المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌فصل في أن الرسول لا بد أن يبين أصول الدين - النبوات لابن تيمية - جـ ١

[ابن تيمية]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد الأول

- ‌مقدمة

- ‌الباب الأول

- ‌المبحث الأول: مدخل لدراسة موضوع الكتاب وما ألف فيه

- ‌المطلب الأول: حقيقة النبوة

- ‌المطلب الثاني: الحكمة من بعث الرسل

- ‌المطلب الثالث: وظائف الرسل

- ‌المطلب الرابع: أقوال الناس في النبوة:

- ‌المطلب الخامس: الإيمان بالأنبياء من أركان الإيمان:

- ‌المطلب السادس: الإسلام دين جميع الأنبياء:

- ‌المطلب السابع: المعجزات:

- ‌المطلب الثامن: ما أُلِّف في النبوات:

-

- ‌المبحث الثاني: التعريف بالمؤلِّف

- ‌المطلب الأول: حياة المؤلف الشخصية:

- ‌المطلب الثاني: حياة المؤلف العلمية

- ‌المبحث الثالث: دراسة الكتاب

- ‌المطلب الأول: التعريف بالكتاب

- ‌المطلب الثاني: التعريف بالأصل المخطوط

- ‌الباب الثاني: قسم التحقيق

- ‌فصل في معجزات الأنبياء التي هي آياتهم وبراهينهم

- ‌فصل في آيات الأنبياء وبراهينهم

- ‌فصل في أن الرسول لا بُدّ أن يبيّن أصول الدين

- ‌فصل عدل الله وحكمته وتعليل أفعاله

- ‌فصل طريقة الأشاعرة في إثبات المعجزات

- ‌فصل تعريف المعجزة عند الأشاعرة

- ‌فصل قول الأشاعرة في المعجزات

- ‌فصل كلام الباقلاني في المعجزات ومناقشة شيخ الإسلام له

- ‌فصل الفروق بين آيات الأنبياء وغيرها

- ‌فصل ما يخالف الكتاب والسنة فهو باطل

الفصل: ‌فصل في أن الرسول لا بد أن يبين أصول الدين

‌فصل في أن الرسول لا بُدّ أن يبيّن أصول الدين

1

وهي البراهين الدالّة على أنّ ما يقوله حقّ؛ من الخبر، والأمر؛ فلا بُدّ أن يكون قد بيّن الدلائل على صدقه في كلّ ما أخبر، ووجوب طاعته في كلّ ما أوجب وأمر.

ومن أعظم أصول الضلال: الإعراض عن بيان الرسول للأدلة والآيات والبراهين والحجج؛ فإنّ المعرضين عن هذا؛ إمّا أن يُصدّقوه، ويقبلوا قوله، ويؤمنوا به بلا دليلٍ أصلاً ولا علم؛ وإمّا أن يستدلّوا على ذلك بغير أدلته

فإن لم يكونوا عالمين بصدقه: فهم ممّن يُقال له في قبره: ما قولك في هذا الرجل الذي بُعث فيكم؟ فأمّا المؤمن أو الموقن، فيقول: هو عبد الله ورسوله جاءنا بالبيّنات والهدى، فآمنّا به واتبعناه. وأمّا المنافق أو المرتاب، فيقول: هاه، هاه، لا أدري، سمعتُ النّاس يقولون شيئاً، فقلتُهُ. فيُضرب بمِرْزَبَّةٍ 2 من حديدٍ، فيصيح صيحةً يسمعها كلّ

(1) للمؤلف رحمه الله رسالة باسم: "معارج الوصول إلى أنّ أصول الدين وفروعه قد.بيّنها الرسول صلى الله عليه وسلم". نشر مكتبة ابن الجوزي.

وانظر: درء تعارض العقل والنقل للمؤلف 1/22-27 وما بعدها. ومجموع الفتاوى 3/293، 326.

(2)

المِرْزَبَّة، والمِرْزَبَة - بالتشديد، والتخفيف -: عُصَيّة من حديد. القاموس المحيط للفيروزآبادي ص 114 (رزب) .

ص: 245

شيء، إلا الثقلين12.

وإن استدلّ على ذلك بغير الآيات والأدلة التي دعا بها النّاس، فهو مع كونه مبتدعاً3، لا بُدّ أن يُخطئ ويُضلّ.

فإن ظنّ الظانّ أنّه بأدلة4 وبراهين خارجة عمّا جاء به تدلّ5 على ما جاء به، فهو6 من جنس ظنّه أنّه يأتي بعبادات غير ما شرعه تُوصل إلى مقصوده7.

(1) الثقلان: الجنّ والإنس. القاموس المحيط للفيروزآبادي ص 1256 (ث ق ل) .

(2)

معنى حديث طويل أخرجه البخاري في صحيحه 1/461، كتاب الجنائز، باب ما جاء في عذاب القبر، ومسلم في صحيحه 4/2200-2201، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب عرض مقعد الميت من الجنة أو النار عليه، وإثبات عذاب القبر، والتعوّذ منه. كلاهما أخرجاه بألفاظ مقاربة لما ذكره المؤلف.

(3)

الابتداع: هو شرع ما لم يأذن الله به، ولم يكن عليه أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه. وهي ما عناه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:"كل عمل ليس عليه أمرنا.. " الحديث أخرجه البخاري في صحيحه 6/2675، كتاب الاعتصام، باب: وكذلك جعلناكم أمة وسطا. ومسلم في صحيحه 3/1343، كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة وردّ محدثات الأمور. وانظر: معارج القبول للحكمي3/1228) .

وعرّف الشاطبي البدعة بقوله: "عبارة عن طريقة في الدين مخترعة، تُضاهي الشرعية، يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبّد لله سبحانه". الاعتصام 1/37.

والمبتدع: هو الذي وقعت منه البدعة. وهو نوعان: مبتدع اعتقاديّ، ومبتدع عمليّ. والمبتدع المقصود هاهنا هو صاحب البدعة الاعتقادية: الذي يعتقد خلاف ما عليه النبيّ عليه السلام؛ سواء صاحب الاعتقاد عمل، أم لم يُصاحب.. وانظر: الاستقامة لابن تيمية 1/5.

(4)

كذا في ((خ)) ، و ((م)) ، ولعلّ المراد: أنّه أتى بأدلة

(1)

في ((خ)) يدلّ، وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

(2)

ليست في ((خ)) . وهي في ((م)) ، و ((ط)) .

(3)

قال شيخ الإسلام رحمه الله: "وكلّ من دعا إلى شيء من الدين بلا أصل من كتاب الله وسنة رسوله، فقد دعا إلى بدعة وضلالة، والإنسان في نظره مع نفسه ومناظرته لغيره إذا اعتصم بالكتاب والسنة هداه الله إلى صراطه المستقيم؛ فإنّ الشريعة مثل سفينة نوح عليه السلام، من ركبها نجا، ومن تخلّف عنها غرق". درء تعارض العقل والنقل 1/234.

