المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌فصل كلام الباقلاني في المعجزات ومناقشة شيخ الإسلام له - النبوات لابن تيمية - جـ ١

[ابن تيمية]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد الأول

- ‌مقدمة

- ‌الباب الأول

- ‌المبحث الأول: مدخل لدراسة موضوع الكتاب وما ألف فيه

- ‌المطلب الأول: حقيقة النبوة

- ‌المطلب الثاني: الحكمة من بعث الرسل

- ‌المطلب الثالث: وظائف الرسل

- ‌المطلب الرابع: أقوال الناس في النبوة:

- ‌المطلب الخامس: الإيمان بالأنبياء من أركان الإيمان:

- ‌المطلب السادس: الإسلام دين جميع الأنبياء:

- ‌المطلب السابع: المعجزات:

- ‌المطلب الثامن: ما أُلِّف في النبوات:

-

- ‌المبحث الثاني: التعريف بالمؤلِّف

- ‌المطلب الأول: حياة المؤلف الشخصية:

- ‌المطلب الثاني: حياة المؤلف العلمية

- ‌المبحث الثالث: دراسة الكتاب

- ‌المطلب الأول: التعريف بالكتاب

- ‌المطلب الثاني: التعريف بالأصل المخطوط

- ‌الباب الثاني: قسم التحقيق

- ‌فصل في معجزات الأنبياء التي هي آياتهم وبراهينهم

- ‌فصل في آيات الأنبياء وبراهينهم

- ‌فصل في أن الرسول لا بُدّ أن يبيّن أصول الدين

- ‌فصل عدل الله وحكمته وتعليل أفعاله

- ‌فصل طريقة الأشاعرة في إثبات المعجزات

- ‌فصل تعريف المعجزة عند الأشاعرة

- ‌فصل قول الأشاعرة في المعجزات

- ‌فصل كلام الباقلاني في المعجزات ومناقشة شيخ الإسلام له

- ‌فصل الفروق بين آيات الأنبياء وغيرها

- ‌فصل ما يخالف الكتاب والسنة فهو باطل

الفصل: ‌فصل كلام الباقلاني في المعجزات ومناقشة شيخ الإسلام له

‌فصل كلام الباقلاني في المعجزات ومناقشة شيخ الإسلام له

وقد ذكر القاضي أبو بكر أنّ من المثبتة المجيزين للكرامات من أجاب عن حجة النفاة، بأن قال: الأدلّة على ضربين: عقلية، ووضعية؛ فالعقليّ يدلّ لنفسه وجنسه، والوضعيّ يدلّ مع المواطأة، ولا يدلّ مثله مع عدمها؛ كعقد العشرة.

وضعف أبو بكر هذا، بأن قال لهم أن يقولوا: إذا كانت المعجزات تجري مجرى القول، فحيث قصدت دلّت. وعنده أنّ الأمر ليس كذلك1.

قلت: بل هذا القائل أحسن؛ لأنّها تدلّ إذا قصدت بها الدلالة؛ مثل قيام الأمر، وقعوده إذا طلب ذلك منه؛ ومثل العلامة التي تكون للشخص إذا جعلها علامة؛ فحيث قصد الدلالة به دلّ. لكن لازم هذا أن لا يكون إلا إذا طلب الاستدلال بها، [لا نفس] 2 الدعوى.

ثم إنّه3 ذكر أنّ الخارق للعادة لا بُدّ أن يكون خارقاً لعادة جميع المرسَل إليهم4.

1 لعلّ ما نقله شيخ الإسلام رحمه الله هنا عن القاضي أبي بكر الباقلاني هو من القسم المفقود من كتاب البيان؛ إذ المطبوع منه ناقصٌ من آخره.

2 في ((ط)) : لأنفس.

3 أي القاضي أبو بكر الباقلاني.

4 انظر: البيان للباقلاني ص 50، 55.

ص: 544

ثمّ جوَّز أن يكون ممّا اعتاده كثيٌر منهم، بشرط أن يمنعهم عن المعارضة، فيكون ذلك خرق عادة1.

