المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «آل عمران» - الموسوعة القرآنية خصائص السور - جـ ٢

[جعفر شرف الدين]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الثاني

- ‌سورة آل عمران

- ‌المبحث الأول أهداف سورة «آل عمران»

- ‌(1) قصة التسمية

- ‌(2) مقاصد سورة آل عمران

- ‌العناية بأمرين عظيمين:

- ‌الأمر الأول: قضية الألوهية وتقرير الحق فيها

- ‌(3) وحدة الدين عند الله

- ‌المسرفون في شأن عيسى (ع)

- ‌(4) بيان أسباب انصراف الناس عن الحق

- ‌(5) عظمة القرآن في تربية المؤمنين

- ‌(6) القرآن كتاب الوجود والخلود

- ‌(7) دروس من غزوة أحد

- ‌(8) سنن الله ماضية وقوانينه عامة

- ‌(9) منهج القرآن في بناء العقيدة والدفاع عنها

- ‌(10) أعداء يكيدون للإسلام

- ‌(11) ثلاثة خطوط عريضة

- ‌المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «آل عمران»

- ‌تاريخ نزولها ووجه تسميتها

- ‌الغرض منها وترتيبها

- ‌ما يجب لله سبحانه من الأوصاف الآيات [1- 6]

- ‌الرد على مقالة النصارى الأولى الآيات [7- 18]

- ‌الرد على مقالتهم الثانية الآيات [19- 64]

- ‌الرد على مقالتهم الثالثة الآيات [65- 78]

- ‌الرد على مقالتهم الرابعة الآيات [79- 92]

- ‌الرد على مقالتهم الخامسة الآيات [93- 99]

- ‌تثبيت المؤمنين بعد رد مقالاتهم الآيات [100- 120]

- ‌تثبيت المؤمنين بعد أحد الآيات [121- 189]

- ‌الخاتمة الآيات [190- 200]

- ‌المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «آل عمران»

- ‌المبحث الرابع مكنونات سورة «آل عمران»

- ‌المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «آل عمران»

- ‌المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «آل عمران»

- ‌المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «آل عمران»

- ‌المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «آل عمران»

- ‌سورة النساء 4

- ‌المبحث الأول أهداف سورة «النساء»

- ‌الوصية بالنساء واليتامى

- ‌اليتامى

- ‌المال والميراث

- ‌تعدد الزوجات

- ‌شبهة تفتضح، وحجة تتّضح

- ‌التضامن الاجتماعي

- ‌المحرّمات من النساء

- ‌الحكمة من هذا التّحريم

- ‌مصادر التشريع في الإسلام

- ‌الاجتهاد من مصادر التشريع وبابه مفتوح أبدا

- ‌القتال وأسباب النصر

- ‌المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «النساء»

- ‌تاريخ نزولها ووجه تسميتها

- ‌الغرض منها وترتيبها

- ‌براعة المطلع

- ‌أحكام اليتامى والسفهاء الآيات [2- 6]

- ‌أحكام الميراث الآيات [7- 14]

- ‌حكم الزنا واللواط الآيات [15- 18]

- ‌أحكام متفرقة في النساء الآيات [19- 28]

- ‌تحريم التعدي على المال والنفس الآيات [29- 33]

- ‌قوامة الرجال على النساء الآيتان [34- 35]

- ‌حقوق الله وبعض العباد الآيات [36- 42]

- ‌تحريم الصلاة على السكارى والجنب الآية [43]

- ‌التحذير من أهل الكتاب الآيات [44- 57]

- ‌عودة إلى الأحكام الآيات [58- 70]

- ‌أحكام القتال الآيات [71- 104]

- ‌تحريم المحاباة في الحكم الآيات [105- 126]

- ‌أحكام أخرى في النساء الآيات [127- 134]

- ‌تحريم المحاباة في الشهادة الآية [135]

- ‌عود إلى المنافقين وأهل الكتاب الآيات [136- 175]

- ‌حكم الكلالة الآية [176]

- ‌المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «النساء»

- ‌تقدّم وجوه مناسبتها

- ‌المبحث الرابع مكنونات سورة «النساء»

- ‌المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «النساء»

- ‌المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «النساء»

- ‌المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «النساء»

- ‌المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «النساء»

- ‌سورة المائدة (5)

- ‌المبحث الأول أهداف سورة «المائدة»

- ‌1- تاريخ النزول

- ‌2- قصة التسمية

- ‌ المائدة

- ‌3- ظواهر تنفرد بها سورة المائدة

- ‌4- تشريع القرآن

- ‌5- الوفاء بالعقود

- ‌6- الظروف التي نزلت فيها السورة

- ‌7- أفكار السورة وأحكامها

- ‌8- النداءات الإلهية للمؤمنين

- ‌الأمر بالتقوى:

