الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أم يكتب عن جهوده في نشر الدعوة السلفية؟
أم..؟ أم..؟
…
؟
موضوعات شتى يقف المرء أمامها متحيّراً.
ولكن ما لا يُدرك كلّه، لا يُترك جُلُّه..
هذا على الرغم من كثرة من كتب عنه، وترجم له، ودرس جوانب حياته.
وكما - أسلفتُ - لعلّ الحافز على الكتابة رغبتي في أن أُذكر معه، وأسأل ربي أن يحشرني معه.
المطلب الأول: حياة المؤلف الشخصية:
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: اسمه ونسبه:
هو شيخ الإسلام، وعلم الأعلام، تقي الدين، أبو العباس أحمد بن شهاب الدين أبي المحاسن عبد الحليم بن مجد الدين أبي البركات عبد السلام ابن أبي محمد عبد الله بن أبي القاسم الخضر بن محمد بن الخضر بن علي ابن عبد الله بن تيمية الحراني النميري.
فهو ينتسب إلى قبيلة عربية نِمْريّة؛ من بني نُمَيْر الذين يرجع نسبهم إلى قيس عيلان من مضر1.
أما عن سبب تسمية عائلته بآل تيمية:
فقد قيل إن جدّه محمد بن الخضر حجّ على درب تيماء، فرأى هناك طفلة، فلما رجع وجد امرأته قد ولدت له بنتاً، فقال يا تيمية، يا تيمية.
1 انظر: النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة، للأتابكي: 1/271. وترجمة المؤلف لزهير شاويش، على هامش كتاب ((شرح حديث النزول)) ص 6، هامش 1.
وقيل إنّ أمّ جدّه محمدٍ كانت تُسمّى تيمية، وكانت واعظة، فنسب إليها، وعُرف بها1.
المسألة الثانية: ولادته، ونشأته، وأسرته:
وُلد شيخ الإسلام رحمه الله يوم الاثنين العاشر من ربيع الأول، وقيل: ثاني عشر من شهر ربيع الأول سنة 661? بحران2؛ وهي بلدة في الجزيرة بين العراق والشام3.
وقد عاش شيخ الإسلام في مسقط رأسه مع والديه ست سنوات.
وبعد اجتياح التتار للعالم الإسلامي، خربت حران، فهاجر أهلها، ومنهم آل تيمية إلى دمشق.
ويُحدّثنا ابن عبد الهادي عن قصة سفر آل تيمية إلى دمشق، وحرصهم على العلم، ومحافظتهم على الكتب، فيقول:"فساروا بالليل ومعهم الكتب على عجلة لعدم الدواب، فكاد العدو يلحقهم، ووقفت العجلة، فابتهلوا إلى الله، واستغاثوا به، فنجوا وسلموا، وقدموا دمشق سنة 667?"4.
وقد استوطنوا دمشق، واشتهرت عائلتهم بالعلم:
فجدّه أبو البركات مجد الدين عبد السلام: كان فقيهاً محدثاً أصولياً نحوياً، من العلماء الأعلام5.
1 انظر: العقود الدرية ص 2.
2 انظر: العقود الدرية ص 2. وكتاب الذيل لابن رجب 4/387.
3 انظر: معجم البلدان 2/235.
4 العقود الدرية ص 3.
5 ذيل طبقات الحنابلة لابن رجب 4/249.
ووالده شهاب الدين عبد الحليم: كان عالماً فاضلاً من علماء عصره1.
قال عنه الحافظ الذهبي: "صار شيخ حران وحاكمها وخطيبها بعد موت والده"2.
وذكر الحافظ ابن كثير: "أنّ له كرسياً للدراسة والتعليم والوعظ، وأنه تولى مشيخة دار الحديث السكرية، وبها كان سكنه، مات سنة 682"3.
وأخوه شرف الدين عبد الله: كان من العلماء، وكان ممن دافع عن شيخ الإسلام، وامتحن بسببه4.
