الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إليها اليهود من فلسطين هربًا من الرومان الذين لم يعطوا اليهود الحرية الدينية الكافية للانصراف إلى ممارسة شعائرهم الدينية والتعليم على وفق ديانتهم. فأسسوا مستوطنات مهمة في العراق، منها: هذه المستوطنة، ومستوطنة "نهر دعة" وغيرهما، وفي هذه المستوطنات دون التلمود البابلي الذي هو من أهم أركان كتب التشريع عند اليهود1.
وقد جاء في "بابا بثرا" أن العرب أتوا إلى "فومبديثه"، استولوا على أرض اليهود. وقد جاء اليهود إلى حبرهم "أبيه""Abaya" ليكتب لهم نسختين من نسخ تملك الأرض، حتى إذا
استولى غريب على نسخة التملك تكون لديه نسخة ثانية. وكان ذلك على أثر هذا الحادث2. وكان العرب عندما ينتزعون تلك الأرضين يأخذون سندات التملك أيضًا. ولهذا راجع اليهود هذا الحبر ليكتب لهم سندي تملك، حتى إذا أخذت نسخة، احتفظ صاحب الأرض بالنسخة الثانية فيكون في إمكانه مقاضاة المغتصب3.
ونجد في "نده""Niddah"، وهو "كتاب الحيض" من باب "كتاب الطهارة""Seder Toheroth" في الفقه العبراني، قصة تاجر عربي كان في "فومبديثه"، وكان يرتدي عباءة أو جبة سوداء حالكة السواد، ولما كان السواد من الألوان المكروهة عند اليهود، جاءه أحد زوار المدينة من اليهود، فسأله عن هذا السواد، فقال التاجر: وهل يوجد لون كهذا اللون! فقام عليه اليهود، وانتزعوا منه عباءته أو جبته ومزقوها، ثم استرضوه بأن عوضوه بأربعمئة "زوز"4.
1 J. Obermeyer، Die Landschaft Babylonien، S. 215.
2 Baba Bathra 168b.
3 The Babylonian Talmaud، Sedr Nezikin، II، P. 735.
4 Niddah 20a، The Babylonian Talmud، Seder، P. 131.
ملوك الحيرة:
وقد عرف ملوك الحيرة بـ "آل نصر"، وبـ "آل لخم"، وبـ "آل محرق"، وبـ "آل النعمان"، وبـ "آل عدي". وورد أن العرب كانت تسمي بني المنذر الملوك "الأشاهب" لجمالهم5.
5 الاشتقاق "ص 116".
ويظهر أن شهرة ملوك الحيرة بـ "آل نصر"، هي شهرة قديمة تعود إلى ما قبل الإسلام بزمن طويل. فقد ورد في الأخبار عن "نهر دعة""Nehardea" وهي مستوطنة من المستوطنات اليهودية القديمة الكبيرة التي تأسست في العراق، وتقع عند فم نهر ملكا "Nehr Malka"، أي مخرج نهر الملك من الفرات1، أنه في سنة "570" من التقويم السلوقي الموافقة لسنة "259" للميلاد، جاء "بابا ابن نصر" إلى مدينة "نهر دعة" وخربها، فهربت بعض أحبارها إلى مواضع يهودية أخرى، كانت ملجأ لليهود2. ويظهر أن الأمير المهاجم، وقد سمي في الخبر بـ "بابا" "Papa"، كان من أبناء سيد قبيلة عربية اسمه "نصر"، وقد عرف بـ "برنصر" و"بن نصر" في التلمود3، وقد ذهب الباحثون إلى أن المراد به أحد أمراء الحيرة من "آل نصر"4، أما
4.
أما "كريتز""Gratz"، وهو من المؤرخين اليهود المشهورين، فقد ذهب إلى أنه "أذينة" زوج الملكة "زنوبيا""الزباء""Zenobias" ملكة تدمر5. غير أن هنالك أدلة تأريخية لا تؤيد هذا الرأي، ثم إن الموارد العربية تنعت ملوك الحيرة بـ "آل نصر"، ولم يشتهر ملوك تدمر فيها بـ "آل نصر".
وقد تحدثت إليك برأي أهل الأخبار في أول من حكم الحيرة من الملوك، ورأينا أن "مالك بن فهم" هو أول ملك حكم هذا الموضع على زعم، وهو في نظرهم من الأزد6. وقد حكم مدة عشرين عامًا على رواية الأخباريين7.
وقد زعم "حمزة الأصفهاني" أن "ملك بن فهم" تملك تنوخ العراق في زمان ملوك الطوائف، وأن منزله كان بالأنبار، وأنه بقي بها إلى أن رماه ابنه "سليمة بن مالك بن فهم" رمية بالنبل، وهو لا يعرفه. فلما علم أن سليمة راميه، قال.
1 J. Obermeyer، Die Landschaft Bavylonien، S. 254
2 J. Obermeyer، Die Landschaft Bavylonien، S. 254
3 Kethuboth 51b.
4 J. Obermeyer، Die Landschaft Bavylonien، S. 255
5 Gratz،Geschichte Der Juden، IV، S. 295.
6 الطبري "2/ 27".
7 اليعقوبي "1/ 169"، المعارف "281".
جزاني لا جزاه الله خيرًا
…
سليمة إنه شرًّا جزاني
أعلمه الرماية كل يوم
…
فلما اشتد ساعده رماني
فلما قال هذين البيتين فاظ أي مات، وهرب سليمة هرب إلى عمان1.
وحكم بعد "مالك بن فهم" أخوه" عمرو بن فهم" على رواية2، و"جذيمة الأبرش" المعروف بجذيمة الوضاح أيضًا على رواية أخرى، ولا نعرف من أمر "عمرو" هذا شيئًا يستحق الذكر.
وتزعم رواية أن الذي حكم بعد "مالك بن فهم" هو "جذيمة الأبرش"، وقد جعلته ابنًا لمالك، وجعلت نسبه على هذه الصورة:"جذيمة بن مالك بن فهم ابن غانم بن دوس بن عدنان بن عبد الله بن الغوث". وقالت: إن والده "مالك هو أول من ملك الضاحية في حكم ملوك الطوائف3.
أما حظ جذيمة الأبرش، فهو خير من حظ الرجلين السابقين عند الأخباريين، فله في رواياتهم شعر وحديث. وقد تحدثوا عنه، ونسبوا إليه الغزوات، وجاد عليه بعض الرواة فرفعوا زمانه وجعلوه في العاربة الأولى. جعلوه من بني "وبار ابن أميم بن لوذ بن سام بن نوح"، وصيروه "من أفضل ملوك العرب رأيًا، وأبعدهم مغارًا، وأشدهم نكاية، وأظهرهم حزمًا. وأول من استجمع له الملك بأرض العراق، وضم إليه العرب، وغزا بالجيوش"4، وذكر "المسعودي" أنه أول من ملك الحيرة5.
وقد وصفوه أيضًا، فقالوا: إنه "كان به برص، فكنت العرب عنه، وهابت العرب أن تسميه به، وتنسبه إليه، إعظامًا له. فقيل: جذيمة الوضاح وجذيمة الأبرش"6. وذكر "المسعودي" أن جذيمة هو صاحب النديمين اللذين
1 حمزة "64"، الاشتقاق "317".
2 الحيرة "118".
3 الطبري "1/ 612"، "دار المعارف"، البلدان "3/ 379"، مفاتيح العلوم، للخوارزمي "ص 68".
4 الطبري "2/ 29"، البلدان "3/ 379". أسماء المغتالين، لمحمد بن حبيب، "نوادر المخطوطات"، "ص 112".
5 مروج "2/ 16".
6 الطبري "2/ 29"، الكامل "1/ 136"، الاشتقاق "2/ 291".
يضرب بهما المثل، واستشهد على ذلك بشعر لـ "متمم بن نويرة اليربوعي" في مرثيته لأخيه مالك بن نويرة:
وكنا كندماني جذيمة حقبة
…
من الدهر حتى قيل لن يتصدعا1
وقد ذكر أن النديمين المذكورين هما: مالك وعقيل، وهما ابنا "فرج بن مالك" من "بلقين"، وكانا قد قدما من الشام، يريدان جذيمة، فوجدا فتى قد تلبد شعره، وطالت أظافره، وساءت حاله، أسرع نحوهما يرجو الطعام والرعاية، فلما سألاه عن حاله، وتبين لهما أنه "عمرو بن عدي"، سرًّا به كثيرًا، وعنيا به، وأخذاه معهما إلى "جذيمة"، فلما رآه، فرح به فرحًا كبيرًا، لعودته إليه، ونظر إليه، ثم أعاد عليه الطوق، وكان جذيمة قد صنعة له قبلًا، ثم قال:"كبر عمرو عن الطوق". وكان الجن قد استطارته، أي خطفته. وقال جذيمة لمالك وعقيل: ما حكمكما، أي ما طلبكما! قالا حكمنا منادمتك. فأصبحا يضرب بهما المثل2.
وذكر "المسعودي" أن كنية "جذيمة" التي عرف بها هي "أبو مالك"، وروى في ذلك شعرًا، زعم أن قائله هو سويد بن كاهل اليشكري":
إن أذق حتفي، فقبلي ذاقه
…
طسم وعاد وجديس ذو السبع
وأبو مالك القيل الذي
…
قتلته بنت عمرو بالخدع3
وذكر الأخباريون أن جذيمة غزا طسمًا وجديسًا، غزاهم في منازلهم من "جو" وما حولهم. فأصاب "حسان بن تبع أسعد أبي كرب"، وقد أغار على طسم وجديس باليمامة، فانكفأ جذيمة راجعًا بمن معه، وأتت خيول تبع على سرية لجذيمة، فاجتاحها وبلغ جذيمة خبرهم، فقال في ذلك شعرًا دون منه الطبري
1 التنبيه "158 وما بعدها"، ابن قتيبة، عيون الأخبار "1/ 274"، الروض الأنف "2/ 303".
2 الكامل، لابن الأثير "1/ 197"، التنبيه "158 وما بعدها"، "أنا شهدت ندماني جذيمة: مالكًا وعقيلًا، وصبحتهما الخمر المشعشعة لما وجدا عمرو بن عدي، فكنت أصرف الكأس عنه"، رسالة الغفران "278".
3 مروج "2/ 16"، "طبعة محمد محيي الدين عبد الحميد".
أحد عشر بيتًا. وقد أراد ابن "الكلبي" أن يكون حذرًا في هذه المرة، أو أن يظهر نفسه في مظهر الحذر الناقد، فقال:"ثلاثة أبيات منها حق، والبقية باطل"1. وجميل صدور هذا الحذر من الطبري، أو من ابن الكلبي، وقد عودانا سرد أبيات من الشعر العربي، نسباها إلى من هو أقدم عهدًا من جذيمة ولم يذكرا أنه باطل، أو أن فيه حقًّا وباطلًا.
وفي جملة ما تحدث به الأخباريون عن جذيمة أنه تكهن وتنبأ، وأنه اتخذ صنمين يقال لهما الضيزنان، وضعهما بالحيرة في مكان معروف، وكان يستسقي بهما ويستنصر بهما2. فلم يقنع الأخباريون بالحديث عن ملك جذيمة وحده، فأضافوا إليه التنبؤ والكهانة وعبادة الأصنام.
وذكر بعض أهل الأخبار أن "جذيمة بن مالك بن فهم" وهو جذيمة الأبرش كان ينزل الأنبار ويأتي الحيرة ثم يرجع، وكان لا ينادم أحدًا ذهابًا بنفسه، وينادم الفرقدين. فإذا شرب قدحًا، صب لهذا قدحًا ولهذا قدحًا، وهو أول من عمل المنجنيق، وأول من حذيت له النعال، وأول من رفع له الشمع3. بقي على ذلك حتى نادمه مالك وعقيل4، إلى غير ذلك من أقوال وروايات عنه. وهي تدل على أنه كان قد ترك أثرًا في المجتمع في أيامه غير أثر الملك، مما حدا بالقوم أن يضعوا هذه الأقوال فيه.
واشتهر "جذيمة" عند أهل الأخبار بفرس له، ذكر أنها كانت من سوابق خيل العرب، اسمها "العصا". وفيها ورد في المثل:"إن العصا من العصية". وقد نجا "قصير بن سعد اللخمي" على فرسه هذه، فأخذ بثأره وقتل "الزباء" على زعم أهل الأخبار.
وهم يروون أن جذيمة كان يغازي إيادًا النازلين بـ "عين أباغ"، فذكر له اسم غلام من لخم في أخواله من إياد، هو عدي بن نصر، له جمال وظرف، فغزاهم. فبعثت إياد قومًا سقوا سدنة الصنمين الخمر، وسرقوا الصنمين، فأصبحا
1 الطبري "2/ 29".
2 الطبري "2/ 29"، اليعقوبي "1/ 169"، الكامل، لابن الأثير "1/ 196".
3 المعارف "281"، "ويذكر أيضًا أنه أول من أوقد الشمع"، الروض الأنف "2/ 303".
4 اللسان "15/ 68"، و"عصا"، الخيل لابن الكلبي "31"، نوادر المخطوطات "199".
في إياد، فبعث إليه تفاوضه على إرجاع الصنمين إليه على أن يكف عن غزوهم، ولكنه اشترط عليهم إعطاءه عدي بن نصر مع الصنمين، فوافقوا على ذلك. فانصرف عنهم وضم عديًّا إليه، وولاه شرابه. ويدعون أنه تزوج أخته "رقاش" التي أحبته فيما بعد، في قصة يروونها، ومن هذا الزواج المزعوم كان "عمرو ابن عدي" ابن أخت جذيمة الذي خلف خاله على الملك1.
وفي رواية من روايات الأخباريين أن جذيمة زوج أخته من ابن عمه: "عدي بن ربيعة بن نصر"، فولدت له "عمرو بن عدي" الذي استطار به الجن2.
وفي جملة ما نسبه أهل الأخبار إلى جذيمة من حروب حربه مع "عمرو بن الظرب بن حسان بن أذينة بن السميدع بن هوبر العملقي""العمليقي" من عاملة العماليق. وعمرو هذا هو أبو الزباء عند الأخباريين. ويذكر هؤلاء أن الطرفين استعدا للقتال استعدادًا كبيرًا، فجمعا كل ما أمكنهما جمعه. ولما اصطدما، قتل عمرو، فانهزم أصحابه، وعاد جذيمة بعد هذا النصر إلى قواعده سالمًا ولم يشر الطبري إلى اسم الموضع الذي وقع فيه هذا القتال. وملك من بعد "عمرو" ابنته الزباء3.
أما ملك جذيمة، فكان على حد قول الأخباريين ما بين الحيرة والأنبار وبقة وهيت وناحيتهما وعين التمر وأطراف البر إلى الغير والقطقطانة وخفية وما والاها4 ورقة وسائر القرى المجاورة لبداية العرب. ويفهم من بعض الروايات أيضًا أنه ملك معدًّا وبعض اليمن5. وكانت داره بالموضع المعروف بـ "المضيق" بالمصيرة بين الخانوقة وقرقيسيا6.
1 الطبري: "2/ 30 وما بعدها"، الكامل، لابن الأثير:"1/ 196"، ابن خلدون "القسم الأول"، المجلد الثاني "542، 586، 626"، العقد الفريد:"5/ 260"، الحموي، المشترك:"319"، الهمداني، صفة:"178"، مراصد الاطلاع:"2/ 976".
2 الأخبار الطوال: "56".
3 الطبري: "2/ 31"، الكامل، لابن الأثير:"1/ 199"، مروج:"2/ 90 وما بعدها"، نوادر المخطوطات، "أسماء المغتالين""ص 112 وما بعدها"، الأغاني:"14/ 71".
4 الطبري: "2/ 29"، بلوغ الأرب:"2/ 175"، محمد بن حبيب، أسماء المغتالين "نوادر المخطوطات"، "112".
5 حمزة "64".
6 البلدان "3/ 378".
أما الأنبار، فقد تحدثت عنها. وهي –على ما يظهر من روايات الأخباريين- من المواضع التي كان يخضع أعرابها في الغالب لحكم اللخميين. وأما بقة، فتقع على الفرات بين هيت والأنبار. وأما هيت، فهي من المواضع القديمة المعروفة قبل الميلاد، وقد ورد اسمها في نص "توكلتي أنورتا الثاني""Tukulti Enurta II" الذي يعود عهده إلى حوالي سنة 885 قبل الميلاد1. وقد عرفت بـ "ايد" "Id" و"ايت" It"2". وهي "ايس""اس" Is"3" و"ايس بوليس""اسبولسي""Ispolis""Ispoolis"4 و" ايديكاره""Idikara"5 و"دياكيرة""Diakira"6" في مؤلفات الكلاسيكيين. و"ايهي" "Ihi" و" ايهيداكيرة" "Ihidakira" في مؤلفات عصر التلمود7.
وفي بقة استشار جذيمة قصيرًا على حد قول الأخباريين في أمر زيارته للزباء8. وتقع بقة على مقربة من الحيرة، وقيل هي حصن كان على فرسخين من هيت على رواية ياقوت9. وقد جعلها "اليعقوبي" على شط الفرات بالقرب من الأنبار وفي ملك الزباء10. وهي على الفرات بين الأنبار وهيت، في رواية أكثر الأخباريين11.
وأما القطقطانة، فموضع في البرية لا يبعد كثيرًا عن الكوفة، وهو بالطف12. وأما خفية، فهي أجمة في سواد الكوفة، بينها وبين الرحبة، ينسب إليها
1 Scheil And Gatuier، Annales De Takulti Ninip II، Rol D'Assyrie، 889-84، Paris، 1910، P. 38، Ency، II، P. 322، Musil. Euqhrates، P. 350.
2 Musil، Euqhrates P. 350.
3 Heradotus، I، 179.
4 Isidore Of Charax، Mansiones Parthiace، Muller، P. 249.
"ايوبوليس"، المشرق، السنة 1903، العدد 10، "ص 440".
5 Ptolemy، Geography، V. 19، 4.
6 Ammianus Marcellianus، Rerum، XXIV، 2، 3، Zosimus، III، 15.
7 Musil، Euphrates، P. 350.
8 "ببقة خلفت الرأي"، البلدان "2/ 253"، الطبري "2/ 37 وما بعدها"، "كما لم يطع فيما أشار قصير"، رسالة الغفران "533".
9 البلدان "2/ 253"، الطبري "2/ 32".
10 اليعقوبي "1/ 169".
11 البكري، معجم "1/ 264" وما بعدها"، مراصد الاطلاع "1/ 166"، والبلدان "1/ 473"، Musil، Euphrates، P. 160..
12 البلدان "7/ 125".
الأسود المعروفة بأسود خفية، وهي غربي الرحبة، ومنها إلى عين الرهيمة مغربًا. وقيل أيضًا عين خفية1.
وقد اشتهرت "عين التمر" القريبة من "شفاثا" بالقصب والتمر، وهي على طرف البادية، فتحها المسلمون على يد "خالد بن الوليد" في سنة 12 للهجرة في أيام أبي بكر2.
وقد طال عمر جذيمة على حد قول "حمزة الأصبهاني" إلى أن لحق ملك "سابور بن أشك الأشغاني""شابور بن أشك"، وحكم على حد قوله أيضًا ستين سنة. أما نهايته، فكانت على يد الزباء في قصة مشهورة معلومة، رصعها الأخباريون بشعر وأمثلة3، تحدثت عنها في أثناء كلامي على الزباء. وجعل بعضهم مدة حكمه مئة وثماني عشرة سنة، إذ ملك في زمن ملوك الطوائف خمسًا وتسعين سنة، وفي ملك أردشير بن بابك وسابور الجنود ثلاثة وعشرين سنة4. وملك يحكم هذه المدة لا بد أن تكون مدة حياته أطول من مدة حكمه.
وذكر "أبو حنيفة الدينوري" أن جذيمة لم يزل ملكًا مقيمًا بالخورنق، حتى دعته نفسه إلى تزويج "مارية" ابنة الزباء الغسانية. وكانت ملكة الجزيرة، ملكت بعد عمها الضيزن الذي قتله "سابور"، فقتلت جذيمة، ثم قتلها قصير مولاه5. فجعل الملكة القاتلة بنتًا من بنات الزباء عينها، فدعاها مارية، وبذلك أنقد الزباء من تهمة القتل التي ألصقها الأخابريون بهذه الملكة، وجعلها ملكة على الجزيرة، وجعل نسبها في غسان، وغسان معادون منافسون لآل لخم، ثم أبى إلا أن يجعل لجذيمة قصرًا منيفًا، فوقع اختياره على الخورنق، وهو قصر لائق أن يكون قصر ملك، وخالف في ذلك رأي الأخباريين الذين ينسبون هذا القصر إلى ملك آخر هو النعمان.
وقد جاء اسم "جذيمة""جديمت" في نص نبطي ويوناني عثر عليه في
1 البلدان "3/ 452".
2 البلدان "6/ 253".
3 حمزة "64 وما بعدها"، البلدان "3/ 379"، الكامل، لابن الأثير "1/ 199"، الطبري "1/ 448".
4 مروج "2/ 90 وما بعدها"، الروض الأنف "1/ 20".
5 الأخبار الطوال "56".