- ‌9- أهل الكتاب

- ‌10- اليهود

- ‌11- النصارى

- ‌القرآن من عند الله

- ‌12- عدالة أحكام السورة الخاصة بأهل الكتاب

- ‌المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «المائدة»

- ‌تاريخ نزولها ووجه تسميتها

- ‌الغرض منها وترتيبها

- ‌أحكام العقود والمناسك الآيات [1- 5]

- ‌أحكام الوضوء والتيمم [الآية 6]

- ‌التحذير من نقض العقود [الآيات 7- 11]

- ‌الاعتبار بناقضي العقود من الأولين [الآيات 12- 40]

- ‌نقض المنافقين واليهود لعقودهم [الآيات 41- 86]

- ‌عود إلى ما سبق من الأحكام [الآيات 87- 108]

- ‌الخاتمة [الآيات 109- 120]

- ‌المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «المائدة»

- ‌المبحث الرابع مكنونات سورة «المائدة»

- ‌المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «المائدة»

- ‌المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «المائدة»

- ‌المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «المائدة»

- ‌المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «المائدة»

- ‌الفهرس

- ‌سورة «آل عمران»

- ‌سورة النساء

- ‌سورة المائدة

الفصل: ‌المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «آل عمران»

‌المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «آل عمران»

«1» 1- اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) .

أقول: القيّوم من أسماء الله- عز وجل وكذلك القيّام، وهو الذي لا ندّ له. والقيّوم: فيعول، فهو قيووم، فأعلّت الواو، وأبدلت ياء، وأدغمت فيها. وكأنّ القيّوم مبالغة القائم. وأكثر ما جاء على فيعول يفيد الوصف ف «يوم صيخود» : شديد الحرّ، و «أتان قيدود» : طويلة.

وقد يأتي علما، نحو طيفور، وهو طويئر، واسم أبي يزيد البسطامي، وسيحون اسم نهر في ما وراء النهر.

وميسون اسم الزبّاء الملكة، وبنت بحدل أم يزيد بن معاوية.

ومن الأعلام الحديثة: صيهود وشيبوب.

2-

وقال تعالى: نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ.

أقول: لقد انتهت الآية الثالثة كما في المصحف الشريف بكلمة الإنجيل، وكان يمكنها أن تنتهي بقوله تعالى:

مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ، لأنها متعلقة بها، متصلة بالمعنى محتاجة إلى ذلك.

غير أن هذه التكملة الضرورية كانت من الآية 4، في حين كان يمكن الآية الرابعة أن تبدأ بقوله تعالى: وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ، ولكن بسبب من الحرص على أن تكون الآيات متناسبة في طولها كان ما هو ثابت في المصحف.

3-

وقال تعالى:

(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «من بديع لغة التنزيل» لإبراهيم السامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.

ص: 49

هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ [الآية 7] .

جاء في «لسان العرب» ، مادة «شبه» :

وفي التنزيل العزيز: مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ.

قيل: معناه يشبه بعضها بعضا.

قال أبو منصور: وقد اختلف المفسرون في تفسير قوله: وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ، فروي عن ابن عباس أنه قال: المتشابهات: الم، الر، وما اشتبه على اليهود من هذه ونحوها.

قال أبو منصور: وهذا لو كان صحيحا عن ابن عباس كان مسلّما له، ولكن أهل المعرفة بالأخبار وهّنوا إسناده، وكان الفرّاء يذهب إلى ما روي عن ابن عباس.

وروي عن الضحّاك أنه قال:

المحكمات ما لم ينسخ، والمتشابهات ما قد نسخ.

وقال غيره:

المتشابهات: هي الآيات التي نزلت في ذكر القيامة والبعث، ضرب قوله تعالى:

وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ [سبأ] .

وضرب قوله جلّ وعلا:

يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48)[الواقعة] .

فهذا الذي تشابه عليهم، فأعلمهم الله الوجه الذي ينبغي أن يستدلوا به على أن هذا المتشابه عليهم كالظاهر لو تدبّروه، فقال تعالى:

وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ [يس] .

أي: إذا كنتم أقررتم بالإنشاء والابتداء فما تنكرون من البعث والنشور، وهذا قول كثير من أهل

ص: 50

العلم، وهو بيّن واضح، ومما يدلّ على هذا القول قوله عز وجل:

فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ [الآية 7] .

أي: أنهم طلبوا تأويل بعثهم وإحيائهم، فأعلم الله أنّ تأويل ذلك ووقته لا يعلمه إلّا الله عز وجل، والدليل على ذلك قوله:

هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ [الأعراف/ 53] يريد قيام الساعة وما وعدوا من البعث والنشور.

