الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثانياً: أدلة تحريم هذا الاتخاذ وحكمه ومذاهب العلماء فيه
1 -
عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي لم يقم منه: ((لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)). قالت: فلولا ذاك أبرز (1) قبره غير أنه خُشي أن يتخذ مسجداً (2)
…
2 -
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قاتل الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) (3).
3 و4 - عن عائشة وابن عباس رضي الله عنهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما حضرته الوفاة جعل يلقي على وجهه طرف خميصة له، فإذا اغتم كشفها عن وجهه وهو يقول:((لعنة الله على اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) تقول عائشة: ((يُحذِّر مثل الذي صنعوا)) (4).
قال الحافظ ابن حجر: وكأنه صلى الله عليه وسلم علم أنه مرتحل من ذلك المرض، فخاف أن يعظم قبره كما فعل من مضى، فلعن اليهود والنصارى إشارة إلى ذمّ من يفعل فعلهم
…
5 -
عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما كان مرض النبي صلى الله عليه وسلم تذاكر بعض نسائه كنيسة بأرض الحبشة يقال لها: مارية - وقد كانت أم سلمة وأم حبيبة قد أتتا أرض الحبشة - فذكرن من حسنها وتصاويرها قالت: فرفع النبي صلى الله عليه وسلم رأسه فقال: ((أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً، ثم صوروا تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة)) (5)
قال الحافظ ابن رجب في (فتح الباري): هذا الحديث يدلّ على تحريم بناء المساجد على قبور الصالحين، وتصوير صورهم فيها، كما يفعله النصارى، ولا ريب أن كل واحد منهما محرم على انفراد، فتصوير صور الآدميين محرم، وبناء القبور على المساجد بانفراده محرم، كما دلت عليه نصوص أُخر، يأتي ذكر بعضها. قال: والتصاوير التي في الكنيسة التي ذكرتها أم حبيبة وأم سلمة كانت على الحيطان ونحوها، ولم يكن لها ظل، فتصوير الصور على مثال صور الأنبياء والصالحين للتبرك بها، والاستشفاع بها يحرم في دين الإسلام، وهو من جنس عبادة الأوثان، وهو الذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن أهله شرار الخلق عند الله يوم القيامة، وتصوير الصور للتآنس برؤيتها أو للتنزه بذلك، والتلهي محرم، وهو من الكبائر وفاعله من أشد الناس عذاباً يوم القيامة، فإنه ظالم ممثل بأفعال الله التي لا يقدر على فعلها غيره، والله تعالى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11] لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله سبحانه وتعالى (6)
…
... ولا فرق في التحريم بين التصوير اليدوي والتصوير الآلي والفوتوغرافي، بل التفريق بينهما جمود وظاهرية عصرية
…
6 -
عن جندب بن عبدالله البجلي أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمسٍ وهو يقول: ((قد كان لي فيكم إخوة وأصدقاء، وإني أبرأ إلى الله أن يكون لي فيكم خليل، وإن الله عز وجل قد اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً، ولو كنت متخذاً من أمتي خليلاً، لاتخذت أبا بكرٍ خليلاً، ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك)) (7).
(1) قال الألباني: أي كشف قبره صلى الله عليه وسلم ولم يتخذ عليه الحائل، والمراد دفن خارج بيته، كذا في ((فتح الباري)).
(2)
رواه البخاري (1390)، ومسلم (529).
(3)
رواه البخاري (437)، ومسلم (530).
(4)
رواه البخاري (435، 436)، ومسلم (531).
(5)
رواه البخاري (427)، ومسلم (528).
(6)
((فتح الباري)) لابن رجب (3/ 197، 198).
(7)
رواه مسلم (532).
7 -
عن الحارث النجراني قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمسٍ وهو يقول: ((ألا وإنَّ من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد إني أنهاكم عن ذلك)) (1).
8 -
عن أسامة بن زيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في مرضه الذي مات فيه: ((أدخلوا عليَّ أصحابي فدخلوا عليه وهو متقنع ببردة معافريّ، فكشف القناع فقال: لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) (2).
9 -
عن أبي عبيدة بن الجراح قال: آخر ما تكلم به النبي صلى الله عليه وسلم: ((أخرجوا يهود أهل الحجاز وأهل نجران من جزيرة العرب، واعلموا أن شرار الناس الذي اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) (3).
10 -
عن زيد بن ثابت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لعن الله (وفي روايةٍ: قاتل الله) اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) (4).