"أم الجمال"، جاء فيه:"هذا موضع أي قبر فهر بن شلي "سلي" مربي جديمت ملك تنوح". ولهذا النص على قصره أهمية بالغة؛ لأنه يشير إلى الصلة التي كانت بين الأسرة الحاكمة في الحيرة وعرب الشام1. ومن الصعب بالطبع استنتاج كيفية وفاة مربي الملك في هذا الموضع: أكان زائرًا هذه الديار فأدركه أجله فقبر هناك! أم جاء مع سيده في حرب فتوفي في ذلك المكان! مهما يكن من شيء، فقد أفادنا الحجر فائدة كبيرة بتدوينه اسم صاحب القبر، واسم جذيمة ملك "تنوح" تنوخ.
ويلاحظ أن النص دون اسم "جذيمة" بحرف "الدال" وكتب اسم "تنوخ" بحرف الحاء "تنوح" بدلًا من الخاء. ويكون هذا النص من أقدم النصوص التي ورد فيها اسم "تنوخ". ويرجع عهده إلى حوالي السنة "270" بعد الميلاد2.
وجعل "ابن دريد" لجذيمة نسلًا، سماهم "بني جهضم"، وجعل لفظة "جهضم" من "التجهضم"، ومعناه التكبير3.
وذكر "حمزة الأصفهاني" أنه لم يلد لجذيمة غير "زينب بنت جذيمة"، وهي أم مرتع. واسمه "عمرو بن معاوية بن كندة"، فغزا في آخر عمره الشأم، فقتل "عمرو بن ظرب بن حسان بن أذينة" ملك العمالقة والد الزباء، فانطوت له الزباء على طلب الثأر حتى قتلته4.
وانتقل الملك بعد وفاة جذيمة إلى ابن أخته "عمرو بن عدي بن نصر بن ربيعة بن الحارث بن مسعود مالك بن غنم بن نمارة بن لخم"5. أما أمه، فهي أخت جذيمة، وهي: "رقاش بنت مالك بن فهم بن غنم بن عدثان" على رواية من ينسب مالك بن فهم إلى عدثان6.
1 Rep. Epig، 1097، II، III، P. 373، Enno Littmann، Nabatalsh-Griechische Bilinguen، In Le Florlleglum Melchior De Vogue، P. 375، Die Araber، II، S. 251.
2 Die Araber، I، S. 198، Altheim-Stiehi، Geschiche Der Hunnen I، S. 151، 154.
3 الاشتقاق "2/ 292".
4 حمزة "65".
5 الطبري "2/ 30 وما بعدها"، معجم الشعراء "205"، الأغاني "14/ 72". رسالة الغفران "278"، فرائد اللال "2/ 108".
6 حمزة "65"، مروج "2/ 92"، "محمد محيي الدين عبد الحميد"، التنبيه "158"، نزهة الجليس "2/ 59 وما بعدها".
ويلاحظ أن "الطبري" لم يكن مستقرًّا في موضوع اسم "عدي" والد عمرو، إذ يجعله "نصرًا" في موضع، فيقول "عدي بن نصر بن ربيعة"1، ويجعله "ربيعة" في موضع آخر، فيقول:"عدي بن ربيعة بن نصر"2. ويظهر أن ذلك إنما وقع له بسبب أخذه من روايات مختلفة، وعدم تدقيقه ونقده لتلك الروايات.
ويفهم من رواية يرجع "الطبري" سندها إلى "ابن حميد" عن "سلمة" عن "ابن إسحاق" أن زمان حكم "ربيعة بن نصر اللخمي" كان بين ملك "تبان أسعد أبو كرب" وملك ابنه "حسان بن تبان أسعد"3. والرواية مضطربة مشوشة، يفهم منها أن "ربيعة بن نصر" كان نفسه قد حكم اليمن في الفترة الواقعة بين "تبان أسعد" وبين حكم ابنه "حسان"، وأن "حسان" هذا لم يتمكن من الحكم إلا بعد هلاك "ربيعة بن نصر"4. ويزيدها اضطرابًا وتشويشًا ذكر "الطبري" رواية الرؤيا التي رآها "ربيعة بن نصر" وعرضها على "سطيح" و"شق" لتفسيرها له، وما كان من جوابهما له في تفسيرها، حيث "وقع في نفسه أن الذي قالا له كائن من أمر الحبشة، فجهز بنيه وأهل بيته إلى العراق بما يصلحهم، وكتب لهم إلى ملك من ملوك فارس يقال له سابور خرزاذ، فأسكنهم الحيرة، فمن بقية ربيعة بن نصر، كان النعمان بن المنذر ملك الحيرة"5. فيتبين منها أن "ربيعة بن نصر" كان مقيمًا باليمن، وقد أقام بها حياته، وأن بنيه هم الذين ذهبوا إلى العراق، ولكنها لم تشرح كيف وجد "ربيعة" في اليمن وكيف حكمها وهو من لخم؟ وهي رواية شاذة، دسها بعض المتعصبين لليمن –على ما يظهر- على "ابن إسحاق"، فدونها في أخباره، وقد دست أخبار وأشعار على ابن إسحاق، فرواها وصدق بها من غير نقد ولا تحقيق. وللعلماء رأي فيه.
ويزعم بعض أهل الأخبار أن "سطيحًا" و"شقًا" أخبرا "ربيعة بن نصر"
1 الطبري "1/ 614، 627"، "دار المعارف".
2 الطبري "2/ 61، 112"، "دار المعارف".
3 الطبري "2/ 61، 111 وما بعدها"، "دار المعارف".
4 "فكل هؤلاء ملكة قبل ملك ربيعة بن نصر اللخمي، فلما هلك ربيعة بن نصر، رجع ملك اليمن كله إلى حسان بن تبان أسعد الطبري "2/ 112، 115".
5 الطبري "2/ 114".
في تأويلهما لرؤيا بما يكون من غلبة الحبش على أرض اليمن، وبغلبة الفرس بعدهم. فلما سمع بذلك، أوجس في نفسه خيفة، فأحب أن يخرج ولده وخاصة أهله من أرض اليمن، فوجه ابنه عمرًا إلى يزدجرد بن سابور، أو إلى سابور ذي الأكتاف، فأنزله الحيرة، فيومئذ بنيت، فضم عمرو إليه أخوته وأهل بيته، فمن هناك وقع آل لخم إلى الحيرة، واتصلوا بالأكاسرة فجعلوا لهم على العرب سلطانًا، فلما مات خلفه من بعده ابنه "جذيمة بن عمرو"1.
وزعم "الدينوري" أن وفاة ربيعة بن نصر كانت في أيام "قباذ بن فيروز" وأنه بوفاته رجع الملك إلى حمير، فملك ذو نواس من بعده، وهو ذو نواس صاحب تعذيب نصارى نجران نفسه. فأرجع أيام ربيعة إلى قباذ "قباد"، وهو قول يخالف ما يرويه الأخباريون2. وجعل ذا نواس المالك من بعده، وقد عاش ذو نواس بعد قباذ أمدًا، فخالف في ذلك التأريخ وأقوال الأخباريين.
ووصف "الطبري" عمرو بن عدي، فقال عنه:"هو أول من اتخذ الحيرة منزلًا من ملوك العرب، وأول من مجده أهل الحيرة في كتبهم من ملوك العرب بالعراق، وإليه ينسبون، وهم ملوك آل نصر، فلم يزل عمرو بن عدي ملكًا حتى مات وهو ابن مائة وعشرين سنة، منفردًا بملكه، مستبدًّا بأمره، يغزو المغازي ويصيب الغنائم، وتفد عليه الوفود دهره الأطول، لا يدين لملوك الطوائف بالعراق، ولا يدينون له، حتى قدم أردشير بن بابك في أهل فارس"3.
وذكر الطبري أن الحيرة خربت بعد هلاك بختنصر، لتحول الناس عنها إلى الأنبار، وبقيت خرابًا إلى أن عمرت في زمن عمرو بن عدي، باتخاذه إياها منزلًا4.
وثم رواية تنسب نصرًا إلى الساطرون ملك الحضر5، وتجعل آل نصر من الجرامقة، من "رستاق باجرمي"6، ورواية أخرى تجعل ملوك الحيرة من
1 الأخبار الطوال "56".
2 الأخبار الطوال "62 وما بعدها".
3 الطبري "1/ 627"، "دار المعارف"، حمزة "65"، مفاتيح العلوم، للخوارزمي "68".
4 الطبري "2/ 43"، "دار المعارف".
5 Rothstein، S. 42.
6 "وهو جرمقاتي من أهل الموصل من رستاق يدعى باجرمي"، معجم الشعراء، "205"، Rothstein، S. 42.
"أشلاء قنص بن معد"، فقد ذكر أن "عمر بن الخطاب" لما أتى بسيف النعمان بن المنذر، دعا جبير بن مطعم فسلمه إياه، ثم قال: يا جبير، ممن كان النعمان؟ قال: من أشلاء قنص بن معد. وهو من ولد عجم بن قنص، إلا أن الناس لم يدروا ما عجم، فجعلوا مكانه لخمًا، فقالوا هو من لخم ونسبوا إليه1. وكان جبير من أنسب العرب2. والذي عليه أكثر أهل الأخبار أن "آل نصر" هم من اليمن، كانوا قد تركوا اليمن وهاجروا حتى استقروا بالعراق، ونزلوا الحيرة، وأسسوا ملكهم بها3.
ويذكر الأخباريون أن عمرًا انتقم من الزباء لقتلها جذيمة، ورووا في ذلك رواياتهم المرصعة بالشعر والأمثال4. وهي روايات لا تستند إلى أسس تأريخية، إذا قصدوا بذلك الزباء ملكة تدمر التي عرفنا تأريخها ونهايتها في مكان آخر من هذا الكتاب.
وجعل "الدينوري" مدة حكم "عمرو بن عدي" نيفًا وستين سنة5.
وتولى الملك بعد وفاة عمرو ابنه امرؤ القيس. ويقال له امرؤ القيس البدء وامرؤ القيس الأول. أما أمه، فهي ماوية بنت عمرو أخبت كعب بن عمرو الأزدي على رواية حمزة6. وقد عاصر جملة من ملوك الفرس، هم: سابور ابن أردسير "شابور بن أردشير"7، وهرمز بن سابور، وبهرام بن هرمز، وبهرام بن بهرام، وبهرام بن بهرام بن بهرام، ونرسي بن بهرام بن بهرام، وهرمز بن نرسي، وسابور ذو الأكتاف على رواية تجدها مدونة في تأريخ حمزة. وجعل مدة ملكه مئة وأربع عشرة سنة، وهي مدة تتفق مع ما ذكره الطبري حكاية على لسان ابن الكلبي.
1 الروض الأنف "1/ 18".
2 الجاحظ، البيان "1/ 303".
3 مفاتيح العلوم "68".
4 الطبري "2/ 35"، الكامل "1/ 137"، الأغاني "14/ 73"، الأمثال، للميداني "1/ 158، 246"، ابن دريد، المقصورة
"17"، مروج "2/ 17 وما بعدها" حمزة "58".
5 المعارف"282".
6 حمزة "66".
7 الطبري "2/ 64"، حمزة "67".
غير أننا إذا ما وازنا بين ما ذكره الطبري حكاية على لسان ابن الكلبي في عدد ملوك الفرس الذين حكم "امرؤ القيس" في أيامهم، وفي مدة حكمه في عهد كل ملك من هؤلاء الملوك1. وبين ما ذكره حمزة نجد اختلافًا في العدد واختلافًا في المدة، مما يدل على أن حمزة نقل من مورد آخر يختلف عن مورد الطبري2.
وإذا كانت مدة حكم امرؤ القيس على نحو ما ذكره ابن الكلبي وغير ابن الكلبي من رواة، فكم تكون مدة حياة هذا الملك؟ إنهم لم يعينوا هذه المدة، ولكنها مدة تزيد بالطبع على هذه السنين في نظر أصحاب تلك الروايات، ولم لا تطول؟ وقد ساروا على خطة إطالة أعمار الملوك الأولين. فملك يتجاوز حكمه مئة عام بسنين أمر لا بأس به في نظر هؤلاء الرواة.
غير أننا نلاحظ أنهم بخلوا على الملوك المتأخرين، فلم يمنحوهم هذه النعمة، نعمة إطالة مدة الحكم أو مدة العمر، فجعلوا لهم مددًا مقبولة في الغالب معقولة. ولو عاش هؤلاء المتأخرون في زمن بعيد عن أولئك الرواة، بعيد عن أيام تدوين أخبار ملوك الحيرة، لما حرمهم الأخباريون كرمهم هذا، ولأعطوهم ولا شك ما أعطوه من سبقهم من الملوك جملًا من السنين.
وقد نعت امرؤ القيس في بعض الروايات بـ "المحرق"3، ونعت أيضًا بـ "محرق الحرب"4. ونصادف كلمة المحرق ومحرق وآل محرق في مواضع من التواريخ المتعلقة بالحيرة، وقد أطلقها بعض الأخباريين على الغساسنة أيضًا5. وهم يرون أنها لقب ألحق بأولئك الملوك؛ لأنهم عاقبوا أعدائهم في أثناء غزوهم لهم بحرق أماكنهم بالنار. ويرى "روتشتاين" أنه تفسير لظاهر الكلمة، وهو تفسير مغلوط. والصحيح في نظره أنها اسم علم لأشخاص عرفوا بمحرق، ولذلك قيل "آل محرق" لا "آل المحرق"6.
1 الطبري "2/ 65".
2 حمزة "67".
3 المعارف "282".
4 Rothstein، S. 64.
5 "ومحرق أيضًا: لقب الحرث بن عمرو ملك الشام من ال جفنة، وإنما سمي بذلك؛ لأنه أول من حرق العرب في ديارهم، فهم يدعون ال محرق"، اللسان "حرق".
6 Rothstein، S. 47
وفي أصنام الجاهليين صنم يدعي محرق والمحرق، تعبدت له بعض القبائل مثل بكر بن وائل وربيعة في موضع "سلمان"1. وقد ورد بين أسماء الجاهليين اسم له علاقة بهذا الصنم، هو عبد محرق2، أفلا يجوز أن يكون للمحرق إذن علاقة بهذا الصنم، كأن يكون قد اتخذ من باب التيمن والتبرك للملك الذي عرف بالمحرق أو أنه قدم قربانًا لهذا الإله أحرقه على مذبحه بالنار، وكان يكثر من حرق القرابين للآلهة، وتلك عادة معروفة وقد وردت أيضًا عند العرانيين، فقيل له لذلك المحرق؟ وإلى هذا الاحتمال ذهب بعض المستشرقين3.
ويظهر أن محرقًا كان من الشخصيات الجاهلية القديمة الواردة في الأساطير، وقد اقترن اسمه بالدروع، وورد "بردي محرق" كما اقترن اسمه بـ "نسيج داوود"، مما يدل على أن هذا الاسم من الأسماء المعروفة قديمًا في أساطير الجاهليين4.
وقد ورد أيضًا صوت محرق وفرخ محرق5، وذلك يدل على أن "محرقًا" في هذا الموضع حيوان قد تكون له علاقة أيضًا بأساطير الجاهليين6.
ومما حكاه الأخباريون عن هذا الملك أنه كان قد تنصر، وأنه لذلك أول من تنصر من آل نصر7. وهو أمر يحتاج إلى دليل، كما ذكروا أن ملكه كان واسعًا وأنه كان عاملًا للفرس "على فرج العرب من ربيعة ومضر وسائر من ببادية العراق والحجاز والجزيرة"8.
ويظن بعض الباحثين أن امرأ القيس، هو امرؤ القيس الذي ورد اسمه مدونًا في نص "النمارة". فإذا كان هذا الظن صحيحًا، كان أمرؤ القيس أول ملك من ملوك الحيرة يصل خبره إلينا مدونًا، وكذلك خبر تأريخ وفاته في سنة 328
1 J. Wellhausen، Reste Arabischen Heidentums، S. 57.
2 Rothstein، S. 48.
3 Reste، S. 57.
4 Rothstein، S. 49.
5 الأغاني "8/ 65".
6 Rothstein، S. 49.
7 الطبري "2/ 65"، ابن خلدون "2/ 263".
8 الطبري "2/ 64 وما بعدها"، ابن خلدون "2/ 171".
للميلاد، المقابلة لسنة 223 من تقويم بصري، التقويم المعمول به في تلك الجهات التي قبر فيها امرؤ القيس1.
ويظهر من نص النمارة أن امرأ القيس صاحب القبر، كان رجلًا محاربًا، وقائدًا كبيرًا، أخضع قبيلتي أسد ونزار، وهزم مذحجًا، وأخضع معدًّا، ووزع بنيه في القبائل، وبلغت فتوحاته أسوار "نجران" مدينة "شمر"، وهو
بهذه الفتوحات قد تمكن من معظم أنحاء الجزيرة. وهذا النص يناقض الروايات التي تنسب الفتوحات العظيمة إلى "شمر يهرعش""شمر يرعش"، فتجعله فاتح العراق وما وراء العراق إلى الصين، وتعكس القضية عكسًا تامًّا. وروايات فتوحات "شمر"، هي روايات يمانية وضعها أناس متعصبون لليمن ولا شك.
وقد سبق لي أن بينت أن المستشرقين يرون أن "شمرًا" المذكور في هذا النص أي صاحب "نجران"، هو "شمر يهرعش""شمر يرعش". وقد ذكرته في باب "ملوك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنت". ومعنى هذا أن "نجران" كانت في ملكه يوم أغار "امرؤ القيس" عليها فوصل أسوارها، ويظهر أنه لم يتمكن منها وأنه فرض سلطانه على القبائل الساكنة في البادية، فاعترفت بسيادته عليها. ولها لقب في النص بلقب "ملك العرب كلهم الذي نال التاج"، وختمت الكتابة بجلمة "فلم يبلغ ملك مبلغه"، وهي جملة تعبر عن اتساع ملكه وامتداده مسافات شاسعة.
ويظهر من ورود كلمة "التبع" أي التاج في هذا النص أن هذه الكلمة كانت معروفة عند العرب الشماليين في ذلك الحين، أي في القرن الرابع للميلاد، وأنها وردت بالمعنى المفهوم منها في الزمن الحاضر، أي ما يوضع على الرأس تعبيرًا عن الملك والحكم.
ويفهم من هذا النص أن "امرأ القيس" كان قد بسط سلطانه على كل العرب، أي الأعراب، فملكهم وملك خاصة "بني نزار" و"أسد" وقبائل "معد"، وأنه نصب أولاده على القبائل ليضمن طاعتها وخضوعها له، وأن
1 Francis Nau، Les Arabes Chrestiens، P. 32، Rene Dussaud، Arabes En Syrie Avant L'Islam، Paris، 1907، P. 35، REP. EPIG، I، 1900-1905، 361، NR. 483، R. Dussaud، Mission، 314، J. Cantineau، Le Nebateen، 1932، 49، Die Araber، II، S. 313.
سلطانه بلغ بذلك حدود أرض اليمن. فامتد حكمه إذن من الحيرة وبلاد الشام إلى نجد والحجاز، حتى بلغ حدود مدينة "نجران". وقد كانت منازل "معد" في الحجاز وفي ضمن أرضها "مكة" وتمتد إلى "نجران"1.
ويظهر من دفن "امرئ القيس" في موضع "النمارة" من بلاد الشأم أن "امرأ القيس" كان في بلاد الشأم حينما نزل به أجله. ويرى بعض الباحثين أنه كان قد جاء إلى بلاد الشأم؛ لأنه كان من حزب "بهرام" الثالث ومن مؤيديه، فلما وقع الخلاف بين الفرس على العرش وانتصر "نرسي""293-302م""293-303"، خرج امرؤ القيس من العراق، وقصد بلاد الشأم، فأقام هناك، وما إلى الروم فأيدوه وأقروه على عرب بلاد الشأم، فيكون قد عمل للفرس وللروم معًا2.
وكتابة "النمارة" هي شاهد قبر ملك عربي يدعى "امرأ القيس"، عثر عليها في موضع "النمارة" وهو في الحرة الشرقية من جبل الدروز، ويرجع تأريخها إلى اليوم السابع من شهر "كسلول" من سنة "223" من تقويم "بصرى" أي في اليوم السابع من شهر كانون الأول من سنة "328" بعد الميلاد3. دونت على ضريح الملك، وهو بناء مربع، لتكون دليلًا للناس يعرفون منها اسم صاحب القبر. وتتألف من خمسة أسطر، هذا نصها:
1-
تي نفس مر القيس بن عمرو ملك العرب كله ذو اسر التج.
2-
وملك الأسدين ونزرو وملوكهم وهرب مدحجو عكدى وجا.
3-
بزجي في حبج نجرن مدينة شمر وملك معدو ونزل بنيه.
4-
الشعوب ووكلهن فرسو لروم فلم يبلغ ملك مبلغه.
5-
عكدى. هلك سنة 223 يوم بكسلول بلسعد ذو ولده4.
1 Die Araber II، S. 321.
2 رينه ديسه، العرب في سورية قبل الإسلام "ص 36 وما بعدها".
Die Araber، II، S. 319.
3 REP. EPIG، I، VII، P. 361، No. 483، Syria، Tome. IV، 1932، P. 154.
4 ولفنسون "190"، زيدان، العرب قبل الإسلام "203"، رينه ديسو، العرب في سورية قبل الإسلام "ص 33".