وأما قوله سبحانه: وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً [البقرة/ 25] فإنّ أهل اللغة قالوا: معنى «متشابها» يشبه بعضه بعضا في الجودة والحسن.

وقال المفسرون: «متشابها» يشبه بعضه بعضا في الصورة، ويختلف في الطعم، ودليل المفسرين قوله تعالى من الآية نفسها: هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ.

وفي الحديث في صفة القرآن:

«آمنوا بمتشابهه واعملوا بمحكمه» ، المتشابه: ما لم يتلقّ معناه من لفظه، وهو على ضربين:

أحدهما إذا ردّ إلى المحكم عرف معناه. والآخر ما لا سبيل إلى معرفة حقيقته، فالمتتبّع له مبتغ للفتنة لأنه لا يكاد ينتهي إلى شيء تسكن نفسه إليه.

أقول: لقد صرفت لغة القرآن مادة «تشابه» إلى مصطلح علمي من مصطلح التنزيل، ابتعادا عن الأصل في قولنا:

تشابه الشيئان مثل اشتبها، أي: أشبه كل واحد منهما صاحبه.

4-

وقال تعالى: رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ [الآية 9] .

قال الزمخشري «في الكشاف 1/ 339» :

جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ، أي:

تجمعهم لحساب يوم، أو لجزاء يوم كقوله تعالى:

يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ [التغابن/ 9] .

وقرئ: (جامع الناس) ، على الأصل.

أقول: والقراءة الشهيرة والمثبتة في التنزيل العزيز هي بإضافة «جامع» إلى الناس. وهذا يعني أنه، سبحانه، سيجمعهم في يوم لا ريب فيه، وهو قيام الساعة.

والدلالة على الاستقبال، وهذا يخالف ما ذهب إليه النحويون كما سنبيّن:

ص: 51

قال النحويون:

لا يخلو اسم الفاعل من أن يكون مقرونا ب «أل» أو مجرّدا، فإن كان مجرّدا عمل عمل فعله، من الرفع والنصب إن كان مستقبلا أو حالا، نحو:

هذا ضارب زيدا الآن، أو غدا، وإنما عمل لجريانه على الفعل الذي هو بمعناه، وهو المضارع. ومعنى جريانه عليه أنه موافق له في الحركات والسكنات، لموافقة «ضارب» ليضرب، فهو مشبه للفعل الذي هو بمعناه لفظا ومعنى.

وإن كان بمعنى الماضي لم يعمل لعدم جريانه على الفعل الذي هو بمعناه، فهو مشبه له معنى لا لفظا، فلا تقول:«هذا ضارب زيدا أمس» بل يجب إضافته، فتقول:«ضارب زيد أمس» ، وأجاز الكسائي إعماله، وجعل منه قوله تعالى:

وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ [الكهف/ 18] ، فذراعيه منصوب بباسط وهو ماض، وخرّجه غيره على أنه حكاية حال ماضية.

وقالوا:

وإذا وقع اسم الفاعل صلة للألف واللام، عمل ماضيا ومستقبلا وحالا، لوقوعه موقع الفعل، إذ حقّ الصلة أن تكون جملة فتقول هذا الضارب زيدا الآن أو غدا أو أمس، هذا هو المشهور من قول النحويين. وزعم جماعة ومنهم الرمّاني: أنه إذا وقع صلة للألف واللام، لا يعمل إلّا ماضيا ولا يعمل مستقبلا ولا حالا

أقول: وعلى هذا يكون اسم الفاعل في قوله تعالى: رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ دالّا على المضي لأنه أضيف إلى (الناس) ، ولكن الحقيقة أنه دالّ على الاستقبال، ومع ذلك كانت الإضافة.

وهذا يدل على أن استقراء النحاة غير واف، فلم يستوفوا ما ورد في لغة التنزيل.

ومثل هذا ما ورد في هذه السورة نفسها، وهو قوله تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ [الآية/ 185] .

فالدلالة على المستقبل حاصلة، ومع ذلك أضيف اسم الفاعل.

وقرأ اليزيدي: (ذائقة الموت) على

ص: 52

الأصل. وقرأ الأعمش: (ذائقة الموت) بطرح التنوين مع النصب كقول أبي الأسود:

فذكّرته ثم عاتبته

عتابا رقيقا وقولا جميلا

فألفيته غير مستعتب

ولا ذاكر الله إلا قليلا

وقد أضيف اسم الفاعل (ذائقة) إلى (الموت) في آيتين أخريين هما:

[الأنبياء/ 35، والعنكبوت/ 57] .

5-

وقال تعالى: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ [الآية 18] .