11 -
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اللهم لا تجعل قبري وثناً، لعن الله قوماً اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) (5).
12 -
عن عبدالله بن مسعود قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن من شرار الناس من تدركه الساعة وهم أحياء، ومن يتخذ القبور مساجد)) (6).
13 -
عن علي بن أبي طالب قال: ((لقيني العباس فقال: يا علي انطلق بنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فإن كان لنا من الأمر شيء وإلا أوصى بنا الناس، فدخلنا عليه، وهو مغمى عليه، فرفع رأسه فقال: لعن الله اليهود اتخذوا قبور الأنبياء مساجد)). زاد في رواية: ((ثم قالها الثالثة)). فلما رأينا ما به خرجنا ولم نسأله عن شيءٍ (7)
…
(1) رواه ابن أبي شيبة (2/ 150)(7546). قال الألباني في ((تحذير الساجد)): وإسناده صحيح على شرط مسلم.
(2)
رواه أحمد (5/ 203)(21822)، والطبراني (1/ 164). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (2/ 30): رواه أحمد والطبراني في ((الكبير))، ورجاله موثقون. وقال الشوكاني في ((نيل الأوطار)) (2/ 139): إسناده جيد. وقال الألباني في ((تحذير الساجد)): سنده حسن في الشواهد.
(3)
رواه أحمد (1/ 195)(1691) و (1/ 196)(1699)، والدارمي (2/ 305)، والبيهقي (9/ 208)، وأبو يعلى (2/ 177). قال الذهبي في ((المهذب)) (7/ 3775): إسناده صالح. وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (5/ 328): [روي] بإسنادين ورجال طريقين منها ثقات متصل إسنادهما. وقال أحمد شاكر في ((المسند)) (3/ 146): إسناده صحيح. وقال الألباني في ((تحذير الساجد)): سنده صحيح.
(4)
رواه أحمد (5/ 184)(21644) و (5/ 186)(21667)، والطبراني (5/ 150). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (2/ 30): رواه الطبراني في ((الكبير)) ورجاله موثقون. وقال الألباني في ((تحذير الساجد)): صحيح بشواهده المتقدمة.
(5)
رواه أحمد (2/ 246)(7352)، وأبو يعلى (12/ 33)، والحميدي (2/ 445). قال أحمد شاكر في ((المسند)) (13/ 88): إسناده صحيح. وقال الألباني في ((تحذير الساجد)): سنده صحيح. وقال شعيب الأرناؤوط محقق ((المسند)): إسناده قوي.
(6)
الشطر الأول من الحديث رواه البخاري معلقاً بصيغة الجزم (7067)، والحديث رواه موصولاً أحمد (1/ 405)(3844)، وابن حبان (15/ 260)، والطبراني (10/ 188)، وأبو يعلى (9/ 216). قال أحمد شاكر في ((المسند)) (5/ 324): إسناده صحيح. وقال الألباني في ((تحذير الساجد)): صحيح.
(7)
رواه ابن سعد في ((الطبقات الكبرى)) (4/ 28)، وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (42/ 426). وقال الألباني في ((تحذير الساجد)): هذا إسناد حسن لولا أنني لم أعرف أبا بكر هذا، ولم يورده الدولابي، وأبو أحمد الحاكم في ((الكنى)).
إن كل من يتأمل في تلك الأحاديث الكريمة يظهر له بصورةٍ لا شك فيها أن الاتخاذ المذكور حرام، بل كبيرة من الكبائر، لأن اللعن الوارد فيها، ووصف المخالفين بأنهم شرار الخلق عند الله تبارك وتعالى، لا يمكن أن يكون في حقّ من يرتكب ما ليس كبيرة كما لا يخفى.
مذاهب العلماء في ذلك:
وقد اتفقت المذاهب الأربعة على تحريم ذلك، ومنهم من صرح بأنه كبيرة وإليك تفاصيل المذاهب في ذلك:
1 -
مذهب الشافعية أنه كبيرة:
قال الفقيه ابن حجر الهيتمي: الكبيرة الثالثة والرابعة والخامسة والسادسة والسابعة والثامنة والتسعون: اتخاذ القبور مساجد، وإيقاد السرج عليها واتخاذها أوثاناً، والطواف بها، واستلامها، والصلاة إليها (1).
