الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «المائدة»
«1»
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ [الآية 2] . وهذه استعارة، والمراد مستبعدات الله التي أشعرها للناس، أي بينها لهم. من قولهم: أشعرت البدنة، إذا جرحتها في سنامها ليسيل دمها، فيعلم أنها هدي لبيت الله سبحانه: وهذا الفعل علامة لها، ودلالة عليها.
وقوله تعالى: يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ [الآية 16] وهذه استعارة. والسلام هاهنا جمع سلامة. فالمراد أنه تعالى، يدلّ من أطاعه على طريق نجاته، وسبيل أمنته، لأن طاعته تعالى إمام «2» السلامة، فمن اتبع قياده نجا، ومن تقاعس عنه ضلّ وغوى.
وقوله تعالى: قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ [الآية 19] وهذه استعارة. والمراد على انقطاع الإرسال الى الأمم و
…
الزمان من «3» .... الرسل. تشبيها بحال إرسال الأنبياء إلى أممهم، ثم حال توفّيهم بعد أداء شرائعهم بثقوب النار ثم خمودها، واضطرامها ثم فتورها.
وقوله تعالى: وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (21) . وهذه استعارة.
ونظيرها قوله تعالى:
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق: محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ.
(2)
. في الأصل «إدام» ولا معني للإدام هنا لأنه ما يؤتدم به. ولعل ما استظهرناه هو الصواب، لأن الإمام له مكان القيادة. فكأن الطاعة تقود الى السلامة.
(3)
. موضع النقط كلمات لم تتبين بالأصل (المحقق) . [.....]
انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ [آل عمران/ 144] أي لا تولّوا عن دينكم وتشكوا بعد يقينكم، فتكونا كالمتقهقر الراجع، والمتقاعس الناكص.
وقوله تعالى: فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ (30) وهذه استعارة. والمراد: سوّلت له، وقرّبت عليه نفسه، ففعل. وطوّعت:
فعّلت من الطوع، اي سهلت نفسه عليه ذلك، حتى أتاه طوعا، وانقاد إليه سمحا.
وقوله تعالى: أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً [الآية 32] وأحياها هنا استعارة. لأن إحياء النفس بعد موتها لا يفعله إلا الله تعالى. وإنما المراد: من استبقاها وقد استحقت القتل، واستنقذها وقد أشرفت على الموت. فجعل سبحانه فاعل ذلك بها كمحييها بعد موتها. إذا كان الاستنقاذ من الموت، كالإحياء بعد الموت.
وقوله سبحانه مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ [الآية 41]، وهذه استعارة. لأن صفة الإيمان والكفر إنما يوصف بها الإنسان دون القلب. والمراد: أنهم آمنوا بالظواهر، وكفروا بالبواطن.
قوله سبحانه: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ [الآية 48] .
وهذه استعارة. وقد تقدّم مثلها.
والمعنى: مصدّقا بما سلف قبله من الكتاب الذي هو الإنجيل الصحيح.
واستعير ذكر اليدين هاهنا، كما يقول القائل إذا سأله غيره عن راكب مرّ به:
هو بين يديك. أي قد سار أمامك.
ومهيمنا عليه: أي شاهدا عليه. فهذه ايضا استعارة أخرى. والمراد: أنّ ما في هذا الكتاب من وضوح الدلالة، يقوم مقام النطق بصحة الشهادة.
وقوله تعالى: وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ [الآية 48] . وهذه استعارة. والمراد:
ولا تطع أمرهم، ولا تجب داعيهم، فأقام سبحانه أهواءهم مقام الدعاة إلى الرّدى، والهداة إلى العمى.
وقوله تعالى: اسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ
[الآية 48] . وهذه استعارة عجيبة:
والمعنى: فبادروا فعل الخيرات إن كنتم على غير أمان من حضور الأجل، وتضييق الأمل. وذلك شبيه بسباق الخيل، لأن كل واحد من فرسانها
يشاحّ غيره على بلوغ الغاية المقصودة، وينافسه في الإسراع الى البغية المطلوبة.
وقوله سبحانه: فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ [الآية 54] . وهذه استعارة. لأن الحبّ الذي هو ميل الطباع لا يجوز على القديم سبحانه.
وقوله سبحانه: وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ [الآية 64] .