قال الزمخشري في «الكشاف 1/ 343» :

قائِماً بِالْقِسْطِ، مقيما للعدل فيما يقسم من الأرزاق والآجال، ويثيب ويعاقب، وما يأمر به عباده من إنصاف بعضهم لبعض، والعمل على السويّة فيما بينهم. وانتصابه على أنه حال مؤكّدة منه كقوله: وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً [البقرة/ 91] .

فإن قلت لم جاز إفراده بنصب الحال دون المعطوفين عليه؟ ولو قلت جاءني زيد وعمرو راكبا لم يجز؟ قلت إنما جاز لعدم الإلباس كما جاز في قوله:

وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً [الأنبياء/ 72] أن انتصاب نافِلَةً حال عن يعقوب

أقول: هذه المشكلات اللغوية التاريخية من النماذج التي تقدمها لغة القرآن، والتي تدل على أن لبناء العربية أسلوبا قد أحكم إحكاما لأداء المعاني، فهو طورا واضح بيّن، وطورا فيه إشكال، وجماع هذا أمر يقتضيه البيان القرآني.

6-

وقال تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ [الآية 19] .

قال الزمخشري في «الكشاف 1/ 345» :

«

إن الإسلام هو العدل والتوحيد، وهو الدين عند الله، وما عداه فليس عنده في شيء من الدين.

وفيه أن من ذهب إلى تشبيه أو ما يؤدي إليه، كإجازة الرؤية أو ذهب إلى الجبر الذي هو محض الجور، لم يكن على دين الله الذي هو الإسلام، وهذا بيّن جليّ كما ترى

وقد رد الشيخ محمد عليان على قولة الزمخشري من أن الإسلام هو

ص: 53

العدل والتوحيد فقال في حاشيته:

«قوله: «فقد آذن أن الإسلام هو العدل تعسف لا يقتضيه النظم الكريم، لكن دعا إليه التعصب

وبالجملة فالعدل والتوحيد لم ينحصرا في مذهب المعتزلة» .

7-

وقال تعالى: فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ [الآية 20] .

القول في «اتّبعن» أن الأصل هو «اتبعني» بالياء التي هي ياء المتكلم.

فلم اجتزئ بالنون المكسورة عن مدة الياء التي يقتضيها المعنى، كما يقتضيها سنن العربية؟ ولم خرج خط المصحف على الأصل؟

لن يكون القول بأن خط المصحف توقيف لا يقاس عليه، جوابا عن هذين السؤالين على صدق هذا القول وأصالته.

وأرى أن لغة القرآن قد أصابت كل الإصابة في هذا الرسم، ذلك أن المسألة ليست مسألة رسم خاصة بلغة التنزيل، بل إنها مسألة تتصل بإجادة النظم والحفاظ على نسق موقّع موزون، يخدم الكلمة في بنائها الخاص، كما يخدمها في مجاورتها لما بعدها. ألا ترى أن الاجتزاء بهذا المدّ القصير الذي توفره الكسرة بعد النون عن المد الطويل الذي يتحقق بالياء، يخدم الآية من قوله: فَإِنْ حَاجُّوكَ، فيجنّبها شيئا من الطول، وبذلك يحسن الوقف، والوقف هنا شيء جائز لأرباب التلاوة الفنية، والوقف أحسن من الوصل على جوازه. كل ذلك من تمام حسن الأداء لهذه اللغة الشريفة المختارة.

ولو أنك استقريت النماذج الكريمة في آي القرآن التي صير فيها إلى المدّ، وإلى قصره ابتغاء حسن الأداء لوجدت من ذلك الشيء الكثير الذي يثبت أن العربية في القرآن، على إصابتها الفائقة في المعاني، والتحليق في مدارج الفكر، قد عنيت باللفظ وبنائه عناية توفر الحسن والجمال والفن والإبداع.

ألا ترى أن الهاء من «فيه» محركة بالكسرة، وأنها في «عنه» محركة بالضمة، ولكنك تجد هذه الهاء في «به» محركة بالكسرة تتبعها في الرسم المصحفي ياء صغيرة؟

إن هذه الياء الصغيرة بعد الهاء من ( «به» ي)، إشارة إلى القارئ: أنه ملزم

ص: 54

أن يطيل قليلا جدا من الكسرة بعد الهاء، بحيث يتولد من ذلك شيء من مدّ طويل. كل هذا يرمي إلى أن تجوّد التلاوة فيتأتّى من ذلك عربيّة فائقة الأداء ناصعة البيان.

ثم إنّ هذا يظهر أن للعربية نظاما في أصوات المد واللين، قصيرها وطويلها، وأن هذا النظام أداة حكيمة في مجيء هذه اللغة رشيقة البناء في مفرداتها وجملها، فقد يقصر الصوت حتى يؤول إلى حركة هي الفتحة والكسرة والضمة، وقد يطول فيكون أصوات المد التي تدعى ألفا وواوا وياء «1» .

