المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌المجلد الخامس ‌ ‌الفصل الرابع والثلاثون: مملكة النبط ‌ ‌مدخل … الفصل الرابع والثلاثون: مملكة النبط مملكة - المفصل فى تاريخ العرب قبل الإسلام - جـ ٥

[جواد علي]

الفصل: ‌ ‌المجلد الخامس ‌ ‌الفصل الرابع والثلاثون: مملكة النبط ‌ ‌مدخل … الفصل الرابع والثلاثون: مملكة النبط مملكة

‌المجلد الخامس

‌الفصل الرابع والثلاثون: مملكة النبط

‌مدخل

الفصل الرابع والثلاثون: مملكة النبط

مملكة النبط، مملكة عربية لم يعرف الأخباريون من أمرها شيئًا. سداها ولحمتها النبط. وهم قوم من جبلة العرب، وإن تبرأ العرب منهم، وعيروا بهم، وأبعدوا أنفسهم عنهم، وعابوا عليهم لهجتهم، حتى جعلوا لغتهم من لغات العجم، وقالوا إنهم نبط، وإن في لسان من استعرب منهم رطانة. وسبب ذلك، هو أنهم كانوا قد تثقفوا بثقافة بني إرم، وكتبوا بكتابتهم، وتأثروا بلغتهم، حتى غلبت الإرمية عليهم؛ ولأنهم فضلًا عن ذلك خالفوا سواد العرب باشتغالهم بالزراعة وبالرعي وباحترافهم للحرف والصناعات اليدوية، وهي حرف يزدريها العربي الصميم، ويعير من يقوم بها ويحترفها.

وتكمن عوامل ظهور النبط وغلبتهم على المنطقة التي عرفت بهم، وتكوينهم دولة بعد أن كانوا أعرابًا يعيشون عيشة ساذجة، تكمن في أسباب وأسس اقتصادية1 فقد تمكن هؤلاء النبط الأذكياء من استغلال موقع بلادهم لمرور شرايين التجارة بين العربية الجنوبية وبلاد الشام بها، ففرضوا ضرائب على التجار وعلى التجارة عادت عليهم بفوائد كبيرة، كما قاموا أنفسهم بالوساطة في نقل التجارة بين بلاد الشأم ومصر ومواضع من جزيرة العرب، فدرت هذه الوساطة عليهم أموالًا طائلة جعلتهم من الشعوب العربية الغنية بالنسبة على غيرهم ممن يسكنون البوادي، والمواقع المقفرة المنعزلة.

1 Die Araber، I، S.، 288

ص: 5

وقد كان ميناء "غزة"ميناء النبط المفضل على البحر المتوسط. وهو في الواقع ميناء كل التجار العرب، إذ كان المرفأ الوحيد الذي ترفأ إليه تجارة العرب. وقد استفادوا منه كثيرًا لقربه من النبط، صاروا يشترون منه ما يرد عليه من بضائع من موانيء البحر المتوسط، ثم يحملونها إلى بلادهم فيبيعونها للتجار العرب القادمين إليهم من الحجاز ومن العربية الجنوبية ومن أماكن أخرى من جزيرة العرب، كما أنهم صاروا يشترون من التجار العرب ما عندهم من تجارة، ثم يحملونها إلى ذلك الميناء لبيعه في أسواقه، وبذلك حصلوا على أرباح من هذه الوساطة في الاتجار.

وقد نشأت دولة النبط التي نتحدث عنها قبل الميلاد في المنطقة الشمالية الغربية من جزيرة العرب، في المكان الذي عرف باسم "العربية الحجرية""Arabia Petraea" عند اليونان والرومان.

وأما أخبارنا عنها، فمستمدة من كتب الكلاسيكيين، ومن مؤلفات المؤرخ اليهودي ""يوسفوس فلافيوس" "Josephus Flavius" "37 -100 بعد الميلاد". صاحب "Ioudaike Archaeologia" و"Periton Ioudaikon Polemon"1، ومن كتابات عثر عليها في "العربية الحجرية" وفي الأخرى التي خضعت لحكمها وهي نبطية ولاتينية ويونانية. وعلى هذه الموارد يعول المؤرخ الحديث في تدوين تأريخ قوم كان لهم نفوذ وسلطان وصوت مسموع وكلمة، ثم إذا هم في الذاهبين {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} 2.

وقد تضمن القسم الأكبر من كتابات النبط، كتاب: Corpus Inscriptionum Semiticarum وقد أشير فيه إلى المواضع التي عثر فيها على تلك الكتابات، وإلى السمات التي وسمت بها لتميز بعضها عن بعض. وأسهمت كتب أخرى بالطبع في هذا المجهود العسير، مجهود نشر الكتابات النبطية القديمة وغيرها، ككتاب:"Handbuch Der Nordsemitischen Epigraphik"، وكتاب: Corpus Inscriptionum Semiticarum، للعالم المعروف "مارك ليدربارسكي"

1 Harvey، P.228، A. R. Shilleto، The Works Of Flavius Josephus In 5 Vol.، “Bohn’s Standard Library”

2 سورة آل عمران: رقم3، الآية 140.

ص: 6

"Mark Lidzbarski"1، وكتاب:"A Text Book Of North-Semitic Inscriptions" لـ"كوك""G. A. Cooke"2 وكتاب "REP. EPIG"3، وكتب أخرى سأشير إليها في أثناء الحديث، يضاف إليها ما نشر في المجلات العلمية الاستشراقية كمجلة "ZDMG" وأمثالها4.

أما لغة النصوص النبطية، فلغة "بني إرم"5، وأما خطها فبالقلم الإرمي، ولكنه "إرمي" مأخوذ من القلم الإرمي القديم، وقد عرف عند المستشرقين بـ"القلم النبطي" تمييزًا له عن بقية الأقلام6. وأما المواضع التي عثر على هذه الكتابات فيها فهي عديدة، منها "بطرا" و"الحجر" "Hegra" و" العلا" و"تيماء" و"خيبر" و"صيدا" "Sidon" و"دمشق" ومواضع متعددة من "حوران" ومن "اللجاة"7 و"طور سيناء" والجوف واليمن ومصر وإيطاليا وأماكن أخرى سترد أسماؤها في ثنايا هذا الفصل8.

وتختلف الكتابات النبطية القديمة، من حيث رسم الحروف، بعض الاختلاف عن الكتابات النبطية المتأخرة المدونة بعد الميلاد، وتختلف أيضًا باختلاف الأماكن التي وجدت فيها، فلكتابات "طور سيناء" مثلًا خصائص. كتابية محلية لا نجدها في النصوص الأخرى. وتفيدنا هذه الخصائص المحلية والتطورات التي طرأت بمرور العصور على أشكال الحروف في مثل "التربيع" والانفصال والاتصال وتقاربها وتباعدها من الخط الكوفي في دراسة تطور الخطوط السامية، وعلاقاتها بعضها ببعض9.

1 Mark Lidzbarski، Handbuch Der Nordsemitischen Epigraphik Nebst Aus-Gewahlten Inschriften، Weimar، 1989، Ephemeris Fur Semitische Epigraphik، I، Giessen 1901، 11، 1903، Iii، 1912

2 G. A. Cooke، A Text-Book Of North-Semitic Inscriptions: Moabite، Hebrew، Phoenician، Aramaic، Nabataean، Palmyrene، Jewish، Oxford، 1903

3 Repertoire D’epigraphie Semitique

4 Zeitschrift Der Deutschen Morgenlandischen Geselschaft

5 "بنو إرم"، الطبري "1/ 220""طبعة ليدن".

6 Lidzbarski Nord. Epig.، I، S.، 180

7 البلدان "7/ 323".

8 Musil، Deserta، P.،471،Lidzbarski، I، S. 121، 122

9 Lidzbarski، I، S. 121، 194

ص: 7

وهي على اختلافها تشارك الكتابات العربية التي عثر عليها في العربية الحنوبية أو في المواضع الأخرى من جزيرة العرب في كونها شخصية في الغالب. كتبت في أمور خاصة، لا علاقة لها بالمجموع. فهي لا تفيد المؤرخ إفادة مباشرة، ولكنها تفيد الباحثين من غير شك في أمور أخرى، تفيدهم في الدراسات اللغوية مثلًا، فهي كنز لا يقدر بثمن من هذه الناحية. أما الكتابات العامة، أعني النصوص التي لها علاقة مباشرة بالدولة وحياة الشعب وبساسة الحكومة أيام السلم أو الحرب، فهي قليلة جدًّا -ويا للأسف- مع أنها المادة الأساسية في كتابة التاريخ1.

والكتابات النبطية المؤرخة مثل الكتابات السامية الأخرى، قليلة بالنسبة إلى الكتابات الغفل من التأريخ. أما طرائق توريخ الحوادث عند النبط، فكانت متعددة منها التوريخ بأيام الملوك كأن يذكر اسم الشهر الذي دون فيه النص، ثم يذكر بعده عام التدوين، فيقال مثلًا:"في شهر كذا من سنة كذا من حكم الملك.....""بيرح.... شنت.... ملك نبطو....". وقد استعملت هذه الطريقة في أيام استقلال النبط خاصة. والتوريخ بسني حكم قياصرة "رومة" وذلك بذكر الشهر الذي دونت فيه الكتابة، ثم السنة المصادفة من سني حكم القيصر الذي في أيامه جرى التدوين، أو السنة المصادفة دون الإشارة إلى اسم الشهر2.

وقد عثر على كتابات مؤرخة بسني حكم "القناصل"، وعلى كتابات أخرى أرخت بتقويم "بصرى"، ومبدأه اليوم الثاني والعشرون من شهر "آذار" من سنة "106" بعد الميلاد، وقد أرخ به في كتابات "طور سيناء" كذلك3. وظلت الأقسام الجنوبية من "الكورة العربية" تؤرخ به حتى بعد فصلها من هذه الكورة وإلحاقها بـ "كورة فلسطين"4. وأرخ بالتقويم "السلوقي"، وأوله

1 Lidzbarski، I، S.، 163

2 Lidzbarski، I، S.، 112، Rep. Epig.، 128، I، Ii، P.،113، Euting، Sinai. Inschr.، No:457.

3 Lidzbarski، I، S.، 113، Euting 319، 457، 463، Berger، No: 1060

4 Provincia، III، S.، 303

ص: 8

اليوم الأول من شهر "تشرين الأول""أكتوبر" من سنة "312" قبل الميلاد1.

وأرخ بأيام القيصر "بومبيوس" حيث اتخذت مبدأ لتقويم يبدأ بشهر "تشرين الأول". "أكتوبر" من سنة "63" قبل الميلاد، أرخ به في الكتابات وفي النقود2.

وأرخ في بعض الكتابات النبطية بتواريخ محلية كانت متعارفة عندهم مشهورة. كما فعل غيرهم في جزيرة العرب حيث أرخوا بالحوادث المحلية المهمة، نظرًا لما كان لها من شهرة بينهم. وقد تمكن العلماء من تشخيص بعض منها، ولم يتمكنوا من تشخيص بعض آخر. ومن الكتابات المؤرخة محلية كتابة عثر عليها في مدينة "فيليبوبولس""Philippopolis"، وقد أرخت بتقويم يبدأ بسنة "248" تقريبًا أو بين سنة "247" وسنة "249"3. مدينة "شقا" "شقة"، وقد أرخت في عدد من كتاباتها بسنة "92" بعد الميلاد. ومدينة "Constantia" وهي "البراك" في "اللجاة" وفي عدد من الكتابات التي عثر عليها في موضع "شيخ مسكين"، وهو "Maximinopolis" على رأي بعض الناس4.

والرأي السائد اليوم بين العلماء أن النبط عرب مثل سائر العرب، وإن استعملوا الإرمية في كتاباتهم، بدليل أن أسماءهم هي أسماء عربية خالصة، وأنهم يشاركون العرب في عبادة الأصنام المعروفة عند عرب الحجاز، مثل "ذي الشرى" و"اللات" و" العزى"، وأنهم رصعوا كتاباتهم الإرمية بكثير من الألفاظ العربية، وبدليل إطلاق اليونان واللاتين والمؤرخ اليهودي "يوسفوس" كلمة "العرب" على النبط، وإطلاق اسم "Arabia Petraea" أي "العربية الحجرية" على أرضهم، ولو لم يكن النبط عربًا، لما أطلق "الكلاسيكيون" كلمة العرب عليهم، وما كانوا يدخلون بلادهم في ضمن العربية ويجعلونها جزءًا من أجزائها الثلاثة.

وقد كان النبط من أهل جزيرة العرب في الأصل، نزحوا من البوادي إلى

1 Berytus، archeological studies، published by the museum of archeology of the american university of beirut، vol.. I. American press beirut، 1934. P36.

2 Provincia، III، S.، 304

3 Provincia، III، S.، 205

4 Provincia، III، S.، 305، 306

ص: 9

أعالي الحجاز فأقاموا بها، ثم سرعان ما استقروا وتحضروا وأقاموا يفلحون الأرض ويزرعونها، فأقاموا لهم مستوطنات زراعية. واستقروا في المدن والقرى، محترفين بمختلف الحرف وفي طليعتها التجارة وبالاشتغال بالقوافل التجارية التي تنقل التجارة بين مختلف الأمكنة، فجمعوا من ذلك مالًا وثراءً. وقد ذهب. بعضهم إلى أن أصلهم من العربية الجنوبية، وأن عرقهم هذا هو الذي جعلهم يشتغلون بالزراعة وبالعمارة وبالحرف التي كانت مألوفة عند العرب الجنوبيين منذ العهود القديمة1.

ولقد وجدنا طائفةً من العلماء تتنكر لهذا الرأي ولا تراه، وترى في الألفاظ العربية الممزوجة في الإرمية بكثرة، وفي تشابه الأسماء واشتراكها بين النبط والعرب، أثرًا من آثار الاختلاط والاتصال بحكم السكنى المشتركة والجوار، ولا علاقة له بوحدة الجنس، وترى لذلك أن النبط إرميون احتكوا بالعرب وتأثروا بهم، أو أنهم إرميون استعربوا من بعد2.

أما أن النبط من بني "إرم"؛ لأنهم كتبوا بلغتهم، واستخدموا قلمهم، فهو قول مردود، فقد كتب غير النبط ومن غير "بني إرم" بلغة "إرم" وبقلم "إرم"، ولم يقل أحد من العلماء إن جميع من كتب بلغة الإرميين وبقلمهم هم من "بني إرم" حتمًا. ولا يمكن أن يقال ذلك؛ لأن الإرمية كانت قد تغلبت على أكثر لغات الشرق الأدنى وصارت لغة الكتابة والتدوين قبل الميلاد وبعده بقرون. تغلبت على العبرانية مثلًا وزاحمتها حتى فضلت عليها عند المتكلمين بها من الخاصة والسواد إلى نهاية القرن السابع بعد الميلاد، فدونت بها كتب من "التركوم" والأدعية والشروح و"مجلة تعنيت" و"أنطيوغيوس" وغيرها من مؤلفات القرنين الثاني والأول قبل الميلاد3. وألفت بها فيم بعد الميلاد، فلا عجب إذن إذا ما دون النبط أو غيرهم من العرب بالإرمية لغة الفكر والثقافة، وتكلموا بلغة أخرى هي لغة اللسان4. وقد كان الأعاجم في الإسلام يتكلمون بألسنة أعجمية، ويدونون باللسان العربي لسان العلم الفكر والقرآن.

1 DEITIES، P.،4

2 Kennedy، P.، 34

3 قاموس الكتاب المقدس "1/ 58".

4 Ency. Bibli.، P.، 277، 282

ص: 10

تلك هي آراء المستشرقين في أصل النبط. أما رأي أصحابنا الأخباريين فيهم فخلاصته أن النبط "جيل من العجم ينزلون البطائح بين العراقين، سموا بذلك لكثرة النبط عندهم، وهو الماء. وسمي أولاد شيث أنباطًا؛ لأنهم نزلوا هناك. هذا أصله، ثم استعمل في عوام الناس وأخلاطهم

"1 والعرب تنفر من النبط وتنظر إليهم نظرة ازدراء واحتقار، وإذا أراد أحدهم الاستهانة بأحد قال له "يا نبطي". "وفي حديث الشعبي أن رجلًا قال لآخر يا نبطي، فقال: لا حد عليه كلنا نبط، يريد الجوار والدار دون الولادة"2. وورد في الأخبار:"أهل عمان عرب استنبطوا، وأهل البحرين نبط استعربوا"3. وضرب المثل في رطانة كلام النبط بالعربية وقبحه: "وقد قبح الكلام، وصار على كلام النبط"4. إلى غير ذلك من كلام فيهم يشير إلى ازدراء العرب بنبط العراق، ونبط الشأم وبالنبط عامة.

