الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل عدل الله وحكمته وتعليل أفعاله
وهذا الأصل1 دخل في جميع أبواب الدين؛ أصوله، وفروعه؛ في
1 المقصود به عدل الله وحكمته والتعليل في أفعاله؛ كما مرّ في الفصل السابق.
وقد ألّف شيخ الإسلام رحمه الله في هذا الأصل رسائل قيّمة؛ مثل رسالة في معنى كون الربّ عادلاً وفي تنزّهه عن الظلم. وهي ممّا ألّفه رحمه الله في محبسه الأخير بالقلعة بدمشق. (انظر جامع الرسائل 1119-142) . وكذلك رسالة في شرح حديث أبي ذر: "يا عبادي إني حرّمتُ الظلم على نفسي"؛ ضمن مجموعة الرسائل المنيرية 2205-246. وانظر منهاج السنة النبوية 1133-146.
وممّا قاله رحمه الله عن هذا الأصل: "وهذا الأصل؛ وهو عدل الربّ، يتعلّق بجميع أنواع العلم والدين؛ فإنّ جميع أفعال الرب ومخلوقاته داخلة في ذلك، وكذلك أقواله وشرائعه وكتبه المنزلة، وما يدخل في ذلك من مسائل المبدأ والمعاد، ومسائل النبوات، وآياتهم، والثواب والعقاب، ومسائل التعديل والتجوير، وغير ذلك. وهذه الأمور ممّا خاض فيه جميع الأمم". جامع الرسائل 1125.
وشيخ الإسلام رحمه الله يردّ على المبتدعة في أصولهم التي بنوا عليها معتقداتهم، فلذلك ربط رحمه الله بين المعجزات وثبوت النبوة، مع مسائل العدل والحكمة.
وقد ذكر أحد أئمة الأشاعرة أنّ النبوّات والمعجزات مبنيّة على أصول، ومرتبة على قواعد. وأصل هذه الأصول كما ذكر هو القول بالتعديل والتجوير.
يقول الجويني في الإرشاد ص 257 عن القول في التعديل والتجوير: (إنّ مضمون هذا الأصل العظيم، والخطب الجسيم تحصره مقدّمتان، وثلاث مسائل:
إحدى المقدمتين في الردّ على من قال بتحسين العقل وتقبيحه.
والأخرى: أنه لا واجب على الله تعالى يدلّ عليه العقل.
وأما المسائل الثلاث؛ فإحداها في بيان مذاهب أهل الملل في إيلام الله تعالى من يؤلمه من عباده وخليقته. وهذه المسألة تتشعب القول في التناسخ والأعراض. والمسألة الثانية في الصلاح والأصلح. والثالثة في اللطف ومعناه.
وإذا نجزت هذه الأصول افتتحنا بعده المعجزات، ورتبنا على ثبوت النبوات السمعيات) .
فالتعديل والتجوير هو أصل الأصول التي بنى عليها هؤلاء إثبات النبوة.
لذلك كان اهتمام شيخ الإسلام رحمه الله في الردّ على أصحابها، ونقض ما عندهم من الباطل، وإظهار الحقّ وإعزازه بالدليل والبرهان.
خلق الربّ لما يخلقه، ورزقه، وإعطائه، ومنعه، وسائر ما يفعله تبارك وتعالى، ودخل في أمره، ونهيه، وجميع ما يأمر به، وينهى عنه. ودخل في المعاد؛ فعندهم1 يجوز أن يُعذّب الله جميع أهل العدل والصلاح والدين، والأنبياء والمرسلين بالعذاب الأبديّ، وأن يُنعّم جميع أهل الكذب والظلم والفواحش بالنّعيم الأبديّ. لكنْ بمجرّد الخبر عرفنا أنّه لا يفعل هذا2. ويجوز عندهم أن يُعذّب من لا له ذنب أصلاً بالعذاب الأبديّ3.
حكم أطفال المشركين
بل هذا واقعٌ عند من يقول بأنّ أطفال الكفّار يُعذّبون في النّار مع آبائهم4؛ فإنّهم كلّهم يُجوّزون تعذيبهم؛ إذ كان عندهم يجوز تعذيب كلّ
1 المقصود بهم الأشاعرة. (انظر منهاج السنة النبوية 1135) .