على أن طول ما يدعى ب «الحركات» ليس ثابتا، فقد يختلف نفر عن آخر في هذا الطول، وقد تختلف الفتحة في طولها عن نظيرتها الفتحة الأخرى في الكلمة الواحدة، ومثل ذلك يقال في الكسرة والضمة، ألا ترى أن الضمة في «حسام» غير الضمة في «كسر» المبنيّ للمجهول.

وإذا كان الناس متفاوتين في إخراج هذه الأصوات القصيرة بحسب طولها، فهم متفاوتون أيضا في إعطاء شيء من هذه الفتحة إلى شيء من تلك الكسرة.

وهم متفاوتون أيضا في الأصوات الطويلة، فقد يختلف اثنان في مدّ كلمة «شاعر» مثلا، فبعضهم يمد الفتح فيكون الألف، وآخر يقصر الفتح قليلا، فيحمل الضيم على كسرة «العين» فتطول قليلا «2» .

ومن أجل حسن الأداء يصار إلى القصر كما أشرنا في أصوات اللين، ألا ترى أن «يا» ، أداة النداء يتحقق فيها المدّ كاملا، إذا وليها صوت متحرك فتقول:«يا عبد الله» ، ولكنها تقصر كثيرا حتى تتحول إلى صوت قصير هو الفتحة إذا وليها صوت ساكن نحو:«يا ابن مالك» .

ولقد كان مقدار المدّ مظهرا من مظاهر اللهجات الخاصة في العربية الواسعة الرقعة. وما أظن أن كلمة «سلسل» ، وكلمة «سلسال» ، وهما بمعنى، إلّا شيء من هذا.

(1) . لعل من أهم المشكلات اللغوية الصوتية، عدم التفريق في التسمية بين طبيعتين مختلفتين في الأصوات، فالواو والألف والياء، وهي من أصوات المد أو اللين غير الأصوات الصامتة الأخرى في «أمر» و «وجد» ، و «ينع» فالألف في الأولى هي همزة، والواو في الثانية صوت صامت، ومثل ذلك الياء في الثالثة.

(2)

. قد يتبين هذا واضحا في نطق المغاربة لهذه الألفاظ الفصيحة.

ص: 55

ثم ألا ترى أن طائفة من العرب في عصرنا يقولون «عمود» ، وآخرين يقولون:«عامود» في نطقهم الدارج.

8-

وقال تعالى: قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) .

تشتمل هذه الآية على فقر متسقة النظام، متساوقة يكاد يتصل بعضها ببعض، وهذا النظام يتيح لمن يتلو أن يعمد إلى ضرب من التقسيم يسعفه بوقفات إن شاء، لا تنال من الوحدة الموضوعية التي تجعل من هذه الأقسام ما يأخذ بعضها برقاب بعض.

ومثل هذا يتحقق في الآية اللاحقة 27:

تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (27) .

قلت: إن هذه الفقر تتيح لمن يتلو أن يقف وقفات، إن أحسّ أنّ الوقف يحسن في تجويد التلاوة، والوقف جائز، على أنه أحسن من الوصل، وقد يكون العكس، وهو جواز الوقف في حين يكون الوصل أولى.

هذا كله من الرّخص فسحة للقارئ في تجويد التلاوة المحكمة.

9-

وقال تعالى: كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً [الآية 37] .

أقول: لا بد من وقفة على الفعل «دخل» ، واستعماله في لغة التنزيل.

لقد دلّ استقراؤنا للآيات التي اشتملت على هذا الفعل أنه لا بد أن يتطلب ما يتعلق به من الأسماء التي تفيد «المكانية» . وفي هذه الحالة، يصل الفعل إلى مدخوله من غير أداة واسطة كحروف الخفض، ولنجتزئ من الآيات الكثيرة التي تفيد هذه الخصوصية بالآيات التي سنوردها:

قال تعالى:

1-

وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها [القصص/ 15] .

2-

أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ [البقرة/ 214] .

3-

لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ [الأحزاب/ 53] .

4-

ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ (46)[الحجر] .

ص: 56

ومثل هذه الآيات آيات أخرى استعمل فيها الفعل هذا الاستعمال.

وقد يطوى ذكر المكان الذي يصير إليه الداخل، فيكون الدخول على الآدميين، وهنا لا بد من حرف الجر «على» كما في الآيات التي نوردها:

وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ [يوسف/ 69] .

إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ [ص/ 22] .

وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ (23)[الرّعد] .

وقد يظهر المكان المدخول فيه مع ذكر الآدميين كقوله تعالى:

كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً [الآية 37] .

