينيقيون، بما ذكره "سترابون" من أن في جزيرتي "Tylus""Tyrus" و"Aradus"، مقابر تشابه مقابر الفينيقيين، وأن سكان الجزيرة يرون أن أسماء جزائرهم ومدنهم هي أسماء فينيقية3.
وقد قامت بعثة آثارية دانماركية بالبحث عن الآثار في البحرين، وقد نبشت الأرض في ثلاثة مواضع لاستنطاقها والاستفسار منها عن ماضيها القديم. وقد تأكدت البعثة من أن الأماكن التي نقبت فيها تعود إلى مستوطنات العصر البرونزي، وكان في جملة ما عثرت عليه تمثالان صغران لثورين، وفخار، وأشياء أخرى.
وقد عثر المنقبون على آثار معابد في مواضع من جزر البحرين، تبين من فحصها أنها خربت مرارًا، وأن الأيدي لعبت بها، وقد انتزعت أحجارها للاستفادة منها في تحويلها إلى أبنية جديدة. وفي جملة ما عثر عليه في أنقاضها بعض التماثيل وبعض الأحجار المثقوبة، وكانت مذابح تذبح عليها القرابين، فتسيل دماؤها من هذه الثقوب إلى حفرة تتجمع فيها الدماء. وقد تبين أن هذه المعابد، هي من معابد العصر النحاسي والعصر البرونزي، وأن تأريخ بعضها يعود إلى ثلاثة آلاف سنة قبل الميلاد4.
1 Enc. Vol. I، P. 585،Cornwal، In Geogr. Journal.، CVII، P. 36، 142، 1946، Wilson، The Pers. Gulf. P. 29، Bent، The Bahrain Islands، In Roy، Geogr. Soci. 12، London، 1890
2 Wilson، P. 31
3 Enc. I، P. 585، Wilson. P. 29، 30، Strabo، XVI، III، 3، 4، Stuhlmann Der Kampf S. 195
4 Belgrave، P. 53
ويرى كثير من الباحثين في التأريخ القديم أن أصل الفينيقيين الساكنين في "فينيقية" بلبنان هو من هذه المنطقة، أي: من البحرين والساحل المقابل له. وقد ذكر "هيرودوتس" أن المشهور في أيامه أن أصلهم من البحر الأحمر1، ولكن العلماء يرون أنه قصد الخليج العربي "Sinus Persicus" لا البحر الأحمر.
سلالم تؤدي إلى معبد من معابد "باربار" في البحرين
من تصوير شركة نفط البحرين
ويذكرون أن الفينيقيين تركوا ديارهم هذه، وهاجروا منها سالكين الساحل، ثم وادي الفرات، ومن وادي الفرات يَمَّمُوا لبنان، حيث استقروا على الساحل في المنطقة التي عرفت باسمهم، أي "فينيقية" "2Phoenicia.
إننا لا نستطيع أن نتحدث الآن عن حكومة العروض أو حكومات العروض
1 Herodotus، I، VII، 89، Hastings، P. 725
2 Hastings، P. 725
في عصور ما قبل الميلاد؛ فما لدينا من أخبار هو نزر يسير. نعم، من الجائز أن يكون أهل هذا الساحل قد كونوا لهم حكومة واحدة، ومن الجائز أن يكونوا قد أقاموا حكومات عديدة؛ حكومات مدن، أو حكومات قبائل، على نحو ما نعرفه عن هذه المنطقة إلى عهد ليس ببعيد، وكما نرى في مشيخات وإمارات الخليج في هذا الزمان، ومن الجائز أن يكون أهل العراق قد أخضعوا ذلك الساحل وأقاموا حكومات فيه. ونحن لا نستطيع التحدث الآن عن "أرض البحر""Mat–Tamtim"، هل كانت حكومة قوية عاشت في الألف الثالث قبل الميلاد، حكمت كل الساحل إلى أن غزتها حكومات من العراق أم كانت إمارة أو" مشيخة" في اصطلاح هذا اليوم؟ ولكن ما نراه من سرعة تغلب الأكاديين والسومريين والآشوريين على أهل الساحل، يشير إلى أنهم لم يكونوا أصحاب حكومة قوية، وأنهم إنما كانوا في أغلب الظن رجال بحر وتجارة، لهم حكومات صغيرة أي: إمارات و"مشيخات"، وهذا يفسر لنا سر استسلامها لحكومات العراق بسهولة ويسر وأدائها الجزية لها.
