الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثامن والثلاثون: عمرو بن هند
مدخل
…
الفصل الثامن والثلاثون: عمرو بن هند
والذي خلف المنذر على ملك الحيرة بعد وفاته، هو ابنه عمرو بن هند المعروف بـ "مضرط الحجارة"، وهو لقب يشير بالطبع إلى قوة ابن هند وشدة بأسه، وقد عرف عمرو بأمه "هند بنت عمرو بن حجر الكندي آكل المرار"، فهو كندي من جهة أمه، وعرف أيضًا بـ "محرق الثاني" على رواية حمزة1، وبـ "المحرق" في رواية لغيره2. وقد كان له من الأشقاء من أمه: قابوس والمنذر.
ويرى بعض الباحثين احتمال كون "هند" من "آل غسان"، وإليها ينسب دير هند. ويرى أن حكم ابنها عمرو كان فيما بين السنة "554" والسنة "569م".
وزعم ابن الأثير أن الذي تولى الملك بعد المنذر بن ماء السماء هو ابنه المنذر ابن المنذر بن ماء السماء المعروف بـ "الأسود"، وأنه لما استقر الأسود وثبت قدمه جمع عساكره وسار إلى الحارث الأعرج طالبًا بثأر أبيه، ونزل برج حليمة، ووصل الحارث إلى هذا الموضع كذلك، واقتتل الطرفان أيامًا ولم ينتهيا إلى
1 حمزة "ص 72"، معجم الشعراء "ص 205 وما بعدها"، مفاتيح العلوم "69".
2 شرح ديوان لبيد "263".
نتيجة. فلما رأى الحارث طول الوقت، نادى في فتيان غسان:"يا فتيان غسان من قتل ملك الحيرة زوجته ابنتي هندًا". فلما سمع ذلك لبيد بن عمرو الغساني، شد على الأسود فقتله، وانهزم أصحابه، فنزل لبيد واجتز رأس الأسود، وأقبل به إلى الحارث، فألقى الرأس بين يديه، فوافق الحارث على إعطاء لبيد ابنته، ثم إن لبيدًا انصرف ليواسي أصحابه، فرأى أخًا للأسود يقاتل الناس، فتقدم لبيد فقاتل فقتل، ولم يقتل في هذه الحرب بعد تلك الهزيمة غيره. وانهزمت لخم ثانية، وكثر فيها القتل. وذكر الأخباريون أن هذا اليوم هو من أيام العرب الكبرى إذ سار الأسود بجمع من عنده من عرب العراق، وأقبل الحارث بجميع من كان عنده من عرب الشأم. فجعلت هذه الرواية بعد المنذر ابنه المنذر الأسود وجعلته صاحب مرج حليمة1.
وتذكر رواية أن جيش الحارث الأعرج بن جبلة أسر كثيرًا ممن كان مع المنذر من العرب، وفيهم مئة من تميم، فيهم شأس بن عبدة. ولما سمع أخوه علقمة، وفد إلى الحارث مستشفعًا وأنشده قصيدة مدح طويلة، فمن عليه، وأطلق له الأسرى من تميم، وكساه وحباه2.
وهناك رواية أخرى عن مقتل المنذر بن المنذر، خلاصتها: أن الحارث بن أبي شمر جبلة بن الحارث الأعرج خطب إلى المنذر ابنته هندًا، وقصد انقطاع الحرب بين لخم وغسان فوافق المنذر على ذلك. غير أن هندًا أبت عليه ذلك، فحقد الحارث على آل لخم. فلما خرج المنذر غازيًا، بعث الحارث جيشًا إلى الحيرة، فانتهبها وأحرقها، فانصرف المنذر عن غزاته وسار يريد غسان. وبلغ الخبر الحارث، فجمع أصحابه وقومه، فسار بهم، فتوافقوا في عين أباغ. فاصطفوا للقتال، واقتتلوا قتالًا شديدًا، وحلمت ميمنة المنذر على ميسرة الحارث وفيها ابنه، فتقلوه وانهزمت الميسرة. وحملت ميمنة الحارث على ميسرة المنذر، فانهزم من بها وقتل مقدمها "فروة بن مسعود بن عمرو بن أبي ربيعة بن ذهل ابن شيبان"، وحملت غسان من القلب على المنذر فقتلوه، وانهزم أصاحبه في كل وجه، وقتل منهم خلق كثير، منهم ناس من بني تميم، ومن بني حنظلة،
1 ابن الأثير "1/ 223 وما بعدها، 225"، البلدان "3/ 330".
2 أيام العرب "55 وما بعدها".
241
ووقع عدد في الأسر، ومن هؤلاء الأسرى:"شأس بن عبدة" شقيق علقمة ابن عبدة من شعراء الجاهلية المعروفين. فالقتيل في هذه المعركة وعلى هذه الرواية إذن هو المنذر بن المنذر بن ماء السماء، لا المنذر بن ماء السماء.
وقد تشكى ابن الأثير كما تشكى قبله حمزة من اختلاف الأخباريين في الروايات، ومن تضارب الروايات بعضها ببعض، ومن تقديم الأيام وتأخيرها، وفي الشخص المقتول، فذكر أن من الأخباريين من يقول أن يوم حليمة هو اليوم الذي قتل فيه المنذر بن ماء السماء، ويوم أباغ هو اليوم الذي قتل فيه المنذر بن المنذر، ومنهم من يقول بضد ذلك، ومنهم من يجعل اليومين واحدًا، فيقول لم يقتل إلا المنذر بن ماء السماء، وأما ابنه المنذر فمات بالحيرة. وقيل أن المقتول من ملوك الحيرة غيرهما. وقد رجح ابن الأثير رواية القائلين أن المقتول هو المنذر بن ماء السماء، ورجح أيضًا رواية من يقول إن المنذر بن المنذر لم يقتل، وإنما مات حتف أنفه1.
ويذكر أن "علقمة بن عبدة" الشاعر الجاهلي، ذهب إلى الحارث، فمدحه بقصيدة شهيرة، رجاء استعطاف الملك، ليمن عليه بالعفو عن أخيه، فيفكه من أسره، فاستحسن الملك شعره وفرح به، ومن عليه بفك أسره، وبفك أسر جميع من وقع من قومه في الأسر. فلما عادوا إلى ديارهم، أعطوا شأسًا أموالًا وأكسيةً وإبلًا، فحصل من ذلك له مال كثير2.
وفي يوم "حليمة" ورد المثل. "ما يوم حليمة بسر"3.
أعود بعد الكلام على "المنذر بن المنذر" إلى الحديث عن عمرو بن هند شقيقه، فأقول: يظهر من هذه الروايات المذكورة عنه، ومن هذا الشعر الوارد اسمه فيه، أنه كان رجلًا سريع الانفعال، يتألم بسرعة مما يقال له، ولذلك حدثت له مشكلات عديدة لم تكن لتحدث لولا هذا الحس المرهف عنده، الذي جعله عرضة لهجو الشعراء، والشعراء ألسنة الناس وأبواق الدعاية في ذلك العهد، وقصته مع طرفة بن العبد والمتلمس معروفة مشهورة4.
1 ابن الأثير "1/ 225".
2 ابن الأثير "1/ 326 وما بعدها".
3 مجمع الأمثال، للميداني:"2/ 408".
4 "صحيفة المتلمس"، الأغاني "21/ 194"، خزانة الأدب "1/ 412"، اليعقوبي "1/ 172"، الفاخر "ص 60"، شعراء النصرانية "ص 337".
ويصفه أهل الأخبار بالشدة والصرامة، بل جعلوه شريرًا، وزعموا أنه كان له يوم بؤس ويوم نعيم، فيوم يركب في صيده يقتل أول من لقي، ويوم يقف الناس ببابه فإن اشتهى حديث رجل أذن له، فكان هذا دهره1. وقالوا: إنه كان لا يبتسم ولا يضحك. وكانت العرب تسميه "مضرط الحجارة" لشدة ملكه، وكانوا يهابونه هيبة شديدة، وكان عاتيًا جبارًا ويسمى محرقًا أيضًا؛ لأنه حرق بني تميم، وقيل: بل حرق نخل اليمامة2.
وقد وصف الشاعر "الرهاب العجلي" الملك "عمرو بن هند" بأنه ملك "يعتدي ويجور" وذلك في معرض وصفه للسدير3. وقد أصحبت الحيرة موئل الشعراء في أيام عمرو بن هند، فلأكثر مشاهير الشعراء الجاهليين خبر مع هذا الملك، كانوا يحضرون إليه من أماكن نائية لإنشاده شعرهم ولنيل جوائزه، ولم تكن مجالسه لتخلو من منافسة الشعراء بعضهم لبعض، ومن نقد بعضهم شعر بعض، كالذي حدث بين طرفة والمسيب بن علس على ما يذكره الأخباريون4. وقد كانت لمثل هذه المنافسات أهمية كبيرة في مجتمع ذلك اليوم، لما كان لها من أثر في نفوس القبائل، وطالما أدت إلى غضب القبائل وغضب الملك نفسه، وغضب الشعراء على منافسيهم وعلى الملك، لاعتقادهم بتحزبه لأحد الخصمين.
وذكر بعض الرواة أن سبب هجاء "طرفة" عمرو بن هند أن عمرو بن هند كان يتباطأ في مجلسه في استقبال الناس. فإذا جلس لشرابه، أخذ الناس بالوقوف على بابه حتى ينتهي من مجلس أنسه، فيسمح عندئذ لذوي الحاجات بالدخول عليه، كما كان يصرف وقته بالتلهي بالصيد والقنص، مما جعل وقته
1 شرح القصائد السبع الطوال الجاهليات، للأنباري "ص 122"، العقد الثمين في دواوين الشعراء الستة الجاهليين "ص317".
2 خزانة الأدب "1/ 417"، شعراء النصرانية "1/ 305".
3
أبى القلب أن يهوى السدير وأهله
…
وإن قيل: عيش بالسدير غرير
فلا أنذر الحي الذي نزلوا به
…
وإني لمن لم يأته لنذير
به البق والحمى وأسد خفية
…
وعمرو بن هند يعتدي ويجور
الأغاني "21/ 295""القسم الثاني"، بيروت "1957".
4 شعراء النصرانية "ص 304، 350 وما بعدها".
يضيق عن استقبال الناس، فصاروا يتكالبون على بابه ليجدوا وقتًا يدخلون فيه عليه، فاستاء طرفة من هذه المعاملة. وقال شعرًا يهجوه فيه، كان في جملة ما جاء فيه.
فليت لنا مكان الملك عمرو
…
رغوثًا حول قبتنا تخور
لعمرك إن قابوس بن هند
…
ليخلط ملكه نوك كثير
قسمت الدهر في زمن رخي
…
كذلك الحكم يقصد أو يجور
فبلغ الشعر "عمرو بن هند"، أبلغه إياه "عبد عمرو"، وكان من سادات الناس في زمانه، وكان زوج أخت "طرفة"، وقد هجاه "طرفة" أيضًا. فلما أنشد "عمرو بن هند" هجاء طرفة له على سبيل المزاح والاستخفاف بشأنه، قال له "عبد عمرو": أبيت اللعن! ومما قال فيك أشد مما قال في فأنشده الأبيات. فقال عمرو بن هند: أو قد بلغ من أمره أن يقول في مثل هذا الشعر. فكتب إلى رجل من عبد القيس بالبحرين، وهو المعلى ليقتله. فقال له بعض جلسائه: إنك إن قتلت طرفة، هجاك المتلمس وهو رجل مسن مجرب، وكان حليف طرفة، وكان من بني ضبيعة. فأرسل عمرو إلى طرفة والمتلمس فكتب لهما إلى عامله بالبحرين ليقتلهما، وأعطاهما هدية من عنده وحملهما، وقال1: قد كتبت لكما بحباء، فأقبلا حتى نزلا الحيرة، وارتاب المتلمس بأمر الصحيفة واستقبال عمرو لهما، ففك ختمها وعرضها على غلام من أهل الحيرة، فقرأها، فإذا فيها أمر بقتله، فأخذ الصحيفة فقذفها في البحيرة وقال:
وألقيتها بالثني من جنب كافر
…
كذلك ألقي كل رأي مضلل
وأشار على طرفة بفك خاتم صحيفته أيضًا ليقرأها له، ولكنه أبى، وذهب إلى صاحب البحرين، فوجد هناك نهايته في قصص منمق محبر يرويه أهل الأخبار2.
1 الشعر والشعراء "ص89 وما بعدها"، "ليدن".
2 شرح المعلقات السبع، للزوزني "ص42 وما بعدها"، الأغاني "21/ 125". ديوان طرفة بن العبد "ص9". شرح القصائد العشر، للزوزني "10"، الشعر والشعراء "ص85 وما بعدها".
ويذكر بعض أهل الأخبار أن قبر طرفة بهجر، وهو معروف هناك1.
وللشاعر "طرفة بن العبد" شعر يعاتب به "عمرو بن هند"، ويحرضه فيه على الطلب بحق أخيه "معبد"، الذي أغير على إبل له، وكانت في جوار "عمرو بن هند" فانتهبت. ويقول فيه: نحن في طاعتك، ومضر في طاعتك، فما بالنا أغير علينا، وكلنا ندين لك2.
ولطرفة شعر في هجاء "قابوس" كذلك، ونرى بعض الأخباريين ينسبون إليه يومين: يومًا يصيد فيه، ويومًا يشرب فيه، فيقف الناس ببابه حتى يأذن لهم بالدخول إليه، ولذلك سئم منه طرفة فهجاه وهجا عمرو بن هند شقيقه معه3. وينسب بعض أهل الأخبار هذه القصة إلى عمرو بن هند.
ويتبين من حديث الأخباريين عن صحيفة المتلمس، ومن قصة نهاية طرفة في البحرين، أن البحرين كانت تابعة في ذلك العهد لملك الحيرة، وأن حاكمها كان عاملًا لعمرو بن هند4. وقد ورد في رواية أن اسم عامل عمرو بن هند هو "أبو كرب ربيعة بن الحرث"، وهو من ذوي قرابة "طرفة" فلما علم بخبر "طرفة" لم يقتله، وكتب إلى "عمرو بن هند" أنه لن يقتله، وقد اعتزل عمله5. فعين عمرو عاملًا آخر مكانه اسمه في بعض الروايات "عبد هند". وتقول رواية أخرى أن قاتل طرفة هو "المكعبر" عامل البحرين، قتله بكتاب عمرو بن هند6. وكان "المكعبر" عامل عمرو بن هند على عمان والبحرين على رواية هؤلاء الرواة7. وتزعم رواية أخرى أن الذي قتله رجل من "الحواثر"
1 خزانة الأدب، "1/ 416"، مجمع الأمثال "1/ 412"، الأغاني "23/ 523 وما بعدها""بيروت 1955م"، أمالي المرتضى "1/ 183 وما بعدها". الشعر والشعراء "131 وما بعدها".
2 لعمرك ما كانت حمولة معبد
على جدها حربا لدينك من مضر
المعاني الكبير "2/ 1118"، شرح القصائد العشر "ص 182".
3 شعراء النصرانية "1/ 305".
4 البطليوسي. الاقتضاب "104"، شعراء النصرانية "ص 321، 330 وما بعدها"، شرح المعلقات السبع، للزوزني "ص 42 وما بعدها"، "دار صادر"، البلدان "7/ 208".
5 مجمع الأمثال "1/ 412 وما بعدها".
6 معجم الشعراء "ص 201"، الأغاني "3/ 524".
7 شرح القصائد السبع الطوال الجاهليات، للأنباري "ص 116"، الشعر والشعراء "ص 91".
اسمه "التربيع بن حوثرة""أبو ريشة""أبو رائشة الحوثري" وكان "عمرو بن هند" قد اختاره وعينه على البحرين: حين همت "بكر بن وائل" بعامل "عمرو بن هند". وتزعم رواية أخرى، أن قاتله هو "المعلي بن حنش العبدي" وأن الذي تولى قتله بيده هو "معاوية بن مرة الأيفلي" من "حي صسم وجديس"1.
وفر المتلمس إلى بلاد الشأم حيث الغساسنة أعداء المناذرة، وصار يمدحهم ويهجو عمرو بن هند، واستقر بـ "بصرى" إلى أن هلك. وقد خلف ولدًا اسمه "عبد المنان". وهناك قصص عن كيفية عودته إلى زوجته، وعن وصوله إليها ساعة عقد قرانها لرجل جديد في كنيسة، لظن أهلها أنه كان قد مات2.
وقد سخر "المتلمس" في أشعاره من "عمرو بن هند"، وأقذع في هجائه حتى قال فيه:
ملك النهار فأنت الليل مومسة
…
ماء الرجال على فخذيك كالقرس
ووصفه فقال: إنه "أخنس الأنف"، وأن أضراسه كالعدس، إلى غير ذلك من هجاء مر شديد.
وأود أن أبين أن من الرواة من ينسب هذا الهجاء إلى شاعر آخر، قالوا إن اسمه "عبد عمرو بن عمارة"، وذكروا أنه قاله في هجاء "الأبيرد الغساني"3.
ويظهر من رسالة الغفران، أن للناس أقاويل في مقتل "طرفة"، ورد فيها:
1 ديوان طرفة بن العبد "ص5""كرم البستاني"، الشعر والشعراء لابن قتيبة "137، 144".
2 راجع عن طرفة. الأغاني "21/ 120 وما بعدها"، شرح القصائد السبع الطوال الجاهليات، للأنباري "ص115 وما بعدها"، شرح القصائد العشر، للتبريزي "ص98"، رسالة الغفران، لأبي العلاء المعري "ص 326 وما بعدها"، "تحقيق الدكتورة بنت الشاطئ"، طبقان ابن سلام "16"، الشعر والشعراء "ص88"، شعراء النصرانية، للويس شيخو، "ص 298 وما بعدها"، شرح ديوان الحماسة، للمرزوقي، ديوان طرفة. بيروت، شرح المعلقات السبع للزوزني "دمشق 1963م"، خزانة الأدب، للبغدادي "1/ 414" الحيوان "3/ 66"، معجم الشعراء، للمرزباني "ص201 وما بعدها"، المؤتلف والمختلف، للآمدي "ص 146".