ص: 246

"وهذا الظنّ وقع فيه طوائف من النظّار الغالطين1، أصحاب الاستدلال والاعتبار والنظر؛ كما وقع في الظنّ الأول طوائف من العبّاد الغالطين2، أصحاب الإرادة والمحبّة والزهد"3.

وقوله صلى الله عليه وسلم في خطبته يوم الجمعة: "خيرُ الكلامِ كلامُ اللهِ، وخيرُ الهَدْيِ هديُ محمّد، وشرُّ الأمورِ مُحْدَثاتُها، وكلُّ بدعةٍ ضلالة"4 يتناول هذا وهذا.

وقد أرى الله تعالى عبادَه الآيات في الآفاق، وفي أنفسهم، حتى تبيّن5 لهم أنّ ما6 قاله فهو حقّ؛ فإنّ أرباب العبادة، والمحبّة، والإرادة، والزهد الذين سلكوا غير ما أُمروا به، ضلّوا كما ضلّت النصارى. ومبتدعة

(4)

مثل المتكلمين.

(5)

مثل المتصوّفة.

(6)

العبارة في ((خ)) وردت هكذا: "وهذا الظنّ وقع فيه طوائف من العبّاد الغالطين أصحاب الإرادة والمحبة والزهد؛ كما وقع في الظنّ الأول طوائف من النظّار الغالطين أصحاب الاستدلال والاعتبار والنظر".

ولعلّ الصواب ما أُثبت نقلاً عن ((م)) ، و ((ط)) ؛ لأنّ الظنّ المُراد في قوله:(وهذا الظنّ..) هو ظنّ المتكلّمين وأمثالهم ممّن أتوا ببراهين وأدلة خارجة عمّا جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم.

(1) الحديث أخرجه أحمد في المسند 3/310، 371. ومسلم في صحيحه 2/592، كتاب الجمعة، باب تخفيف الصلاة والخطبة.. مع اختلاف في الألفاظ.

(2)

في ((خ)) : يتبيّن، وفي ((م)) ، و ((ط)) : تبيّن.

(3)

في ((خ)) : أنما، وفي ((م)) ، و ((ط)) : أنّ ما. وهو الصحيح.

ص: 247

هذه الأمة من العبّاد، وأرباب النظر، والاستدلال الذين سلكوا

غير دليله وبيانه أيضاً ضلّوا. قال تعالى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّيْ هُدَىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدّاْيَ فَلاْ يَضِلُّ وَلاْ يَشْقَىْ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِيْ فَإِنَّ لَهُ مَعِيْشَةً ضَنْكَاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَاْمَةِ أَعْمَىْ قَاْلَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِيْ أَعْمَىْ وَقَدْ كُنْتُ بَصِيْرَاً قَاْلَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاْتُنَاْ فَنَسِيْتَهَاْ وَكَذِلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَىْ} 1.

قول الإمام أحمد: أصول الإسلام أربعة

وفي الكلام المأثور عن الإمام أحمد: أصول الإسلام أربعة2: دالٌ، ودليل، ومبيِّن، ومُستدِلّ. فالدالّ هو الله، والدليل هو القرآن، والمبيِّن هو الرسول؛ قال الله تعالى:{لِتُبَيِّنَ لِلنَّاْسِ مَاْ نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} 3، والمستدِلّ هم أولوا العلم وأولوا الألباب4 الذين أجمع المسلمون على هدايتهم ودرايتهم5.

وقد ذكره ابن الْمَنِّي6عن أحمد. وهو مذكور في العدّة7 للقاضي أبي يعلى8، وغيرها، إما أنّ أحمد قاله، أو قيل له، فاستحسنه.

(4) سورة طه، الآيات 123-126.

(5)

في كتاب ((العدة في أصول الفقه)) للقاضي أبي يعلى: (قواعد الإسلام أربع) .

3 سورة النحل، جزء من الآية 44..

4 في العدة: (والمستدلّ أولوا الألباب) ..

5 في العدة: (ولا يُقبل الاستدلال إلا ممّن كانت هذه صفته) ..

6 ابن المني: هو أبو الفتح؛ نصر بن فتيان بن مطر بن المني النهرواني الحنبلي، شيخ الحنابلة. ولد سنة 501هـ. كان ورعاً، عابداً، حسن السمت، على منهج السلف. توفي سنة 583 هـ.

انظر: سير أعلام النبلاء 21/137، 138. والبداية والنهاية 12/350. وذيل طبقات الحنابلة لابن رجب 1/358. وشذرات الذهب 4/277.

7 انظر: كتاب العدة في أصول الفقه للقاضي أبي يعلى 10/135، تحقيق د/ أحمد بن علي سير المباركي. وانظر: كتاب شرح الكوكب المنير لأبي البقاء الفتوحي1/55.

8 تقدمت ترجمته 175.

ص: 248

أهل الكلام يوجبون النظر

ولهذا صار كثير من النظّار يوجبون العلم والنظر والاستدلال1، وينهون عن التقليد، ويقول كثير منهم: إنّ إيمان المقلّد لا يصحّ، أو أنه وإن صحّ، لكنّه عاص بترك الاستدلال، ثمّ النظر2.

الاستدلال الفاسد الذي أصله المتكلمون

والاستدلال الذي يدعون إليه، ويوجبونه، ويجعلونه أول الواجبات3،

1 وهذا صنيع جمهور المعتزلة والماتريدية والأشعريّة؛ فإنّهم يوجبون العلم والنظر والاستدلال على كلّ أحد، بل يجعلونه أول واجب على المكلّف. انظر: الغنية في أصول الدين لعبد الرحمن النيسابوري ص 55. وشرح الأصول الخمسة لعبد الجبار المعتزلي ص 60-75. والتوحيد للماتريدي ص 135-137. والإرشاد للجويني ص 3. وشرح جوهرة التوحيد للبيجوري ص 38. وشرحها للقاني ص 24-25.

2 قال الصاوي في شرح جوهرة التوحيد - بعد أن ساق في المسئلة ستة أقوال -: "والحقّ الذي عليه المعوّل: أنّه مؤمن عاص بترك النظر، إن كان فيه أهلية النظر".. شرح جوهرة التوحيد للصاوي ص 61.

وانظر: أيضاً: درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية 7/353، 408. ومجموع الفتاوى 20/202. والاستقامة 1/142.

وسيأتي ردّ المصنّف رحمه الله عليهم بالتفصيل في هذا الكتاب 392، 393.

3 قال أبو جعفر السمناني عن هذه المسألة: (إنّ هذه المسألة بقيت في مقالة الأشعري من مسائل المعتزلة، وتفرّع عليها أنّ الواجب على كل أحد معرفة الله بالأدلة الدالة عليه، وأنّه لا يكفي التقليد في ذلك

) . فتح الباري لابن حجر 13/361.

وقد نقلها شيخ الإسلام رحمه الله في درء تعارض العقل والنقل 7/407، 461.

