الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني: تفاضل أولي العزم
وقد ذكر الله عز وجل أولي العزم في آيتي الأحزاب والشورى المذكورتين، وقد بدأ سبحانه في الآيتين بذكر الطرفين أول الرسل وخاتمهم، وذكر بعدهما الثلاثة مبتدأ بإبراهيم، ثم موسى، ثم عيسى، بحسب ترتيب وجودهم عليهم الصلاة والسلام، وقد بدأ سبحانه في آية الأحزاب بذكر محمد صلى الله عليه وسلم لشرفه وفضله عليهم وذلك لأن في الآية ذكر للنبيين في الجملة تعميماً ثم خص سبحانه أفضلهم بالذكر بعد دخولهم في العموم فناسب لذلك الابتداء بذكر محمد صلى الله عليه وسلم لكونه أفضل هؤلاء المفضلين، وفي الآية ذكر للميثاق المأخوذ على النبيين فهي متعلقة بالأنبياء خاصة ولذلك قدم محمد صلى الله عليه وسلم في الذكر للوجه المذكور قال سبحانه: وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ [الأحزاب: 7]. أما آية الشورى فمتعلقة بالشريعة التي بعثوا بها. ولذا بدأ سبحانه بنوح قبل محمد عليهما الصلاة والسلام، لأن الآية في ذكر دين الإسلام وما وصى الله به الرسل، فناسب ذلك أن يبدأ بنوح، لأن رسالته أول الرسالات، ففيه بيان جلي أن أول رسالات الرسل أوصت بما شرع لأمة محمد صلى الله عليه وسلم من الدين، فهو دين أصيل مستقيم لا عوج فيه ولا اضطراب، ثم ذكر سبحانه من بين من توسطوا بين محمد ونوح أشهر أصحاب الشرائع وأفضلهم (1).
قال سبحانه شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا [الشورى: 13].
فمحمد صلى الله عليه وسلم هو أفضل أولي العزم بلا خلاف، يقول ابن كثير:(لا خلاف أن محمداً صلى الله عليه وسلم أفضلهم ثم بعده إبراهيم، ثم موسى، ثم عيسى عليهم السلام على المشهور)(2). يعني ابن كثير أن نوحاً آخرهم في ترتيبهم في الفضل، وقوله:(على المشهور) كأنه إشارة إلى وجود خلاف في ترتيبهم في الفضل بعد محمد صلى الله عليه وسلم، وقد قطع بأن إبراهيم بعده في الفضل في موضع آخر فقال في إبراهيم:(هو أشرف أولي العزم بعد محمد صلى الله عليه وسلم (3). وقد نص السفاريني على اختلاف العلماء في من يلي النبي صلى الله عليه وسلم في الفضيلة منهم، وذكر أن المشهور أنه إبراهيم، قال:(وقد اختلف العلماء في من يلي النبي صلى الله عليه وسلم في الفضيلة منهم، والمشهور واختاره ابن حجر في شرح البخاري أنه إبراهيم خليل الرحمن، لما ورد أن إبراهيم عليه السلام خير البرية، خص منه محمد صلى الله عليه وسلم بإجماع، فيكون أفضل من موسى وعيسى ونوح عليهم السلام، والثلاثة بعد إبراهيم أفضل من سائر الأنبياء والمرسلين، قال الحافظ ابن حجر ولم أقف على نقل أيهم أفضل، والذي ينقدح في النفس تفضيل موسى فعيسى فنوح عليهم الصلاة والسلام)(4).
وذكر السيوطي أن الإجماع منقول على تقديم إبراهيم عليه السلام، فبعد أن ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم أفضل خلق الله على الإطلاق قال:(فخليله إبراهيم يليه في التفضيل، فهو أفضل الخلق بعده، نقل بعضهم الإجماع على ذلك، وفي الصحيح خير البرية إبراهيم خص منه النبي صلى الله عليه وسلم فبقي على عمومه) قال السيوطي: (فموسى وعيسى ونوح الثلاثة بعد إبراهيم أفضل من سائر الأنبياء ولم أقف على نقل أيهم أفضل)(5).