3
قولا لعمرو بن هند غير متئب
…
يا أخنس الأنف والأضراس كالعدس
الأغاني "1 من القسم الثاني ص 293"، الأغاني "14/ 30".
"ولقد كثرت في أمرك أقاويل الناس: فمنهم من يزعم أنك في ملك النعمان اعتقلت، وقال قوم: بل الذي فعل به ما فعل عمرو بن هند"1.
وتطرق "الشريف المرتضى" في أماليه إلى موضوع قتل "عمرو بن هند" لطرفة، فذكر أن عامل البحرين يومئذ هو "المعلى بن حنش العبدي" وذهب إلى احتمال كون قاتل "طرفة" هو "النعمان بن المنذر"، استدل على ذلك بقول طرفة:
أبا منذر كانت غرورًا صحيفتي
…
ولم أعطكم في الطوع مالي ولا عرضي
أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا
…
حنانيك بعض الشر أهون من بعض
قال: "وأبو المنذر هو النعمان بن المنذر، وكان النعمان بعد عمرو بن هند، وقد مدح طرفة النعمان فلا يجوز أن يكون عمرو قتله، فيشبه أن تكون القصة مع النعمان"2.
هذا وللمتلمس أشعار في هجاء "عمرو بن هند"، وقد ظل يهجوه إلى أن توفي وهو في الغربة في بلاد الشأم. وفي جملة ما قاله فيه.
أطردتني حذر الهجاء ولا
…
والله والأنصاب لا تئل
فهو يعيره بأنه إنما أبعده عنه وطرده؛ لأنه كان يهجوه؛ ولأنه كان يحذر هجاءه ويقول في أبيات أخرى.
ألك السدير وبارق
…
ومرابض ولك الخورنق
والقصر ذو الشرفات من
…
سداد والنخل المسبق
فلئن تعشق فلتبلغن
…
أرماحنا منك المخنق3
وللشاعر "سويد بن خذاق" شعر في هجاء "عمرو بن هند"، وهو أخو الشاعر "يزيد بن خذاق"، وهما من "عبد القيس". وذكر أن "يزيد بن
1 رسالة الغفران "338".
2 أمالي المرتضى "1/ 183، 185" مجمع الأمثال "1/ 350 وما بعدها"، ديوان المتلمس "172 وما بعدها".
3 شعراء النصرانية "3/ 339".
خذاق"، كان أول من ذم الدنيا في شعر1. وفي جملة ما قاله "سويد" في هجاء "عمرو بن هند"، قوله:
أبى القلب أن يأتي السدير وأهله
…
وإن قيل عيش بالسدير غزير
به البق والحمى وأسد خفية
…
وعمرو بن هند يعتدي ويجور
و"المنخل اليشكري" من معاصري "عمرو بن هند" كذلك. وكان يشبب بـ "هند" أخت "عمرو بن هند"، واتهم بامرأة لعمرو بن هند، فقتله على رواية2. وذكر أنه اتهم بالمتجردة امرأة النعمان بن المنذر، وأنه كان ينادم النعمان، وهو الذي أوقع فيما بينه وبين النابغة لحقده عليه، حتى سبب في فرار النابغة إلى "آل غسان" ليخلص نفسه من غضب النعمان عليه3، ومعنى هذا أن "عمرو بن هند" لم يقتله بل عاش إلى أيام النعمان.
وقد مدح "المثقب العبدي""عمرو بن هند" وكان في زمانه، بقوله:
غلبت ملوك الناس بالحزم والنهى
…
وأنت الفتى في سورة المجد ترتقي
ونجب به من آل نصر سميدع
…
أغر كلون الهندواني رونق
ونعته بالحلم والرزانة "والحلم الرزين"، وبالفعلات4.
وقد عد "ابن قتيبة" الشعراء الذين عاصروا "عمرو بن هند" من قدماء شعراء الجاهلية. فلما تحدث عن الشاعرين "سويد" و"يزيد"، قال:"وهما قديمان كانا في زمن عمرو بن هند"5. ولما تحدث عن "المثقب العبدي" قال عنه": "وهو قديم جاهلي. كان في زمن عمرو بن هند"6. وعد "المنخل اليشكري" من قدماء الشعراء الجاهليين، فقال عنه "وهو قديم جاهلي"7.
1 الشعر والشعراء "ص 228".
2 "وقتله عمرو بن هند. وقال قبيل قتله
…
"، الشعر والشعراء "ص239".
3 الشعر والشعراء "ص 238".
4 الشعر والشعراء "ص 234".
5 الشعر والشعراء "ص 228".
6 الشعر والشعراء "ص 234".
7 المصدر نفسه "ص 238".
ويجب أن نتذكر أن الشاعر "امرؤ القيس" كان أيضًا من معاصري "عمرو بن هند"، وهو شاعر جاهلي قديم، في نظر علماء الشعر، فيكون زمن أقدم شعر جاهلي، وصل خبره إلينا، هو النصف الثاني من القرن السادس للميلاد، أي في سنين لا تبتعد كثيرًا عن زمن ميلاد الرسول، كما سأتحدث عن ذلك في القسم الخاص بالناحية الثقافية للعرب قبل الإسلام.
وورد في إحدى قصائد الأعشى ما يفيد اتساع ملك عمرو بن هند وجباية كل ما بين عمان و"ملح" له1. ويذكر بعض الرواة أن المراد بـ "عمان" هنا "عمان" بلاد الشأم، وأما "ملح" ففي اليمامة من بلاد بني جعدة2.
ويذكر بعض الأخباريين أن عمرو بن هند كان على "بقة" يدير أعمالها في أيام أبيه المنذر، وإليه لجأ امرؤ القيس الشاعر المعروف مستجيرًا به؛ لأنه كان ابن عمته، فأجاره، ومكث عنده زمانًا. فلما سمع به المنذر، وكان يتعقبه، طلبه من ابنه، فأنذره عمرو، فهرب حتى أتى حمير مستجيرًا3.
وقد نسب إلى ابن هند غزوة غزا بها تغلب، فقيل: طلب "عمرو" من بني تغلب، حينما تولى الملك مساعدته على أخذ الثأر من بني غسان قتلة أبيه، وكانوا انحازوا عنه، وطلب منهم الرجوع إلى طاعته والغزو معه، فأبوا، وقالوا: مالنا نغزو معك. نحن رعاء لك فغضب عمرو بن هند، وجمع الجموع. فلما تهيأت، كان أول عمل قام به غزو تغلب، فأوجعهم وآذاهم، انتقامًا منهم، لامتناعهم عن نصرته ومعاضدته4. وقد أشار إلى هذا الحادث "الحارث بن حلزه اليشكري"5 الشاعر الجاهلي أحد أصحاب المعلقات.
ويذكر أهل الأخبار أن "الحارث بن حلزة" حضر مجلس "عمرو بن هند"،
1
آفقا يجبى إليه خرجه
…
كل ما بين عمان فملح
ديوان الأعشى "القصيدة 36، البيت9".
2 ديوان الأعشى "ص 160""طبعة كاير "Geyer"، "ص237" "طبعة الدكتور م. محمد حسين"، البلدان "8/ 147".
3 الأغاني "8/ 67".
4 الأغاني "9/ 173""11/ 47""ط. دار الكتب المصرية".
5
كتكاليف قومنا إذ دعا المنذر
…
هل نحن لابن هند رعاء
المعاني الكبير "2/ 1012"، شرح المعلقات السبع، للزوزني "ص 162""طبعة صادر".
وأنشده معلقته، أنشده إياها من وراء سبعة ستور، وذلك لبرص به. وكان الملك يأمر بعد خروج "الحارث" بغسل أثره بالماء، كما يفعل بسائر البرص. فلما أنشده قصيدته هذه، طرب لها الملك كثيرًا، فأمر برفع الستور من بينهما، وأدناه منه، وأطعمه في جفنته، وأمر أن لا ينضح أثره بالماء، ثم جز نواصي البكريين السبعين الذين كانوا رهنًا عنده وسلمها إليه1، تعظيمًا لشأنه، وتقديرًا له ولقومه اليشكريين.
وقد حرض "الحارث" في قصيدته تلك الملك على التغلبيين، وسرد حوادث تأريخية لها علاقة في هذا التعريض مما هاج الملك، وراد في حدة غضبه عليهم.
ذكره بالأراقم، وهم بطون من تغلب، وصورهم كأنهم أناس عزموا على الاعتداء على قومه انتقامًا منهم، لوقائع وقعت بينهم وبين قومه ما بين "ملحة فالصاقب"، حيث ثأر قومه بقتلاهم. أما تغلب، فلم تثأر بقتلاهم، ثم ذكر التغلبيين خصومه، بأن قومه أناس أشداء في الحروب، يعتمدون في القتال على أنفسهم، ولا يركنون إلى أحد، ساروا من البحرين سيرًا شديدًا، حتى بلغوا "الأحساء"، طووا المسيرة سيرًا وإغارة على القبائل، ثم لم يكتفوا بذلك، فأغاروا على "تميم" فلما دخل الشهر الحرام، كفوا عن القتال، حرمةً له، وعندهم سبابا من بنات القبائل صرن إماءً لهم. ثم ذكر الملك بامتناع "تغلب" من الانضمام إليه للحرب معه، على حين نصره قومه، وحاربوا معه. وكيف غلبوا على أمرهم، غلبهم الملك. وكيف ذهبت دماء تغلب هدرًا، لم يؤخذ بثأرها وهو لا يترك قومه دماؤهم هدرًا، إذ يأخذون بالثأر من قتلة قتلاهم. ثم انتقل إلى يوم "الشقيقة"، حيث جاءت "معد"، ولكل حي منها لواء حول "قيس بن معد يكرب" من ملوك حمير، وبين كيف أن قومه تعرضوا لقيس ولمن معهم، حتى ردهم بطعن خرج به الدم من جروحهم خروج الماء من أفواه القرب، ثم انتقل إلى وصف قتالهم مع "حجر بن أم قطام"، وكانت له كتيبة فارسية خضراء لما ركب دروع الكتيبة، وجلا صدأها، ثم حدث عن كيفية فكهم غل "امرئ القيس" من حبسه بعد أن طال حبسه ونال منه العناء2.
1 شرح المعلقات للزوزني، "ص154"، دار صادر"، "بيروت 1958م".
2 ويرى بعض علماء الأدب أن المراد "فارسية خضراء"، دروع وبيض فارسية، ركبها الصدأ، شرح الزوزني "ص 165""صادر".
وتعرض لذكر "الجون: جون آل بني الأوس" ومعه كتيبة شديدة العناد. ولت الأدبار بعد قتالها مع "بني يشكر" قومه. ثم تعرض لقتالهم مع الغساسنة انتقامًا منهم، لقتلهم "المنذر" والد "عمرو بن هند" وأسرهم تسعة من الملوك. وأخذهم أسلابهم منهم، وأسلابهم غالية الأثمان، لعظم أخطارهم وجلالة أقدارهم. ثم انتقل إلى ذكر يوم "ذي المجاز" وكيف جمع "عمرو بن هند" بني "بكر"
و"تغلب" وأصلح بينهما، وأخذ منهما الوثائق والرهون، وكتب العهد بينهما بوجوب الوفاء بما اتفق عليه في هذا اليوم، ثم أخذ يعيرهم ويذكر هزائمهم التي ألحقتها "كندة" و"إياد" و"تميم" و"بنو حنيفة" و"قضاعة" وقبائل أخرى بهم، ويتهمهم بخرق العهد والمواثيق وبالغدر. وقد جاءت هذه القصيدة معبرة عن حقد "عمرو" على التغلبيين وعن غضبه عليهم لمقاومتهم له.
وغزا عمرو بن هند طيئًا، بتحريض زرارة بن عدس بن عبد الله بن دارم الحنظلي إياه على غزوها، ويقول أهل الأخبار أن عمرو بن هند امتنع في بادئ الأمر عن غزو طيء، لوجود حلف بينه وبينهم، غير أن زرارة ألح عليه بغزوهم، فغزاهم وأخذ أسرى منهم1.
ويذكر بعض أهل الأخبار أن عمرو بن هند كان قد عاقد طيئًا ألا ينازعوا ولا يغزوا ولا يفاخروا. ثم غزا اليمامة، فرجع منفضًّا، فمر بطيء، فحرضه زرارة عليهم، ولم يزل به يحرضه ويغريه بالغنائم، حتى غزا طيئًا، وأسر من بني عدي رهط حاتم الطائي سبعين رجلًا، وفيهم قيس بن جحدر ابن خالة حاتم الطائي، وحاتم يومئذ بالحيرة. فلما بلغ عمرو بن هند الحيرة، توسط "حاتم" لديه في فك الأسرى فوهبهم له2.
وغزا "عمرو بن هند" تميمًا فقتل من "بني دارم" مئة نفس انتقامًا منهم لقتلهم أخاه سعدًا أو ابنه مالكًا في رواية أخرى. وكان ذلك في يوم أوارة الثاني3 "يوم أوارة الأخير". ويزعم الأخباريون أنه ألقى بالقتلى في النار، ولهذا السبب عرف بـ "المحرق""محرق""المحرق الثاني"4. ولبعض الأخباريين تفاسير
1 الأغاني "19/ 127 وما بعدها"، شعراء النصرانية "124".
2 أيام العرب "102".
3 حمزة "ص 73"، معجم الشعراء "ص 205"، البلدان "1/ 392"، الكامل "1/ 295"، العقد الفريد "3/ 154" الأغاني "1/ 122".
4 الأغاني "19/ 129"، الكامل "1/ 228"، الميداني "1/ 226"، اللسان "10/ 42".
أخرى في منشأ هذا اللقب1، تحاول إيجاد مخرج لمعنى "محرق" التي ترد مقرونة بأسماء بعض ملوك "آل جفنة" و"آل لخم".
وفي كتب الأمثال مثل هو: "إن الشقي وافد البراجم"، زعم أصحاب الأخبار أن قائله هو الملك "عمرو بن هند" قاله يوم قتلت "البراجم" –وهم أحياء من "تميم": عمرو وقيس وغالب وكلفة وظليم، وهم "بنو حنظلة بن زيد مناة" تحالفوا على أن يكونوا كبراجم الأصابع في الاجتماع- شقيق "عمرو ابن هند"، فسار إليهم وآلى أن يحرق منهم مئة، فقتل تسعة وتسعين، وأحرق القتلى بالنار، فمر رجل من البراجم وراح رائحة حريق القتلى، فحسبه قتار الشواء، فمال إليه، فلما رآه عمرو قاله له: ممن أنت؟ قال: رجل من البراجم فقال: إن الشقي وافد البراجم. وأمر فقتل وألقي في النار، فبرت به يمينه2.
وورد أن عمرًا بقي ينتظر وافدًا من البراجم ليلقي به في النار فيكمل بذلك العدد، حتى إذا طال انتظاره قيل له: لو تحللت بامرأة منهم، فدعا بامرأة منهم، فدعا بامرأة من بني نهشل بن دارم اسمها الحمراء بنت ضمرة بن جابر، فأمر بإلقائها في النار. فكمل بذلك العدد3.
وكان سبب قتل أسعد أو سعد أخي عمرو بن هند أو ابنه مالك، أنه لما ترعرع مرت به ناقة كوماء سمينة، فرمى ضرعها، فشد عليه ربها سويد أحد بني عبد الله بن دارم فقتله، ثم هرب سويد فلحق بمكة، واستجار بأهلها. فبلغ الخبر عمرو بن هند، وكان زرارة بن عدس التميمي عنده، فاغتاظ زرارة من هذا العمل، إذ كان الملك قد وضع "سعدًا""أسعد" في بيته، وانتهز زعماء طيء هذه الفرصة وحرضوا عمرو بن هند على مهاجمة بني دارم قتلته للأخذ بثأرهم منه4.
1 الاقتضاب "ص 359". العمدة "2/ 216".
2 البرقوقي "ص 55"، العمدة، لابن رشيق "2/ 205"، الأمثال للميداني "1/ 95"، ابن الأثير "1/ 334"، "النقائض "652، 1081"، اللسان "10/ 42"، "حرق".
3 أيام العرب "105".
4 العمدة "2/ 205"، الأغاني "22/ 186"، "بيروت"، المسعودي، مروج "1/ 23"، اليعقوبي "1/ 171"، ابن خلدون "2/ 566"، خزانة الأدب "3/ 140"، نهاية الأرب للنويري "3/ 18"، البكري، معجم "1/ 207، النقائض "2/ 652 وما بعدها".
وهناك رواية أخرى تنفي تحريق عمرو بن هند للمذكورين من بني دارم والرجل الآخر من البراجم، وترى أنهم قتلوا، قتلوا بأمر عمرو بن هند1.
وأوارة الموضع الذي أحرق فيه المذكورون من بني تميم، أو قتلوا فيه، هو اسم ماء أو جبل لبني تميم قيل أنه بناحية البحرين2.
وكان "عمرو بن ملقط الطائي"، هو الذي أصاب "بني تميم" مع "عمرو ابن هند" يوم أوارة، فسأله فيهم فأطلقهم له، وكان وفادًا إلى الملوك3.
والأعشى الشاعر ممن ذكر هذا اليوم في شعره. وعير الشاعر جرير الفرزدق بيوم أوارة4.
وتذكر بعض الروايات عن يوم "أوارة" أن "عمرو بن ملقط الطائي"، هو الذي حرض "عمرو بن هند" على غزو بني دارم، وأنه شاركه في غزوهم. وقد أشير إلى ذلك في شعر للطرماح الطائي يفاخر به الفرزدق، وهو شاعر من بني تميم5. وسبب ذلك أن طيئًا كانت تطلب عثرات زرارة وبني أبيه؛ لأنه كان قد حرض عمرو بن هند عليهم. فلما بلغهم ما صنعوا بأخي الملك، أنشأ "عمرو بن ملقط" شعرًا، بلغ عمرو بن هند، فتأثر به، وقرر السير على زرارة وقومه للانتقام منهم بقتلهم شقيقه6.