ثم قال في الكرامات: لا يجوز أن تكثر حتى تصير عادة؛ لأنّ من حق المعجز على قولنا وقولهم أن يكون خارقاً للعادة، فلا تجوز إدامة ظهوره فيصير عادة، بل يقع نادراً2. وقد [جوَّزوا] 3 في السحر والكهانة أن يكون عادة، لكن عند دعوى النبوة يمنعهم من المعارضة، فكانت الكرامات أولى بذلك هي عادة للصالحين، وإذا ادّعى النبوّة صادقٌ منع من المعارضة4. فهذا اضطرابٌ آخر.

قول الباقلاني الخوارق لاتظهر إلا على يد نبي أو ولي. والرد عليه

وادّعى إجماع الأمة على أنّها لا تظهر على فاسق. ولولا الإجماع لجوّز ذلك؛ لأنّه لا ينقض دليل النبوة، فصارت تدلّ على الولاية بالإجماع. على أنّها لا تظهر إلا على يد نبيّ أو وليّ. فبهذا الإجماع يعلم أن من ظهرت [على] 5 يده وليّ6.

وهذا تناقضٌ من وجهين:

أحدهما: أنّهم قد قالوا: إنّها لا تدلّ على الولاية؛ لأن الولي من مات على الإيمان. وهذا غير معلوم.

1 انظر: البيان للباقلاني ص 16-20، 23، 72.

2 هذا الكلام غير موجود في المطبوع من كتاب البيان للباقلاني. وقد تقدمت الإشارة إلى أنّ الكتاب ناقص من آخره.

3 في ((خ)) : جوّز. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

4 انظر: البيان للباقلاني ص 94-95، 96-97، 100.

5 في ((ط)) : عغى. وهو خطأ مطبعي.

6 انظر: البيان للباقلاني ص 91، 103-104، 105.

ص: 545

الفرق بين المعجزات والسحر عند الأشاعرة

الثاني: أنّه يقال: إذا جوَّزتَ أن يظهر على يد الساحر، والكاهن، ونحوهما من الكفار ما هو من جنس المعجزات والكرامات، وقلتَ1: يجب أن لا يستثنى من السحر شيء لا يفعل عنده، إلا ما ورد الإجماع والتوقيف على أنه لا يكون بضرب من السحر، ولا يفعل عنده؛ كفلق البحر ونحوه؛ فيكون الفرق بين السحر وغيره [إنّما] 2 يُعلم بهذا الإجماع، إن ثبت. وإلا فعندك يجوز أن يظهر على يد الساحر كل ما يظهر على يد النبيّ إذا لم يدع النبوة، [ويحتجّ] 3 بذلك إذا ادّعى النبوة، وعارضه معارضٌ بالمثل. فكيف [تقول] 4 مع هذا: إنّ الخوارق تدلّ على الولاية بالإجماع، وأنت تجوّز ظهورها على أيدي الكفار؛ من السحرة، والكهان.

فإن قال: السحر والكهانة كانا قبل الرسول، فلما جاء بطلا.

قيل: أنت قد أثبتَّ أنّ نفسه سُحِر بعد النبوة5، وأنّ السحر كان على عهد الصحابة، وقتلوا الساحر، وذكرتَ إجماع الفقهاء على أنَّ السحر يكون من المسلمين، وأهل الكتاب6، والساحر ليس [بوليٍّ لله]7. والسحر عندك هو من جنس الكرامات. الجميع خارق للعادة، لم يستدل به على النبوّة8.

1 انظر: قول الباقلاني في كتابه البيان ص 91-98.

2 في ((ط)) : تأنما.

3 في ((م)) ، و ((ط)) : ولا يحتجّ.

4 في ((خ)) : يقول. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

5 انظر: البيان للباقلاني ص 82-83.

6 انظر: البيان للباقلاني ص 78-87.

7 في ((ط)) : بولي الله.

8 انظر: البيان للباقلاني ص 93-97.