Lidzbarski Ephemeris، Zweiter Band، Erstr Hert، S. 34. REP. EPIG، I، VI، P. 362، Dussaud، Nabateo-Arabe D'An-Nemara In Rev. Arch، 1902، II، 409-421، Halevy، In Rev. Sem، 1903، P. 58-82، Peiser Die Arabische Inschrift Von En-Nemara In Orientalis. Literatur-Zeitung، VI 15، Col. 277-281.
وإذا أردنا تقريب هذه الكتابة إلى أفهامنا وتدوينها بلهجتنا العربية، لهجة القرآن الكريم، كتبناها على هذا الشكل:
1-
هذا قبر امرئ القيس بن عمرو ملك العرب كلهم الذي نال التاج.
2-
وملك الأسدين ونزارًا وملوكهم، وهزم مذحجًا بقوته وقاد.
3-
الظفر إلى أسوار نجران، مدينة شمر. وملك معدًّا واستعمل أبناءه على.
4-
القبائل. ووكلهم لدى الفرس والروم، فلم يبلغ ملك مبلغه.
5-
في القوة. هلك سنة 223 يوم 7 بكسلول. ليسعد الذي ولده1.
وقد استدل المستشرقون من عبارة "ذو أسر التاج""الذي نال التاج" على أن صاحب هذا التاج هو من الملوك الذين كان لهم اتصال بالفرس، وأن المقصود به ملك من ملوك الحيرة، لوجود صلة لهم بالانبراطورية الفارسية2. ودعواهم في ذلك أن هذه الجملة، وكلمة "تج" "تاج" هما من الاصطلاحات المستعملة عند الفرس وعند من خالطهم من الملوك، فلا بد أن يكون حاملها من الملوك المحالفين لهم، وكلمة "تاج" من الألفاظ المعربة عن الفارسية، من أصل "تاك"3. ولما كان هذا ملكًا عربيًّا، فهو إذن امرؤ القيس ملك الحيرة4.
1 تختلف الترجمات بعضها عن بعض بعض الاختلاف، بسبب اختلاف العلماء في القراءات، راجع جواد علي: تأريخ العرب قبل الإسلام "3/ 437 وما بعدها".
Rene Dussaud، Mission، 1903، P. 314-323، R. Dussaud، In Revue Archeologique، 1902، III، Tome 41، PP. 409-421، Les Araves En Syrie Avant L'Islam، P. 34 Hommel، Grundriss، I، S. 155، Clermont-Ganneau، Recueii D'Archeologie Orient، VI، P. 395، VII، P. 167.
2 زيدان، العرب قبل الإسلام "203"، تأريخ العرب قبل الإسلام، لجواد علي "3/ 441".
3 غرائب اللغة "221".
4 Hommel، I، S. 155، De Lagarde، Armen. Stud، 834.
وكان من عمال "سابور بن أردشير" و"هرمز بن سابور" و"بهرام ابن سابور""على فرج العرب من ربيعة ومضر وسائر من ببادية العراق والحجاز والجزيرة" في تأريخ الطبري1. وورد في تأريخ ابن خلدون نقلًا عن "السهيلي": أن "امرأ القيس" كان عاملًا للفرس على مذحج وربيعة ومضر وسائر بادية العراق والجزيرة والحجاز2. ويظهر أن المورد الذي نقل منه "السهيلي" و"الطبري" يرجع إلى منبع واحد، هو "ابن الكلبي". وما رواه "ابن الكلبي" يتفق بوجه عام مع ما جاء في نص "النمارة" من أمر ملك وفتوح "امرئ القيس".
و"شمر" صاحب مدينة "نجران"، هو "شمر يهرعش" في رأي أكثر المستشرقين، وينطبق زمانه على زمان "امرئ القيس"3. وإذا صح هذا الرأي نكون قد حصلنا على أول نص عربي جاهلي يشير إلى حرب نشبت بين مملكة الحيرة ومملكة "سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنت" في عهد أول ملك من ملوكها وهو "شمر يهرعش" المعروف بـ "شمر يرعش" عند الإسلاميين.
وفي روايات الأخباريين ما يؤيد نشوب حرب بين عرب الحيرة وعرب اليمن في أيام "شمر يرعش"، غير أنها تناقض هذا المدون في النص عن تغلب "امرئ القيس" على نجران مدينة "شمر". فـ "شمر" عندها بطل من الأبطال، فتح الفتوح العظيمة، وبلغ ملكه حدًّا لم يصل إليه ملك "اسكندر ذي القرنين". وعندهم أيضًا أنه هو باني مدينة "سمرقند"، وهو الذي حير "الحيرة". وهو تبع الأكبر وهو وهو، على حين هو –في هذا النص- ملك مغلوب، لم يتمكن من الوقوف أمام "امرئ القيس" الذي بلغت جيوشه مدينة "نجران". فهل تجد تناقضًا أغرب من هذا التناقض؟ على أننا لو فرضنا أن "شمرًا" صاحب نجران هو رجل آخر غير "شمر يرعش"، فهذا النص يهدم بنيان الأخباريين اليمانيين القائم على أساس المبالغة في المفاخرات والمباهاة بالأجداد نكاية بالعدنانيين الذين تعالوا عليهم في الإسلام بفضل النبي وشرق الإسلام، فأحفظهم4 ذلك جدًّا.
وقد سبق أن تحدثت عن عثور العلماء منذ عهد غير بعيد على نص أشار إلى
1 الطبري "2/ 64 وما بعدها".
2 ابن خلدون "2/ 171 وما بعدها"، "بولاق 1284هـ".
3 جواد علي تأريخ العرب قبل الإسلام "3/ 141 وما بعدها".
4 أغضبهم.
غزو غزاه قائد من قواد "شمس" على "ملك أسد" وأرض "تنوخ" التي تخص الفرس، وذكرت أن "شمر" المذكور هو "شمر يهرعش" في رأي الباحثين1. وقد تحدثت عنه حديثًا فيه الكفاية في موضعه، وفي أثناء كلامي على "شمر يهرعش"، فلا حاجة بي هنا لإعادة الكلام عليه.
ويرى بعض الباحثين أن "المشتى" الأثر الشهير المعروف الذي نقلت أحجار جدرانه المزخرفة إلى متحف "قيصر فريدرش ويلهم" ببرلين، ولا تزال آثاره باقية، هو من بناء "امرئ القيس". وقد استدلوا على ذلك بطراز بنائه الذي يشبه الطراز "الحيري" على رأيهم، وذهبوا إلى أنه أقامه في هذا المكان بعد فراره من أرض الحيرة ومن الساسانيين سنة "293م"، ليكون قصر له وحصنًا يدافع به عن ملكه الجديد2.
ويذكر الطبري أن وفاة "امرئ القيس" كانت في عهد "سابور"، أي سابور ذي الأكتاف "310-379 م"، وأنه كان عامل "سابور" على ضاحية مضر وربيعة، وأن سابور استعمل ابنه عمرو بن امرئ القيس في مكان والده3.
وحكم بعد امرئ القيس البدء ابنه عمرو. وأمه هند بنت كعب بن عمرو على رواية4. و"مارية البرية" أخت "ثعلبة بن عمرو" من ملوك الغساسنة في رواية أخرى5. وكان يعصر من ملوك الفرس سابور ذا الأكتاف "310-379م" وأخاه "أردشير بن هرمز بن نرسي""379-383م" وسابور بن سابور "سابور الثالث""383-388م"6. وقد نعته بعض الأخباريين بموقد الحرب "مسعر حرب". وذكروا أنه حكم خمسًا وعشرين سنة7. ونعت الأخباريين له هذا النعت، يدل على أنه كان محاربًا، ولكنهم لم يذكروا شيئًا من تلك الحروب.
1 Le Museon، 1964، 3-4، P. 487.
2 Die Araber، II، S. 258، 318، 320.
3 الطبري "2/ 61 وما بعدها"، "دار المعارف".
4 حمزة "ص 67".
5 المروج "3/ 199"، "2/ 23". "طبعة دار الرجاء".
6 الطبري "2/ 70".
7 شرح قصيدة ابن عبدون المعروفة بالبسامة "ص 100".
وقد ذهب بعض الأخباريين إلى أن مارية التي ضرب المثل بقرطيها فقيل قرطًا مارية، هي مارية هذه أم عمرو1.
وقد وضع اليعقوبي بعد امرئ القيس شقيقه الحارث بن عمرو بن عدي ملكًا وجعل مدة ملكه سبعًا وثمانين سنة، ثم وضع عمرًا ابن امرئ القيس ملكًا من بعده. وحكم هذا على زعمه مدة أربعين عامًا2.
ولا نعرف من أعمال عمرو هذا شيئًا. وللأخباريين في مدة حكمه أقوال عدة تتراوح عندهم من25 سنة إلى60 سنة3. وقد ذكر الطبري أن عمرًا "بقي في عمله بقية ملك سابور وجميع أيام أردشير بن هرمز بن نرسي، وبعض أيام سابور بن سابور"، ثم قال أن جميع مدة ملكه فيما ذكره ابن الكلبي ثلاثين سنة4. وإذا أخذنا برواية الطبري المذكورة، تكون مدة حكمه حوالي الستين سنة، ومعنى هذا أن عمرًا كان قد عمر أكثر من ستين سنة، وأنه توفي بعد وفاة سابور ذي الأكتاف وبعد سنة "383م"؛ لأن حكم "سابور بن سابور" المعروف عند المؤرخين بـ "سابور" الثالث كان في حوالي السنة "383م". فقد تولى سابور هذا الحكم فيما بين "383" حتى سنة "387" أو "388م"5. وإذا أخذنا برواية من يقول أنه حكم "25" سنة، أو "30"، وجب أن تكون وفاته في أيام "سابور ذي الأكتاف".
وقد جعل الطبري في موضع آخر من تأريخه وفاة "عمرو" في عهد "سابور ابن سابور"، أي "سابور" الثالث6. وبذلك يكون قد أطال مدة حكمه وعمره.
ويذكر الطبري أن "سابور بن سابور" استخلف "على عمله أوس بن قلام في قول هشام"، وذلك بعد مهلك "عمرو"7. ولم يذكر الأسباب التي حملت سابور على هذا التعيين. ويظهر أنه كان من أسرة غريبة عن أسرة "آل لخم"
1 البسامة "ص 101".
2 اليعقوبي "1/ 170".
3 الطبري "2/ 70"، ابن الأثير "1/ 158"، حمزة "67"، مروج "3/ 199".
4 الطبري "2/ 62"، "دار المعارف".
5 Ency. 4، P. 178.
6 الطبري "2/ 65".
7 الطبري "2/ 65""طبعة دار المعارف بمصر"، مفاتيح العلوم "69".
الحاكمة. ويرجع ابن الكلبي نسبه إلى العماليق، فيقول إنه من "بني عمرو بن عمليق"1. وذكر حمزة نسبه على هذه الصورة: أوس بن قلام بن بطينا بن جمهير بن لحيان العمليقي2. وجعله ابن خلدون من بني عمرو بن عملاق3.
ويتبين من خبر ورد في "الأغاني" أن أوسًا كان من أسرة كانت تقيم في الحيرة، وهي من بني الحارث بن كعب4. وقد ورد اسم رجل آخر من هذه الأسرة، ذكر أنه بنى ديرًا في الحيرة5.
ولا نعرف من أعمال أوس هذا شيئًا، وكل ما نعرفه عنه أنه حكم خمس سنوات6. وأن امرءًا اسمه "جحجبن بن عتيك بن لخم" "جحجبا" ثار به فقتله على رواية لابن الكلبي ذكرها الطبري7. أما حمزة فذكر اسمه ونسبه على هذه الصورة، "ححجنا بن عبيل أحد بني فاران". وقال:"قال ابن الكلبي: وهو فاران ابن عمرو بن عمليق، وهم بطن بالحيرة يقال لهم بنو فاران، وححجنا منهم. فقتل ححجنا أوسًا، فرجع الملك إلى آل بني نصر"8.
فنحن إذن أمام روايتين في أصل جحجبي "جحجبا" أو ححجنا: رواية ترجعه إلى لخم، ورواية أخرى ترجعه إلى بني فاران، وترجع بني فاران إلى "عمرو بن عمليق"، أي إلى العشيرة التي رجع الأخباريون نسب أوس بن قلام إليها، إذن فهو بموجبها من العماليق.
أما هذا الاختلاف الذي نراه بين الرواة في كيفية ضبط اسم هذا الثائر في جحجبا أو حججنا، وفي عتيك أو عبيل، فيمكن رجعه إلى خطأ وقع في تدوين الروايات، إما سهوًا وإما جهلًا بحقيقة الاسم، فمن هذين نشا لدينا هذا الاختلاف.
ولم يذكر الأخباريون الأسباب التي حملت "جحجبى" على الثورة والمنافع
1 الطبري "2/ 65""طبعة دار المعارف بمصر".
2 حمزة "ص 67".
3 ابن خلدون "2/ 48".
4 الأغاني "2/ 18، 26".
5 Rothstein، S. 64.
6 الطبري "2/ 72"، "2/ 65""طبعة دار المعارف بمصر"، حمزة "ص 67".
7 الطبري "2/ 65""طبعة دار المعارف بمصر".
8 حمزة "ص 67".
التي جرها لنفسه منها، وكل ما ذكروه عنه أنه ثار به جحجبى فقتله، وأن هلاكه كان في عهد "بهرام بن سابور""388-399م"، وأن "بهرام" استخلف بعده في عمله "امرئ القيس البدء بن عمرو بن امرئ القيس البدء" خمسًا وعشرين سنة. وكان هلاكه في عهد يزدجرد الأثيم1.
فيتبين من ذلك أن "جحجبا""جحجبى"، قاتل أوس، لم يحكم الحيرة وأن حكمها عاد فانتقل إلى آل نصر.
ولم يذكر اليعقوبي أوس بن قلام ولا الثورة التي قام بها جحجبا "جحجبى"، بل نصب رجلًا آخر بعد عمرو بن امرئ القيس هو المنذر بن امرئ القيس، ونعته بالمحرق، نعته بذلك؛ لأنه أخذ قومًا حاربوه، فحرقهم، فسمي لذلك محرقًا، وجعل بعده النعمان2.
ولم يذكر المسعودي كذلك أوس بن قلام ولا جحجبا "جحجبى"، بل ذكر النعمان بن امرئ القيس رأسًا بعد عمرو بن امرئ القيس، وقال أنه قاتل الفرس خمسًا وستين سنة، وأن أمه الهيجانه بنت سلول، وكانت من مراد أو من إياد3.
وقد نعت الطبري امرأ القيس هذا بالبدء4. أما حمزة فلقبه بالبدن5. وأظن أن مرد هذا الاختلاف خطأ وقع في الروايات من الرواة أو الكتابة للحرف الأخير من كلمة البدء أو البدن، فصارت الكلمة الواحدة في الأصل كلمتين.
وذكر ابن الأثير أن بهرام بن سابور استخلف من بعد أوس امرأ القيس بن عمرو بن امرئ القيس الكندي، فبقي خمسًا وعشرين سنة، وهلك في أيام يزدجرد الأثيم6، وإضافة الكندي إلى امرئ القيس خطأ، ولا شك، فلم يرو أحد من الأخباريين أن امرأ القيس هذا كان كنديًّا. ومن المعروف أن ابن الأثير قد اعتمد على تأريخ الطبري اعتمادًا كليًّا، حتى ليمكن أن يقال أنه اختصره، والعبارتان خلا زيادة كلمة "الكندي" متشابهتان، ففي استطاعتنا أن نقول بحدوث هذه الزيادة في تأريخ ابن الأثير إما من النساخ وإما من ابن الأثير نفسه، إذ
1 الطبري "2/ 65""طبعة دار المعارف بمصر".
2 اليعقوبي "1/ 170".
3 مروج "2/ 23""طبعة محمد محيي الدين عبد الحميد".
4 الطبري "2/ 65""طبعة دار المعارف".
5 حمزة "ص 67"، "ثم امرؤ القيس البدن"، مفاتيح العلوم "69".
6 ابن الأثير: الكامل "1/ 176".
استعجل دون تفكير فأضاف كلمة الكندي إلى نسب امرئ القيس، لشهرة امرئ القيس الكندي.
ولا نعرف من خبر امرئ القيس شيئًا يذكر. وقد ذكر حمزة أنه هو محرق الأول، وأنه أول من عاقب بالنار. وفي روايته هذه أنه حكم إحدى وعشرين سنة1. أما الطبري، فذكر أنه حكم خمسًا وعشرين سنة2.
وذكر الطبري أن "يزدجرد" المعروف بالأثيم "399-420م"، الذي في أيامه كان هلاك "امرئ القيس" استخلف مكان "امرئ القيس" ابنه "النعمان". وهو فارس حليمة، وصاحب الخورنق3.
وهذا النعمان المعروف عند المؤرخين بالنعمان الأول، هو أول ملك نستطيع أن نتحدث عنه بشيء من التأكيد والتحقيق والتفصيل، وهو كما يقول الأخباريون: النعمان بن امرئ القيس بن عمرو بن عدي، أما أمه، فهي شقيقة ابنة أبي ربيعة ابن ذهل بن شيبان4، وهي أخت عمرو المزدلف.
وقد عرف النعمان بالنعمان الأعور كذلك، كما عرف أيضًا بالسائح5. وكان له شقيق من أمه شقيقة، هو "حسان بن زهير"6.
ويظهر من وصف الأخباريين للنعمان أنه كان رجلًا حازمًا قويًّا، محاربًا من أشد الناس نكاية في عدوه. غزا عرب الشأم مرارًا كثيرة فسبى منهم وغنم. وكان يغزو بكتيبتين كانتا عنده: دوسر وأهلها تنوخ، والشهباء وأهلها الفرس. يغزو بهما من لا يدين له من العرب7. وقد اشتهرت دوسر بشدة ضربتها حتى قيل أبطش من دوسر8. وقد نسب بعضهم له خمس كتائب، هي: الرهائن
1 حمزة "ص 67"، "وهو محرق الأول؛ لأنه أول من عاقب بالنار"، مفاتيح العلوم "69".
2 الطبري "2/ 65""طبعة دار المعارف بمصر".
3 الطبري "2/ 65""طبعة دار المعارف بمصر".
4 الطبري "2/ 65""طبعة دار المعارف". ابن الأثير "1/ 176" ابن خلدون "2/ 48".
5 حمزة "ص 68"، مفاتيح العلوم "69".
6 حمزة "ص 68".
7 الطبري "2/ 73"، "2/ 67""دار المعارف"، حمزة "ص 67".
8 الميداني: مجمع الأمثال "1/ 78"، "ضربت دوسر فيه ضربة"، اللسان "4/ 285"، "صادر"، مادة "دسر".
والصنائع والأشاهب، والكتيبتان المذكورتان، أما الرهائن، فذكروا أنها كانت تتألف من خمسمائة رجل رهائن لقبائل العرب، يقيمون على باب الملك سنة، ثم يجيء بدلهم خمسمائة أخرى، وينصرف أولئك إلى أحيائهم، فكان الملك يغزو بهم ويوجههم في أموره. وأما الصنائع، فهي: بنو قيس وبنو تيم اللات بن ثعلبة، وكانوا خواص الملك لا يبرحون بابه.
وذكر أنه كانت له كتيبة تسمى "الوضائع"، وقوامها ألف رجل من الفرس يضعهم ملوك الفرس بالحيرة نجدة لملوك العرب، وكانوا يقيمون سنة، ثم يأتي بدلهم ألف رجل، وينصرف أولئك1.
وقيل إن وجوه العرب وأصحاب الرهائن كانوا يفدون عند رأس كل سنة، وذلك في أيام الربيع، إلى النعمان وبقية من تولى الملك بعده، وقد صير لهم أكلًا عنده، وهم ذوو الآكال، فيقيمون شهرًا، ويأخذون آكالهم ويبدلون رهائنهم وينصرفون إلى أحيائهم. والآكال هم سادة الأحياء. وكانوا يأخذون المرباع، أي ربع الغنيمة في الحرب والغزو2.
ونعت بعض المؤرخين مثل الطبري وحمزة النعمان بأنه فارس حليمة3، أي معركة حليمة المعروفة التي وقعت في أيام المنذر بن ماء السماء، لا في أيام النعمان على روايات آخرين4.
وإلى النعمان هذا ينسب أكثر الأخباريين بناء قصر الخورنق الشهير في الأدب العربي. قيل: أنه بناه لبهرام جور بن يزدجرد الأول "399-420م" المعروف بالأثيم. وكان يزدجرد لا يبقى له ولد، فسأل عن منزل بريء مريء صحيح من الأدواء والأسقام، فدل على ظهر الحيرة، فدفع ابنه بهرام جور إلى النعمان هذا، وأمره ببناء الخورنق مسكنًا له، وأنزله إياه، وأمره بإخراجه إلى بوادي العرب5.
1 بلوغ الأرب "2/ 176".
2 بلوغ الأرب "2/ 176".
3 الطبري "2/ 65""دار المعارف"، حمزة "ص 68"، مفاتيح العلوم "69".
4 البلدان مادة حليمة، الميداني: مجمع الأمثال "1/ 231"، "2/ 150".