ويفهم من بعض الرواة أن "يوم الشقيقة" كان قد وقع في عهد عمرو بن هند، إذ تذكر أن قومًا من شيبان جاؤوا مع قيس بن معد يكرب ومعهم جمع عظيم من أهل اليمن، وقصدوا إبلًا لعمرو بن هند، فردتهم بنو يشكر، وقتلوا فيهم، ولم يوصل إلى الإبل7.
1 البلدان "1/ 393"، العمدة "2/ 205". قال جرير:
أين الذين بسيف عمرو قتلوا
…
أم أين أسعد فيكم المسترضع
2 البلدان "1/ 393".
3 ذيل الأمالي "24".
4 معجم ما استعجم "1/ 207""طبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر القاهرة 1945م".
5
واسأل زرارة والمأمون ما فعلت
…
قتلى أوارة من رعلان واللذد
ودارم قد قذفنا منهم مئة
…
في جاحم النار إذ يلقون في الخدد
ديوان الطرماح "ص 145".
6 أيام العرب "103"
7 الأغاني "11/ 48""دار الكتب المصرية".
وقد رأى بعض أهل الأخبار، استنادًا إلى قصيدة للنابغة مطلعها:
أتاركة تدللها قطامِ
…
وضنًّا بالتحية والكلام
أن الذي قام بالغزو المذكور فيها هو "عمرو بن هند". وأن غزوه بلغ حتى جبال حمى1. غير أن الأبيات تدل على أن صاحب تلك الغزوة كان قد دوخ العراق، وأنه حارب قبائله، ولهذا لا يعقل أن يكون صاحبها عمرو بن هند، بل لا بد أن يكون ملكًا من آل غسان غزا العراق وإلى هذا الرأي ذهب المستشرق "نولدكه"2.
وفي بعض الروايات أن عمرًا توسط بين بكر وتغلب ابني وائل فأصلح بينهما بعد حرب البسوس، وأخذ رهائن من كل حي من الحيين مئة غلام من أشرافهم، ليكف بعضهم عن بعض، فكانوا يصحبونه في السلم والحرب3.
ويرى فريق آخر من الأخباريين أن الذي توسط لعقد الصلح بين القبيلتين هو المنذر بن ماء السماء4.
وذكر أن أناسًا من تغلب جاؤوا إلى "بكر بن وائل" يستسقونهم فطردتهم بكر للحقد الذي كان بينهم، فرجعوا عطاشًا، فمات سبعون منهم، فاجتمع بنو تغلب واستعدوا لملاقاة بكر ومحاربتهم، ثم خاف عقلاء الطرفين من عودة الحرب إلى ما كانت عليه، فتداعوا إلى الصلح، فتحاكموا إلى الملك "عمرو بن هند"، فطلب منهم سبعين رجلًا من أشراف وائل ليجعلهم في وثاق عنده، فإن كان الحق لبني تغلب، دفعوا إليهم ليأخذوا ثأرهم،
وإن لم يكن رجعوا سبيلهم، فجاءت تغلب وعلى رأسها عمرو بن كلثوم، وحل الخصومة عمرو بن هند5.
وفي رواية يذكرها "ابن دريد": أن "بني الحارث بن مرة" قتلوا ابنًا
1 شعراء النصرانية "ص 715".
2 الأغاني "19/ 127"، شعراء النصرانية "124".
3 الأغاني "11/ 42 وما بعدها"، "دار الكتب المصرية"، شعراء النصرانية "ص 198 وما بعدها".
4 الأغاني "11/ 44 وما بعدها""دار الكتب المصرية"، "9/ 172""مطبعة التقدم".
5 جمهرة أشعار العرب "120"، شرح القصائد السبع للزوزني "146 وما بعدها".
لعمرو بن هند، فرهن "سيار بن عمرو" قوسه بألف بعير، وضمنها لملك من ملوك اليمن، فعرف لذلك بـ "ذي القوس"1. أما "السكري"، فذكر أن سيارًا ذا القوس، كان قد رهن قوسه على ألف بعير في قتل الحارث بن ظالم، من النعمان الأكبر2.
ويفهم من الموارد الأعجمية أن عمرًا كان قد أغار على بلاد الشأم في سنة "563م"، وكان على عربها الحارث بن جبلة3. والظاهر أن الباعث على ذلك كان امتناع الروم عن دفع ما كانوا يدفعونه سابقًا لعرب الفرس مقابل إسكاتهم عن مهاجمة الحدود. فلما عقد الصلح بين الفرس والروم سنة "562م"، وهدأت الأحوال، لم يدفعوا لابن هند ما تعودوا دفعه لوالده، فأثر امتناعهم هذا في نفسه، وطلب من الفرس مساعدته في ذلك. فلما طالت الوساطة، ولم تأت بنتيجة، هاجم تلك المنطقة، ثم أعاد الغارة في سنة "566م" وسنة "567م" على التوالي. وقام بهاتين الغارتين أخوه قابوس بأمر أخيه.
ويعزو "مينندر""Manander" أسباب الغارة الأخيرة إلى سوء الأدب الذي أبداه الروم تجاه رسول ملك الحيرة الذي ذهب إلى القيصر "يوسطينوس""Justinus" لمفاوضته على دفع المال4. وكان الروم قد أرسلوا رسولين قبل ذلك إلى الفرس للبحث في هذا الموضوع، أحدهما اسمه بطرس، والآخر اسمه يوحنا، غير أنهما أنكرا للفرس حق ملك الحيرة في أخذ إتاوة سنوية من الروم. فلما عومل رسول ملك الحيرة معاملة غير لائقة قام قابوس شقيق عمرو بتلك الغارتين5.
وتذكر رواية من روايات أهل الأخبار أن "عمرو بن هند" جعل أخاه "قابوس بن المنذر" على البادية، ولم يعط أخاه "عمرو بن أمامة" شيئًا، وكان مغاضبًا له، فخرج "عمرو" إلى اليمن، فأطاعته مراد، وأقبل بها يقودها نحو العراق، ولكنها ثارت عليه، ثار عليه المكشوح وهو "هبيرة بن يغوث" فلما أحيط به ضاربهم بسيفه حتى قتل6.
1 الاشتقاق "2/ 172".
2 المحبر "461".
3 Rothstein، S. 96، Theophanes،371 Noldeke، Sassa، 172، Ghassan، 20.
4 Rothstein، S. 96، Menander، By Dindorf Histo. Min، II، 45.
5 Brothstein، S. 96.
6 معجم الشعراء "ص 206".
أما "أمامة" أم "عمرو بن أمامة"، فإنها "أمامة بنت سلمة بن الحارث الكندي" عم امرئ القيس1.
ويفهم من بعض الروايات أن عدي بن زيد العبادي كان من المقربين عند عمرو بن هند، وكان يصحبه مع من يصحبه من الرؤساء في الصيد2.
وانتهت حياة عمرو بن هند بالقتل، وهو مسئول عن قتل نفسه إن صحت القصة. وخلاصتها: أن الغرور أخذ مأخذه من صاحبنا عمرو، وأراد يومًا أن يظهر فخره أمام الناس، فقال لجلسائه: هل تعلمون أن أحدًا من العرب من أهل مملكتي يأنف أن تخدم أمه أمي؟ قالوا: ما نعرفه إلا أن يكون عمرو بن كلثوم التغلبي، فإن أمه ليلى بنت مهلهل بن ربيعة وعمها كليب وائل أعز العرب وزوجها كلثوم وابنها عمرو، فسكت وأضمرها في نفسه، ثم بعث إلى عمرو بن كلثوم يستزيره، ويأمره أن تزور أمه ليلى أم نفسه هند. فقدم عمرو مع أمه، فأنزلهما منزلًا حسنًا، ثم أمر بالطعام فقدم للحاضرين. وكان عمرو قد قال لأمه: إذا فرغ الناس من الطعام ولم يبق إلا الطرف، فنحي خدمك عنك، فإذا دنا الطرف فاستخدمي ليلى ومريها فلتناولك الشيء بعد الشيء. ففعلت هند ما أمرها به ابنها. فصاحت ليلى عندئذ: وأذلاه يا آل تغلب! فسمعها ولدها عمرو بن كلثوم، فثار الدم في وجهه، والقوم يشربون، وثار إلى سيف بن هند وهو معلق في السرادق، فأخذه وضرب به رأس مضرط الحجارة، ونادى في التغلبيين فأخذوا ما تمكنوا من أخذه، وعادوا من حيث أتوا3. وهكذا جنى عمرو بن هند حصاد ما زرعه إن صحت الرواية. ويروي الرواة في تأييدها هذا المثل:
1 معجم الشعراء "ص 206".
2 الأغاني "2/ 154".
3 ابن الأثير "1/ 126" الأغاني "9/ 175"، "11/ 53""دار الكتب المصرية"، ابن خلدون، القسم الأول، المجلد الثاني "566"، "بيروت 1965م" المحبر "202"، الشعر والشعراء، لابن قتيبة "185"، الأمالي، للقالي "1/ 193".
"أفتك من عمرو بن كلثوم". كما افتخر بها الشعراء التغلبيون1.
ويقال إنّ أخا عمرو بن كلثوم: "مرة بن كلثوم"، هو قاتل "المنذر ابن النعمان بن المنذر". وفي ذلك يقول الأخطل:
ابني كليب إن عمي اللذا
…
قتلا الملوك وفككا الأغلالا
يعني بعميه عمرًا ومرة ابني كلثوم2.
وذكر الشاعر "أفنون" واسمه "صريم بن معشر"، وهو من بني تغلب "عمرو بن هند" في شعر رواه "ابن قتيبة" على هذا النحو:
لعمرك ما عمرو بن هند إذا دعا
…
لتخدم أمي أمه بموفق3
وفي هذا البيت إشارة إلى مقتل "عمرو بن هند"، بسبب أم الملك. وقد وقع فيه تحريف ولا شك، صير الأم التي طلبت منها أم عمرو بن هند خدمتها، أم الشاعر المذكور، بينما هي "ليلى" أم الشاعر "عمرو بن كلثوم"، قاتل عمرو بن هند. كما يرويه علماء الشعر على لسان "أفنون" أيضًا، ولكن على هذا الشكل:
لعمرك ما عمرو بن هند وقد دعا
…
لتخدم ليلى أمه بموفق4
"وعمرو بن كلثوم، هو القائل:
ألا هبي بصحنك فاصبحينا
1 قانون أفنون التغلبي.
لعمرك ما عمرو بن هند وقد دعا
…
لتخدم ليلى أمه بموفق
فقام ابن كلثوم إلى السيف مصلتا
…
وأمسك من ندمانه بالمخنق
وجلله عمرو على الرأس ضربة
…
بذي شطب صافي الحديدة رونق
ابن الأثير "/ 226"، الأغاني "9/ 183"، شعراء النصرانية "200".
وقال الأخطل مفتخرًا:
ابني كليب إن عمي اللذا
…
قتلا الملوك وفككا الأغلالا
الأغاني "9/ 183"، ابن دريد. الاشتقاق "204"، خزانة الأدب "1/ 520"، حمزة "ص 72".
2 الشعر والشعراء "ص 119 وما بعدها".
3 الشعر والشعراء "119، 249".
4 الأغاني "9/ 183"، ابن الأثير "1/ 266".
وكان قام بها خطيبًا فيما كان بينه وبين عمرو بن هند. وهي من جيد شعر العرب القديم وإحدى السبع، ولشغف تغلب بها وكثرة روايتهم لها، قال بعض الشعراء:
ألهى بني تغلب عن كل مكرمة
…
قصيدة قالها عمرو بن كلثوم
يفاخرون بها مذ كان أولهم
…
يا للرجال لفخر غير مسؤوم1
وإلى هند أم الملك ينسب دير هند الكبرى من أديرة الحيرة، وقد أرخ بناؤه في عهد خسرو أنو شروان وفي عهد الأسقف مار افرايم. وقد لقبت فيه بالملكة بنت الأملاك وأم الملك عمرو بن المنذر2. وإذا صحت قراءة الأخباريين هذه، كان بناء هذا الدير في أيام ابنها عمرو.
وكان الملك من نصيب قابوس بن المنذر بعد وفاة عمرو بن هند أخي "قابوس" وأمه هند. أما المسعودي فجعل أمه بنت الحارث من آل معاوية بن معد يكرب3. وقد ملك على رواية حمزة أربع سنين في زمان أنو شروان4. وذكر حمزة أن من الأخباريين من قال إنه لم يملك. "وإنما سموه ملكًا؛ لأن أباه وأخاه كانا ملكين"، وقد وصفه بالضعف وباللين، ولذلك قيل له "فتنة العرس" و"قينة العرس" في بعض الروايات. وقد قتله رجل من يشكر، وسلب ما كان عنده وعليه5.
وليس بصحيح ما زعمه حمزة نقلًا عن بعض الأخباريين من أن قابوسًا لم يكن ملكًا، وإنما قيل له ذلك؛ لأن أباه وأخاه كانا ملكين. فقد نعته "يوحنا الأفسوسي""John Of Ephesus" في تأريخ الكنسي بـ "ملكًا" أي ملك، ويوحنا الأفسوسي من الرجال الذين عاشوا في القرن السادس للميلاد. وقد توفي سنة "585م" تقريبًا. ولم يكن لينعته بـ "ملكًا" لو لم يكن قابوس ملكًا على الحيرة حقًّا6.
1 الشعر والشعراء "ص 120"، شرح التبريزي على المعلقات "238"، أمالي المرتضى "1/ 57، 105/ 201، 327، 559".
2 الحيرة "ص 47".
3 مروج "2/ 24". "دار الرجاء".
4 حمزة "73"، المحبر "359"، مفاتيح العلوم "ص 69".
5 حمزة "73"، وجعل المسعودي مدة حكمه ثلاث سنين، مروج "2/ 24"، ابن الأثير "1/ 200"، المعاني الكبير "2/ 118".
6 John Of Ephesus: Eccl Histo، 354، II، 3، Cureton Ed 6، Rothstein، S. 102.
ويظهر أن الصورة التي رسمها الأخباريون لقابوس إنما حصلوا عليها من شعر الهجاء الذي قيل فيه، وأن ما أورده عنه من لين وضعف هو في حاجة إلى دليل، إذ يظهر من الموارد الأخرى مثل التواريخ السريانية أنه كان على العكس1. وقد يكون لتوليه الحكم، وهو رجل متقدم في السن، أصل في ذلك الهجاء. فالذي يظهر من أخباره أنه ولي الحكم وهو شيخ كبير. وأما اللقب الذي لقب به وهو قينة العرس، فقد انتزعه الأخباريون من شعر منسوب إلى طرفة هجا فيه عمرو بن هند وقابوسًا، وهو قوله:
يأت الذي لا تخاف سبته
…
عمرو وقابوس قينتا عرس2
وقد ذكر المؤرخ "مارسليانوس""Marsilianus" رجلاً سماه "Chabus"، ذكره مع المنذر الثالث في حوادث سنة "536م"3. ويرى "روتشتاين" أن المراد به رجل آخر غير قابوس. فلو كان هو المقصود به كان قابوس إذن شيخًا هرمًا حين انتقل الملك إليه، ولكنه لا ينفي مع ذلك عدم جوازه4 وقد أشرت إلى إرسال أخيه عمرو إليه في حملة انتقامية على عرب الشأم، وذلك في سنة "566" وسنة "567م".
ولما تولى قابوس الحكم، أغار على بلاد الشأم، وكان يحكم عرب الشأم المنذر بن الحارث بن جبلة إذ ذاك. وقد ذكر "ابن العبري" أن المنذر بن الحارث "منذر برحرت" كان نصرانيًّا وأن جنوده كانوا نصارى كذلك. ولم يشر إلى نصرانية قابوس. ويفهم من جملة ابن العبري "وقد أغار قابوس على العرب النصارى" ما يؤيد هذا الظن. وقد ظفر قابوس بغنائم عديدة أخذها وعاد بها غير أن المنذر جمع جيشه وسار يتعقبه. فلما التقى به، تغلب عليه، وأخذ منه أموالًا كثيرة وعددًا كبيرًا من الجمال. ولما أعاد قابوس الكرة، انهزم، فذهب إلى الفرس يلتمس منهم عونًا ومددًا5. ويظهر من رواية أخرى أن انتصار المنذر على قابوس كان في سنة "881" من التقويم السلوقي وهي توافق سنة "570" للميلاد6.
1 Rothstein، S. 102، Caussin، Essai، II، 129.
2 اليعقوبي "1/ 172".
3 Noldeke: Sassa، 345، Rothstein، S. 102.
4 Rothstein، S. 102.
5 Bar Hebraeus، Vol، I، P. 79.
6 Land: Anecd. Syr، I، 13.
ويظهر من رواية لـ "يوحنا الأفسوسي""John Of Ephesus" أن الملك قابوسًا انتهز الفرصة عند وفاة الحارث بن جبلة، فباغت الغساسنة بهجوم مفاجئ في عقر دارهم، فأسرع عندئذ المنذر بن الحارث وجمع جمعه، وفاجأه بهجوم مقابل لم يتمكن قابوس من الثبات له، فانهزم هزيمة منكرة بحيث لم ينج من أصحابه إلى القليل، وقد فر هو ومن سار معه من الناجين في اتجاه نهر الفرات تاركًا عددًا من الأمراء اللخميين أسرى في أيدي المنذر. غير أن المنذر سار في أثرهم حتى كان على ثلاث مراحل من الحيرة1، ويرى نولدكه أن هذه المعركة هي معركة عين أباغ2
وبعد قليل من هذه الهزيمة جرب قابوس حظه مرة أخرى، غير أنه مني بخسارة جديدة، وكانت هذه الغارة حوالي سنة "570م"3.