2 قال الأشعريّ: "فلا يقبح منه أن يُعذّب المؤمنين، ويدخل الكافرين الجنان، وإنّما نقول إنه لا يفعل ذلك لأنّه أخبرنا أنّه يُعاقب الكافرين. وهو لا يجوز عليه الكذب في خبره".
ثمّ قال: "والدليل على أنّ كل ما فعله فله فعله: أنّه المالك القاهر الذي ليس بمملوك، ولا فوقه
…
فإن قال: فإنّما يقبح الكذب لأنّه قبّحه؟ قيل له: أجل، ولو حسَّنه لكان حسناً، ولو أمر به لم يكن عليه اعتراض". اللمع ص 71.
3 انظر التمهيد للباقلاني ص 382-386.
4 مسألة هل أطفال المشركين يُعذّبون، أم لا، فيها اختلاف بين الفرق:
فقد ذهبت المعتزلة إلى أنّه لا يجوز أن يُعذّب الله أطفال المشركين. وذهبت الجبريّة والأشاعرة إلى جواز ذلك، وقالوا: لا يقبح ذلك من الله تعالى؛ لأنّه مالك الرقاب، ويتصرّف في ملكه كيف يشاء.
أمّا قول أهل السنة والجماعة، فيقول في بيانه شيخ الإسلام رحمه الله:"وأما ثبوت حكم الكفرة في الآخرة للأطفال، فكان أحمد يقف فيه؛ تارة يقف عن الجواب، وتارة يردّهم إلى العلم؛ لقوله: "الله أعلم بما كانوا عاملين". وهذا أحسن جوابيه، كما نقل محمد بن الحكم عنه، وسأله عن أولاد المشركين، فقال: أذهب إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم: "الله أعلم بما كانوا عاملين"
…
". رواه البخاري ومسلم في كتاب القدر.
ثم قال رحمه الله: "وهذا التفصيل يُذهب الخصومات التي كره الخوض فيه لأجلها من كرهه؛ فإنّ من قطع لهم بالنّار كلهم، جاءت نصوص تدفع قوله، ومن قطع لهم بالجنّة كلّهم، جاءت نصوص تدفع قوله. ثمّ إذا قيل هم مع آبائهم لزم تعذيب من لم يُذنب، وانفتح باب الخوض في الأمر والنهي، والوعد والوعيد، والقدر، والشرع، والمحبة، والحكمة، والرحمة. فلهذا كان أحمد يقول هو أصل كل خصومة. أما جواب النبي صلى الله عليه وسلم الذي أجاب به أحمد آخراً، وهو قوله: "الله أعلم بما كانوا عاملين": فإنّه فصل الخطاب في هذا الباب. وهذا العلم يُظهر حكمه في الآخرة. والله تعالى أعلم". درء تعارض العقل والنقل 8397، 402. وذكر ابن حجر في الفتح (3290-291) عشرة أقوال للعلماء في أطفال المشركين. وانظر: منهاج السنة النبوية 2306-309. والجواب الصحيح 2296-300. ومجموع الفتاوى 4277-281، 303، 24372. وطريق الهجرتين لابن القيم ص 677-689. وانظر أيضاً: شرح الأصول الخمسة لعبد الجبار ص 477-479. ورسائل العدل والتوحيد ص 222. وأصول الدين للبغدادي ص 256.
حيّ العذاب المؤبّد بلا ذنب، ولا غرض، ولا حكمة1.
لكن: هل يقع هذا في أطفال المشركين؟ منهم من جزم بوقوعه؛ كالقاضي أبي يعلى ومن وافقه2. ومنهم من توقّف لعدم الدليل السمعيّ
1 يقول شيخ الإسلام رحمه الله أيضاً في موضع آخر: "وهؤلاء يُجوّزون أن يُعذّب الله العبدَ في الدنيا والآخرة بلا ذنب؛ كما يُجوّزون تعذيب أطفال الكفار ومجانينهم بلا ذنب. ثمّ من هؤلاء من يقطع بدخول أطفال الكفار النّار، ومنهم من يُجوّزه ويتوقّف فيه". منهاج السنة النبوية 2306.
2 انظر: درء تعارض العقل والنقل 8398. والجواب الصحيح 2296-297.
عنده، لا لمانع عقليّ؛ كالقاضي أبي بكر1، ونحوه2. وليس عندهم من أفعال الله ما يُنزّهونه عنه، أو ما [تقتضي] 3 الحكمة وجوده، بل يجوز عندهم أن يفعل كلّ ممكن، ويجوز أن لا يفعل شيئاً من الخير4.