ثم ساق بعض الأحاديث المتقدمة وغيرها، ثم قال:(تنبيه): عدّ هذه الستة من الكبائر وقع في كلام بعض الشافعية،
…
ووجه اتخاذ القبر مسجداً منها واضح، لأنه لعن من فعل ذلك بقبور أنبيائه، وجعل من فعل ذلك بقبور صلحائه شر الخلق عند الله تعالى يوم القيامة، ففيه تحذير لنا كما في رواية:((يُحذِّر مثل الذي صنعوا)) (2) أي يُحذِّر أمته بقوله لهم ذلك من أن يصنعوا كصنع أولئك، فيلعنوا كما لعنوا، ومن ثم قال أصحابنا: تحرم الصلاة إلى قبور الأنبياء والأولياء تبركاً وإعظاماً، ومثلها الصلاة عليه للتبرك والإعظام، وكون هذا الفعل كبيرة ظاهرة من الأحاديث المذكورة لما علمت، فقال بعض الحنابلة: قصد الرجل الصلاة عند القبر متبركاً به عين المحادّة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم وابتداع دين لم يأذن به الله، للنهي عنها ثم إجماعاً، فإن أعظم المحرمات وأسباب الشرك الصلاة عندها، واتخاذها مساجد، أو بناؤها عليها والقول بالكراهة محمول على غير ذلك، إذ لا يظن بالعلماء تجويز فعل تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم لعن فاعله، ويجب المبادرة لهدمها، وهدم القباب التي على القبور إذ هي أضر من مسجد الضرار، لأنها أسست على معصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه نهى عن ذلك، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بهدم القبور المشرفة، وتجب إزالة كل قنديل أو سراج على قبر، ولا يصح وقفه ونذره. اهـ. (3).
هذا كله كلام الفقيه ابن حجر الهيتمي، وأقره عليه المحقق الألوسي في (روح المعاني)(4)، وهو كلام يدل على فهم وفقه في الدين؛ وقوله فيما نقله عن بعض الحنابلة: والقول بالكراهة محمول على غير ذلك كأنه يشير إلى قول الشافعي: وأكره أن يُبنى على القبر مسجد وأن يُسوّى، أو يُصلّى عليه، وهو غير مُسوّى - يعني: أنه ظاهر معروف - أو يُصلّى إليه، قال: وإن صلى إليه أجزأه وقد أساء، أخبرنا مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((قاتل الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) (5). قال: وأكره هذا للسنة والآثار، وأنه كره - والله تعالى أعلم - أن يُعظّم أحد من المسلمين، يعني يتخذ قبره مسجداً، ولم تُؤمن في ذلك الفتنة والضلال على ما يأتي بعده (6).
(1)((الزواجر عن اقتراف الكبائر)) (1/ 120).
(2)
رواه البخاري (435، 436)، ومسلم (531).
(3)
((الزواجر عن اقتراف الكبائر)) (1/ 121).
(4)
((روح المعاني)) (5/ 31).
(5)
رواه مالك في ((الموطأ)) (2/ 892) مرسلاً. من حديث عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه. ورواه موصولاً البخاري (437)، ومسلم (530) بدون لفظة:(النصارى)، وأحمد (2/ 285) (7818) واللفظ له. من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. قال شعيب الأرناؤوط محقق المسند: إسناده صحيح على شرط الشيخين.
(6)
((الأم)) (ص246).
وعلى هذا أتباعه من الشافعية كما في (التهذيب)، وشرحه (المجموع) ومن الغريب أنهم يحتجون على ذلك ببعض الأحاديث
…
مع أنها صريحة في تحريم ذلك، ولعن فاعله، ولو أن الكراهة كانت عندهم للتحريم لقرب الأمر، ولكنها لديهم للتنزيه فكيف يتفق القول بالكراهة مع تلك الأحاديث التي يستدلون بها عليها؟!
أقول هذا، وإن كنت لا أستبعد حمل الكراهة في عبارة الشافعي المتقدمة خاصة على الكراهة التحريمية؛ لأنه هو المعنى الشرعي المقصود في الاستعمال القرآني، ولا شك أن الشافعي متأثر بأسلوب القرآن غاية التأثر، فإذا وقفنا في كلامه على لفظ له معنى خاص في القرآن الكريم وجب حمله عليه، لا على المعنى المصطلح عليه عند المتأخرين، فقد قال تعالى: وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ [الحجرات:7] وهذه كلها محرمات، فهذا المعنى - والله أعلم - هو الذي أراده الشافعي رحمه الله بقوله المتقدم:(وأكره)، ويؤيده أنه قال عقب ذلك: وإن صلى إليه أجزأه، وقد أساء؛ فإن قوله:(أساء) معناه: ارتكب سيئة، أي حراماً، فإنه هو المراد بالسيئة في أسلوب القرآن أيضاً، فقد قال تعالى في سورة (الإسراء) بعد أن نهى عن قتل الأولاد، وقربان الزنى، وقتل النفس وغير ذلك: كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا [الإسراء: 38] أي: محرماً.