وجرب قابوس حظه مرة أخرى منتهزًا فرصة القطيعة بين المنذر والقيصر "يسطينوس""Justinus"، وهي قطيعة لا نعلم أسبابها على وجه التحقيق، وإنما يعزو ابن العبري سببها إلى مطالبة المنذر للقيصر بدفع مال إليه ليتمكن به إعداد جيش قوي منظم يستطيع الوقوف به أمام الفرس4. فأغار على حدود الروم وتوغل في الأرضين التابعة لهم حتى وصل أتباعه إلى منطقة "أنطاكية"5. وقد دامت تحرشات "عرب الفرس" بحدود الروم ثلاث سنين هي مدة القطيعة، حيث كان المنذر قد ذهب مع أتباعه إلى الصحراء فاحتمى فيها، ولم تنقطع هذه التحرشات إلا بعد مصالحة الروم له في الرصافة. حينئذ جمع المنذر أتباعه وفاجأ المناذرة بهجوم خاطف كابدت منه الحيرة الأمرين، وأطلق من كان في سجون الحيرة من أسرى الروم. وقد وقعت هذه المفاجأة حوالي سنة "578م". ويظن "روتشتاين" أنها وقعت بعد وفاة قابوس في عهد المنذر الرابع أخي "قابوس" وخليفته في الملك6.
وقد ذكر "البكري" بيتًا من الشعر لأبي دؤاد وردت فيه إشارة إلى غزوة
1 John Of Ephesus، VI، 3، Rothstein، S. 103.
2 Rthstein، S. 103.
3 Rotstein، S. 103.
4 Bar Hebraeus، I، P. 79.
5 John Of Ephesus، P. 348، Rothstein، S. 104.
6 Rothstein، S. 104
غزاها قابوس عرفت بـ "يوم قحاد". ويظهر أن خصوم قابوس أخذوا بثأرهم من هذا اليوم بغزوة قاموا بها على تنوخ1.
ويفاجئنا بعض الأخباريين بذكر رجل يقال له "فيشهرت" أو "السهرب" أو "السهراب"، قالوا أنه هو الذي تولى الملك بعد قابوس2. وقد جعل حمزة مدة حكمه سنة واحدة في أيام "كسرى أنو شروان"3. ولم يشر الأخباريون إلى الأسباب التي أدت إلى تعيين هذا الرجل الغريب ملكًا على الحيرة دون سائر آل لخم، ومنهم المنذر أخو عمرو بن هند وقابوس، فلعل اضطرابًا حدث في المملكة أو نزاعًا وقع بين أولاد قابوس أو بين آل لخم أدى إلى تدخل الفرس فقرروا تعيين رجل غريب عن أهل الحيرة لأمد حتى تزول أسباب الخلاف، فقرروا تعيين واحد منهم. فلما زالت تلك المواقع، عين المنذر ملكًا على الحيرة وبذلك عاد الملك إلى آل لخم.
ويلاحظ أن بعض الأخباريين لم يذكروا اسم فيشهرت أو السهراب، بل ذكروا أن الملك انتقل إلى المنذر بعد وفاة أخيه قابوس4. وذكر المسعودي في كتابه: مروج الذهب النعمان بن المنذر مباشرة بعد قابوس5.
وإذا صحت رواية حمزة من أن حكم المنذر كان ثمانية أشهر في عهد "كسرى أنو شروان" وثلاث سنين وأربعة أشهر في أيام "هرمز بن كسرى"، فيجب أن يكون حكمه قد امتد من سنة "579" حتى سنة "583" للميلاد6، تقريبًا؛ لأن نهاية حكم "أنو شروان" كانت في سنة "579" للميلاد على رأي المؤرخين، وحكم "هرمز" من سنة "579" حتى سنة "590" للميلاد7.
ويظهر من شعر منسوب إلى الشاعر "المرقش" أن "المنذر" كان ينقب عنه أي: يستقصي في طلبه، ولم يذكر سبب ذلك، ولعله كان قد هجاه، أو أن
1 البكري. معجم "3/ 149""طبعة السقا".
2 حمزة "ص 73"، المحبر "ص359"، الطبري "2/ 213""دار المعارف".
3 حمزة "ص 73"، المحبر "ص359""فيسهرب الفارسي"، مفاتيح العلوم "69".
4 اليعقوبي "1/ 172".
5 مروج "2/ 24".
6 حمزة "ص 73". المحبر "ص359"، "ثم ولى بعده المنذر أبو النعمان أربع سنين"، الطبري "2/ 213".
7 Ency.، 4، 178.
جماعة وشت به عنده، فصار يبحث عنه للإيقاع به. وقد طلب في شعره هذا من الملك المذكور أن يكف عن طلبه ويسكت عنه، وتمنى لو أنه في "الزج" وهو موضع، أو "بالشام ذات القرون". وذلك؛ لأن بلاد الشام بلاد كانت تحت حكم الروم، فليس للمنذر حكم عليها، فهو يكون بها في بلاد العدو بعيدًا عن المنذر. وذكر "ابن قتيبة" أن معنى "ذات القرون" الروم. وأراد قرون شعورهم1.
ويظهر من شعر لـ "سويد بن خذاق" أن "قابوس بن هند" وأخًا من إخوته لم يذكر الشاعر اسمه "غزوا قومه، وهم من عبد القيس، وانتصرا عليهم وأنزلا بهم خسارة فادحة، يوم العطيف: ففرقا القبائل، وكانت أحلافًا متحالفة، وشتتا الشمل، ودعا "الله" أن يجزيهما شر الجزاء بما فعلا، وأن يحبس لبن "لبون الملك"، فلا تدر عليه، جزاء وفاقًا لما قاما به نحو قومه2.
أما الذي خلفه على الحيرة، فهو النعمان بن المنذر المعروف بأبي قابوس. وقد كناه بعض الشعراء بـ "أبي قبيس"3. كما كناه بعضهم بـ "أبي منذر"4. ويذكر أهل الأخبار أن الناس كانوا إذا دخلوا على النعمان أو كلموه، قالوا له:"أبيت اللعن". وذكر المسعودي: أنه "هو الذي يقال له: أبيت اللعن"5.
أما أم النعمان، فهي "سلمى بنت وائل بن عطية بن كلب"، أو "سلمى بنت عطية"6. وقد نسبها بعض الأخباريين إلى سلمى بنت وائل بن عطية الصائغ. وقالوا إنها من فدك، وزادوا في ذلك أنها كانت أمة للحارث بن حصن بن ضمضم ابن عدي بن جناب من كلب من دومة الجندل7. فهي بنت صائغ من فدك على رواية بعض، وأمة من دومة الجندل على رواية بعض آخر. وهي في كلتا الحالتين من طبقة وضيعة لا تليق بأسرة مالكة، ولعلها من أصل يهودي8، إذ
1المعاني الكبير "2/ 797".
2 الشعر والشعراء "ص 229"، "ليدن".
3 في شعر النابغة 30، 7، 31، 1، علقمة 12. Rothstein، S. 107.
4 Rothstein، S. 107.
5 مروج "2/ 24""طبعة محمد محيي الدين عبد الحميد".
6 مروج "2/ 24"، الأغاني "11/ 13""دار الكتب المصرية"، الأغاني "2/ 106"، "القاهرة 1928".
7 الطبري "2/ 147".
8 Rothstein، S. 108.
كان أكثر أهل فدك من اليهود. وكانوا يحترفون الحرف ومنها الصياغة. وقد دعي النعمان بأمه، فقيل له ابن سلمى في شعر الهجاء، وقصدهم من ذلك إهانته.
وقد تولى النعمان الثالث، وهو النعمان الذي نتحدث عنه، الحكم في حوالي السنة "580" أو السنة "581" للميلاد، ودام حكمه حتى السنة "602م"1.
والظاهر من وصف الأخباريين له أنه كان دميم الخلقة، فقالوا، إنه كان أحمر، أبرش، قصيرًا2. وهذا مما قوى جانب خصومه في التهكم به، يضاف إلى ذلك أصل أمه، وقد أثر هذا النقص الذي لا يد له فيه، في نفسية النعمان، وفي سلوكه، ولا شك، فصيره سريع الغضب، أخاذًا بالوشايات، فوقع من أجل ذلك في مشكلات عديدة. وقد يكون تسرعه إلى تصديق ما قاله الواشون عن عدي بن زيد، وتأثره بأقوالهم من غير تحقيق ولا امتحان وقتله له، من جملة تلك العوامل التي أدت إلى هلاكه. وقد يكون اللقب الذي لقب به، وهو "الصعب"3، وصفًا لتلك السجايا التي اتصف بها الملك، والتي تعبر عن عقدة "مركب النقص" التي كانت ملازمة له.
وقد كان لقبح النعمان ودمامته ولأصل أمه دخل ولا شك في تكوين الخلق العصبي فيه، فصار يهيج ويتأثر به، ويأخذ بأقوال الوشاة من غير تمحيص ولا تروٍّ، فنقمت منه الناس، وهجاه بعض الشعراء. أما إخوته وكانت عدتهم اثني عشر رجلًا عدا النعمان، فقد اشتهروا بالجمال والهيبة والوسامة، ولذلك نعتوا بالأشاهب، فوصفهم الأعشى بقوله:
وبنو المنذر الأشاهب بالحـ
…
ـيرة يمشون غدوة بالسيوف4
وقد أثرت شهرة أخوته بالأشاهب وبالوسامة في طبع النعمان المذكور، وزادت في عصبيته وفي حدة طبعه وفي تأثره بأقوال الناس.
ويظهر من وصف الشعراء وأهل الأخبار للنعمان أنه كان صاحب شراب، يحب
1 Brockelmann; Die Araber، I، S. 10.
2 الطبري "2/ 147"، الكامل، لابن الأثير "1/ 285""الطباعة المنيرية".
3 المعاني الكبير "2/ 878، 1028".
4 الطبري "2/ 194""دار المعارف"، الكامل، لابن الأثير "1/ 285""الطباعة المنيرية".
الخمر ويجالس ندماءه ليشرب معهم، غير أن الخمر كانت تؤثر فيه وتستولي على عقله، فتدفعه إلى السكر والعربدة والتطاول على ندمائه، مما أزعج أصدقاءه وحولهم إلى خصوم وأعداء بسبب إهانات لحقت بهم منه في أثناء فقده وعيه وعدم تمكنه من حفظه اتزانه1.
وقد عبر الشاعر "لبيد بن ربيعة العامري" عن النعمان بـ "الصعب ذي القرنين" في شعره، مما يدل على أن لقب "الصعب" الذي لقبه به كان معروفًا شائعًا بين الناس2. وقد يكون معبرًا عن معنى آخر غير معنى الصعوبة في الملك، كأن يكون إطلاقهم له من قبيل إطلاقهم لفظة "تبع" على من ملك من حمير. وأما "ذو القرنين" فقد قيل: إن القرنين هم الضفيرتان، وأن القرن الضفيرة. وقد دعي بذلك؛ لأنه كان قد ربى ضفيرتين3.
وقد جاء في رواية أخرى أن "الصعب ذا القرنين" لم يكن النعمان المذكور كما ذهبت إليه الرواية المتقدمة، وإنما هو "المنذر بن ماء السماء، وأنه هو ذو القرنين"4.
ويظهر من بيت الشعر الذي نتحدث عنه وهو:
والصعب ذو القرنين أصبح ثاويًا
…
بالحنو في جدث، أميم، مقيم
إن "الصعب ذا القرنين" كان قد ثوى في قبره، فهو يرثيه ويذكره. وذهب الشراح إلى أن "الحنو" اسم بلد، ومعنى هذا أن الملك الذي يشير إليه "لبيد" قد دفن في هذا الموضع، والذي نعرفه من بعض الروايات أن قبر "النعمان" كان بالحيرة، وأن ابنته هندًا قد دفنت إلى جانبه.
ومن الشعراء الذين نسب إليهم هجاء النعمان الشاعر عمرو بن كلثوم، وله فيه وفي أمه هجاء مر. وقد وصف خاله بأنه ينفخ الكير، ويصوغ القروط بيثرب أي أنه كان من صاغة تلك المدينة، وهو مما يؤيد روايات الأخباريين في أصل أمه5.
1 شرح ديوان لبيد بن ربيعة العامري "ص 257".
2 شرح ديوان لبيد بن ربيعة العامري "تحقيق الدكتور إحسان عباس"، "ص 109".
3 المصدر المذكور.
4 شرح ديوان لبيد "ص 109".
5 الأغاني "11/ 58 وما بعدها".
لم ينتقل الملك إلى النعمان بسهولة، فقد كان للمنذر جملة أولاد حين أتته المنية، عدتهم ثلاثة عشر ولدًا معظمهم طامع في الملك، والظاهر أن المنذر كان عارفًا بالخلاف الذي كان بين أولاده، فلم يشأ أن يزيده بتعيين أحد أبنائه. ولا ندري لم لم ينص على أكبرهم جريًا على السنة المتبعة في انتقال الملك. ولعله كان عارفًا بحراجة الموقف وضعف مركز ابنه الكبير، وعدم تمكنه من فرض نفسه عليهم إذا عينه ونصبه، لذلك وكل أمره كله إلى إياس بن قبيصة الطائي، فتولاه أشهرًا حتى انفرجت المشكلة على النحو التالي على حد رواية ابن الكلبي.
دعا كسرى بن هرمز عدي بن زيد العبادي، فقال له: من بقي من بني المنذر؟ وما هم؟ وهل فيهم خير؟ فقال عدي: بقيتهم في ولد هذا الميت، المنذر بن المنذر، وهم رجال. فبعث إليهم يمتحنهم. فلما وفدوا على كسرى، أنزلهم على عدي بن زيد. فاحتال عدي على هؤلاء الأخوة كما يقول الأخباريون وتظاهر أنه يفضلهم على ربيبه النعمان، وأوصاهم أن يجيبوا جوابًا معينًا حين يسألهم كسرى، وأمر النعمان أن يجيب جوابًا آخر يختلف عن جواب إخوته. وهو جواب يعتقد أن كسرى سيرضى عنه ويعينه. فلما أدخلوا على كسرى وأجابوا بجواب واحد هو الجواب الذي لقنهم إياه عدي، وهو:"إن سألكم الملك، أتكفونني العرب. فقالوا نكفيكهم إلا النعمان، وقال للنعمان: إن سألك الملك عن إخوتك فقل له: إن عجزت عنهم، فأنا عن غيرهم أعجز"، رضي كسرى بجواب النعمان وسر به، فملكه وكساه، وألبسه تاجًا قيمته ستون ألف درهم فيه اللؤلؤ والذهب1. فانتصر بذلك النعمان على إخوته، وسر عدي بن زيد بتولي ربيبة الملك.
وفي خبر لأبي الفرج الأصبهاني أن عدي بن زيد أخذ النعمان إلى "جابر بن شمعون"، وهو من "بني الأوس بن قلام بن بطين بن جمهير بن لحيان من بني الحارث بن كعب"، وكان أسقفًا على الحيرة، فاقترضا منه مالًا لتدبير أمورهما به، وذكر أن جابرًا هو صاحب القصر الأبيض الذي بالحيرة2، وكان
1 الطبري "2/ 147"، "2/ 195 وما بعدها""دار المعارف"، الأغاني "2/ 106 وما بعدها""دار الكتب المصرية".
2 الأغاني "2/ 115""دار الكتب المصرية".
ذا سلطان واسع في بني قومه، ولذلك فقد يكون لأخذ عدي للنعمان إليه للحصول على تأييده أثر في نجاحه في تولي العرش.
ويروي المفضل الضبي أن عدي بن زيد العبادي لما قدم على النعمان صادفه لا مال عنده ولا أثاث ولا ما يصلح لملك، وكان آدم إخوته منظرًا، وكلهم أكثر مالًا منه، فقال له عدي: كيف أصنع بك ولا مال عندك! فقال له النعمان: ما أعرف لك حيلة إلا ما تعرف أنت، فقال له: قم بنا نمضي إلى ابن قردس –رجل من أهل الحيرة من دينه- فأتياه ليقترضا منه مالًا، فأبى أن يقرضهما وقال: ما عندي شيء. فأتيا جابر بن شمعون، وهو الأسقف وهو أحد بني الأوس بن قلام بن بطين بن جمهر بن لحيان من بني الحارث بن كعب، فاستقرضا منه مالًا، فأنزلهما عنده ثلاثة أيام، يذبح لهم ويسقيهم الخمر. فلما كان في اليوم الرابع، قال لهما: ما تريدان؟ فقال له عدي: تقرضنا أربعين ألف درهم يستعين بها النعمان على أمره عند كسرى، فقال: لكما عندي ثمانون ألفًا، ثم أعطاهم إياها، فقال النعمان لجابر: لا جرم، لا جرى لي درهم إلا على يديك إن أنا ملكت1!.
ولكن انتصار النعمان أدى إلى هلاك عدي بن زيد على ما يقوله الأخباريون، فقد كان لعدي، كما لكل رجل كبير صار له نفوذ وجاه ومركز خطير، أعداء في مقدمتهم رجل اسمه كاسمه ودينه مثل دينه، هو "عدي بن أوس بن مرينا"، وبنو مرينا أسرة لها مكانتها وخطرها في الحيرة. وكان لهذا الرجل شأن يذكر في أيام المنذر، وكان يميل إلى الأسود بن المنذر؛ لأنه ربيب بني مرينا، فنصحه أن يتجنب الأخذ برأي عدي بن زيد؛ لأنه رجل لا ينصح، فلما أخفق الأسود في الامتحان، وعجز عن نيل التاج، صار يدبر المؤامرات لخصمه عدي، ويشي به إلى النعمان، ويغري آخرين بالتظاهر بأنهم من محبي عدي، ليثق النعمان بهم، فإذا أمن بهم، عادوا فوشوا بعدي عنده، ثم لم يكتف بذلك فوضع رسائل على لسان عدي إلى قهرمان لعدي فيه مكر ومؤامرة بالنعمان، ثم دس له حتى أخذ الكتاب، فجاء به إلى النعمان، فلما قرأه صدق بما جاء فيه، وغضب على عدي وقرر الانتقام منه2.
1 الأغاني "2/ 115 وما بعدها".
2 الطبري "2/ 147 وما بعدها"، اليعقوبي "1/ 173"، الأغاني "2/ 108 وما بعدها""دار الكتب المصرية".