لكن إذا أخبر أنّه يفعل شيئاً، أو أنّه لا يفعله، علم أنّه واقعٌ، أو غير واقعٍ بالخبر. ويجوز عندهم أن يُعذّب من لا ذنب له، ومن هو أبرّ الناس وأعدلهم وأفضلهم عذاباً مؤبّداً لا يُعذّبه أحداً من العالمين. ويجوز أن يُنعّم شرّ الخلق من شياطين الإنس والجنّ نعيماً في أعلى درجات الجنّة، لا يُنعّم مثله [لمخلوق] 5، لكن لمّا أخبر بأنّ المؤمنين يدخلون الجنّة، والكفّار يدخلون النّار، علم ما يقع6، مع أنّه لو وقع ضدّه لم يكن بينهما فرقٌ عندهم، ثمّ مع مجيء [الخبر] 7 فكثيرٌ منهم وافقه. أمّا في جنس الفسّاق مطلقاً، [فيُجوّزون] 8 أن يدخل جميعهم الجنّة، ويُجوّزون أن يدخل جميعهم النّار، ويُجوّزون أن يدخل بعضهم؛ كما يقوله من يقوله [من واقفة] 9 الشيعة، والأشعريّة؛
1 الباقلاني.
يقول الباقلاني: "فإن قال قائل: فهل يصحّ على قولكم هذا أن يؤلم الله سبحانه سائر النبيّين، ويُنعّم سائر الكفرة والعاصين من جهة العقل قبل ورود السمع؟ قيل له: أجل، له ذلك. ولو فعله لكان جائزاً منه غير مستنكر من فعله". التمهيد ص 385.
2 كالجويني. انظر الإرشاد ص 273.
3 في ((خ)) : يقتضي. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .
4 انظر: التمهيد للباقلاني ص 382-386. والإرشاد للجويني ص 273.
5 في ((ط)) : المخلوق.
6 انظر: التمهيد للباقلاني ص 382-383.
7 في ((خ)) : الخير. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .
8 في ((خ)) : يجوزون، وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .
9 في ((م)) ، و ((ط)) : ممن وافق.
كالقاضي أبي بكر1؛ لأنّ القرآن عنده لم يدلّ على شيء، والأخبار أخبار آحاد [بزعمه] 2، فلا يحتجّ بها في ذلك.
وأمّا جمهور المنتسبين إلى السنّة من أصحاب مالك، والشافعيّ، وأحمد، وأبي حنيفة، وغيرهم: فيقطعون بأنّ الله يُعذّب بعض أهل الذنوب بالنّار، ويعفو عن بعضهم3؛ كما قال تعالى:{إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَاْ دُوْنَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاْء} 4، فهذا فيه الإخبار بأنّه يغفر5 ما دون الشرك، وأنّه يغفره لمن يشاء، لا لكلّ أحد.
لكن: هل الجزاء، والثواب، والعقاب مبنيٌ على الموازنة بالحكمة والعدل؛ كما أخبر الله بوزن الأعمال6، أو يغفر ويُعذّب بلا سبب، ولا حكمة، ولا اعتبار الموازنة فيه؟
1 الباقلاني. انظر التمهيد له ص 385-386.
2 في ((خ)) : يزعمه. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .
3 انظر: جامع الرسائل 1123-124، 126.
4 سورة النساء، الآية، 48، 116.
5 في ((ط)) : يغفقر.
6 قال تعالى: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآياتِنَا يَظْلِمُونَ} . [سورة الأعراف، الآيتان 8-9] .
وقال تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} . [سورة الأنبياء، الآية 47] .
وقال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ} . [سورة القارعة، الآيات 6-9] .
وانظر: مجموع فتاوى ابن تيمية 4302.
وللشيخ مرعي الحنبلي المقدسي رسالة مطبوعة باسم كتاب تحقيق البرهان في إثبات حقيقة الميزان.
لهؤلاء قولان: فمن جوّز ذلك فإنّه يجوز عندهم أن يُعذّب الله من هو أبرّ النّاس وأكثرهم طاعات وحسنات على سيئة صغيرة عذاباً أعظم من عذاب أفسق الفاسقين. ويجوز عندهم أن يغفر لأفسق الفاسقين من المسلمين وأعظمهم كبائر كلّ ذنب، ويُدخله الجنّة ابتداءً، مع تعذيب ذلك في النّار على صغيرة1.