ومعتقد السلف في هذه المسألة أنّ أوّل واجب على المكلّف: الشهادتان، لا النظر، ولا القصد إلى النظر، ولا الشكّ؛ كما هي أقوال المتكلمين. فالتوحيد أول ما يدخل به في الإسلام، وآخر ما يخرج به من الدنيا؛ كما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنّة" الحديث أخرجه أحمد في مسنده5/233، 347. والحاكم في مستدركه 1/351، وصححه ووافقه الذهبي. وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ لما بعثه إلى اليمن: "فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله" الحديث أخرجه البخاري 2/125، كتاب الزكاة، ومسلم 1/50-51، كتاب الإيمان. فهو أول واجب، وآخر واجب.

انظر: درء تعارض العقل والنقل 8/6-7، 21. ومجموع الفتاوى 16/328. وشرح الطحاوية 1/23.

ص: 249

وأصل العلم: هو نظر واستدلال ابتدعوه، ليس هو المشروع؛ لا خبراً، ولا أمراً. وهو استدلال فاسد لا يُوصل إلى العلم؛ فإنّهم جعلوا أصل العلم بالخالق هو الاستدلال على ذلك بحدوث الأجسام1، والاستدلال على

1 لأنّهم قالوا إنّ إثبات الصانع لا يُعرف إلا بالنظر المفضي إلى العلم بإثباته، والعلم بإثبات الصانع لا يمكن إلا بإثبات حدوث العالم، وإثبات حدوث العالم لا يمكن إلا بإثبات حدوث الأجسام؛ لذلك جعلوا أصل العلم بالخالق هو الاستدلال على ذلك بحدوث الأجسام. انظر: الفرقان بين الحق والباطل لابن تيمية ص 96، 98. والرسالة التدمرية له ص 148. ومنهاج السنة النبوية له 1/309-310.

ويذكر شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في موضع آخر أنّ الذي أوجب دليل الأعراض وحدوث الأجسام هم متأخرو الأشعريّة؛ كالجوينيّ، فيقول رحمه الله:"وبالجملة: فإنه وإن كان أبو المعالي ونحوه يوجبون هذه الطريقة، فكثير من أئمة الأشعريّة، أو أكثرهم يُخالفونه في ذلك، ولا يُوجبونها، بل إمّا أن يُحرّموها أو يكرهوها أو يبيحوها وغيرها، ويُصرّحون بأنّ معرفة الله تعالى لا تتوقّف على هذه الطريقة، ولا يجب سلوكها. ثمّ هم قسمان؛ قسم يسوقها ويسوق غيرها ويعدّها طريقاً من الطرق، فعلى هذا إذا فسدت لم يضرّهم. والقسم الثاني يذمونها ويعيبونها ويعيبون سلوكها، وينهون عنها؛ إمّا نهي تنزيه، وإما نهي تحريم". نقض التأسيس لابن تيمية 2/15.

وهؤلاء الذين يقولون إنّ معرفة الله لا تتوقّف على طريقة الأعراض، ولا يوجبونها، أو الذين ينهون عنها هم من متقدّمي الأشعريّة.. أمّا متأخروهم، فكلهم على أنّها أصل الدين، ولا يُعرف الله إلا بها.

وطريقة الأعراض وحدوث الأجسام هذه مأخوذة عن الجهميّة والمعتزلة؛ فهم الأصل فيها، وعنهم انتشرت، وإليهم تُضاف.. كما نصّ على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في درء تعارض العقل والنقل 7/209.

ص: 250

حدوث الأجسام بأنّها مستلزمة للأعراض لا يخلو عنها ولا ينفكّ منها1. ثمّ استدلّوا على حدوث الأعراض. قالوا: فثبتَ أنّ الأجسام مستلزمة للحوادث، لا يخلو عنها، فلا تكون مثلها.

دليل الحوادث

ثمّ كثير منهم قالوا: وما لم يخل من الحوادِث، أو ما لم يسبق الحوادث، فهو حادِث2، وظنّ أنّ هذه مقدّمة بديهيّة معلومة بالضرورة لا يُطلب عليها دليل، وكان ذلك بسبب أنّ لفظ الحوادِث يُشعر بأنّ3 لها ابتداءً؛ كالحادِث المعيّن، والحوادِث المحدودة4. ولو قدّرت ألف ألف

1 وقد اختلفوا فيما يُستدلّ به على حدوثها؛ هل بملازمتها للأعراض جميعها، أو لبعض الأعراض؛ كالأكوان الأربعة، أو لبعض الأكوان؛ كالحركة مثلاً؛ على أقوال.

فاستدلّ المعتزلة بملازمة الأجسام للأعراض جميعها، أو بعضها - كالأكوان - على حدوثها. انظر: شرح الأصول الخمسة لعبد الجبار ص 95.

واستدلّ الأشعريّة بملازمة الأجسام للأكوان، أو بعضها - كالحركة والسكون - على حدوثها. انظر: التمهيد للباقلاني ص 38. وأصول الدين للبغدادي ص 59. والإرشاد للجويني ص 40.

أما الماتريديّة: فقد وافقوا المعتزلة في استدلالهم بملازمة الأجسام للأعراض، أو لبعضها - كالأكوان - على حدوثها.. انظر: العقائد النسفية لأبي حفص النسفي ص 20. وتفسير أبي البركات النسفي 1/200. وإشارات المرام من عبارات الإمام للبياضي ص 82.

2 وهذه عبارات متنوعة، مؤدّاها واحد. انظر: جامع الرسائل - رسالة في الصفات الاختيارية - لابن تيمية 2/31-32. وكتاب الصفدية له 2/163. ودرء تعارض العقل والنقل له 8/173.

وانظر: من كتب الأشعريّة: التمهيد للباقلاني ص 41. والإنصاف له ص 28. والإرشاد للجويني ص 17-28. وأصول الدين للبغدادي ص 60.

3 في ((خ)) : بأنّه.. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

4 وذلك لأنّ الحادِث ما يكون مسبوقاً بالعدم؛ حدث بعد أن لم يكن.

ويُفهم من هذا أنّ جنس الحوادِث لها ابتداء.

وهذا الأمر صحيح بالنسبة للحوادِث المخلوقة.

أمّا أفعال الله تعالى فليس لنوعها ابتداء؛ فهو - جلّ وعلا - لم يكن معطّلاً عن صفاته الفعلية أزلاً، ثمّ وجدت بعد أن لم تكن. بل هو أزليّ بصفاته، وإن كانت أفعاله قديمة النوع متجدّدة الآحاد.

وما كان كذلك لا يُقال عنه إنّه وُجد بعد العدم.

ص: 251

ألف حادث، فإنّ الحوادث إذا جُعلت مقدّرة محدودة، فلا بُدّ أن يكون لها ابتداء1؛ فإنّ ما لا ابتداء له ليس له حدّ معيّن ابتدأ منه، إذ قد قيل لا ابتداء له، بل هو قديم أزليّ دائم. ومعلومٌ أنّ هذه الحوادِث ما لم يسبقها فهو حادث؛ فإنّه يكون إمّا معها، وإمّا بعدها2.