وقد أشار المسعودي إلى أن "من الناس من رأى أن السريانيين هم النبط

" وقال في معرض حديثه عن أهل نينوي: "وكان أهل نينوي ممن سمينا نبيطًا وسريانيين، والجنس واحد، واللغة واحدة، وإنما بان النبط عنها بأحرف يسيرة في لغتهم، والمقالة واحدة". وجعل النبط أهل بابل، وملوك بابل هم ملوك النبط. وذكر أيضًا أن هنالك من يزعم أن النبط هم "نبيط بن ماش بن إرم ابن سام بن نوح"5. فيفهم من كلام "المسعودي" أنه لم يكن على علم واضح بأصل أهل نينوي وبأصل أهل بابل، فجعلهم من السريان ومن النبط. والمسعودي مثل بقية الأخباريين عني بالنبط المتكلمين بالإرمية "الآرامية" من أهل العراق. والسريانية كلمة حديثة عهد، يراد بها لغة بني إرم، أي "الإرمية". ولا يرتقي اسم "السريان" "Syrians" على كل حال أكثر من خمسمئة سنة أو أربعمئة

1 تاج العروس "5/ 229"، القاموس "2/ 387"، اللسان "9/ 288 وما بعدها"، البستان "2/ 350".

2 تاج العروس "5/ 230".

3

استعجم العرب في الموامي

بعدك واستعرب النبيط.

الأغاني "5/ 61"، صحيح الأخبار عما في بلاد العرب من الآثار، محمد بن عبد الله بن بليهد النجدي، القاهرة "195م""2/ 189".

4 الأغاني "5/ 16".

5 مروج الذهب "1/ 129، 133، 134، 266"، "طبعة المطبعة البهية".

ص: 11

سنة قبل الميلاد، وأما إطلاق اسم السريان على الإرميين الشرقيين، أي إرمي العراق، فقد حدث بعد الميلاد. أطلق على متنصرة الإرميين ليميزوا عن بني جنسهم الوثنيين، فصار له مفهوم خاص، وصارت كلمة "إرمي""آرامي" تعني الصابئ والوثني أما كلمة "سرياني" فتعني النصراني حتى اليوم1.

أما "ماش""Mash"، فهو أحد أبناء "أرام" ذكر في "التكوين"، مع "عوص وحول وجائر" بمعنى أنهم أخوته2. ودعي "ماشك" في "أخبار الأيام الأول"3. ويظن أنهم سكان "ماش""ماشو" في النصوص الأشورية، أي بادية الشأم4. و"إرم" هو ابن "سام بن نوح" في التوراة5. وتتفق رواية "المسعودي" المأخوذة من أقوال أهل الكتاب ولا شك، مع ما جاء في التوراة من أن "ماش" هو ابن "آرام"، وهو "إرم". وأما ما ذكره على لسان غيره أو لسانه من أن النبط هم "نبيط"، وأن "نبيطًا" هو ابن "ماش"، فهو قول لم يرد في التوراة. ولا يعرف العهد القديم شخصًا اسمه "نبيط بن ماش بن أرام". ويقصد المسعودي من "نبيط""نبايوت"، ولا شك، و" نبايوت" هو الابن البكر لإسماعيل في التوراة6.

أما أنهم سموا نبطًا لكثرة النبط عندهم وهو الماء، أو لاستنباطهم الماء، وإنباطهم الآبار، وما شاكل ذلك من تفاسير وردت في معنى النبط7، فهو كلام كان يسمع في القديم. أما اليوم فلا يمكن أن يقام له وزن.

والنبط في عرف الباحثين هم "نبط" و"نبطو" في الكتابات8، والكلمة

1 لمعرفة ما قيل في أصل لفظة "السريان" وتكونها، راجع:"دليل الراغبين في لغة الآراميين" تأليف القس يعقوب أوجين حنا الكلداني، طبع مطبعة دير الآباء الدومنيكيين في الموصل سنة 1900م "ص 9 وما بعدها".

2 التكوين: الإصحاح العاشر، الآية 22.

3 قاموس الكتاب المقدس "2/ 207" الإصحاح الأول، الآية 17.

Ency. Bibli.، P.،2972

4 Hastings، Pp.،606

5 التكوين: الإصحاح العاشر، الآية 22.

6 التكوين: الإصحاح 25، الآية 3، أخبار الأيام الأول، الإصحاح الأول، الآية 29.

7 ابن دريد: الاشتقاق "2/ 236" طبعة وستنفلد".

"نبطو"، CIS، II، I،P.، II 157

ص: 12

اسم علم ليس غير مثل سائر أسماء الأعلام، لا علاقة له لا بالماء ولا باستنباط الماء. حار الأخباريون فيه فعالجوه على مألوف طريقتهم بإيجاد معان للأسماء، وتعليلات وأسباب، وظنوا أنهم بهذا التعليل وجدوا سر التسمية ووقفوا عليه، ولا سيما أن النبط زراع، ولهم مياه غزيرة وعلم بالماء، وأن النبط: الماء الذي ينبط من قعر البئر إذا حفرت، فقالوا: النبط من نبط، فالمسألة إذن سهلة هينة. إنهم سموا نبطًا لاستنباطهم ما يخرج من الأرضين، وهو الماء1.

وأشير إلى النبط في حديث عمر: "ولا تستنبطوا"، أي تشبهوا بمعد ولا تشبهو بالنبط. وفي الحديث الآخر:"لا تنبطوا في المدائن" أي لا تشبهوا بالنبط في سكناها واتخاذ العقار والملك. وورد ذكر النبط في خبر مرفوع على ابن عباس: "نحن معاشر قريش من النبط من أهل كوثى ريا، قيل: إن إبراهيم الخليل ولد بها، وكان النبط سكانها"2. وورد في حديث "عمرو بن معد يكرب" حين سأله "عمر" عن "سعد بن أبي وقاص"، فقال: "أعرابي في حبوته، نبطي في جبوته"، أراد أنه في جباية الخراج وعمارة الأرضين كالنبط حذقًا بها ومهارة فيها؛ لأنهم كانوا سكان العراق وأربابها. وفي حديث أبي أوفى: "كنا نسلف نبيط أهل الشأم"3.

ويقال الآن في نجد للشعر العامي "الشعر النبطي" أو "شعر النبط"، ويرى الباحثون في هذا النوع من الشعر أنه منسوب إلى نبط العراق4. وعلى كل فإن لهذه التسمية علاقة باسم هذا الشعب العربي القديم الذي نتحدث عنه.

والنبط الذين قصدهم الأخباريون إذن، هم قبط آخر لا نريدهم نحن في هذا الفصل ولا نقصدهم، هم يقصدون بقايا الشعوب القديمة خاصة النازلين في البطائح منهم، ومنهم مترسبات الإرميين في العراق والشأم، وذلك قبيل الإسلام وفي الإسلام، وكانوا يتكلمون بلهجات عربية ولكن برطانة أعجمية وبلكنة غريبة

1 اللسان "7/ 411""صادر"، البستان "2/ 2250".

2 اللسان "7/ 411".

3 اللسان "7/ 412".

4 خالد بن محمد المفرج: ديوان النبط، مجموعة من الشعر العامي في نجد. دمشق 1952م "ص: ط"، محمد بن عبد الله بن بليهد النجدي: صحيح الأخبار عما في بلاد العرب من الآثار، القاهرة، 1951م "2/ 189".

ص: 13

ظاهرة. أما نبطنا، فهم أصحاب كتابات مدونة بالإرمية، وقد عاشوا في "العربية الحجرية" وفي مناطق أخرى خضعت لسلطانهم لم تكن البطائح منها على كل حال، كما عاش فرع آخر منهم في "تدمر"، وسيأتي الحديث عنهم.

وعندي أن النبط عرب، بل هم أقرب إلى قريش وإلى القبائل الحجازية التي أدركت الإسلام من العرب الذين يعرفون بـ"العرب الجنوبيين". والنبط يشاركون قريشًا في أكثر أسماء الأشخاص، كما يشاركونهم في عبادة أكثر الأصنام. وخط النبط قريب جدًّا من خط كتبة الوحي، وقد قلت إن من العلماء من يرى أن قلمنا هذا مأخوذ من قلم النبط. يضاف إلى ذلك ما ذكرته من وجود كلمات عربية كثيرة من النصوص النبطية المدونة بالإرمية، هي عربية خالصة من نوع عربية القرآن الكريم. لهذه الأسباب أرى أن النبط أقرب إلى قريش وإلى العدنانيين على حد تعبير النسابين من العرب الجنوبيين الذين تبتعد أسماؤهم وأسمء أصنامهم بعدًا كبيرًا عن أسماء الأشخاص والأصنام عند قريش وبقية العدنانيين. أضف إلى هذا ما ورد في التوراة وما عند أهل الأخبار من أن "نبايوت" وهو "نابت" أهل الأخبار، هو الابن الأكبر لإسماعيل، وإسماعيل في عرف النسابين هو جد العرب العدنانيين.

وقد سبب تدوين النبط كتاباتهم بالإرمية خسارة فادحة لنا لا تقدر بثمن؛ لأنه حرمنا الحصول على نصوص بلهجات عربية قديمة نحن في أشد الحاجة إليها، لما لها من فائدة في دراسة تطور اللهجات العربية واللهجة التي نزل بها القرآن الكريم والمراحل التي مرت بها. وخاصة أننا لا نملك من النصوص العربية المدونة باللهجات العربية الشمالية القريبة من عربية القرآن سوى بضعة نصوص.

وبعد "ديودورس الصقلي" أقدم كاتب "كلاسيكي" تحدث عن النبط. يليه "سترابون"، فبقية "الكلاسيكيين" الذين عاشوا بعدها. وفي تأريخ "يوسفوس" اليهودي المتوفى حوالي سنة "95" بعد الميلاد، أخبار مفيدة عن النبط، ولا سيما علاقتهم بالعبرانيين الذين كانوا على اتصال وثيق بهم بسبب الجوار.

وقد تطرق "سترابون" إلى أمور لم يتطرق لها "ديودورس"، أخذها من صديق له اسمه "أثينودورس""Athenodrous"، وكان فيلسوفًا ولد بين النبط وعاش بينهم. وقد حدثه هذا الفيلسوف أن عددًا كبيرًا من الرومان ومن الغرباء

ص: 14

من الجنسيات الأخرى كانوا يعيشون بين النبط، وكانوا في نزاع وخصام بينهم. أما النبط فكانوا على صفاء ووئام، يعيشون عيشة سلام وراحة1. ويتبين أثر اختلاط الغرباء بالنبط، في الآثار الباقية وفي الكتابات اليونانية والرومانية التي عثر عليها في أرض النبط وعلى النقود.

وقد شملت مملكة النبط في أوج أيامها منطقة واسعة ضمت "دمشق" و"سهل البقاع""بقأث هـ - لينون""Biq'ath Ha-Lebanon""Coelesyria"، والأقسام الجنوبية والشرقية من فلسطين وحوران و"أدوم""Idunaea"، ومدين إلى "ددن""ددان" وسواحل البحر الأحمر. وثبت أيضًا أن جماعة من النبط سكنت في الأقسام الشرقية من "دلتا" النيل، وقد تركت لنا عددًا من الكتابات2.

ولا يعرف الموطن الأصلي الذي جاء منه النبط على وجه التحقيق، ولا الزمان الذي هاجروا فيه منه. ويظن بوجه عام أنهم كانوا بدوًا في الأصل من سكان البادية الواقعة شرق شرقي الأردن. ثم ارتحلوا نحو الغرب فنزلوا أرض "أدوم" وضايقوا الأدوميين الذين ارتحلوا نحو الشمال والغرب اختيارًا أو كرهًا، فسكنوا في المناطق الخصبة المشرفة على البحر المتوسط. وكان ذلك حوالي "587" قبل الميلاد. ولا يعرف على وجه العموم في الزمن الحاضر شيء ما عن مبدأ تأريخ النبط3.

ويرى بعض العلماء أن النبط هم "نبياطي" المذكورون في أخبار الملك "أشور بنبال""Aschurbanipal"، وهم أيضًا "نبايوت""Nebjot= "Nabatene" أولاد إسماعيل في التوراة4. وهم سكان أرض "Nabatene"5.

1 Sir Alexander B.W. Kennedy، Petra، Its History And Monuments، London، 1925، P.،33.

وسيكون رمزه: Kennedy

2 Ency.، Vol. Iii، P.801، Clermont Ganneau، Les Nabatiens En Egypte، In Recueil D’arch. Or.، Viii، 1924، Pp.229

3 Kennedy، P.29

4 J. Hastings، Encyclopaedia Of Religion And Ethice، Vol.، Ix، P.121

وسيكون رمزها: Ency، Relig

5 Josephus Flavius، Antiquities Of The Jews، I، Xii، 4، Col.، I، P.،103، A. R

ص: 15

ويعارض هذا الرأي بعض آخر، ولا يرى وجود صلة ما بين النبط و" نبياطي" أو "نبايوت"1. وأما النبط المذكورون في "المكابيين"، فهم النبط جماعتنا الذين نتحدث عنهم الآن2.

وقد أطلق "يوسفوس" اسم "النبطية""Nebaioth" على منطقة واسعة تمتد من نهر الفرات فتصل بحدود الشأم إلى البحر الأحمر، وهي من مناطق أولاد إسماعيل3. ويظهر من تأريخ "يوسفوس" أن مؤلف هذا التأريخ كان يرى وجود صلة بين اسم "نبايوت" وهو اسم ابن "يشمعيل" "اسماعيل" وبين اسم النبط، وإلى هذا الرأي ذهب أيضًا "جيروم" "Jerome"4.

ومن أخبار "ديودورس" عنهم أن معظم بلادهم قفرة قليلة الماء والقسم المنبت منها قليل، لذلك عاش سكانها عيشة أعرابية، على الغزو، وعلى التحرش بحدود جيرانهم، لعلمهم أن من الصعب على الجيوش تعقب آثارهم والالتحام بهم في البادية لقلة الماء، وإلا تعرضت للتهلكة والموت عطشًا.

أما هم، فلهم آبار مخفية، وكهاريس أغلقت فتحاتها، فلا يعلم أحد من الناس سواهم أين هي؟ يشربون منها متى شاءوا، ويأخذون منها ما يحتاجون إليه. وهم قوم يحبون الحرية ويقدسونها، ويأبون الخضوع لحكم الغرباء. ولهذا لم يخضعوا لحكم الأشوريين أو الميديين أو الفرس أو لحكم ملوك المقدونيين، مع أن هذه الدول أرادت استعبادهم فأرسلت عليهم جيوشًا قوية، ولكنها لم تنجح في تحقيق ما أرادت، ولم تتمكن من السيطرة على هؤلاء الأنباط5.

وقد ذكر عنهم أنهم كانوا يجمعون المطر ويخزنونه في الصهاريج، التي لا يعرف موقعها أحد غيرهم، وأنهم كانوا لا يذيقون ماشيتهم الماء إلا في كل ثلاثة أيام، حتى تتحمل عطش البادية وقلة مائها، وبذلك تتعود هذه البوادي القاسية.

1 E. Schrader، K.L.T.، S.، 151

2 المكابيون الأول، الإصحاح الخامس، الآية 25، الإصحاح التاسع، الآية 35،

Hastings، P.،649

3 Josephus، Antiqu.، I، 12، 4

4 Ency. Bibli.، P.،3254

5 Diodorua، 19، 94، 1-100، 3، Die Araber، I، S. 31، 284، J. Cantineau، Nabateen Et Arabe، I، In L’inst. Des Etudes Orient D’alger، 1934-1935، 4

ص: 16

أما الناس، فكانوا يعيشون على اللحوم والحليب، يضاف إلى ذلك نوع من "الفلفل" ولب بعض الشجر، حيث تخلط بالماء1.

وقد أخذ "ديودورس" أخباره عن النبط من مؤرخ قبله هو "Hieronymos Of Kardia = Hieronymos Of Cardia، ويعود خبره إلى حوالي السنة "312" قبل الميلاد، إذ تحدث هذا المؤلف عن حملة "انطيغونس" "انتيكونس" "Antigonos" على القبائل العربية، فذكر "النبط" Nabataioi = Nabatoioi وأشار إلى الحملة التي أرسلت عليهم2.