ولهذا قال جمهور النّاس2 [عن هؤلاء] 3: إنّهم لا يُنزّهون الربّ [عن] 4 السّفه والظلم، بل يصفونه بالأفعال التي يُوصف بها المجانين
1 قال شيخ الإسلام رحمه الله عن هؤلاء المجبرة أنّهم: "لايجعلون العدل قسيماً لظلم ممكن لا يفعله، بل يقولون: الظلم ممتنع. ويُجوّزون تعذيب الأطفال، وغير الأطفال بلا ذنبٍ أصلاً، وأن يخلق خلقاً يُعذّبهم بالنّار أبداً، لا لحكمة أصلاً، ويرى أحدهم أنه خلق فيه الذنوب وعذب بالنار لا لحكمة، ولا لرعاية عدل، فتفيض نفوسهم إذا وقعت منهم الذنوب فأصيبوا بعقوباتها بأقوال يكونون فيها خصماء لله تعالى". جامع الرسائل 1125.
2 قال شيخ الإسلام رحمه الله: "وأما المثبتون للقدر..... فهؤلاء تنازعوا في تفسير عدل الله وحكمته، والظلم الذي يجب تنزيهه عنه، وفي تعليل أفعاله وأحكامه، ونحو ذلك. فقالت طائفة: إنّ الظلم ممتنع منه غير مقدور، وهو محال لذاته؛ كالجمع بين النقيضين، وأنّ كل ممكن مقدور، فليس هو ظلماً، وهؤلاء هم الذين قصدوا الردّ عليهم، وهؤلاء يقولون: إنّه لو عذّب المطيعين، ونعّم العصاة، لم يكن ظالماً. وقالوا: الظلم: التصرّف فيما ليس له. والله تعالى له كلّ شيء. أو هو مخالفة الأمر، والله لا آمر له. وهذا قول كثير من أهل الكلام المثبتين للقدر..... وقالت طائفة: بل الظلم مقدور ممكن، والله تعالى منزّه لا يفعله، لعدله. ولهذا مدح الله نفسه، حيث أخبر أنّه لا يظلم الناس شيئاً. والمدح إنّما يكون بترك المقدور عليه، لا بترك الممتنع". منهاج السنة النبوية 1134-135.
وقالوا: "والظلم وضع الشيء في غير موضعه؛ فهو لا يضع العقوبة إلا في المحلّ الذي يستحقها، لا يضعها على محسن أبداً". المصدر نفسه 1139.
3 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) .
4 في ((خ)) : على. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .
والسفهاء؛ فإنّ المجنون والسفيه قد [يُعطي] 1 مالاً عظيماً لمن ليس هو له بأهل. وقد يُعاقب عقوبة عظيمة [لمن] 2 هو أهل للإكرام والإحسان.
تنازع الناس في معنى الظلم
والربّ تعالى أحكم الحاكمين، وأعدل العادلين، وخير الراحمين. والحكمة وضع الأشياء مواضعها، والظلم وضع الشيء في غير موضعه3.
ومن تدبّر حكمته في مخلوقاته، ومشروعاته4 رأى ما يُبهر العقول؛ فإنّه
1 في ((م)) ، و ((ط)) : يعطى.
2 في ((م)) ، و ((ط)) : من.
3 وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله تنازع الناس في معنى الظلم على ثلاثة أقوال.
القول الأول: قول المجبرة والأشعريّة: "أنّه هو التصرّف في ملك الغير بغير إذنه، أو مخالفة الآمر الذي تجب طاعته. وكلاهما منتفٍ في حق الله تعالى". جامع الرسائل 1127.
وانظر معنى الظلم عند الأشعري في: الملل والنحل 1101.
وقد نقلت هذا القول بتوسّع من قول شيخ الإسلام رحمه الله في ص 560-561، 564-571 من هذا الكتاب. وانظر جامع الرسائل 1121.