1 وقد مثّلوا لذلك ببرهان، أطلقوا عليه اسم ((برهان التطبيق)) ، وقالوا: لو فُرض فيما لا يتناهى من الحوادِث سلسلتان؛ إحداهما من الطوفان إلى ما لانهاية له في القدم، والأخرى من الهجرة إلى ما لا نهاية له في القدم، ثمّ طبّق بين هاتين السلسلتين؛ فكلما طرح من السلسلة الأولى واحد، طرح من الأخرى مقابله واحد أيضاً، وهنا لا يخلو الحال من أمور ثلاثة: إمّا أن يفرغا معاً: وهذا خلاف الفرض، ويلزم منه مساواة الناقص للزائد. وإمّا ألاّ يفرغا، وهو باطل عندهم أيضاً؛ لأنّه يلزم منه المساواة بين مختلفَيْن - على حد قولهم، وتستحيل المساواة لتحقق الزيادة في أحدهما. وإمّا أن يفرغ أحدهما قبل الآخر؛ فإذا فرغت إحدى السلسلتين، لزم أن تفرغ الأخرى أيضاً لوجود قدر متناه بينهما.

وهذا الأمر الثالث هو المعتبر عندهم، وهو يدلّ على امتناع حوادث لا أول لها.

انظر: من كتبهم: المواقف للإيجي ص 90. وشرح المقاصد للتفتازاني 2/120-122.

2 وهذا تقدّمت الإشارة إليه قريباً، وهو إحدى المقدّمتين اللتين بنوا عليهما إثبات حدوث الأجسام، وهو معنى قولهم: ما لا يخلو من الحوادث فهو حادث، أو ما لا يسبق الحوادث فهو حادث

إلخ. انظر: نقض التأسيس لابن تيمية - مخطوط - ق 47/ب) .

ص: 252

وكثير منهم1 يفطن للفرق بين جنس الحوادث، وبين الحوادث المحدودة؛ فالجنس: مثل أن يُقال: ما زالت الحوادث توجد شيئاً بعد شيء، أو ما زال جنسها موجوداً، أو ما زال الله متكلّماً إذا شاء، أو ما زال الله فاعلاً لما يشاء2، أو ما زال قادراً على أن يفعل قدرة يمكن معها اقتران المقدور بالقدرة، لا تكون قدرة يمتنع معها المقدور؛ فإنّ هذه في الحقيقة ليست قدرة3. ومثل أن يُقال في المستقبل: لا بُدّ أنّ الله يخلق شيئاً بعد شيء،

1 أي من النظّار.

2 وهذا ما قاله السلف رحمهم الله في صفات الأفعال الاختيارية؛ من أنّها قديمة النوع، حادثة الآحاد، لا بمعنى وجود المفعولات معه جلّ وعلا أزلاً؛ فإنّ القول بوجود المفعولات مع الله جلّ وعلا أزلاً ليس من أقوال المسلمين. انظر: منهاج السنة النبوية لابن تيمية 1/148) .

3 مع القدرة التامة يتعيّن وجود المقدور، وإلا فليست قدرة. انظر: جامع الرسائل - رسالة في الصفات الاختيارية - لابن تيمية 2/20-21) .

تنبيه: ليس يُفهم من قول السلف - رحمهم الله تعالى - عن الله جلّ وعلا: لم يزل فاعلاً، أو لم يزل خالقاً، أو لم يزل قادراً،

إلخ: أنّ الخالق للسموات والأرض والإنسان لم يزل يخلق السموات والأرض والإنسان، أو لم يزل يفعل كذا؛ بمعنى أنّ هذه المفعولات، أو المخلوقات موجودة معه في الأزل، بل المراد ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في موضع آخر بقوله:"لم يزل الخالق لذلك سيخلقه، ولم يزل الفاعل لذلك سيفعله؛ فما من مخلوق من المخلوقات، ولا فعل من المفعولات، إلا والرب تعالى موصوف بأنه لم يزل سيفعله، ليس موصوفاً بأنّه لم يزل فاعلاً له خالقاً له؛ بمعنى أنّه موجود معه في الأزل. وإن قُدّر أنه كان قبل هذا الفعل فاعلاً لفعل آخر، وقبل هذا المخلوق خالقاً لمخلوق آخر، فهو لم يزل بالنسبة إلى كلّ فعل ومخلوق: سيفعله، وسيخلقه، لا يُقال: لم يزل فاعلاً له بمعنى مقارنته له". درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية 2/267-268.

وقال شيخ الإسلام في موضع آخر: "فليس مع الله في الأزل شيء من المفعولات ولا الأفعال؛ إذ كان كل منهما حادِثاً بعد أن لم يكن، والحادِث بعد أن لم يكن لا يكون مقارناً للقديم الذي لم يزل". درء تعارض العقل والنقل 2/267.

ص: 253

ونعيم أهل الجنة دائم لا يزول، ولا ينفذ. وقد يُقال في النوعين: كلمات الله لا تنفذ، ولا نهاية لها؛ لا في الماضي، ولا في المستقبل، ونحو ذلك1.

فالكلام2 في دوام الجنس وبقائه، وأنّه لا ينفذ، ولا ينقضي، ولا يزول، ولا ابتداء له: غير الكلام فيما يقدر محدوداً له ابتداء، أو له ابتداء وانتهاء3؛ فإنّ كثيراً من النظّار4 من5 يقول: جنس الحوادِث إذا قدّر له ابتداء، وجب أن يكون له انتهاء؛ لأنّه يمكن فرض تقدّمه على ذلك الحدّ، فيكون أكثر ممّا وجد، وما لا يتناهى لا يدخله التفاضل؛ فإنّه ليس وراء عدم النهاية شيء أكثر منها، بخلاف ما لا ابتداء له ولا انتهاء؛ فإنّ هذا لا يكون شيء فوقه، فلا يفضي إلى التفاضل فيما لا يتناهى. وبسط هذا له موضع آخر6.

1 وهذا هو التسلسل الذي أجازه السلف - رحمهم الله تعالى - ورأوا أنّ إثباته ضروريّ لإثبات أفعال الله الاختياريّة، وعليه يشهد قوله تعالى:{قُلْ لَوْ كَاْنَ الْبَحْرُ مِدَاْدَاً لِكَلِمَاْتِ رَبِّيْ لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاْتُ رَبِّيْ وَلَوْ جِئْنَاْ بِمِثْلِهِ مَدَدَاً} [الكهف، 109] .

فكلمات الله لا نهاية لها؛ لم يزل متكلماً بمشيئته وقدرته، ولا يزال؛ فلا نهاية لكلماته.

2 كذا في ((خ)) ، وفي ((م)) . وفي ((ط)) : فالكلمة.

3 وفي هذا إشارة إلى الفرق بين جنس الحوادث، وبين الحوادث المحدودة؛ كما تقدّم التنويه بذلك.

4 كأبي الهذيل العلاّف، والجهم بن صفوان، ومن وافقهما.. وكان من حجتهم: إذا امتنعت حوادث لا أول لها في الماضي، فيجب أن تمتنع حوادث لا نهاية لها في المستقبل.. انظر: منهاج السنة النبوية لابن تيمية 1/147) .