فالباقلاني يجعل عمل الساحر من الخوارق، وأنه مما يفعله الله عند سحر الساحر، ولا يستثني من عمل الساحر للخوارق إلا ما ورد الإجماع والتوقيف على أنّه لا يكون بضربٍ من السحر؛ كالآيات الكبرى للأنبياء. أما الفرق بين السحر والمعجزات: فإنه إن ادّعى الساحر بسحره النبوة أبطله الله تعالى بوجهين: أحدهما: أنه إذا علم ذلك في حال الساحر، وأنه سيدعي به النبوة، أنساه عمل السحر جملة. والثاني: أن يهيئ الله خلقاً من السحرة يفعلون مثل فعله، ويعارضونه، فينتقض بذلك ما ادعاه، ويبطل.

انظر: البيان للباقلاني ص 91، 94-95.

أما الفرق بين المعجزة والكرامة: فليس موجوداً في المطبوعة الناقصة من البيان. ولكن الباقلاني ذكر ذلك في رسالته إلى أحد العلماء؛ إذ ذكر فيها أنّ الفرق هو أنّ الأمر الخارق للنبيّ مقرونٌ بالتحدي والاحتجاج، وأنّ صاحب الكرامة لا يدّعي النبوة بكرامته، ولو علم الله أنه يدعي بها، لما أجراها على يديه.

انظر المعيار المعرب 11 250-251، ضمنه رسالة كتبها الباقلاني إلى محمد بن أحمد بن المعتمر المرقي. وقد نقلت النصّ من كتاب موقف ابن تيمية من الأشاعرة 2 549.

وهذا يؤكد ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عنهم أنهم يجعلون الكرامات من جنس السحر.

وقد صرّح الجويني بهذا في كتابه الإرشاد. انظر: الإرشاد ص 322، 328.

ص: 546

فكيف تقول مع هذا: إنّ الخوارق [لا تكون] 1 إلَاّ لنبيّ، أو وليّ، وأنت [تُثبتها] 2 للكفار3.

وهذا كلّه من جهة أنّه أخذ جنس [الخارق] 4 مشتركاً؛ فجوّز أن يكون للنبيّ، وغير النبيّ، مع قوله: إنّ الخارق لا بُدّ أن يكون خارقاً لعادة جميع

1 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) .

2 في ((م)) ، و ((ط)) : أثبتها.

3 انظر: البيان للباقلاني ص 48-49، 91-98. وانظر: أيضاً أصول الدين للبغدادي ص 170.

4 في ((م)) ، و ((ط)) : الخوارق.

ص: 547

المرسَل إليهم. ولكن عنده هذا يحصل بعدم المعارضة. وحينئذٍ فاشتراط كونه خارقاً، ومختصاً بمقدور [الربّ] 1 باطلٌ.

وهو قد حكى أنّ الاجماع على أن المعجز لا بُدّ أن يكون خارقاً للعادة، فقال: اعلموا رحمكم الله أنّ الكلّ من سائر الأمم قد شرطوا في صفة المعجز أن يكون خارقاً للعادة2.

[ثم قال3 في فصول الكرامات] 4:

1 في ((خ)) : للربّ. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

2 البيان للباقلاني ص 50.

3 أي الباقلاني.

4 قال في ((ط)) : "فصل. ثمّ قال في فصول الكرامات

".

ولا يُسلّم له صنيعه؛ لأنّ الكلام متعلّق بما سبق؛ من ذكر أقوال القاضي أبي بكر الباقلاني في الكرامات.

ص: 548

[ثم قال1 في فصول الكرامات] 2

فصلٌ3 قول الباقلاني: لايدل على صدق النبي إلا المعجزات ولو لم تدل للزم عجز القديم..