الثاني: قول المعتزلة: "أنّه عدل لا يظلم، لأنه لم يُرد وجود شيء من الذنوب؛ لا الكفر، ولا الفسوق، ولا العصيان. بل العباد فعلوا ذلك بغير مشيئته؛ كما فعلوه عاصين لأمره. وهو لم يخلق شيئاً من أفعال العباد؛ لا خيراً، ولا شراً، بل هم أحدثوا أفعالهم. فلمّا أحدثوا معاصيهم استحقوا العقوبة عليها؛ فعاقبهم بأفعالهم، لم يظلمهم". جامع الرسائل 1123.
الثالث: قول أهل السنة: "أنّ الظلم وضع الشيء في غير موضعه، والعدل وضع كل شيء في موضعه. وهو سبحانه حكم عدل يضع الأشياء مواضعها، ولا يضع شيئاً إلا في موضعه الذي يُناسبه، وتقتضيه الحكمة والعدل، ولا يُفرّق بين متماثلين، ولا يُسوّي بين مختلفين، ولا يُعاقب إلا من يستحقّ العقوبة؛ فيضعها موضعها، لما في ذلك من الحكمة والعدل". جامع الرسائل 1123-124. وانظر منهاج السنة 1134، 2304، 309، 312.
4 وقد تكلّم شيخ الإسلام رحمه الله عن الحكمة من بعض مخلوقات الله في الجواب الصحيح 6396.
وتكلّم تلميذه الإمام العلامة ابن القيم رحمه الله عن بعض هذه الحكمة في مخلوقات الله.
انظر مفتاح دارالسعادة 1188، 210، 256، 257.
وانظر الحكمة في شرع الله في كتاب ((حجة الله البالغة)) للشاه ولي الله الدهلوي 1152.
مثلاً خلق العين، واللسان، ونحوهما من الأعضاء لمنفعة، وخلق الرِّجل، والظفر، ونحو ذلك لمنفعة، فلا تقتضي الحكمة أن يستعمل العين واللسان حيث يستعمل اليد والرجل والظفر، ولا أن يستعمل الرجل واليد حيث يستعمل العين واللسان. وهذا من حكمته موجود في أعضاء الإنسان، وسائر الحيوان، والنبات، وسائر المخلوقات. فكيف يجوز في حكمته، وعدله، ورحمته في مَنْ هو دائماً يفعل ما يُرضيه من الطاعات، والعبادات، والحسنات، وقد نظر نظرة منهيّاً عنها، أن يُعاقبه على هذه النظرة بما يُعاقب به أفجر الفُسّاق، [وأن يكون أفجر الفُسّاق] 1 في أعلى عليّين، وهو سبحانه يفعل ما يشاء، ويحكم ما [يُريد]2.
لكن لا يشاء إلا ما يُناسب حكمته، ورحمته، وعدله، كما لا يشاء ويُريد إلا ما علم أنّه سيكون.
فلو قيل: هل يجوز أن يشاء ما علم أنّه لا يكون؟ لم [يجز] 3 ذلك باتفاقهم4، لمناقضة علمه. والعلم يُطابق المعلوم. فكيف يشاء ما يُناقض حكمته، ورحمته، وعدله. وبسط هذه الأمور له مواضع متعدّدة5.
1 ما بين المعقوفتين ملحق في هامش ((خ)) .
2 في ((ط)) : يريده.
3 في ((ط)) : يجر.
4 انظر: الإنصاف للباقلاني ص 75.
5 انظر: جامع الرسائل 1120-142. والمجموعة المنيريّة 2205-246. ومنهاج السنة 1134-145. ومجموعة الرسائل والمسائل 4234-235، 283-346.
اضطراب الأشاعرة في النبوات
والمقصود أنّ هؤلاء1 لمّا احتاجوا إلى إثبات النبوات اضطربوا في صفة النبيّ، وما يجوز عليه، وفي الآيات التي بها يُعلم صدقه؛ فجوّزوا أن يُرسل الله من يشاء بما يشاء، لا يشترطون في النبيّ إلا أن يُعلم ما أُرسل به2؛ لأنّ تبليغ الرسالة بدون العلم ممتنع. ومن جوّز منهم تكليف ما لا يُطاق مُطلقاً3، يلزمه جواز أن يأمره الله بتبليغ رسالة لا يعلم ما هي.
1 أي الأشاعرة.
2 المقصود بهم الأشاعرة.
وانظر كلام الباقلاني الذي سيأتي نقل شيخ الإسلام رحمه الله له قريباً ص 732.