ويؤكد أنّ هذا المعنى هو المراد من الكراهة في كلام الشافعي في هذه المسألة: أن مذهبه أن الأصل في النهي التحريم، إلا ما دلّ الدليل على أنه لمعنى آخر، كما صرح بذلك في رسالته (جماع العلم)(1) ونحوه في كتابه (الرسالة)(2)، ومن المعلوم لدى كل من درس هذه المسألة بأدلتها أنه لا يوجد أي دليل يصرف النهي الوارد في بعض الأحاديث المتقدمة إلى غير التحريم كيف والأحاديث تؤكد أنه للتحريم
…
؟ ولذلك فإني أقطع بأن التحريم هو مذهب الشافعي، لاسيما وقد صرح بالكراهة بعد أن ذكر حديث:((قاتل الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) (3)
…
فلا غرابة إذاً إن صرح الحافظ العراقي -وهو شافعي المذهب - بتحريم بناء المسجد على القبر كما تقدم والله أعلم.
ولهذا نقول: لقد أخطأ من نسب إلى الإمام الشافعي القول بإباحة تزوج الرجل بنته من الزنى بحجّة أنه صرّح بكراهة ذلك والكراهة لا تنافي الجواز إذا كانت للتنزيه! قال ابن القيم: نصّ الشافعي على كراهة تزوج الرجل بنته من ماء الزنى، ولم يقل قطّ أنه مباح ولا جائز، والذي يليق بجلالته وإمامته
ومنصبه الذي أحلّه الله به من الدين أن هذه الكراهة منه على وجه التحريم، وأطلق لفظ الكراهة لأن الحرام يكرهه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وقد قال تعالى عقب ذكر ما حرمه من المحرمات من عند
قوله: وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ
…
[الإسراء: 23] إلى قوله: وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ
…
[الأنعام:151] إلى قوله: وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [الإسراء: 36] إلى آخر الآيات ثم قال: كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا [الإسراء:38]، وفي (الصحيح):((إن الله عز وجل كره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال وإضاعة المال)) (4).
(1)((جماع العلم)) (ص125).
(2)
((الرسالة)) (ص343).
(3)
رواه البخاري (437)، ومسلم (530) بدون لفظ:(النصارى)، وأحمد (2/ 285) (7818) واللفظ له. من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. قال شعيب الأرناؤوط محقق المسند: إسناده صحيح على شرط الشيخين.
(4)
رواه البخاري (2408) من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه. ومسلم (1715) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
فالسلف كانوا يستعملون الكراهة في معناها الذي استعملت فيه في كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولكن المتأخرين اصطلحوا على تخصيص الكراهة بما ليس بمحرّم، وتركه أرجح من فعله، ثم حمل من حمل منهم كلام الأئمة على الاصطلاح الحادث، فغلط في ذلك، وأقبح غلطاً منه من حمل لفظ الكراهة، أو لفظ لا ينبغي في كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم على المعنى الاصطلاحي الحادث! (1)
…
2 -
مذهب الحنفية الكراهة التحريمية:
والكراهة بهذا المعنى الشرعي قد قال به هنا الحنفية فقال الإمام محمد تلميذ أبي حنيفة: لا نرى أن يُزاد على ما خرج من القبر ونكره أن يُجصص أو يُطين أو يُجعل عنده مسجدا (2).
والكراهة عند الحنفية إذا أُطلقت فهي للتحريم كما هو معروف لديهم وقد صرح بالتحريم في هذه المسألة ابن الملك منهم
…
3 -
مذهب المالكية التحريم:
وقال القرطبي - بعد أن ذكر الحديث الخامس (3) -: قال علماؤنا: وهذا يحرم على المسلمين أن يتخذوا قبور الأنبياء والعلماء مساجد (4).
