الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الخامس: توجيه النهي الوارد في التفضيل بين الأنبياء
لابد من اعتقاد التفاضل بين الأنبياء واعتقاد فضل الرسل على الأنبياء وفضل أولي العزم على بقية الرسل وفضل محمد صلى الله عليه وسلم على سائر الرسل والأنبياء صلوات الله وسلامه عليه، لقيام الأدلة الشرعية الصريحة الصحيحة على ذلك، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم نهيه عن التفضيل بين الأنبياء، ونهيه عن تفضيله خاصة على بعض الأنبياء، وفي هذا إشكال يظهر لناظره ويزول لمتأمله، وقد خرج العلماء وجوهاً من القول في توجيه ذلك النهي.
أما ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم فقد قال صلى الله عليه وسلم: ((لا تخيروا بين الأنبياء)) ، وفي رواية ((لا تفضلوا بين الأنبياء)) وهو واقع في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس جاء يهودي، فقال: يا أبا القاسم، ضرب وجهي رجل من أصحابك، فقال: أضربته؟ قال: سمعته بالسوق يحلف: والذي اصطفى موسى على البشر، قلت: أي خبيث، على محمد صلى الله عليه وسلم؟ فأخذتني غضبة ضربت وجهه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تخيروا بين الأنبياء .. )) الحديث (1)، وفي رواية:((لا تخيروني بين الأنبياء)) (2) وفي رواية: ((لا تفضلوا بين أنبياء الله)) (3)، وروى القصة أبو هريرة بنحوه إلا أنه قال:((لا تخيروني على موسى)) (4) وفي حديث ثان قال صلى الله عليه وسلم: ((لا ينبغي لعبد أن يقول: أنا خير من يونس بن متى)) (5) إلا أن النهي في هذا الحديث يحتمل التأويل على وجهين:
الأول: أن يكون المراد بقوله (أنا): رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه، قال الخطابي:(وهذا أولى الوجهين وأشبههما بمعنى الحديث، فقد جاء من غير هذا الطريق أنه صلى الله عليه وسلم قال: ((ما ينبغي لنبي أن يقول: أنا خير من يونس بن متى)) (6) فعم الأنبياء كلهم فدخل هو في جملتهم) (7).
الثاني: أن يكون إنما أراد صلى الله عليه وسلم بقوله: ((لا ينبغي لعبد)): من سواه من الناس، أي لا ينبغي للعبد القائل أن يقول ذلك (8).
وقد دل على أن هذا هو الأولى في معنى الحديث جملة من ألفاظ الحديث في عدد من رواياته في الصحيحين، ففي رواية:((لا أقول إن أحداً أفضل من يونس بن متى)) (9) وفي رواية: ((من قال: أنا خير من يونس بن متى فقد كذب)) (10) فلا يصح مع قوله: ((فقد كذب)) أن يكون المراد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي رواية يقول صلى الله عليه وسلم: ((قال – يعني الله تبارك وتعالى – لا ينبغي لعبد لي (وفي لفظ: لعبدي) أن يقول: أنا خير من يونس بن متى)) (11). فقوله: ((لعبد لي)) يمنع أن يكون المراد رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة.
(1) رواه البخاري (2412) ومسلم (163)، (2374).
(2)
رواه البخاري (6916).
(3)
رواه البخاري (3414)، ومسلم (159).
(4)
رواه البخاري (2411)، ومسلم (160).
(5)
رواه البخاري (2411)، ومسلم (167).
(6)
رواه أبو داود (4670) من حديث عبد الله بن جعفر وسكت عنه، وقال أحمد شاكر في ((مسند أحمد)) (3/ 196): إسناده صحيح. وصححه الألباني في ((صحيح الجامع)) (5821).
(7)
((معالم السنن)) للخطابي (3/ 146).
(8)
((معالم السنن)) (3/ 146) و ((فتح الباري)) (8/ 267) و ((تحفة الأحوذي)) (1/ 542 و 9/ 119).