ويتبين من أقدم الأخبار الواردة في الكتب "الكلاسيكية" عن النبط أنهم كانوا في بادئ أمرهم أعرابًا رعاة ماشية، ومنهم أصحاب قوافل يتعاطون التجارة، ويقيمون حول البحر الميت، وكانوا يستخرجون "الاسفلت" من سواحله الشرقية فيحملونه إلى مصر لبيعه إلى المصريين3. وكانت لهم أماكن محصنة تحصينًا طبيعيًّا يلتجئون إليها فيصعب على العدو مباغتتهم ومهاجمتهم في هذه الحصون، كما أن لهم علمًا بصحاريهم وبمواضع الماء فيها، يحتمون بها عند الحاجة، ويتخلصون بذلك من تعقيب الجيوش، ويذكر أنهم جنوا أرباحًا كثيرةً من اتجارهم بالاسفلت، إذ كان المصريون يشترونه منهم لاستعماله في "المومياء"، ولهذا أقبلوا عليه إقبالًا كبيرًا، در على النبط ربحًا طيبًا4.

وقد وصفوا بأنهم كانوا يكرهون الزراعة ويزدرونها، كما كانوا يزدرون السكنى في بيوت مستقرة، وكانوا رعاة يربون الأغنام وبقية الماشية. إذا وجدوا غريبًا بينهم قتلوه؛ لأنهم كانوا يخشون أن يقعوا تحت حكم الأجانب فيفقدوا حريتهم5. ووصف "سترابو" النبط، فقال: إنهم تجار، أقاموا في بيوت من الحجر، وقد اشتغل قوم منهم بالزراعة6.

لقد أظهر هؤلاء الرعاة مقدرة فائقة وكفاية لا تقدر في تكييف أنفسهم وفي

1 Diodorus، 19، 49، Die Araber، I، S.، 32

2 Diodorus، 19، 49، 1-100، 3، Die Araber، 1،31

3 Ency.، Vol.، Iii P.، 801، Deities، P.4

4 Die Araber، I، S.، 34

5 Die Araber، I، S.، 283

6 Dieties، P.، 4

ص: 17

أخذهم بالأساليب الحديثة في الحياة. تمكنوا من استغلال أرضهم وما فيها من موارد طبيعية، وتعلموا استغلال مناجم النحاس والحديد القديمة في "أدوم"، واستخدام هذين المعدنين المهمين في صنع المواد اللازمة لشؤون الحياة. وأخذوا من "الهللينية" تنظيم المدن وأصول الإدارة والفن وحولوا مدينتهم الصخرية إلى مدينة حديثة جميلة تنطق حتى اليوم بكفاية أصحابها وبقابلياتهم للمدنية. كما اقتبسوا من "الفرث""Parthian" ما يلائمهم ويوائم حياتهم وحاجاتهم1. وضربوا النقود على طريقة اليونان والرومان فأحسنوا في صنعها وأجادوا وأثبتوا أن العربي كيفما كان أمره قابل للتطور والإبداع والأخذ والاقتباس، وأنه إذا هيئت له الظروف وأرشده المرشدون ووجهوه توجيهًا حسنًا، أفاد نفسه وقومه والبشرية خير إفادة.

ومن النبط انتقلت المصنوعات النحاسية والحديدية المصنوعة في بلاد اليونان أو الشأم أو في بطرا إلى اليمن، وقد كانوا واسطة لنقل "الهيللينية" إلى العرب الجنوبيين. وقد عثر في "خولان" من اليمن على رأس مصنوع من النحاس، محفوظ الآن في المتحف البريطاني، يشبه وجهه الوجوه المطبوعة على النقود النبطية المضروبة في القرن الأخير قبل الميلاد، لذلك يرى الباحثون أنه من صادرات مملكة النبط إلى اليمن، وأنه من المصنوعات المتأثرة بالطابع "الهيلليني"2.

ويحدثنا "ديودورس" أن "انطيغونس""Antigonus" الذي خلف الإسكندر في سورية، جرد حملة على النبط قوامها أربعة آلاف جندي من المشاة وستمئة فارس جعلها في قيادة صديقه "أثينيوس""Athenaeus" ليجبرهم على التحالف معه وتأييد مصالحه. وأمره بمباغتتهم وسلب كل ما يمتلكون من ماشية. فسار القائد من مقاطعة "أدوم""Idumaea" بكل حذر وتكتم لكيلا يعلم أحد من النبط به. وباغت الصخرة في منتصف الليل، فقتل من حاول المقاومة وأسر خلقًا منهم، وترك الجرحى، واستولى على ما وقعت عليه يده من البخور والتوابل والطيب والفضة. ثم أمر قوته بالإسراع بالرجوع، فلما قطعت مسافة مئتي "اسطاديون" أضناها التعب، ونهكها قطع الطريق، فاضطرت إلى قطع

1 M. Rostovtzeff، Ii، Pp.853

2 Rostovtzeff، Ii، P.، 855، R. P. Hings، In British Museum Quarterly، Xi، 1937، Pp.، 153، H. Shlobies، Forschungen Und Fortschritte X، 1934، S.، 242

ص: 18

السير للاستراحة في معسكر إقامته. وفيما كان الجنود ينعمون بنومهم، هاجمهم النبط وأعملوا فيهم السيوف، فلم ينج من رجال الحملة إلا خمسون فارسًا هربوا بسلام بعد أن أثخن أكثرهم بالجراح. وكان ذلك كما يزعم "ديودورس" بسبب تهاون رجال الحملة بأمر الحراسة وعدم تصورهم ملاحقة النبط لهم، وتمكنهم من الوصول إلى هذا الموضع في خلال يومين أو ثلاث1.

وذكر "ديودورس" أن اليونان تخيروا الوقت المناسب حينما باغتوا "الصخرة" فقد كان من عادة أهلها الذهاب إلى أسواق مجاوريهم للامتيار ولمبادلة سلعهم بسلع يحتاجون إليها من جيرانهم، تاركين في صخرتهم أموالهم ونساءهم وأطفاهلم وعجزتهم وشيوخهم. ولم تكن الصخرة من حصانتها، مسورة، فانتهز رجال الحملة هذه الفرصة، وباغتوا الحصن على نحو ما ذكرت. فلما بلغ الخبر النبط، تركوا السوق وتراكضوا إلى الصخرة، وأسرعوا يتعقبون أثر اليونان حتى أدركوهم في ذلك الموضع، فانتقموا منهم شر انتقام، وعلموهم درسًا لا ينسى ولا شك في وجوب اتخاذ الحذر والحيطة وتقدير كل أمر حق قدره مهما صغر وتفه، وقد تأتي التوافه بنتائج لا تأتي من عظائم الأمور. أما تأريخ إرسال هذه الحملة، فكان في سنة "312" قبل الميلاد2.

وبعد انتقام النبط ممن حاول استرقاقهم، عادوا إلى الصخرة راضين مطمئنين، فنظموا أمورهم، ثم كتبوا إلى الملك "انطيغونس" كتابًا كتب بالأبجدية السريانية يلومون فيه "أثينيوس""Athenaeus" على ما فعل بهم، ويعتذرون فيه عما بدر منهم، ويحملون صاحبه وزر صنعه. وقد أجابهم الملك بأن ما حدث لم يكن بعلمه ورضاه، وأن قائده عمل برأيه فخالف أمره، ولذلك فهو يحمله وزره، ويرجوا أن تتحسن العلاقات فيما بينهم وبينه، وأن ينسى ما حدث، وكان غرضه من هذا الكلام التأثير عليهم، وجلبهم إليه ولو إلى حين حتى يرى أمره، فإن أبوا ضرب ضربته. ونال ما أراد.

وبعد مدة هيأ قوة قوامها أربعة آلاف مسلح من المشاة، وأربعة آلاف من الفرسان جعل قيادتها تحت إمرة ابنه "ديمتريوس""Demetrius"، للانتقام

1 Die Araber، I، S.، 33، J. Cantineau، Le Nabateen، I، 1932، Ii

2 Booth، P.، Book، Xix، Vi، Kennedy، Pp.، 30، Deities، P.، Ency. Relig.، Vol.، 9، P.121، Ency.، Iii، P.، 801، Die Araber، I، S.، 33

ص: 19

من النبط بأية طريقة كانت، فلما سمع النبط بقدومها، أمنوا أموالهم في مواضع حصينة يصعب الوصول إليها، ووضعوا عليها حراسة كافية، وسلكوا طرقًا متعددة تؤدي بهم إلى البادية. فلما وصل "ديمتريوس" إلى "الصخرة"، هاجمها بعنف وشدة، غير أنه لم يفلح في اقتحامها والاستيلاء عليها، ورجع بجيوشه قانعًا بالهدايا التي قدمت إليه1.

ويذكر "ديودورس" أن النبط كانوا قد لجأوا إلى اتخاذ أماكن حراسة وضعوا فيها حراسًا، واجبهم تنبيه النبط حين تبدو ظاهرة خطر عليهم، بإيقاد نيران في مواضع مرتفعة من تلك الأماكن، تكون علامة على وجود الخطر. فلما ظهر "ديمتريوس" متجهًا نحو الصخرة، أوقد الحراس النار، فهرب النبط إلى مواضع أمينة من البادية، وتخلصوا مع أموالهم منه؛ لأنه خاف من ملاحقتهم لعدم تمكن جيشه من تعقب آثارهم ولخوفهم من ولوج البادية، وقد كان "المقدونيون" يخشون من دخولها2.

كان النبط من الشعوب العربية التي جمعت ثروة عظيمة، واكتنزت الذهب والفضة بفضل اشتغالها في التجارة وموقعها الممتاز الذي تلتقي عنده جملة طرق تجارية برية كانت عماد طرق القوافل في ذلك الزمن إليها يصل طريق اليمن والعربية الجنوبية المهم الموازي للبحر الأحمر، ومنها يتفرع الطريق إلى مصر والشأم وغزة والمدن الفينيقية على البحر المتوسط، وإليها يصل طريق تجاري آخر مهم يصل الخليج بمدينة "بطرا". ويصل مدينة تجارية أخرى لم يكن شأنها في التجارة أقل من شأن عاصمة النبط، وأعني بها مدينة جرها "Gerrha" على الخليج. فتحمل إليها تجارة الهند وما وراء الهند، وحاصلات إيران والعربية الشرقية لتوزع منها في الشأم ومصر وموانئ البحر المتوسط. وقد عمل ملوك النبط بكل ذكاء على الاستفادة من هذه الطرق واستغلالها لمصحلتهم ومصلحة مملكتهم3. وقد اقتضى ذلك بالطبع وضع حرس قوي لحماية القوافل وإجراء التسهيلات الضرورية لأصحابها والاتفاق مع سادات القبائل لضمان سلامتها مقابل مبالغ تدفع لهم عن المرور "الترانزيت".

1 Booth، Pp.، 650، Book، Xix، Vi، Kennedy، P.،31، Die Araber، I، S.، 32

2 Diodorus، 19، 94، 6، 19، 2، Die Araber، I، S.، 284

3 M. Rostovtzeff، The Social، Ii، P.،481

ص: 20

وقد أدت سياسة البطالمة الرامية إلى السيطرة على البحر الأحمر واحتكار التجارة البحرية إلى إلحاق أضرار فادحة بالنبط وبغيرهم من العرب الذين كانوا يتاجرون في البحر الأحمر، فاضطر النبط إلى التحرش بسفن البطالمة وبمهاجمة السفن التي تتجه نحو مصر وبأخذ ما فيها، فاضطر "بطلميوس الثاني""285-246 قبل الميلاد" إلى إنشاء قوة بحرية لحراسة السفن التجارية، وقد ألحقت هذه القوة خسائر فادحة بأسطول النبط1، منعت النبط أمدًا من التعرض لقوافل البطالمة، غير أن النبط كانوا ينتهزون الفرص، فلما انشغل "بطلميوس" بالحرب مع "سلوقي" سورية عادوا إلى مهاجمة سفن البطالمة والسفن الذاهبة أو الآيبة من مصر2.

وألحقت سياسة "بطلميوس فيلادلفيوس" ومشروعاته الرامية إلى السيطرة على البحر الأحمر وعلى تجارة البلاد الحارة، أضرارًا خطيرة بالتجارة العربية، أثرت تأثيرًا سيئًا جدًا في الوضع السياسي في جزيرة العرب. إذ أفقدت العرب السيطرة على البحر الأحمر وأوجدت لهم منافسين خطيرين نافسوهم في أسواق إفريقية والهند، ولم يكن من السهل التغلب عليهم، بفضل ما أدخلوا على سفنهم من تحسينات فنية وابتكارات، وما خصصوا بها من قوات لحمايتها من تعرض سفن العرب لها. وقد ابتنى "بطلميوس فيلادلفوس" مدينة "Berenice" على خليج العقبة "Atlantic Gulf" لحماية التجار والسفن من تعرض النبط. ولعل ميناء "امبلونه""Ampelone" الذي أسسه تجار الروم في جزيرة العرب على ساحل البحر الأحمر تجاه "العلا" على رأي بعضهم، هو من المواضع التي أنشئت لهذه الغاية في هذا الزمن3. وبإنشاء هذه المواضع سيطر اليونان على البحر والطريق التجاري القريب منه، كما تمكنوا من ضمان الحصول على حاجاتهم بشراء ما يريدون من حاصلات الجزيرة ومن بيع ما يريدون بيعه في هذه الموانئ أيضًا.

وكان من نتائج هذه السياسة التي اقتفى أثرها من جاء بعد "بطلميوس فيلادلفوس" من الملوك والقياصرة، مشاطرة تجار العرب أرباحهم العظيمة التي

1 Strabo. Iii، P.،204

2 Murry، The Rock City Petra، P.،80، Die Araber، I، S.، 285

3 M. Rostovitzeff، The Social.، Vol.، I، P.،387

ص: 21

كانوا يجنونها من الاتجار مع مصر والشأم. فلم يدخل في إمكانهم وضع الأسعار كما يريدون ويشتهون كما كان ذلك سابقًا. إذ وضع سادة بلاد الشأم ومصر الجدد أسعارًا ثابتةً للبضائع العربية والهندية التي تصل إلى بلادهم، كما فرضوا عليها ضرائب معينة بحسب قوائم جديدة. وبذلك تحكموا في الأسعار التجارية العالمية، وحرموا تجارة جزيرة العرب وسادتها من ملوك متاجرين وأسر غنية متنفذة ربحًا عظيمًا، وألحقوا بخزانتهم خسائر كبيرة. وكان من أثر هذه السياسة الصارمة هبوط الأسعار هبوطًا بينًا في الأسواق1.

وقد تمكن الباحثون في تأريخ النبط من ضبط أسماء جملة ملوك حكموا النبط. ولا نستطيع اليوم ذكر اسم أول من أسس مملكة النبط، ولا الزمن الذي أسست فيه تلك المملكة ولا الأسرة التي نسلت أولئلك الملوك. وكل ما نستطيع قوله هو أن استقلال النبط كان قبل الميلاد، وأننا نعرف أسماء بضعة ملوك حكموا قبل الميلاد، بصورة أكيدة لا مجال فيها لأي شك، كما نعرف أسماء ملوك كان حكمهم بعد الميلاد.

ويكثر اسم "الحارث""أرتاس""ارتياس" Aretas = Arethas بين أسماء الملوك، حتى لقد ذهب الظن ببعض الباحثين إلى أن هذا الاسم هو لقب، وأنه في معنى "فرعون" بالنسبة إلى ملوك مصر، و" قيصر" بالنسبة إلى ملوك الرومان والروم، و"النجاشي" بالنسبة إلى ملوك الحبشة، و"كسرى" بالنسبة إلى ملوك الفرس، و"تبع" بالنسبة إلى ملوك اليمن2. أما الاسم الذي يليه في المرتبة فهو "عبادة" و"مالك" و"رب ال" "رب ايل". وذهب بعض آخر إلى أن لفظة "Aretas" هي اسم الأسرة الحاكمة التي حكمت النبط، وأنها من أصل "آرامي" هو "حرتت""Charethath"3.

وفي الفصل الخامس من أسفار "المكابيين الثاني" أن "أرتاس" زعيم العرب طرد "ياسون""Jason" من أرضه "فجعل يفر من مدينة إلى مدينة والجميع ينبذونه ويبغضونه بغضة من ارتد عن الشريعة، ويمقتونه مقت من هو قتال لأهل

1 Rostovtzeff، The Social.، Vol.، I، P.، 387

2 The Bible Dictionary، Vol.، I، P.107

3 Hastings، P.48

ص: 22

وطنه حتى دحر إلى مصر"1. ويظهر من هذه الآية أن الحارث كان قد طرد "ياسون" من أرضه، وتغلب عليه، وصار يتعقبه حتى هرب إلى مصر. وكان "ياسون" قد اختلف مع أخيه "أونياس الثالث" "Onias III" في يهوذا على الكهانة العظمى. وقد حكم "أرتاس" أي "الحارث" المعروف بـ"حرثت" "حرتت" "حارثة" "Harithat" في الكتابة النبطية في حوالي سنة "169" قبل الميلاد. ونظرًا إلى أنه أول ملك وصل اسمه إلينا في الأخبار، أطلق الباحثون عليه لقب "الأول" تمييزًا له عن بقية من جاء بعده حاملًا هذا الاسم2.