4 -
مذهب الحنابلة التحريم:
ومذهب الحنابلة التحريم أيضا كما في (شرح المنتهى)(5) وغيره بل نص بعضهم على بطلان الصلاة في المساجد المبنية على القبور ووجوب هدمها فقال ابن القيم في (زاد المعاد) في صدد بيان ما تضمنته غزوة تبوك من الفقه والفوائد وبعد أن ذكر قصة مسجد الضرار الذي نهى الله تبارك وتعالى نبيه أن يصلي فيه وكيف أنه صلى الله عليه وسلم هدمه وحرقه؛ قال: ومنها تحريق أمكنة المعصية التي يُعصى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فيها، وهدمها كما حرق رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجد الضرار وأمر بهدمه وهو مسجد يُصلى فيه ويُذكر اسم الله فيه لما كان بناؤه ضرراً وتفريقاً بين المؤمنين ومأوى للمنافقين وكل مكانٍ هذا شأنه فواجب على الإمام تعطيله إما بهدمٍ أو تحريقٍ وإما بتغيير صورته وإخراجه عما وُضع له وإذا كان هذا شأن مسجد الضرار فمشاهد الشرك التي تدعو سدنتها إلى اتخاذ من فيها أنداداً من دون الله أحقّ بذلك وأوجب
…
ومنها: أن الوقف لا يصحّ على غير برّ ولا قربة كما لم يصحّ وقف هذا المسجد وعلى هذا فيهدم المسجد إذا بُني على قبر كما يُنبش الميت إذا دُفن في المسجد نصّ على ذلك الإمام أحمد وغيره؛ فلا يجتمع في دين الإسلام مسجد وقبر بل أيهما طرأ على الآخر منع منه وكان الحكم للسابق فلو وضعا معاً لم يجز ولا يصحّ هذا الوقف، ولا يجوز ولا تصحّ الصلاة في هذا المسجد لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك ولعنه من اتخذ القبر مسجداً أو أوقد عليه سراجاً (6) فهذا دين الإسلام الذي بعث الله به رسوله ونبيه، وغربته بين الناس كما ترى (7).
(1)((إعلام الموقعين)) (1/ 47 - 48).
(2)
((الآثار)) لمحمد بن الحسن الشيباني (ص45).
(3)
وهو حديث عائشة رضي الله عنها قالت: لما كان مرض النبي صلى الله عليه وسلم تذاكر بعض نسائه كنيسة بأرض الحبشة يقال لها: مارية - وقد كانت أم سلمة وأم حبيبة قد أتتا أرض الحبشة - فذكرن من حسنها وتصاويرها قالت: فرفع النبي صلى الله عليه وسلم رأسه فقال: ((أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً، ثم صوروا تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة)). رواه البخاري (427)، ومسلم (528).
(4)
((الجامع لأحكام القرآن)) للقرطبي (10/ 38).
(5)
((شرح منتهى الإرادات)) للبهوتي (1/ 353).
(6)
((زاد المعاد)) (3/ 22).
(7)
((زاد المعاد)) (3/ 22).
فتبين مما نقلناه عن العلماء أن المذاهب الأربعة متفقة على ما أفادته الأحاديث المتقدمة من تحريم بناء المساجد على القبور. وقد نقل اتفاق العلماء على ذلك أعلم الناس بأقوالهم ومواضع اتفاقهم واختلافهم ألا وهو شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فقد سُئل رحمه الله بما نصه: هل تصح الصلاة على المسجد إذا كان فيه قبر والناس تجتمع فيه لصلاتي الجماعة والجمعة أم لا؟ وهل يُمهد القبر أو يُعمل عليه حاجز أو حائط؟
فأجاب: الحمد لله، اتفق الأئمة أنه لا يُبنى مسجد على قبرٍ لأنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال:((إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك)) (1).
وأنه لا يجوز دفن ميت في مسجد فإن كان المسجد قبل الدفن غُيِّر إما بتسويةِ القبر، وإما بنبشه إن كان جديداً، وإن كان المسجد بُني بعد القبر فإما أن يُزال المسجد، وإما أن تُزال صورة القبر؛ فالمسجد الذي على القبر لا يُصلّى فيه فرض ولا نفل فإنه منهيٌ عنه (2).
وقد تبنّت دار الإفتاء في الديار المصرية فتوى شيخ الإسلام ابن تيمية هذه فنقلتها عنه في فتوى لها أصدرتها تنصّ على عدم جواز الدفن في المسجد فليراجعها من شاء في (مجلة الأزهر)(3)
وقال ابن تيمية: يحرم الإسراج على القبور واتخاذ المساجد عليها وبينها ويتعين إزالتها ولا أعلم فيه خلافا بين العلماء المعروفين (4)
…
وهكذا نرى أن العلماء كلهم اتفقوا على ما دلت عليه الأحاديث من تحريم اتخاذ المساجد على القبور فنحذّر المؤمنين من مخالفتهم والخروج عن طريقتهم خشية أن يشملهم وعيد قوله عز وجل: وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [النساء:115] وإِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ [ق:37]. تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد لمحمد ناصر الدين الألباني - ص10
فأما العكوف والمجاورة عند شجرة أو حجر، تمثال أو غير تمثال، أو العكوف والمجاورة عند قبر نبي، أو غير نبي، أو مقام نبي أو غير نبي، فليس هذا من دين المسلمين. بل هو من جنس دين المشركين، الذين أخبر الله عنهم بما ذكره في كتابه، حيث قال: وَلَقَدْ آَتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ قَالُوا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ [الأنبياء:51 - 58].