وكذلك أخوه زين الدين عبد الرحمن: كان زاهداً عابداً، كما أنه كان تاجراً، وكان يخدم الشيخ رحمه الله وسجن معه في سجن القلعة5.
وأخوه لأمه بدر الدين أبو القاسم محمد بن خالد الحراني: كان عالماً فقيهاً إماماً تولى التدريس عن أخيه تقي الدين6.
وهناك العديد من مشاهير آل تيمية، من هذه الأسرة الكريمة التي عُرف عنها الاشتغال بالعلم رجالاً ونساءً7.
1 المصدر نفسه 4/310.
2 العبر للذهبي 3/349-350.
3 البداية والنهاية لابن كثير 13/303.
4 انظر: العقود الدرية ص 361. وذيل الطبقات 2/382.
5 انظر: العقود الدرية ص 368.
6 انظر: ذيل طبقات الحنابلة 2/370.
7 انظر: أوراق مجموعة من حياة شيخ الإسلام، تأليف محمد بن إبراهيم الشيباني ص 14-22.
فشيخ الإسلام رحمه الله نشأ في وسط هذا الجوّ العلميّ؛ بين جدّ فقيه محدّث أصولي، ووالد صاحب علوم مختلفة ومعارف شتى، وإخوة اشتهروا بالفضل والعلم.
فكان لهذا الجوّ العلميّ تأثيره على شخصيته العلمية، مع ما وهبه الله من حافظة قوية، وسرعة بديهة، وذكاء مفرط، ومحافظة على الوقت منذ نعومة أظفاره.
المسألة الثالثة: صفاته الخَلقيّة:
كان - رحمه الله تعالى - أبيض اللون، أسود الرأس واللحية، قليل الشيب، شعره إلى شحمة أذنيه، كأنّ عينيه لسانان ناطقان، ربعة من الرجال، بعيد ما بين المنكبين، جهوري الصوت، فصيحاً، سريع القراءة، تعتريه حدّة لكن يقهرها بالحلم1.
المسألة الرابعة: صفاته الخُلُقيّة:
اتصف شيخ الإسلام رحمه الله بصفات عظيمة؛ من الأخلاق، والمروءة، والكرم، والإيثار، والحلم، والتعبّد، والزهد، وصدق الصلة بالله، فلم يكن يخاف من غيره، أو يرهب من سواه.
قال الحافظ الذهبي رحمه الله عنه: "كان إماماً متبحراً في علوم الديانة، صحيح الذهن، سريع الإدراك، سيّال الفهم، كثير المحاسن، موصوفاً بفرط الشجاعة والكرم، فارغاً عن شهوات المأكل والملبس والجماع، لا لذة له في غير نشر العلم وتدوينه والعمل بمقتضاه"2.
1 كتاب الذيل 2/395. وأوراق مجموعة من حياة شيخ الإسلام ص 26.
2 كتاب ذيل طبقات الحنابلة 2/390 ط. ابن رجب.
وقال الحافظ الذهبي أيضاً: "كان محافظاً على الصلاة والصوم، معظماً للشرائع ظاهراً وباطناً، لا يؤتى من سوء فهم؛ فإنّ له الذكاء المفرط، ولا من قلة علم؛ فإنه بحر زخار، ولا كان متلاعباً بالدين، ولا ينفرد بمسائله بالتشهي، ولا يطلق لسانه بما اتفق، بل يحتج بالقرآن والحديث والقياس، ويبرهن، ويناظر أسوة بمن تقدمه من الأئمة، فله أجرٌ على أخطائه، وأجران على إصابته. لم أرَ مثله في ابتهاله واستغاثته، وكثرة توجهه
…
وإنه بحر لا ساحل له، وكنز لا نظير له، ولكن ينقمون عليه أخلاقاً وأفعالاً، وكل أحدٍ يُؤخذ من قوله ويترك.."1.