ويقال لهم: إنّ من النّاس من لا يشترط في الآية المعجزة أن تكون خارقاً للعادة. وهذا كما ذكر إجماع الناس على أنّه لا يدلّ على صدق النبيّ إلا المعجزات4، فقال في الاستدلال على أنّها لو لم تدلّ، لزم عجز القديم؛ إذ لا دليل [لقول] 5 كلّ أحدٍ أثبت النبوّة على نبوة الرّسل وصدقهم، إلا ظهور المعجزة. فهذا إجماعٌ لا خلاف فيه. فلو ظهرت على يد المتنبي، لبطلت دلالة النبوّة، ولوجب عجز القديم عن دليل يدلّ على نبوتهم. وهو نفسه قد ذكر في ذلك عدّة أقوال في غير هذا الكتاب6.

1 أي: الباقلاني.

2 قال في (ط) : "فصل. ثم قال في فصول الكرامات

".

ولا يُسلم له صنيعه؛ لأنَّ الكلام متعلق بما سبق؛ من ذكر أقوال القاضي أبي بكر الباقلاني في الكرامات.

3 هذا الفصل في الكرامات لا يُوجد في القسم المطبوع من كتاب ((البيان)) للباقلاني، وإلَاّ فالمؤلف ذكر في خطبة الكتاب أنّه سيتحدّث عن هذا الفصل في آخر الكتاب. وهذا ممّا يدلّ على أنّ الكتاب ناقص في آخره.

4 انظر: البيان للباقلاني ص 37-38. والإرشاد للجويني ص 331.

5 في ((خ)) : يقول. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

6 أي في غير كتاب البيان الذي يعتمد عليه شيخ الإسلام في سوق أقوال الباقلاني، والردّ عليها ببيان تناقضاته.

انظر: التمهيد ص 156-157. والإنصاف ص 93. وكلاهما للباقلاني. وانظر كتاب: البيان له ص 45-48.

ص: 549

وأيضاً: فالاستدلال بالإجماع إنّما يكون [بعد] 1 ثبوت النبوة، فلا يحتجّ على مقدّمات دليل النبوة بمجرد الإجماع.

سبب عدم ظهور المعجزات على يد الكاذب عند الأشاعرة

وهؤلاء إنما أوقعهم في هذه المناقضات أنّ القدرية2 يجعلون لربّهم شريعة بالقياس على خلقه، ويقولون: لا يجوز أن يفعل كذا، ولا أن يفعل كذا؛ كقولهم: لا يجوز أن يضلّ هذا، فإنّا لو جوّزنا عليه الإضلال لجاز أن يظهر المعجزات على أيدي الكذابين؛ فإنّ غاية ذلك أنّه إضلال. وإذا جاز ذلك لم يبق دليلٌ على صدق الأنبياء، ولم يفرّق بين الصادق والكاذب. فعارضهم هؤلاء3 بأن قالوا: يجوز أن يفعل كلّ ممكن مقدور، ليس يجب أن ينزّه عن فعلٍ من الأفعال، وليس في الممكنات ما هو قبيح، أو ظلم، أو سيئ، بل كلّ ذلك حسنٌ وعدل، فله أن يفعله. فقيل لهم: فجوّزوا إظهار المعجزات على [أيدي] 4 الكذابين. ففتقوا لهم فتقا، فقالوا5: هذا يلزم

1 ما بين المعقوفتين ملحق في ((خ)) بين السطرين.

2 المقصود بهم المعتزلة.

وانظر: شرح الأصول الخمسة للقاضي عبد الجبار ص 133، 564. والمختصر في أصول الدين له ص 237 ـ ضمن رسائل العدل والتوحيد.

3 أي الأشاعرة. انظر: البيان للباقلاني ص 40-41. والتمهيد له ص 382-386. والإرشاد للجويني ص 258 وما بعدها. والمواقف للإيجي ص 328. وشرح الجوهرة للبيجوري ص 108.

4 في ((خ)) : يدي. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

5 أي الأشاعرة.

انظر من كتب أئمتهم: البيان للباقلاني ص 45-48. والإرشاد للجويني ص 327- 328. وأصول الدين للبغدادي ص 170، 173. والمواقف للإيجي ص 342.

