الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الرابع: أقوال الناس في النبوة:
تنوعت أقوال الناس في النبوة
أولاً: قول أهل السنة والجماعة:
وقالوا: إنّ النبيّ يختصّ بصفات ميّزه الله بها على غيره، وبصفات فضّله بها بعد البعثة لم تكن موجودة فيه من قبل.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "والله سبحانه قد أخبر أنه يصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس.
والاصطفاء: افتعال من التصفية، كما أن الاختيار: افتعال من الخيرة، فيختار من يكون مصطفى. وقد قال:{اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام، 124] ، فهو أعلم بمن يجعله رسولاً ممّن لم يجعله رسولاً. ولو كان كلّ الناس يصلح للرسالة لامتنع هذا. وهو عالم بتعيين الرسول، وأنه أحقّ من غيره بالرسالة، كما دلّ القرآن على ذلك
…
- إلى أن قال: والله سبحانه اتخذ رسولاً فضّله بصفات أخرى لم تكن موجودة فيه من قبل إرساله، كما كان يظهر لكلّ من رأى موسى وعيسى ومحمداً من أحوالهم وصفاتهم بعد النبوة، وتلك الصفات غير الوحي الذي ينزل عليهم، فلا يقال إن النبوة مجرّد صفة إضافية كأحكام الأفعال كما تقوله الجهمية"1.
1 منهاج السنة النبوية 5/437-439.
وقال رحمه الله في موضع آخر: "الله يصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس، والله أعلم حيث يجعل رسالته، فالنبيّ يختص بصفات ميّزه الله بها على غيره، وفي عقله ودينه، واستعدّ بها لأنيخصه الله بفضله ورحمته،
كما قال تعالى: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} [الزخرف، 31] "1.
ثانياً: النبوة عند الجهمية والأشاعرة:
جوّز الجهمية والأشاعرة بعثة كلّ مكلّف، بناءً على أصلهم: إنّ الله يجوز أن يفعل كلّ ممكن. ولكنّهم قيّدوا إطلاقهم هذا بقولهم: إنّ النبيّ لا يكون فاجراً. وهذا - أي: كون النبيّ غير فاجر - عندهم لم يُعلم بالعقل - على حدّ زعمهم -بل عُلم بالسمع2.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "فهؤلاء يُجوّزون بعثة كلّ مكلّف، والنبوّة عندهم مجرّد إعلامه بما أوحاه إليه.
والرسالة مجرّد أمره بتبليغ ما أوحاه إليه.
وليست النبوة عندهم صفة ثبوتية، ولا مستلزمة لصفة يختصّ بها، بل هي من الصفات الإضافية، كما يقولون مثل ذلك في الأحكام الشرعية"3.
قال الشهرستاني - وهو من كبار علماء الأشاعرة: "النبوة ليست صفة راجعة إلى نفس النبيّ، ولا درجة يبلغ إليها أحدٌ بعلمه
…
"4.
1 منهاج السنة النبوية 2/416.
2 انظر: منهاج السنة النبوية 2/419.
3 منهاج السنة النبوية 2/414.
4 نهاية الإقدام في علم الكلام للشهرستاني ص 462. وانظر: قانون التأويل لابن العربي - قسم الدراسة -: ص 348.
وقال سيف الدين الآمدي - وهو من كبار علمائهم أيضاً: "وليست النبوة هي معنى يعود إلى ذات من ذاتيات النبيّ، ولا إلى عرض من أعراضه استحقها بكسبه وعلمه.."1.
فليست النبوة إذاً عند الأشاعرة صفة ثبوتيّة، كما نصّ على ذلك شيخ الإسلام رحمه الله، وكما تقدّم من كلام بعض أئمتهم.
وهم - أعني: الأشاعرة لم يُميّزوا بين معجزات الأنبياء وكرامات أتباعهم، وبين خوارق السحرة والكهان.
قال شيخ الإسلام رحمه الله عنهم: "وقالوا: وخوارق الأنبياء يظهر مثلها على يد الساحر والكاهن والصالح، ولا يدلّ على النبوة، لأنه لم يدّعيها. قالوا: ولو ادّعى النبوة أحدٌ من أهل الخوارق مع كذبه، لم يكن بُدّ من أنّ الله يعجزه عنها، فلا يخلقها على يده، أو يقيّض له من يُعارضه فتبطل حجّته"2.