(9)
رواه البخاري (3414)، ومسلم (2373). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(10)
رواه البخاري (4604). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(11)
رواه مسلم (2376). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
والحاصل أن في الحديثين ينهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التفضيل بين الأنبياء، وعن تفضيله على موسى ويونس خاصة - على حمل الحديث في يونس على أن النبي صلى الله عليه وسلم هو المراد – وهو صلى الله عليه وسلم أفضل منهما ومن سائر الأنبياء وجميع الخلق قطعاً كما تقدمت الدلائل عليه من الكتاب والسنة والإجماع، وفي هذا إشكال ظاهر، وقد وجه العلماء ذلك النهي لإزالة الإشكال في أقوال متعددة، منها:
1 -
أن النهي ورد قبل أن يعلم النبي صلى الله عليه وسلم أنه سيد ولد آدم وأفضل الأنبياء فلما علم أخبر به، وأن النهي عن التفضيل منسوخ بالقرآن (1).
إلا أن في هذا القول نظر كما يقول ابن كثير، قال:(لأن هذا من رواية أبي سعيد وأبي هريرة (2)، وما هاجر أبو هريرة إلا عام حنين متأخراً، فيبعد أنه لم يعلم بهذا إلا بعد هذا والله أعلم) (3)، وهو كما قال، بل والقول بالنسخ مردود، فإن التفاضل بين الأنبياء ،وفضل أولى العزم من الرسل منهم، وتفضيله صلى الله عليه وسلم على يونس، كل ذلك قد ورد في الآيات المكية في سورة الإسراء، والأحقاف، والقلم، وقصة حديث أبي سعيد وأبي هريرة وقعت في المدينة، وكذلك الحديث الآخر في يونس عليه السلام ورد من رواية أبي هريرة وابن عباس، وابن عباس على سبيل المثال، من صغار الصحابة توفي النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثلاث عشرة سنة وقد ورد أيضاً من رواية عبد الله بن مسعود.
2 -
أن النهي من باب التواضع وهضم النفس ونفي الكبر والعجب (4). قال القاضي عياض: (وهذا لا يسلم من الاعتراض)(5). وهذا التوجيه لا يتناسب مع قوله صلى الله عليه وسلم ((فقد كذب)) في رواية: ((من قال أنا خير من يونس بن متى فقد كذب)) إن حمل الحديث على أن المراد بقوله ((أنا)) رسول الله صلى الله عليه وسلم (6). فإذا حمل على أن المراد به من سواه صلى الله عليه وسلم، فإن لهذا التوجيه وجهه، خاصة مع قوله صلى الله عليه وسلم:((إن الله أوصى إليّ أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد ولا يبغي أحد على أحد)) (7). ويكون مناسباً أيضاً مع قوله: ((ولا فخر)) في حديث ((أنا سيد ولد آدم ولا فخر)) المتقدم ذكره.
3 -
أن النهي عن تعيين المفضول، أما تفضيل بعضهم على بعض في الجملة دون تعيين المفضول فهو دلالة النصوص، قاله ابن عطية (8) واستشهد له بقوله صلى الله عليه وسلم:((أنا سيد ولد آدم)) بإطلاق دون تعيين. ونقل القرطبي قول من قال: (إن النهي اقتضى منع إطلاق اللفظ لا منع اعتقاد ذلك المعنى، فإن الله أخبر بأن الرسل متفاضلون، فلا تقول: نبينا خير من الأنبياء، ولا من فلان النبي، اجتناباً لما نهي عنه، وتأدباً به، وعملاً باعتقاد ما تضمنه القرآن من التفضيل)(9).
(1)((الشفا)) (1/ 226) و ((تفسير القرطبي)) (3/ 262) و ((شرح النووي لمسلم)) (14/ 38) و ((فتاوى النووي)) (196) و ((فتح الباري)) (6/ 452) و ((تفسير ابن كثير)) (1/ 305/).