جرت كل هذه المؤامرات على ما يقوله الأخباريون، وعدي عند كسرى يقوم بوظيفته لا يدري بها. فلما كتب النعمان إليه:"عزمت عليك إلا زرتني، فإني قد اشتقت إلى رؤيتك". صدق كلامه، واستأذن كسرى فأذن له. وسار إلى منيته وهو لا يدري ما يخبئه له القدر. فلما وصل إلى من كان مشتاقًا إلى رؤيته، ألقاه في سجن منفرد لا يدخل عليه فيه أحد، وهو لا يدري بم سجن. وفي السجن أخذ ينظم أشعارًا يتضرع فيها إلى النعمان أن يفك أسره، ويعظه فيها بالموت وبمن هلك قبله من الملوك الماضين، وكاد يطلقه لولا وشاية أعدائه به. فلما طال سجنه، كتب بشعر إلى أخيه "أبي" وهو مع كسرى يستجير به للتوسط لدى كسرى أن يكتب إلى النعمان يأمره بفك أسره. فلما كتب كسرى بذلك كتابًا أرسله مع شخص إلى النعمان، كتب خليفة النعمان عند كسرى إليه يبلغه بمجيء الرسول، وعرف أعداء عدي من "بني بقيلة" من غسان، فقالوا للنعمان: اقتله الساعة قبل وصول الرسول إليك، فإن لم تفعل فسيذهب إلى كسرى فلا يستبقي أحدًا لا أنت ولا غيرك. فبعث إليه النعمان أعداءه فغموه حتى مات في سجنه بالصنين. ولما وصل الرسول، رشي بهدايا كثيرة نفيسة، فعاد إلى كسرى يخبره أن عديًّا مات قبل وصوله بأيام1.
وقد أحس عدي بن زيد كما يقول الأخباريون بامتعاض خصمه عدي بن أوس بن مرينا من الحيلة التي دبرها لنجاح النعمان وبمحاولته الغدر به، فأراد مصالحته واسترضاءه كما يقول الأخباريون فعمل له طعامًا دعا إليه من أحب عدي بن أوس بن مرينا حضوره، وحلف بعد انتهاء الطعام في البيعة أنه لن يحقد عليه، وأنه سيتناسى ما حدث، ورجا من خصمه أن يفعل مثله. فقام عدي بن أوس إلى البيعة، فحلف مثل يمينه أن لا يزال يهجوه أبدًا ويبغيه الغوائل ما بقي. وقد كان2. وهم يروون شيئًا من هذا التهاجي الذي وقع بين الخصمين.
ويذكر أهل الأخبار أن عدي بن مرينا صار يحرض الأسود ويحثه على الأخذ
1 الطبري "2/ 152"، اليعقوبي "1/ 173"، مروج الذهب "2/ 25 وما بعدها" الأغاني "6/ 65""دار الكتب المصرية"، الكامل لابن الأثير "1/ 286 وما بعدها""الطباعة المنيرية"، المعاني الكبير "3/ 1261 وما بعدها".
2 الطبري "2/ 147".
بثأره من عدي بن زيد، فكان يقول له:"أما إذا لم تظفر، فلا تعجزن أن تطلق بثأرك من هذا المعدي الذي فعل بك ما فعل، فقد كانت أخبرك أن معدًّا لا ينام كيدها"1. وعدي من تميم، وتميم من معد.
وهناك روايات أخرى في أسباب غضب النعمان على عدي وحبسه له في الصنين لا تخرج في جملتها عن حدود هذه المنافسة التي دبرها عدي بن مرينا وخصوم عدي له، ولكنها تجمع كلها على قتل النعمان لعدي2.
وفي كتاب الأغاني رواية تذكر أن النعمان أرسل ذات يوم إلى عدي بن زيد أن يأتيه، فأبى أن يأتيه، ثم أعاد رسوله فأبى أن يأتيه، وقد كان النعمان شرب، وأمر به فسحب من منزله حتى انتهى به إليه، فحبسه في الصنين بظاهر الكوفة من منازل المنذر، وبه نهر ومزارع، وبقي هناك حتى لاقى حتفه3.
ويظهر من شعر ينسب إلى عدي، قاله لابنته يوم باتت عنده مع أمها في السجن، وهي جويرية صغيرة، إن النعمان كان قد أمر بوضع الغل في يديه4.
والقصة كما يرويها الأخباريون قصة طريفة تصلح أن تكون موضوعًا لشريط سينمائي اختلط فيها التأريخ بالخيال، والواقع بالإبداع. أما نحن فلا يهمنا من أمرها إلا النتيجة، وهي أن الفرس قبضوا على النعمان ملك الحيرة وسجنوه، وأن حادثًا وقع بعد ذلك كان وقعه عظيمًا في نفوس العرب، لا في العراق وحده، إنما دوى صداه إلى جميع جزيرة العرب كلها، هو حادث وقعة ذي قار، وهي من الوقائع الفاصلة في تأريخ الجزيرة كان لها أثر في فتح الإسلام للعراق.
وندم النعمان كما يقول الأخباريون على ما صنع، واجترأ أعداء عدي عليه، وهابهم هيبة شديدة. وبينما كان يومًا في صيده، إذ به يشاهد غلامًا ظريفًا ذكيًّا ففرح به فرحًا شديدًا. فلما عرف أنه زيد وأنه ابن من أبناء عدي، قربه وأعطاه وحباه، ثم أرسله إلى كسرى، وكتب معه كتاب توصية رقيقة يشير فيه إلى منزلة عدي منه وإلى خسارته بوفاته وإلى عظم المصيبة، ويوصي كسرى بالولد خيرًا. فلما وصل زيد إلى كسرى، جعله مكان أبيه وصرف عمه إلى عمل آخر،
1 الأغاني "2/ 109""دار الكتب المصرية".
2 شعراء النصرانية "ص 450".
3 الأغاني "2/ 115 وما بعدها".
4 مجالس العلماء "162 وما بعدها".
فكان هو الذي يلي ما يكتب به إلى أرض العرب وخاصة الملك. ولما مضى وقت على زيد في هذه الوظيفة، وقع عند الملك بهذا الموقع مكانًا حسنًا، وتعالت منزلته عنده. ولما اطمأن إلى مركزه أخذ يدبر مكيدة الانتقام من النعمان قاتل أبيه حتى نجح في مسعاه، إذ قبض عليه كسرى فبعث به إلى سجن خانقين، فلم يزل في السجن حتى وقع الطاعون فمات فيه. وفي رواية أنه مات بساباط1. وقد رجح الطبري رواية خانقين، وأنه مات بسحق الفيلة به. وفي رواية أخرى أنه سجن في القطقطانه في البر2. وهكذا نجد الرواة يذهبون جملة مذاهب في سجن النعمان.
والذين يروون أن حبس النعمان كان بساباط يستشهدون بشعر للأعشى جاء فيه:
فداك وما أنجى من الموت ربه
بساباط حتى مات وهو محرزق3
وقد ذكر المسعودي قصة حبس النعمان ووفاته فقال: "وأمر كسرى النعمان فجلس في مجلسه بساباط المدائن، ثم أمر به فرمي تحت أرجل الفيلة، وقال بعضهم: بل مات في محبسه بساباط"4، مما يدل على أنه وفاته كانت في المدائن.
وفي رواية سريانية أن كسرى بعد أن قبض على النعمان بن المنذر وأولاده سقاهم سمًّا فماتوا، وعصى عندئذ العرب الفرس وأخذوا يهاجمونهم. فأرسل كسرى قائدًا سمته الرواية بـ "بولر" تولى أمر الحيرة، ولكنه لم يتمكن من ضبط أمورها، لشدة أهلها، فانصرف عنها وترك أمرها لمرزبان اسمه "رزوبى
1 البلدان "7/ 125"، ابن الأثير "1/ 173"، "وهو ساباط كسرى بالمدائن، اللسان "7/ 311"، "سبط".
2 البلدان "7/ 125"، الأغاني "2/ 28"، نوادر المخطوطات، المجموعة الثالثة "251".
3 الأغاني "6/ 65""دار الكتب المصرية"، الكامل، لابن الأثير "1/ 185 وما بعدها"، مروج الذهب "2/ 100 وما بعدها"، "هو ساباط كسرى بالمدائن، وبالعجمية بلاس آباد، وبلاس اسم رجل، ومنه قول الأعشى:
فأصبح لم يمنعه كيد وحيلة
…
بساباط حتى مات وهو محرزق
يذكر النعمان بن المنذر وكان "أبرويز حبسه بساباط ثم ألقاه تحت أرجل الفيلة. وساباط: موضع، قال الأعشى:
هنالك ما أغنته عزة ملكه
…
بساباط حتى مات وهو محرزق
اللسان "7/ 311"، "سبط".
4 مروج "2/ 26"، "طبعة محمد محيي الدين عبد الحميد"، "ثم النعمان بن المنذر، وهو الذي قتله أبرويز تحت أرجل الفيلة، وهو آخر ملوك لخم". مفاتيح العلوم "96".
مرزوق"، أقام في برية الحيرة في حصن حفنة، وأخذ يقاتل منه الأعراب1.
وفي رواية لـ "حمزة الأصفهاني" أن كسرى لما سخط على النعمان بن المنذر واستدرجه إليه من وسط البادية، رمى به إلى أرجل الفيلة، واستباح أمواله وأهله وولده، وأمر أن يباعوا بأوكس الأثمان2.
وتذكر بعض الروايات سبب غضب "كسرى" على النعمان، أن "زيد" وهو ابن المقتول "عدي بن زيد" الذي نال مكانة عظيمة عند كسرى، أو عمه، كانا قد دبرا مكيدة للإيقاع بالنعمان. فلما طلب "ابرويز" النساء دخل عليه "زيد"، فكلمة فيما دخل فيه، ثم قال: إني رأيت الملك كتب في نسوة يطلبن له، فقرأت الصفة، وقد كنت بآل المنذر عالمًا، وعند عبدك النعمان من بناته وبنات عمه وأهله أكثر من عشرين امرأة على هذه الصفة. قال فتكتب فيهن. قال: أيها الملك، إن شر شيء في العرب وفي النعمان خاصة أنهم يتكرمون عن العجم، فأنا أكره أن يغيبهن، فابعثني وابعث معي رجلًا من العجم من حرسك يفقه العربية، حتى أبلغ ما تحبه. فبعث معه رجلاً جليدًا فخرج به زيد حتى بلغ "الحيرة". فلما دخل على الملك النعمان، قال: إنه قد احتاج إلى نساء لأهله وولده، وأراد كرامتك بصهره، فبعث إليك. فشق عليه، فقال لزيد: أما في بقر السواد وفارس ما يكفيه حتى يطلب ما عندنا؟ فقال زيد للنعمان: إنما أراد كرامتك، ولو علم أن هذا يشق عليك، لم يكتب إليك به. وعادا. فلما دخلا على "كسرى"، وقصا عليه ما وقع وحدث، عرف الغضب في وجهه، ووقع في قلبه منه ما وقع. وسكت "كسرى" على ذلك أشهرًا، ثم فعل ما فعل بالنعمان3. وانتقم "زيد" بهذه المكيدة من النعمان قاتل والده.
وقد أشير إلى مصرع النعمان في شعر عدد من الشعراء مثل سلامة بن جندل،
1 Histoirenestorienne، Iime Partie، PP. 536، 546.
2 حمزة "ص42".
3 الطبري "2/ 201 وما بعدها"، نوادر المخطوطات، المجموعة الثالثة، رسالة أبي غرسيه "ص 250-251"، رسالة أبي يحيى بن مسعدة "ص277"، رسالة لأبي الطيب بن من القروي "319 وما بعدها".
وقد ورد فيه ذكر القاء كسرى للنعمان تحت أرجل الفيلة1. ويتفق هذا الرأي مع رأي ابن الكلبي ويعارض رواية لحماد جاء فيها أنه مات بحبسه في ساباط2.
وذكر أن هانئ بن مسعود الشيباني كان في جملة من رثى النعمان في شعر. وقد نعته بـ "ذي التاج"، ويفهم من رثائه له أن موته كانت تحت أرجل الفيلة، حيث داست على رأسه. وورد في شعر شعراء آخرين أن "فيول الهند" تخبطته وداست عليه3.
وهناك قصيدة نسبها بعضهم إلى إلى زهير بن أبي سلمى، ونسبها آخرون إلى صرمة الأنصاري. ذكر فيها كيف ذهب النعمان –قبل ذهابه إلى كسرى- إلى من كان يحسن إليهم، ويغدق عليهم الألطاف، فلما غضب عليه كسرى لم يجره هؤلاء، ولم يساعدوه إلا ما كان من بني رواحة من عبس، فشكرهم النعمان وودعهم وأثنى عليهم، وقال لهم: لا طاقة لكم بجنود كسرى، فانصرفوا عنه4.
وساباط: هو على ما يذكره أهل الأخبار، موضع بالمدائن، به كان حبس النعمان على رواية من صرح بأنه كان محبسه لا موضعًا آخر، ثم ألقاه تحت أرجل الفيلة. وذكر "ابن الكلبي" أنه إنما سمي بساباط نسبة إلى "سابابط بن باما" أخي النخير جان الذي لقي المسلمين في أهل المدائن5.
ويظهر من شعر "للأعشى" أن "كسرى" أمر بالنعمان فحبس بـ "ساباط" ثم ألقاه تحت أرجل الفيلة فوطئته حتى مات. يقول الأعشى:
هو المدخل النعمان بيتًا سماؤه
…
نحور الفيول بعد بيت مسردق6
وللبيد بن ربيعة العامري قصيدة نظمها في رثاء النعمان. من أبياتها:
له الملك في ضاحي معد وأسلمت
…
إليه العباد كلها ما يحاول
1 شعراء النصرانية "ص 491".
2 شعراء النصرانية "ص 464".
3 مروج الذهب "2/ 101".
4 شعراء النصرانية "ص 584"، الكامل، لابن الأثير "6/ 287""الطباعة المنيرية"، مروج الذهب "2/ 101".
5 ديوان الأعشى، قصيدة 26، "ص128"، اللسان، "7/ 308" بيروت 1956م، البلدان "3/ 166"، دائرة المعارف الإسلامية، لمحمد فريد وجدي "7/ 24".
6 المعارف "ص 650".
وضاحي معد، بمعنى ظاهر معد، لا في معد نفسها؛ لأن "رب معد" في أيامه هو "حذيفة بن بدر". أما النعمان فهو ملك على ما وراء ديار معد. والعباد هنا هي القبائل النصرانية المعروفة من أهل الحيرة1.
وقد ذكر الأخباريون أنه كان يتوقع أن يدبر له كسرى مكيدة، فقرر أن ينجو بنفسه قبل حلولها به، فلحق بجبلي طيء، وكان متزوجًا إليهم، فأراد النعمان أن يدخلوه الجبلين ويمنعوه، فأبوا عليه خوفًا من كسرى، فأقبل وليس أحد من العرب يقبله حتى نزل "ذو قار" في بني شيبان سرًّا، فلقي هانئ بن مسعود الشيباني، وكان سيدًا منيعًا، فأودعه أهله وماله وسلاحه، ثم توجه بعد ذلك إلى كسرى، حيث لقي مصرعه2.
أما زوجة النعمان هذه، فهي ابنة "سعد بن حارثة بن لأم الطائي"، وهو من أشراف طيء البرص، وكان "النعمان" قد جعل لبني لأم بن عمر ربع الطريق طعمة لهم، وذلك بسبب زواجه المذكور3.
وذكر أن أحد أولاد "النعمان بن المنذر" كان شاعرًا، وقد عرف بـ "المحرق" فلما سمع بقتل "كسرى" لأبيه، قال شعرًا يخاطبه فيه، منه قوله:
قولا لكسرى، والخطوب كثيرة
…
إن الملوك بهرمز لم تحبر4
ويروى أن النابغة الذبياني لما سمع بمقتل النعمان، رثاه بأبيات. وهي إن صح أنها من شعر النابغة حقًّا، تدل على أن هذا الشاعر قد عاش أيضًا بعد مقتل النعمان5. وروي، أن "زهير بن أبي سلمى" رثى النعمان كذلك6.
ويروي أهل الأخبار شعرًا زعموا أن "عدي بن زيد" قاله لأهل بيت النعمان، هو:
1 شرح ديوان لبيد "ص 257".
2 الكامل "1/ 173".
3 المحبر "ص 301"، الأغاني "حاتم الطائي".
4 المؤتلف "ص 185".
5 العقد الثمين، "ص 164". شعراء النصرانية "ص 820"، النابغة الذبياني، لعمر الدسوقي "ص 108".
6 الكامل، لابن الأثير "1/ 285 وما بعدها".
فلا يمينًا بذات الودع لو حدثت
…
فيكم، وقابل قبر الماجد الزارا
وقد علق "ابن قتيبة الدينوري" عليه بقوله: "ذات الودع. صنم كان بالحيرة، ويقال: بل هي الإبل التي تسير إلى مكة، يعلق عليها الودع، ويقال: إن مكة، يقال لها: ذات الودع. وواجه قبر النعمان الزار، وهي الأجمة، أي: دفن حذاءها1".
إذن لبؤتم بجمع لاكفاء له
…
أوتاد ملك تليد، جده بارا
قال: "أي لو مات لغزتكم الجيوش، فأقررتم، أو رجعتم بجيش لا مثيل له، أوتادًا لملك قديم قد سقط جده، أي: صرتم كذلك. وهو منصوب على الحال، ولا يجوز أن يكون منصوبًا على النداء؛ لأنه لا يجوز أن يدعوهم بذلك والنعمان لم يمت"2.
وذكر أن ملك النعمان بلغ اثنتين وعشرين سنة. وعلى رأس ثلاث سنين وثمانية أشهر مضت من ملكه، كان الفجار الأكبر، فجار البراض، وهو لتمام عشرين سنة من مولد الرسول، ولثماني عشرة سنة وثمانية أشهر مضت من ملك النعمان بنيت الكعبة وذلك لإحدى عشرة سنة مضت من ملك أبرويز كسرى بن هرمز3.