وقال شيخ الإسلام رحمه الله عن النبوة عند الأشاعرة: "فهؤلاء يجوّزون بعثة كلّ مكلّف، والنبوة عندهم مجرّد إعلامه بما أوحاه إليه. والرسالة مجرّد أمره بتبليغ ما أوحاه إليه. وليست النبوة عندهم صفة ثبوتية، ولا مستلزمة لصفة يختصّ بها، بل هي من الصفات الإضافيّة؛ كما يقولون مثل ذلك في الأحكام الشرعيّة". منهاج السنة 2414. وسيأتي نحو هذا الكلام في هذا الكتاب، ص 731.
3 يذكر شيخ الإسلام رحمه الله أنّ إطلاق "القول بتكليف ما لا يُطاق من البدع الحادثة في الإسلام؛ كإطلاق القول بأنّ العباد مجبورون على أفعالهم. وقد اتفق سلف الأمة وأئمتها على إنكار ذلك، وذم من يُطلقه، وإن قصد به الردّ على القدرية الذين لا يُقرّون بأنّ الله خالق أفعال العباد، ولا بأنّه شاء الكائنات. وقالوا: هذا ردّ بدعة ببدعة، وقابل الفاسد بالفاسد، والباطل بالباطل". درء تعارض العقل والنقل 165.
أمّا عن موقف السلف رحمهم الله من ذلك: فقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله أنّه "ليس في السلف والأئمة من أطلق القول بتكليف ما لا يُطاق، كما أنّه ليس فيهم من أطلق القول بالجبر.... ولهذا كان المقتصدون.... يفصّلون في القول بتكليف ما لا يطاق، كما تقدم القول في تفصيل الجبر؛ فيقولون: تكليف ما لا يُطاق لعجز العبد عنه لا يجوز، وأمّا ما يُقال إنّه لا يُطاق للاشتغال بضدّه، فيجوز تكليفه". مجموع الفتاوى 8469.
وذهبت المعتزلة إلى أنّ تكليف ما لا يُطاق غير ممكن. انظر: شرح الأصول الخمسة لعبد الجبار ص 133، 396) .
وذهبت طائفة، منهم الرازي إلى جواز تكليف ما لا يُطاق مطلقاً.
وانظر كلام شيخ الإسلام رحمه الله في هذه المسألة، وذكره رحمه الله لمن منعها، أو أجازها، أو فصّل فيها القول في: مجموع الفتاوى 8294-302، 437-440، 469-474. ودرء تعارض العقل والنقل 160-65.
القول بتكليف ما لا يطاق.
وجوّزوا من جهة العقل ما ذكره القاضي أبو بكر: أن يكون الرسول فاعلاً للكبائر1، إلا أنّه لا بُدّ أن يكون عالماً بمرسله. لكن ما عُلم بالخبر أنّ الرسول لا يتصف به، علم من جهة الخبر فقط، لا لأنّ الله منزّه عن
1 قال شيخ الإسلام رحمه الله عن القاضي أبي بكر وغيره إنّه يقول: "إنّ العقل لا يُوجب عصمة النبيّ إلا في التبليغ خاصّة؛ فإنّ هذا هو مدلول المعجزة. وما سوى ذلك إن دلّ السمع عليه، وإلا لم تجب عصمته منه.
وقال محققوا هؤلاء؛ كأبي المعالي وغيره: إنّه ليس في السمع قاطع يُوجب العصمة. والظواهر تدلّ على وقوع الذنوب منهم. وكذلك كالقاضي أبي بكر إنّما يُثبت ما يُثبته من العصمة في غير التبليغ إذا كان من موارد الإجماع؛ لأنّ الإجماع حجة. وما سوى ذلك فيقول لم يدلّ عليه عقل ولا سمع. وإذا احتجّ المعتزلة وموافقوهم من الشيعة عليهم بأنّ هذا يُوجب التنفير ونحو ذلك، فيجب من حكمة الله منعهم منه؛ قالوا: هذا مبني على مسألة التحسين والتقبيح العقليين. قالوا: لا يجب على الله شيء، ويحسن منه كل شيء، وإنما ننفي ما ننفيه بالخبر السمعي، ونوجب وقوع ما يقع بالخبر السمعي أيضاً؛ كما أوجبنا ثواب المطيعين، وعقوبة الكافرين؛ لإخباره أنه يفعل ذلك، ونفينا أن يغفر لمشرك؛ لإخباره أنه لا يفعل ذلك، ونحو ذلك". منهاج السنة 2414-415.