5 الطبري "2/ 73""2/ 65""دار المعارف" الأغاني "2/ 144"، "طبعة دار الكتب المصرية".
وذكر "السهيلي" أن الخورنق قصر بناه النعمان الأكبر ملك الحيرة لسابور كون ولده فيه عنده، وبناه بنيانًا عجيبًا لم تر العرب مثله، واسم الذي بناه له سنمار، وكان بناه في عشرين سنة1. ويذكر بعضهم أنه بني على نهر "سنداد"2.
وقد ارتبط اسم الخورنق في القصص الذي شاع حوله باسم بانيه المسمى سنمار، هو في زعم الأخباريين بناء رومي كلفه النعمان بناء القصر، فلما انتهى منه وكمل تعجب من حسنه وإتقان عمله، وبدلًا من أن يوفيه النعمان وفاءً حسنًا، أمر به فطرح من رأس الخورنق، فمات في قصص يرويه الأخباريون. ويضرب بهذه لنهاية المثل في الأدب العربي في الجزاء السيئ، فيقال "جزاه جزاء سنمار"3.
وقد وردت قصة سنمار في أبيات تنسب لعبد العزى بن امرئ القيس الكلبي، وكان أهدى أفراسًا إلى الحارث بن مارية الغساني ووفد عليه، فأغره وأكرمه، ثم عاقبه لما بلغه خبر وفاة ولد للحارث وكان قد استرضعه لدى بني الحميم بن عوف من بني عبد ود من كلب، نهشته حية فتوفي، فظن الملك أنهم اغتالوه، لذلك طلب من عبد العزى أن يجيء بهم إليه. فلما أبى، أنزل به العقاب، وقد
1 الروض الأنف "1/ 67"، "والخورنق: نهر. والخورنق: المجلس الذي يأكل فيه الملك ويشرب، فارسي معرب، أصله خرنكاه، وقيل: خرنقاه معرب، قال الأعشى:
ويجيء إليه السيلحون ودونها
…
صريفون في أنهارها والخورنق
والخورنق: نبت. والخورنق: اسم قصر بالعراق، فارسي معرب، بناه النعمان الأكبر الذي يقال له الأعور، وهو الذي لبس المسوح فساح في الأرض"، اللسان "10/ 79"، مادة "خرنق".
2 بلوغ الأرب "1/ 376".
3 الطبري "2/ 65 وما بعدها"، "دار المعارف"، البلدان "2/ 1 وما بعدها"، دائرة المعارف الإسلامية "9/ 35"، الميداني، مجمع الأمثال "1/ 167"، البكري، معجم "2/ 516"، "وسنمار: اسم رجل أعجمي، قال الشاعر:
جزتنا بنو سعد بحسن فعالنا
…
جزاء سنمار وما كان ذا ذنب
وحكي فيه السنمار بالألف واللام. قال أبو عبيد: سنمار اسم إسكاف بنى لبعض الملوك قصرًا، فلما أتمه أشرف به على أعلاه فرماه منه غيرة منه أن يبني لغيره مثله، فضرب ذلك مثلًا لكل من فعل خيرًا فيجزى بضده. وفي التهذيب: من أمثال العرب في الذي يجازي المحسن بالسوأى قولهم: جزاه جزاء سنمار، قال أبو عبيد: سنمار بناء مجيد رومي فبنى الخورنق الذي بظهر الكوفة للنعمان ابن المنذر، وفي الصحاح: للنعمان بن امرئ القيس، فلما نظر إليه النعمان كره أن يعمل مثله لغيره، فلما فرغ منه ألقاه من أعلى الخورنق فخر ميتًا" اللسان "4/ 383" "صادر"، مادة "سنمر".
ورد في هذه الأبيات أن سنمار صرف عشرين حجة في بنائه البنيان بالقرميد والسكب، فلما كمل البناء وآض كمثل الطود، وظن سنمار أنه سينال من صاحبه المودة والقرب، إذ بصاحب القصر يأمر بقذفه من فوق برجه فيموت. ولم يذكر الشاعر اسم الملك ولا اسم الخورنق، وهو يخاطب في هذه الأبيات ابن جفنة، كما أشير إلى "المرء حارث" ويقصد به الحارث الغساني1.
وقد نسب بعض أهل الأخبار قصة نهاية "سنمار" إلى "أحيحة بن الجلاح". فذكروا أن أحيحة أراد بناء أطم له، فبناه له "سنمار". فلما كمل، عجب من بنائه، فقال له "سنمار": "إني لأعرف فيه حجرًا لو انتزع لتقوض من عند آخره، فسأله عن الحجر، فأراه موضعه، فدفعه أحيحة من الأطم، فخر ميتًا2.
وقد ذكر "جزاء سنمار" في شعر لأبي الطمحان القيني، وآخر لسليط بن سعد وآخر ليزيد بن إياس النهشلي3.
واقترن اسم هذا القصر في الغالب باسم قصر آخر نسب بناؤه أيضًا إلى هذا النعمان، هو السدير4.
ويتبين من روايات أهل الأخبار عن "الخورنق" و"السدير" أن القصر الأول لم يكن بعيدًا عن الحيرة، وإنما كان على مقربة منها، وربما كان على مسافة ميل من الحيرة. أما "السدير"، فكان على مسافة بعيدة، وقد ورد أنه كان في وسط البرية التي بينها وبين الشأم.
1 "ودعا ابنيه: شراحيل وعبد الحارث، فكتب معهما إلى قومه:
جزاني جزاه الله شر جزائه
…
جزاء سنمار وما كان ذا ذنب
سوى رصه البنيان عشرين حجة
…
يعلي عليه بالقراهيد والسكب
فلما رأى البنيان تم سموقه
…
وآض كمثل الطود ذي الباذخ الصعب
فاتهمه من بعد حرس وحقبة
…
وقد هره أهل المشارق والغرب
وظن سنمار به كل حبرة
…
وفاز لديه بالمودة والقرب
فقال: اقذفوا بالعلج من فوق برجه
فهذا لعمر الله من أعجب الخطب"
الطبري "2/ 66 وما بعدها"، "دار المعارف".
2 الميداني، مجمع الأمثال "2/ 167".
3 الطبري "2/ 66 "دار المعارف".
4 البلدان "السدير"، حمزة "ص67"، البكري "3/ 729"، الروض الأنف "1/ 66".
ويظهر من وصف أهل الأخبار للسدير، ومن أنه كان قبة في ثلاث قباب متداخلة1، ومن وصفهم للخورنق، أن السدير لم يكن في مثل ضخامة قصر الخورنق، وأن الخورنق كان قصرًا كبيرًا أعد للسكنى وليكون حصنًا يهيمن على مشارف البادية.
ويرى بعض الباحثين أن قصر الخورنق لم يكن من بناء "النعمان"، وأنه إنما بني قبل ذلك، ويرى أن النعمان قد أسكن "بهرام" فيه2.
وقد ورد ذكر الخورنق في شعر لحسان بن ثابت:
وحارثة الغطريف أو كابن منذر
…
ومثل أبي قابوس رب الخورنق3
وقد ذهب بعض شراح هذا البيت إلى أن المراد بـ "ابن منذر""عمرو ابن هند"، وأن المراد من "أبي قابوس"، "النعمان بن المنذر بن امرئ القيس بن عدي اللخمي"، الذي لبس المسوح وساح في الأرض، والذي نعته الشاعر عدي بن زيد العبادي بـ "رب الخورنق"4. وهو تفسير ينسجم مع رأي المؤرخين في باني القصر، إلا أنه يتعارض معهم في تسمية الملك، فالمعروف عندهم أن "أبا قابوس" هو "النعمان بن المنذر" آخر ملوك الحيرة، وهو قاتل الشاعر "عدي بن زيد العبادي" لا "النعمان السائح"5. ولا يوجد أحد غيره عرف عندهم بـ "أبي قابوس". وقد حكم هذا بعد "عمرو بن هند" بأمد، فيكون هو مراد الشاعر المذكور. غير أن هذا يدفعنا إلى تخطئة "حسان" في نسبة الخورنق إلى هذا الشاعر، أو تخطئة المؤرخين في نسبتهم القصر إلى "النعمان
1 "والسدير: بناء، وهو بالفارسية سهدلي أي ثلاث شعب أو ثلاث متداخلات. وقال الأصمعي: السدير فارسية، كان أصله سادل أي قبلة في ثلاث قباب متداخلة، وهي التي تسميها الناس اليوم سدلي، فأعربته العرب، فقالوا سدير، والسدير: النهر، وقد غلب على بعض الأنهار، قال:
الابن امك ما بدا
ولك الخورنق والسدير
التهذيب: "السدير نهر بالحيرة"، اللسان "4/ 355"، "صادر"، نهاية الأرب "1/ 385 وما بعدها".
2 إيران في عهد الساسانيين، أرثر كريستين، ترجمة يحيى الخشاب "ص 260".
3 البرقوقي "ص 287".
4 الخورنق "ص 287".
5 المحبر "358 وما بعدها".
السائح". والذي أراه أن هذا التفسير، لا يتعارض مع روايات المؤرخين في باني القصر، وأن مراد الشاعر من "ومثل أبي قابوس رب الخورنق"، أنه صاحب الخورنق، أي مالكه والنازل فيه، لا الباني له. وقد ذكره لشهرة القصر في أيامه وبذلك فلا يقع التعارض بين التفسيرين، ويكون الملك المقصود هو "النعمان أبو قابوس".
وممن أشار إلى القصرين: الخورنق والسدير في شعره من الشعراء الجاهليين، المنخل، قال:
وإذا صحوت فإنني
…
رب الشريهة والبعير
وإذا سكرت فإنني
…
رب الخورنق والسدير
وقد نشأ لقب "السائح" الذي لقب به النعمان من القصة الشهيرة التي يرويها الأخباريون عن هذا الملك، وهي أن النعمان جلس في يوم من أيام الربيع في قصره الخورنق فأشرف منه على النجف وما يليه من البساتين والنخل والجنان والأنهار
…
فأعجبه ما رأى من الخضرة والنور والأنهار، فقال لوزيره وصاحبه: هل رأيت مثل هذا المنظر قط؟ فقال: لا، لو كان يدوم! قال: فما الذي يدوم؟ قال: ما عند الله في الآخرة، قال: فيم ينال ذلك؟ قال: بترك الدنيا وعبادة الله والتماس ما عنده. فترك ملكه من ليلته، ولبس المسوح مستخفيًا هاربًا لا يعلم به، وأصبح الناس لا يعلمون بحاله، فحضروا بابه، فلم يؤذن لهم عليه كما كان يفعل. فلما أبطأ الإذن عليهم، سألوا عنه، فلم يجدوه، وساح الملك منذ ذلك الحين في الأرض، فلم يره إنسان1.
ويلحق الأخباريون بهذه القصة أبياتًا ينسبونها لعدي بن زيد العبادي. ذكروا أنه خاطب بها النعمان بن المنذر، هي في الواقع اختصار للقصة، لم يذكر فيها اسم النعمان، وإنما اكتفى الشاعر بذكر رب الخورنق، ورب الخورنق هو النعمان في تفسير الأخباريين2.
1 الطبري "2/ 73 وما بعدها"، "2/ 67"، "دار المعارف"، حمزة "ص 68". المعارف "ص 282".
2 الطبري "2/ 67 وما بعدها"، حمزة "ص 69"، المعارف "ص 282"، نهاية الأرب "1/ 387".
والأبيات المنسوبة إلى عدي بن زيد، وهي:
وتذكر رب الخورنق إذ فكـ
…
ر يومًا، وللهدى تفكير
سره ملكه وكثرة ما يملـ
…
ك والبحر معرضًا والسدير
فارعوى جهله فقال وما غبـ
…
طة حي إلى الممات يصير
تشير إلى النعمان السائح، وتذكر قصة مفارقته ملكه، ولبسه المسوح وإعراضه عن الملك بعد أن كان ملكًا. ولم يقصد بالنعمان: النعمان بن أبي سلمى صاحبه، كما تصور بعض الناس1 ويظهر أنه نظمها للنعمان صاحبه على سبيل العظة والتذكير، ليدخله في النصرانية، وذلك بعد أن كان يتعبد للأوثان. وقد تمكن من التأثير فيه، فأدخله فيها كما يذكر الأخباريون.
وقد ورد في بعض الروايات تنصر النعمان2، ونسب تنصره إلى سلطان القديس "سمعان العمودي""Symion Stylites" عليه، وكان يقوم، بالتبشير بين أهل الحيرة3. وذكر أنه شفاه ببركته من مرض كان به، فتنصر4. وهي رواية في حاجة إلى دليل. فليم يثبت أن آل لخم كانوا قد تنصروا في هذا العهد.
وقد ذكر الطبري أن تبع بن حسان بن تبع بن ملكيكرب بن تبع الأقرن، تبع حمير أرسل حينما ولى الملك ابن أخته الحارث بن عمرو بن حجر الكندي في جيش عظيم إلى بلاد معد والحيرة وما والاها، فسار إلى النعمان بن امرئ القيس ابن الشقيقة، فقاتله، فقتل النعمان وعدة من أهل بيته، وهزم أصحابه، وأفلته المنذر بن النعمان الأكبر، وأمه ماء السماء امرأة من النمر. فذهب ملك آل النعمان، وملك الحارث بن عمرو الكندي ما كانوا يملكون5.
وقد استدرك الطبري على هذه الرواية، فذكر بعدها مباشرة هذه الجملة، قال: "وقال هشام: ملك بعد النعمان بن المنذر ابنه المنذر ابن النعمان، وأمه
1 رسالة الغفران "555"، "تحقيق الدكتورة عائشة عبد الرحمن، بنت الشاطئ".
2 ابن خلدون "2/ 271".
3 شيخو: النصرانية 82.
4 السمعاني "1/ 247"، الحيرة "151". Causin، 254.
5 الطبري "2/ 86"، "2/ 89 وما بعدها""دار المعارف".
هر ابنة زيد مناة بن زيد الله بن عمرو الغساني أربعًا وأربعين سنة"1. وذلك يدل على أن هذه رواية أخرى منسوبة إلى ابن الكلبي أيضًا، ولكنه أخذها من مورد آخر غير المورد الذي نقل منه الرواية السابقة، وهي منسوبة أيضًا إلى ابن الكلبي استهلها الطبري بقوله: "حدثت عن هشام بن محمد"2. وهو ابن الكلبي.
وحديث الطبري عن قتل الحارث بن عمرو الكندي للنعمان بن امرئ القيس ابن الشقيقة، يناقض ما رواه هو نفسه وما رواه غيره عن تنسك النعمان واعتزاله الملك وسياسته في الأرض وعن اللقب الذي منحه الأخباريون إياه وهو "السائح"، ويظهر أن ابن الكلبي وأضرابه رواة هذه الروايات كانوا قد أخذوا رواياتهم من مصادر عربية مختلفة، غير مدونة، فوقع هذا التناقض بين الروايتين.
وعاد الطبري فتكلم على هذا الموضوع في أثناء حديثه عن الأحداث التي وقعت بين العرب في أيام قباذ، فقال: "وحدثت عن هشام بن محمد، قال: لما لقي الحارث بن عمرو بن حجر بن عدي الكندي النعمان بن المنذر بن امرئ القيس ابن الشقيقة، فقتله، وأفلته المنذر بن النعمان الأكبر وملك الحارث بن عمرو الكندي ما كان يملك، بعث قباذ بن فيروز ملك الفرس إلى الحارث بن عمرو الكندي: أنه قد كان بيننا وبين الملك الذي قد كان قبلك عهد، وأني أحب أن ألقاك. وكان قباذ زنديقًا يظهر الخير ويكره الدماء3. فجعل الطبري والد النعمان في هذه الرواية المنذر بن امرئ القيس مع أن والد النعمان المقصود هو امرئ القيس.
وقد ذكر الطبري أن ملك النعمان إلى أن ترك ملكه وساح في الأرض تسع وعشرين سنة وأربعة أشهر. من ذلك في زمن يزدجرد خمس عشرة سنة، وفي زمن بهرام جور بن يزدجرد أربع عشرة سنة4. وإذا أخذنا بهذه الرواية وجب أن يكون ابتداء حكم الملك النعمان في سنة "405م"، وتركه الملك واختياره في الأرض وحياة الزهد في حوالي السنة "434م". فقد حكم بهرام بن يزدجرد، المعروف بـ "بهرام الخامس" عند المؤرخين فيما بين السنة "420م" والسنة "438"5.
وصار عرش الحيرة بعد النعمان إلى ابنه المنذر، وكانت أم المنذر من غسان.
1 الطبري "2/ 90""دار المعارف".
2 الطبري "2/ 89""دار المعارف".
3 الطبري "2/ 89""2/ 95""دار المعارف".
4 الطبري "2/ 68""دار المعارف".
5 Encuy.، 4، P. 178.
وهي هند بنت زيد مناة بن زيد بن عمرو الغساني1. أما المسعودي، فذكر أنها: هند بنت الهيجانة من آل بكر2.
وقد ذكر الطبري أن يزدجرد لما ولد بهرام جور، اختار لحضانته العرب، فدعا المنذر بن النعمان واستحضنه بهرام، فسار به المنذر، واختار لرضاعته ثلاث نسوة ذوات أجسام صحيحة وأذهان ذكية وآداب حسنة، من بنات الأشراف، وهن عربيتان وعجمية، فأرضعنه ثلاث سنين، فلما بلغ خمس سنين، أحضر له مؤدبين، فعلموه الكتابة والرمي والفقه. وأحضر له حكيمًا من حكماء الفرس، ثم أحضر له معلمي الفروسية، فتعلم الرماية والصيد وركوب الخيل حتى صار من أمهر الناس. وظل هذا شأنه لدى المنذر حتى مات يزدجرد. ففرح الناس بوفاته وقرر الأشراف والموبذان والمرازبة صرف الملك عن أسرة يزدجرد، لسوء سيرته في الناس، ونصبوا شخصًا آخر مكانه. فلما رأى بهرام ذلك، طلب مساعدة المنذر، فأرسل المنذر قوة بقيادة ابنه النعمان، وسار هو على رأس قوة أخرى قوامها ثلاثون ألفًا من فرسان العرب، ومعه بهرام، وبعد مفاوضات وافق الفرس على خلع من نصبوه كسرى عليهم، وتعيين بهرام، وبفضل هذه المساعدة استعاد التاج3.
وتناقض هذه الرواية كما نرى من الرواية السابقة التي دونها الطبري نفسه في تعليل سبب بناء الخورنق والتي تحدثت عنها قبل قليل. وقد فطن ابن الأثير الذي نقل الروايتين أيضًا لهذا التناقض، فقال:"هكذا ذكر أبو جعفر، في اسم بهرام جور، أن أباه أسلمه إلى المنذر بن النعمان كما تقدم، وذكر عند يزدجرد الأثيم أنه سلم بهرام إلى النعمان بن امرئ القيس. ولا شك أن بعض العلماء قال هذا وبعضهم قال ذاك، إلا أنه لم ينسب كل قول على قائله"4. وأبو جعفر هذا هو الطبري.
ولا نعلم شيئًا من أمر النعمان بن المنذر الذي تولى قيادة القوة التي أمر والده بإرسالها للتحرش بمملكة الفرس، بعد أن رفضوا نصب بهرام جور ملكًا عليهم
1 حمزة "ص 69"، الطبري "2/ 86"، "2/ 68 وما بعدها"، "دار المعارف".
2 مروج "2/ 23".
3 الطبري "2/ 74 وما بعدها"، الدينوري، الأخبار الطوال "ص57 وما بعدها"، تحقيق "فلاديمير جرجاس""طبعة ليدن".
Noldeke، Aufsiltye. S.104.
4 ابن الأثير: الكامل "1/ 162".
على نحو ما رأيناه في رواية الطبري الثانية1. فقد سكت الطبري عنه كما سكت الآخرون.
ونجد رواية نشأة بهرام جور بأرض العرب في رواية لليعقوبي مختصرة، هي في الواقع جمع للروايتين السابقتين. ذكر اليعقوبي أن يزدجرد دفع بهرام جور إلى النعمان، فأرضعته نساء العرب، ونشأ على أخلاق جميلة. ولما مات يزدجرد كرهت الفرس أن تولي ابنًا له لسوء سيرته، وقالوا:"بهرام ابنه قد نشأ بأرض العرب لا علم له بالملك". وأجمعوا على أن يملكوا رجلًا غيره، فسار بهرام في العرب، فلما لقي الفرس، هابته، فأذعنوا له وأعطوه الطاعة فوعدهم من نفسه خيرًا. وكتب إلى الآفاق يعدهم بذلك. وقدم المنذر بن النعمان عليه، فرفع منزلته2. فلم تنكر هذه الرواية رواية من زعم أن يزدجرد سلم ابنه إلى النعمان، ولم تنكر صلة المنذر ببهرام جور، ولكنها كما نرى لم تشر إلى اسم من قاد الجيش من العرب وسار إلى الفرس.
ولا يمنع على كل حال قول الأخباريين في بناء النعمان الأول الخورنق لبهرام من كون ابنه هو الذي ساعد بهرامًا على أخذ التاج. لقد سلمه والده صغيرًا إلى النعمان، فلما كبر وترعرع، ومات والده وهو بين عرب الحيرة، وامتنع الفرس من توليه التاج، ساعده المنذر في ذلك. وأخذ له حقه ممن اغتصبه منه.