وهناك من يزعم أن "السومريين" إنما جاءوا إلى العراق من البحرين، جاءوا إليه في حوالي السنة "3100 ق. م". وقد عرفت البحرين باسم "دلمون""تلمون""Dilmun" في نصوص السومريين، وقد كانت البحرين محطة مهمة ينزل فيها الناس في هجراتهم نحو الشمال، كما كانت محطة للاتجار مع الهند والبلاد البحرية الأخرى1. والرأي الغالب اليوم بين علماء التأريخ القديم أن الكلدانيين الذين سكنوا الأقسام الجنوبية من العراق، إنما جاءوا إلى هذه الأرضين من العربية الشرقية من ساحل الخليج، وذلك في أواخر الألف الثانية قبل الميلاد، ثم زحفوا نحو الشمال حتى وصلوا إلى بابل، وقد وجد بعض الباحثين كتابات كلدانية تشبه حروفها الحروف العربية الجنوبية القديمة، أي: حروف المسند، واستدلوا من ذلك على أن أولئك المهاجرين الذين ربما كان أصلهم من عمان هاجروا إلى ساحل الخليج، ثم انتقلوا منه إلى العراق، ونقلوا معهم خطها القديم، الذي تركوه بعد ذلك حينما استقروا في العراق؛ لتأثرهم بالمؤثرات الثقافية العراقية. والنماذج القديمة من كتاباتهم التي عثر عليها الباحثون،
1 Grohmann، Arabien، S. 255
وإن لم تتحدث عن أصل أصحابها، إلا أن خطها المذكور يشير إلى أنه من العربية الشرقية1.
وقد ذهب "سترابو" إلى أن "Gerrha" التي تقع عند "العقير" كانت في الأصل موضعًا للكلدانيين "Chaldaer"، وكانت ذات تجارة مع أهل بابل مزدهرة2.
على كلٍّ، فالذي يتبين لنا من الأخبار السومرية والأكدية والآشورية وغيرها أن أهل العربية الشرقية كانوا قد كونوا لهم حكومات مدن وذلك قبل الألف الثالثة قبل الميلاد، صرفت جل عنايتها نحو التجارة وركوب البحار للاتجار، والاستفادة من البحر لاستخراج ما فيه من سمك و"لؤلؤ"، واستغلال ما في أرضها من ماء للزراعة عليه. والطبيعة هي التي فرضت على أهل هذا الساحل هذا الشكل من الحكم؛ لأنها لم تمنحهم أمطارًا وافرة تمكنهم من استغلال أرضهم، ولم تعطهم أنهارًا كبيرة طويلة تساعد في نشوء العمران عليها وتكوين حكومات مطلقة، كما في العراق أو في وادي النيل؛ لذلك انحصرت السكنى في مواضع متناثرة من الساحل، فصعب على السكان تكوين حكومة مطلقة واحدة يكون الحكم فيها حكما مركزيا في أيدي الملوك، لتباعد المدن بعضها عن بعض؛ لذلك صار الحكم فيها حكم مدن، على المدينة "ملك" أو رئيس يدير شئون الجماعة، إلا أن هذا الوضع جعلهم عرضة للغزو، إذ طمعت فيهم الحكومات الكبيرة، كالذي رأيناه من غزو السومريين والأكديين لهم، وكالذي سنراه فيما بعد من غزو الآشوريين واليونانيين وغيرهم لهذه الأرضين.
لقد استورد السومريون والأكديون الذهب والحجارة الصالحة لصنع التماثيل، والأخشاب لبناء المعابد، والأشياء النفيسة الأخرى من "دلمون" ومن "ملوخا" ومن "مكان""مجان"، وهي أماكن يرى كثير من العلماء أنها في العربية الشرقية، وقد تكون تلك المواد من الأموال المستوردة من الهند. على كل حال، فقد توسطت تلك الأماكن في استيرادها وإيصالها إلى العراق، بفضل مهارة سكانها في تسخير البحر وتيسيره، وقد ترك الفتح العراقي فيها أثرًا كبيرًا
1 W. F. Albright، in BASOOR، Num. 128، 1952، P. 39، "the Chaldaean Inscriptions in Proto-Arabic Script"
2 Strabo، XVI، 7، 66، Grohmann، Arabien، S. 257
يظهر في الآثار العراقية التي استخرجت من باطن الأرض، وفي فن العربية الشرقية المتأثر بالفن العراقي.
وقد أثر انتقال ثقل الحكم من "أور" ومن القسم الجنوبي من العراق إلى وسطه تأثيرًا كبيرًا في ثراء "أور" واقتصادها، فقد كان في هذه المدينة تجار كونوا لهم شركات بحرية لنقل التجارة بين هذه المدينة ومدن الخليج، وربما إلى
رأس ثور عثرت عليه البعثة الدانماركية
في "باربار" بالبحرين
مدن الهند أيضا، وقد أثر ذلك فيهم بصورة خاصة حين وضع "حمورابي" أنظمة تحدد الاتجار البحري في ذلك العهد1. وقد افتخر ملك "آشور"، الملك "تكولتي، ننورتا" "Tukulti–Ninurta" "1244-1208 ق. م." بأنه وسع حدود مملكته في الجنوب، بأن استولى على "سومر" و"أكد"، وثبت حدودها الجنوبية عند "البحر الأسفل حيث مشرق الشمس"2. ويعني بذلك الخليج، غير أنه لم يشر إلى الأرضين التي استولى عليها في هذا الخليج.