(2)
يعني حديث قصة لطم الأنصاري لليهودي المتقدم ذكرها.
(3)
((البداية والنهاية)) (1/ 285).
(4)
((تأويل مختلف الحديث)) (79)((الشفا)) (1/ 227) و ((شرح صحيح مسلم للنووي)) (14/ 38) و ((تفسير القرطبي)) (3/ 262) و ((تفسير ابن كثير)) (1/ 305) و ((فتح الباري)) (6/ 452) و ((معالم السنن بهامش المختصر)) (7/ 41).
(5)
((الشفا)) (1/ 227).
(6)
((تحفة الأحوذي)) (9/ 119).
(7)
رواه مسلم (2865). من حديث عياض بن حمار رضي الله عنه.
(8)
((المحرر الوجيز)) (1/ 331 - 332).
(9)
((تفسير القرطبي)) (3/ 262).
إلا أن في هذا التوجيه نظراً، فالله عز وجل لما أخبر أنه فضل بعض النبيين على بعض في آية الإسراء، وبعض الرسل على بعض في آية البقرة، جعل يعين في الآيتين بعض المتفاضلين ويذكر بعض الوجوه التي فضلوا بها، فعمم ثم خص كما هو ظاهر من لفظ الآيتين وقد تقدم ذكرهما مراراً (1).
وقد عين الله عز وجل أولي العزم بالذكر وفضلهم على بقية الأنبياء – كما تقدم -، والرسل أفضل من الأنبياء كما دل عليه الدليل واتفق عليه العلماء، فالرسول أفضل من النبي وفي هذا تعيين كما هو ظاهر، أما الإجمال في قوله صلى الله عليه وسلم:((أنا سيد ولد آدم)) فهو دال على التعيين أيضاً، إذ ثبوت كونه صلى الله عليه وسلم أفضل من الأنبياء جملة دليل كونه أفضل من كل واحد منهم مفصلاً، هذا مع قيام دليل على التعيين فلقد استدل العلماء بقوله تعالى: وَلا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ على أن النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من يونس، وهذا شاهد على التعيين، فالمراد بالنهي إذاً غير هذا الوجه.
4 -
أن المراد بالنهي المنع من التفضيل من جهة النبوة التي هي خصلة واحدة لا تفاضل فيها فهم متساوون فيها، وإنما التفاضل بالخصائص والمحن ونحوها (2). قال القرطبي:(وهذا قول حسن فإنه جمع بين الآيات والأحاديث من غير نسخ)(3).
وقال ابن قتيبة في حديث ((لا ينبغي لعبد أن يقول أنا خير من يونس بن متى)): (ويجوز أن يريد لا تفضلوني عليه في العمل فلعله أكثر عملاً مني، ولا في البلوى والامتحان فإنه أعظم مني محنة)(4).
5 -
أن المراد بالنهي منع التفضيل من عند أنفسنا لأن مقام التفضيل إنما هو إلى الله (5)، وروي عن أحمد بن حنبل – رحمه الله – أنه كان يمنع من المفاضلة بين الأنبياء مع قوله بأن بعضهم أفضل من بعض وأن محمداً أفضلهم، لكنه يقول ليس تعيين التفضيل إلى أحد منا (6).
6 -
أن المراد بالنهي منع التفضيل بمجرد الآراء والعصبية (7). وهذا قد يؤول إلى سابقه.
7 -
أن المراد بالنهي منع التفضيل الذي يؤدي إلى الخصومة والتشاجر (8). وذلك في مثل الحال التي تحاكم فيها اليهودي مع الأنصاري عند النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث أبي سعيد وأبي هريرة فهذا التوجيه ملائم لسبب ورود الحديث.
8 – أن المراد بالنهي منع التفضيل الذي يؤدي إلى توهم النقص في المفضول، أو الغض منه، والإزراء به (9).
