الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «المائدة»
«1» وقد تقدم وجه في مناسبتها.
أقول: هذه السورة أيضا شارحة لبقية مجملات سورة البقرة، فإن آية الأطعمة والذبائح فيها أبسط منها في البقرة «2» .
وكذا ما أخرجه الكفار تبعا لآبائهم في البقرة موجز «3» وفي هذه السورة مطنب أبلغ إطناب في قوله تعالى: ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ [الآية 103] .
وفي البقرة ذكر القصاص في القتلى «4» . وهنا ذكر أول من سن القتل، والسبب الذي لأجله وقع، وقال تعالى مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، الطبعة الثانية، 1398 هـ/ 1978 م.
(2)
. قال تعالى هنا: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ [الآية 3] الى وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ [الآية 5] . أمّا في البقرة فلم يكن هذا التفصيل، إذ قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ [البقرة/ 172] . ثم قال: إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ [البقرة/ 173] . [.....]
(3)
. في البقرة: يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ [البقرة/ 168] .
(4)
. من دلائل الترتيب أنه قال تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى في [البقرة/ 178] . ثم زاده بيانا في السورة نفسها فقال: وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ [البقرة/ 179] . ثم قال تعالى: وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ [الآية 194] . ثم ذكر قتل الخطأ والنسيان في النساء فقال تعالى: وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ [النساء/ 92] . وزاد تفصيل القصاص فيما ساقه المؤلف في الآية 32 من المائدة. ثم فصل أحكام القصاص في قوله تعالى: وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ [الآية 45] .
وهذا تدرج بديع يدل على إحكام الترتيب والتلاحم.
[الآية 32] . وذلك أبسط من قوله تعالى في [البقرة/ 179] : وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ.
وفي البقرة: وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ [البقرة/ 58] . وذكر في قصتها هنا: فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ [الآية 54] .
وفي البقرة قصة الأيمان موجزة، وزاد هنا بسطا بذكر الكفارة «1» .
وفي البقرة، قال في الخمر والميسر: فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما [البقرة/ 219] . وزاد هنا في هذه السورة ذمها، وصرح بتحريمها «2» .
وفي سورة المائدة من الاعتلاق بسورة الفاتحة: بيان المغضوب عليهم والضالين في قوله تعالى: قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ [الآية 60] . وقوله تعالى: قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (77) .
وأما اعتلاقها بسورة النساء، فقد ظهر لي فيه وجه بديع جدا. وذلك أن سورة النساء اشتملت على عدة عقود صريحة وضمنية.
فالصريحة: عقود الأنكحة، وعقد الصداق، وعقد الحلف، في قوله تعالى: وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ [النساء/ 33] . وعقد الأيمان في هذه الآية وبعد ذلك عقد المعاهدة والأمان في قوله تعالى: إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ [النساء/ 90] . وقوله تعالى: وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ [النساء/ 92] .
والضمنية: عقد الوصية، والوديعة، والوكالة، والعارية، والإجارة، وغير ذلك من الداخل في عموم قوله تعالى:
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها [النساء/ 58] . فناسب أن يعقب بسورة مفتتحة بالأمر بالوفاء بالعقود.
(1) . قال هنا: لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ [الآية 89] .
وقال في البقرة: لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225) .
(2)
. في هذه السورة قال تعالى: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ.
فكأنه قيل (في المائدة) : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [الآية 1] التي فرغ من ذكرها في السورة التي تمت. فكان ذلك غاية في التلاحم والتناسب والارتباط.
ووجه آخر في تقديم سورة النساء، وتأخير سورة المائدة، وهو: أن تلك أولها: يا أَيُّهَا النَّاسُ [النساء/ 1] وفيها الخطاب بذلك في مواضع، وهو أشبه بخطاب المكي، وتقديم العام «1» وشبه المكي أنسب.
ثم إن هاتين السورتين (النساء والمائدة) ، في التقديم والاتحاد، نظير البقرة وآل عمران، فتلكما في تقرير الأصول، من الوحدانية، والكتاب، والنبوة، وهاتان في تقرير الفروع الحكمية.
وقد ختمت المائدة بصفة القدرة، كما افتتحت النساء بذلك «2» .
وافتتحت النساء ببدء الخلق، وختمت المائدة بالمنتهى من البعث والجزاء «3» فكأنهما سورة واحدة، اشتملت على الأحكام من المبتدأ إلى المنتهى.
ولما وقع في سورة النساء: إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ [النساء/ 105] . فكانت نازلة في قصة سارق سرق درعا «4» ، فصل في سورة المائدة أحكام السراق والخائنين.
ولما ذكر في سورة النساء أنه أنزل إليك الكتاب للحكم بين الناس، ذكر في سورة المائدة آيات في الحكم بما أنزل الله حتى بين الكفار، وكرر قوله
(1) . يريد بالعام: الخطاب ب يا أيّها النّاس، فهو أعم من: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [الآية 1] . أو يا أَهْلَ الْكِتابِ [النساء/ 171] .
(2)
. ختام المائدة قوله تعالى لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120) . وأول النساء: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ [النساء/ 1] . وهو دليل القدرة.
(3)
. بدء الخلق في أول النساء قوله تعالى: الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ [النساء/ 1] . والمنتهى في ختام المائدة قوله تعالى: هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ [الآية 119] .
(4)
. قصة الدرع أخرجها ابن كثير في التفسير: 2/ 358، 359، وعزاها الى ابن مردويه، من طريق عطية العوفي.
ورواها الترمذي في حديث طويل فيه سرقة طعام وسلاح: 8/ 395- 399 بتحفة الاحوذي. وأخرجه الحاكم في المستدرك 4/ 385- 388، وانظر ارشاد الرحمن في المتشابه والناسخ والمنسوخ وأسباب النزول وتجويد القرآن للاجهوري ورقة: 136 أ، ب لزيادة التفاصيل.
تعالى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ [الآيات 44- 45 و 47] .
فانظر إلى هذه السور الأربع المدنيات، وحسن ترتيبها، وتلاحمها، وتناسقها، وتلازمها.
وقد افتتحت بالبقرة التي هي أول ما نزل بالمدينة، وختمت بالمائدة التي هي آخر ما نزل بها، كما في حديث الترمذي «1» .
(1) . أخرج الترمذي عن عبد الله بن عمرو بن العاص: 8/ 436، 437:(آخر سورة نزلت المائدة والفتح) . وقال المياركفوري: روى الشيخان عن البراء: آخر آية نزلت يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ [النساء/ 176] . وآخر سورة نزلت سورة التوبة. وردّ البيهقي هذا التعارض بأن كل واحد أجاب بما عنده. وقال الباقلاني: ليس في هذه الأقوال شيء مرفوع الى النبي (ص) وكل واحد قال بضرب اجتهاد (تحفة الاحوذي: 8/ 436، 437) .
وانظر (نكت الانتصار لنقل القرآن للباقلاني ص 135) .