هذا كل ما نعرفه اليوم عن تأريخ العرب في العهود القديمة، وهو كما رأينا
1 Ancient Iraq، P. 184، Leemans، The Old Babylonian Merchant، Leiden، 1950; P. 78-95، Foreign Trade in the Old Babylonian Period، Leiden، 1960، A. L. Oppenheim، JAOS، S. 74، 1954، P. IS، 17
2 Ancient Iraq، P. 217، D.D. Luckenblll، Ancient Records، I، P، 145
نزر يسير، أخذ من بحوث أفراد ومن بحوث عرضية حُصِلَ عليها عند البحث عن البترول، وأملنا في زيادة علمنا بتلك العهود هو في قيام بعثات علمية بالبحث عن الآثار والعاديات لاستنطاقها عن أحوال تلك العهود. وليس أمامنا بعد هذه المقدمة إلا الدخول في العصور المعروفة التي وصل إلينا بعض أخبارها في الكتابات وفي الموارد الأخرى.
وقد كان لأعمال الحفر التي قامت بها بعثة "دانماركية" أرسلها متحف ما قبل التأريخ في "Aarhus" بالدانمارك، فضل كبير في الكشف عن صفحات مطوية من تأريخ سواحل الخليج. فقد تمكنت هذه البعثة من العثور على آثار من عهود ما قبل العصور التأريخية في البحرين وقطر و"أبي ظبي"، كما تعقبت آثار السكنى القديمة في البحرين وعمان وبقية الساحل، وعثرت على معابد قديمة مثل معبد "بربر""باربار" في البحرين و"تل قلعة البحرين" في البحرين، وتوصلت بذلك إلى نتائج قيمة جدًّا رجعت بتأريخ هذه البلاد إلى عصور بعيدة جدًّا عن الميلاد، وكان من أعمالها الكشف عن آثار "فيلكا" في الكويت.
وقد تبين من دراسة البعثة الدانماركية لآثار معبد "بربر""باربار" في البحرين أنه معبد عتيق، يرجع عهده إلى حوالي السنة "3000 ق. م." أو أقدم من ذلك1، وأنه كان معبدًا كبيرًا به "بئر" مقدسة يستقي منها المؤمنون للتبرك بمائها ولتطهير أجسامهم ولإجراء الشعائر الدينية. ويلاحظ أن الباحثين تمكنوا من العثور على آبار مقدسة في بيوت العبادة الكبرى عند الجاهليين، وهذا يدل على أن معابدهم الكبيرة كانت ذات آبار مقدسة يشربون منها للتبرك والشفاء ولتطهير أجسامهم، شأنهم في ذلك شأن أهل مكة و"زمزم".
لقد وجدت هذه البعثة تحت أنقاض "تل القلعة" في البحرين بقايا مدينة قديمة يمكن أن تعد من مدن الجزيرة الكبيرة أو عاصمتها، يرجع تأريخها إلى حوالي السنة "2500 ق. م."، وكانت مسورة بسور ارتفاعه "16" قدمًا عن سطح الأرض، بُنِيَ بالحجارة، وقد بنيت به قلعة لحمايته من هجوم الأعداء، وعثر على باب المدينة، وقد زينت ببناء مربع الشكل. ويقال: إن الملك "سرجون" الأكادي كان قد أمر بإحراقها سنة "2300 ق. م." حتى صارت ركامًا،
1 Grohmann، Arabien، S.، 266
وبقيت على ذلك طوال أيام "الكاسيين""الألف الثانية قبل الميلاد"، حتى أعيد بناؤها في القرن السابع قبل الميلاد، فازدهرت وتوافد عليها السكان، وأخذت تتاجر مع العراق. وكانت مزدهرة في أيام "الأخمينيين" و"السلجوقيين"، إلا أن النحس حل بها بعد سقوط الحكومة السلجوقية، ولازمها ولم يتركها حتى هجرها الناس1.
وفي جملة ما عثرت عليه تلك البعثة آثار مدينة يرجع عهدها إلى منتصف الألف الأولى قبل الميلاد، في مكان يعرف بـ"مرب" في القسم الغربي من "قطر"2.
1 P.V. Glob، Kuml، 1957، 1958، 142، 144، T.G. Bibly، Kuml، 1957، 162. Glob، Kuml، 1959، 238
2 Grohmann، Arabien، S. 260