(1)((الأنموذج الجليل)) (2/ 77) و ((فتح الرحمن)) (458) و ((روح المعاني)) (21/ 154).
(2)
((تفسير ابن كثير)) (5/ 88).
(3)
((البداية والنهاية)) (1/ 170).
(4)
((اللوامع)) (2/ 300).
(5)
((إتمام الدراية)) (17) بهامش مفتاح العلوم.
وتعقب المناوي السيوطي في كلامه هذا فقال: (وفاته – (يعني وفات السيوطي) – أن الفخر الرازي حكى الإجماع على تقديم موسى وعيسى على نوح فإنه قال في أسرار التنزيل: لا نزاع في أن أفضل الأنبياء والرسل هؤلاء الأربعة محمد وإبراهيم وموسى وعيسى) (1).
والحاصل أن النص دال على تفضيل محمد صلى الله عليه وسلم والإجماع منعقد عليه. وكذا يدل النص على أن إبراهيم يليه في التفضيل لحديث أنس قال: ((قال رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا خير البرية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذاك إبراهيم)) (2). وقال السيوطي وابن حجر – كما نقله السفاريني عنه - أنهما لم يقفا على نقل أي الثلاثة أفضل بعد إبراهيم عليه السلام، ولكن النقل دال على تقديم موسى على عيسى عليهما السلام، ففي أحاديث المعراج أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بعيسى في السماء الثانية، ومر بموسى في رواية في السادسة، وفي أخرى في السابعة (3)، يعني في منزلة أعلى من منزلة عيسى عليهم الصلاة والسلام، فموسى أفضل من عيسى، فبقي ترتيب نوح عليه السلام هل هو مقدم عليهما أم مؤخر عنهما أم هو بينهما؟
ولا نقل يدل على شيء من ذلك وليس الأمر مورد اجتهاد، وغاية ما يستطيعه من اجتهد بتأخير نوح الاستدلال بنصوص غاية ما فيها إثبات منقبة لكل واحد منهم من غير تخيير بين المناقب.
وتقديم أحدهما عليه أو تأخيره عنه – صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين – بتفضيل منقبة على أخرى مما لا يقبل اجتهاداً حتى يقوم عليه دليل، لأن ثبوت منقبة لا يستلزم التفضيل بها حتى يرد النص بالتفضيل، فالواجب اعتقاده فضل نوح عليه السلام بعد إبراهيم على الجملة من غير تعيين ترتيبه مع موسى وعيسى عليهم السلام، فيكون حاصل القول في تفاضل أولي العزم أن أفضلهم محمد ثم يليه إبراهيم ثم نوح وموسى وعيسى.
وموسى أفضل من عيسى عليهم الصلاة والسلام أجمعين، والله أعلم.
هذا الذي أراه – والله ورسوله بريئان من خطأي – أنه لا يفاضل بين نوح وكل من موسى وعيسى لعدم ورود نص في ذلك، ولكن المشهور بين أهل العلم - على قول ابن كثير المتقدم – تقديم موسى بعد إبراهيم، وإن صح قول الرازي الذي نقله المناوي عنه
…
أن لا نزاع في تأخير نوح عن الأربعة أولي العزم الباقين، وإن صح كون ذلك إجماعاً فبها ونعمت، وإلا فالرأي عندي ما ذكرته، والله أعلم .. مباحث المفاضلة في العقيدة لمحمد بن عبدالرحمن الشظيفي – ص: 136
(1)((فيض القدير)) (3/ 464).
(2)
رواه مسلم (2369). من حديث أنس رضي الله عنه.
(3)
ليس هناك من الروايات والأحاديث الصحيحة ما يفيد بأن موسى في السماء السابعة إنما هو في السماء السادسة وإبراهيم هو الذي في السابعة. والحديث رواه البخاري (3035)، ومسلم (164). من حديث مالك بن صعصعة رضي الله عنه.