ولا نعلم عن أعمال النعمان الحربية في بلاد الشأم شيئًا يذكر. وقد ذكر حمزة أنه غزا "قرقيسياء""Circesium"، ولكنه لم يعين تأريخ وقوعها، ويقصد بذلك بالطبع غارة أغارها على أرض الروم4. ولم ينسب غيره من المؤرخين العرب أو السريان إليه حروبًا أخرى أجج نارها في بلاد الشأم.
1 المعاني الكبير "2/ 838"، "والودع: وثن. وذات الودع: وثن أيضًا. وذات الودع: سفينة نوح، عليه السلام، كانت العرب تقسم بها فتقول: بذات الودع، قال عدي بن زيد العبادي:
كلا يمينا بذات الودع لو حدثت
…
فيكم وقابل القبر الماجد الزارا
يريد سفينة نوح عليه السلام يحلف بها ويعني بالماجد النعمان بن المنذر، والزار أراد الزارة بالجزيرة، وكان النعمان مرض هناك، وقال أبو نصر: ذات الودع مكة؛ لأنها كان يعلق عليها في ستورها الودع، ويقال: أراد بذات الودع الأوثان". اللسان "8/ 387".
2 المعاني الكبير "2/ 838".
3 المحبر "360"، حمزة "74"، مروج الذهب "2/ 24".
4 حمزة "ص 73".
وقد ورد في حديث الطبري عن قصة سجن النعمان لعدي ما يفيد أن النعمان خرج يريد البحرين، فأقبل رجل من غسان، فأصاب في الحيرة ما أحب وقد قيل: إن هذا الرجل هو "جفنة بن النعمان الجفني"1. ولعل هذه الغارة هي واحدة من جملة غارات قام بها الغساسنة على الحيرة. وفي شعر النابغة الذبياني إشارات إلى أمثال هذه الغارات2. ويفيد خبر رواه المؤرخ "ثيوفلكتس" "Theophylaktus" أن عرب الروم أغاروا على عرب الفرس حوالي سنة "600م"، أي في أثناء الصلح الذي عقد بين الروم والفرس3.
وقد ذكر "الطبري" أن هذه الغزوة كانت في أيام وجود عدي بن زيد في سجنه فلما سمع عدي بها قال:
سما صقر فأشعل جانبيها
…
والهاك المروح والغريب4
وقد ورد اسم "السيلحون" في جملة المواضع التي كان يجيبها النعمان، وذلك في شعر لأعشى قيس5. ويقع السيلحون في البرية بين الكوفة والقادسية، كما ورد اسم هذا الموضع في شعر لهانئ بن مسعود الشيباني يرثي فيه النعمان ويذكر قتل كسرى إياه6. ويظهر أنه كان من جملة المسالح التي تحمي الحدود من البادية. والمسالح هي مواضع في الثغور يوضع فيها الجنود والمسلحون لحماية الحدود من الأعداء7.
ولم يكن النصر حليف النعمان في اليوم المعروف بيوم الطخفة "يوم طخفة"، وهو يوم نسبه بعض الأخباريين أيضًا إلى قابوس بن المنذر بن ماء السماء. كما نسبه
1 الطبري "2/ 148".
2 ديوان النابغة "27، 35" "طبعة Rothstein. S. 112. Ahiwardt
3 Theophylaktus. VIII. I. Noldeke. Ghass. S. 39 Rothstein، S. 112.
4 الطبري "2/ 198""دار المعارف".
5
ولا الملك النعمان يوم لقيته
…
بأمته يعطي القطوط ويأفق
وتجبى إليه السيلحون ودونها
…
صريفون في أنهارها والخورنق
شعراء النصرانية "ص 383"، البكري، معجم "3/ 772"، تاج العروس "9/ 231"، مراصد "2/ 767".
6 البلدان "5/ 196".
7 البلدان "5/ 198" وما بعدها.
بعض آخر إلى المنذر بن ماء السماء. وخلاصة الحادث: إن حاجب بن زرارة الدارمي التميمي سأل النعمان أن يجعل الردافة للحارث بن بيبة بن قرط بن سفيان بن مجاشع الدارمي التميمي. وكانت لبني يربوع، يتوارثونها صغيرًا عن كبير، وكان الرديف يجلس عن يمين الملك. فلما سأل النعمان موافقتهم على نقل الردافة منهم، أبوا ذلك، لما لها من منزلة ومكانة، فبعث إليهم قابوسًا ابنه وحسان أخاه على رأس جيش كثيف فيهم الصنائع والوضائع وناس من تميم وغيرهم، فساروا حتى أتوا طخفة، فالتقوا هم ويربوع واقتتلوا، وصبرت يربوع وانهزمت جموع النعمان، وأخذ قابوس وحسان أسيرين. فلما بلغ خبر هذه الهزيمة سمع النعمان طلب من أحد بني يربوع –وهو شهاب بن قيس بن كياس اليربوعي- أن يذهب عاجلًا إلى بني يربوع ليفك أسر ابنه وأخيه مقابل إعادة الردافة إليهم وأداء دية الملوك وهي ألف بعير للرجل الواحد. وبذلك صالح مرغمًا "بني يربوع". وهذا اليوم من الأيام التي يفاخر بها أبناء يربوع. وقد ورد ذكره في شعر مالك بن نويرة1 والأحوص2 وجرير3.
ويذكر أهل الأخبار أن "النعمان بن المنذر" طلب "مالك بن نويرة"، وكان قد أراد استرضاءه، وهو من "بني يربوع"، فأبى، وهرب منه، وقال فيه شعرًا يهجوه، منه:
لن يذهب اللؤم تاج قد حييت به
…
من الزبرجد والياقوت والذهب4
ويدل ذلك على أن "النعمان"، كان يتوج رأسه بتاج، فيه ذهب وأحجار كريمة.
وكان "مالك بن نويرة اليربوعي" من "بني تميم"؛ لأن "بني يربوع" منهم، وقد لقب بـ "الجفول". وهو شاعر شريف، وأحد فرسان بني يربوع ورجالهم المعدودين في الجاهلية، ومن أرداف الملوك، أي ملوك الحيرة. وقد أدرك الرسول، فأسلم، وعينه على صدقات قومه فلما بلغ وفاة الرسول، أمسك
1 ابن الأثير، الكامل "2/ 272 وما بعدها"، العقد الفريد "3/ 102".
2 البلدان "3/ 518".
3 البكري "1/ 452".
4 الجواليقي "ص 356".
الصدقة، وفرقها في قومه، وجفل إبل الصدقة، فسمي الجفول. قتله "ضرار بن الأسود الأسدي" بأمر خالد بن الوليد1.
وكان نصيب النعمان من يوم السلان كنصيبه من يوم الطخفة، وسبب وقوع هذا اليوم هو أن بني عامر بن صعصعة، وكانوا حمسًا لقاحًا متشددين في دينهم لا يدينون للملوك، تعرضوا للطيمة كان الملك النعمان بن المنذر يريد إرسالها إلى عكاظ لبيعها في السوق. وكان من عادته إرسال لطيمة إلى عكاظ كل عام لتباع هناك. فلما بلغ النعمان الخبر، غضب فبعث إلى أخيه لأمه، وهو "وبرة بن رومانس الكلبي"، وإلى صنائعه وهم من مكان يصطنعه من العرب ليغزو بهم، والوضائع وهم الذين كانوا شبه سادة القبائل، وأرسل إلى بني ضبة بن أد وغيرهم من الرباب وتميم فجمعهم، فأجابوه، وأتاه ضرار بن عمرو الضبي في تسعة من بنيه كلهم فوارس ومعه جبيش بن دلف، فاجتمعوا كلهم في جيش عظيم. وأرسل النعمان معهم تجارة، وأمرهم ألا يتحرشوا ببني عامر إلا بعد الانتهاء من عكاظ ومن الأشهر الحرم. فلما انتهوا من عكاظ، أحست قريش بنيات جماعة النعمان، فأخبروا بني عامر وحذروهم فاستعدوا للقتال. فلما وصل أصحاب النعمان إليهم، قاتلوهم عند موضع السلان، وهو موضع قريب من منازل بني عامر، وتغلبوا عليهم، وأسروا وبرة بن رومانس الكلبي وعددًا من رؤساء القوم، وانهزمت جماعة النعمان، ورضي عندئذ من حملته هذه بدفع دية أخيره وبرة ودية عدد من الرؤساء2.
ويذكر بعض أهل الأخبار أن الذي أعلم "بني عامر" بعزم الملك النعمان على الانتقام منهم، هو وجيه مكة وثريها: عبد الله بن جدعان3.
1 معجم الشعراء "ص 360".
2 صبح الأعشى "1/ 340"، جمهرة ابن حزم "1/ 381"، ابن خلدون "2/ 255"، القسم الأول، المجلد الثاني، الاشتقاق "237""الطبعة الأولى بمصر"، ابن الأثير "1/ 268 وما بعدها"، البلدان "5/ 104"، سبائك الذهب، للسويدي "117"، المسعودي مروج "2/ 54"، الطبري "2/ 147"، اليعقوبي "1/ 143"، البكري، معجم "3/ 749"، "لجنة" المختصر، لأبي الفداء "1/ 102""بيروت"، الروض الأنف، للسهيلي "1/ 133""الجمالية" نهاية الأرب، للنويري "1/ 412"، ذيل الأمالي للقالي "3/ 147" مرصد "2/ 726"، العقد الفريد "3/ 364".
3 الكامل في التاريخ لابن الأثير "1/ 295".
وكان الذي أسر وبرة "يزيد بن عمرو بن خويلد الصعق"، وقد أبقى "يريد""وبرة" لديه حتى افتدى نفسه منه، أي من يزيد بن الصعق بألف بعير وفرس. فاستغنى يزيد. فلما أسر "وبرة"، ثبت جيشه "ضرار بن عمرو الضبي"، فقام بأمر الناس، ولكنه وقع في الأسر، ثم وقع رجل آخر من كبار الجيش في الأسر، وهو "حبيش بن دلف"، الذي افتدى نفسه بأربع مئة بعير، وهزم جيش النعمان1.
وقد تعرضت لطيمة النعمان مرة أخرى إلى النهب حينما وكل أمر حمايتها إلى رجل من هوازن، فتربص بها رجل خليع معروف اسمه "البراض بن قيس بن رافع" من بني ضمرة بن بكر بن عبد مناة بن كنانة، فقتل حامي القافلة وساق الركاب2. وكان من عادة النعمان أن يشتري بثمن اللطيمة الأدم والحرير والوكاء والحذاء والبرود من العصب والوشى والمسير والعدني من سوق عكاظ3.
وذكرت إحدى الرويات أن الذي كان يجيز لطيمة النعمان له هو "سيد مضر"4 ولم تذكر اسم سيد مضر إذ ذاك.
وورد أن "البراض" وهو "رافع بن قيس" كان من فتاك الجاهلية المعروفين. وكان حالف بني سهم من قريش، فعدا على رجل من هذيل فقتله، فخلعه بنو سهم، ثم جاء إلى "حرب بن أمية" فحالفه، فعدا على رجل من خزاعة فقتله وهرب إلى اليمن، ثم جاء مكة بعد سنة، فإذا الهذليون والخزاعيون يطلبونه وقد خلع، فلحق بالحيرة، فوافق وفود العرب بالحيرة عنده. فأقام يطلب الإذن معهم، فلم يصل إليه حتى خرج النعمان فجلس للناس بالحيرة وكانت لطائمه التي توافي سوق الموسم إذا دخلت تهامة لم تهج، حتى قتل النعمان أخا بلعاء بن قيس الكناني، فجعل "بلعاء" يعترض لطائمه فينتهبها. فخاف النعمان على لطيمته، فقال يومئذ: من يجير هذه العير؟ فقال البراض: أنا أجيرها لك. فقال الرحال عروة بن عتبة بن جعفر بن كلاب: أنا أيها الملك أجيرها لك من الحيين كليهما، وسخر من الرحال وازدراه. فدفع النعمان اللطيمة إلى عروة
1 أيام العرب "108".
2 شرح ديوان لبيد "ص 48".
3 الأغاني "19/ 75".
4 الأغاني "19/ 75".
الرحال، فتعقبها البراض، حتى إذا انتهى عروة إلى أهله دوين الجريب بماء يقال له "أوارة"، أنزل اللطيمة وخل قبته فنام، ووثب عليه البراض فقتله، ثم أتى خيبر، فكان بسببه حروب الفجاء بين كنانة وقيس1.
وقد عرف بعض العلماء اللطيمة بأنها "سوق المسك" أو العير التي كانت تحمل المسك، ولكن اللطيمة قافلة كانت تحمل تجارة يرسلها ملوك الحيرة، ولا سيما النعمان بن المنذر إلى سوق عكاظ خاصة لبيعها هناك، وكانت تعود محملة بما تشتريه من تجارة اليمن والحجاز، وما يأتي به العرب وسائر التجار إلى السوق في أثناء الموسم. وهي تجارة ثمينة تعود على النعمان بأرباح طائلة وثروة كبيرة. ولوصولها سالمة إلى السوق ثم لعودتها سالمة من السوق إلى الحيرة، كان لا بد من حمايتها بوضعها في جوار سادات أقوياء شجعان يتعهدون بإمرارها بسلام في أرض قبائلهم ثم تسليمها إلى سادات الأرض التي تليهم، وهكذا إلى السوق أو العكس. وقد يقوم مجير اللطيمة نفسه بتولي اللطيمة في الذهاب والأوبة، لمقامه ولوجود عهود جوار بينه وبين سادات القبائل الأخرى، وإلا تعرضت اللطيمة للسلب والنهب. وإذا ما أغضب الملك خفراء اللطيمة، أو انتزاع الخفارة منهم فأعطاها لأناس آخرين، أو أزعج بعض سادات القبائل التي تمر القافلة في أرضهم، فلن ينفعه ملكه في حماية سلامة القافلة، فتنهب فلا يقبض منها شيئًا ما، وهو لا يستطيع أن يفعل شيئًا؛ لأن سلطانه لا يصل إلى كل مكان2.
وفي أيام النعمان كان يوم شعب جبلة، وهو لعامر وعبس على ذبيان وتميم، وهو من أيام العرب المشهورة في نظر الأخباريين. وقد اشترك النعمان فيه بمساعدته لقيط بن الجون الكلبي ملك هجر، وإرساله أخاه لأمه حسان بن وبرة الكلبي لمعاونة لقيط، ويلاحظ أن الرواة قد لقبوا لقيطًا بلقب ملك، وأشاروا إلى اشتراك جملة ملوك في هذا اليوم3.
وكان حسان بن وبرة شقيق النعمان لأمه رئيسًا على ضبة. وقد أسره يزيد بن الصعق في الغارة التي قامت بها بنو عامر على تميم وضبة، وانهزمت فيها
1 المحبر "ص 196".
2 الكامل في التاريخ "1/ 358".
3 العقد الفريد "6/ 10 وما بعدها""طبعة العريان".
تميم. وقد فادى حسان نفسه من يزيد بن الصعق بألف بعير هي فدية الملوك. كما سبق أن ذكرت. وأغار يزيد بعد ذلك على عصافير النعمان وهي إبل معروفة شهيرة كانت إذ ذاك بمكان يسمى ذا ليان1.
ويذكر أن "يوم العذيب" كان في عهد حكم "النعمان". وكان "النعمان" قد بعث إلى "الأصهب الجعفي" ينكر عليه بلوغ "سعد بن زيد مناة" و"عنزة" العذيب، فحشد "الأصهب" لهم ولقيهم، فقتلوه، قتله "الأحمر بن جندل"، وانهزمت اليمانية هزيمة شديدة، وأخذ منهم مال كثير وسبي2.
وروى أهل الأخبار أن "النعمان بن المنذر" لما توج واطمأن به سريره، دخل عليه الناس، وفيهم أعرابي، فأنشأ يقول:
إذا سست قومًا فاجعل الجود بينهم
…
وبينك تأمن كل ما تتخوف
فإن كشفت عنك الملمات عورة
…
كفاك لباس الجود ما يتكشف
فقال: مقبول منك نصحك، ممن أنت؟ قال: أنا رجل من جرم، فأمر له بمئة ناقة، وهي أول جائزة أجازها3.
ويقال إن "المنذر" أحد أبناء النعمان بن المنذر سقط قتيلًا على يد رجل من تغلب يدعى مرة بن كلثوم، وهو أخو عمرو بن كلثوم، ويقال إنه قتل أيضًا ابنًا آخر من أبناء النعمان4.
وكانت للنعمان كتائب يقاتل بها هي: الرهائن والصنائع والوضائع والأشاهب والدوسر. وقد اشتهرت هذه الكتيبة الأخيرة بالشدة وبقوة البطش، فقيل في أمثالهم "أبطش من دوسر"5.
أما الصنائع، فقد ورد في بعض الروايات أنهم جماعة كان يصطنعهم الملك من العرب ليحارب بهم، وكان يأخذهم من "بني ثعلبة" خاصة، يتخذهم كالحرس لا يبرحون بابه. وأما الرضائع، فألف رجل من الفرس، يخدمون الملك ليقاتل بهم، ويستبدلون بمثلهم كل سنة.
1 العقد الفريد "6/ 41 وما بعدها".
2 العمدة "2/ 217".
3 الأمالي للقالي "1/ 329""بيروت".
4 Rothstein، S. 112.
5 الميداني. مجمع الأمثال "781".
ويذكر أهل الأخبار أنه كان للنعمان بن المنذر أخ من الرضاعة يقال له "سعد القرقرة" من أهل "هجر" كان من أضحك الناس وأبطلهم، وكان يضحك النعمان ويعجبه1. وذكر أن أناسًا من البطالين المضحكين كانوا يأتونه لإضحاكه ولنيل جوائزه. وذكروا منهم "العيار بن عبد الله الضبي" وكان بطالًا، يقول الشعر، ويضحك الملوك2.