5 هكذا وردت في ((خ)) ، و ((م)) ، و ((ط)) . ولعلّ الأصوب حذفها.

6 انظر: منهاج السنة النبوية لابن تيمية 1/146-147، 1/223-234، والفتاوى 2/88، و 36/28-30، والصفدية 1/8-135.

وقد نسب خصوم شيخ الإسلام رحمه الله كالسبكي وغيره (طبقات الشافعية6/106) أنه يقول بقدم العالم وبتسلسل الحوادث، والمشهور من كتب شيخ الإسلام رحمه الله أنه رد على الفلاسفة القائلين بقدم العالم كما رد على قول المتكلمين الذين يجوزون دوام الحوادث في المستقبل دون الماضي ويقولون:"إن الله خلق بعد أن بم يكن يخلق، ونصر قول أهل الحديث الذي لم يفهمه المتكلمون؛ وهو أن الله لم يزل فاعلا متكلما بمشيئته ولم يكن معطلا عن الخلق والأمر".

ص: 254

المتكلمون جعلوا أصل دينهم النظر في دليل الأعراض وحدوث الأجسام

والمقصود هنا أنّ هؤلاء جعلوا هذا أصل دينهم وإيمانهم، وجعلوا النظر في هذا الدليل هو النظر الواجب على كلّ مكلّف، وأنّه من لم ينظر في هذا الدليل؛ فإمّا أنّه لا يصحّ إيمانه، فيكون كافراً1 على قول طائفة منهم، وإمّا أن يكون عاصياً2 على قول آخرين، وإما أن يكون مقلّداً لا علم له بدينه، لكنه ينفعه هذا التقليد، ويصير به مؤمناً غير عاص.

الرسول لم يدع الخلق إلى دليل النظر

والأقوال الثلاثة باطلة؛ لأنّها مفرّعة على أصل باطل، وهو أنّ النظر الذي هو أصل الدين والإيمان، هو هذا النظر في هذا الدليل؛ فإنّ علماء المسلمين يعلمون بالاضطرار أنّ الرسول لم يدع الخلق بهذا النظر، ولا بهذا الدليل؛ لا عامة الخلق، ولا خاصّتهم3، فامتنع أن يكون هذا شرطاً في الإيمان والعلم.

1 وذلك لأنّ النظر في هذا الدليل ((دليل الأعراض وحدوث الأجسام)) هو المسلك الوحيد عندهم لإثبات وجود الله تعالى، فمن لم يسلكه عجز عن إثبات وجود ربّه وتصحيح عقيدته، فصار من الملحدين. انظر: درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية 1/303. والفرقان بين الحق والباطل له ص 47. وشرح حديث النزول ص 161-162) .

يقول الماتريديّ عن الله تعالى: "لا سبيل إلى العلم به، إلا من طريق دلالة العالم عليه". التوحيد للماتريدي ص 129

ويقول أبو حامد الغزالي: "

فبان أنّ من لا يعتقد حدوث الأجسام، فلا أصل لاعتقاده في الصانع أصلاً". تهافت الفلاسفة ص 197.

2 قال الصاوي: "والحق الذي عليه المعوّل: أنّه مؤمن عاص بترك النظر

إلخ". شرح جوهرة التوحيد للصاوي ص 61

3 فالأنبياء عليهم السلام وفي مقدمتهم نبيّنا صلى الله عليه وسلم لم يأمروا أحداً بسلوك هذا السبيل، فدلّ ذلك على أنّه غير مشروع؛ إذ لو كان واجباً أو مستحباً لشرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وما دام الأمر كذلك، فليست معرفة الله تعالى موقوفة عليه؛ إذ معرفته جلّ وعلا واجبة. انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 6/50.

ص: 255

وقد شهد القرآن والرسول لمن شهد له من الصحابة وغيرهم بالعلم، وأنّهم عالمون بصدق الرسول، وبما جاء به، وعالمون بالله، وبأنّه لا إله إلا الله، ولم يكن الموجب لعلمهم هذا الدليل المعيّن1؛ كما قال تعالى:

{وَيَرَىْ الّذِيْنَ أُوْتُوْا الْعِلْمَ الّذِيْ أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقُّ وَيَهْدِيْ إِلَىْ صِرَاْطِ الْعَزِيْزِ الْحَمِيْدِ} 2، وقال:{شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوْا الْعِلْمِ قَاْئِمَاً بِالْقِسْطِ} 3، وقال:{أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَاْ أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَىْ} 4.

وقد وصف باليقين والبصيرة في غير موضع؛ كقوله: {وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوْقِنُوْنَ} 5، وقوله:{أُوْلَئِكَ عَلَى هُدَىً مِنْ رَبِّهِمْ} 6، وقوله:{قُلْ هَذِهِ سَبِيْلِيْ أَدْعوا إِلَىْ اللهِ عَلَىْ بَصِيْرَةٍ أَنَا وَمنِ اتَّبَعَنيْ} 7، وأمثال ذلك.

فتبين أنّ هذا النظر والاستدلال الذي أوجبه هؤلاء، وجعلوه أصلَ الدين، ليس ممّا أوجبه الله ورسوله8. ولو قدّر أنّه صحيح في نفسه، وأنّ

1 وهو ما أنكره بعض النظّار أنفسهم. يقول أبو حامد الغزالي - وهو من أئمة المتكلمين: "فليت شعري متى نُقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو عن الصحابة رضوان الله عليهم أنهم قالوا لمن جاء مسلماً الدليل على أنّ العالم حادث: أنّه لا يخلو عن الأعراض، وما لا يخلو عن الحوادث حادث". فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة للغزالي ص 89.

2 سورة سبأ، الآية 6.

3 سورة آل عمران، الآية 18.

4 سورة الرعد، الآية 19.

5 سورة البقرة، الآية 4.

6 سورة البقرة، الآية 4.

7 سورة يوسف، الآية 108.

8 بل لم يرد في إثبات هذا النظر والاستدلال دليلٌ؛ لا من كتاب، ولا سنّة، ولا خبر صحابي، ولا قول تابعيّ، ولا أحد من أئمة الدين. انظر: منهاج السنة النبوية لابن تيمية 1/315-316.

ص: 256

الرسول أخبر بصحته، ولم يلزم من ذلك وجوبه؛ إذ قد يكون للمطلوب أدلة كثيرة.

طعن الرازي وغيره على الجويني

ولهذا طعن الرازي1، وأمثاله2 على أبي المعالي3 في قوله أنّه لا يُعلم حدوث العالم إلا بهذا الطريق4، وقالوا: هب أنّه يدلّ على حدوث العالم، فمن أين يجب أن لا يكون ثمّ طريق آخر.

1 هو محمد بن عمر بن الحسن التيمي؛ فخري الدين الرازي. أشعري المعتقد، إلا أنّه خلط مذهبه بالاعتزال والفلسفة. توفي سنة 606 ?. انظر: وفيات الأعيان لابن خلكان 3/381-385. ونقض التأسيس لابن تيمية - مخطوط - ق 28/أ. ولسان الميزان لابن حجر 4/246-249.