وقد استعمل فعل الدخول في بضع آيات، قاصرا لازما غير متصل بمتعلق به كقوله تعالى:

كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها.

[الأعراف/ 38] .

وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا [الأحزاب/ 53] .

لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ [يوسف/ 67] .

ومن غير شك أن المتعلق وهو الاسم المكاني، أو المدخول عليهم من الآدميين قد طوي ذكره في هذه الآية لعدم الحاجة إليه، وعلى هذا فالاستعمال واحد.

هذا كله يتصل باستعمال فعل الدخول في المحسوسات من الأسماء الدالة على الأمكنة والظروف المكانية، واستعماله في الدخول على العاقل من الآدميين، فإذا كان الدخول في الأمور العقلية، أو ما يدعى بأسماء المعاني فالاستعمال يختلف، وذلك أن الفعل يتطلب في هذه الحال حرف الجر «في» أو «الباء» كقوله تعالى:

وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً (2)[النصر] .

وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ [المائدة/ 61] .

وقد يحمل على استعمال الفعل في الأمور المعنوية قوله تعالى:

فَادْخُلِي فِي عِبادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)[الفجر] .

والمراد بالدخول في العباد الاتصال بهم والعيش بينهم فجاز استعمال «في» ، في حين عطف عليه قوله:

ص: 57

وَادْخُلِي جَنَّتِي (30) وذلك لأن المدخول فيه من الأسماء الدالة على المكان.

ومن المفيد أن نشير إلى أن استعمال هذا الفعل يجاوز حقيقته مجازا لعلاقة من العلاقات، فيصير الدخول بالزوج أي: المرأة بمعنى البناء بها، والتزوج منها كقوله تعالى:

فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ [النساء/ 23] .

10-

قال تعالى: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (54) .

أقول: لا أريد أن أعرض لمكر بني إسرائيل، وكيف قابلهم الله على مكرهم جزاء وعقوبة، ولكني أود أن أقف على المكر ومعناه، وكيف ساغ أن ينسب إلى الله، جلّ شأنه.

قال تعالى: وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (50)[النمل] .

قال أهل العلم بالتأويل: المكر من الله تعالى جزاء سمّي باسم مكر المجازى، كما قال تعالى: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشورى/ 40] .

فالثانية ليست بسيّئة في الحقيقة، ولكنها سمّيت سيئة لازدواج الكلام، وكذلك قوله تعالى: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ [البقرة/ 194] .

فالأول ظلم، والثاني ليس بظلم، ولكنه سمّي باسم الذّنب ليعلم أنّه عقاب عليه وجزاء به، ويجري مجرى هذا القول قوله تعالى:

إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ

[النساء/ 142] .

وفي حديث الدعاء: «اللهم امكر لي ولا تمكر بي» .

قال ابن الأثير: مكر الله إيقاع بلائه بأعدائه دون أوليائه.

أقول:

هذه حقيقة المكر، وهذه حقيقة نسبته إلى الله، جلّ وعزّ، ولم يلتفت أهل العربية في عصرنا إلى حسن استعمال هذه الكلمة في لغة التنزيل، بل ظلّت الكلمة على ما نعرف من دلالة الخديعة والاحتيال.

11-

وقال تعالى: ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ [الآية 112] .

الفعل «ثقف» بهذه الدلالة عرفته لغة التنزيل في ست آيات، في أربع منها جاء مبنيا للمعلوم، وفي اثنتين ورد

ص: 58

مبنيا للمجهول، والآية التي ذكرناها إحدى هاتين، والفعل فيها بمعنى الوجود. وقد كنا أشرنا إلى هذا بإيجاز كما في الآية 191 من سورة البقرة:

وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ أي: حيث وجدتموهم وقوله تعالى: ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا بمعنى أينما وجدوا.

أقول:

لم يبق هذا الفعل بهذه الدلالة في العربية المعاصرة، على أننا لا نجده بهذه الدلالة في العربية القديمة، ولم يرد من ذلك إلا بيت واحد ذكره أهل المعجمات غير منسوب إلى قائل. إن هذا يعني أن لغة القرآن قد أكدت هذا الفعل بهذا المعنى الواضح.

أما دلالة الفعل الأخرى فهي قولنا:

ثقف الشيء ثقفا وثقافا وثقوفة، أي:

حذقه.

ورجل بيّن الثّقافة وهو ثقف وثقف إذا كان ضابطا لما يحويه قائما به.

وثقف الخلّ ثقافة فهو ثقف وثقيف، أي: حذق وحمض جدا. والثّقافة والثّقافة: العمل بالسيف.

والثّقاف: ما تسوّى به الرماح، وتثقيفها تسويتها.