قال الخطابي في النهي الوارد: (معنى هذا ترك التخيير بينهم على وجه الإزراء ببعضهم، فإنه ربما أدى ذلك إلى فساد الاعتقاد فيهم والإخلال بالواجب من حقوقهم، ويفرض الإيمان بهم، وليس معناه أن يعتقد التسوية بينهم في درجاتهم فإن الله سبحانه قد أخبر أنه قد فاضل بينهم)(10). وممن قال بهذا التوجيه ابن تيمية رحمه الله وعليه حمل حديث أبي سعيد وأبي هريرة المذكور (11). وهو لائق بحديث: ((ما ينبغي لعبد أن يقول: أنا خير من يونس بن متى)).
(1)((تفسير القرطبي)) (3/ 264).
(2)
((الشفا)) (1/ 227) و ((تفسير القرطبي)) (3/ 262) و ((شرح صحيح مسلم للنووي)) (14/ 38) و ((فتاوى النووي)) (196) و ((عون المعبود)) (12/ 425).
(3)
((تفسير القرطبي)) (3/ 262).
(4)
((تأويل مختلف الحديث)) (79).
(5)
((تفسير ابن كثير)) (1/ 305) و ((عون المعبود)) (12/ 424).
(6)
((طبقات الحنابلة)) (2/ 306).
(7)
((تفسير ابن كثير)) (1/ 305).
(8)
((شرح صحيح مسلم للنووي)) (14/ 38) و ((فتاوى النووي)) (196)((تفسير ابن كثير)) (1/ 305).
(9)
((الشفا)) (1/ 227) و ((تفسير القرطبي)) (3/ 262) و ((شرح صحيح مسلم للنووي)) (14/ 38) و ((فتاوى النووي)) (196).
(10)
((معالم السنن – بهامش مختصر سنن أبي داود)) (7/ 38).
(11)
((الفتاوى)) (14/ 436).
فقد ذكر أهل العلم أنه إنما خص يونس عليه السلام بالذكر لما يخشى على من سمع ما قصه الله علينا من شأنه وما كان من قلة صبره، ونهي نبينا عليهما الصلاة والسلام عن أن يكون مثله، من أن يقع في نفسه تنقيص له، فبالغ صلى الله عليه وسلم في ذكر فضل يونس عليه السلام لسد هذه الذريعة (1). إلا أن هناك من خرج بهذه العلة للنهي عن حدها فأطلق حكم النهي لمطلق هذه العلة، فجعل النهي مطلقاً لهذه العلة، فقال كما نقل القرطبي:(لا يقال: النبي أفضل من الأنبياء كلهم ولا من فلان ولا خير، كما هو ظاهر النهي، لما يتوهم من النقص في المفضول، لأن النهي اقتضى منع إطلاق اللفظ لا منع اعتقاد ذلك المعنى، فإن الله تعالى أخبر بأن الرسل متفاضلون، فلا تقول: نبينا خير من الأنبياء، ولا من فلان النبي، اجتناباً لما نهي عنه، وتأدباً به وعملاً باعتقاد ما تضمنه القرآن من التفضيل)(2).
وظاهر هذا الكلام أن المراد من النهي – عند قائله – هو منع تعيين المفضول، لا تفضيل بعض النبيين على بعض في الجملة كما في آخر النقل،
…
، ثم جعل العلة من عدم تعيين المفضول هي دفع توهم نقص المفضول كما في أول النقل، وظاهر هذا جعل تعيين المفضول موهماً نقصه، هكذا بهذا الإطلاق وهو خطأ، ويكفي في الجواب عن القول بألا يقال النبي أفضل من الأنبياء أن يورد حديث أبي هريرة في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:((فضلت على الأنبياء بست)) الحديث (3) .. مباحث المفاضلة في العقيدة لمحمد بن عبدالرحمن الشظيفي – ص 158
(1)((الشفا)) (1/ 227) و ((معالم السنن – بهامش المختصر)) (7/ 41) و ((فتح الباري)) (6/ 452).
(2)
((تفسير القرطبي)) (3/ 262).
(3)
رواه البخاري (523).