(1) رواه مسلم (532). من حديث جندب رضي الله عنه.
(2)
((مجموع الفتاوى)) (1/ 107)، و (2/ 192).
(3)
((مجلة الأزهر)) (112/ 501، 503).
(4)
((الاختيارات العلمية)) (ص52).
وقال تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آَبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ [الشعراء:69 - 82].
وقال تعالى: وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ [الأعراف:138 - 140].
فهذا عكوف المشركين، وذاك عكوف المسلمين، فعكوف المؤمنين في المساجد لعبادة الله وحده لا شريك له، وعكوف المشركين على ما يرجونه، ويخافونه من دون الله، ومن يتخذونهم شركاء وشفعاء، فإن المشركين لم يكن أحد منهم يقول: إن العالم له خالقان، ولا إن الله له شريك يساويه في صفاته. هذا لم يقله أحد من المشركين، بل كانوا يُقرّون بأن خالق السماوات والأرض واحد كما أخبر الله عنهم بقوله: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ [لقمان:25]، وقوله تعالى: قُلْ لِّمَنِ الأرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ [المؤمنون:84 - 89].
وكانوا يقولون في تلبيتهم: لبيك لا شريك لك، إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك فقال تعالى لهم: ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ [الروم:28]. وكانوا يتخذون آلهتهم وسائط تقربهم إلى الله زُلفى، وتشفع لهم كما قال تعالى: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر:3] وقال تعالى: أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلا يَعْقِلُونَ قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ [الزمر:43 - 44].
وقال تعالى: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأرْضِ [يونس:18].
وقال تعالى عن صاحب يس: وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلا يُنْقِذُونِ إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ [يس:22 - 25].
وقال تعالى: وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ [الأنعام: 94]
وقال تعالى: مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ [السجدة:4] وقال تعالى: وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [الأنعام:51]. اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية - 2/ 827
قال الشيخ حافظ الحكمي-رحمه الله تعالى- في شرح منظومة سلم الوصول
وَمَنْ عَلَى الْقَبْرِ سِرَاجًا أَوْقَدَا
…
أوِ ابْتَنَى عَلَى الضَّرِيحِ مَسْجِدا
فإِنَّهُ مُجَدِّدٌ جِهَارا
…
لِسُنَنِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى
(ومن على القبر) متعلق بأوقد (سراجا) مفعول (أوقدا) بألف الإطلاق، والمعنى: ومن أوقد سراجاً على القبر (أو ابتنى) بمعنى: بنا وزيدت التاء فيه لمعنى الاتخاذ (على الضريح) أي: على القبر، واشتقاقه من الضرح الذي هو الشق (مسجدا) أو اتخذ القبر نفسه مسجدا ولو لم يبن عليه (فإنه) أي فاعل ذلك (مجدد) بفعله ذلك (جهاراً) أي تجديداً واضحاً مجاهراً به الله ورسوله وأولياءه (لسنن) أي لطرائق (اليهود والنصارى) في اتخاذهم قبور أنبيائهم مساجد ويعكفون عليها، وأعياد لهم ينتابونها، ويترددون إليها، كيف وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم للذين طلبوا منه ذات أنواط:((الله أكبر، إنها السنن، قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ لتتبعن سنن من كان قبلكم)) (1) وقال صلى الله عليه وسلم: ((لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع حتى لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه)). قلنا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: ((فمن؟)) أخرجاه من حديث أبي سعيد رضي الله عنه (2)، وقد وقع الأمر والله كما أخبر صلى الله عليه وسلم به، فالله المستعان.