أقول:

هذا أكثر ما أثر في العربية من هذه الكلمة فما حالها اليوم. لعل من حياة المواد اللغوية، والمسيرة التي تنتابها، ما يذكّرنا بمختلف نماذج الكائن الحي في دنيانا هذه، فمن نشأة وحياة واستمرار إلى نكوص وانزواء ففناء، أو إلى استحالة أخرى تقطع الصلة بين الأول والآخر. ولعل من هذا أيضا ما كتب لمادة «الثقافة» في عصرنا هذا.

إن «الثقافة» ، في موادنا اللغوية المعاصرة، كلمة ذات مدلول كبير واسع، يتصل بالحضارة والفكر والعلم والخلق وسائر ضروب السلوك البشري. ولعل من الصعب أن يصار إلى تعريفها تعريفا يستوفى فيه ما يجب أن يشتمل عليه. وما كان لهذه الكلمة أن تنال ما نالته لولا الأثر الأجنبي، الذي عرض لما يحزبنا نحن العرب في شؤون الفكر والعلم، وسائر مواد الحضارة المعاصرة.

إن هذا الأثر الأجنبي هو ما نعانيه من الرغبة في ترجمة المعاني الأجنبية، وأخصّ منها الغربية في عصرنا الحديث. لقد واجه أهل الفكر في عصرنا مادة: وعرفوا شيئا من

ص: 59

دلالاتها في اللغات الغربية، وقد أفضى إلى هذه الدلالات، من غير شك، علاقات عدة هي المشابهة والقرينة، كما أفضى إليها التطور اللغوي التاريخي، الذي يندرج في حقول مختلفة.

إذا كانت هذه الكلمة تعني «الفلاحة» ، أو «الزراعة» ، فلا شك أنها، بسبب من المشابهة بعد مسيرة تطورية، إنما تعني التربية والسلوك والمرانة.

ومن أجل هذا، اقتضى جماع هذه المواد والأفكار أن يثقل رصيد هذه الكلمة ويزداد ثقلا يوما بعد يوم.

فماذا صنع المترجمون العرب؟

لقد أخذوا هذه الكلمة الواسعة فنظروا إليها بما يخدم السلوك والتربية، فدخلت في عداد المعجم التربوي التعليمي، ثم كتب لها أن تتسع فتغزو دوائر أخرى.

ثم كيف اختاروا مادة «ثقف» للدلالة الجديدة الوافدة؟

لقد وجدوا أن في هذه المادة العربية كلمة «ثقاف» ، وهو من أسماء الآلات والأدوات، والثّقاف ما تقوّم به الرماح وتسوّى، فاشتقوا منه مصدرا هو «الثقافة» ، لما في الأصل، وهو اسم الآلة، من معنى التقويم والتسوية والتعديل، وكل ذلك يدخل في معاني التربية القائمة على تقويم السلوك البشري.

وعلى هذا نستطيع أن نقول: إن العربية البدوية، بثروتها القديمة ذات الأصول البدوية، قد أمدّت العربية الحضارية بمصدر لغوي كبير، أفضى إلى مواد الحضارة المشهورة، كالعقل والحكمة، والحكم والحكومة، والنقد والبناء، والجمال وغير ذلك مما عرف في المعاني الحضارية. ولو أنك أعملت الفكر لاهتديت بيسر إلى تلك الأصول البدوية التي أوشك أن يمحي أثرها.

12-

وقال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا [الآية 118] .

أريد أن أقف على الفعل «ألا، يألو» .

قالوا: ألا يألو ألوا وألوّا وأليّا، وألّى يؤلّي تألية.

ومثلهما ائتلى بمعنى قصّر وأبطأ، قال:

ص: 60

وإنّ كنائني لنساء صدق

فما ألّى بنيّ ولا أساؤوا

والعرب تقول: أتاني فلان في حاجة فما ألوت ردّه، أي: ما استطعت.

وأتاني في حاجة فألوت فيها، أي:

اجتهدت.

وقال الأصمعي: يقال: ما ألوت جهدا، أي: لم أدع جهدا.

وقوله تعالى: لا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا الآية، أي: لا يقصّرون في فسادكم.

وقولهم: لا آلوك نصحا ولا آلوك جهدا، والمعنى: لا أمنعك نصحا ولا أنقصكه.

أقول: هذا هو المعنى الذي ما نزال نستعمله في عربيتنا المعاصرة فنقول:

فلان لا يألو جهدا في عمله، أي: لا يقصر، ولا ينقص من جهده.

ولكني أميل إلى أن أقرر أن المعاصرين التزموا، في عربيتهم المعاصرة، في الألفاظ والجمل والأبنية والصفات، نماذج لا يحيدون عنها قيد أنملة، وكأنّ العربية خلت من وجوه القول في هذه المسألة إلا ما ألفوا استعماله وسنشير إلى هذا الالتزام كلما عرض شيء من ذلك.