وقال أيضاً: "وهو ثابت لا يداهن ولا يحابي، بل يقول الحق المر الذي أدّاه إليه اجتهاده، وحدّة ذهنه، وسعة دائرته في السنن والأقوال. مع ما اشتهر عنه من الورع، وكمال الفكرة، وسرعة الإدراك، والخوف من الله، والتعظيم لحرمات الله
…
فجرى بينه وبينهم حملات حربية، ووقائع شامية ومصرية، وكم من نوبة قد رموه عن قوس واحد، فيُنجّيه الله، فإنه دائم الابتهال لله، كثير الاستغاثة، قوي التوكّل، ثابت الجأش، له أوراد وأذكار يدعو منها بكيفية وجَعِيَّة"2.
وقد كان رحمه الله صبوراً على مُرّ الكلام، عدلاً في المخاطبة.. يقول عن نفسه:"فإنّ الناس يعلمون أنّي من أطول الناس روحاً وصبراً على مرّ الكلام، وأعظم الناس عدلاً في المخاطبة لأقلّ الناس، دع لولاة الأمر"3.
1 نقلاً عن أوراق مجموعة من حياة شيخ الإسلام ص 26-27.
2 العقود الدرية ص 118.
3 مجموع الفتاوى 3/251.
أما عن شدّة ذكائه، واتقاد حافظته، فقد قال جمال الدين السرمري في أماليه:"ومن عجائب زماننا في الحفظ: ابن تيمية، كان يمرّ بالكتاب مرة مطالعة، فينقش في ذهنه، وينقله من مصنفاته بلفظه ومعناه. وحكى بعضهم عنه أنه قال: من سألني مستفيداً حققت له، ومن سألني متعنتاً ناقضته، فلا يلبث أن ينقطع فأُكفى مؤنته"1.
ومن أقواله - رحمه الله تعالى -:
"لن يخاف الرجل غير الله إلا لمرض في قلبه؛ فإن رجلاً شكى إلى أحمد بن حنبل خوفه من بعض الولاة، فقال: لو صَحَحْتَ لم تخف أحداً؛ أي خوفك من أجل زوال الصحة من قلبك".
ولما وُشي به إلى السلطان الناصر خاطبه قائلاً: إنني أُخبرتُ أنك قد أطاعك الناس، وأن في نفسك أخذ الملك، فلم يكترث به. بل قال له بنفس مطمئنة، وقلب ثابت، وصوت عال سمعه كثير ممن حضر:"أنا أفعل ذلك! والله إنّ ملكك وملك المغل2 لا يُساوي عندي فلسين". فتبسّم السلطان لذلك، وأجابه في مقابلته بما أوقع الله له في قلبه من الهيبة العظيمة: إنك والله لصادق، وإن الذي وشي بك إليّ كاذب3.
1 البدر الطالع 1/70.
2 المغل: هم المغول: قوم من أطراف الصين يسكنون جبال طمغاج من الصين، ملكوا أكثر المعمور من الأرض وأطيبه وأحسنه عمارة وأكثره أهلاً وأعدلهم أخلاقاً وسيرة. في نحو سنة 616? خرجوا بقيادة ملكهم جنكيز خان فملكوا من أقصى بلاد الصين إلى أن وصلوا إلى بلاد العراق وما حولها، حتى انتهوا إلى إربل وأعمالها فملكوا في سنة واحدة سنة 617?. وهم يسجدون للشمس إذا طلعت ولا يحرّمون شيئاً ويأكلون ما يجدونه من الحيوانات والميتات. وضع لهم جنكيز خان السياسات التي يتحاكمون إليها ويحكمون بها، وأكثرها مخالف لشرائع الله تعالى وكتبه، وهو شيء اقترحه من عند نفسه، وتبعوه في ذلك. انظر: البداية والنهاية 13/90، 94-95، 127.