وانظر: الإرشاد للجويني ص 356-357 فصل في عصمة الأنبياء. وأصول الدين للبغدادي ص 167-169 فصل عن عصمة الأنبياء عليهم السلام. والمواقف للإيجي ص 358-359. وشرح المقاصد للتفازاني 550-51.
وقال شيخ الإسلام رحمه الله أيضاً: "وطوائف أهل الكلام الذين يُجوّزون بعثة كل مكلف؛ من الجهمية، والأشعرية، ومن وافقهم........ متفقون أيضاً على أنّ الأنبياء أفضل الخلق، وأنّ النبي لا يكون فاجراً. لكن يقولون: هذا لم يعلم بالعقل، بل بالسمع؛ بناءً على ما تقدم من أصلهم من أنّ الله يجوز أن يفعل كل ممكن". منهاج السنة النبوية 2419.
إرسال ظالم، أو مرتكب للفواحش، أو مكاس، أو مخنّث، أو غير ذلك؛ فإنّه لا يُعلم نفي شيء من ذلك بالعقل، لكن بالخبر.
وهم في السمعيات عمدتهم الإجماع1.
عمدة الأشاعرة في السمعيات
وأما الاحتجاج بالكتاب والسنّة، فأكثر ما يذكرونه تبعاً للعقل أو الإجماع. والعقل والإجماع مقدّمان عندهم على الكتاب والسنّة2.
لم يعتمد الباقلاني في تنزيه الأنبياء على دليل عقلي ولا سمعي
فلم يعتمد القاضي أبو بكر3 وأمثاله في تنزيه الأنبياء [لا] 4 على دليل عقليّ، ولا سمعيّ من الكتاب والسنّة؛ فإنّ العقل عنده لا يمنع أن يرسل الله من شاء؛ إذ كان يجوز عنده على الله فعلُ كلّ ما يقدر عليه. وإنّما اعتمد على الإجماع؛ فما أجمع المسلمون عليه أنه لا يكون في النبيّ نَزّه عنه، ثمّ ذكر ما ظنّه إجماعاً؛ كعاداته، وعادات أمثاله في نقل إجماعات5 لا يُمكن
1 الإجماع في اللغة: العزم والاتفاق. وفي الاصطلاح: اتفاق المجتهدين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم في عصرٍ على أمر دينيّ". التعريفات للجرجاني ص 15.
وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله أنّ "معنى الإجماع: أن يجتمع علماء المسلمين على حكم من الأحكام. وإذا ثبت إجماع الأمة على حكم من الأحكام، لم يكن لأحد أن يخرج عن إجماعهم؛ فإنّ الأمة لا تجتمع على ضلالة. ولكنْ كثير من المسائل يظنّ بعض الناس فيها إجماعاً، ولا يكون الأمر كذلك، بل يكون القول الآخر أرجح في الكتاب والسنة". مجموع الفتاوى 2010.
وانظر رد شيخ الإسلام رحمه الله على الأشاعرة، وادعائهم الإجماع في درء تعارض العقل والنقل 895-96.
2 وانظر على سبيل المثال رسالة إلى أهل الثغر للأشعريّ؛ فإنّه ذكر فيها واحداً وخمسين إجماعاً، مع أنّ جلّها، أو أكثرها دلّ عليه الكتاب والسنّة.
3 الباقلاني.
4 ما بين المعقوفتين ملحق في ((خ)) بين السطرين.
5 والأمثلة كثيرة في ذلك؛ سيما في كتاب البيان للباقلاني، والإرشاد للجويني؛ انظر مثلاً قوله عن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر أنّ دليله الإجماع (في الإرشاد ص 368) ، وغير ذلك.
يقول الباقلاني: "ويجب في الجملة أن لا نستثني في السحر شيئاً لا يفعل عنده إلا ما ورد الإجماع والتوقيف على أنه لا يكون بضرب من السحر، وما يفعل عنده ونحو ما ذكرناه، ونحو فلق البحر، وإخراج اليد بيضاء، والآيات التسع، وإخراج ناقة من صخرة، وأمثال هذا مما قد أجمعت الأمة ووقفت على أنه لا يكون عند سحر ساحر". البيان للباقلاني ص 92.