ويلاحظ أن الآية المذكورة لم تلقب "الحارث" بلقب "ملك"، وإنما نعتته بـ "زعيم"، أو بما شابه ذلك من معان، هي دون درجة "ملك". أما الموارد التأريخية، فقد لقبته بلقب "ملك"3.

وقد وردت كلمة "النباطيين"، وهم النبط، في موضع من الفصل الخامس من سفر المكابيين الأول، وذكرت بعدها بجملة آيات كلمة "العرب". وكان هؤلاء العرب يشدون أزر "تيموتاوس" الذي حارب "يهوذا المكابي" "يهوذا مكابيوس" "Judas Maccabaeus" "161 ق. م."4 أما النبط فكانوا على وئام مع المكابيين:"يهوذا المكابي" وأخوه "يوناتان" وكانت صلاتهم بجيرانهم المكابيين حسنة. ويظهر من الآية التي ذكر فيها اسم "العرب" أن "تيموتاوس" وأنصاره كانوا قد استأجروا العرب للقتال معهم5. وأغلب الظن أن المراد بـ "العرب". في هذه الآية هم جماعة من الأعراب.

وطلب "يوناثان""المتوفى سنة 143ق. م." –الذي انتخب مكان أخيه يهوذا المكابي بعد مقتله- من النبط مساعدتهم، أن يعيروه عدة يستعين بها على أعدائه، وذلك حين طلب "بكيديس" قتله. وأرسل "يوحنا أخاه في جماعة

1 المكابيون الثاني، الفصل الخامس، الآية 8.

2 Ency. Bibli.، Vol.، 9، P.121، 296

3 Die Araber، I، S. 290

4 Ency.. Vol.، Iii، P.801، Ency Relig Vol.، 9، P.121، E. Schrader، Klt، S.، 152، Ency. Bibli.، P.2853

5 المكابيون الأول، الفصل الخامس، الآية24 وما بعدها.

ص: 23

بقيادته يسأل النباطيين أولياءه. أن يعيروهم عدتهم الوافرة"1. فلما كان يوحنا في "ميدبا" "مأدبا"، خرج عليه "بنو يمرى" وقبضوا عليه وعلى كل من كان معه وذهبوا بالجميع2. ويظهر من إرسال "يوناثان" أخاه النبط ومن جملة "يسأل النباطيين أولياءه" الواردة في "المكابيين" أن علاقة المكابيين بالنبط كانت حسنة جدًّا، وأن النبط كانوا إذ ذاك أقوياء أصحاب عدة وعتاد.

وأما "بنو يمري" Bene- Amri/Jambri الذين قتلوا "يوحنا" شقيق "يوناثان"، وهو المعروف بـ "يوحنا المكابي"3، فقبيلة عربية يظهر أن منازلها كانت في "ميدبا""مادبا" من أقدم مدن "مؤاب"4، وهي تبعد ثمانية أميال إلى الجنوب الشرقي من "حسبان""Heshbon" و"14" ميلًا شرقي بحر "لوط"5، وهي مدينة "Mydava" التي ذكرها "بطلميوس" وذكر أنها تقع في "العربية النبطية""Arabia Petraea" و"اندبه""Undaba" و" Unddaba" لدى "أويسبيوس" و"Medaba" لدى "جيروم"6. وصارت في العصور المسيحية مركزًا لأسقف المقاطعة المعروفة باسم "المقاطعة العربية" "Provincia Arabia". ولا نعرف في الزمن الحاضر شيئًا من أمر هذه القبيلة "Bene Amr"، التي لا يستبعد أن يكون اسمها الصحيح "بنو عمرو".

وذكر "يوسفوس" أن "يوناثان" وشقيقه "سمعان""Simon" سمعا أن "بني عمرى""Bene Amri""Amaraeus" سيقيمون عرسًا عظيمًا ويزفون العروس من مدينة "Gabatha" = "Gabbatha"، وهي من أشراف العرب، فقررا الانتقام من قتلة شقيقهما، فذهبا مع قوة كبيرة ووضعا كمينًا في "ميدابا""مادبا". فلما وصل الموكب، خرج الكمين، فسقط قتلى كثيرون، وهرب من تمكن من النجاة إلى الجبل7.

1 سفر المكابيين الأول، الفصل التاسع، الآية 35.

2 سفر المكابيين الأول، الفصل التاسع، الآية 36،

DUBNOW، II، S.، 79، JOSEPHUS، ANTIQU.، XIII، I، II

3 "يوحنا مكابيوس"، قاموس الكتاب المقدس "2/ 397".

4 "مادبا" DUBNOW، II، S.، 79

5 قاموس الكتاب المقدس "2/ 397"، Ency. Bibli.، P.3002

6 Ency. Bibli.، P.3003

7 Josephus، Antiq.، Xiii، I، Iv

ص: 24

وحكم بعد "الحارث الأول" الملك "زيد ال""زيد ايل"، وذلك في حوالي السنة "146" قبل الميلاد. ثم الملك "الحارث الثاني""حرتت" حرثت"، الذي حكم حوالي سنة "110" قبل الميلاد، ودام حكمه حتى حوالي عام "96" قبل الميلاد1.

ويرى "شرادر" أنه حكم حوالي سنة "139" قبل الميلاد، ودام حكمه حتى سنة "97" قبل الميلاد2. ويرى بعض آخر أنه حكم حوالي سنة "120ق. م." 3. ويظهر أنه كان يعرف بـ "ايروتيموس" "Erotimus" = "Herotimus"4 ويظن "شرادر" أنه هو الذي قصده "يوسفوس" حين ذكره في حوادث سنة "97" قبل الميلاد5.

وتوقف بعض آخر في تثبيت اسم من حكم بعد الحارث الأول، فوضع فراغًا قدره بنحو نصف قرن، ذكر أنه لا يدري من حكم فيه، ثم وضع بعده اسم "الحارث" الثاني المعروف بـ "Erotimus II"، وقد قدر حكمه فيما بين السنة "120" والسنة "96" قبل الميلاد6.

ولم تصل إلينا أخبار واضحة أكيدة عن هذا "الحارث". ويذكر المؤرخ اليهودي "يوسفوس" أن أهل "غزة" طلبوا منه العون والمساعدة ليتمكنوا من الثبات أمام محاصرة "اسكندر جنيوس""Alexander Jannaeus" لمدينتهم، غير أنه خيب آمالهم، فلم يساعدهم. وقد نعته هذا المؤرخ بـ "ملك"، مما يدل على أن هذا اللقب صار لقبًا رسميًّا لحكام النبط في هذا العهد7.

وذكر أن "ايروتيمس""Erotimus" = "Herotimus""الحارث الثاني"، كان قد اهتبل فرصة ضعف الأوضاع في مصر وبلاد الشأم، فهاجم بأولاده وبجنوده تلك الأرضين، وغنم منها غنائم كثيرة، فكون بذلك لنفسه وللعرب

1 Ency.، Iii، P.801، Ency. Relig.، Vol.، 9، P.121

2 Schrader، Klt، S. 153

3 Die Araber، I، S.، 290

4 Ency.، Iii. P.،801، Ency. Relig.، Vol.، 9، P.121

5 Schrader، Klt، S.، 153

6 Deities، P.540

7 Josephos، Ant.، 13، 360، Die Araber، I، S.، 290

ص: 25

صيتًا بعيدًا1.

وتبين للنبط على ما يظهر أنهم إذا استمروا في تأييدهم ومساعداتهم للحسمونيين "Hasmoneans" المناضلين للخلاص من حكم السلوقيين السوريين، ألحقوا أضرارًا بمصالحهم الخاصة وبحكومتهم نفسها، فلم تكن سياسة المكابيين مقتصرة على طلب الاستقلال التام والخلاص من الحكم الأجنبي، بل كانت تنطوي على الاستيلاء على الأردن والتوغل في مناطق النبط نفسها، وإنشاء حكومة قوية قد تزاحم حكومتهم في يوم من الأيام، فرأوا أن من الخير لهم أن يدعوا هذا التأييد، وأن يقاوموا إن احتاج الأمر إلى المقاومة. وقد حدث ذلك بالفعل في عهد الملك المكابي "اسكندر جنيوس""اسكندر ينيوس""Alexander Jannaeus""103-76 قبل الميلاد" حيث وقعت حرب بينه وبين النبط بسبب الأردن2.

فلما تمكن الملك الماكبي مستعينًا بجنود مرتزقة من اليونان ومن أهل آسية الصغرى ومن "المؤابيين" ومن "الجلعاديين" أهل "جلعاد"، وهم من العرب كما يقول المؤرخ اليهودي "يوسفوس"3، وأجبرهم على دفع الجزيرة اصطدم بمعارضة الملك "عبادة""Obedas" الذي أعلن حربًا عليه، كان "اسكندر" يهلك فيها لولا الأقدار التي احتضنته ففر مسرعًا هاربًا بنفسه إلى القدس، وبذلك كتب لنفسه السلامة والنجاة4.

إن "عبادة""Obedas" = "Obedas" = "Obedath" هذا الذي ذكره "يوسفوس"، هو "عبادة" المعروف عند المؤرخين بـ "عبادة الأول" تمييزًا له عن ملوك آخرين عرفوا بـ Obedas، وقد حكم حوالي سنة تسعين قبل الميلاد5. وجعل "شرادر" حكمه في عام "93" قبل الميلاد. وقد ورد اسمه مضروبًا على النقود6.

1 Die Araber، I، S. 290

2 The Universal Jewish Encyclopedia، Vol.، 8، P.79

3 Josephus، Antiq.، Xiii، Xiii، 5، The Jewish War، Book، 1، Iv، 3-4

4 Dubnow، Ii، S.، 160، The Cambridge Ancient History، Vol.، Ix، Pp.399

5 Ency. Relig.، Vol.، 9، P.121، Ency.، Iii، P.801، The Cambridge Ancient History، Vol.، Ix، P.409

6 Die Araber، I، S.، 291، Schrader، Klt.، S. 153

ص: 26

لم ينعم "اسكندر جنيوس""اسكندر يانيوس" بعد عودته إلى القدس بأيام طيبة هادئة، فلقد جوبه بمعارضة قوية وبجماعة شديدة أخذت تعارض سياسته وتقاومه، ودبت الفتنة في كل مكان من مملكته وبلغ من حقد الجماعة عليه أنها استدعت "ديمتريوس أويكروس""Demetrius Eukarus III" المعروف بالثالث من بقايا حكام مملكة السلوقيين السوريين المتداعية ونصبته ملكًا عليها وحاكمًا1.

وهكذا نجد الشعب اليهودي الذي استعاد استقلاله يعود إلى طبيعته الأولى، فينقسم على نفسه، ويشعل نار حرب أهلية في مملكته، ويفضل حكم الغرباء على حكم أبنائه. ولما وجد الملك المكابي مركزه حرجًا وخصمه قويًّا وأنه قد يتغلب عليه، وأن له في الجنوب خصمًا آخر طموحًا أقوى من خصمه "ديمتريوس" وأعنف، رأى التودد إلى العرب والتحبب إليهم، فنزل لهم عن "موآب" و" جلعاد" وعن أماكن أخرى كان يخشى من احتمال انضمامها إلى خصومه، وقدمها إلى ملك النبط وتساهل في أمور أخرى ليأمن على ما تبقى من مملكته على الأقل2.

وأما "ديمتريوس" الذي ترك "يهوذا""Jubaea" وارتحل عنها، فقد ذهب إلى "حلب""Boroea"، وانتصر على أخيه "فيليب""Philip"3. غير أن "ستراتو" "Strato" حليف "فيليب" وأحد حكامه، أسرع فاستنجد في "Zizus" بسادات القبائل العربية وبالفرث "Parthians"، فأنجدوه وساروا بقوات كبيرة على "ديمتريوس" فانتصروا عليه4.

وحكم بعد "عبادة الأول" ملك اسمه "رب ال""Rabb'il" = "Rabilus". يظهر أن حكمه كان حوالي السنة "87" أو "86" قبل الميلاد. ويعرف عند المؤرخين بـ "رب ايل الأول" تمييزًا له عن عدد من الملوك حكموا بعده عرفوا باسم "رب ايل"5. وقد عثر على كتابة وسمت بـ "CIS II، 349"6، مؤرخة في شهر "كسلو" وشهر "شمادا" "Schemada" في قراءة7 و" شمارة"

1 Dubnow، Ii، 160

2 Josephus، Antiq.، Xiii، Xiv، 3، Note 2

3 Josephus، Antiq.، Xiii، Xiv، 3، Note 2

4 المصدر نفسه.

5 Ency.، Iii، P.801، Ency. Reli.، Vol.، 9، P.121، Schrader، Klt، S.، 153.

6 Cis، Pars، Secunda، Tomus، I، Fasculus Tertius، P.306.

وسيكون رمزه: CIS.

7 Provincia Arabia، R، S.، 312

ص: 27

"شمرة""Schamara" في قراءة أخرى1 من سنة "18" على قراءة2 أو سنة "16" على قراءة أخرى من سني ملك اسمه "حرتت ملك"، أي "حارث الملك"، أو "الملك الحارث" بتعبير أصح. وقد دونت هذه الكتابة على قاعدة تمثال عثر عليه سنة "1898م" عند "بطرا" "Petra"3 دونت عليها: "هذا تمثال رب ايل ملك النبط بن

ت ملك النبط عملها.... ب رحيم "حيم""ننى""مجنى" الأقدم"4. فيظهر من هذه الكتابة أن تمثالًا أقيم للملك "رب ايل" عمل في السنة الثامنة عشرة أو الساسة عشرة من سني ملك اسمه "حرتت"، أي "الحارث"، وأن الذي عمل التمثال شخص لعب القدر ببعض حروف اسمه الأول، فلم يبق منه إلا الحرف الأخير، وهو "ب"، كما لعب في طمس معالم بعض الحروف الأخرى من الاسم، حمل الباحثين على الاختلاف في قراءتها.

أما اسم الملك وهو "رب ال ملك نبطو"، فهو ظاهر واضح. وأما اسم أبيه الذي هو "ملك نبطو" أي ملك النبط، فقد سقطت حروفه ولم يبق منه إلا الحرف الأخير وهو "ت"، لذلك اختلف فيه الباحثون، فمنهم من قرأه "عبدت"، أي "عبادة"، فجعل لذلك "رب ايل" ابنًا له، أي لـ"عبادة الأول"، ومنهم من قرأه "حرتت"، أي "الحارث"، فجعل أباه ملكًا اسمه "الحارث"5.

ولا نعرف شيئًا يذكر من أعمال "رب ايل". ولعل ما ذكره "اصطيفان البيزنطي""Stephanos Of Byzanz" نقلًا عن "أورانيوس" من أن ملك العرب المسمى "ربليوس""Rabilus" = "Rabilos" قتل "انتيغونس""Antigonos" المقدوني في موضع يقال له "Matho"، وهو قرية عربية، أريد به الملك "رب ايل" الذي نتحدث عنه. وقد ذهب بعض الباحثين إلى أن المراد

1 Cis، Ii، I، Iii، P.306

2 Provincia Arabia، I، S.، 312

3 Provincia Arabia، I، S.، 312، Nr. 405، J. Cantineau، 2، I

4 Cis، Ii، I، Iii. P.306، Provincia Arabia، I، S.، 312، Clermont-Ganneau، Recueil D’archeol. Orientale، Ii، Pp.221، Syria، Tome، Iv، 1923، P.152

5 Die Araber، I، S.، 295، Deities، P.540

ص: 28

من لفظة "موثو""موتو" الموت، وأن المقصود موضع الموت أو قرية الموت، لما وقع فيها من موت، فعرفت به1.