كَمْ حَذَّرَ الْمُخْتَارُ عَنْ ذَا وَلَعَنْ
…
فَاعِلَهُ كَمَا رَوَى أَهْلُ السُّنَنْ
بَلْ قَدْ نَهَى عَنِ ارْتِفَاعِ الْقَبْرِ
…
وَأَنْ يُزَادَ فِيهِ فَوْقَ الشِّبْرِ
وَكُلُّ قَبْرٍ مُشْرِفٍ فَقَدْ أَمَرْ
…
بِأَنْ يُسَوَّى هَكَذَا صَحَّ الْخَبَرْ
(1) رواه ابن حبان (6702)، والطبراني (3/ 244). من حديث أبي واقد الليثي رضي الله عنه. قال شعيب الأرناؤوط محقق ((صحيح ابن حبان)): إسناده صحيح على شرط مسلم.
(2)
رواه البخاري (3456)، ومسلم (2669).
(كم) خبرية للتكثير (حذر المختار) نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم (عن ذا) الفعل من اتخاذ القبور مساجد وأعياداً والبناء عليها وإيقاد السرج عليها، كما في (الصحيح) عن عائشة رضي الله عنها: أن أم سلمة ذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم كنيسة رأتها بأرض الحبشة يقال لها: مارية فذكرت له ما رأت فيها من الصور، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((أولئك قوم إذا مات فيهم العبد الصالح - أو الرجل الصالح - بنوا على قبره مسجداً وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله)) (1). وفيه - أي في (الصحيح) - عنها هي - أي: عائشة - وعبدالله بن عباس رضي الله عنهم: قال: لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم طفق يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتم بها كشفها عن وجهه فقال وهو كذلك:((لعنة الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) يُحذِّر ما صنعوا (2) وفيه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((قاتل الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) (3). وعن أبي مرثد الغنوي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تصلوا إلى القبور ولا تجلسوا عليها)) رواه الجماعة إلا البخاري، وابن ماجه (4)، وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم ولا تتخذوها قبوراً)) رواه الجماعة إلا ابن ماجه (5). وعن جندب بن عبدالله البجلي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمسٍ وهو يقول: ((إنَّ من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، إنّي أنهاكم عن ذلك)) رواه مسلم (6). وعن جابر رضي الله عنه قال: ((نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر، وأن يقعد عليه، وأن يبنى عليه)) رواه أحمد ومسلم والثلاثة (7) وصححه الترمذي ولفظه: ((نهى أن تجصص القبور وأن يكتب عليها وأن يبنى عليها وأن توطأ))، وفي لفظ النسائي:((نهى أن يبنى على القبر أو يزاد عليه أو يجصص أو يكتب عليه))، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال:((لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج)) رواه أهل السنن (8). وللترمذي وصححه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوارات القبور)) (9).
(1) رواه البخاري (427)، ومسلم (528).
(2)
رواه البخاري (435، 436)، ومسلم (531).
(3)
رواه البخاري (437)، ومسلم (530) بدون لفظة:(النصارى)، وأحمد (2/ 285) (7818) واللفظ له. من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. قال شعيب الأرناؤوط محقق المسند: إسناده صحيح على شرط الشيخين.
(4)
رواه مسلم (972)، وأبو داود (3229)، والترمذي (1050)، والنسائي (2/ 67).
(5)
رواه البخاري (432)، ومسلم (777)، وأبو داود (1043)، والترمذي (451)، والنسائي (3/ 197).
(6)
رواه مسلم (532).
(7)
رواه مسلم (970)، وأبو داود (3225)، والترمذي (1052)، والنسائي (4/ 87)، وأحمد (3/ 295)(14181).
(8)
رواه أبو داود (3236)، والترمذي (320)، والنسائي (4/ 94). والحديث سكت عنه أبو داود. وقال الترمذي: حسن. ووافقه البغوي في ((شرح السنة)) (2/ 150)، وابن حجر في ((هداية الرواة)) (1/ 345) - كما أشار لذلك في مقدمته -. وقال الألباني في ((تحذير الساجد)) (59): الحديث صحيح لغيره إلا (اتخاذ السرج) فإنه: منكر، لم يأت إلا من هذا الطريق الضعيف.
(9)
رواه الترمذي (1056). وقال: هذا حديث حسن صحيح. وقال البغوي في ((شرح السنة)) (2/ 151): صحيح. وقال ابن القطان في ((المحرر)) (206)، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)): حسن.