3 الأعلام العلية للبزار ص 74-75.
ولمّا خُوّف رحمه الله قال: "أنا من أي شيء أخاف؟ فإن قتلت كنت من أفضل الشهداء، وكان ذلك سعادة في حقي، يترضى بها عليّ إلى يوم القيامة، ويلعن الساعي في ذلك إلى يوم القيامة؛ فإنّ جميع أمّة محمد يعلمون أني أقتل على الحق الذي بعث الله به رسوله. وإن حبست فوالله إن حبسي لمن أعظم نعم الله عليّ. وليس لي ما أخاف الناس عليه؛ لا مدرسة، ولا إقطاع، ولا مال، ولا رئاسة، ولا شيء من الأشياء"1.
وكان رحمه الله من أشجع الناس، وأقواهم قلباً، فما رُؤي أحد أثبت جأشاً منه، ولا أعظم عناء في جهاد العدو منه، كان يُجاهد في سبيل الله بقلبه ولسانه ويده، ولا يخاف لومة لائم2.
قال الذهبي عن شجاعته: "وأما شجاعته فبها تضرب الأمثال، وببعضها يتشبه أكابر الأبطال، فلقد أقامه الله في نَوْبَةِ غَازان3، والتقى أعباء الأمر بنفسه، وقام وقعد، وطلع وخرج، واجتمع بالملك مرتين،
1 مجموع الفتاوى 3/259.
2 انظر: الأعلام العلية ص 69.
3 هو ملك التتار، واسمه محمود بن أرغون بن أبغا بن هولاكو بن تولى بن جنكيز خان. تولى الملك على التتار سنة 694? فأسلم على يد الأمير توزون وأظهر الإسلام ودخلت التتار أو أكثرهم في الإسلام، وتسمى بمحمود وشهد الجمعة والخطبة وخرّب كنائس كثيرة وضرب عليهم الجزية ورد مظالم كثيرة ببغداد وغيرها من البلاد. ثم قتل قازان الأمير نوروز!!! الذي كان إسلامه على يديه وقتل جميع من ينتسب إليه وهو من خيار أمراء التتار. وقد كسر المسلمين عند وادي مسلمية وولى السلطان هارباً فولى المسلمون لا يلوون على أحد فاجتمع أعيان دمشق على أخذ الأمان منه لأهل دمشق فاجتمعوا به عند النبك وكلّمه الشيخ تقي الدين كلاماً قوياً شديداً فيه مصلحة عظيمة عاد نفعها على المسلمين ولله الحمد. وقد توفي قازان سنة 703? بالقرب من همدان، وقام بالملك من بعده أخوه خربندا. انظر: البداية والنهاية 13/360، 372،، 14/8، 30.
وبقَطْلوشاه1 وببُولاي2. وكان قَبْجَق3 يتعجب من إقدامه وجرأته على المغول. وله حدّة قوية تعتريه في البحث، حتى كأنه ليث حرب"4.
وقال عنه ابن عبد الهادي: "ولقد أخبرني حاجب من الحجاب الشاميين؛ أمير من أمرائهم ذو دين متين، وصدق لهجة معروف في الدولة قال: قال لي الشيخ يوم اللقاء ونحن بمرج الصُّفَّر5 وقد تراءى الجمعان:
1 هو نائب قازان. وهو من التتر. انظر: البداية والنهاية 14/10.
2 من أمراء التتر الذين عاثوا في الأرض فساداً بعد وقعة قازان. قال ابن كثير: (خرج الشيخ تقي الدين ابن تيمية إلى مخيم بولاي فاجتمع به في فكاك من كان معه من أسارى المسلمين فاستنقذ كثيراً منهم من أيديهم وأقام عنده ثلاثة أيام ثم عاد ثم راح إليه جماعة من أعيان دمشق ثم عادوا من عنده فشلحوا عند باب شرقي وأخذ ثيابهم وعمائمهم ورجعوا في شر حالة ثم بعث في طلبهم فاختفى أكثرهم وتغيبوا عنه) . البداية والنهاية 14/11-12.