ولا نعلم من أمر "رب ايل" شيئًا يذكر، والظاهر أن حكمه كان قصيرًا جعله بعضهم نحو سنة، أي سنة "87 "قبل الميلاد، ثم وضع بعده حكم "الحارث" المعروف بالثالث2. وهو من أشهر الملوك المتقدمين من النبط، وأخباره أوضح من أخبار من تقدمه ممن ذكرت. وقد ذهب بعضهم إلى احتمال كونه هو "اروتيموس""Erotimus" المذكور في التواريخ اليونانية3. وذهب بعض الباحثين إلى أن حكم الحارث كان من سنة "85" حتى سنة "60 "قبل الميلاد، أو من سنة "87" حتى سنة "62" قبل الميلاد4. وإذ صح أنه أدرك سنة "62" أو "60" قبل الميلاد، يكون الرومان قد استعادوا مدينة دمشق في أيام هذا الملك، إذ يرى كثير من المؤرخين أن "اللجيونات" الرومانية العاملة بإمرة القائدين "لوليوس""Lollius" و"ميتيلوس""Metellus" قد احتلت المدينة عام "65" قبل الميلاد، ثم دخلها "بومبيوس" في سنة "64" قبل الميلاد5. وذهب بعض الباحثين إلى أنه اضطر إلى إخلاء "دمشق" سنة "70" قبل الميلاد، إذ لم تستطع جيوشه الوقوف أمام جيش الملك الأرمني "تيكرانس" "Tigranes" التي زحفت على بلاد الشأم6.

وقد عرف الحارث الثالث بـ "فيلهيلن""Philhellen"، وهو لقب يوناني "Aretas Philhellene"، معناه محب اليونان. وقد اشتهر بتوسيعه رقعة ملك النبط. فما هاجمه "أنطيوخس الثاني عشر""أنطيخس""Antiochus XII" وأخذ يتوغل في أرض النبط، أسرع "الحارث" فجمع قواته ووقف بحزم أما القوات المهاجمة، ثم اصطدم به عند موضع "Kana""Cana"، حيث قضى على معظم جيش "أنطيوخس" وألحقه مع من قتل بالعالم الآخر. وقد

1 DIE ARABER، I، S.، 294.

2 DIE ARABER، I، S.، 291

3 DIE ARABER، I، S.، 292

4 SCHRADER، KLT، S.، DEITIES، P.540

5 ENCY. BIBLI.، P.991، DEITIES، P.540

6 DEITIES، P.541

ص: 29

وقعت هذه المعركة في سنة "86" أو "84-83" قبل الميلاد1.

ويرى بعض الباحثين استنادًا إلى النقود التي ضربت باسم "أنطيوخس"، بسنة "87-86" قبل الميلاد، والتي استمر ضربها ثلاث أو أربع سنين، ثم انقطعت

أن نهاية هذا الملك كانت بسنة "85-84" أو "84-83"، وهي السنة التي قتل فيها، وانتهت بانتصار "الحارث" عليه2.

وقد مكن سقوط "أنطيوخس" في تلك المعركة النبط من تقوية أنفسهم ومن شد عزمهم، فلما مات الملك "رب ايل" الأول سنة "87" قبل الميلاد على بعض الآراء، وتولى "الحارث" الثالث "حارثة""Aretas" الحكم من بعده انتهز تلك الفرصة فاستولى سنة "85ق. م." على دمشق، وتوسعت بذلك رقعة مملكته وأحاطت بملكة المكابيين من الشرق والجنوب3.

وقد افتتح عهد "الحارث الثالث" باستيلائه على "دمشق" وعلى "سهل البقاع""Coike-Syria" = "Koike-Syria"، فقد استدعاه أهلها لإنقاذهم من مهاجمة "اليطوريين""Ituraer" لهم، بقيادة ملكهم "بطلميوس بن منيوس""Ptolemaios Mennaios"، أي "بطلميوس بن معن". وهو من أصل عربي أيضًا، فاسرع إليها، وكانت يومئذ قصبة "السلوقيين"، فاستولى عليها، ودخلت في جملة أملاكه4، ولقبه أهلها "محب اليونان وحاميهم""Philhellen"؛ لأنه أنقذهم من "غزو الأعراب" لهم5.

الآن وقد أصبح "الحارث" ملكًا على مملكة واسعة الأطراف، وتشرف على مملكة "يهوذا" المتداعية، وبإمرته جيش قوي، كان لا بد له من التداخل في

1 “Cana” “Kana” على ساحل البحر المتوسط عند "يافا"،

The cambridge ancient history، vol.، 9، p.400، josephus، antiq.، xiii، xv، i. Vol.، 2، p.428، the jewish war، book، i، iv، 7-8، die araber، i، s.، 294، dubnow، ii، s.، 163، Hastings، p.147، deities، p.540.

2 Die araber، i، s.، 294

3 Bernhard stade، geschichte des volkes israel، ii، s.، 504، berlin، 1888، deities، p.540

4 Die araber، i، s.، 294، b. Stade، ii، s.، 405

5 Die araber، i، s.، 298، r. Dussaud، penetration، 55، a. Kammerer، petra et la Nabatene، 1929، i، 515، a. R. Bellinger، 78

ص: 30

شؤون هذه الجماعات المتخاصمة المتنافرة التي تكون مملكة، ولكنها لا تخضع لملك ولا لسلطان. وإذا لم يتدخل هو بنفسه فإن الأحزاب اليهودية نفسها لا تتركه على الحياد. وهذا ما حدث. فغزا "الحارث" أرض يهوذا، وفي معركة واحدة وقعت عند موضع "اديدا""Addida" = "Adida" انهار الجيش اليهودي، وتشتت شمله، فلم يبق أمام "اسكندر ينيس""Alexander Jannaeus" = "Alexander Jannaios" غير طلب الصلح، فعقد الصلح، وعاد النبط إلى ديارهم إلى حين1. ولم يشر المؤرخ "يوسفوس" إلى محتويات معاهدة الصلح2.

أما "Adida "= "Addida" المكان الذي وقعت فيه المعركة، فهو "الحديثة" على مقربة من "اللد""Ludda"، المسماة أيضًا باسم "Diospolis"3، وقد عرفت "Adida" باسم "حاديد""Hadid" و"حديد"Hadid" و"Aditha"4.

لقد تمكن "الحارث" من بناء جيش يعتمد عليه في المعارك، فبعد أن كان جيش النبط في بادئ أمره جماعات غزو غير منظمة ولا منسقة تهاجم عدوها وتباغته على طريقة الأعراب ثم تتراجع، يسيرها العرف القبلي، تحسن جيش النبط بعض التحسن، وأدخلت على القوات الراكبة بعض الإصلاحات، غير أنها بقيت مع ذلك متأثرة بروح البداوة، التي لا تقبل الخصوع للأنظمة والأوامر، والتي لا تهتم إلا بالغنائم، فإذا حصلت عليها رجعت إلى مواطنها دون تفكير في العاقبة. فلما استولى "الحارث" علىدمشق، وفيها عدد كبير من اليونان، انضم بعضهم إليه، فعملوا على تحسين جيشه وتدريبه، وعلى تكوين جيش مدرب نظامي، استعان به في تقوية مركزه حتى صار به من أقوى ملوك النبط الذين حكموا حتى أيامه، مما حمله على التدخل في شؤون مملكة يهوذا، ثم على مجابهة الرومان، وهم أصحاب جيوش منظمة مدربة، بجيش لم يتعود دخول الحروب النظامية، فتغلب الرومان من ثم عليه.

1 Josephus، XIII، XV، 2، Vol.، II، P.428، Dubnow، II، S.، 163، The Cambrodge Ancient History، Vol.، IX، P.400

2 DIE ARABER، I، S.، 298.

3 Hastings، P.12، 324، ncy Bibli.، P.1932

4 المكابيون الأول، الفصل الثاني عشر، الآية 38، الفصل الثالث عشر، الآية 13،

Ency. Bibli.، P.65، 1932. Jerome، Onom.، 93، Die Araber. I، S.، 298

ص: 31

فلما دب الخلاف بين الأخوين "أرسطوبولس""Aristobolus" و"هركانوس""Hyrcanus"، ابني "اسكندرة""Alexandra" على الملك، وانقسمت "يهوذا" إلى أحزاب وجماعات أبرزها جماعة "الفريسيين""Pharise'es" يؤيدون "هركانوس" وجماعة "الصدوقيين""Sadduce'es" أنصار "أرسطوبولس"، وجمع "أرسطوبولس" حوله أنصاره وجيشًا من العرب ومن جنود مرتزقة، وتفوق على أخيه، طلب "هركانوس" مساعدة النبط، وبعث صديقه "انتيبطر""انتيباطر""Antipater" إلى "بطرا" ليتوسط لدى "الحارث"، وكان صديقًا له، في أمر مساعدة "هركانوس" وفي أمر الالتجاء إليه. فلما نجحت الوساطة، هرب من القدس ليلًا متجهًا إلى النبط، وطلب من الملك بإلحاح أن يعيده إلى "يهوذا"، وأن يأخذ له التاج من أخيه، ويثبته في ملكه، ويتعهد في مقابل هذه المساعدة بإعادة المدن الاثنتي عشرة التي أخذها أبوه "اسكندر" من العرب، وهي:"مادبا""مأدبا""Medaba" و"نبالو""Naballo" و"ليبياس""Libias" و"ثربسة""Tharabasa" و"اكله""Agalla" و"اتونه""Athone" و"زوره""Zoara" و"اورونه""Oronae" و"ريده""Rydda" و"لوسه" Lusa" و"اوريبه" "Oryba" و"مريسه" "Marissa" إلى النبط. فوافق "الحارث" على هذه الشروط، وهجم على "يهوذا" "66-65ق. م." بجيش قوامه خمسون ألف جندي راجل وفارس شتت شمل أصحاب "ارسطوبولس" وتركه وحده، فهرب إلى القدس، فتعقبه الحارث على رأس جيش عربي يهودي كبير، وأحكم عليه الحصار، وكادت العاصمة تسقط في يديه لولا حدوث تطور سياسي عسكري خطير قلب الوضع، ذلك هو هجوم الرومان فجأة في أيام "بومبيوس" على دمشق وسورية وهجوم قائدهم "سكورس" "Scaurus" على "يهوذا" وتدخله في هذا النزاع1.

لقد كان تقدم الرومان هذا في بلاد الشأم تهديدًا صريحًا لليهود وللنبط. أدى بعد قرون إلى الاستيلاء التام على كل فلسطين والأردن وإلحاقهما بالمستعمرات الرومانية. وقد كانت فاتحة ذلك تدخل الرومان في شؤون يهوذا. وتوجيه إنذار

1 Joseohus، XIV، I، 4، II، 1-3، Dubnow. II، S.، 172، Josephus، The Jewish WAR، 302.

تاريخ يوسفوس اليهودي، المطبعة العلمية، بيروت "ص 115".

ص: 32

إلى "الحارث" بوجوب فك الحصار عن "القدس" والتراجع عن يهوذا مع جميع جيشه فورًا إن أراد أن تكون علاقاته بـ "رومة" حسنة، وإلا عد عدوًّا لها ومشاكسًا. وقد أدرك "الحارث" أن جيشه لا يستطيع الوقوف أمام جيوش الرومان المدربة المنظمة المسلحة تسليحًا جيدًا حديثًا بالنسبة إلى أسلحة النبط. ففك الحصار، وتراجع ومعه "هركانوس"، فاغتنم "أرسطوبولس" الفرصة، وكان قد اكتسب ثقة "سكوروس" قائد الرومان، وتعقب المتراجعين في طريقهم إلى "ربت – عمان""فيلادلفيا""عمان"، فالتحم بهم في معركة عند موضع اسمه "بابيرون""Papyron"، فانتصر على "الحارث" وقتل ستة آلاف من أتباعه1.

وتعقدت الأمور ثانية بين الرومان والنبط، وهدد "سكوروس" النبط بالزحف عليهم وتخريب بلادهم، وقرر الحارث في بادئ الأمر تحديه، ثم وجد أن من المستحيل عليه الثبات له، وتوسط "انتيباتر" فيما بينه وبين "سكوروس" بأن يدفع الحارث جعالة للرومان، وتصالح بذلك معهم، وقد سر "بومبيوس" من هذه النتيجة حتى أنه أمر بوضع صورة "الحارث" في موكب نصره، كما سر "سكوروس" بذلك إذ أمر بضرب نقد، صور الحارث عليه وقد أحنى رأسه راكعًا وحاملًا سعفة تعبيرًا عن استسلامه له2.

لقد وقع كل ذلك في حوالي السنة "62" قبل الميلاد، السنة التي هلك فيها هذا الملك، وذهبت بوفاته معه كل آماله وأحلامه في أن يكون وريث مملكة السلوقيين في بلاد الشأم. ولعل النكسة التي وقعت له قد أثرت فيه فجعلت منيته.

وقد ورد اسم "الحارث" في كتابة عثر عليها في القسم المعروف بـ "المدراس""المدرس""Elmadras" من "بطرا"3. و"المدراس" معبد خصص بعبادة الإله "ذو الشرى" "Duschara" إله النبط الكبير. وقد دونها أحد قواد الملك في السنة السادسة عشرة أو السابعة عشرة من حكم "حرتت""Haritat"

1 Josephus، XIV، II، 1-3، Vol.، 3، PP.4، Dubnow، II، S.، 176، The Cambridge Ancient History، Vol.، IX، P.382، Die Araber، I، S.، 302.

2 Die Araber، I، S.، 303، J. De Morgan، Manuel De Numisme Orient.، 2، 1924، 237.

3 Provincia Arabia، I، S.، 209.

ص: 33

في مناسبة تقربه إلى الإله "ذو الشرى" بصنم لخيره ولخير ملكه1.

وحكم بعد "الحارث الثالث" ابنه الملك "عبادة الثاني"، حكم من سنة "62" حتى سنة "47" قبل الميلاد، أو من سنة "62" حتى سنة "60" على رأي آخر2. ولا نكاد نعرف من أمره شيئًا يذكر. وقد عثر على نقد، من الفضة ضرب بأمره وهو من فئة الـ "دراخما""Dirakhma"، ضرب في السنة الثانية أو الثالثة من سني حكمه. وقد صور عليه وجه الملك حليقًا، وشعر رأسه قصيرًا3.

ويظهر من رواية أوردها المؤرخ "يوسفوس" أن القائد "A. Gabinius"، انتصر على النبط في إحدى المعارك، وأن النبط قد هزموا هزيمة منكرة. ولم يذكر اسم الملك الذي انتصر عليه هذا القائد. وإذا أخذنا برواية من يجعل هذا الانتصار في السنة "55" قبل الميلاد4. فمعنى هذا أن الملك المغلوب هو "عبادة الثاني" على رأي من يرى أنه حكم من سنة "62" حتى سنة "47" قبل الميلاد، أو في أيام "مالك الأول" على رأي من يجعل ابتداء حكم هذا الملك من سنة "60" قبل الميلاد.

وحكم الملك "مالك""Malichus" = "Malchus" المعروف بـ "الأول" بعد "عبادة الثاني"، وهو ابنه، من سنة "47" حتى سنة "30" على رأي. ومن سنة "50" أو حوالي السنة "47 حتى سنة "30" قبل الميلاد على رأي آخر5 وذهب بعض المؤرخين إلى أن "مالكًا" كان قد حكم بعد "الحارث الثالث"، وأن حكمه كان فيما بين السنة "62" والسنة "30" قبل الميلاد6.

وقد أنجد النبط في أيام ملكهم "ملكوس""مالكوس""Malichus"،

1 Provincia Arabia، I، S.، 210، Cis، Ii، 442، Euting 16، Lagrange 56، Lagrange، Revue Biblique، Vii، 1898، P.165، Clermont-Ganneau، Recueil D’archeol. Orient.، Ii، P.379.

2 اختلف في تاريخ حكمه ولبعض الباحثين رأي آخر، راجع:

Ency.، Iii، P.801، Dillmann، Neue Petra-Forschungen، 1912، S.، 99.

3 Hill، P.Xii، 3، Pl.، Xlix، 2، 3.

4 Josephus، Antiqu.، 14، 103، Jud.، I، 178، Die Araber، I، S.، 306.

5 Hill. P. Xiii، Ency. Relig. Vol.، 9، P.121، Ency.، Vol.، Iii، P. Schrader، Klt.، S.، 153.

6 Deities، P.541.

ص: 34

أي "مالك الأول"، "يوليوس قيصر""Julius Caesar" سنة "47" أو "48" قبل الميلاد في حصاره لمدينة الأسكندرية، فأمده بقوة من جيشه1. كما ساعده أيضًا عدد من سادات القبائل توسط في إرسالهم إليه "أنتيباطر" "Anripater"، لعلهم من سادات قبائل طور سيناء2.

وكان "انتيباتر" قد تزوج امرأة عربية من أسرة كبيرة معروفة، نجلت له أربعة أولاد وبنتًا، وتمكن بهذا الزواج من تكوين صداقة متينة مع ملك العرب "النبط" كما يقول ذلك "يوسفوس"، ولما وقعت الحرب بينه وبين "أرسطوبولس" "Aristobolus، أرسل أولاده إلى جدهم ملك العرب ليكونوا في مأمن هناك3.