وقال رحمه الله: "ولهذا يقيم أكابر فضلائهم مدة يطلبون الفرق بين المعجزات والسحر، فلا يجدون فرقاً؛ إذ لا فرق عندهم في نفس الأمر. والتحقيق: أن آيات الأنبياء مستلزمة للنبوة، ولصدق الخبر بالنبوة، فلا يوجد إلا مع الشهادة للرسول بأنه رسول، لا يوجد مع التكذيب بذلك"3.
مع أنّ التمييز بين ما للأنبياء وأتباعهم، وبين ما للسحرة والكهان ومن على شاكلتهم، من أشرف العلوم.
إلا أنّهم لم يُوفّقوا في هذا الباب.
1 غاية المرام في علم الكلام للآمدي ص 317.
2 النبوات ص 588. وانظر المصدر نفسه 731-735، 946-951، 1146-1152.
3 النبوات ص 956-959. وانظر: منهاج السنة النبوية 5/436-439. وشرح الأصفهانية 2/543. وكتاب الصفدية 1/225-229.
ثالثاً: النبوة عند المعتزلة والشيعة:
يذهب المعتزلة إلى أنّ إرسال الرسل واجبٌ على الله سبحانه وتعالى بناءً على أصلهم في التحسين والتقبيح العقليين. ولذلك يقول القاضي عبد الجبار المعتزلي: "قال مشيختنا: إن البعثة متى حسنت وجبت"1.
وقد ردّ عليهم شيخ الإسلام رحمه الله وبيَّن أنّ إرسال الله تعالى لرسله هو بفضله سبحانه. وكما أن هدايته لهم بفضله، فكذلك الثواب والجزاء هو بمنته وفضله، وإن كان أوجب ذلك على نفسه، كما حرّم الظلم عليها.
قال تعالى: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام، 54]، وقال تعالى:{وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم، 47] .
فهو واقع لا محالة، وواجب بحكم إيجابه ووعده؛ لأنّ الخلق لا يوجبون على الله شيئاً، أو يُحرّمون عليه شيئاً، بل هم أعجز من ذلك، وأقلّ من ذلك، وكلّ نعمة منه فضل، وكلّ نقمة منه عدل2.
أمّا عن موقف المعتزلة من النبوّة: هل هي صفة ثابتة قائمة بنفس النبيّ، أو صفة إضافية؟
فيُؤكّد شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أنّهم يجعلونها صفة ثبوتية.
يقول شيخ الإسلام رحمه الله: "وكثير من القدرية المعتزلة والشيعة وغيرهم من يقول بأصله في التعديل والتجوير، وأنّ الله لا يُفضّل شخصاً على شخص إلا بعمله، يقول: إنّ النبوّة، أو الرسالة جزاء على عمل متقدّم؛ فالنبيّ فَعَلَ من الأعمال الصالحة ما استحقّ به أن يجزيه الله بالنبوة"3.
1 شرح الأصول الخمسة لعبد الجبار ص 564.
2 انظر مجموع الفتاوى 8/72-73.
3 منهاج السنة النبوية 2/415.
ويحكي رحمه الله قولهم عن النبوة: أن "صفاتها ثابتة بدون الخطاب، والخطاب مجرّد كاشف بمنزلة الذي يُخبر عن الشمس والقمر والكواكب بما هي متصفة به"1.
رابعاً: النبوة عند المتفلسفة وصوفيتهم:
أبعد المتفلسفة وصوفيتهم النجعة في هذا الباب، وانزلقوا منزلقاً خطيراً حين زعموا أنّ النبوّة فيضٌ يفيض على الإنسان بحسب استعداده، ونفوا أن ينزل المَلَك بالوحي على النبيّ، وزعموا أنّه مجرّد خطاب يسمعه الشخص، كما يسمع النائم الخطاب.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وأما المتفلسفة القائلون بقدم العالم وصدوره عن علة موجبة، مع إنكارهم أن الله - تعالى - يفعل بقدرته ومشيئته، وأنه يعلم الجزئيّات، فالنبوة عندهم: فيضٌ يفيض على الإنسان بحسب استعداده، وهي مكتسبة عندهم.
ومن كان متميّزاً في قوته العلمية بحيث يستغني عن التعليم، وشُكِّل في نفسه خطاب يسمعه كما يسمع النائم، وشخص يُخاطبه كما يخاطب النائم - وفي العملية - بحيث يؤثر في العنصريات تأثيراً غريباً - كان نبيّاً عندهم.