وقد كان النعمان بن المنذر مثل عمرو بن هند محبًّا للشعر والشعراء، والخطب والخطباء، وقد جعله الأخباريون من خير خطباء زمانه، كالذي يظهر من كلامه مع كسرى، وقد ذكر أنه قال له في مجلس كان حافلًا بوفود الروم والهند والصين، اجتمعوا عند كسرى. كما نسب إليه وفد ضم أكثم بن صيفي وحاجب بن زرارة التميمي، والحارث بن عباد وقيس بن مسعود البكريين، وخالد بن جعفر وعلقمة بن علاثة وعامر بن الطفيل العامريين، وعمرو بن الشريد السلمي وعمرو بن معد يكرب الزبيدي والحارث بن ظالم المري، وكانوا خيرة من عرف بالخطابة وحسن الكلام في تلك الأيام3.
وروى الأخباريون شعرًا من الشعر الذي قاله أصحابه في حضرة النعمان أو في مدحه وفي مدح آل لخم، كما رووا شعرًا في هجائه، ورووا بعض ما قيل في حضرته من حديث وبعض ما صادفه الشعراء حين كانوا يقصدونه لنيل ما يبتغون مثل حديث حسان بن ثابت الشاعر المخضرم المعروف4 فقد زاره ومدحه غير أن هواه كان إلى الغساسنة أكثر منه إلى آل لخم. فقد كان يفتخر بهم، ويسامي الناس بهم، وينال جوائزهم حتى وإن لم يكن عندهم. يرسلونها إليه إن لم يكن في استطاعته أن يشخص إليه5.
وقد جاء في شعر لـ "حسان بن ثابت" أنه زار "ابن سلمى"، أي
1 الفاخر "ص56".
2 وفد على النعمان بن المنذر فقال له:
أبيت اللعن وأسعدك إلهك
…
سلخ التيس وذبحه مستهجن
الفاخر "ص 56".
3 العقد الفريد "1/ 253 وما بعدها""طبعة العريان"، بلوغ الأرب "3/ 147 وما بعدها".
4 العقد الفريد "1/ 267"، الأغاني "15/ 27""دار الكتب المصرية"، العقد الفريد "2/ 22".
5 العقد الفريد "2/ 22".
"النعمان بن المنذر"، وأنه أكرمه وقدره وحباه، وتكلم إليه في جماعة من قومه، كانوا في سجنه مقيدين مكبلين بالسلاسل حتى صفح عنهم، وأطلق لهم حريتهم، وهم أبي ونعمان وعمرو ووافد، وهم جماعة من أهل يثرب، كانوا قد حبسوا في سجن "النعمان". فأما "أبي"، فهو "أبي بن كعب بن قيس بن معاوية" من "بني النجار". وأما "نعمان"، فإنه نعمان بن مالك بن قوقل بن عوف بن عمرو"، وأما "وافد"، فإنه "وافد بن عمرو بن الإطنابة بن عامر" من الخزرج. ولم يذكر "حسان" سبب حبس "النعمان" لهم، ووضعهم في السجن مكبلين بالحديد، مقفولًا عليهم1.
وقد ذهب "نولدكه" إلى احتمال كون "ابن سلمى" أميرًا من أمراء الغساسنة، كما ذهب إلى أن "أبيًّا" الذي كان في جملة المحكومين هو "أبي بن ثابت" وهو شقيق حسان2.
ويظهر من كلام أهل الأخبار أن النابغة الذبياني كان من أكثر الشعراء صلة بالنعمان، وفي الشعر الذي يرويه الأخباريون عنه وينسبون قوله إليه، شيء كثير من المناسبات التي وقعت بين الملك وبين هذا الشاعر، وقد استاء خصوم النابغة من قربه من النعمان، ونيله جوائزه وألطافه، فسعوا به إليه حتى غضب عليه، وهم بقتله، ولم ينجه من القتل إلا هربه من آل جفنه ملوك عرب الشأم، فبقي في كنفهم مدة، ثم عاوده الحنين إلى صاحبه وحاميه القديم النعمان، فاعتذر إليه، وتنصل من التهم التي ألصقها خصومه به، وعاد يأخذ جوائزه ونعمه كما كان3.
وذكر أن النعمان بن المنذر كان يكرم "النابغة" ويحبوه دومًا، أمر له مرة بمائة ناقة بريشها من نوق عصافيرة، المعروفة بهجائن النعمان، وجام وآنية من فضة، وكانوا إذا حبا الملك بعضهم بنوق يغمزون في أسنمتها ريش النعام ليعلم أنها حباء الملك4. ذكر "حسان بن ثابت" أنه وفد على النعمان بن المنذر فمدحه
1 البرقوقي "ص 114، 377"، ديوان حسان "P.17""هرشفلد".
2 غسان "ص 47".
3 الأغاني "15/ 27 وما بعدها""دار الكتب المصرية"، شعراء النصرانية "641، 649 وما بعدها"، المعاني الكبير "2/ 1130"، أمالي المرتضى "1/ 264".
4 أمالي المرتضى "1/ 265 وما بعدها".
وأجازه الملك على مدحه وأكرمه. وبينا هو جالس عنده ذات يوم، إذا بالنابغة يدخل قبة الملك، وكان يوم ترد فيه النعم السود، ولم يكن بأرض العرب بعير أسود إلى له، فأنشده كلمته التي يقول فيها:
كأنك شمس والملوك كواكب
…
إذا طلعت لم يبد منهن كوكب
فدفع إليه مائة ناقة من الإبل السود، فيها رعاؤها، فما حسدت أحدًا حسدي النابغة، لما رأيت من جزيل عطيته وسمعت من فضل شعره1.
ويذكر المسعودي أن النابغة دخل على النعمان يومًا، وكان عنده نديمه خالد بن جعفر الكلابي، وكان ممن يعطف على النابغة، فمدح النعمان بشعر، "فتهلل وجه النعمان بالسرور، ثم أمر فحشي فوه جوهرًا، ثم قال: بمثل هذا فلتمدح الملوك"2.
وتذكر رواية أخرى أن النابغة لما سأل حاجب النعمان الاستئذان للدخول عليه، قال له الحاجب: الملك على شرابه. ولما سأله: من عنده؟ قال: خالد بن جعفر بن كلاب! فتوسل إليه بأن يبلغه تحية النابغة، وأن يسهل له الدخول على الملك، ففعل وأمر النعمان حاجبه بإدخاله عليه. فلما دخل، سلم عليه وحياه بتحية الملك، وجلس وهو يقول:"أيها الملك. أيفاخرك صاحب غسان؟ فوالله لقفاك أحسن من وجهه، ولشمالك أجود من يمينه، ولأمك خير من أبيه ولغدك أسعد من يومه. فضحك النعمان. ثم قال لخالد: من يلومني على حب النابغة؟ ألك حاجة؟ قال: نعم. فقضى حوائجه بأسرها، وأحسن جائزته، فانصرف داعيًا له"3.
ويذكر الأخباريون أن آخر مرة اتصل بها النابغة بالنعمان كانت في أثناء مرض الملك النعمان. وكان النابغة هاربًا آنذاك على أثر الوشاية به. فلما سمع النابغة بمرضه آثر السفر إليه، والاعتذار منه. فلما وصل الحيرة، كان الملك لا زال مريضًا، شديد المرض. وقد حمل سريره على العادة المتبعة عند مرض الملوك مرضًا شديدًا،
1 الشعر والشعراء "ص 71، 75"، "النابغة الذبياني".
2 مروج "2/ 25" طبعة محمد محيي الدين عبد الحميد".
3 مجالس العلماء "259 وما بعدها""عبد السلام محمد هارون"، لأبي القاسم عبد الرحمن بن إسحاق الزجاجي.
يشرف فيه على الموت. فاستأذن للنابغة في الدخول عليه وإنشاده ما نظمه في مدحه فسمح له بالدخول. وأنعم النعمان بالنعم عليه. وهناك روايات تذكر أنه عاد إليه قبل هذا الحادث، فقبل عذره وعفا عنه1.
وفي جملة من كان له شرف الاتصال بالنعمان، وبنيل هباته وجوازه من الشعراء: المنخل اليشكري، والمثقب العبدي، والأسود بن يعفر، وحاتم الطائي وأمثال هؤلاء.
وللأسود بن يعفر شعر معروف، ذكر فيه "آل محرق" و"الخورنق" و" السدير". وله أشعار أخرى ذكرها الرواة. وكان قد أقام مدة عند النعمان ينادمه ويؤاكله2.
ويذكر أن المنخل اليشكري كان ينادم النعمان وينشده القصائد، وكان النعمان يكرمه ويقربه إليه، غير أنه يؤثر شعر النابغة على شعره، وهذا مما غاظ المنخل وجعله يسعى للإيقاع به3. فأوغر صدر النعمان عليه، حتى هم بقتله، فهرب النابغة منه، وخلا المنخل بمجالسة النعمان، وأصبح من أقرب المقربين إليه. ولكن الدنيا كما يقول الناس لا تدوم، فما لبث مدة حتى انقلب الحظ على المنخل، فدفع به إلى "عكب" صاحب سجن النعمان، وهو من بني تغلب، فسجنه وعذبه ثم قتله. وقيل بل دفن حيًّا أو أغرق. ومهما يكن من شيء، فلم تكن خاتمة هذا الواشي خاتمة حسنة، وضرب بنهايته المثل كما ضرب بالقارظ العنزي وأشباهه ممن هلكوا ولم يعلم لهم خبر4.
ويروى أن "يزيد بن خذاق" الشاعر، وهو من "الهيصم"، كان قد هجا "النعمان بن المنذر"، فبعث النعمان كتيبته التي يقال لها "دوسر"، فاستباحت قومه5.
ويذكر أن "لبيد بن ربيعة" كان في وفد زار "النعمان بن المنذر"، فيه
1 الأغاني "15/ 28 وما بعدها"، الشعر والشعراء "ص77".
2 الأغاني "11/ 128 وما بعدها""مطبعة التقدم"، الشعر والشعراء "176"، المعارف "ص646 وما بعدها، ابن هشام، سيرة "1/ 91، الأمالي، للقالي "1/ 25، 71".
3 شعراء النصرانية "ص 641 وما بعدها".
4 شعراء النصرانية "ص 421 وما بعدها".
5 الاشتقاق "2/ 200".
أبو البراء عامر بن مالك بن جعفر بن كلاب بن ملاعب الأسنة، وإخوته طفيل ومعاوية وعبيدة، لقضاء بعض حوائج لهم، فوجدوا عنده "الربيع بن زياد العبسي"، وكان يسمى الكامل، يأكل مع النعمان تمرًا مع زبد، وكان ينادمه ومعه رجل من أهل الشأم، يقال له "سرجون بن توفل""نوفل"، وكان حريفًا للنعمان، من "الربيع" ومعهما "النطاسي" وهو طبيب كان له، ومن ندمائه، فنظم "لبيد" أبياتًا نابية منفرة في "الربيع بن زياد"، جعلت "النعمان" يعاف من مؤاكلته فتركه1. ولما كتب "الربيع بن زياد" إلى النعمان في ذلك، كتب النعمان إليه: "إنك لست قادرًا على رد ما تكلمت به الألسن، فالحق بأهلك"، ثم كتب إليه شعرًا، كان مما جاء فيه:
قد قيل ما قيل إن حقًّا وإن كذبا
…
فما اعتذارك من قول إذا قيلا2
ويقال إن "النعمان بن المنذر"، نظر إلى "شبق بن ضمرة"، المعروف بـ "ضمرة بن ضمرة"، وهو من رجال "بني تميم" في الجاهلية، وله لسان وبيان وكلام، فقال "تسمع بالمعيدي لا أن تراه""تسمع بالمعيدي خير من أن تراه". فقال "ضمرة". "أبيت اللعن، إن الرجال لا تكال بالقفزان، ولا توزن بالميزان". واليمانية تجعل هذا للصقعب النهدي، سيد بني نهد، الذي أخذ مرباعهم دهرًا.
وإلى النعمان هذا نسب بعض الأخباريين قتل عبيد بن الأبرص، وذلك لظهروه في يوم بؤس النعمان3. وقد عد يوم عبيد من أيام الشؤم، وضرب به المثل فقيل "يوم عبيد". وإلى النعمان هذا نسب بعض الأخباريين قتل "عمرو بن مسعود" وخالد بن نضلة"، وقد استولوا عليه بشعر لبرة بن عمرو الأسدي4.
1 الفاخر "ص141 وما بعدها"، الأغاني "16/ 22"، نزهة الجليس "2/ 507" وما بعدها".
2 نزهة الجليس "2/ 509 وما بعدها"، أمالي المرتضى "1/ 189 وما بعدها".
3 حمزة "ص73"، مجاني الأدب "3/ 309"، شعراء النصرانية "ص 600".
4 قال أبو تمام:
من بعد ما ظن الأعادي أنه
…
سيكون لي يوم كيوم عبيد
شعراء النصرانية "602"، اللسان:"4/ 267"، "خ ي ر".
وقد نسب حمزة إلى النعمان بناء الغريين وغريهما بدم من يقتله في يوم بؤسه1. وقد رأينا فيما سلف أن الأخباريين من نسب بناءهما وقصة يومي البؤس والنعيم إلى المنذر بن ماء السماء.
وذكر الأخباريون أنه كانت للنعمان عادات، منها أنه إذا غلب الرجل عنده وفلج على خصمه، زاده وسادة، وأمر فلقم عشر لقمات من طعامه قبل أن يأكل أحد2.
وللنعمان حاجب، اشتهر حتى خلد اسمه في الشعر وفي كتب الأدب، واسم هذا الحاجب "عصام"، وهو من رجال "جرم"، وفيه قيل:"نفس عصام سودت عصامًا"، وكان النعمان إذا أراد أن يبعث بألف فارس، بعث بعصام. ولخطر مركزه؛ ولأن في استطاعته إدخال من يريد الوصول إلى النعمان أو تأخيره أو منعه، كان الناس يتوددون إليه ليوصلهم إلى الملك، وقد أشار "النابغة"، إذ قال:
فإني لا ألومك في دخول
…
ولكن ما وراءك يا عصام3
وكان النعمان في أول عهده عابد وثن، يتعبد للعزى، ويذبح الذبائح للأوثان، ثم رأى رأيًا فغير دينه، ودخل في النصرانية. ولبعض مؤرخي الكنيسة ولبعض الأخباريين قصص في كيفية اهتدائه إلى النصرانية، مرجعها قصص نصارى أهل الحيرة على ما يظهر. يحدثنا أصحاب تواريخ الكنيسة أن النعمان ولع به الشيطان وأصيب بلوثة ووسوسة، فحاول الشفاء منها بالتجائه إلى كهنة الأصنام. فلما عجزوا من شفائه، أشير عليه بالالتجاء إلى آباء الكنيسة، فلجأ إلى شمعون بن جابر أسقف الحيرة، وإلى "سبريشوع" أسقف "لاشوم"، و"ايشو عزخا""ايشوع زخا" الراهب فانتفع بهم، فغير دينه، فتنصر واعتمد وحسن إيمانه، وطرد اليعاقبة من سائر أعماله وتقوت بذلك النسطورية. وكذلك تنصر ولده، ومنهم الحسن والمنذر. وكان الحسن أشد الجماعة تمسكًا بالنصرانية. وقد سبقته
1 حمزة "ص72".
2 شرح ديوان لبيد "ص 404".
3 الاشتقاق "2/ 318".
أختاه هند ومارية إلى الدخول في هذا الدين. وهذه رواية النساطرة في كيفية تنصر النعمان1.
أما الأخباريون فينسبون تنصره إلى تأثير عدي بن زيد عليه. وهم يروون أنه خرج ذات يوم راكبًا ومعه عدي بن زيد، فوقف بظهر الحيرة على مقابر مما يلي النهر، فقال له عدي بن زيد: أبيت اللعن، أتدري ما تقول هذه المقابر؟ قال: لا! قال: إنها تقول:
أيها الركب المخبون
…
على الأرض المجدون
مثل ما أنتم حيينا
…
وكما نحن تكونون
ثم قال:
رب ركب قد أناخوا حولنا
…
يشربون الخمر بالماء الزلال
ثم أضحوا لعب الدهر بهم
…
وكذاك الدهر حالاً بعد حال
فأثر هذا القول –على حد قول الأخباريين- في نفس النعمان، وارعوى، وتنصر2.
وقد كان تنصر "النعمان" في حوالي سنة "593م" تقريبًا، وصار يعد نفسه من حماة المذهب النسطوري الذي انتشر في العراق، كما صارت الحيرة من معاقل هذا المذهب أيضًا لدخول أناس من أصحاب الجاه والسلطان فيه. ومن الحيرة خرج "سرجيوس""Sergios" في أواسط القرن السادس، فذهب إلى اليمن، إلى نجران، حيث قام بالتبشير هناك، مدة ثلاث سنوات حتى وافته منيته بعد ثلاث سنين3.
وينسب إلى النعمان أبو قابوس دير اللج، وقد دعي بـ "دير اللجة" في "تأريخ سعرت"، ونسبه إلى اللجة ابنة النعمان. وذكر أن في هذا الدير قبر
1 Histoire Nestorienne، Seconde Partie، P. 468، 478، Evagrius، IV، 22، Pauly-Wissowa 33، 1936، 1254، Die Araber، I، S. 198.
2 حمزة "ص73 وما بعدها"، ذكر صاحب الأغاني هذه الأبيات مع شيء من الاختلاف، الأغاني "2/ 96""دار الكتب"، معجم الشعراء "ص 249".
3 Die Araber، I، S. 198.
"مار آبا الكبير" الجاثليق1.
وينسب أهل الأخبار "شقائق النعمان" إلى "النعمان بن المنذر" فيقولون: "وكان خرج إلى الظهر وقد اعتم نبته من بين أحمر وأخضر وأصفر، وإذا فيه من هذه الشقائق شيء كثير، فقال: ما أحسنها! احموها. فحموها فسميت: شقائق النعمان"2.
وذكر أن النعمان كان يعتني بتربية الخيل والإبل والماشية، فكان يشتري خير فصائلها ويحميها لنفسه، ولا يسمح لأحد بالحصول عليها أو تلقيح نعمهم أو خيولهم منها إلا بإذنه. وقد اشتهرت اليحموم والدفوف من جملة خيوله3.