3 هو الأمير سيف الدين قبجق المنصوري نائب السلطان على دمشق سنة 696?. وفي سنة 698? فرّ إلى المغول ولحق بهم في أيام لاجين خوفاً منه بعد وقعة قازان ودخول التتر دمشق. فجعله قازان نائباً له على الشام، ثمّ تركها لما رحل قازان عن دمشق، ثم استناب على حماة ثم حلب للملك الناصر نحمد بن المنصور قلاوون. وكان على يديه فرج المسلمين عام قازان. مات بحلب وهو وال عليها. ودفن بحماة سنة 710?.
انظر: البداية والنهاية 13/369،، 14/3-4، 8-12، 30، 62.
4 العقود الدرية ص 118. وانظر: البداية والنهاية 14/92.
5 هو أرض واسعة في دمشق فيها نبت كثير تمرج فيها الدواب. له ذكر في فتوح خالد بن الوليد لدمشق، كان فيه موقعة عظيمة مع الروم، وصارت فيه وقعة شقجب بين المسلمين والتتر، وانتصر فيها المسلمون سنة 702?. وحضرها شيخ الإسلام رحمه الله وجاهد فيها مع أصحابه بسيفه، وكان رحمه الله يحلف للأمراء والناس أنهم في هذه الكرة منصورون، فيقول له الأمراء: قل إن شاء الله، فيقول: إن شاء الله تحقيقاً لا تعليقاً.
انظر: البداية والنهاية 14/25-27. ومعجم البلدان 5/101. وحاشية كتاب العقود الدرية ص 176.
يا فلان أوقفني موقف الموت. قال: فسقته إلى مقابلة العدو وهم منحدرون كالسيل تلوح أسلحتهم من تحت الغبار المنعقد عليهم. ثم قلت: يا سيدي هذا موقف الموت، وهذا العدو قد أقبل تحت هذه الغبرة المنعقدة، فدونك وما تريد. قال: فرفع طرفه إلى السماء، وأشخص ببصره، وحرك شفتيه طويلاً، ثم انبعث وأقدم على القتال
…
ثم حال القتال بيننا والالتحام، وما عدت رأيته حتى فتح الله ونصر"1.
وأما عن إيثاره غيره على نفسه، مع فقره:
فيقول تلميذه البزار رحمه الله عن ذلك: "كان رضي الله عنه مع شدة تركه للدنيا، ورفضه لها، وفقره فيها، وتقلله منها، مؤثراً بما عساه يجده منها، قليلاً كان أو كثيراً، جليلاً أو حقيراً، لا يحتقر القليل فيمنعه ذلك عن التصدق به، ولا الكثير فيصرفه النظر إليه عن الإسعاف به. فقد كان يتصدّق حتى إذا لم يجد شيئاً نزع بعض ثيابه المحتاج إليه فيصل به الفقير، وكان يستفضل من قوته القليل الرغيف والرغيفين فيؤثر بذلك على نفسه. وربّما خبّأها في كمّه. ويمضي ونحن معه لسماع الحديث، فيراه بعضنا وقد دفعه إلى فقير، مستخفينا، يحرص أن لا يراه أحد.. وكان إذا ورد عليه فقير وآثر المقام عنده يؤثره عند الأكل بأكثر قوته الذي جعل برسمه"2.
وأما هيئته ولباسه:
فقد كان رضي الله عنه متوسطاً في لباسه وهيئته، لا يلبس فاخر الثياب بحيث يرمق ويُمدّ النظر إليه، ولا أطماراً أو ثياب غليظة تُشهر حال لابسها، ولا يُميّز عن عامة الناس بصفة خاصة يراه الناس فيها من عالم وعابد.
1 العقود الدرية ص 177-178.
2 الأعلام العلية ص 50.