ص: 550

منه عجز الرب عن أن ينصب دليلاً يدل على صدق النبيّ، وإن كان يمكنه أن يعرف صدقهم بالضرورة، فذلك يوجب أن يعرفوا نفسه بالضرورة، وهو يرفع التكليف.

قول شيخ الإسلام في عدم ظهور المعجزات على يد الكاذب..

والتحقيق: أن إظهار المعجزات الدالّة على صدق الأنبياء على يد الكاذب لا يجوز، لكن قيل لامتناع ذلك في نفسه؛ كما قاله الأشعري1. وقيل: لأنّ ذلك يمتنع في حكمة الرب وعدله. وهذا أصحّ؛ فإنّه قادر على ذلك، لو فعله بطلت دلالة المعجز على الصدق2.

وهذا كما أنه قادر على سلب العقول، ولو فعل ذلك لبطلت العلوم. وهو سبحانه لو فعل ذلك قادرٌ على تعريف الصدق بالضرورة، وقادرٌ على أن لا يعرف بذلك، ولا يميز للناس بين الصادق والكاذب، لكنه لا يفعل هذا المقدور. ونحن نعلم بالاضطرار أنه لا يفعل ذلك، وأنّه لا يبعث أنبياء

1 انظر: المواقف للإيجي؛ فقد نقل ذلك عن الأشعري ص 342.

وانظر ما قاله شيخ الإسلام رحمه الله عن هذه المسألة بتوسّع في كتبه التالية: شرح الأصفهانية تحقيق السعوي 2 612-624. ودرء تعارض العقل والنقل 1 89-90. والجواب الصحيح 6 393-401.

وذكر شيخ الإسلام رحمه الله عن مذهب الأشاعرة في إثبات النبوة أنّهم يسلكون أحد طريقين: "إما طريق القدرة؛ كما سلكها الأشعري في أحد قوليه، والقاضيان أبو بكر وأبو يعلى، وغيرهما؛ وهو أنه لا طريق إلى تصديق النبيّ غير المعجزة، فلو لم تكن دالّة على التصديق، للزم عجز الباري عن تصديق الرسل. وإما طريق الضرورة؛ كما سلكها الأشعري في قوله الآخر، وأبو المعالي، وطوائف أُخَر". درء تعارض العقل والنقل 9 52-53.

2 سبق أن أورد الشيخ رحمه الله هذه المسألة في ص 272، 278، 280-282، 580-583، من هذا الكتاب. وسوف يأتي زيادة إيضاح منه رحمه الله لهذه المسألة في ص 1134-1150، 1161-1163 منه.

ص: 551

صادقين يبلغون رسالته ويأمر الناس باتباعهم ويتوعّد من كذّبهم، فيقوم آخرون كذّابون يدّعون مثل ذلك، وهو يسوي بين هؤلاء وهؤلاء في جميع ما يفرق به بين الصادق والكاذب. بل قد علمنا من سنّته أنه لا يُسوّي في دلائل الصدق والكذب بين المحدث الصادق، والكاذب، والشاهد الصادق، والكاذب، وبين الذي يعامل الناس بالصدق، والكذب، وبين الذي يظهر الإسلام صادقاً، والذي يظهره نفاقاً وكذباً، بل يُميّز هذا من هذا بالدلائل [الكثيرة] 1؛ كما يُميّز بين العادل وبين الظالم، وبين الأمين وبين الخائن؛ فإنّ هذا مقتضى سنّته التي لا تتبدّل، وحكمته التي هو منزّه عن نقيضها، وعدله سبحانه بتسويته بين المتماثلات، وتفريقه [بين] 2 المختلفات. فكيف يُسوي بين أفضل الناس وأكملهم صدقاً، وبين أكذب الناس وشرّهم كذباً فيما يعود إلى فساد العالم في العقول، والأديان، والأبضاع، والأموال، والدنيا، والآخرة.