وهذه استعارة. ومعناها أن اليهود اخرجوا هذا القول مخرج الاستبخال لله سبحانه، فكذّبهم تعالى بقوله: بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ وليس المراد بذكر اليدين هاهنا الاثنتين اللتين هما اكثر من الواحدة، وإنما المراد به المبالغة في وصف النعمة. كما يقول القائل: ليس لي بهذا الأمر يدان، وليس يريد به الجارحتين، وإنما يريد المبالغة في نفي القوة على ذلك الأمر.
وربما قيل إن المراد بذلك نعمة الدنيا ونعمة الآخرة. والله أعلم أيّ ذلك أصوب. وقد أشبعنا الكلام على هذا المعنى في كتابنا الكبير.
وقوله تعالى: كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ [الآية 64] وهذه استعارة.
لأن الحرب لا نار لها على الحقيقة، وإنما شبّهت بالنار لاحتدام قراعها، وجدّ مصاعها «1» ، وأنها تأكل أهلها، كما تأكل النار حطبها.
وقوله تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ [الآية 66] . فهذه استعارة. لأن التوراة لا يصح عليها القيام، وإنما المراد لو أنهم اتبعوا حكمها. وقوله تعالى:
لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ [الآية 66] استعارة اخرى على احد التأويلين، وهو أن يكون المراد بهذا القول العبارة عن سعة الرزق ورفاهة العيش. كما يقول القائل: فلان مغمور في النعيم والنّعمة من قرنه الى قدمه. والتأويل الآخر لأكلوا من فوقهم، أي من ثمار الشجر التي تفوت بسطة اليد، ومن تحت أرجلهم، أي من نبات الأرض الذي يباشر موطئ القدم. وقيل المراد بذلك ما يكون عن مساقط الغيث من إخصاب منابت الأرض.
(1) . ماصعه مصاعا: جالده بالسيف أو نحوه، اللسان، مادّة مصع.
فهذا كقوله تعالى: لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ [الأعراف/ 96] .
وقوله تعالى: وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ [الآية 89] . على قراءة من قرأ عقدتم، وعقّدتم بالتخفيف والتشديد، دون من قرأ عاقدتم. فهذه استعارة. والمراد بها، تأكيد الأيمان، حتى تكون بمنزلة العقد المؤكد، والحبل المحصد. أو يكون المراد، أنكم عقدتموها على شيء، خلافا لليمين اللغو، التي ليست معقودة على شيء، لأنّ الفقهاء يسمّون اليمين التي على المستقبل، يمينا معقودة، فهي التي يتأتى فيها البرّ والحنث، وتجب فيها الكفّارة. واليمين على الماضي عندهم ضربان: لغو، وغموس، فاللغو كقول القائل: والله ما فعلت كذا. وفي شيء يظنّ انه لم يفعله، وو الله لقد فعلت كذا. في شيء يظنّ أنه قد فعله.
فهو اليمين على الماضي إذا وقعت كذبا. نحو قول القائل: والله ما فعلت. وهو يعلم انه قد فعل. وو اللَّه لقد فعلت. وهو يعلم انه لم يفعل.
فهذه اليمين كفّارتها التوبة والاستعفار لا غير.
وقوله تعالى: لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ [الآية 94] .
وهذه استعارة: لأنّ الفارس هو الذي ينال القنيص برمحه. ولكن الرمح، لما كان مباشرا، حسن لهذه الحال أن يسمى نائلا.
وقوله تعالى: ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها [الآية 108] . وهذه استعارة. لأن الشهادة لا وجه لها.
وإنّما المراد أن يأتوا بالشهادة على جليتها وحقيقتها. وخبّر تعالى عن ذلك بالوجه لأن به تعرف حقيقة الجملة، ويفهم كنه الصورة، كما قلنا فيما تقدّم. وهذه من الاستعارات البديعة.
وقوله تعالى حاكيا عن المسيح (ع) :
تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ [الآية 116] . وهذه استعارة.
لأن القديم سبحانه لا نفس له.
والمراد: تعلم ما عندي ولا اعلم ما عندك، وتعلم حقيقتي ولا أعلم حقيقتك، أو تعلم مغيبي ولا أعلم مغيبك. فكأن فحوى ذلك: تعلم ما أعلم ولا اعلم ما تعلم. وقد استوفينا الكلام على ذلك في (حقائق التأويل) .