وكان لـ"بطرا" أثر مهم في الخصومات الشخصية التي وقعت في مملكة "يهوذا" أيام الملك "هركانوس بن إسكندر"، هذه الخصومات التي أدت إلى تدخل "الفرث""Parthians" من جهة، وإلى تدخل الرومان من جهة أخرى في شؤون مملكة يهوذا، ولكل دولة مصلحة في هذا الجزء المهم من الشرق الأدنى ومطمع. وللدولتين أنصار وأعوان، وطامعون في الملك يريدون المساعدة والمعونة للحصول على العرش. والطامعون في العرش والراغبون في الفتن والخصومات في "يهوذا" كثيرون. فلما بلغت جيوش الفرث حدود "القدس"، بتحريض من "انطيغونس" ابن أخ "هركانوس"4، أسرع "هيرودوس""Herodus" ابن القتيل "انتيباتر" الذي كان الحاكم الحقيقي في "يهوذا"، وصاحب النفوذ في المملكة، وصاحب الحظوة عند الرومان، فهرب إلى النبط، إلى ملكهم "مالك""Malchus" في عاصمة "بطرا"، يلتمس منه العون والمساعدة والمال على سبيل الهبة أو الدين لما كان لوالده القتيل من صداقة به، ليرشو به من ينقذ حياة أخيه. فلما كان في طريقه إلى بطرا وصلت رسل الملك تخبره أن الملك لن يتمكن من مقابلته، وذلك بناءً على طب ورجاء تقدم به الفرث إليه، واتصل عندئذ بسادات قبائل عربية كانت لهم صلات وصداقة بوالده، فلما رأى ذلك آثر

1 Deities، P.541، Die Araber، I، S.، 306.

2 Josephus، Antiq.، Xiv، Viii، I، Vol.، 3، P.22.

3 Josephus، The Jewish War، Book، I، Viii، 8.

4 تأريخ يوسفوس "ص 146" “Antigonus”

Josephus، Antiqu.، Xiv، Xiii، 3، Dubnow، Ii، S.، 250.

ص: 35

الذهاب إلى مصر ومنها إلى إيطالية حيث كان له فيها أصدقاء ليساعدوه في الانتقام من قتلة أبيه1. وإلى هذا الملك، أي ملك النبط "مالك" هرب "يوسف" "Joseph" شقيق "هيرودس" مع مئتي رجل من رجاله، على أثر هجوم "انطيغونس"، وحينما بلغه تغير رأيه بالنسبة إلى "هيرودس" أخيه2.

وعاد "هيرودس" من "رومة" ملكًا، لقد تفضل "أغسطس" و"أنطونيوس" ومشايخ الرومان عليه فنصبوه ملكًا على اليهود، على مملكة يعين ملوكها الرومان أو الفرث. عاد بفضل الرومان، فصار بالطبع آلة في أيدي سادة "رومة"، ولما نشبت الحرب بين "انطونيوس" و"أوكتافيوس" سنة "32" قبل الميلاد، انضم إلى حزب "أنطونيوس" صاحب الفضل عليه. أما واجبه الذي كلفه، فقد كان محاربة النبط، الذين رفضوا دفع الجزية للرومان، وأبوا الخضوع لهم، والذين أيدوا الفرث. ولما تمكن القائد "فنتديوس باسوس""Ventidus Bassus" من ضرب الفرث ومن إنزال هزيمة بهم، أصاب الضرر الملك "مالك" حليف "الفرث" فانتزعت منه بعض أملاكه. لذلك فرح "هيرودس" بهذا التكليف، وشجعته على ذلك "كليوبطرة" ملكة مصر وصاحبة "أنطونيوس"، التي طلبت منه الإسراع في محاربة "ملك العرب" الذي أبى دفع الجزية لها، وكانت تكره "هيرودس" وتريد هلاكه إن أمكن، فأرادت بعملها هذا أن تقضي عليه، أو أن تضعف من مركزه ومن مركز ملك العرب، بمحاربتهما بعضهما بعضًا فتتمكن من الملكين فيخضعان لها وتكون سيدة "العربية"، وبادر "هيرودس" بمحاربة النبط، فالتقى بهم عند "اللد""Diospolis" وانتصر عليهم، ثم التحم بهم في "قنا""Cana""قنوات""Canatha" في البقاع "Coele Syria" وكاد يتغلب عليهم لولا هجوم "أثنياوس""Atheniaus" فتغيرت الحال، وهاجمه النبط أيضًا فسقط عدد كبير من جيشه في ساحات القتال وأسروا من فر منهم إلى "Ormiza" فاضطر عندئذ إلى الرجوع إلى "القدس"3.

1 Josephus، Antiq.، Xiv، Xiv، 1-3، The Jewish War، I، Xiii، 8، Book،، I، Xiv، 1-2،

2 Josephus، The Jewish War، Book، I، Xv، I.

3 تأريخ يوسفوس ص 167 وما بعدها".

Josephus، Antiq.، Xv، 110، 119، The Jewish War، I، Xviii، 4، 1-4، Die Araber، I، S.، 306، 307.

ص: 36

وفي القدس أخذ "هيرودس" يحرض قومه على الانتقام من العرب، والأخذ بالثأر، ولا سيما بعد هجوم العرب على مملكته ومباغتة مدنه، فنشبت سلسلة من الحروب كلفت اليهود والعرب خسائر كبيرة، إذ طالت الحروب، ولم تنته إلا بعد مشقة. ويدعي المؤرخ "يوسفوس" أن النصر، كان في الخاتمة في جانب اليهود. فقد جمع "هيرودس" كل قواته وأعاد تنظيمها، ثم عبر الأردن، ولما بلغ "عمان""Philadelphia" التحم بالنبط، فأنزل بهم خسائر كبيرة. إذ سقط منهم خمسة آلاف قتيل، واستسلم منهم أربعة آلاف رجل كانوا قد تحصنوا في معسكر حصين، ولكن أجبرهم العطش في الأخير على الاستسلام. كما قتل سبعة آلاف آخرون كانوا حاولوا الفرار من الحصار، فتعقبهم اليهود وقتلوهم1. واضطر النبط عندئذ إلى دفع الجزية إلى "هيرودس"، وعقدوا صلحًا معه، ولم تخالفه العرب بعد ذلك2.

يقول "يوسفوس": إن العرب كانوا يكرهون "هيرودس" وحاولوا الثورة عليه والانتقام منه حتى بعد عقد هذا الصلح، وقد كان في جملة من دفع الجزية إليه العرب الساكنون في "حوران""Aurantitis"، بحكم تبرع القيصر "أغسطس" بأرضهم له، إلا أنهم كانوا يدفعون الجزية إليه أحيانًا، وكانوا يمتنعون من دفعها أحيانًا، أخرى، ويحاولون التخلص منه. ولم تكن قوة "هيرودس" في الحقيقة هي التي جعلت هؤلاء الأعراب يقبلون بمصالحة اليهود أو دفع الجزية لهم، إنما كانت قوة الرومان التي تسخرها أيد إدارية قوية تحسن التوجيه للبطش في القبائل المتعادية وفي سادات القبائل المتنافسين على الزعامة المتباغضين، وفي العساكر المسخرين الذين أكرهو على القتال، ولم يكن لديهم علم بأسلوب القتال ولا بكيفية استخدام الأسلحة، ولا عزم على الوقوف في وجه الخصم، وليس لهم ضباط وقادة مجربون محنكون، لهم هدف وطني وخبرة بأساليب القتال، ولم يكونوا يرون في الفرار ما لا يتفق مع واجبهم العسكري.

ولا ندري متى كانت نهاية الملك "مالك" بعد هذه الخسائر التي حلت بالنبط. والظاهر أنه لم يعمر بعدها طويلًا، أو أنه مات في أثنائها، فإن المؤرخ "يوسفوس"

1 Josephus، Antiq.، 15، 153، 157-158، Jewish War، I، 383، Die Araber، I، S.، 306.

2 تأريخ يوسفوس "ص 168 وما بعدها".

Josephus، Antiq.، Xv، V، 1-5، The Jewish War، Book، I، Xix، 1-6.

ص: 37

الذي هو مرجعنا في أخبار هذه الحروب لم يشر إليه ولم يذكره في الغارة الانتقامية التي أغارها النبط على أسطول "كليوبطرة" عند موضع "Actium" التي أدت إلى إحراق السفن المتجمعة هناك1.

وقد خلف "عبادة""Obodas" المعروف بالثاني عند بعض المؤرخين وبالثالث عند بعض آخر الملك "مالك الأول". خلفه على الحكم سنة "30" قبل الميلاد، ودام حكمه حتى سنة "9" قبل الميلاد. ويظن أنه مات مسمومًا سنة "9ق. م." سمه وزيره ومستشاره "صالح""Syllaeus" الذي قطع رأسه في "رومة" سنة "5" قبل الميلاد2. وفي أيام هذا الملك كانت حملة الرومان التي أرسلها "أغسطس" بقيادة "أوليوس غالوس" لفتح بلاد اليمن. وهي حملة أسهم فيها النبط بتقديم قوات لمساعدة الرومان، كما أسهم فيها "هيرودس" ملك "يهوذا" بخمسمئة رجل يهودي، ضمهم الرومان وسار بهم إلى اليمن، كما تحدثت عنها في كلامي على السبئيين.

ويصف "يوسفوس""عبادة" بالضعف وفتور الهمة والكسل، ووصف وزيره "صالح""Syllaeus" بالقدرة والكفاية على صغر سنه. وأنه لذلك كان هو المتصرف في الأمر والمدير لشؤون المملكة ورجل الدولة الحقيقي. وكان صديقًا لـ"هيرودس" يزوره وينزل عليه. وكان يتزوج أخته لولا اختلاف الدين، ورفض "Syllaeus" الدخول في الديانة اليهودية ليسمح له بالزواج3.

وقد انقلبت المودة التي كانت بين "هيرودس" و"صالح""Syllaeus" عداوة شديدة، فسعى "صالح" حين ذهب إلى "رومة" لإثارة حفيظة "أغسطس" على "هيرودس" بسبب الحملات العسكرية التي قام بها على أرض "اللجاة""Trachonites" 4 على العرب الذين آووا أهل "اللجاة" وساعدوهم. فلما

1 Dio.، 51، 7، I، Zon.، 10، 30، Plutarch، Anti.، 69، Die Araber، I، S.، 307.

2 Deities، P.541، Ency.، Iii، P.801، Ency.، Relig.، Vol.، 9، P.121، Die Araber، I، S.، 286.

3 Josephus، Antiq.، Xvi، Vii، 6، The Jewish War، Book، I، Xxvii، I، Xxiii، 6.

4 واللجاة اسم للحرة السوداء التي بأرض صلخد من نواحي الشام فيها قرى ومزارع وعمارة واسعة يشملها هذا الاسم، البلدان "3/ 323".

Xvi، Ix، 1-4.

ص: 38

ذهب "هيرودس" إلى "رومة" ليرفع شكايته عن ابنه "اسكندر" إلى القيصر، والتماسه من القيصر شمول ابنه الآخر "انتيباتر" بالعطف والحماية، انتهز أهل اللجاة "Trachonites" فرصة غيابه فأعلنوا الثورة وهاجموا الحدود، وعادوا إلى الغزو، وكان "هيرودس" قد منعهم منه، وضرب على أيديهم بشدة. فلما تعقبهم وكلاء "هيرودس" وقتلوا خلقًا منهم، هرب عدد من رؤسائهم إلى النبط واحتموا بهم. ولما عاد "هيرودس" أراد الانتقام منهم، فطلب الإذن من حكام سورية الرومان بتأديبهم والموافقة على إرسال قواته إلى المقاطعة لمقاتلتهم. ورجا من "عبادة" ومن وزيره "صالح" إجلاء رؤساء أهل "اللجاة" عن أرض النبط وعدم حمايتهم. فلما رفضا ذلك، طلب من "صالح" إعادة المال الذي اقترضه منه "عبادة" بوساطته. ولما لم تثمر المفاوضات شيئًا، هجمت قوات "هيرودس" على المناطق التي التجأ إليها الهاربون من أهل "اللجاة"، فاستولت على "Raipta" معقلهم وهدمته. فلما سمع النبط بذلك، بادرت جماعة منهم برئاسة قائد يدعى "Nacebus" لمساعدتهم، فاصطدمت بجنود "هيرودس" وسقط "Nacebus" مع زهاء عشرين رجلًا من أتباعه قتلى في هذه المعركة. ثم أمر "هيرودس" بإسكان الأدوميين في "اللجاة"، وكتب بذلك إلى حاكم "فينيقية" يبين له الأسباب التي حملته على إرسال هذه الحملة على "التراخونيين" أهل اللجاة. ويدعي "يوسفوس" أن "Syllaeus" استغل فرصة وجوده في "رومة" وذهب إلى القيصر شاكيًا من العمل الذي قام به "هيرودس" ووشى به كثيرًا، فغضب عليه "أغسطس"1. غير أن القيصر بدل رأيه في "صالح" حين اطلع على الخبر الصحيح، ولما بلغته أخبار وفاة الملك "عبادة" وانتقال العرش إلى "Aeneas" الذي غير اسمه حينما تولى الملك ودعا نفسه "Aretas" على عادة أكثر ملوك النبط دون أن يكتب ملك النبط إليه ويخبره بالحدث، فغضب على "صالح" وأمر بمعاقبته"2. ويدعي "يوسفوس" أن الملك الجديد كان مبغضًا لـ "صالح"؛ لأنه كان يعتقد أنه كان نفسه يطمع في الملك لما كان له من نفوذ ومال، وأنه كتب إلى "أغسطس" يخبره بأنه سم "عبادة" الملك

1 Josephus، Antiqu.، Xvi، Ix، 1-4.

2 Josephus، Antiq.، Xvi، Ix، 4، X، 8.

ص: 39

السابق، وأنه قتل عددًا من أشراف المملكة في "بطرا"، من بينهم "Sohemus" السيد النبيل، الذي يحترمه قومه ويجلونه، وأنه قتل "Fabatus" خادم "أغسطس" وفعل أمورًا أخرى منكرة تستوجب العقاب1.

أما "Nacebus" الذي قتل في معركة "Raipta"، وهو في موضع في العربية، فكان صديقًا لـ" Syllaeus" ومن أبناء عشيرته. ويخيل إلي أن كلمة "Nacebus" ليست علمًا لقائد الحملة، وإنما هي درجة ومنزلة، وأن معناها "نقيب"، وهي درجة من درجات الجيش، ولكني لا أستبعد كونها اسمًا حرف في اليونانية حتى صار على الشكل المذكور، وأن الأصل هو "نقيب" أو "نسيب" أو "نجيب" أو ما شاكل ذلك من أسماء. وأما "Sohemus"، فهو اسم علم قد يكون "سخيمًا" أو "سحيمًا" أو "سهيمًا"، وكلها أسماء معروفة في الجاهلية.

وقد أشار "موسل" إلى رواية ذكرها "أورانيوس""Uranius" و" اصطيفان البيزنطي" عن تأسيس مدينة "Auara" في أيام الملك "عبادة"، خلاصتها أن "حارثة "Aretas" ابن الملك حلم أن والده سينشئ مدينة، وأن هذه المدينة هي "Auara" من كلمة "حوراء" أي "البيضاء". فلما قص "حارثة" حلمه على والده، أخذ يفتش عن موضع أبيض ينشئ عليه المدينة، وبينما كان يفتش عن هذا الموضع تراءى له شبح رجل أبيض على جمل أبيض استخفى فجأة، فلما دنا من مكان الشبح، وجد بقايا شجرة ذات عروق ممتدة، فأمر أن يكون موضع "حوراء" "Auara"2.

ويرى "موسل" أن هذه المدينة هي "الحميمة" 3، وهي أيضًا "Auara" التي ذكرها "بطلميوس" وتقع في "العربية الحجرية""Arabia Petraea" على الطريق بين "أيلة" و"بطرا"4، وأن الملك المقصود هو "عبادة الأول". وأما الوقت، فكان في حوالي سنة "93" قبل الميلاد. وقد ذكرت أنه حكم على

1 Josephus، Antiq.، Xvii، Iv، 2.

2 Musim، Hegaz، P.59، Note 20، Uranius، Arabica، “Muller، Fragmenta”، Vol.، 4، P. 523، Stephen Of Byzantium، Ethnica، “Meineke”، Vol.، 1، P.144.

3 البلدان "3/ 346".