2 كأبي الحسن الآمدي الذي قلّل من شأن دليل الأعراض وحدوث الأجسام، وقال بعد أن نقل الدليل بطوله:"وهو عند التحقيق سرابٌ غير حقيق". غاية المرام في علم الكلام للآمدي ص 260.

3 هو عبد الملك بن عبد الله بن يوسف، أبو المعالي الجويني. احتار في آخر عمره، وتمنّى أن يكون على عقيدة عجائز بلده. توفي سنة 478 ?.

انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي 18/468-477. والفتاوى المصرية لابن تيمية 6/620-621. وبغية المرتاد له ص 450.

4 انظر: نهاية العقول للرازي - مخطوط - ق 175/ب. والمطالب العالية له 1/71. والمباحث المشرقية له 1/327، 365. "فقد ضعّف البراهين الخمسة التي احتجّ بها أبو المعالي - في الإرشاد ص 37 - ومن شايعه على حدوث العالم وحدوث الأجسام".

وقد ذكر شيخ الإسلام موقف الأشعريّة من دليل الأعراض في موضع آخر، فقال:"لكن هؤلاء وغيرهم يعتقدون صحة تلك الطريق، وإن قالوا إنّ تصديق الرسول لا يتوقف عليها. ثم منهم من يقول إنها لا تعارض النصوص، بل يمكن الجمع بينهما؛ وهذه طريقة الأشعريّ وأئمة أصحابه؛ يثبتون الصفات الخبرية التي جاء بها القرآن، مع اعتقاد صحة طريق الاستدلال بحدوث الأعراض وتركيب الأجسام.... ومن هؤلاء من يدّعي التعارض بينهما؛ كالرازي وأمثاله؛ كما يقول ذلك من يوجب الاستدلال بطريقة حدوث الأعراض؛ كالمعتزلة وأبي المعالي وأتباعه". درء تعارض العقل والنقل 7/74-75.

ص: 257

وسلكوا هم طرقاً أُخَر.

فلو كانت هذه الطريقة صحيحة عقلاً، وقد شهد لها الرسول والمؤمنون الذين لا يجتمعون على ضلالة بأنها طريق صحيحة، لم يتعيّن، مع إمكان سلوك طرق أُخرى1.

كما أنّه في القرآن سور وآيات قد ثبت بالنصّ والإجماع أنها من آيات الله الدالّة على الهدى. ومع هذا، فإذا اهتدى الرجل بغيرها، وقام بالواجب، ومات ولم يعلم بها، ولم يتمكن من سماعها، لم يضرّه؛ كالآيات المكيّة التي اهتدى بها من آمن ومات في حياة النبيّ صلى الله عليه وسلم قبل أن ينزل سائر القرآن. فالدليل يجب طرده، لا يجب عكسه2

1 فكيف! وهي طريق بدعيّة لم ترد في كتاب الله، ولا سنّة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولم يسلكها أحدٌ من الصحابة الموصوفين بالعلم والإيمان، وكذا التابعون لهم بإحسان.

2 الطرد: ما يوجب الحكم لوجود العلة؛ وهو التلازم في الثبوت.

والعكس: عبارة عن تعليق نقيض الحكم المذكور بنقيض علته المذكورة.

وقيل العكس: عدم الحكم لعدم العلة.

انظر: التعريفات للجرجاني ص 183، 198. والعدة في أصول الفقه للقاضي أبي يعلى 1/77.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية موضّحاً هذه القاعدة - فالدليل يجب طرده، لا يجب عكسه - في بعض مؤلفاته:"فمن المعلوم أنّ الدليل يجب طرده، وهو ملزوم للمدلول عليه؛ فيلزم من ثبوت الدليل ثبوت المدلول عليه، ولا يجب عكسه؛ فلا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول له. وهذا كالمخلوقات؛ فإنّها آية للخالق؛ فيلزم من ثبوتها ثبوت الخالق، ولا يلزم من وجود الخالق وجودها. وكذلك الآيات الدالاّت على نبوة النبيّ. وكذلك كثير من الأخبار والأقيسة الدالّة على بعض الأحكام، يلزم من ثبوتها ثبوت الحكم، ولا يلزم من عدمها عدمه؛ إذ قد يكون الحكم معلوماً بدليل آخر..". درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية 5/269-270.

ص: 258

من أنكر سلوك هذه الطريقة

ولهذا أنكر كثير من العلماء على هؤلاء إيجاب سلوك هذه الطريق، مع تسليمهم أنّها صحيحة؛ كالخطّابي 12، والقاضي أبي يعلى3، وابن عقيل45، وغيرهم6.

1 هو حمد بن محمد بن إبراهيم بن خطّاب البستي. إمام صاحب تصانيف. تأثر بتقريرات المتكلمين في بعض جوانب العقيدة. توفي سنة 388 ?. انظر: وفيات الأعيان لابن خلكان 2/214-216. وسير أعلام النبلاء للذهبي 17/23-28) .

2 وقد نصّ على أنّه يرى أنّ الطرق الشرعيّة أوضح بياناً، وأصحّ برهاناً من طريقة الأعراض وحدوث الأجسام، وممّا قاله: "فأما مثبتوا النبوات فقد أغناهم الله تعالى عن ذلك، وكفاهم كلفة المؤونة في ركوب هذه الطريق المنعرجة التي لا يؤمن العنت على راكبها، والابتداع والانقطاع على سالكها) .

ذكر ذلك في كتاب الغنية عن الكلام وأهله. وقد نقل عنه ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في نقض التأسيس 1/254. وفي درء تعارض العقل والنقل 7/292-294.

3 تقدمت ترجمته. ولم أقف على كلام له في ذلك.

وقد أشار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إلى أنّ أبا يعلى ممّن انتقد دليل الأعراض وحدوث الأجسام. انظر: مجموع الفتاوى 5/543.

4 هو أبو الوفاء علي بن عقيل الحنبلي. وقع في حبائل المعتزلة، فتجاسر على تأويل الصفات. من مؤلفاته كتاب الفنون الذي يزيد على أربعمائة مجلد، ولد سنة 430? أو 431?. توفي سنة 513?. انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي 19/443-451. ولسان الميزان لابن حجر 4/243-244. ومنهاج السنة النبوية لابن تيمية 1/424، وشذرات الذهب 4/35.

5 وها هو ابن عقيل - رغم وقوعه في حبائل المتكلمين - يقول: "أنا أقطع أنّ الصحابة ماتوا ولم يعرفوا الجوهر ولا العرض. فإن رضيتَ أن تكون مثلهم، فكن. وإنرأيتَ أنّ طريقة المتكلمين أولى من طريقة أبي بكر وعمر، فبئس ما رأيتَ". نقله عنه ابن الجوزي في تلبيس إبليس ص 85. وانظر: درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية 8/48.

6 كأبي حامد الغزالي (في فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة ص 127) ، وأبي الحسن الآمدي (في غاية المرام في علم الكلام ص 260) ، وابن رشد الحفيد (في الكشف عن مناهج الأدلة ص 43) ، وغيرهم.