وهم لا يُثبتون ملكاً مفضلاً يأتي بالوحي من الله - تعالى - ولا ملائكة، بل ولا جناً يخرق الله بهم العادات للأنبياء إلا قوى النفس. وقول هؤلاء وإن كان شراً من أقوال كفار اليهود والنصارى، وهو أبعد الأقوال عما جاءت به الرسل، فقد وقع فيه كثير من المتأخرين الذين لم يُشرق عليهم نور النبوة من المدّعين للنظر العقليّ، والكشف الخيالي الصوفي، وإن كان غاية هؤلاء
1 منهاج السنة النبوية 5/437. وانظر الصفدية 1/225.
الأقيسة الفاسدة، والشكّ، وغاية هؤلاء الخيالات الفاسدة والشطح"1.
خامساً: النبوة عند الباطنية:
اعتبر الباطنية النبوة نوعاً من أنواع السياسة العادلة التي وضعت لمصلحة العامة، مع عدم إيمانهم بأحوالها مطلقاً، بل آمنوا ببعض، وكذّبوا ببعض.
يقول شيخ الإسلام رحمه الله عنهم: "يجعلون الملك بمنزلة المذاهب والسياسات التي يسوغ اتّباعها، وأن النبوة نوع من السياسة العادلة التي وضعت لمصلحة العامة في الدنيا.
فإنّ هذا الصنف يكثرون ويظهرون إذا كثرت الجاهلية وأهلها، ولم يكن هناك من أهل العلم بالنبوة والمتابعة لها من يُظهر أنوارها الماحية لظلمة الضلال، ويكشف ما في خلافها من الإفك والشرك والمحال. وهؤلاء يُكذّبون بالنبوة تكذيباً مطلقاً، بل هم يؤمنون ببعض أحوالها، ويكفرون ببعض الأحوال. وهم متفاوتون فيما يؤمنون به، ويكفرون به من تلك الخلال، فلهذا يلتبس أمرهم بسبب تعظيمهم للنبوات على كثير من أهل الجهالات" 2.
ولا ريب أنّ بُعد هذه الفرق عن الصواب، وكثرة اختلافها، يتناسب طرداً مع بعدها عن كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم.
فكلّما كانت الفرقة إلى الكتاب والسنة أقرب، كان الصواب فيها أكثر.
وكلّما كانت الفرقة عن الكتاب والسنة أبعد، كان الاختلاف فيها أكثر.
فالكتاب والسنّة هما الضابط لذلك كلِّه.
1 منهاج السنة النبوية 2/415-416. وانظر: المصدر نفسه 5/434- 435. ومجموع الفتاوى 11/607، 19/156. والفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص 204. ودرء تعارض العقل والنقل 5/353، 10/204.
2 منهاج السنة النبوية 1/6.
وقد بيَّن شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى - ذلك في كلمة رائعة قال فيها: "ولهذا كلّ طائفة كانت إلى النبوات أقرب، كانت أقلّ اختلافاً، وكلّما كثر بُعدها كثر اختلافها.
فالمتفلسفة لما كانوا أبعد من أهل الكلام عن النبوات، كانوا أكثر اختلافاً؛ فإنّ لهم من الاختلاف في الطبيعيّات والرياضيّات ما لا يكاد يحصيه إلا الله.
وأما اختلافهم في الإلهيات فأعظم.
والشيعة لما كانوا من أجهل الطوائف المنسوبين إلى الملة، كانوا أكثر اختلافاً من جميع الطوائف.
ثم المعتزلة أكثر اختلافاً من المثبتة للصفات والقدر.
ثم المثبتة المتكلمون فيهم من الاختلاف ما لا يوجد في أهل العلم بالسنة المحضة والحديث وأقوال السلف؛ فإنّ هؤلاء أبعد الطوائف عن الاختلاف في أصولهم؛ لأنهم أكثر اعتصاماً بالكتاب والسنّة من غيرهم. وبطريقتهم تنحلّ الإشكالات الواردة على طريقة غيرهم" 1.
وبيَّن رحمه الله هذه الحقيقة الثابتة في موضع آخر بقوله: "وإذا تدبّر العاقل، وجد الطوائف كلّها كلّما كانت الطائفة إلى الله ورسوله أقرب، كانت بالقرآن والحديث أعرف وأعظم عناية، وإذا كانت عن الله وعن رسوله أبعد، كانت عنهما أنأى، حتى تجد في أئمة علماء هؤلاء من لا يميز بين القرآن وغيره، بل ربما ذكرت عنده آية فقال: لا نسلّم صحة الحديث. وربما قال لقوله عليه السلام: كذا.. وتكون آية من كتاب الله.
وقد بلغنا من ذلك عجائب، وما لم يبلغنا أكثر" 2.
1 شرح الأصفهانية 2/379.
2 مجموع الفتاوى 4/96.