ولابن ماجه مثله من حديث حسان رضي الله عنه (1)، ولأحمد بسند جيد عن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعاً:((إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء، والذين يتخذون القبور مساجد)) رواه أبو حاتم ابن حبان في (صحيحه)(2). وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تجعلوا بيوتكم قبوراً، ولا تجعلوا قبري عيداً، وصلوا عليَّ فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم)) رواه أبو داود بإسناد حسن ورواته ثقات (3)
…
، وقال سعيد بن منصور في (سننه): حدثنا عبدالعزيز بن محمد أخبرني سهيل بن أبي صالح قال: رآني الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عند القبر فناداني وهو في بيت فاطمة رضي الله عنها يتعشَّى فقال: هلم إلى العشاء، فقلت لا أريده، فقال: مالي رأيتك عند القبر؟ فقلت: سلمت على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إذا دخلت المسجد فسلم. ثم قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تتخذوا قبري عيداً، ولا تتخذوا بيوتكم مقابر، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم. لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)). ما أنتم ومن بالأندلس إلا سواء (4). وروى مالك في (الموطأ) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد، اشتد غضب الله على قومٍ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) (5). وفي الباب أحاديث غير ما ذكرنا.
(وقد نهى) النبي صلى الله عليه وسلم، عن (ارتفاع القبر) بالبناء أو نحوه، كما تقدم من النهي عن تجصيصها والبناء عليها،
…
من الأمر بتسويتها (وأن يزاد فيه فوق شبر) كما في (السنن) عن جابر رضي الله عنه قال: ((نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يُبنى على القبر أو يُزاد عليه أو يُجصص)) (6).
(وكل قبر مشرف) يعني مرتفع (فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم (بأن يُسوّى) بالأرض أو بما عداه من القبور التي لم تجاوز الشرع في ارتفاعها، (هكذا صح الخبر)، وهو ما رواه مسلم عن ثمامة بن شُفِي قال: كنا مع فَضالة بن عبيد بأرض الروم برودس فتوفي صاحب لنا، فأمر فَضالة بن عبيد بقبره فسوي ثم قال:((سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بتسويتها)) (7). وله عن أبي الهياج الأسدي قال: قال لي علي بن أبي طالب: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ((ألا تدع تمثالاً إلا طمسته، ولا قبراً مشرفاً إلا سوَّيته)) (8). معارج القبول بشرح سلم الوصول لحافظ الحكمي – 2/ 659
(1) رواه ابن ماجه (1279). قال البوصيري في ((زوائد ابن ماجه)) (2/ 43 - 44): هذا إسناد صحيح رجاله ثقات. وقال الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)): حسن.
(2)
رواه أحمد (1/ 405)(3844)، وابن حبان (15/ 260)، ورواه الطبراني (10/ 188)، وأبو يعلى (9/ 216)، والشطر الأول من الحديث رواه البخاري معلقاً بصيغة الجزم (7067). قال ابن تيمية في ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (ص330): رواه أحمد بإسنادٍ جيد. وقال أحمد شاكر في ((المسند)) (5/ 324): إسناده صحيح. وقال الألباني في ((تحذير الساجد)): صحيح.
(3)
رواه أبو داود (2042). وسكت عنه. وصحح إسناده عبد الحق الإشبيلي في ((الأحكام الصغرى)) (892) - كما أشار لذلك في مقدمته -، والنووي في ((الأذكار)) (154). وقال ابن تيمية في ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (2/ 169): إسناده حسن وله شواهد. وقال ابن حجر في ((الفتوحات الربانية)) (3/ 314): حسن. وقال الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)): صحيح.
(4)
رواه سعيد بن منصور في ((سننه)) مرسلاً كما في ((اقتضاء الصراط المستقيم)) لابن تيمية (ص106). قال ابن القيم في ((إغاثة اللهفان)) (1/ 301)، وابن عبدالهادي الحنبلي في ((الصارم المنكي)) (322): مرسل. قال الألباني في ((أحكام الجنائز)) (ص220): مرسل بإسنادٍ قوي.
(5)
رواه مالك في ((الموطأ)) (1/ 172) مرسلاً عن عطاء بن يسار رحمه الله. قال ابن عبد البر في ((الاستذكار)) (2/ 347): روي متصلاً مسنداً. وقال ابن حجر في ((هداية الرواة)) (1/ 349): مرسل. وقال الألباني في ((غاية المرام)) (126): صحيح.
(6)
رواه النسائي (4/ 86)، والبيهقي (3/ 410). قال المعلمي في ((البناء على القبور)) (94): رواته ثقات، وفيه ما يعلم مما تقدم [يعني عنعنة ابن جريج مع الزيادة]. وقال الألباني في ((صحيح سنن النسائي)): صحيح.
(7)
رواه مسلم (968).
(8)
رواه مسلم (969).