وقال أيضاً عن الملائكة: "ولا يمتنع عندنا أن يدعي منهم مدع الربوبية من جهة العقل، لولا الإجماع على منع ذلك، ووصف الباري سبحانه لهم بالنهاية في الطاعة والمعرفة
…
فقد ورد الإجماع واستقر بأن ذلك لا يكون منهم، ولا ما دونه من المعاصي". البيان ص 103.
وقال الجويني: "واتفق الفقهاء على وجود السحر، واختلفوا في حكمه، وهم أهل الحل والعقد وبهم ينعقد الإجماع
…
ثم اعلموا أن السحر لا يظهر إلا على فاسق، والكرامة لا تظهر على فاسق. وليس ذلك من مقتضى العقل، ولكنه متلقى من إجماع الأمة". الإرشاد للجويني ص 323. وانظر المصدر نفسه ص 332.
وقال الجويني أيضاً: "إنه ما من أمر يخرق العوائد، إلا وهو مقدور للرب تعالى ابتداء، ولا يمتنع وقوع شيء لتقبيح عقل". الإرشاد ص 319.
وقال الإمام القرطبي: "أجمع المسلمون على أنه ليس في السحر ما يفعل الله عنده إنزال الجراد، والقمل، والضفادع، وفلق البحر، وقلب العصا، وإحياء الموتى،.... وأمثال ذلك من عظيم آيات الرسل عليهم السلام. فهذا ونحوه مما يجب القطع بأنه لا يكون ولا يفعله الله عند إرادة الساحر. قال القاضي أبو بكر بن الطيب: وإنما منعنا ذلك بالإجماع، ولولاه لأجزناه". الجامع لأحكام القرآن 247.
نقلها عن واحد من الصحابة، ولا ثلاثة من التابعين، ولا أربعة من الفقهاء المشهورين؛ كدعواه الإجماع على أنّ الصلاة في الدار المغصوبة مجزئة1، مع قوله أنّ العقل يُحيل أن يكون مأموراً به؛ فيدّعي الإجماع على براءة المأمور من فعل ما أُمر به، لكونه فعل ما نُهي عنه.
1 انظر: الإرشاد للجويني ص.
ولأهل الكلام والرأي من دعوى [الإجماعات] 1 التي ليست صحيحة، بل قد يكون فيها نزاعٌ معروفٌ، وقد يكون إجماع السلف على خلاف ما ادّعوا فيه الإجماع ما يطول ذكره هنا.
وقد ذكرنا قطعة من الإجماعات الفروعيّة التي حكاها طائفة من أعيان العلماء العالمين بالاختلاف2، مع أنّها منتقضة، وفيها نزاع ثابت لم يعرفوه. وقد يكون غيرهم حكى الإجماع على نقيض قولهم. وربّما كان من السلف؛ كقول الشافعيّ: ما أعلم أحداً قَبِل شهادة العبد3.
وقبله من الصحابة: أنس بن مالك؛ يقول: ما أعلم أحداً ردّ شهادة العبد4.
وكدعوى ابن حزم الإجماع [على إبطال] 5 القياس6.
وأكثر الأصوليّين يذكرون الإجماع على إثبات القياس.
وبسط هذا له موضع آخر7.
1 في ((خ)) : الإجمات. وهو تصحيف. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .
2 ولشيخ الإسلام رحمه الله تعليق على مراتب الإجماع لابن حزم، باسم نقد مراتب الإجماع. نشر وتوزيع دار الباز بمكة المكرمة.
3 هذه العبارة عن الشافعي رحمه الله لم أجدها. ولكنه رحمه الله ذكر في كتاب الأمّ عدم قبول شهادة العبد. انظر: الأم للشافعي 743 طبعة الشعب. وانظر: الحاوي الكبير للماوردي 17213-214. والمجموع شرح المهذب للنووي 2321-24) .
4 انظر: المغني لابن قدامه 14185.
5 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) .
6 انظر كلام ابن حزم رحمه الله عن إبطال القياس في كتابه: الإحكام في أصول الأحكام 71208-1209، ضمن الأجزاء من 5 إلى 8.
7 انظر: مجموع الفتاوى؛ الجزء التاسع عشر، والجزء العشرين. وكتاب أصول الفقه عند ابن تيمية رحمه الله إعداد الدكتور صالح المنصور. ومختارات شيخ الإسلام للّحام.