وبينما نقرأ في شعر لمالك بن نويرة اليربوعي، أن تاج النعمان بن المنذر كان من ذهب وزبرجد وياقوت4، نرى "المعري" يشير إلى أنه كان خرزات، ولم يكن كتاج المنذر5. وخرزات الملك: جواهر تاجه6.
ونجد في كتب الأخبار والأدب، أن وفود العرب كانت تفد على "النعمان بن المنذر"، فيكرمها ويحبوها، ويقضي حوائجها. وكان يتخذ للوفود عند انصرافها مجلسًا يطعمون فيه معه ويشربون. وقد يتفاخر رؤساء الوفود بعضهم على بعض، فيحكمونه في أيهم أفضل. وقد تتحول تلك المفاخرات إلى مخاصمات ومهاترات بسبب ترجيح الملك رئيسًا على آخر7.
ونسب حمزة إلى النعمان أربع بنات هن: هند، وحرقة، وحريقة، وعنفقير8. وهند هي البنت الوحيدة التي نعرف عنها شيئًا من بنات النعمان، وقد
1 الحيرة "203".
Histoire Nestorienne. Chronigue De Seert Second Partie I، P. 155.
2 المعارف "ص 264"، اللسان "10/ 181 وما بعدها"، الشعر والشعراء "ص 138"، "ليدن".
3 ذيل الأمالي والنوادر، للقالي "ص 185".
4 الجواليقي، المعرب "356".
5 رسالة الغفران "471"، "بنت الشاطئ".
6 اللسان "5/ 345".
7 العمدة "2/ 220 وما بعدها".
8 حمزة "74".
ورد في بعض الروايات أنها لم تكن بنت النعمان، بل كانت أخته1. وذكر أيضًا أن والدها النعمان زوجها من عدي2. وقد عاشت حتى أدركت الإسلام، وكانت مترهبة، فلم تقبل الدخول فيه. ولما ماتت دفنت في ديرها إلى جانب قبر أبيها النعمان. وقد بقي الدير والقبران معروفين مدة طويلة في الإسلام.
ويذكر أن "الحرقة""حرقة" رأت الدنيا كيف أدبرت عن أهلها، ونظرت في حالها بعد هلاك أبيها فقالت:
فبينا نسوس الناس، والأمر أمرنا
…
إذا نحن فيهم سوقة نتنصف
فأف لدنيا لا يدوم نعيمها
…
تقلب تارات بنا وتصرف
و"السوقة" هم العامة وسواد الناس.
وقد ذكر المسعودي هذه الأبيات، وقال إنها قالتها لـ "سعد بن أبي وقاص" يوم أتته في جماعة من قومها، وقد قال إنها كانت "إذا خرجت إلى بيعتها، يفرش لها طريقها بالحرير والديباج مغشى بالخرز والوشي، ثم تقبل في جواريها حتى تصل إلى بيعتها وترجع إلى منزلها. فلما هلك النعمان لفها الزمان فأنزلها من الرفعة إلى الذلة"3. وقد سماها "خرقاء بنت النعمان بن المنذر". ولعله قصد "حرقاء" أو "حرقة"، فحرف النساخ الكلمة وصيرها "خرقاء".
وكانت للنعمان جملة نساء، منهن: زينب بنت أوس بن حارثة، وفرعة بنت سعد بن حارثة بن لأم، وقد ولدت له ولدًا وبنتًا، وكانت عنده لما طلبه كسرى، وصار يتجول بين القبائل ليمنعوه4. ومارية الكندية، وهي أم هند التي تزوجها عدي بن زيد5.
ويذكر "ابن قتيبة" أنه كانت للنعمان دار في الحيرة عرفت بـ "الزوراء". وقد بقيت قائمة إلى أيام أبي جعفر المنصور، فأمر بهدمها، ولم يذكر السبب
1 الأغاني "1/ 34".
2 Assemani، Bibl. Orient، III، 109، Rothstein، S. 125، Rothstein، S. 125.
3 مروج "2/ 27".
4 الأغاني "1/ 115"، "دار الكتب المصرية".
5 الأغاني "1/ 119".
الذي حمله على ذلك. وقد ذكرها "النابغة" فقال:
بزوراء في أكنافها المسك كارع1
وذكر أن في جملة وزراء النعمان عمرو بن بقيلة والد عبد المسيح، وهو صاحب قصر بني بقيلة بالحيرة. وكان عبد المسيح في جملة من اشترك في المفاوضات مع خالد بن الوليد لعقد الصلح وتسليم الحيرة، وله دير بناه في ظاهر الحيرة في موضع يقال له الجرعة عرف بـ "دير الجرعة" وبـ "دير عبد المسيح"2.
وقد ورد ذكر زوجة من زوجات "النعمان بن المنذر" في كتب الأدب، هي "المتجردة"3. ويظهر أن "جلم بن عمرو"، كان قد تعرض لها، فبلغ أمره "النعمان" فحمله على أن يركب فرسه "اليحموم"، فأرداه4. وقد وصفها "النابغة" في "الدالية" المنسوبة إليه. وسمع "النعمان" بالقصيدة كما يذكر أهل الأخبار، بدس حساد النابغة القصيدة والأشعار الأخرى إلى النعمان، فانزعج منها. ولما بلغ "النابغة" الخبر، فر إلى الغساسنة لينجو بنفسه من عقابه وكان العمان متيمًا بـ "المتجردة" وللشعراء فيها قصائد مشهورات5.
ويذكر أهل الأخبار أن سيفًا من سيوف "النعمان بن المنذر" جيء به إلى الخليفة "عمر"، فأعطاه "جبير بن مطعم"6.
أما عدي بن زيد، فهو من العباديين، أي من نصارى الحيرة. وأما والده فهو زيد بن حماد "حماز" بن زيد بن أيوب بن محروف بن عامر بن عصية بن امرئ القيس بن زيد مناة بن تميم، فهو تميمي الأصل7. وكان لزيد ثلاثة أولاد هم: عدي هذا الذي تحدثنا عنه، وعمار "حمار""حماد" واسمه أبي
1 المعاني الكبير "1/ 465"، اللسان "4/ 338"، "صادر"، "زور".
2 الأغاني "15/ 11"، السجستاني "38"، البلدان "1/ 651، 677"، شعراء النصرانية "15".
3 اللسان "3/ 116"، "صادر"، "جرد".
4 رسالة الغفران "196"، اللسان.
5 رسالة الغفران "196، 204، 207"، الأغاني "1/ 81"، الشعر والشعراء "76، 238".
6 اللسان "2/ 487".
7 الطبري "2/ 146"، الأغاني "2/ 97""دار الكتب المصرية"، معجم الشعراء للمرزباني "249 وما بعدها"، شعراء النصرانية "1/ 439 وما بعدها".
وكان مع كسرى وعمرو واسمه سمي، ولهم أخ من أمهم يدعى بن حنظلة، وهو من "طيء"1.
وكان أيوب جد عدي من أهل اليمامة على رواية الأخباريين، كان يقيم في بني امرئ القيس بن زيد مناة، ولكنه اضطر إلى ترك اليمامة والهجرة إلى الحيرة لإصابته دمًا، فخاف على نفسه من القتل، والتجأ إلى أوس بن قلام، وكان بينه وبين أوس نسب في النساء. فلما قدم أيوب الحيرة، نزل في دار أوس، وأقام عنده أمدًا. ثم أقام في دار أخرى بعد أن حباه أوس وأكرمه، وصار له شأن في البلد ومقام. فاتصل بالملوك وتقرب إليهم وغدا من علية القوم2.
وصار لزيد بن أيوب شأن يذكر في البدل، وتزوج امرأة من آل قلام ولدت له ولدًا دعاه حمادًا. وبينما كان زيد يتصيد في البادية، اصطاده رجل من بني امرئ القيس، فقتله بسهم أخذًا لثأر قومه من أبيه أيوب. وعلم حماد "حماز" الكتابة والقراءة، فكان أول من كتب من بني أيوب في رواية الأخباريين، وغدا من أكتب الناس في الحيرة، ولذلك اختير كاتبًا لملك الحيرة، واتصل بكبار الفرس ومنهم "فروخ ماهان" الذي تكفل زيد بن حماد بعد وفاته، ورباه مع أبنائه. ثم أوصله إلى كسرى أنو شروان فجعله على البريد، لما تبين له من ذكاء زيد وقدرته في العربية والفارسية وهي وظيفة لم تكن تعطى لغير أبناء الفرس3.
وتزوج زيد امرأة من طيء ولدت له عديًّا، وقد ربي هذا تربية طيبة، فأرسل إلى الكتاب، فلما حذق ومهر فنه بالعربية، أرسل إلى كتاب الفارسية. فتعلم مع أولاد المرازبة ومنهم شاهان مرد الفارسية حتى صار من الحاذقين بها العارفين بفنونها، ثم تعلم الرماية ولعب الصولجان، واتصل بكبار الفرس. وقد ساعده مركزه هذا على التقرب من آل لخم. وإلى "زيد بن حماد" أو كل
1 الطبري "2/ 146"، الأغاني "2/ 105""دار الكتب المصرية".
2 الأغاني "2/ 89""دار الكتب"، شعراء النصرانية "ص439"، طبقات ابن سلام "31"، الشعر والشعراء "111"، رسالة الغفران "146، 147، 185، 186، 190، 197، 606".
3 الأغاني "2/ 96 وما بعدها""دار الكتب المصرية"، شعراء النصرانية "1/ 441".
تدبير شؤون ملك الحيرة بعد سياحة النعمان على رواية بعض الأخباريين إلى أن انتقل الملك إلى المنذر بن ماء السماء 1.
وقرب عديًّا إلى كسرى أنو شروان المرزبان فروخ ماهان، فعهد إليه الكتابة بالعربية، فتولاها وصار له شأن يذكر عند الفرس، كما صار له مركز خطير في قصور آل لخم. ولما توفي كسرى أنو شروان، وملك هرمز ابنه، أرسل عديًّا إلى قيصر الروم "طيباريوس""طبريوس" بمهمة سياسية، فأظهر لباقة وحنكة وحكمة، مما جعل القيصر يحترمه، فأكرمه، وحباه، وأراه أطراف مملكته، وذهب إلى دمشق، وأقام فيها أمدًا، وهو على صلات حسنة بالروم، وفي أثناء إقامته بالشأم، أراد أهل الحيرة قتل المنذر والخروج عليه، لظلمه وأخذه أموالهم بغير حق. فلما علم بذلك المنذر، طلب من زيد والد عدي أن يتولى هو الأمر، وفرح الناس على ما يذكره الرواة بهذا القرار، فجاؤوه يحيونه بتحية الملك، ولكنه أبى أن يسمى ملكًا، ورضي بالحكم بغير هذا الاسم، وسر المنذر بهذا الحل، ورضي به. وبقي في هذا المركز إلى أن هلك، وابنه بعيد عنه في دمشق.
فلما جاء عدي من الشأم، لم ينس المنذر فضل أبيه عليه، وإنقاذه الملك بهذا الحل، وسلمه ما كان قد تركه أبوه، واستقبله استقبالًا عظيمًا حينما قدم الحيرة قادمًا من المدائن بعد زيارته لكسرى لتقديم هدية القيصر إليه. وأقام في الحيرة سنين يتصيد ويلهو ويعلب، ويبدو في فصلي السنة، فيقيم في حفير، ويشتو بالحيرة، ويأتي المدائن في خلال ذلك فيخدم كسرى، وكان لا يؤثر على بلاد بني يربوع مبدى من مبادي العرب، ولا ينزل في حي من أحياء بني تميم غيرهم. وكان أخلاؤه من العرب كلهم بني جعفر. وكانت إليه في بلاد بني ضبة وبلاد بني سعد، ولم يزل على حاله تلك حتى تزوج هندًا بنت النعمان بن المنذر2.
1 الأغاني "2/ 100""دار الكتب المصرية" شعراء النصرانية "ص 443"، المرزباني "249 وما بعدها" الشعر والشعراء "ص113 وما بعدها""عدي بن زيد العبادي".
2 الأغاني "2/ 102 وما بعدها""دار الكتب المصرية"، المشرق، الجزء الأول، كانون الأول، 1944"، "ص46 وما بعدها"، شعراء النصرانية "1/ 439 وما بعدها"، المرزباني "249 وما بعدها".
وأمها "مارية الكندية" فهي من كندة من جهة الأم. ثم أمره "النعمان" بالافتراق منها وتطليقها بعد ما غضب عليه وألقاه في السجن.
وروى الأخباريون لعدي شعرًا زعموا أنه قال أكثره في حبسه وفي معاتبته للنعمان وفي توسله إليه بأنه يطلقه من حبسه، وفيه مواعظ تذكر النعمان بأن الدنيا زائلة، وأنها دار فناء، وأن الملك لا يدوم، وأمثال ذلك. وهو شعر لم ينظر إليه علماء الشعر نظرتهم إلى شعر الشعراء الفحول، وذلك؛ لأنه كان قرويًّا، أي من أهل الحضر، ولذلك أيضًا لم يستشهد به علماء اللغة في ضبط قواعد اللغة1.
هذا ويذكر "ابن النديم" في كتابه "الفهرست" أن جملة مؤلفات "ابن الكلبي" الكثيرة مؤلفًا اسمه "كتاب عدي بن زيد العبادي"2، وهو كتاب لم يصل إلينا حتى الآن. ولعله كان في جملة الموارد الرئيسية التي اعتمد عليها المؤرخون وأهل الأدب والأخبار في تدوينهم أخبار ذلك الشاعر السياسي الأديب.
ونجد في "رسالة الغفران" شعرًا لعدي. وقد دعي بـ "السروي" في موضع منها، حين تحدث مؤلفها "المعري" عن المنادمة وعن باطية الخمر3. وكني بـ "أبي سوادة" في موضع آخر4.
وانتقل ملك الحيرة بعد مقتل النعمان إلى رجل غريب لم يكن من لخم، اسمه إياس بن قبيصة الطائي5، أو إياس بن قبيصة بن أبي عفراء، أو إياس بن قبيصة بن النعمان بن حية بن سعنة6. وله خال اسمه حنظلة بن أبي عفراء بن النعمان. ويقال إنه كان نصرانيًّا. وقد ذكر له أخ اسمه قيس بن قبيصة كان نازلًا بعين التمر7. وذكر أن والده كان من شعراء جرم، وجرم رهط من طيء8.
1 الأغاني "2/ 109""دار الكتب المصرية"، الشعر والشعراء "ص114"، "عدي بن زيد العبادي".
2 الفهرست "ص 147".
3 رسالة الغفران "ص 185".
4 رسالة الغفران "186، 190، 203".
5 حمزة "ص 74"، "إياس بن قبيضة بن أبي عفراء بن النعمان بن حية بن سعية بن الحارث بن الحويرث بن ربيعة بن مالك بن سفر بن هني بن عمرو بن غوث بن طيء"، شعراء النصرانية "ص135"، ديوان الأعشى "ص162". "طبعة الدكتور م. محمد حسين".
6 الاشتقاق "231".
7 Rothstein، S. 119.
8 شعراء النصرانية "ص93".
وآل قبيصة من الأسر المعروفة في الحيرة، وقد سبق أن عهدت إلى إياس إدارة مهمات الحكومة بعد وفاة المنذر، فمكث أشهرًا ملكًا يدير أمور الملك إلى أن أعطي التاج للنعمان أبي قابوس. ويظهر من روايات الأخباريين أنه كان مقربًا من كسرى؛ لأنه ساعده حينما هرب من بهرام، وأهدى إليه فرسًا وجزورًا؛ ولأنه عاونه في نزاعه مع الروم1. فلما فر أبناء النعمان بعد مقتل والدهم، وتشتت شمل البيت المالك مدة، تذكر كسرى فضل هذا الرجل عليه فعينه ملكًا على الحيرة، وعين معه رجلًا فارسيًّا اختلفوا في اسمه، فقالوا: "الهمرجان" و" البحرجان" و"النخرجان" و"التخرجان"2. وهو اختلاف يسير، يعود سببه على ما يظهر إلى عدم تمكن النساخ أو الرواة من ضبط الكلمة. والظاهر أنها وظيفة ومركز، حسبها الرواية اسم علم، فأطلقوها على شخص3. وقد كان كسرى قد عينه مدة أشهر على الحيرة، وذلك قبل أن ينتقل الملك إلى النعمان4.
وذكر الأخباريون أن كسرى بن هرمز كان يتيمن بـ "إياس"، ويفزع إليه في حروبه ويعجبه، وأنه استنجد به في حربه مع قيصر، فتعقبه حتى أدركه في موضع "ساتيدما" فأثخن القتل في جنوده، ونجا قيصر في خواص من أصحابه بصعوبة. وأصيب إياس بمرض في هذه السفرة، أشار الأعشى في شعره إليه5. وللأعشى قصائد في مدح إياس، وكانت له صلة به، وقد أغدق عليه نعمه6.
وفي رواية ذكرها أبو الفرج الأصبهاني أن كسرى كان قد عين إياسًا على عين التمر وما والاها من الحيرة، وأطعمه ثلاثين قرية على شاطئ الفرات7. ويظهر من هذه الرواية ومن رواية وفاته في عين التمر ووجود أخيه فيها أن عين التمر كانت من مناطق نفوذ هذه الأسرة حتى في أيام ملك آل لخم.
وذكر "الدينوري" أن كسرى ولي أياس بن قبيصة الطائي ثمانية أشهر،
1 الطبري "2/ 152".
2 حمزة "ص74". ابن الأثير "1/ 200" شعراء النصرانية "137".
3 Noldeke. Sassa. 152، Rthstein، S. 120.
4 شعراء النصرانية "135"، الطبري "2/ 194""دار المعارف".
5 ديوان الأعشى "ص159""طبعة كاير" البلدان "5/ 6""مادة ساتيدما".
6 ديوان الأعشى، القصائد "21، 29، 36، 55، 79.
7 الأغاني "21/ 134".