الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
موالد الأولياء
قد جاء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والسلف، النهي عن اتخاذ قبور الأنبياء والصالحين عيدًا، عموما وخصوصًا.
فأما العموم: فقد قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: «لَا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قُبُورًا، وَلَا تَجْعَلُوا قَبْرِى عِيدًا، وَصَلُّوا عَلَىَّ؛ فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ تَبْلُغُنِى حَيْثُ كُنْتُمْ» (رواه أبو داود وصححه الألباني).
ووجه الدلالة: أن قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أفضل قبر على وجه الأرض، وقد نهى عن اتخاذه عيدًا. فقبر غيره أولى بالنهي كائنًا من كان، ثم إنه قَرَن ذلك بقوله صلى الله عليه وآله وسلم:«لَا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قُبُورًا» ، أي لا تعطلوها عن الصلاة فيها والدعاء والقراءة، فتكون بمنزلة القبور، فأمر بتحري العبادة في البيوت، ونهى عن تحريها عند القبور، عكس ما يفعله المشركون من النصارى ومن تشبه بهم.
ثم إنه صلى الله عليه وآله وسلم أعقب النهي عن اتخاذه عيدًا بقوله: «وَصَلُّوا عَلَىَّ؛ فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ تَبْلُغُنِى حَيْثُ كُنْتُمْ» ، يشير بذلك صلى الله عليه وآله وسلم إلى أن ما ينالني منكم من الصلاة والسلام يحصل مع قرْبِكم من قبري وبُعْدِكم منه فلا حاجة بكم إلى اتخاذه عيدًا.
والأحاديث عنه بأن صلاتنا وسلامنا تعرض عليه صلى الله عليه وآله وسلم كثيرة: منها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «مَا مِنْ أَحَدٍ يُسَلِّمُ عَلَىَّ إِلَاّ رَدَّ اللهُ عَلَىَّ رُوحِى حَتَّى أَرُدَّ عليه السلام» صلى الله عليه وآله وسلم. (رواه أبو داود وحسنه الألباني).
ومنها ما رواه أَوْس بْنُ أَوْسٍ قَالَ: قَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّ مِنْ أَفْضَلِ أَيَّامِكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَأَكْثِرُوا عَلَىَّ مِنَ الصَّلَاةِ فِيهِ فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ مَعْرُوضَةٌ عَلَىَّ» . فَقَالُوا: «يَا رَسُولَ اللهِ، وَكَيْفَ تُعْرَضُ صَلَاتُنَا عَلَيْكَ وَقَدْ أَرِمْتَ؟» ، قَالَ: يَقُولُونَ بَلِيتَ. قَالَ: «إِنَّ اللهَ تبارك وتعالى حَرَّمَ عَلَى الأَرْضِ أَجْسَادَ الأَنْبِيَاءِ» . (رواه أبو داود، وصححه الألباني). (أرم أي صار رميمًا، أي عظمًا باليًا).
وفي النسائي وغيرِه عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «إِنَّ لِلهِ مَلَائِكَةً سَيَّاحِينَ فِى الأَرْضِ يُبَلِّغُونِى مِنْ أُمَّتِى السَّلَامَ» (صححه الألباني).
والعيد إذا جُعِلَ اسمًا للمكان فهو المكان الذي يُقْصَدُ الاجتماعُ فيه، وإتيانه مرة بعد مرة للعبادة عنده، أو لغير العبادة، كما أن المسجد الحرام ومنى ومزدلفة وعرفة، جعلها الله عيدًا، مثابة للناس، يجتمعون فيها، وينتابونها، للدعاء والذكر
والنسك.
وكان للمشركين أمكنة ينتابونها للاجتماع عندها، فلما جاء الإسلام محى الله ذلك كله.
وهذا النوع من الأمكنة يدخل فيه قبور الأنبياء والصالحين والقبور التي يجوز أن تكون قبورًا لهم، بتقدير كونها قبورًا لهم، بل وسائر القبور أيضًا داخلة في هذا.
فإن قبر المسلم له من الحرمة ما جاءت به السنة، إذ هو بيت المسلم الميت، فلا يترك عليه شيء من النجاسات بالاتفاق ولا يُوطُأ ولا يُداس، ولا يُتَّكَأ عليه، ولا يجاور بما يؤذي الأموات من الأقوال والأفعال الخبيثة، ويستحب عند إتيانه السلام على صاحبه، والدعاء له، وكلما كان الميت أفضل، كان حقه أوْكَد.
وعَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم يُعَلِّمُهُمْ إِذَا خَرَجُوا إِلَى الْمَقَابِرِ فَكَانَ قَائِلُهُمْ يَقُولُ: «السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الدِّيَارِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَإِنَّا ـ إِنْ شَاءَ اللهُ ـ لَلَاحِقُونَ، أَسْأَلُ اللهَ لَنَا وَلَكُمُ الْعَافِيَةَ» (رواه مسلم).
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم أَتَى الْمَقْبُرَةَ فَقَالَ:
«السَّلَامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ» (رواه مسلم).
وعَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رضي الله عنه قَالَ: «كَانَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وآله وسلم إِذَا فَرَغَ مِنْ دَفْنِ الْمَيِّتِ وَقَفَ عَلَيْهِ فَقَالَ: «اسْتَغْفِرُوا لأَخِيكُمْ وَسَلُوا لَهُ التَّثْبِيتَ فَإِنَّهُ الآنَ يُسْأَلُ» . (رواه أبو داود وصححه الألباني).
فهذا ونحوه مما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يفعله، ويأمر به أمته عند قبور المسلمين، عقب الدفن، وعند زيارتهم، والمرور بهم، إنما هو تحية للميت، كما يُحَيَّى الحيُّ، ودعاء له كما يُدعَى له، إذا صلى عليه قبل الدفن أو بعده، وفي ضمن الدعاء للميت، دعاء الحي لنفسه، ولسائر المسلمين، كما أن الصلاة على الجنازة فيها الدعاء للمصلي، ولسائر المسلمين، وتخصيص الميت بالدعاء له.
فهذا كله، وما كان مثله مِن سُنّة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وما كان عليه السابقون الأولون، هو المشروع للمسلمين في ذلك، وهو الذي كانوا يفعلونه عند قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وغيره (1).
(1) انظر اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم لشيخ الإسلام ابن تيمية (ص 323 - 326).