ص: 259

والأشعري1 نفسه أنكر على من أوجب سلوكها أيضاً في رسالته إلى أهل الثغر، مع اعتقاده صحتها2، واختصر منها طريقة ذكرها في أول كتابه المشهور المسمّى ب ((اللّمع)) في الردّ على أهل البدع، وقد اعتنى به أصحابه حتى شرحوه شروحاً كثيرة. والقاضي أبو بكر3 شرحه، ونقض كتاب عبد الجبار4 الذي صنّفه في نقضه، وسمّاه ((نقض نقض اللمع)) 5.

1 هو علي بن إسماعيل بن أبي بشر. ينتسب إلى أبي موسى الأشعري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكنيته أبو الحسن. ولد في البصرة سنة (260 ?) ، وتوفي على القول الراجح سنة (324 ?) في بغداد. وكان له ثلاثة أحوال، كان في أولاها معتزلياً، وسلك في الثانية مذهب ابن كلاب، ورجع أخيراً إلى معتقد السلف، وألّف عدة كتب في نصرة معتقدهم؛ ككتاب ((الإبانة)) ، و ((رسالة إلى أهل الثغر)) ، و ((مقالات الإسلاميين)) .

انظر: البداية والنهاية 11/199. وشذرات الذهب 2/302. ومقدمة تحقيق د/عبد الله شاكر ل ((رسالة إلى أهل الثغر)) لأبي الحسن الأشعري) .

2 وقد ذكر في رسالة إلى أهل الثغر: "أنّ الأعراض لا يصحّ الاستدلال بها إلا بعد رتب كثيرة يطول الخلاف فيها ويدقّ الكلام عليها؛ فمنها ما يحتاج إليه في الاستدلال على وجودها، والمعرفة بشبه المنكرين لها

إلخ"؛ من طولها، وغموضها، والتناقضات التي حوتها.. لذلك رأى الأشعريّ - مع تصحيحه لطريقة الأعراض - أنّ في الطرق الشرعيّة غنية عنها. انظر: رسالة إلى أهل الثغر ص 184-185، 186-187. وانظر: درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية 1/309.

3 محمد بن الطيّب الباقلاني. سبقت ترجمته ص 116 من هذا الكتاب.

4 هو عبد الجبار بن أحمد الهمداني، شيخ المعتزلة. توفي سنة 415?. انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي 17/244-245. ولسان الميزان لابن حجر 3/386-387.

5 في ((خ)) : (نقض النقض للمع) . وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

ص: 260

دليل الأعراض وحدوث الأجسام يوجب اعتقادات ولوزام باطلة

وأما أكابر أهل العلم من السلف والخلف: فعلموا أنها طريقة باطلة في نفسها، مخالفة لصريح المعقول وصحيح المنقول، وأنّه لا يحصل بها العلم بالصانع، ولا بغير ذلك1، بل يوجب سلوكها اعتقادات باطلة توجب2 مخالفة كثير ممّا جاء به الرسول، مع مخالفة صريح المعقول3؛ كما أصاب من سلكها من الجهميّة، والمعتزلة، والكُلاّبيّة، والكرّاميّة، ومن تبعهم من الطوائف، وإن لم يعرفوا غورها وحقيقتها؛ فإنّ أئمة هؤلاء الطوائف صار كل منهم يلتزم ما يراه لازماً له ليطردها، فيلتزم لوازم4 مخالفة للشرع والعقل، فيجيء الآخر، فيردّ عليه، ويبيّن فساد ما التزمه، ويلتزم هو لوازم أُخر لطردها، فيقع أيضاً في مخالفة الشرع والعقل.

1 قال شيخ الإسلام ابن تيمية في موضع آخر عن هذه الطريقة: "فهذه الطريقة ممّا يُعلم بالاضطرار أنّ محمّداً صلى الله عليه وسلم لم يدع الناس بها إلى الإقرار بالخالق ونبوة أنبيائه. ولهذا قد اعترف حذّاق أهل الكلام كالأشعريّ وغيره بأنها ليست طريقة الرسل وأتباعهم، ولا سلف الأمة وأئمتها، وذكروا أنها محرمة عندهم. بل المحققون على أنها طريقة باطلة". درء تعارض العقل والنقل 1/39.

2 في ((خ)) : يوجب. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

3 من ذلك تعطيل الله تبارك وتعالى عن صفاته العُلا التي وصف بها نفسه، أو وصفه بها رسوله؛ كلها، أو بعضها.. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في موضع آخر:"لأجل الاستدلال على حدوث العالم بحدوث الأعراض: التزم طوائف من أهل الكلام من المعتزلة وغيرهم نفي صفات الرب مطلقاً، أو نفي بعضها؛ لأنّ الدالّ عندهم على حدوث هذه الأشياء هو قيام الصفات بها، والدليل يجب طرده؛ فالتزموا حدوث كل موصوف بصفة قائمة به، وهو أيضاً في غاية الفساد والضلال. ولهذا التزموا القول بخلق القرآن، وإنكار رؤية الله في الآخرة، وعلوه على عرشه،....". درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية 1/41.

4 في ((خ)) : لوازماً. والصواب ما أُثبت، وهو في ((م)) ، و ((ط)) ؛ لأنّ (لوازم) ممنوعة من الصرف.

ص: 261

الجهمية التزموا لأجلها نفي الأسماء والصفات

فالجهمية التزموا لأجلها نفي أسماء الله وصفاته، إذ كانت الصفات أعراضاً تقوم بالموصوف، ولا يُعقل موصوف بصفة إلا الجسم1، فإذا اعتقدوا حدوثه، اعتقدوا حدوث كلّ موصوف بصفة، والربّ تعالى قديم. فالتزموا نفي صفاته. وأسماؤه مستلزمة لصفاته؛ فنفوا أسماءه الحسنى2، وصفاته العُلا3.

المعتزلة التزموا نفي الصفات

والمعتزلة استعظموا نفي الأسماء لما فيه من4 تكذيب القرآن تكذيباً ظاهر الخروج عن العقل والتناقض؛ فإنّه لا بُدّ من التمييز بين الربّ وغيره بالقلب واللسان، فما لا يُميَّز من غيره لا حقيقة له ولا إثبات. وهو حقيقة قول الجهميّة؛ فإنّهم لم يُثبتوا في نفس الأمر شيئاً قديماً البتة5.

1 في ((خ)) : لجسم. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

2 حكى عنهم شيخ الإسلام في موضع آخر أنهم يقولون عن الله تعالى: "ليس له اسم؛ كالشيء، والحيّ، والعليم، ونحو ذلك؛ لأنه إذا كان له اسم من هذه الأسماء، لزم أن يكون متصفاً بمعنى الاسم؛ كالحياة، والعلم؛ فإنّ صِدق المشتقّ مستلزم لصدق المشتقّ منه، وذلك يقتضي قيام الصفات به، وذلك محال

". مجموع فتاوى ابن تيمية 6/35.