الرد على القدرية في قولهم: لو جوزنا عليه الإضلال لجاز أن يظهر المعجزات على يد الكاذب

وقول [القدريّ] 3: إذا جاز عليه إضلال من أضلّه، جاز عليه إضلال بعض الناس. يقال له:

أولاً: ليس إظهار المعجزة على أيدي الكذابين من باب الإضلال. بل لو ظهرت على يده لكانت لا تدلّ على الصدق، فلم يكن دليلاً يُفرّق به بين الصدق والكذب. وعدم الدليل يوجب عدم العلم بذلك الدليل، لا يوجب اعتقاد نقيضه. ولو كان لا يظهرها إلا على يد كاذب، لكانت إنّما تدل على

1 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) .

2 ما بين المعقوفتين ملحق في ((خ)) بين السطرين.

3 في ((م)) ، و ((ط)) : القدر.

ص: 552

الكذب؛ فالاشتراك بين الصنفين يرفع دلالتها، واختصاص أحدهما بها يوجب دلالتها على المختصّ.

ويقال ثانياً: تجويز إضلال طائفة معينة؛ بمعنى أنه حصل لهم الضلال لعدم نظرهم، واستدلالهم، وقصدهم الحق، وجعل قلوبهم معرضة عن طلب الحق وقصده، وأنّها تكذب الصادق: ليس هو مثل إضلال العالم كلّه، ورفع ما يعرف به الحق من الباطل. بل مثال هذا: مثل من قال: إذا جاز أن [يعمي] 1 طائفة من الناس، جاز أن [يعمي] 2 جميع النّاس، فلا يرى أحدٌ شيئاً. وإذا جاز أن [يُصِمّ] 3 بعض النّاس، جاز أن يصم جميعهم، فلا يسمع أحدٌ شيئاً. وإذا جاز أن يُزمن4 بعض النّاس، أو يُشلّ يديه، جاز إزمان جميع الناس، وإشلال أيديهم؛ حتى لا يقدر أحدٌ في العالم على شيء، ولا بطش بيده. وإذا جاز أن يُجنّن بعض الناس، جاز أن يُجنّن جميعَهم؛ حتى لا يبقى في الأرض إلا مجنونٌ، لا عاقل. وإذا جاز أن يُميت بعض الناس، جاز أن يُميتهم كلّهم في ساعةٍ واحدة، مع بقاء العالم على ما هو عليه. وأن يقال: إذا جاز أن يُضِلّ بعض الناس عن قبول بعض الحق، جاز أن يضله عن قبول كلّ حق؛ حتى لا يصدق أحداً في شيء، ولا يقبل شيئاً مما يُقال له؛ فلا يأكل، ولا يشرب، ولا يلبس، ولا ينام. وأنّ كلّ من أضلّ جاز أن يفعل به هذا كلّه.

1 في ((م)) ، و ((ط)) : يعمى.

2 في ((م)) ، و ((ط)) : يعمى.

3 في ((ط)) : يضم.

4 قال ابن منظور: (الزَّمِن: ذو الزمانة. والزمانة آفة في الحيوانات. ورجلٌ زَمِن: أي مبتلى بيِّن الزمانة. والزمانة: العاهة..) . لسان العرب 13 199.

ص: 553

وهذا كلّه ممّا يُعرف بضرورة العقل الفرق بينهما. ومن سوى بين هذا وهذا1، كان مصاباً في عقله.

وآيات الأنبياء هي من هذا الباب؛ فلو لم يميّز بين الصادق والكاذب، لكان قد بعث أنبياء يبلّغون رسالته، ويأمرون بما أمر به؛ من أطاعهم سعد في الدنيا والآخرة، ومن كذّبهم شقي في الدنيا والآخرة، وآخرين كذّابين يبلّغون عنه ما لم يقله، ويأمرون بما نهى عنه، وينهون عمّا أمر به، ومن اتبعهم شقي في الدنيا والآخرة، ولم يجعل لأحدٍ سبيلاً إلى التمييز بين هؤلاء وهؤلاء. [وهذا] 2 أعظم من أن يقال إنّه خلق أطعمة نافعة، وسموماً قاتلة، ولم يميّز بينهما، بل كلّ ما أكله الناس، جاز أن يكون من هذا وهذا. ومعلومٌ أنّ من جوّز مثل هذا على الله، فهو مصابٌ في عقله.