ألا ترى أنهم لزموا في الاستعمال الفعل المضارع المنفي ب «لا» ، ولم يدركوا أن الماضي «ألا» قد استعمله أهل الفصاحة طوال العصور. ولعل نفرا من العارفين بشيء من العلم اللغوي يقولون:«لم يأل جهدا» إذا ما أرادوا المضيّ.

وكنا قد مررنا بإيجاز على هذه المادة الغنية المعطاء.

13-

وقال تعالى: إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُما [الآية 122] .

أقول: لنا في هذه الآية قولان:

الأول في كلمة «همّت» ، والثاني في قوله:«تفشلا» .

فأما الأول، فقد قالوا: همّ بالشيء يهمّ همّا: نواه وأراده وعزم عليه.

وأهمّه الأمر: أقلقه وحزنه.

وقوله تعالى: وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ [يوسف/ 24] .

غير أني أريد أن أشير إلى الفعل «همّ» في الآية 122 من سورة آل عمران. في قوله: إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا ومثله في [الآية 113

ص: 61

من سورة النساء] : وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ.

إن الفعل «همّ» ، في كلتا الآيتين، قد أتبع بالمصدر المؤوّل من «أن والفعل» ، وهذا الاستعمال يذكّرنا بطائفة من الأفعال، أفرد لها النحاة بابا أسموه أفعال المقاربة والرجاء والشروع، وهي كاد وكرب وأوشك، وعسى وحرى واخلولق، وجعل وأخذ وشرع وقام وأنشأ ونحوها.

قلت: إن الفعل «همّ» في الآيتين يذكرنا بهذه الأفعال في استعمالها من حيث أنها يليها «أن والفعل» «1» .

ألا ترى أن في قوله تعالى إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ شيئا من معنى «أوشك» واستعمالها واحد.

وكان على النحاة الأوائل أن يقفوا على هذا الاستعمال، ويشيروا إلى هذه العلاقة كما أفصحت عنها لغة التنزيل العزيز.

وأما القول الثاني، فهو في معنى «الفشل» ، لقد قالوا:

الفشل: الرجل الضعيف الجبان، وفشل الرجل فشلا، أي: كسل وضعف وتراخى وجبن

وعلى هذا يخرّج الفعل في الآية المذكورة.

ومثله في قوله تعالى: حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ [الآية 152] .

وقوله تعالى: وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ [الأنفال/ 43] .

وقوله تعالى: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا [الأنفال/ 46] .

أقول: فكيف آل الفعل في العربية المعاصرة؟ لقد صار الفعل «فشل» ، بمعنى خاب وأخفق في مسعاه، يقال:

فشل الولد في المدرسة، وفشل المشروع الفلاني، وفشلت التجربة.

أيكون هذا التحول في المعنى والدلالة ضربا من الاتساع صارت

(1) . إن قول النحاة إن لهذه الأفعال عملا كعمل الفعل «كان» ، أي: أنها تقتضي الاسم والخبر، وخبرها هو أن والفعل، قول ضعيف متهافت، ولا يمكن أن يكون أن والفعل مسندا كحال الخبر في «كان» من قولنا: كان زيد شاعرا.

ص: 62

الكلمة به تعني الإخفاق والخيبة من الضعف والجبن والتراخي؟ «1» .

14-

وقال تعالى: بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا [الآية 125] .

قال الزمخشري: مِنْ فَوْرِهِمْ هذا من قولك: قفل من غزوته، وخرج من فوره إلى غزوة أخرى، وجاء فلان ورجع من فوره. ومنه قول أبي حنيفة، رحمه الله: الأمر على الفور لا على التراخي، وهو مصدر من: فارت القدر، إذا غلت، فاستعير للسرعة، ثم سمّيت به الحالة التي لا ريث فيها، ولا تفريج على شيء من صاحبها. فقيل:

خرج من فوره، كما تقول: خرج من ساعته، لم يلبث.

أقول: إن الاستعمال الجديد في العربية المعاصرة «على الفور» في قولهم مثلا: جاء فلان وخرج على الفور، أو فورا، ليس جديدا ذلك أن العربية في العصر العباسي عرفت هذا ودليلنا قول أبي حنيفة المذكور قبل قليل.

(1) . ولشيوع هذا التجاوز في الاستعمال المعاصر للفعل «فشل» ، ذهبوا إلى المزيد منه فقالوا:«أفشل» كقولهم: أفشل خطط العدو، بمعنى «أبطل» ، وكل ذلك تجاوز جديد.

ص: 63