4 Musil، Hegaz، P.69، Tabula Paulingeriana، Sheet، 8، “Vienna”، 1888.

ص: 40

رأى أكثر الباحثين حوالي سنة "90" قبل الميلاد. وأرى أن "Obadas" الذي ذكر "أورانيوس" و"اصطيفانوس البيزنطي" أنه كان صاحب ولد اسمه "حارثة""Areta"، هو "عبادة" الثالث، فقد كان صاحب ولد اسمه "حارثة" وهو المعروف عندنا بـ" Aretas" الرابع. أما "عبادة"، فالذي خلفه هو "رب ايل"، لذلك يكون "عبادة" الثالث الذي نتحدث عنه أكثر ملاءمة لرواية المؤرخين من "عبادة الأول".

وحكم بعد "عبادة الثالث" الملك "الحارث""حرتت""Aretas" المعروف بـ"الرابع" والمقلب بـ "راحم عمه""Philopatris" وبـ "ملك النبط"1. وقد حكم من حوالي سنة "9" قبل الميلاد حتى حوالي سنة "40" بعد الميلاد. وورد اسمه في عدد من الكتابات، منها النصوص المرقمة بـ "CIS 11، 160" و" CIS II، 197-217" و" CIS II، 354". أما الكتابة الموسومة بـ" CIS 11، 160" فقد أرخت بالعام الخامس من حكمه، أي سنة "4" قبل الميلاد2، وقد ورد فيها اسم الإله "دوشرا" أي "ذو الشرى"3.

وأما النص الموسوم بـ "CIS II، 197"، فأرخ بشهر نيسان من السنة التاسعة من حكم "حرتت""الحارث"، "بيرح نيسن شتت تشع لحرثت ملك نبطو"4، أي في السنة الأولى للميلاد، وورد فيه أسماء الآلهة:"دو شرا""ذو الشرى"، و"منوتو" "مناة" "Manutu" و"قيشح"5. وقد ذكرت في هذا النص بعد جملة: "لحرثت ملك نبطو

" جملة "رحم عمه"، أي "محب شعبه"، وهي من النعوت التي ظهرت في الكتابات في هذا العهد.

وأرخ بأيام صاحبنا "حرثت""الحارث" النص المعروف بـ "CIS 11، 198" وهو أيضًا من النصوص التي عثر عليها في "الحجر"6. ويعود عهده إلى شهر

1 Ency. Relig.، Vol.، 9، P.121.

2 Ency.، Iii، P.801، Ency. Relig.، Vol.، 9، P.121، Schrader، Klt، S.، Provincia Arabia، I، S.، 152. Die Araber، I، S304.

3 Cis Ii، 160، M. A. Levy، In Zdmg.، 1869، Xxiii، P.435.

4 Cis Ii، I، Ii، Pp.223، Cis Ii، P.194، 4، 197.

5 Cis Ii، 197، 5، Huber، 29، Euting 2.

6 Cis Ii، I، Ii، P.224. Douthy 2، Euting 3.

ص: 41

"طبت" من السنة التاسعة من حكم هذا الملك، أي إلى السنة الأولى للميلاد1. وقد وردت فيه بعض الأسماء، مثل "كمكم" "كمكام" و" ودلت" و"ودلات" و"حرم" "حرام" و"كلبت" "كلبة" "كليبت" "كليبة" و"وهب اللات" و"عبد عبادة". وأسماء الآلهة: "دوشرا" و"هبلو" و" هبل" و"منوتو""مناة" و"اللت""اللات".

أما النص "CIS 11، 199"، فقد كتب في شهر "شباط" من السنة الثالثة عشرة من سني حكم "الحارث""حرثت" وهي السنة الرابعة بعد الميلاد2. وقد أرخت بقية النصوص من "CIS 11، 200" حتى "CIS 11، 217" بسني "الحارث" كذلك، وهي تفيذ مثل غيرها فائدة كبيرة من حيث تتبع تأريخ الأسماء، فوردت فيها أسماء كثيرة مثل "كهلن" "كهلان" و "وعلن" "وعلان" و"سعد الله" و"مرت" "مرة" و"سكينت" "سكينه" و"حميد" و"حوشب" و"خلف" و"قين" و"جلهمة" و"تيم الله" و" عميرت" "عميرة" و"وهب" وأمثالها مما كان شائعًا معروفًا عند العرب قبل الإسلام3.

وذكرت في الكتابة "CIS 11، 354" مع اسم "الحارث" أسماء "شقيلت""شقيلة" ملكة النبط و" مالك" و"عبادت""عبادة" و"رب ال""رب ايل". وقد دونت في السنة التاسعة والعشرين من حكم الملك، وهي سنة عشرين بعد الميلاد، وذلك عند صنع صنم يوضع في معبد "بطمون". ويلاحظ أن معظم المقابر الكبيرة التي عثر عليها في "الحجر" هي من السنين الأخيرة من حكم "الحارث"4.

وإلى هذا الملك يرجع النص الموسوم بـ"REP. EPIG. 54" ويرجع تأريخه إلى السنة الثالثة والأربعين من حكم "الحارث"، وقد دعي فيه بـ" محب شعبه""رحم عمه""رحبم عمه" كما ذكر فيه اسم زوجته "شقيلة"5. وكذلك

1 Cis Ii، I، Ii، P.226.

2 Cis Ii، 199، Huber 30، Euting 4، Cis Ii، I، Ii، P.227.

3 Cis Ii، I، Ii، P.229.

4 Cis Ii، 354، Euting 47، Cooke، North-Semitic Inscriptions، Pp.244، Provincia Arabia، I، S.، 283.

5 Rep. Epig.، I، Ii، P.44.

ص: 42

النص الموسوم بـ "REP. EPIG. 1103" المكتوب في سنة "40" من حكم "الحارث"، أي سنة "31" للميلاد، وهو من النصوص التي عثر عليها في "مدائن صالح"1.

وأرخ بحكم هذا الملك النص "REP. EPIG. 674"، وهو شاهد قبر من مدينة "مأدبا" يرجع تأريخه إلى سنة "37" بعد الميلاد2.

و"الحارث""Aretas" الذي أمد القائد الروماني "واروس""فاروس""Varus" بقوة من المشاة والفرسان حين زحف على "يهوذا"، هو "الحارث" الرابع الذي نتحدث عنه، فعل ذلك كما يقول "يوسفوس" انتقامًا من "هيرودس" وتقربًا إلى الرومان. وبعد أن استولى "فاروس" على مدن عدة وهو ذاهب إلى القدس، منها مدينة "عكا""Ptolemais"3 "Acco"، اتجه نحو "الجليل""Galile'e" ثم السامرة فالقدس. أما القوات العربية، فقد سارت إلى مدينة "Arus" فأحرقها ثم سارت إلى مدينة "Sampho" وهي مدينة محصنة جدًّا فاستولت عليها وأحرقتها، واستولت على أماكن أخرى. حدث ذلك حوالي سنة "4" قبل الميلاد4.

واصطدم النبط باليهود في أيام القيصر "طيباريوس"5 و"هيرودس" ملك "يهوذا" المعروف بـ"هيرود انتيباس""Herodes Antipas"6، وذلك في سنة "36" بعد الميلاد7، بسبب زواج "هيرودس" من زوج أخيه على زوجه الأولى، وهي ابنة "الحارث""حرثت". وسبب اختلافهما على حدود منطقة "Gamalites"، فجرت حروب بين الطرفين انتهت بانتصار "الحارث" على خصمه انتصارًا كبيرًا في "جلعاد""Gilead" وبتشتيت شمل جيوشه، فاستنجد "هيرودس" بسيده وحاميه القيصر "طيباريوس"، فغضب القيصر وكتب إلى

1 Rep. Epig.، Ii، Iii، P.377.

2 Rep. Epig.، Ii، I، P.101، Cis، Ii، 196.

3 Josephus، Antiq.، Vol.، 3، P.253، “Bohn’s Standard” Library”، Xvii، X، 9.

4 Dubnow، Ii، S.، 302.

5 "طيباريوس بن اغوسطوس"، "الطبري "1/ 741، 744"، "طبعة ليدن".

6 Dubnow، Ii، S.، 381، Josephus، 3، P.283.

7 Dubnow، Ii، S.، 384، The Bible Dictionary، I، P.107.

ص: 43

عامله على سورية "فيتليوس""Vitellius" أن يسير فورًا بجيشه لمحاربة "الحارث" والقبض عليه حيًّا وإرساله مكبلًا بالسلاسل إلى "رومة" أو إرسال رأسه إليه إن قتل1. وبينما كان العامل يهم بالزحف على مملكة النبط وتنفيذ أمر القيصر، جاءته الأخبار بوفاة "طيباريوس" سنة "37" بعد الميلاد فتوقف عن الحرب، وقرر الرجوع إلى مكانه. وساء موقف "هيرودس" ثم نحاه الرومان عن عرشه ونفوه إلى "اسبانية"، حيث مات هناك2.

ويظهر من رسالة "بولس" الرسول الثانية إلى أهل "كورنتوس" أن "دمشق" كانت في أيدي ملك اسمه "الحارث"، وأنه هم بالقبض عليه، غير أنه هرب ونجا منه. قال:"في دمشق وإلى الحارث الملك كان يحرس مدينة الدمشقيين يريد أن يمسكن، فتدليت من طاقة في زنبيل من السور ونجوت من يديه"3. ونرى "بولس الرسول" أيضًا في رسالته إلى أهل "غلاطية" وفي حديثه عن نفسه وعن كيفية اهتدائه إلى ديانة المسيح، يقول: "ولا صعدت إلى أورشليم إلى الرسل الذين قبلي، بل انطلقت إلى العربية، ثم رجعت أيضًا إلى دمشق، ثم بعد ثلاث سنين صعدت إلى أورشليم لأتعرف ببطرس فمكثت عنده خمسة عشر يومًا"4. فهو يذكر هنا العربية وبعدها دمشق. فهل أراد بالعربية البادية؟ أو أراد بها عربية النبط، وأنه من عربية النبط أو البادية عاد إلى دمشق؟.

والرأي الراجح بين علماء العهد الجديد، هو أن "الحارث" الذي قصده "بولس الرسول" هو هذا "الحارث"، أي "الحارث" الرابع، وأما الوقت الذي استولى فيه "الحارث" على دمشق، فقد كان في حوالي سنة "37" بعد الميلاد، وذلك على أثر الحرب التي شنها على "هيرود انتيباس"، وتدخل

1 إنجيل مرقس، الإصحاح السادس، الآية 17 وما بعدها تأريخ يوسيفوس "ص 213"، Josephus، Antiq، Xviii، V، I، 4.

2 Josephus، Antiq.، Xviii، V، I، Dubnow، Ii، S.، 384.

Josephus، Antiq.، V، 3.

تأريخ يويسفوس ص "214 وما بعدها".

3 رسالة بولس الرسول الثانية إلى أهل كورنتوس، الإصحاح الحادي عشر، الآية 32 وما بعدها.

4 رسالة بولس الرسول إلى أهل غلاطية، الإصحاح الأول، الآية 17 وما بعدها،

N. Gluck، Deities And Dolphins، P.542، The Story Of The Nabataeans، New York، 1965.

ص: 44

"طيباريوس" في الموضوع1. ويظهر أن تدخل الرومان هذا أثار غضب "الحارث" عليهم، فسار بعد انتصاره على "يهوذا" إلى "دمشق" فاستولى عليها وأعادها بذلك مدة لا نعلم طولها إلى مملكة النبط. ويتخذ هؤلاء من وجود فجوة في النقود الرومانية الدمشقية، تبدأ بسنة "34" بعد الميلاد وتنتهي بسنة "62-63" بعد الميلاد دليلًا على صحة نظريتهم في أن المدينة تحررت في خلال هذه الفجوة من حكم الرومان ودخلت في حكم النبط، ولهذا السبب حدثت هذه الفترة في ضرب النقود الرومانية في الشأم2.

وفي أيام هذا الملك دونت الكتابة المعروفة بـ "REP. EPIG. 1108"، وهي من الكتابات المدونة في "الحجر""Hegra"، أي "مدائن صالح"، دونت في السنة "38" للميلاد. وفي جملة الأسماء المذكورة في هذا النص اسم "عبد عدلون" أي "عبد عدنان"3.

وقد عثر على كتابة قبرية مؤرخة بالتقويم السلوقي من سنة "4-5" قبل الميلاد، وهي أيام حكم "الحارث" الرابع، صاحبها رجل اسمه "قصي بن تعجلة"، ولم يشر في الكتابة إلى حكم ملك النبط الذي في أيامه دونت هذه الكتابة. ويرى "ليتمان" أن الذي حمل "قصي" على إغفال الإشارة إلى اسم الملك هو أن القيصر "أغسطس" كان قد فوض أمر "Trachonitis" و"Batanaea""Artanitis" في عام "23" قبل الميلاد إلى ملك "يهوذا""هيرودس""Herodes"، وقد كان صاحب الكتابة من سكان هذه الأرضين، فلم يؤرخ بسني حكم ملك النبط الذي في أيامه أنشأ ذلك القبر4.

لقد كان الحارث الرابع من المتأثرين بالثقافة الهيللينية وبالحياة الهيللينية. ويظهر هذا الأثر في المباني العامة التي أقيمت في أيامه5 وفي الكتابات اليونانية من عهده. ولا يستبعد أن يكون قد أتقن اللغة اليونانية وأخذ يتكلم بها مع اللسان الإرمي والنبطي، إذ كانت تلك اللغة هي لغة القوة والثقافة في تلك الأيام.

1 Hastings، P.48، Ency. Bibli.، Pp.206.

2 Hastings، P.48.

3 Rep. Epig.، Ii، Iii، P.381.

4 Ephemeris، Ii، S.، 259.

5 N. Glueck، Rivers، P.195.

ص: 45

وحكم بعد "الحارث الرابع" ابنه الملك "ملكو""مالك" المعروف بالثاني وذلك من سنة "40" حتى سنة "71" أو "75" بعد الميلاد1. ويظهر أن النص المعروف بـ" CIS 11، 195" لصاحبه "عبد ملكو بن عبيشو"، أي "عبد الملك ابن عبيش" والمؤرخ بالسنة الأولى من حكم "ملكو" "مالك"، قصد بـ "ملكو" "مالك الثاني" هذا2، ويرجع تأريخه إلى سنة "41" بعد الميلاد. أما ناشر النص في "CIS 11"، فقد ذهب إلى أنه "مالك الثالث"، وأنه كتب في حوالي سنة "39" بعد الميلاد، ومعنى هذا أن "مالك الثالث" حكم في سنة "38" بعد الميلاد، وهو وهم. وقد عثر على هذا النص في موضع "أم الرصاص"3.

وفي السنة الأولى من حكم "ملكو""مالك" دونت الكتابة الموسومة بـ "CIS 11، 218"4. وقد ذكر ناشرها أن "ملكو" المقصود هو "ملكو" الثالث، وأن تأريخها يرجع إلى سنة "39" بعد الميلاد5، وهو وهم. وأما النص "CIS 11، 182"6، فقد أرخ كذلك بأيام "ملكو"، أرخ بشهر "اب""آب" من السنة السابعة عشرة من حكم "ملكو ملك نبطو برحرثت"7، أي من حكم الملك "مالك النبط بن حارثة". ويصادف هذا التأريخ عام "57" بعد الميلاد. أما ناشر النص، فقد جعله أيضًا "ملكو" مالك"، وجعل تأريخ التدوين في حوالي سنة "50" بعد الميلاد8. وهو يناقض ما ذهب إليه كثير من الباحثين من أن حكم الملك "مالك الثاني" كان من سنة "40" حتى سنة "71" بعد الميلاد. ثم إن ما ذهب إليه ناشر النص من أن تأريخه يوافق سنة "50" بعد الميلاد، هو وهم أيضًا، إذ يجب أن يكون سنة "57" للميلاد؛ لأن ابتداء حكم هذا الملك

1 ENCY.، VOL.، Lll، P.801، Ency.، Relig.، Vol.، 9، P.121، Hill، P.Xix، Littmann، In Princeton University Archaelogical Expedition To Syria In 1904-1905، Div.، Iv، Sect.، A، P.21، W. Glueck، Deities، P.542.

2 Cis Ii، 195، Cis، Ii، I، Ii، P.217.

3 Cis، Ii، I، Ii، P.218.

4 Cis، Ii، 218، Euting 21، Doughty، I.

5 Cis، Ii، I، Ii، P.256.

6 Cis، Ii، 182، Vogue، N. 6.

7 Cis، Ii، I، Ii، Pp.206.

8 Cis، Ii، I، Ii، P.207.

ص: 46

كان سنة "40"، ولما كان النص قد أرخ بالسنة السابعة عشرة من حكمه تكون السنة إذن سنة "57" للميلاد.