الله جعل الأشياء متلازمة وكل ملزوم دليل على لازمه..

ثمّ إنّ الله جعل الأشياء متلازمة، وكلّ ملزوم هو دليل على لازمه؛ فالصدق له لوازم كثيرة؛ فإنّ من كان يصدق، ويتحرى الصدق، كان من لوازمه أنّه لا يتعمّد الكذب، ولا يخبر بخبرين متناقضين عمداً، ولا يُبطن خلاف ما يظهر، ولا يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه، ولا يخون أمانته، ولا يجحد حقاً هو عليه، إلى أمثال هذه الأمور التي يمتنع أن [تكون] 3 لازمةً إلا لصادق؛ فإذا انتفت انتفى الصدق، وإذا وجدت كانت مستلزمة لصدقه. والكاذب بالعكس؛ لوازمه بخلاف ذلك؛ وهذا لأنّ الإنسان حيّ ناطق، والنطق من لوازمه الظاهرة لبني جنسه. ومن لوازم النطق: الخبر؛ فإنه ألزم له من الأمر، والطلب؛ حتى قد قيل: إنّ جميع أنواع الكلام

1 أي بين النبيّ، والمتنبّئ.

2 في ((ط)) : وه. وهو خطأ مطبعي.

3 في ((خ)) : يكون. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

ص: 554

[تعود] 1 إلى الخبر؛ فلزم أن يكون من لوازم الإنسان إخباره، [وظهور] 2 إخباره، وكثرته، وأنّ هذا لا بُدّ من وجوده حيث كان. وحينئذ: فإذا كان كذّاباً عَرَفَ النّاس كذبه؛ لكثرة ما يظهر منه من [الخبر] 3 عن الشيء بخلاف ما هو عليه، من أحوال نفسه وغيره، وممّا رآه، وسمعه، وقيل له في الشهادة والغيب. ولهذا كلّ من كان كاذباً ظهر عليه كذبه بعد مدة؛ سواء كان مدّعياً للنبوّة، أو كان كاذباً في العلم ونقله، أو في الشهادة، أو في غير ذلك4. وإن [كان] 5 مطاعاً، كان ظهور كذبه أكثر لما فيه من الفساد.

1 في ((م)) ، و ((ط)) : يعود.

2 في ((ط)) : وظهوراً.

3 ما بين المعقوفتين ملحق في ((خ)) بين السطرين.

4 قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وهو يشرح حديث أبي سفيان مع هرقل: "فسألهم عن زيادة أتباعه ودوامهم على اتّباعه، فأخبروه أنهم يزيدون، ويدومون. وهذا من علامات الصدق والحق؛ فإنّ الكذب والباطل لا بُدّ أن ينكشف في آخر الأمر، فيرجع عنه أصحابه، ويمتنع عنه من لم يدخل فيه. ولهذا أخبرت الأنبياء المتقدمون أنّ المتنبئ الكذاب لا يدوم إلا مدة يسيرة. وهذه من بعض حجج ملوك النصارى الذين يُقال إنهم من ولد قيصر هذا، أو غيرهم حيث رأى رجلاً يسبّ النبيّ صلى الله عليه وسلم من رؤوس النصارى، ويرميه بالكذب. فجمع علماء النصارى، وسألهم عن المتنبئ الكاذب، كم تبقى نبوته؟ فأخبروه بما عندهم من النقل عن الأنبياء؛ أنّ الكذّاب المفتري لا يبقى إلا كذا وكذا سنة؛ مدة قريبة؛ إما ثلاثين سنة، أو نحوها. فقال لهم: هذا دين محمد له أكثر من خمسمائة سنة أو ستمائة سنة وهو ظاهر مقبول متبوع. فكيف يكون هذا كذاباً. ثمّ ضرب عنق ذلك الرجل". شرح الأصفهانية تحقيق السعوي 2 485.