بل كان لباسه وهيئته كغالب الناس ومتوسطهم.
ولم يكن يلزم نوعاً واحداً من اللباس فلا يلبس غيره، بل كان يلبس ما اتفق وحصل، ويأكل ما حضر. وكانت بذاذة الإيمان عليه ظاهرة، لا يُرى متصفاً في عمامة، ولا لباس، ولا مشية، ولا قيام، ولا جلوس، ولا يتهيّأ لأحد يلقاه، ولا لمن يرد عليه من بلد1.
وأما كرمه:
فقد كان مجبولاً على الكرم، لا يتطبعه، ولا يتصنعه، بل هو له سجية. وما شدّ على دينار ولا درهم قطّ بل كان مهما قدر على شيء من ذلك يجود به كله. وكان لا يردّ من يسأله شيئاً يقدر عليه من دراهم، ولا دنانير، ولا ثياب، ولا كتب، ولا غير ذلك.
وكان رحمه الله لا يردّ أحداً يسأله شيئاً من كتبه، بل يأمره أن يأخذ هو بنفسه ما يشاء منها.
وكان يُنكر إنكاراً شديداً على من يسأل شيئاً من كتب العلم التي يملكها ويمنعها من السائل، ويقول: ما ينبغي أن يمنع العلم ممن يطلبه2.
أما عفوه عمّن ظلمه، ومسامحته لمن عاداه، حتى بعد القدرة عليه:
فقد قال تلميذه ابن عبد الهادي رحمه الله: "سمعت الشيخ تقي الدين ابن تيمية رحمه الله يذكر أن السلطان لما جلس بالشباك، أخرج من جيبه فتاوى لبعض الحاضرين في قتله، واستفتاه في قتل بعضهم. قال: ففهمت مقصوده، وأن عنده حنقاً شديداً عليهم لما خلعوه وبايعوا الملك المظفر
1 انظر في هيئته ولباسه: الأعلام العلية ص 55.
2 انظر: الأعلام العلية ص 65.
ركن الدين بيبرس الجاشنكير. فشرعتُ في مدحهم، والثناء عليهم، وشكرهم، وأنّ هؤلاء لو ذهبوا لم تجد مثلهم في دولتك. أما أنا فهم في حلّ من حقي، ومن جهتي، وسكّنتُ ما عنده عليهم. قال: فكان القاضي زين الدين ابن مخلوف قاضي المالكية يقول بعد ذلك: ما رأينا أتقى من ابن تيمية، لم نبق ممكناً في السعي فيه، ولما قدر علينا عفا عنّا"1.
ولعلّ ابن مخلوف هذا هو الذي كنّى عنه ابن كثير ب"أحد خصوم شيخ الإسلام) ، ونقل قوله عن شيخ الإسلام رحمه الله: "ما رأينا مثل ابن تيمية، حرّضنا عليه، فلم نقدر عليه، وقدر علينا، فصفح عنّا وحاجج عنّا"2.
وقال الشيخ رحمه الله قبيل وفاته للوزير، لما اعتذر إليه عن نفسه، والتمس منه أن يعفو عما بدر منه في حقه من تقصير أو غيره: "إني قد أحللتك وجميع من عاداني وهو لا يعلم أني على الحقّ
…
وقال ما معناه: إني قد أحللت السلطان الملك الناصر من حبسه إياي لكونه فعل ذلك مقلداً غيره معذوراً، ولم يفعله لحظ نفسه، بل لِمَا بلغه مما ظنه حقاً من مبلغه، والله يعلم أنه بخلافه. وقد أحللتُ كلّ واحدٍ مما كان بيني وبينه، إلا من كان عدواً لله ورسوله"3.
1 العقود الدرية ص 282-283.
2 البداية والنهاية 14/54، وكذا (حاجج) في الأصل، والقياس:(حاج) .
3 الأعلام العلية ص 83-84.