ويظهر من أخبار الأخباريين أنه كانت للمنذر منزلة عند "يزدجرد". ذكر الطبري أن يزدجرد "دعا بالمنذر بن النعمان، واستحضنه بهرام، وشرفه وأكرمه، وملكه على العرب وحباه بمرتبتين سنيتين، تدعى إحداهما "رام أبزوذ يزدجرد" وتأوليها "زاد سرور يزدجرد"، وتدعى الأخرى "بمهشت" وتأويلها "أعظم الحول"، وأمر له بصلة وكسوة بقدر استحقاقه لذلك في منزلته، وأمره أن يسير ببهرام إلى بلاد العرب3.
وتناقض هذه الرواية رواية الطبري المذكورة في قصة بناء الخورنق، ورواية بقية أهل الأخبار عن قصة بناء ذلك القصر، وتؤكد أن وفاة "النعمان" الأول
1 الطبري "2/ 72""دار المعارف".
2 اليعقوبي "1/ 132".
3 الطبري "2/ 68 وما بعدها"، Rothstei،N S. 69.
كانت في أيام يزدجرد، لا في أيام بهرام بن يزدجرد، وتفيد أن انتقال الحكم إلى المنذر كان في عهد يزدجرد.
واشترك المنذر في الحرب التي وقعت بين الروم والفرس بعد مدة قصيرة من تولي بهرام جور الملك، واختار بلاد الشأم ساحة لهجومه. والظاهر أن إسهامه في هذه الحرب كان بطلب من بهرام الذي لم يكن موقفه حسنًا فيها، فكلف المنذر مهاجمة بلاد الشأم، ليخفف من شدة ضغط الروم عليه. غير أن التوفيق لم يحالف المنذر في هجومه هذا، فمني بخسارة كبيرة وهو يحاول مع جيشه عبور الفرات، فغرق أكثرهم في النهر. وكان ذلك في سنة 421م. ولحقت به خسارة أخرى في السنة نفسها، أو في السنة التي تلتها حينما أعاد الكرة على الروم1. وقد ذكر المؤرخ "سقراط" "Socrates" المتوفى في حوالي سنة 439م غرق زهاء مئة ألف رجل من رجال المنذر في النهر، وهو عدد مبالغ فيه ولا شك.
وقد استند الطبري إلى رواية يتصل سندها بابن الكلبي، فجعل مدة حكم المنذر بن النعمان أربعًا وأربعين سنة، من ذلك في زمن بهرام جور ثماني سنين وتسعة أشهر، وفي زمن يزدجرد بن بهرام ثماني عشرة سنة، وفي زمن فيروز ابن يزدجرد سبع عشرة سنة2. وهذه الرواية تناقض روايات ابن الكلبي السابقة عن تولي المنذر الحكم في أيام يزدجرد الأثيم والد بهرام جور، كما مر معنا، وقد أغفلت أمر "هرمز" وهو ابن يزدجرد ابن بهرام جور، المعروف بالثالث، الذي حكم من حوالي السنة457 حتى السنة 459 للميلاد، فإذا فرضنا أن حكم المنذر كان ثماني سنين وتسعة أشهر من زمان بهرام جور الذي حكم من حوالي السنة 420 للميلاد حتى السنة 438 للميلاد، صارت السنة 429 هي السنة 430 للميلاد التي يجب أن تكون سنة توليه الحكم، وإذا أضفنا إلى هذا الرقم أربعًا وأربعين سنة، وهي مدة حكم المنذر، إلى هذه الرواية، صارت السنة 473-474 للميلاد، هي سنة انتهاء حكم المنذر بوفاته. وتكون سنة وفاته إذن في زمن "فيروز بن يزدجرد بن بهرام جور" الذي حكم من حوالي السنة 459 حتى السنة
1 Rothstein، S. 69، Socrates، VII، 18، Bar Hebraeus، Chron. Syriac، 75، Caussin، Essai، II 63، Noldede، Sas، 86، Paulys-Wissowa، Erster Galbband، S. 1281.
2 الطبري "2/ 90""دار المعارف".
484 للميلاد. وبحسب هذه الرواية يكون المنذر قد عاصر بهرام جور المعروف بـ "بهرام الخامس" عند المؤرخين وعاش في زمن يزدجرد الثاني، وهو ابن "بهرام جور"، وفي زمن "هرمز بن يزدجرد"، ثم في زمن شقيقه فيروز ابن يزدجرد بن بهرام جور1.
وتولى بعد المنذر ابنه الأسود من زوجته هر ابنة النعمان من بني الهيجمانة ابنة عمرو بن أبي ربيعة بن ذهل بن شيبان على رواية الطبري2. ومن لخم على حد قول حمزة3.
وأما "الدينوري"، فذكر أن الذي ولي الملك بعد "النعمان بن امرئ القيس" الأعور والسائح، أخوه "المنذر بن امرئ القيس"، وكانت أمه من "النمر بن قاسط" ويقال لها:"ماء السماء" لجمالها وحسنها. وأبوها "عوف بن جشم" وقد ولاه "كسرى أنو شروان" العرش، وزعم أنه تزوج "هندًا" ابنة الحارث ابن عمرو الكندي آكل المرار، وهي التي أولدته ثلاثة أولاد هم: عمرو بن هند المعروف بمضرط الحجارة، وقابوس المعروف بقينة العرس، والمنذر بن المنذر. وذكر أنه بقي ملكًا على الحيرة إلى أن غزا "الحارث ابن أبي شمر الغساني"، وهو الأعرج، فقتله الأعرج بالحيار4.
وجعل "الدينوري""المنذر بن المنذر بن امرئ القيس" بعد "المنذر" المذكور، وقال: إنه خرج يطلب دم أبيه، فقتله الحارث أيضًا بعين أباغ، ويقال: إن قاتله هو "مرة بن كلثوم التغلبي"، أخو عمرو بن كلثوم، ثم نصب من بعده شقيقه عمرو بن هند، ثم النعمان بن المنذر أبا قابوس، وبذلك أنهى قائمته لملوك الحيرة5. وهي قائمة سقط منها عدد من الملوك.
ولا نعرف من أخبار الأسود شيئًا كثيرًا. وقد ذكر حمزة أنه حكم عشرين عامًا. وذلك في زمن فيروز بن يزدجرد وبلاش بن فيروز وقباذ بن فيروز6.
1 راجع ترتيب وسن ملك الساسانيين في: Ency. 4، P. 178.
2 الطبري "2/ 86"، "2/ 90""دار المعارف".
3 حمزة "ص 69".
4 المعارف "ص 283".
5 المعارف "ص 283"، عيون الأخبار "1/ 330".
6 حمزة "ص 69".
وروى أنه حارب الغساسنة وانتصر عليهم، وأسر منهم، كما روى أنه وقع في إحدى معاركه في أيدي الغساسنة، فقتله1. وذكر الطبري أن الفرس أسرته2، ولم يذكر سبب هذا الأمر. وأنه حكم عشرين سنة، من ذلك في زمن فيروز ابن يزدجرد عشر سنين، وفي زمن بلاش بن يزدجرد أربع سنين، وفي زمان قباذ بن فيروز، ست سنين3.
وقد حكم "فيروز" من سنة "459م" حتى سنة "484م"، ويكون حكم "الأسود" بحسب رواية الطبري المتقدمة في حوالي السنة "474م" تقريبًا، وقد حكم "بلاش" أربع سنين، من سنة "484م" حتى سنة "488م"، ثم حكم "قباذ الأول"، وهو ابن فيروز من بعده، حكم من سنة "488" حتى سنة "531" للميلاد. ولما كان "الأسود" قد حكم ست سنين من زمان حكم "قباذ"، تكون سنة وفاته في حوالي السنة "494م"4.
وورد في رواية أنه كان للأسود بن المنذر ولد اسمه شرحبيل، قتل، قتله الحارث بن ظالم، وكان طفلًا مسترضعًا عند سنان بن أبي حارثة المري5.
وكان سبب ذلك على ما تذكره الرواية أن "خالد بن جعفر بن كلاب" كان قدم على "الأسود بن المنذر" أخي النعمان، ومعه "عروة بن عتبة بن جعفر"، فالتقى خالد بن جعفر والحارث بن ظالم بن غيط بن مرة بن سعد بن ذبيان عند الأسود بن المنذر، فجعل خالد يقول للحارث: يا حمار، أما تشكر يدي عندك إن قتلت عنك سيد قومك زهيرًا وتركتك سيدهم؟ فقال: سأجزيك شكر ذلك فلما خرج الحارث، قال الأسود لخالد. ما دعاك إلى أن تتحرش بهذا الكلب. وأنت ضيفي؟ فقال: إنما هو عبد من عبيدي، ولو وجدني نائمًا ما أيقظني. وانصرف خالد إلى قبته، فلامه عروة الرحال، ثم ناما وأشرجت عليهما القبة، فلما هدأت العيون، انطلق الحارث حتى أتى قبة خالد، فهتك شرجها، ثم ولجها
1 الحيرة "ص 156 وما بعدها".
2 الطبري "2/ 86"، "2/ 90""دار المعارف".
3 الطبري "2/ 86"، "2/ 90""دار المعارف".
4 راجع أزمنة حكم الملوك الساسانيين في: Ency. 4، P. 178.
5 ابن الأثير. الكامل "1/ 229 وما بعدها"، نهاية الأرب "15/ 353 وما بعدها".
وقتله. فنادى عروة: واجوار الملك! فأقبل الناس، وسمع الأسود الهتاف، وقرر الانتقام ممن خرق جوار الملك. وهرب الحارث منه1.
ولما هرب الحارث تنقل في القبائل، فلجأ إلى صديق له من كندة. فطلبه الملك فشخص من عند الكندي، وأضمرته البلاد حتى استجار بزياد أجد بني عجل ابن لجيم، فقام بنو ذهل بن ثعلبة وبنو عمرو بن شيبان، فقالوا لعجل: أخرجوا هذا الرجل من بين أظهركم، فإنه لا طاقة لنا بالشهباء والدوسر، وأبت عجل ذلك عليهم، فلما رأى الحارث ذلك، كره أن تقع الفتنة بينهما بسببه، فارتحل من بني عجل إلى جبلي طيء، فأجاروه، فمكث عندهم حينًا. ثم إن الأسود لما أعجزه أمره، أرسل إلى جارات كن للحارث بن ظالم استاقهن وأموالهن، فبلغ ذلك الحارث، فخرج من الجبلين، حتى علم مكان جاراته، فأتاهن، واستنقذهن، واستاق إبلهن، فألحقهن بقومهن. واندس إلى بلاد غطفان حتى أتى سنان بن أبي حارثة المري، وهو أبو هرم بن سنان ممدوح زهير. وكان الأسود قد استرضع ابنه شرحبيل عند سنان، ترضعه امرأته. فاستعار الحارث سرج سنان، وهو في ناحية الشرية، فأتى به سلمى امرأة سنان، وقال لها: يقول لك بعلك، ابعثي شرحبيل مع الحارث، وهذا سرجه لك آية. فدفعته إليه، فأتي به من ناحية من الشرية فقتله، وهرب من فوره، وهرب سنان لما سمع بخبر قتله.
فلما بلغ الأسود قتل ابنه شرحبيل غزا بني ذبيان، فقتل وسبى، وأخذ الأموال وأغار على بني دودان رهط سلمى، ثم وجد بعد ذلك نعلي شرحبيل في جانب الشرية عند بني محارب بن خصفة، فغزاهم وأسرهم وأحمى لهم الصفا، وقال إني أحذيكم نعالًا، فأمشاهم عليها، فسقطت أقدامهم، ثم إن سيار بن عمرو ابن جابر الغزاوي احتمل للأسود دية ابنه ألف بعير، ورهنه بها قوسه، فوفاه بها.
ثم هرب الحارث، فلحق بمعبد بن زرارة فاستجار به، فأجاره، وكان من سببه وقعة رحرحان، ثم هرب حتى لحق بمكة، ثم غادرها إلى الشأم، فلحق بيزيد بن عمرو الغساني، فأجاره وأكرمه، ومكث عنده. ثم افتقد يزيد ناقة له، ولم يعلم خبرها، فأرسل إلى الخمس التغلبي، وكان كاهنًا، فسأله عنها،
1 نهاية الأرب "15/ 348 وما بعدها".
فأخبره أن الحارث صاحبها، فهم به الملك ثم تذمم من ذلك، فأوجس الحارث في نفسه شرًّا، فأتى الخمس التغلبي فقتله. فلما فعل ذلك دعا به الملك، وأمر به ابن الخمس فقتله بأبيه، وأخذ ابن الخمس سيف الحارث، فأتى سوق عكاظ في الأشهر الحرم، فأراه قيس بن زهير العبسي، فضربه به قيس فقتله1.
وذكر أن الأسود غزا بني ذبيان وبني أسد بشط أربك وأوقع فيهم، وأنه وجد نعل ابنه شرحبيل القتيل في بني محارب بن خصفة بن قيس عيلان. فانتقم منهم شر انتقام، وأنه قبل من الحارث بن سفيان دفع دية شرحبيل، فدفعها إليه، وهي ألف بعير، "دية الملوك"2.
وخبر هذه الغزوة هو جزء متمم لخبر قتل الحارث بن ظالم لابن الأسود، كما جاء في رواية أخرى.
وروايات أهل الأخبار عن قتل الحارث بن ظالم لخالد بن جعفر بن كلاب، وعن قتل ابن الملك، روايات متناقضة مضطربة قلقة، والتبس الأمر فيها على الرواة، ولا سيما "ابن الكلبي" و"أبي عبيدة" اللذين هما مرجعا أكثر رواة تلك الروايات. يتداخل فيها اسم النعمان بن امرئ القيس مع اسم النعمان بن المنذر واسم الأسود بن المنذر، وتنسب القصة مرة إلى هذا الملك، ومرة إلى ذاك. وقد تتداخل، فيذكر اسم الملك الأسود، ثم يورد بعده اسم الملك النعمان.
يذكر الرواة رواية كالرواية السابقة، جعلت الولد القتيل شرحبيل بن الأسود، وجعلت الحارث بن ظالم يسير متخفيًا إلى الحيرة ليفتك بالأسود، ولكنهم جعلوه في هذه الرواية يسمع صراخ امرأة أخذ جمع الأسود صرمة من إبلها، فتوجع لها، ووعدها على إعادة إبلها فطلب منها أن تذهب إلى موضع عينه لها، ليأتي لها بإبلها. فلما وردت إبل النعمان، أخذ مالها، فسلمه إليها، ثم فر يطلب له مجيرًا فلم يجره أحد قائلين له: من يجيرك على هوازن والنعمان؟ ويختفي اسم المنذر فجأة في هذه الرواية، ويظهر اسم الملك النعمان كما في الرواية السابقة، ولكن دون تصريح باسم والد النعمان، وهو امرؤ القيس3.
1 نهاية الأرب "15/ 353"، "يوم الخريبة"، "العقد الفريد "6/ 7 وما بعدها".
2 الأغاني "10/ 22 وما بعدها".
3 الكامل "1/ 223 وما بعدها".
ثم تستمر الرواية فتأخذ الحارث إلى الشأم، ليستجير بيزيد بن عمرو الغساني من النعمان وهوازن، فيجيره ويكرمه، ولكنه يذبح ناقة ليزيد، ثم يقتل امرأة أرسلها يزيد لتحري بيت الحارث، ثم يقتل الكاهن الذي تكهن بعقر الحارث للناقة وبقتله للمرأة. فلم يبق أمام يزيد إلا قتل الحارث، فأمر به فقتل1. وعلى هذه الصورة انتهت حياة رجل هو في نظر الأخباريين بطل من أبطال المغامرات والمفاجآت.
وأما الرواية التي تذكر أن ذلك الملك هو النعمان بن امرئ القيس فتقول إن النعمان بن امرئ القيس كان قد تزوج بنتًا من بنات زهير بن جذيمة بن رواحة العبسي، وهو من السادة الأشراف، فأرسل النعمان ذات يوم إلى زهير يستزيره بعض أولاده، فأرسل ابنه شأسًا، وكان أصغر ولده، فأكرمه وحباه، ورجع بهدايا وألطاف كثيرة. فلما بلغ ماء من مياه غني بن أعصر، طمع به رباح بن الأشل، فقتله، واستلب ما كان معه. فلما سمع زهير بمقتل ولده، جاء ديار غني، وأخذ يغير عليها، حتى قتل منها مقتلة عظيمة، فاستجارت غني بحلفائهم بني عامر بن صعصعة، فأنجدوها. وتوسعت الحرب، فاشتركت بها هوازن، وكانت تحقد على زهير؛ لأنه كان يسر بها خسفًا ويجبيها الإتاوة كل سنة بعكاظ، وترأس خالد بن جعفر بن كلاب غنيًّا وبني عامر وهوازن، فقتل زهيرًا، وعاد أبناؤه بجسده ليواروه التراب. وذهب خالد بعد مصرع زهير إلى النعمان مستجيرًا به حين علم أن غطفان ستطلبه به، فأجاره، وضرب له قبة وحماه. وبينما كان في مجلس النعمان، قدم الحارث بن ظالم إلى المجلس، وجرى بينه وبين خالد كلام، أغلظ فيه خالد على الحارث، فحقد الحارث عليه وقرر الانتقام منه، فاغتاله وهرب. فجعل النعمان يطلبه ليقتله بجاره، وهوازن تطلبه لتقتله بسيدها خالد. فلحق ببني دارم من تميم، واستجار بهم، فأجاروه على النعمان. فلما علم النعمان ذلك، جهز جيشًا إلى بني دارم، فلما سمعوا بمجيء الجيش عليهم، استعدوا له، وأرسلوا أموالهم إلى بلاد بغيض، واستعدوا مع بني مالك بن حنظلة وبني عامر للقتال. فلما التقوا بجيش النعمان، قتل رئيس جيش النعمان، وانهزم الجيش. وقيل: إن الحارث بن ظالم ركب إلى الحيرة متخفيًّا، واستقا إبلًا
1 الكامل "1/ 234".
له كان قد استولى عليها النعمان، وقتل أحد أبنائه، وفر1.
وهناك رواية تجعل النعمان المذكور النعمان بن المنذر، وتجعل الولد القتيل ابنًا لهذا النعمان. وجعلت رواية أخرى قتل الحارث لخالد في عهد الأسود، ثم تذكر أنه هرب منه. ثم إن رجلًا من بني زيد مناة كان بعض حشم النعمان قد أخذوا إبله وأهله، استجار بالحارث فركب الحارث حتى أتى النعمان، فقال: أبيت اللعن! إنك أخذت نساء جاري، وماله، وأنا له جار. فذكره النعمان بقتله خالدًا، وهو في جوار الأسود أخيه. ثم إن النعمان أوعد الحارث وعيدًا شديدًا. فمضى الحارث، وندم النعمان على تركه، وطلبه ففاته، وكان للنعمان ابن مسترضع عند "سنان بن أبي حارثة"، وكانت سلمى بنت ظالم تحت سنان، فجاء الحارث إلى أخته على لسان سنان، حتى أعطته ابن النعمان، فضرب عنقه ولحق بمكة فجاور عبد الله بن جدعان2.
وأما قتل "الحارث بن ظالم"، فالروايات مختلفة فيه، منها ما جعل قاتله:"يزيد بن عمرو الغساني" على نحو ما رأيت. ومنها ما جعل قاتله ملكًا من ملوك غسان تسميه النعمان. ومنها، وهي رواية من روايات أهل الكوفة، ما جعل قاتل الحارث هو الملك النعمان بن المنذر، وتذكر قصة كيفية استدراج النعمان للحارث ومراسلته له مصرحًا له أنه قد رضي عنه وعفا عما بدر منه حتى أمن الحارث. فلما جاء إلى النعمان، وكان في قصر بني مقاتل، أمر به فقتل. قتله ابن الخمس التغلبي، وكان الحارث قد قتل أباه3.
وجاء في رواية أن "عمرو بن الخمس" هو الذي قتل الحارث، قتله بأمر الملك الأسود بن المنذر4. وذكر "ابن دريد" أن قومًا زعموا أن النعمان قتل "الحارث بن ظالم"، وهذا وهم؛ لأن الذي قتله إنما هو "المنذر بن المنذر أبو النعمان"5. وذكر "محمد بن حبيب". أن "سيار بن عمرو الفزاري" المعروف بـ "ذي القوس"، كان قد رهن قوسه على ألف بعير في قتل الحارث ابن ظالم من النعمان الأكبر6.
1 الكامل" 1/ 229 وما بعدها".
2 المحبر "193 وما بعدها".
3 الأغاني "10/ 27 وما بعدها".
4 الاشتقاق "2/ 203""طبعة أوربة".
5 الاشتقاق "175".
6 المحبر "461".
ويظهر من "رسالة الغفران" أن "آل لخم" كانوا يعظمون "الأسود بن المنذر"1، ولم يذكر سبب هذا التعظيم.