5 ما بين المعقوفتين ملحق في ((خ)) بين السطرين.

ص: 555

[و] 1 في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه قال: ((ثلاثةٌ لا يُكلّمهم الله، ولا ينظر إليهم يوم القيامة، ولا يزكّيهم، ولهم عذاب أليم: ملكٌ كذّاب، وشيخ زان، وعائل مستكبر ـ ويُروى ـ وفقيرٌ محتال)) 2.

ولهذا كثيرٌ من أهل الدول كانوا يتواصون بالكذب، وكتمان أمورهم، ثم يظهر؛ كالقرامطة3. ولهذا امتنع اتفاق الناس على الكذب، والكتمان،

1 ما بين المعقوفتين ليس في ((خ)) ، وهو في ((م)) ، و ((ط)) .

2 الحديث أخرجه الإمام مسلم في صحيحه 1 102-103، كتاب الإيمان، باب بيان غلظ تحريم إسبال الإزار. مع تقديم، وتأخير في الألفاظ، وليس فيه: وفقير محتال.

3 القرمطة نسبة إلى مذهب القرامطة. ووجه قرمطتهم: أنّهم جعلوا للنص معنى باطناً يُخالف معناه الظاهر.

والقرامطة: نسبة إلى حمدان قرمط، ولُقّب بذلك لقرمطة في خطه، أو في خطوه. كان أحد دعاتهم في الابتداء، فاستجاب له جماعة، فسموا قرامطة، وقرمطية. وكان هذا الرجل من أهل الكوفة، وكان يميل إلى الزهد، فصادف أحد دعاة الباطنية، وأثّر عليه؛ فاعتنق مذهبهم. ثمّ لم يزل بنوه وأهله يتوارثون مكانه. وكان أشدّهم بأساً: رجل يُقال له أبو سعيد. ظهر في سنة ست وثمانين ومائتين، وقوي أمره، وقتل ما لا يحصى من المسلمين، وخرب المساجد، وأحرق المصاحف، وفتك بالحاج، وسنّ لأهله وأصحابه سنناً، وأخبرهم بمحالات. ثم مات، وخلف بعده ابنه أبا طاهر؛ ففعل مثل فعله، وهجم على الكعبة، فأخذ ما فيها من الذخائر، وقلع الحجر الأسود، وحمله إلى بلده، وأوهم الناس أنه الله تعالى الله عن قوله علواً كبيراً.

انظر: الفرق بين الفرق للبغدادي ص 289. وفضائح الباطنية للغزالي ص 12. وتلبيس إبليس لابن الجوزي ص 144-146.

وانظر تعريف شيخ الإسلام رحمه الله للقرمطة في السمعيات في كتابه: نقض تأسيس الجهمية 1 150. والرسالة التدمرية ص 19. وشرح حديث النزول ص 428. وبغية المرتاد ص 183-184. وشرح الأصفهانية 2 451-457. ودرء تعارض العقل والنقل 2 15. ومجموع الفتاوى 12 213، 13 168.

ص: 556

من غير تواطؤ؛ لما جعل الله في النفوس من الداعي إلى الصدق والبيان، وجعل الله في القلوب هدايةً ومعرفةً بين هذا وهذا. ولم يُعرف قطّ في بني آدم أنّه اشتبه صادقٌ بكاذبٍ إلَاّ مدة قليلة، ثم يظهر الأمر. وليس هذا كالضلال في أمور خفية ومشتبهة على أكثر الناس؛ فإنّ التمييز بين الصادق والكاذب يظهر لجمهور الناس وعامتهم بعد مدّة، ولا يطول اشتباه ذلك عليهم، وإنما يشتبه الأمر عليهم فيما لم يتعمّد فيه الكذب، بل أخطأ أصحابه؛ فأخذ عنهم تقليداً لهم. وأما مع كون أصحابه يتعمّدون الكذب، [فهو] 1 لا يخفى على عامة الناس.

1 في ((م)) ، و ((ط)) : فهذا.

ص: 557