لقد انتزعت "دمشق" من حكم "مالك الثاني"، في زمن لا نعرفه، إلا أن الأرضين في شرقها وفي جنوب شرقيها بقيت جزءًا من مملكة النبط1.

وانتقل الحكم إلى "رب ال""رب ايل" ربئيل" الثاني المعروف بـ "سوتر" "سوطر" "Soter" بعد وفاة "ملكو" "مالك" الثاني. وقد حكم من حوالي سنة "70" حتى سنة "106" بعد الميلاد على رأي، ومن سنة "75" حتى سنة "101" على رأي آخر، أو شيئًا آخر قريبًا من ذلك أو بعيدًا بعدًا قليلًا، بحسب تعدد أنظار الباحثين2، لعدم وجود تقاويم ثابتة لدينا أو كتابات تنص على تواريخ حكم كل ملك من هؤلاء الملوك.

وإلى عهد هذا الملك تعود الكتابة المعروفة بـ "CIS 11، 183" المؤرخة في السنة الخامسة والعشرين من سني حكم "رب ال""رب ايل"، وصاحبها رجل اسمه "قصي بن ادينت"، أي "قصي بن أذينة"3. وتكون سنة تدوين هذه الكتابة إذن في سنة "95" أو "100" بعد الميلاد. أما الكتابة "CIS 11، 161"، فتعود إلى أيامه كذلك، وقد دونت في شهر "أيار" من السنة الرابعة والعشرين من حكم "رب ايل"، وقد دون مع التأريخ النبطي ما يقابله بالتقويم المستعمل عند الرومان آنئذ وهو سنة "405"4.

والتقويم الروماني هو تقويم السلوقيين. وتقابل هذه السنة سنة "94" للميلاد ويكون مبدأ حكم "رب ايل" إذن في سنة "381" من التقويم السلوقي، أي سنة "70" بعد الميلاد. ووردت في هذه الكتابة بعض الأسماء، مثل:"هنى""هانئ" و"جدلت""جدلة" و"بجرت""بجرة""بجيرة" و"ادرم" و"عبد الملك"، وهي من الأسماء المعروفة أيضًا عند عرب الحجاز ونجد5.

1 Deities، P.542.

2 Ency.، Iii، P.801، Ency. Religi.، Vol.، 9، P.121.

3 Cis Ii، I، Ii، Pp.208، Levy، In Zdmg، 1868، I، Xxii، S.، 262. Vogue، Syrie Centr.، Inscr. Semit.، P.112.

4 Cis Ii، I، Ii، P.191، Cis 11، 161.

5 Cis Ii، I، Ii، P.192.

ص: 47

وإلى عهد الملك "رب ايل" الثاني تعود كذلك الكتابة التي دونها "منعت بن جديو""منعة بن جدي""ببصر ابشنت23 لرب ايل ملكًا ملك نبطو"، أي بمدينة "بصرى"، وذلك في السنة الثالثة والعشرين لحكم "رب ايل" ملك النبط، وقد دونت هذه الكتابة بمناسبة تقرب صاحبها إلى الإله "دوشرى واعرى" بتقديمه مذبحًا إلى معبده في مدينة "بصرى"1. ويكون تأريخ تدوين هذه الكتابة سنة "93" للميلاد. وكذلك الكتابة القبرية المؤرخة بالسنة الثالثة والعشرين من حكم "رب ايل"، أي في سنة "93" للميلاد2. ولدينا كتابة أخرى سجلت في أيام هذا الملك صاحبها رجل اسمه "عذرو برجشمو"، أي "عاذر بن جشم" "عذره بن جشم" "عذير بن جشم" "عذر بن جشم"، ورد فيها اسم الإله "شيع القوم" دونها في السنة السادسة والعشرين من حكم الملك، أي في حوالي سنة "96" بعد الميلاد3.

وترينا الكتابة الموسومة بـ "REP. EPIG. 1434" أن للملك شقيقين هما: "جميلت" أي "جميلة" و" هجرو" أي "هاجر"، وقد نعتتا فيها بـ "ملكتي النبط". ويظهر أن هنالك شقيقة ثالثة اسمها "فصائل"، وربما كانت له شقيقة رابعة سقط اسمها من النص4.

وقد ذركت "شقيلت""شقيلة" أم الملك "رب ايل" الثاني مع ابنها في نقد، وذلك في أثناء عهد وصايتها عليه حين انتقل العرش إليه، وكان على ما يظهر صغيرًا. وكان للملك شقيق ساعدها في تحمل أعباء الحكم اسمه "انيشو""Oneishu" لعله "أنيس". ولما تزوج "رب ايل" من زوجه "جميلت""جميلة""Gamilath" أمر بضرب اسمها مع اسمه على النقود5.

وقد ذكر بعض الباحثين أن بعض ملوك النبط ولا سيما المتأخرين منهم، أقاموا في أكثر أوقاتهم في "بصرى""Bostra"، مما أدى إلى إضعاف شأن

1 Mark Lidzbarski، Ephemeris Semitische Epigraphik، S.، 330، “Giessen 1902”، Clermont-Ganneau، Receuil، P.170، Rep. Epig. 83.

2 Rep. Epig. 83، I، Ii، P.67.

3 Ephemeris، Ii، I، S.، 252، Rep. Epig. 468.

Ephemeris، S.، 332، Receuil، P.173، Rep. Epig. 886

4 Rep. Epig.، Iii، I، P.141.

Hill، P.Xx، 12-13، Pl.، Ii، 18-23.

ص: 48

عاصمتهم القديمة "بترا" وإلى إضعاف إدارة أمور النبط1.

وآخر ملك نعرفه من ملوك النبط، هو الملك "ملكو""مالك" الثالث، الذي حكم من سنة "101" حتى سنة "106" بعد الميلاد على بعض الآراء، وفي أيامه قضى "تراجان" في سنة "106" بعد الميلاد على استقلال هذه المملكة وجعلها تحت حكم حاكم "سورية""كورنليوس بالما""Cornelius Palma""98 -117م"، وأطلق عليها اسم "الكورة العربية""Provincia Arabia"2. وقد نقل مقر الحكم من "بترا" إلى "بصرى"، فتضاءل بذلك شأن العاصمة القديمة فلما كان القرن الثالث للميلاد، صارت "بترا" مجرد موضع قليل الشأن3.

لقد قضى الرومان على استقلال النبط في العربية الحجرية، فأضافوا بلادهم إلى جملة الأرضين التي استولوا عليها. وخسر النبط ملكهم ودولتهم، ثم خسروا أرضهم فيما بعد. واضطرهم ضغط القبائل العربية الأخرى عليها إلى الرحيل إلى أماكن أخرى، والهجرة إلى مواطن جديدة طلبًا للرزق. كما هاجر من قبلهم سكان الأرضين التي استولى النبط عليها في أيام عزهم وملكهم واندمج أكثرهم في القبائل الجديدة الفتية التي سادت على أرض النبط، وتسموا باسمهم وانتسبوا إليهم حتى نسوا أصلهم القديم فزال النبط بزوال دولتهم، وبقي اسمهم، وبعض رسومهم التي يعود الفضل في إحيائها إلى المستشرقين.

وقد بقي النبط يمارسون التجارة وقيادة القوافل حتى بعد فتح الرومان لبلادهم كما يتبين من بعض الكتابات النبطية المؤرخة التي عثر عليها في "طور سيناء" وفي مصر. ومنها كتابة مؤرخة بسنة "160" من تقويم "بصرى" المقابلة لسنة "266" بعد الميلاد. وقد تبين أن أكثر الكتابات التي عثر عليها في الأماكن المذكورة وفي أماكن أخرى هي كتابات وجدها العلماء والباحثون والسياح على الطرق القديمة الموصلة إلى جزيرة العرب أو البحر الأحمر، وفي وجودها في هذه الأماكن دلالة على أن أصحابها كانوا أصحاب تجارة يتجرون بين مصر وجزيرة العرب

1 Deities، P.543.

2 Die Araber، I، S.، 304، Groag Stein، Prosopographia، 2، 346، Nr: 1412، 1936، Schrader، Klt، S.، 153.

3 N. Glueck The Story Of The Nabataeans، P.543.

ص: 49

وموانئ ساحل البحر الأحمر ولا سيما ساحل النبط المقابل لبر مصر1.

ويظن جماعة من المستشرقين أن عرب "الحويطات" الساكنين في منطقة "حسمى" في الأقسام الشمالية من الحجاز، في المنطقة التي كانت تسكنها "جذام"، هم من بقايا النبط2.

وتنسب "الحويطات" إلى جد أعلى لهم اسمه "حويط"، وهو على زعمهم من أهل مصر، جاء بيت الله الحرام حاجًا فمات في "العقبة" ودفن في "حسمى". وهم عشائر يتراوح عددها من عشر عشائر إلى اثنتي عشرة عشيرة تسكن في طور سيناء وفلسطين والحجاز3، وتجاور قبيلتي "بلى" و"جهينة"4. وهم في الجملة ميالون إلى الحرب والغزو، ولذلك كانوا يغزون العشائر المجاورة لهم، ويأخذون الأتاوة من القرى والمدن الواقعة في مناطق نفوذهم في أيام العثمانيين5.

وتتألف "الحويطات" من ثلاثة بطون هي: "حويطات التهمة" و"حويطات العلويون""العلاوين" ويعرفون أيضًا بـ "حويطات ابن جاد""حويطات ابن جازى"6. وتتألف "حويطات التهمة" "حويطات التهم" التي تقعه منازلها على ساحل البحر الأحمر حتى "الوجه" في الجنوب، من عشائر عديدة هي: "العمران"7 و"العميرات" و"المساعيد" والذبابين والزماهرة والطقيقات والسليمانيين والجرافين والعبيات والمواسة والمشاهير والفرعان والجواهرة والقبيضات والفحامين. وأما "حويطات العلويون"، فتتألف من:"الصوياحين" و"المقابلة"

1 Winkler، Rock Drawing Of South Upper Egypt، “1938”، L.A. Tregena And Dr. John Walker، Bulletin Of The Faculty Of Arts، Fouad University، Vol.، Xi، Part Ii، December، 1949، Enno Littmann، Nabataean Inscriptions From Egypt، In Bulletin Of The School Of Oriental And African Studies، University Of London، 1953، Pp.1.

2 Ency.، Vol.، I، P.368، Iii، P.802.

3 Ency.، Ii، P.349، Burkhardt، Notes On The Bedouins And Wahabys، London، 1831، P.29، Doughty، Travels In Arabia Deserta، I، 16، 29، 45، 46، 137، 233، 390، Ii، 24، 323.

4 Ency.، Ii، P.349، Musil، Arabia Petraea، Iii، P.48.

5 Euting. Tabuch Einer Reise In Inner-Arabien، Ii، S.، 103، Ency.، 11، P.349.

6 قلب جزيرة العرب "ص 144".

Musil، Hegaz، P.6، Petraea، Bd.، Bd. 3، S.، 48، 51.

7 "حويطات التهم" قلب جزيرة العرب "ص 72، 131، 425"، "حويطات التهامة"، "عمران". Ency.، Ii، P.349.

ص: 50

و"المحاميد" و"الخضيرات" و"السلامين" و"العزاجين و"القدمان و"العواجة" و" السلامات". ومن "حويطات ابن جازى""المطالقة" و"الدراوشة" و" العمامرة" و"المرايع" و"الدمانية" و" العطون" و"التوايهة"1.

لقد عثر على كتابات مدونة بالنبطية وعلى كتابات مدونة بثلاث لغات هي النبطية والإرمية واليونانية، بعضها من بعد ضم مملكة النبط إلى "الكورة العربية"، أي بعد سقوطها في أيدي الرومان، وقد تبين منها أن النبط بقوا أمدًا يكتبون ويدونون بلغتهم، وإن كانوا يستعملون معها اليونانية أو الإرمية أو كلتا اللغتين في بعض الأحيان، كما تبين أن اليهود دونوا بالنبطية أيضًا، أولئك اليهود الذين كانوا على اتصال بالنبط، وكانت لهم صلات تجارية بهم. وقد دونوا بهذه اللغة حتى بعد سقوط دولة النبط. وقد وصلت كتابات أصحابها يهود فيها عقود بيع وشراء مع النبط، كما وصلت كتابات نجد فيها خلاصات من عقود ومكاتبات دونت باليونانية أو بالإرمية، على حين دونت الخلاصات بالنبطية وبالعكس2.

ولا نعرف شيئًا يذكر عن أصول تنظيم الدولة وكيفيتها عند النبط. والملك بالطبع هو رئيس الدولة والشخص الوحيد الأعلى للحكومة. وهو الذي يختار من يوكل إليهم إدارة الأعمال وتسيير أمور الرعية. وللملك حاشية القربة عنده، وكل إليها النظر في المسائل العليا للدولة وتقديم الاستشارة إلى الملك، ويقال للواحد منها "اخ ملكا"، أي "أخو الملك"، ويظهر أنها كانت طبقة خاصة من الطبقات الأرستقراطية انحصرت فيها هذه الوظائف انحصار الملكية في الأسر المالكة3.

ومما يلاحظ على النبط أن ملوكهم كانوا ينعتون أنفسهم بنعوت لا نجدها في الكتابات العربية الأخرى، فجملة:"ملك رحم عمه"، أي "الملك الرحيم بشعبه"، أو "الملك المحب لشعبه" لا نجد لها مثيلًا في الكتابات الأخرى من كتابات ما قبل الإسلام. لكنهم لم يتركوا الجمل التي تنعتهم أيضًا بـ "ملوك

1 وأسماء أخرى، راجع: قلب جزيرة العرب "ص 144".

Ency.، Ii، P.349، Musil، Petraea، Iii، 48، 51، 407.

2 Deities، P.8.

3 Rep. Epig. 675، 1100، M. Lidzbarski، In Ephemeris، 3، “1909-1915”، 89، 297، Die Araber، I، S.، 287.

ص: 51

النبط"، إذ نجدهم يكتبون بعد اسمهم: "ملك ملك نبطو"، أي "الملك: ملك النبط".

ويلاحظ أنه قد كان للمرأة منزلة رفيعة عند النبط، بدليل ما نجده في كتاباتهم وفي نقودهم من ذكر اسم الملكات مع الملوك. فقد كان من عادتهم ورسومهم ذكر الملكات مع الملوك رسميًّا، فقد ورد مثلًا:"شقيلت أخته، ملكت نبطو". أي "شقيلة أخته، ملكة النبط". وورد: "شقيلت أمه، ملكت نبطو"، أي "شقيلة أمه: ملكة النبط"، وهكذا. ونجد النقود النبطية وقد أشارت إلى اسم الملك الذي أمر بضرب ذلك النقد، كما نجد اسم زوجته أو أمه معه. وقد ضربت صورة رأس الملك ورأس الملكة معه في النقود المضروبة باليونانية1.

وبالرغم من ظفر العلماء بنقود نبطية ويونانية، لم يتمكنوا حتى الآن من الاتفاق على تثبيت أسماء ملوك النبط تثبيتًا زمنيًّا، ولم يتمكنوا أيضًا من تعيين مدة حكم كل واحد منهم تعيينًا مضبوطًا قاطعًا، فما سنذكره عنهم لا يعني إذن أنه شيء ثابت وأكيد2.

وقد تأثر النبط بالثقافة اليونانية تأثرًا كبيرًا. ويظهر هذا الأثر في نقودهم، إذ قلدوا في ضربها النقود اليونانية، بل ضربوها بكتابة يونانية في الغالب. وقد نعت "عبادة الثالث نفسه بـ "الها" في نقد ضربه باسمه، محاكاة للسلوقيين الذين لقبوا أنفسهم بـ "ديوس" "Deos"، أي "الإله". كما يظهر هذا الأثر في إدارة الدولة وفي الحجارة المكتوبة، إذ نجد أصحابها بكتبون بالنبطية وباليونانية، بل نجد هذا الأثر على شواهد القبور وغير ذلك3. ولعلهم كانوا قد أخذوا من مناهل العلم اليوناني، وتعلموا العلوم الشائعة في ذلك العهد من اليونان الذين سكنوا بين النبط، ومن بلاد الشأم حيث كانوا على اتصال دائم بها، وفي بلاد الشأم جاليات قوية من الرومان واليونان. ولهذا ظهر أثر اللاتينية واليونانية في الأنباط4.

1 Deities. P.11.

2 J. Cantineau. Le Nabateen، I. 6، R. Dussaud. Penetration، 51، Die Araber. I. S.، 289.

3 Le Nabateen، 2، “1932”، P.5، 6، 152، Die Araber، I، S.، 288.

4 N. Glueck. Rivers، P.194.

ص: 52