وحكم بعد الأسود أخوه المنذر بن المنذر بن النعمان، وأمه هر ابنة النعمان. حكم على رواية لابن الكلبي سبع سنين2، وذلك في زمان قباذ بن فيروز3. ولما كان حكم قباذ، وهو "قباذ الأول" ويسمى بـ "قباذ بن فيروز" قد امتد من سنة "488" حتى سنة "531" للميلاد4، فيكون حكم المنذر إذن قد وقع في خلال هذه المدة.
وإذا أخذنا بهذه الرواية، وجب أن يكون ابتداء حكم المنذر بن المنذر في حوالي سنة "494م"، وانتهاء حكمه في حوالي السنة "501م"، وذلك بحسب سني حكم ملوك الفرس عند المؤرخين5. ولكننا نواجه روايات أخرى رواها ابن الكلبي أيضًا وغيره تخالف هذا التقدير.
وبعد المنذر انتقل الملك إلى ابن أخيه النعمان بن الأسود، وأمه هي "أم الملك ابنة عمرو بن حجر، أخت الحارث بن عمرو الكندي"6. إذن فهي أميرة من أمراء كندة. وقد حكم هذا الملك على رواية لابن الكلبي أربع سنين7. وذلك في زمن قباذ8.
يظهر من رواية لـ "ثيوفانس" أن النعمان هذا أغار على حدود الروم وعلى العرب المحالفين لهم، فاصطدم بالقائد "أوجينيوس""Eugenius" عند موضع "بثرابسوس""Bithrapsos""البئر" على الفرات، فأصيب بخسارة فادحة. ولا نعرف على وجه التحقيق سنة وقوع هذا الحادث، والمظنون أنه كان حوالي سنة "498م"9.
1 رسالة الغفران "133".
2 الطبري "2/ 94"، "2/ 104""دار المعارف".
3 حمزة "ص 69".
4 Ency، 4، P. 278.
5 Ency، 4، P. 178.
6 الطبري "2/ 94"، "2/ 104"، "دار المعارف"، حمزة "69".
7 الطبري "2/ 94"، "2/ 104"، "دار المعارف".
8 حمزة "ص 69".
9 Rothstein S. 74، Theophanes، 217، Huart، I، S. 66، J. Bury: History Of The Later Roman Empire، London، 1931، Vol، I، P. 434.
واشترك النعمان أيضًا في الحرب التي وقعت بين الروم والفرس حوالي سنة "502 للميلاد"، إذ رجا منه قباذ أن يهاجم حدود الروم من جهة الجنوب، فهاجمها في قطاع "حران1""Carrhae" واصطدم بالقائدين "أوليمبيوس""Olympius" و" أويجينيوس""Eugenius" فتغلبا عليه، غير أنه أعاد الكرة فتغلب عليهما. وفي المعركة التي وقعت على مقربة من "قرقيسياء""Circesium" على الخابور أصيب بجرح بليغ في رأسه فقضى عليه2.
وفي أثناء غياب النعمان ومعظم جنوده عن الحيرة، انتهز العرب الذين في بلاد الروم الملقبون بـ "بني ثعلبة""طايوس دبيت روموين د متقربن دبيت ثعلبة"3 هذه الفرصة، فأغاروا على عاصمته، وأخذوا كل ما أمكنهم أخذه، فاضطر من كان قد تخلف في الحيرة من جيش النعمان إلى الفرار إلى البادية4. ويخيل إلي أن ذلك كان على أثر إصابة الملك بجرحه المميت.
وتولى الحكم رجل من "آل لخم" اسمه "أبو يعفر بن علقمة بن مالك بن عدي بن الذميل بن ثور بن أسس بن ربي بن نمارة بن لخم"، بعد النعمان5، فهو من "ذميل" و "ذميل" بطن من بطون لخم6، ولم يتحدث أصحاب الأخبار عن علاقة هذا الرجل بالأسرة المالكة ولا عن كيفية تعيينه والأسباب التي أدت إلى اختياره لهذا المنصب، وكل ما ذكرته أنه حكم ثلاث سنين، ثم انتقل الحكم من بعده إلى المنذر بن امرئ القيس البدء، وهو ذو القرنين، وذلك في رواية للطبري عن ابن الكلبي7.
أما حمزة الأصبهاني، فجعل بعد أبي يعفر ابنًا للنعمان الأعور سماه امرأ القيس ابن النعمان ابن امرئ القيس. قال: أنه هو الذي غزا بكرًا يوم "أوارة" في دارها، وكانوا أنصار بني آكل المرار وهزمهم. وكانت بكر قبله تقيم أود ملوك الحيرة وتعضدهم. ونسب إليه بناء حصن "الصنبر" زاعمًا أن الذي بناه
1 Josua Stylites، 51، Rothstein، S. 74.
2 Josua Stylites، 51، Rothstein، S. 74.
3 Rothstein، S. 74.
4 Rothstein، S. 74.
5 الطبري "2/ 94"، "2/ 104"، "دار المعارف".
6 حمزة "ص 69".
7 الطبري "2/ 94"، "2/ 104"، "دار المعارف".
له هو البناء الرومي الشهير سنمار، وأنه هو الذي قتل ذلك البناء. وجعل مدة حكمه سبع سنين1، وذلك في زمن قباد2.
وقال "حمزة": وفيه قال المتلمس:
جزاني أخو لخم على ذات بيننا
…
جزاء "سنمار" وما كان ذا ذنب3
وذكر حمزة أن حصن صنبر المذكور، وهو من عمل "سنمار"، هو الذي قال فيه أحد الشعراء:
ليت شعري متى تخب به النا
…
قة نحو العذيب والصنبر4
ويعرف المنذر هذا عند أكثر الأخباريين بالمنذر بن امرئ القيس بن النعمان وبـ "ذي القرنين" وبـ "المنذر بن ماء السماء" وبـ "ابن ماء السماء". وماء السماء هي أمه على زعمهم، وهي: مارية ابنة عوف بن جشم بن هلال بن ربيعة بن زيد مناة بن عامر الضحيان بن سعد بن الخزرج بن تيم الله بن النمر بن قاسط في رواية ابن الكلبي التي دونها الطبري5. وذكر حمزة نسب ماء السماء كما ذكره الطبري، غير أنه جعل الاسم ماوية بدلًا من مارية6، ولا أراه إلا خطأ من النساخ في كتابة الاسم أدى إلى هاتين الصورتين.
وأما سبب تلقيبه بذي القرنين، فيقال إنه لقب بذلك لضفيرتين كانتا له من شعره، فعرف بهما لذلك7.
وتلقيب ابن الكلبي امرأ القيس والد المنذر بالبدء هو خطأ ولا شك، إذ لا يعقل أن يكون هذا المنذر ابنًا لامرئ القيس البدء المتوفى سنة 328 للميلاد.
ويلاحظ أن الأخباريين لقبوا امرأ القيس الآخر الذي حكم بعد أوس بن قلام
1 حمزة "ص 70"، "وهو صاحب سنمار الذي قتله حين بنى له الحصن الذي يسمى الصنين"، مفاتيح العلوم "ص 69".
2 حمزة "ص 70".
3 حمزة "ص 70".
4 حمزة "ص 70".
5 الطبري "2/ 94"، الروض الأنف "1/ 22".
6 حمزة "ص 70""وكانت تسمى مارية"، مفاتيح العلوم "ص 69".
7 الطبري "2/ 94".
بالبدء كذلك، مع أنه مسبوق على حد قولهم بملك آخر اسمه هذا الاسم. فلا يجوز تلقيب صاحبنا هذا إذن بالبدء. ولا يجوز بالطبع تلقيب امرئ القيس الآخر الذي زعم أنه والد المنذر بالبدء أيضًا؛ لأنه ثالث المراقسة في ترتيب أسماء الملوك بحسب رواية الأخباريين.
ولا نعلم شيئًا يذكر من أمر امرئ القيس والد المنذر، فهم لم يشيروا إشارة صريحة إلى أنه كان ملكًا،
فهل هو امرؤ القيس بن النعمان الذي جعله حمزة ملكًا بعد أبي يعفر؟ لا يستبعد أن يكون هو إن صحت رواية حمزة.
بعد أبي يعفر؟ لا يستبعد أن يكون هو إن صحت رواية حمزة.
ويلاحظ أن المؤرخين البيزنطيين واللاتين قد أطلقوا على المنذر "Alamoundaros O Sacicus" و"Alamundarus O Sacices" و "Alamundarus O Sacicis" وغير ذلك1، مما يفهم منه أنهم قصدوا بـ "Sacicus" و"Sacicis""Sacices"وأمثال ذلك كلمة "شقيقة""الشقيقة" العربية، وأنهم أرادوا المنذر بن الشقيقة، وهو هذا المنذر الذي نتحدث عنه في رأس المستشرقين، لذلك ذهب بعض المستشرقين إلى أن أم المنذر هي "الشقيقة""شقيقة"، وذهب آخرون إلى أنها لم تكن أمه، وإنما قيل له ذلك؛ لأنه كان من آل الشقيقة الشهيرة، فعرف عند أولئك المؤرخين بابن الشقيقة أو بالمنذر ابن الشقيقة كما دعي الملوك بعد المنذر ببني ماء السماء2.
أما الأخباريون فقد جعلوا شقيقة أمًّا للنعمان الأعور كما رأيت، ولم يشيروا إلى ملك اسمه المنذر واسم أمه شقيقة، فأيهما المصيب؟ الأخباريون أم المؤرخون اليونان واللاتين والسريان؟ وهل نحن أمام ملك آخر اسمه المنذر بن الشقيقة حكم في أوائل القرن السادس للميلاد؟
وذكر الأخباريون أن المنذر كان قد تزوج هندًا بنت آكل المرار3، فولدت له أولادًا منهم عمرو بن هند الذي ولى الملك بعده، وقابوس، ثم تزوج أختها أمامة فولدت له ولدًا اسمه عمرو وهو المقتول بوادي القضيب4.
1 Rothstein، S. 76.
2 Rothstein، S. 76.
3 الروض الأنف "1/ 22".
4 البلدان "7/ 118"، "وهو ابن أمامة"، الروض الأنف "1/ 22".
ويرى بعض الباحثين أن حكم "المنذر" كان في حوالي السنة "508م"، أو قبل ذلك بقليل في حوالي السنة "506م". وأما انتهاء ملكه فكان في حوالي السنة "554م"1.
وكان قباذ قد عقد صلحًا في عام "506" للميلاد مع الروم بعد الحرب التي استمرت من سنة "502" حتى سنة "506م"، غير أن هذا الصلح لم يدم طويلًا. ففي سنة "518" للميلاد تجدد الخلاف بين الفرس والروم، وذلك على أثر مطالبة قباذ القيصر "جستينوس""يوسطينوس""Justinus" الأول بدفع الإتاوة التي اتفق في صلح "506م" على دفعها للفرس. وبناء على تباطؤ القيصر في دفعها حرض قباذ المنذر على التحرش بحدود الروم، وقام المنذر بغزوها في سنة "519م"2.
لقد تمكن المنذر في بعض حروبه مع الروم من أسر قائدين هما "ديموستراتوس""تيموستراتوس""Timostratus""Denostratus" ويوحنا3 "Johannes". وأراد القيصر أن يفك أسر هذه القائدين ويعقد صلحًا وحلفًا بين الروم والمنذر، فأرسل –على ما يظهر- رسولًا خاصًّا إلى المنذر هو "إبراهيم""Abraham" والد الكاتب المؤرخ "نونوسوس""Nonnosus"، ومعه "شمعون الأرشامي""Symeon Of Beth Arsham" و"سرجيوس""Sergius" أسقف الرصافة "بيت رصافة". وقد وصل الوفد إلى المنذر في السنة السادسة "السنة السابعة" من حكم "جستينوس""يوسطينوس" الموافقة لسنة "835" من التقويم السلوقي ولسنة "524" للميلاد4. وكان المنذر آنئذ في البادية في موضع اسمه "رمله" "الرملة"، وقد نجحت مهمته فيما يخص فك أسر القائدين.
و"سرجيوس" هو مؤلف القسم السرياني الخاص بشهداء العربية الجنوبية، أي شهداء نجران5. وقد دونت في عهد أسقفيته على الرصافة أسماء الشهداء على
1 J. B. Bury، II، P. 91.
2 Rothstein، S. 79.
3 Rothstein، S. 80، Land، Anecd، III، 235.
4 Kitab Al-Unvan، Histoire Universelle Ecrite، Par Acapius Magbub، De Menbidj، Seconde Partie، II، P. 425.
5 Musil: Pamyrena، P. 267، Guidi: La Lattera Di Simeone Bescova Di Beth Arsham، P. 507.
الجدار الشمالي للكنيسة الكبرى، كنيسة القديس سرجيوس1.
وصادف وصول وفد الروم إلى المنذر وصول وفد آخر من اليمن أرسله ذو نواس الملك الشهير المعروف بتعذيبه نصارى نجران إلى المنذر ليفاوضه على تعذيب من في مملكته من النصارى. وقد دون "شمعون الأرشامي" قصة تعذيب هذه مدعيًا أنه نقلها من الكتاب الذي قرئ على الملك ومن أقوال من عرفه من الحاضرين، دونها في صورة كتاب ليقرأ في الكنائس ويطلع عليه المؤمنون. وقد نشر هذا الكتاب، وطبعت ترجمته كذلك2.
وذكر أن القيصر "جستينوس""يوسطينوس""Justinus" كتب إلى المنذر بن النعمان طالبًا منه إخراج من في أرضه من القائلين بالطبيعة الواحدة3. وقد جادلهم في مجلس عقده بحضرة المنذر "شيلا" الجاثليق. فلما سمع هؤلاء بذلك، هرب بعضهم إلى نجران وأقاموا هناك. وكان من مؤيديهم الحجاج بن قيس الحيري صاحب المنذر.
يظهر أن أمل القيصر في عقد هدنة أو معاهدة مع المنذر لم يتحقق، أو أنه تحقق ولكن إلى حين، فلما ساءت العلاقات بين الروم والفرس، ووقعت الحرب سنة "528م" بين الجانبين، هاجم المنذر الروم مؤيدًا الفرس، وكان له أثر خطير في هذه الحرب، وقد توغل في بلاد الشأم، وغنم منها غنائم كثيرة،
ولكنه لم يبق فيها أمدًا طويلًا، فعاد مع جنوده سريعًا إلى قاعدته كعادة سائر الملوك بعد أن أشبع نفسه من غنائم الحرب4.
ونجد المنذر يجدد هجومه على بلاد الشأم، بعد مدة قصيرة من هجومه الأول. لقد هاجمها سنة "529م". وتوغل فيها حتى بلغ حدود أنطاكية، وأحرق
1 Musil، Palmyrena، P. 265.
2 Land: Anecs، 3، 235، Assemani: Bibl. Orient، I، 364.
3 "يوسطينيانس"، "وفي هذه السنة وجه يوسطينيانس وفدًا إلى المنذر ملك العرب ليصالحه؛ لأنه كان غزا الروم وخرب وسبا، وكان سبب الفتنة بين العرب والروم اضطهاد الملك يوسطينيانس الآباء، القائلين بالطبيعة الواحدة؛ لأن النصارى العرب يومئذ إنما كانوا يعتقدون اعتقاد اليعقوبية لا غير" ابن العبري، تأريخ مختصر الدول "ص 148". Histoire Nestorienne Chronique De Seert، Seconde Partie، P. 143.
4 Noldeke: Sasa، II Anm. 3، Malalas، II، 166، Rothstein، S. 81.
عددًا من المواضع ومنها موضع "خلقيدون""خلقيدونية""Chalcedon" وقد زعم بعض المؤرخين السريان أنه ضحى بأربع مئة راهبة للعزى1، وهي دعوى تحتاج بالطبع إلى درس.
وقد عرض ابن العبري لتوغل المنذر في أرض الروم، واستيلائه على أرضين واسعة شملت كل منطقة الحدود، ومنها أرض الخابور ونصيبين، حتى بلغ "حمص""Emessa" و"أباميا""فامية""Apamea" وأنطاكية "Antioch" زاعمًا أنه قتل عددًا كبيرًا من السكان، وخرب أكثر تلك الأرضين، ذاكرًا أنه اختار من بين الأسرى أربعمئة راهبة أخذهن لنفسه، غير أنه لم يذكر أنه قدمهن قربانًا إلى العزى2.
وقد اضطر هذا الغزو القيصر "يوسطنيانوس""Justinianus" الذي خلف "يوسطينوس" إلى نصب الحارث الجفني "فيلارخا""فيلاركا""Phylarch"، أي عاملًا على عرب بلاد الشأم لحماية الحدود من اعتداءات المنذر وعرب العراق3.
وقد عوض قباذ الخسارة التي لحقت به عند موضع "دارا" بربح ناله بواسطة المنذر. لقد قام المنذر وأحد القواد الفرس بمهاجمة منطقة الفرات "Euphratesia" وهي منطقة "قوماجين""Commagene"، فلما تصدى لها القائد "بليزاريوس""Belisarius" تراجعًا، ثم التقيا به عند الرقة "Callinikos" فانتصرا عليه. وقد كان ذلك في السنة الرابعة من حكم "يوسطنيانوس""Justinianus" أي في سنة "531م"4.
وقد اشترك الحارث بن جبلة في هذه الحرب مع الروم، وأنيطت به حماية الجانب الأيمن في القتال الذي اضطرم مع الفرس، أما المنذر وجيشه، فكان يكون الجناح الأيسر لجيش الفرس، أي الجناح المقابل لعرب الروم5.
1 Malals II، 166، Noldeke: Ghass، II، Theophanes، 237 Land: Anecd: Syr، III، P. 247، Rothstein، S. 81، Pauly-Wissoa، Erster Band، 1893، S. 1281.
2 Bar Hebraeus، 78، Noldeke: Aufstaze، 112.
3 Rothstein، S. 81.
4 Procopius، I، 17، 18، Rothstein، S. 81.
5 Musil: Palmyrena، P. 274، Procopius: De Bello، I، 17.
وعلى الرغم من الصلح الذي عقد في عام "532م" بين الفرس والروم، لم ينقطع النزاع بين الحارث الجفني والمنذر بسبب اختلافهما على الإتاوة التي تجبى من أعراب الـ "Strata"، أي المنطقة الواقعة في جنوب تدمر، وهي منطقة رعي لا شجر فيها ولا زراعة. وقد زعم "بروكوبيوس" أن كسرى، حرض المنذر على التحرش بالحارث، للإخلال بشروط الصلح، وإيجاد سبب لتجديد الحرب، وأن القيصر يوسطنيانوس "Justinianus" كلف رجلين من ثقاته وهما "ستراتيجيوس""Strategius"، وهو من أصحاب الخبرة والحنكة في الشؤون الإدارية، و"سوموس""Summus" وهو ممن قادوا الجيوش في فلسطين ومن السفراء الذين سبق أن كلفوا القيام بمهمات سياسية فأرسل رسولًا إلى نجاشي الحبشة وإلى ملك حمير "Homeritae" دراسة النزاع وإيجاد حل للمشكلة، فأشار "سوموس" على القيصر بعدم إجابة طلب المنذر وبالاحتفاظ بالأرض، أما "ستراتيجيوس"، فقد رأى أن الموضوع تافه وأن الأرض المتنازع عليها لا تستحق كل هذا الاهتمام. وقد مضى وقت طويل دون أن يجزم القيصر برأي1.
وفي هذه الأثناء ادعى كسرى أن القيصر قد أخل بشروط الصلح باتصاله بالمنذر "Alamoundarus" وبمحاولته التأثير عليه وجره إليه. وبإرساله "سوموس" إلى المنذر مع كتاب خاص من القيصر يمنيه بالوعود وبمبالغ كبيرة من المال إذا انضم إلى الروم، وبأمور أخرى اتخذها حجة لإعلان إخلال الروم بالصلج2. وصار يتهيأ لحرب جديدة حتى تهيأت له الأسباب، وذلك في عام "540م"3.
وبعد مراسلات بين الفرس والروم دون بعضها "بروكوبيوس"، وهي مراسلات جميلة ترينا فن الدبلوماسية ومنطق الملوك في ذلك العهد، هاجم الفرس الروم. وغزا الحارث أرض الجزيرة للوقوف على قوة الفرس، ومقدرتهم4، وهاجم المنذر بلاد الشأم فبلغ فينيقية، وتوغل في مناطق واسعة من لبنان5.
وقد أشار الطبري إلى هذا النزاع الذي وقع بين المنذر والحارث بن جبلة،
1 Procopius، II، I، Gibbon، II، P. 607، The Modern Library.
2 Procopius، II، 12-15.
3 Procopius، II، V، Vol، I، P. 295، Dewing.
4 Procopius II، XVI، 4-6، II، XIX، 15-20.
5 Procopius، II، XII، XIX، 32-46.
في أثناء كلامه على الحبشة في اليمن وعلى دخول الفرس إليها، كما أشار إلى الموادعة والهدنة التي عقدت بين كسرى أنو شروان والقيصر، وقد سماه "يخطيانوس" أي "جستنيان""جستنيانوس""Justinianus"، فقال:"وكان فيما ذكر بين كسرى أنو شروان وبين يخطيانوس ملك الروم موادعة وهدنة. فوقع بين رجل من العرب كان ملكه يخطيانوس على عرب الشأم يقال له خالد بن جبلة وبين رجل من لخم كان ملكه كسرى على ما بين عمان والبحرين واليمامة إلى الطائف وسائر الحجاز ومن فيها من العرب يقال له المنذر بن النعمان نائرة. فأغار خالد بن جبلة على حيز المنذر، فقتل من أصحابه مقتلة عظيمة وغنم أموالًا من أمواله فشكا ذلك المنذر إلى كسرى وسأله الكتاب إلى ملك الروم في إنصافه من خالد، فكتب كسرى إلى يخطيانوس يذكر ما بينهما من العهد على الهدنة والصلح ويعلمه ما لقي المنذر عامله على العرب من خالد بن جبلة الذي ملكه على من في بلاده من العرب، ويسأله أن يأمر خالدًا أن يرد على المنذر ما غنم من حيزه وبلاده ويدفع إليه دية من قتل من عربها وينصف المنذر من خالد وأن لا يستخف بما كتب به من ذلك فيكون انتقاص ما بينهما من العهد والهدنة بسببه، وواتر الكتب إلى يخطيانوس في إنصاف المنذر فلم يحفل بها. فاستعد كسرى فغزا بلاد يخطيانوس في بضعة وتسعين ألف مقاتل فأخذ مدينة دارا ومدينة الرهاء ومدينة منبج ومدينة قنسرين ومدينة حلب ومدينة أنطاكية وكانت أفضل مدينة بالشام ومدينة فامية ومدينة حمص ومدنًا كثيرة متاخمة لهذه المدائن عنوة واحتوى على ما كان فيها من الأموال والعروض وسبي أهل مدينة أنطاكية ونقلهم إلى أرض السواد"1.
ويظهر من سياق هذه الرواية أن الطبري لم يكن على علم واضح بالمنذر بن النعمان ولا بخالد بن جبلة. وقد نقل روايته هذه من غير نقد ولا مناقشة، فالشخص الذي تخاصم المنذر معه هو الحارث بن جبلة، لا خالد بن جبلة. وقد وهم المورد الذي نقل الطبري منه، فظن أنه خالد بن جبلة. وهو مورد يظهر كما يتبين من سياق الحديث أنه اعتمد على كتاب من كتب التأريخ، لعله من المؤلفات الفارسية أو السريانية، وقد نقل الدينوري منه أيضًا، فذكر خالد بن جبلة2.
1 الطبري "2/ 121 وما بعدها"، "2/ 149"، "دار المعارف".
2 الأخبار الطوال "70 وما بعدها".
وفي رواية الطبري عن ملك المنذر مبالغة على ما يظهر، فليس في الأخبار التي يرويها الأخباريون عن هذا الوقت رواية واحدة يفهم منها أن نفوذ الفرس قد شمل هذه الأرضين الواسعة الممتدة من الحجاز إلى ساحل الخليج، وليس فيها خبر واحد يفهم منه أن ملك المنذر قد شمل الطائف وسائر الحجاز. ولو كان ملكه قد بلغ هذه البلاد لوعت ذلك ذاكرة أهل الأخبار شيئًا عنه، إذ أنه لم يكن بعيد عهد عن الإسلام.
ولم تنقطع المناوشات بين الحارث والمنذر، بالرغم من الهدنة التي اتفق الفرس والروم على عقدها لمدة خمس سنوات وذلك في سنة "545م"1. فبعد مدة قصيرة من التوقيع عليها، عادت نيران الحرب فاستعرت بين الحارث والمنذر من غير أن يتدخل الفرس أو الروم في هذا النزاع، وقد تمكن المنذر من بماغتة أحد أبناء الحارث: وكان يكلئ خيله في البادية، فأسره، وقدمه على ما يقوله بروكوبيوس ضحية إلى العزى2 "Aphrodite". وبعد أن جمع كل واحد منهما كل ما يملك من قوة ومن حديد، اشتبكا في حرب جديدة انتصر فيها الحارث انتصارًا كبيرًا، وقتل عددًا كبيرًا من جنود خصمه. فلما رأى ما حل به، فر هو ومن بقي حيًّا من أتباعه، تاركًا اثنين من أبنائه في جملة من وقع في الأسر3.
وقد تكون غارة قيس بن سلمة بن الحارث الكندي على الحيرة غارة انتقامية من المنذر لما أنزله بآل كندة من خسائر. ويظهر أن قيسًا قد باغت المنذر وفاجأه بغارة خاطفة اضطرته إلى الهزيمة والالتجاء إلى الخورنق مع ابنيه عمرو وقابوس. وبعد مضي عام على هذه الهزيمة، انتقم المنذر لنفسه بغارة أغارها على كندة كلفت الكنديين اثني عشر أميرًا من بني حجر بن عمرو وقعوا في أسره في مكان يسمى ذات الشقوق، ثم أمر بعد ذلك بضرب أعناقهم في الجفر، وهو الموضع الذي أطلق عليه لهذه الحادثة جفر الأملاك، وهو موضع "دير بني مرينا" الذي أشير إليه في الشعر المنسوب لامرئ القيس4.
ويذكر أهل الأخبار أن الشاعر "امرأ القيس الكندي" كان في جملة من
1 Procopius، II، 28، 9-11.
2 Procopius، II، 28، 12-14.
3 Procopius، II، 28، 13-14.
4 شعراء النصرانية "ص4".
وقع أسيرًا، إلا أنه أفلت من الأسر ونجا بنفسه، فقال شعرًا يرثي به من قتل، منه:
ملوك من بني عمرو بن حجر
…
يساقون العيشة يقتلونا
فلو في يوم معركة أصيبوا
…
ولكن في ديار بني مرينا
ولم تغسل جماجمهم بغسل
…
ولكن في الدماء مرملينا
فهو يتألم ويتأفف من سقوط قومه قتلى، لا في حرب ولا في معركة، ولكن في "ديار بني مرينا"، فأية مصيبة أعظم من هذه المصيبة؟ ملوك أحرار شجعان يقتلون في مثل هذه الديار.
وفي رواية أن الذين قتلوا من بني حجر آكل المرار في جفر الأملاك هم تسعة واستشهدت على ذلك بشعر للحارث بن حلزة جاء فيه:
وفديناهم بتسعة أملا
…
ك كرام أسلابهم أغلاء1
وأشير في قصيدة هذا الشاعر إلى الجون. وهو جون آل بني الأوس، وهو في شرح الرواة ملك من ملوك كندة، وهو ابن قيس بن معد يكرب. قالوا: وكان الجون جاء ليمنع بني آكل المرار، ومعه كتيبة خشناء، فحاربته بكر، فهزموه، وأخذوا بني الجون، فجاءوا بهم إلى المنذر، فقتلهم2.
وفي بعض الروايات أن المنذر توسط لعقد الصلح بين بكر وتغلب واشترط أن أي رجل وجد قتيلًا في دار قوم فهم ضامنون لدمه، وإن وجد بين محلتين قيس ما بينهما، فينظر أقربهما إليه، فتضمن ذلك القتيل. وأخذ من الفريقين رهنًا بأحداثهم، فمتى التوى أحد منهم بحق صاحبه أقاد من الرهن3.
وفي عهد هذا الملك وقع "يوم طخفة" بحسب رواية بعض الأخباريين.
1 الأغاني "11/ 48""طبعة دار الكتب المصرية"، شرح المعلقات السبع للزوزني "دار صادر""ص166".
2 الأغاني "11/ 48""طبعة دار الكتب"، الزوزني، شرح المعلقات السبع "ص 165". "صادر".
3 الأغاني "11/ 44""دار الكتب المصرية".
ويذكر هؤلاء أنه وقع بسبب "الردافة" وقيل: "الرفادة". فقد كانت ردافة ملوك الحيرة في "بني يربوع"، وكانت لعتاب بن هرمي بن رياح بن يربوع في عهد "المنذر بن ماء السماء". فلما توفي، صارت إلى ابنه "قيس ابن عتاب""عوف بن عتاب الرياحي". بحكم الوراثة، وكان حديث السن، فأشار "حاجب بن زرارة" على الملك أن يجعلها لرجل كهل له سن وعقل، وأشار عليه باختيار "الحارث بن بيبة المجاشعي" "الحارث بن مرط بن سفيان ابن مجاشع"1 ولما فاتح الملك "بني يربوع" برأيه هذا: غضبوا وأبوا، وأصر الملك على رأيه، وإلا حاربهم، فأبوا واستعدا للقتال، وساروا إلى موضع "طخفة" وتحصنوا به، فأرسل المنذر في أثرهم جيشًا كبيرًا من أفناء الناس، عليه حسان أخوه وقابوس ابنه وبعث معهم الصنائع والوضائع، اشتبك مع "بني يربوع" في هذا المكان، وصبر بنو يربوع وثبتوا، ثم أغاروا على جيش المنذر، فانهزم ووقع القتل فيه، وانهزم قابوس ومن معه، وضرب طارق أبو عميرة "طارق ابن عميرة" فرس قابوس فعقره وأسره، وأراد أن يجز ناصيته، فقال: إن الملوك لا تجز نواصيها، وأسر حسانًا بشر بن عمرو بن جوين2، فعاد المنهزمون إلى المنذر، وكان المنذر قد احتبس "شهاب بن عبد "قيس" بن كياس اليربوعي" عنده، فلما رأى سوء العاقبة، استدعاه، فقال له:"يا شهاب، أدرك ابني وأخي، فإن أدركتهما حيين، فلبني يربوع حكمهم، وأرد عليهم ردافتهم، وأترك لهم من قتلوا وما غنموا، وأعطيهم ألفي بعير"، فذهب إلى قومه وأعادهما، ووفى الملك بما قال. ونجد للأحوص وللفرزدق ولأم موسى الكلابية شعرًا في هذا اليوم3.
وفي عهد المنذر، كان يوم "أوارة الأول" على قول أهل الأخبار. وسببه
1 نهاية الأرب "15/ 413". "22 نهاية الأرب "15/ 413"، الاشتقاق "147"، "ومنه طخفة لبني يربوع على قابوس بن المنذر بن ماء السماء"، اللسان "9/ 213"، "دار صادر" "طخف".
2 نهاية الأرب "15/ 413"، "بشر بن عمرو والرياحي"، العمدة لابن رشيق "2/ 201".
3 البلدان "6/ 32"، النقائض "1/ 66، 285"، "2/ 924"، الأغاني "3/ 176"، ابن الأثير "1/ 396"، العقد الفريد "3/ 359"، أيام العرب "94".
أن تغلب لما أخرجت "سلمة بن الحارث" عنها، التجأ إلى "بكر بن وائل" ولما بلغ بكرًا أذعنت له تغلب ودانت لحكمه، وقالت له:"لا يملكنا غيرك"، فأرسل إليهم "المنذر" يدعوهم إلى طاعته، فلم يجيبوه، فحلف المنذر ليسيرن إليهم فإن ظفر بهم ذبحهم على قلة جبل أوارة حتى يبلغ الدم الحضيض، وسار إليهم بمجموعه ليبر بقسمه، والتقى بهم بأوارة، فهزمت بكر، وأسر "يزيد بن شرحبيل الكندي"، فأمر المنذر بقتله فقتل، وقتل خلق كثير من بكر، وأمر المنذر بذبح الأسرى الرجال على قلة جبل أوارة، وبإحراق النساء، وإلى ذلك أشار الأعشى بقوله:
سبايا بني شيبان يوم أوارة
…
على النار إذ تجلى به فتياتها1
وختم عام "554م" هذا النزاع العنيف الذي أتعب الحارث والمنذر فاستراح الجانبان، ختم بسقوط المنذر بن النعمان" مونذر بر نعمن""ملك العرب" صريعًا بيد خصمه الحارث بن جبلة بعيدًا عن عاصمة ملكه، ففي منطقة قنسرين على روايات المؤرخين السريان، ففي السنة السابعة والعشرين من حكم القيصر "يوسطنيانوس""جستنيان""Justinianus" هاجم المنذر منطقة "Rhomaye" التابعة لحكم الروم، فنازله الحارث بن جبلة، وتغلب عليه، وقتله عند عين "عودايا""Wdaja" في منطقة قنسرين. وقد سقط في هذه المعركة أحد أبناء الحارث، فدفنه أبوه في قلعة هذا الموضع2.
و"عودايا"، هو "العذية" على رأي موسل، وهو من مواضع منطقة "بالميرينا""Palmyrena"، أي منطقة تدمر، ومعظم هذه المنطقة هي من أعمال قنسرين3.
1 الأغاني "1/ 122"، الكامل، لابن الأثير "1/ 259"، العقد الفريد "3/ 154"، العمدة لابن رشيق "2/ 215 وما بعدها"، المختصر في أخبار البشر "1/ 100"، مراصد، "1/ 127"، اللسان "4/ 35"، البكري، معجم "1/ 207"، البلدان "1/ 273"، أيام العرب "99".
2 أمراء غسان "ص 18".
Bar Hebraeus، 81، Vol، I، P. 76.
The English Translation، London، 1932، Michael The Syrian، Chronicle، Vol، 4، P. 323، Musil، Palmyrena، P. 144، Rothstein، S. 83.
3 Musil، Palyrena، P. 144.
وقد فهم "أوليري" من رواية للمؤرخ "ثيوفانس" أن المنذر كان حيًّا حتى سنة "562م"، وهي السنة التي عقد فيها الصلح بين الروم والفرس، وفيها توفي1.
وقد ذكر "هارتمن""Hartmann" أن المنذر هذا حارب في صفوف الرومان في أيام القيصر "طيباريوس الثاني""Tiberius II"، غير أنه خانهم وغدر بهم في إحدى المعارك التي قادها "مرويقيوس""Mauricius" فلما صار "موريقيوس" قيصرًا قبض عليه، ونفى معه زوجته وبعض أبنائه إلى جزيرة صقلية2. ولم يقل هذا القول أحد، وإنما قصد المورد الذي استند إليه هارتمن وهو "ايواكريوس" "Evagrius" منذرًا آخر غير المنذر الذي نتحدث عنه3.
وسبق لأوليري أن ظن هذا الظن، فذكر أن المنذر حدس أن في الفرس ضعفًا، وذلك بسبب انقطاع الحروب مدة بين الفرس والروم، فانضم إلى الروم وصار حليفًا لهم، وحارب معهم. فلما تبين لديه الأمر، عاد إلى حلفائه القدامى الفرس. فلما وقع في إحدى المعارك أسيرًا في أيدي الروم، نفاه القيصر موريقيوس سنة "580م" ونفى معه زوجته وبعض أولاده إلى صقلية4. ومصدر وهمهما هو اعتمادهما على رواية للمؤرخين "ايواكريوس" "Evagrius" و" نيقيفورس كالستوس" "Nicephorus Callistus" من غير أن يمحصاها. فالمنذر المقصود في هذه الرواية ليس هذا المنذر، وإنما هو المنذر بن الحارث بن جبلة الذي نفي بعد أن اتهمه الروم باتصاله من طرف خفي بالفرس، وأنه كان السبب في إخفاق الحملة التي قادها "موريقيوس" يوم كان قائدًا، فلما صار قيصرًا، انتقم منه بالنفي.
أما الذي عليه أكثر الأخباريين فهو: أن قتل المنذر كان في عين أباغ في
1 O'Leary، P. 160، Theophanes، P. 205.
2 Paulys-Wissowa، Erster Halbband، S. 1281.
3 Evagrius Scholasticus، V، 20، VI، 2، Paulys-Wissowa، Erster Halbband، S. 1281.
4 O'Leary، P. 160، Evagrius، Hist. Eccl، 5، 60، 6، 2: Nicephorus Callistus، 18، 10.
المعركة التي عرفت بـ "يوم عين أباع"1. وعين أباغ بحسب وصف بعض الأخباريين واد من أودية العراق وراء الأنبار على الفرات بين الكوفة والرقة، لا يبعد كثيرًا عن الحيرة2. وسبب وقوع هذه المعركة على ما يقولونه، هو أن المنذر بن ماء السماء سار من الحيرة في معد كلها حتى نزل بعين أباغ، وأرسل إلى الحارث الأعرج بن جبلة: إما أن تعطيني الفدية فأنصرف عنك بجنودي، وإما أن تأذن بحرب. فأرسل إليه الحارث: أنظرنا ننظر في أمرنا. فجمع عساكره وسار نحو المنذر فلما التقى به في عين أباغ، اقتتلا، فقتل المنذر، وقتل فيها ابنان للحارث. فسار الحارث بولديه القتيلين إلى الحيرة، فأنهبها وأحرقها ودفن ابنيه بها ثم عاد3.
ويذكر أهل الأخبار أن "عين أباغ" كانت منازل "إياد"، وأن "أباغ" رجل من العمالقة نزل ذلك المكان فنسب إليه. وقد اختلفت الأقوال في "عين أباغ فمنهم من جعلها موضعًا بين الكوفة والرقة، ومنهم من جعلها عين ماء، ومنهم من ينكر أنها عين ماء، ويرى أنها واد وراء الأنبار على طريق الفرات إلى الشأم، ومنهم من يجعلها في "ذات الخيار"4.
ويظهر من تعليقات ابن الأثير على هذه المعركة أن من كان يرى أن اسم الملك الغساني الذي انتصر في هذا اليوم هو أبو شمر عمرو بن جبلة بن الحارث ابن حجر بن النعمان بن الحارث بن الأيهم بن الحارث بن مارية الغساني، أو هو رجل من الأزد تغلب على غيرهما، وقد رجح هو رواية من قال إنه الحارث
1 حمزة "ص 70"، ابن الأثير، الكامل "1/ 222"، العقد الفريد 3/ 374"، ديوان الحماسة "2/ 346"، اللسان "10/ 298"، أيام العرب "51".
2 البلدان "1/ 73"، "6/ 251"، "1/ 73"، "طهران"، البكري "1/ 64"، ابن دريد، الاشتقاق "209"، الأغاني "27/ 198"، الحموي، المشترك "319"، اللسان "8/ 417".
Noldeke، Hgass، 18، Rothstein، S. 2، 38.
3 ابن الأثير، الكامل "1/ 222 وما بعدها"، "1/ 320 وما بعدها""المنيرية". أبو الفداء، المختصر "1/ 97"، ديوان النابغة "74"، البلدان "1/ 73"، ابن خلدون "الجزء الثاني"، القسم الثالث "ص 542"، "بيروت"، "حتى نزل بعين أباغ في ذات الخيار"، ابن الأثير، الكامل "1/ 320 وما بعدها".
4 أبو الفداء، المختصر" 1/ 97"، ديوان النابغة "74"، البلدان "1/ 73"، ابن خلدون "الجزء الثاني" القسم الثالث "ص 542"، "بيروت"، "حتى نزل بعين أباغ في ذات الخيار"، ابن الأثير، الكامل "1/ 320 وما بعدها".
الأعرج بن جبلة، وهي رواية أكثرية الأخباريين1. ويؤيد هذه الرواية روايات المؤرخين السريان الذين سموا اسم ملك عرب الشأم، فدعوه "حرث برجابالا" أي الحارث بن جبلة "حارث بن جبل". ويلاحظ أن ابن العبري استعمل جملة "ملك العرب" للمنذر2. كما استعملها غيره من المؤرخين.
ويرى "ابن الأثير": أن "الحارث" لما بلغ "عين أباغ" أرسل إلى "المنذر" يقول: إنا شيخان هنا، فلا تهلك جنودي وجنودك، ولكن ليخرج رجل من ولدك، وليخرج رجل من ولدي، فمن قتل خرج عوضه، فإذا فني أولادك وأولادي خرجت أنا إليك، ومن قتل صاحبه ذهب بالملك. فتعاهدا على ذلك. فعهد المنذر إلى رجل من شجعانه، فأمره أن يخرج، ويظهر أنه ابن المنذر. فلما خرج، أخرج إليه الحارث ابنه "أبا بكر". فلما رآه، رجع إلى أبيه، وقال: إن هذا ليس بابن المنذر، إنما هو عبده أبو بعض شجعانه، فقال له الحارث: يا بني أجزعت من الموت؟ فعاد إليه وقاتله، فقتله الفارس، فألقى رأسه بين يدي المنذر. وعاد فأمر الحارث ابنه الآخر بقتاله والطلب بثأر أخيه، فخرج إليه، فشد عليه الفارس وقتله. فلما رأى ذلك" شمر بن عمرو الحنفي"، وكانت أمه غسانية، وهو مع المنذر، غضب، وقال للمنذر. أيها الملك، إن الغدر ليس من شيم الملوك ولا الكرام. وقد غدرت بابن عمك. فغضب المنذر. وهرب "شمر" إلى الحارث فأخبره. فلما كان الغد، أرسل الحارث أصحابه، وحرضهم، وكانوا أربعين ألفًا، واصطفوا للقتال، فاقتتلوا قتالًا شديدًا، وقتل المنذر وهزمت جيوشه. فأمر الحارث بابنيه القتيلين فحملا على بعير، وسار إلى الحيرة فانتهبها وأحرقها، ودفن ابنيه بها، وبنى الغريين عليهما في قول بعضهم3. والمعروف أن الذي بنى الغريين هو النعمان بن المنذر فوق قبري نديميه.
وأشار حمزة أيضًا إلى اختلاف الرواة في القاتل والمقتول في يوم عين أباغ،
1 ابن الأثير "1/ 222".
2 مختصر تأريخ الدول "ص148"، "بيروت 1890".
Bar Hebraeus، 81، Vol، I، P. 76.
3 الكامل "1/ 320 وما بعدها"، العقد الفريد "3/ 374".
فقال: وقتله الحارث الأعرج، وهو الحارث الوهاب الجفني يوم عين أباغ. وهو اليوم الذي قيل فيه ما يوم حليمة بسر. وفي كتاب المعارف: أن الذي قتله الحارث الأعرج في يوم حليمة هو المنذر بن امرئ القيس. وكان يوم عين أباغ بعد يوم حليمة. والمقتول في يوم عين أباغ المنذر بن المنذر. وكان خرج يطلب بدم أبيه. فقتله الحارث الأعرج أيضًا. وقد سمعنا أن قاتله مرة بن كلثوم أخو عمرو بن كلثوم التغلبي1.
وقد ذكر "ابن قتيبة" في "كتاب المعارف" أن الحارث بن أبي شمر الغساني، وهو الحارث الأعرج، هو الذي قتل المنذر بن امرئ القيس، قتله بـ "الخيار2". ويظهر من خبره هذا أن قتل المنذر إنما كان بـ "الخيار"، لا في "يوم حليمة"، وأن "الخيار" أو "الحيار" موضع أقرب ما يكون إلى الحيرة منه إلى بلاد الشام.
وهناك رواية أخرى عن مقتل المنذر بن ماء السماء نجدها مدونة في الأغاني، لم تشر إلى عين أباغ ولا إلى يوم حليمة، أو ذات الخيار، خلاصتها. أن شمرًا ابن عمرو الحنفي أحد بني سحيم هو الذي قتل المنذر بن ماء السماء، قتله غيلة لما حارب الحارث بن جبلة الغساني، فبعث إلى المنذر بمئة غلام تحت لواء شمر هذا، يسأله الأمان على أن يخرج له عن ملكه، ويكون له من قبله. فركن المنذر إلى ذلك، وأقام الغلمان معه، فاغتاله شمر بن عمرو الحنفي، فقتله غيلة. وتفرق معه من كان مع المنذر، وانتهبوا عسكره3. وذكر "ابن دريد" أن قاتل المنذر الأكبر، وهو جد النعمان بن المنذر، يوم عين أباغ، هو "شمر بن يزيد". وهو من "بني حنيفة"، وكان في جند الملك الغساني"4.
وتحدث "ابن خلدون" عن "يوم عين أباغ"، فقال:"كان جبلة بن النعمان صاحب يوم عين أباغ، يوم كانت الهزيمة له على المنذر بن ماء السماء. وقتل المنذر في ذلك اليوم"5. ولكننا نجده يقول في موضع آخر: "عمرو بن
1 حمزة "ص70".
2 المعارف "ص 283""طبعة محمد إسماعيل عبد الله الصاوي".
3 الأغاني "11/ 46""دار الكتب المصرية"، العقد الفريد "2/ 66"، الاشتقاق "209"، البكري "1/ 64".
4 الاشتقاق "2/ 209".
5 ابن خلدون، الجزء الثاني، القسم الثالث "ص 586""بيروت".
عمرو بن عبد الله بن عبد العزى، قاتل المنذر بن ماء السماء في يوم عين أباغ"1. وذكر أن "عمرًا" هذا هو ابن عم" علي بن ثمامة بن عمر بن عبد العزى بن سحيم بن مرة" وهو الذي توجه كسرى2. وقد ذكر أن "جبلة بن النعمان" صاحب يوم عين أباغ، كان منزله بصفين.
وفي رواية أخرى أن "حليمة" كانت قد أخرجت خلوقًا، فخلقت به الفتيان. ولما خلقت أحدهم، واسمه "لبيد بن عمرو"، دنا منها فقبلها، فلطمته وبكت، فأمسكها أبوها، ثم ذهب من ذهب وفيهم "شمر بن عمرو الحنفي" وكانت أمه من غسان، إلى "المنذر" متظاهرين أنهم جاؤوا إليه ليخبروه أن الحارث يدين للمنذر، وهو يريد أن يعطيه حاجته، فتباشر أهل عسكر المنذر، وغفلوا بعض غفلة، فحمل الغلمان على المنذر وقتلوه، فقيل:"ليس يوم حليمة بسر"، فذهب مثلًا3.
وذكر "ابن قتيبة" أن "الحارث ابن أبي شمر الغساني، وهو الأعرج وجه إلى المنذر بن ماء السماء مئة فارس، فيهم الشاعر "لبيد بن ربيعة"، وأمره عليهم، فصاروا إلى عسكر المنذر، وأظهروا أنهم أتوه داخلين في طاعته، فلما تمكنوا منه قتلوه وركبوا خيلهم فقتل أكثرهم ونجا لبيد، حتى أتى ملك غسان، فأخبره الخبر، فحمل الغسانيون على عسكر المنذر فهزموهم. وهو يوم حليمة. وكانت حليمة بنت ملك غسان. وكانت طيبت هؤلاء الفتيان حين توجهوا وألبستهم الأكفان والدروع وبرانس الأضريج"4.
وقد جعل بعض الأخباريين عين اباغ "ذات الخيار"5، ويفيد قولهم هذا أن عين أباغ هو موضع يقع في منطقة تسمى ذات الخيار "الحيار"، ويرى "نولدكه" أن موضع "الحياران" الوراد في معلقة "الحارث" هو أيضًا هذا
1 المصدر نفسه "ص 626".
2 المصدر نفسه.
3 الميداني، مجمع الأمثال "2/ 295 وما بعدها".
4 الشعر والشعراء "ص 148"، "طبعة ليدن".
5 ابن الأثير "1/ 222".
المكان1. وللتثبت من هذا القول، لا بد من الوقوف على موضع ذات الخيار "الحيار" و"الحياران". وقد ذكر ياقوت الحموي أن الحيار صقع من برية قنسرين، كان الولد بن عبد الملك أقطعه القعقاع بن خليد بينه وبين حلب يومان2.
وهذا الوصف لموقع الحيار ينطبق على ما رواه المؤرخون السريان عن موضع مقتل المنذر كما يوافق رأي من جعل عين أباغ ذات الخيار.
وممن ذهب هذا المذهب، "أبو الفداء"، فقال في حديثه عن "يوم عين أباغ"، "ومن أيام العرب يوم عين أباغ، وكان بين غسان ولخم، وكان قائد غسان الحارث الذي طلب أدراع امرئ القيس، وقيل: غيره. وكان قائد لخم المنذر بن ماء السماء. وقتل المنذر في هذا اليوم، وانهزمت لخم، وتبعهم غسان إلى الحيرة، وأكثروا بينهم القتل. وعين أباغ في موضع يقال له ذات الخيار"3.
وذكر ابن عبد ربه المتوفي سنة 328هـ أن القتيل في يوم عين أباغ هو المنذر ابن ماء السماء وهو الذي تولى ملك الحيرة بعد قابوس وقبل النعمان بن المنذر، الذي قربه "عدي بن زيد العبادي" إلى كسرى. وأما القاتل، فهو الحارث الغساني4. ومرد أمثال هذا الاختلاف في أسماء الملوك في الروايات، إلى تشابه الأسماء إذ يصعب على الرواة، وهم يعتمدون في رواياتهم على الحفظ، أن يميزوا بعد مدة بين أمثال هذه الأسماء، فيحدث لهم مثل هذا الاضطراب.
ونجد هذا الرأي عند "النويري" كذلك، إذ جعله أيضًا والد "النعمان" الملك الأخير من ملوك الحيرة، والذي قتله كسرى كما سنرى فيما بعد5.
والنويري هو عيال على "ابن عبد ربه" في كثير من الأخبار، ولا سيما أخبار الأيام.
1 وهو الرب والشهيد على يوم الحيارين والبلاء بلاء.
المعلقة. البيت 82، شرح الزوزني "ص 169".
2 البلدان "3/ 375".
3 المختصر في تأريخ البشر "1/ 97""بيروت".
4 العقد الفريد "6/ 110"، "5/ 260""لجنة التأليف والترجمة والنشر، 1946م".
5 نهاية الأرب "1/ 430 وما بعدها".
ويتبين من غربلة الأخبار الواردة عن "يوم أباغ"، "يوم عين أباغ" أن من الأخباريين من يرى أن يوم عين أباغ ويوم حليمة، هما يوم واحد، ولا فرق بينهما، وقالوا إنما عرف ذلك اليوم بـ "يوم حليمة"، لبروز اسم "حليمة" فيه، وهي بنت ملك غسان، تخلق المحاربين وتحثهم على القتال. وأن من الأخباريين من جعل "يوم حليمة" يومًا آخر مغايرًا ليوم عين أباغ، ثم اختلفوا فيه، فمنهم من جعله قبل يوم عين أباغ، ومنهم من جعله بعده. وقد ذكروا أنه كان يومًا عظيمًا، اشترك فيه عدد كبير من المقاتلين، "وعظم الغبار حتى قيل: أن الشمس قد انحجبت وظهرت الكواكب المتباعدة من مطلع الشمس"1. وهذا مما يدل على اشتراك عدد كبير من المقاتلين فيه. وممن ذهب إلى أن "يوم حليمة" هو يوم آخر "ابن الأثير"، وقد جعله بعد "يوم عين أباغ". وقال: أنه وقع في موضع يعرف بـ "مرج حليمة"، وسببه أن المنذر لما قتل أراد ابنه "الأسود" الأخذ بالثأر، فسار في جيش لجب، والتقى بجيش "الحارث" في "مرج حليمة". ولما طالت الحرب، أمر الحارث ابنته "هند" بأن تخلق فتيان غسان، ونادى فتيان غسان: من قتل ملك الحيرة زوجته ابنتي هند فقال لبيد بن عمرو الغساني لأبيه: يا أبي أنا قاتل ملك الحيرة أو مقتول، ثم ركب فرسه، وشد على الأسود، فقتله، وانهزمت لخم ثانية، وقتلوا في كل وجه. وانصرفت غسان بأحسن ظفر في تفاصيل أخرى لا مجال لشرحها هنا2.
فيتبين من خبر "ابن الأثير" هذا أن الموضع الذي وقع فيه القتال اسمه "مرج حليمة"، وأن اسم ابنة الحارث هو "هند" لا حليمة، وأن المقتول فيه هو "الأسود" لا المنذر، وأن هذا اليوم قد وقع بعد "يوم عين أباغ".
وفي رواية أن الغساسنة تمكنوا في المعركة التي سقط فيها المنذر من أسر أحد أبنائه وهو امرؤ القيس، وبقي في أسرهم على أن أغارت بكر بن وائل على بعض بوادي الشام، فقتلوا ملكًا من ملوك غسان، واستنقذوا امرأ القيس بن المنذر، وأخذ عمرو بن هند بنتًا لذلك الملك يقال لها ميسون3. وقد ذهب "كوسان دي برسفال" إلى أن هذه الغارة كانت بقيادة أحد أبناء المنذر القتيل، وأنها
1 البلدان "2/ 325 وما بعدها"، أبو الفداء، المختصر "1/ 97".
2 الكامل "1/ 320 وما بعدها".
3 الأغاني "11/ 48".
كانت عارة انتقامية وقعت بعد المعركة التي سقط فيها ابن ماء السماء1. وقد أشار الحارث بن حلزة إلى ذلك في شعره مفتخرًا:
وفككنا غل امرئ القيس عنه
…
بعد ما طال حبسه والعناء
وقد زعم الشراح أن امرأ القيس هذا كان معروفًا بماء السماء2 أما الملك الغساني القتيل، فلم يشيروا إلى اسمه، وأشك في الذي رواه الأخباريون من أنه كان ملكًا. وأرى احتمال كونه أحد أبناء الملوك. واستعمال جملة "رب غسان"، هي من باب التفخيم للعمل الذي قامت به بكر.
وذكر بعض الرواة أن حجرًا الكندي، وهو في نظرهم حجر بن أم قطام، غزا امرأ القيس هذا، وكانت مع حجر جموع كثيرة من كندة، غير أن بكرًا التي كانت مع امرئ القيس قاتلته، وقتلت جنوده3.
وذهب بعض الأخباريين إلى أن مقتل المنذر بن ماء السماء هو في يوم حليمة، قتله الحارث بن أبي شمر الغساني. وسبب تسمية ذلك اليوم بيوم حليمة أن حليمة ابنة الحارث كانت تخلق قومها وتحرضهم على القتال في ذلك اليوم. وذهب آخرون إلى أنه موضع4.
وفي رواية تنسب إلى ابن الأعرابي أن بني تغلب حاربوا المنذر بن ماء السماء، ولكنهم غلبوا على أمرهم، فلحقوا بالشأم خوفًا منه. وبقوا هناك، فمر بهم عمرو بن أبي حجر الغساني في رواية، أبو الحارث بن أبي شمر الغساني في رواية أخرى، فلم يستقبلوه، فانزعج من ذلك، وتوعدهم، وأن عمرو بن كلثوم نهاه عن ذلك5.
وقد روى بعض أهل الأخبار أبياتًا من الشعر، زعموا أن ابنة المنذر قالتها في رثاء والدها، ففي جملتها:
1 Caussin، Essai، II، 116.
2 الأغاني "11/ 48 وما بعدها""دار الكتب المصرية".
3 الأغاني "11/ 49""دار الكتب المصرية".
4 البلدان "3/ 320"، الكامل، لابن الأثير "1/ 326 وما بعدها".
5 الأغاني "11/ 57 وما بعدها".
وقالوا فارسًا منكم قتلنا
…
فقلنا الرمح يكلف بالكريم
بعين أباغ قاسمنا المنايا
…
فكان قسيمها خير القسيم1
وينسب إلى المنذر بناء الغريين في بعض الروايات، وكان السبب في ذلك كما يقول الأخباريون أنه كان له نديمان من بني أسد يقال لأحدهما خالد بن نضلة "مضلل""خالد بن المضلل" والآخر عمرو بن مسعود" عمرو بن مسعود الأسدي"، فثملًا، فراجعا الملك ليلة في بعض كلامه، فأمر وهو سكران فحفر لهما حفيرتان فدفنا حيين. فلما أصبح استدعاهما، فأخبر بالذي أمضاه فيهما، فغمه ذلك، وقصد حفرتهما، وأمر ببناء طربالين عليهما، وهما صومعتان، فقال المنذر: ما أنا بملك إن خالف الناس أمري، لا يمر أحد من وفود العرب إلا بينهما، وجعل لهما في السنة يوم بؤس ويوم نعيم، يذبح في يوم بؤسه كل من يلقاه ويغري بدمه الطربالين، ويحسن في نعيمه إلى كل من يلقى من الناس ويحملهم ويخلع عليهم. وقد ظل المنذر على عادته هذه إلى أن حدث له حادث، أظهر فيه رجل ظهر يوم بؤسه وفاءً عظيمًا، فعفا عنه، وترك تلك العادة وتنصر، وكان الرجل الذي بر بوعده فحضر بعد عام ليأخذه سيف الجلاد نصرانيًّا، ولذلك تنصر المنذر. وذكروا أنه لم يكن يتورع من ذبح أعز الناس عليه إذا ظهر له يوم بؤسه. فلما ظهر الشاعر الشهير عبيد بن الأبرص الأسدي، لم ينجه شعره من مصير ذلك اليوم2. وذكروا أن الرجل كاد يسلمه سوء طالعه إلى يد الجلاد، هو حنظلة الطائي، وأنه ترهب بعد هذا وابتنى ديرًا له هو الدير المعروف بدير حنظلة. وأما الذي كفل ذلك الرجل حتى يعود بعد عام، فرجل من أشراف القوم هو شريك بن عمرو، وذكروا أيضًا أن حنظلة هذا هو عم أياس بن قبيصة الطائي ملك الحيرة3.
1 اللسان "8/ 417""بيروت".
2 البلدان "6/ 283 وما بعدها"، الأغاني "5/ 213""دار الكتب المصرية"، البكري، معجم "ص694. "طبعة ليدن"، ابن قتيبة. الشعر "ص 144"، الأغاني "19/ 86"، القالي، الأمالي "3/ 195"، "طبعة دار الكتب المصرية"، "ابن هشام "1/ 401"، شرح قصيدة ابن عبدون "132"، شعراء النصرانية "ص600"، الحور العين، للحميري "ص 76". رسالة الغفران "182"، طبقات ابن سلام "31".
3 شعراء النصرانية "ص 89".
وورد في بعض الروايات أن "المنذر بن ماء السماء"، خرج في يوم بؤسه، وكان يومًا يركب فيه فلا يلقى أحدًا إلى قتله، فلقي في ذلك اليوم "جابر بن رألان" أحد "بني ثعل" ومعه صاحبان، فأخذتهم الخيل بالثوية، فأتى المنذر فقال: اقترعوا، فأيكم قرع، خليت سبيله، وقتلت الباقين. فاقترعوا فقرعهم جابر، فخلى سبيله، وقتل صاحبيه، فلما رآهما يقادان ليقتلا، قال عز بز. ورووا في ذلك شعرًا نسبوه إلى جابر1.
ومن الأخباريين من نسب بناء الغريين إلى النعمان الثالث. ومنهم من نسبهما إلى جذيمة، وذهب آخرون إلى نسبة الغري إلى الحارث الغساني2. ويرينا هذا الاختلاف مبلغ جهلهم بأصل الغريين.
وقد ذكر "النويري" أن الغريين أسطوانتان كانتا بظاهر الكوفة، بناهما "النعمان بن المنذر بن ماء السماء" على جاريتين كانتا قينتين تغنيان بين يديه، فماتتا، فأمر بدفنهما، وبنى عليهما الغريين. وذكر أيضًا أن "المنذر غزا الحارث ابن أبي شمر الغساني، وكان بينهما وقعة عين أباغ، وهي من أيام العرب المشهورة، فقتل للحارث ولدان، وقتل المنذر، وانهزمت جيوشه، فأخذ الحارث ولديه وجعلهما عدلين على بعير، وجعل المنذر فوقهما، وقال: ما العلاوة بدون العدلين؟ فذهبت مثلًا، ثم رحل إلى الحيرة، فانتهبها وحرقها، ودفن ابنيه بها، وبنى الغريين عليهما". وقد ذكر أن "المنصور" أمر بهدم أحدهما، لكنز توهم أنه تحتهما، فلم يجد شيئًا3.
وهذا الذي يرويه أهل الأخبار عن سبب بناء الغريين، هو من القصص الذي ألفناه، وعودنا أصحاب الأخبار سماعه، فلا قيمة تأريخية له في نظرنا، وإن أكد لنا الأخباريون أو حاولوا التأكيد بأنه حق، وأنه أمر مسلم به وشائع معروف، وأن عبيدًا لقي حتفه لظهوره يوم بؤس المنذر أو النعمان. وقد يكون ذلك مسلمًا به عندهم، غير أننا لسنا من السذاجة بحيث نصدق بأمثال هذا القصص لمجرد أنه شائع معروف، فليس كل شائع معروف أمرًا صحيحًا يجب الأخذ به.
1 الفاخر "ص73".
2 Rothstein، S. 140.
3 نهاية الأرب "1/ 387".
ونحن لا نريد أن ننكر وجود الغريين، فليس إلى نكرانهما أو نكران "الغري" من سبيل. ولكننا كما قلت ننكر هذا القصص الذي يرويه الأخباريون عن هذين الغريين؛ لأنه قصص نشأ كما نشأ أمثاله عن جهل الناس أو أهل الأخبار بأصول الأشياء، فلما احتاجوا إلى معرفة الأسباب، أوجدت لهم مواهبهم هذا القصص الطريف، وهو أمر لم ينفرد به زمان دون زمان، فما زال الناس يبتدعون قصصًا ثم يروونه، ويتناقلونه على أنه شائع صحيح. مع أن تأريخ ابتداعه لا يبعد عن زماننا بكثير، وأهل الحي بهذا القصص عارفون.
أما أن الغريين حفرتان دفن في كل حفرة منهما رجل حي؛ لأنه عربد وسكر، وتحدث بكلام غاظ الملك، وما أشبه ذلك من قصص، فأمر لا نستطيع أن نقف منه موقفًا إيجابيًّا، ولا نسلم به. ففيه شيء من أثر الصنعة والتكلف، ولكننا نستطيع أن نقول أن الغري أو الغريين من المواضع التي كانت لها صلة بعبادة الأوثان، ومن الجائز أنهما كانا مخصصين لتقديم الذبائح والقرابين في المواسم الدينية وفي الأعياد. وقد عرفت مثل هذه العادات عند شعوب أخرى، فكانت تهرق دماء الذبائح عند الأنصاب ثم تطلى بها، وما الغريان إلا نصبان من هذه الأنصاب. على أن الأخباريين أنفسهم قد ذكروا أن الغري نصب كان يذبح عليه العتائر، كما ذكروا أن الغريين كانا طربالين، والطربال صومعة على رأي، وشيء مرتفع عند الأكثرين1. فلا يستبعد أن يكون الغريان موضعين من مواضع ذبح القرابين للأصنام.
ويذكر أهل الأخبار أن "شريك من مطر"، وهو جد "معن بن زايدة"، كان من أكبر الناس عند المنذر. وكان له ولد اسمه "الحارث" ويلقب بـ "الحوفزان" وهو من بني "شيبان"2.
1 البلدان "6/ 282".
2 الاشتقاق "ص 215".