3 وقد بسط شيخ الإسلام رحمه الله الكلام عن تعطيل الجهميّة لأسماء الله وصفاته مستندين لدليل الأعراض وحدوث الأجسام في مواضع كثيرة من كتبه الفريدة. انظر: على سبيل المثال: شرح حديث النزول ص 157. ودرء تعارض العقل والنقل 1/39، 305،، 10/260. ومنهاج السنة النبوية 2/97-99) .

4 في ((خ)) : مع. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

5 وأسماء الله تعالى يُثبتونها على أنّها مجاز في الربّ جلّ وعزّ؛ إذ إثباتها على الحقيقة يستلزم إثبات ما دلّت عليه من صفات. وهذا ما يفرّ المعتزلة من إثباته.. لأنّهم يزعمون أنّ إثبات الصفات لله تعالى يقتضي أن يكون جسماً.

انظر: درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية 1/41. ومنهاج السنة النبوية 3/361. وشرح الطحاوية 1/24-25.

ص: 262

الفلاسفة قالوا بقدم العالم

كما أنّ المتفلسفة الذين سلكوا مسلك الإمكان والوجوب1، وجعلوا ذلك بدل الحادث والقديم، لم يُثبتوا واجباً بنفسه البتة2، وظهر بهذا فساد عقلهم، وعظيم جهلهم، مع الكفر؛ وذلك أنّه يُشهد وجود السموات وغيرها. فهذه الأفلاك إن كانت قديمة واجبة، فقد ثبت وجود الموجود القديم الواجب، وإن كانت ممكنة، أو مُحدثة، فلا بُدّ لها من واجب قديم؛ فإنّ وجود الممكن بدون الواجب3، والمحدَث بدون القديم ممتنعٌ في بداية العقول. فثبت وجود موجود قديم واجب بنفسه على كلّ تقدير.

فإذا كان ما ذكروه من نفي الصفات عن القديم والواجب يستلزم نفي القديم مطلقاً، ونفي الواجب: عُلم أنّه باطلٌ4.

1 إذ الوجود - عندهم - ينقسم إلى واجب، وممكن - وهو خلاف تقسيم المتكلمين له إلى قديم وحادث.

ويُعرّف المتفلسفة الواجب: بأنّه الضروريّ الوجود - وهو يُقابل القديم عند المتكلمين -. ويُعرّفون الممكن بأنّه الذي لا ضرورة فيه بوجه؛ أي لا في وجوده، ولا عدمه - وهو يُقابل المُحدَث عند المتكلمين.

انظر: النجاة لابن سينا ص 366. ومعيار العلم في فن المنطق للغزالي ص 325-326.

2 وهم يزعمون أنّ واجب الوجود هو الذات دون صفاتها. ولا يُعقل ذات مجرّدة عن الصفات، بل ذلك من صفات العدم؛ لذلك لم يُثبتوا واجباً. انظر: منهاج السنة لابن تيمية 1/266.

3 في ((خ)) : الوجب. ويبدو أنّ الألف سقطت سهواً.

4 لأنّ الواجب المجرّد عن جميع الصفات، أو القديم الذي ليس له صفة تُميّزه: ممتنع الوجود؛ إذ لا بُدّ لوجوب وجود الواجب، وإثبات وجود القديم من إثبات ما يُميّزه من الصفات.. ولا يستلزم ذلك تعدّد القدماء، أو تركيب الواجب؛ لأنّ نفي ذلك يقتضي نفي ما يُريدون إثباته..

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وإذا لم يكن واجباً، لم يلزم من التركيب مُحال، وذلك لأنّهم إنّما نفوا المعاني لاستلزامها ثبوت التركيب، المستلزم لنفي الوجوب. وهذا تناقض؛ فإنّ نفي المعاني مستلزم لنفي الوجوب، فكيف ينفونها لثبوته؟! ". مجموع فتاوى ابن تيمية 6/345.

ص: 263

من نفى صفة لزمه نفي جميع الصفات

وقد بُسط هذا في مواضع1، وبُيِّن أنّ كلّ من نفى صفة ممّا أخبر به الرسول لزمه نفي جميع الصفات، فلا يُمكن القول بموجب أدلة العقول، إلا مع القول بصدق الرسول؛ فأدلة العقول مستلزمة لصدق الرسول2؛ فلا يمكن مع عدم تصديقه القول بموجب العقول، بل من كذّبه فليس معه لا عقل، ولا سمع؛ كما أخبر الله تعالى عن أهل النّار:

قال تعالى: {كُلَّمَاْ أُلْقِيَ فِيْهَاْ فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَاْ أَلَمْ يَاْتِكُمْ نَذِيْرٌ قاْلُوْا بَلَىْ قَدْ جَاْءَنَاْ نَذِيْرٌ فَكَذَّبْنَاْ وَقُلْنَاْ مَاْ نَزَّلَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَاّ فِيْ ضَلَالٍ كَبِيْرٍ وَقَاْلُوْا لَوْ كُنَّاْ نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَاْ كُنَّاْ فِيْ أَصْحَاْبِ السَّعِيْر فَاعْتَرَفُوْا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقَاً لأصْحَاْبِ السَّعِيْرِ} 3، وهذا مبسوطٌ في غير هذا الموضع4.

1 انظر: من كتب ابن تيمية: منهاج السنة النبوية 2/267. ومجموع الفتاوى 6/345. ودرء تعارض العقل والنقل1/41. والتدمرية ص 31.

2 أما المعقولات التي تُخالف ما جاء به الرسول، فالمتأمّل لها يجد أنها وضعت لتكذيب الرسول، لا لتصديقه؛ كما يزعم أصحابها؛ لذلك يصفها شيخ الإسلام رحمه الله تعالى بتسميته لها:"ترتيب الأصول في تكذيب الرسول". انظر: درء تعارض العقل والنقل 2/207.

3 سورة الملك، الآيات 8-10.

4 انظر: درء تعارض العقل والنقل 1/320. ومجموع فتاوى ابن تيمية 16/452.

ص: 264

المعتزلة نفوا الصفات وأثبتوا الأسماء

والمقصود هنا أنّ المعتزلة لمّا رأوا الجهميّة قد نفوا أسماء الله الحسنى، [استعظموا ذلك] 1، وأقرّوا بالأسماء. ولمّا رأوا هذه الطريق2 توجب نفي الصفات: نفوا الصفات؛ فصاروا متناقضين؛ فإنّ إثبات حيّ، عليم، قدير، حكيم، سميع، بصير، بلا حياة، ولا علم، ولا قدرة، ولا حكمة، ولا سمع، ولا بصر: مكابرة للعقل؛ كإثبات مصلٍّ بلا صلاة، وصائمٍ بلا صيام، وقائمٍ بلا قيام، ونحو ذلك من الأسماء المشتقة؛ كأسماء الفاعلين، والصفات المعدولة عنها.

ولهذا ذكروا في أصول الفقه3 أنّ صدق الاسم المشتقّ4؛ كالحيّ، والعليم لا ينفكّ عن صدق المشتق منه؛ كالحياة، والعلم. وذكروا النزاع مع من5 ذكروه من المعتزلة؛ كأبي عليّ6، وأبي

(استعظموا ذلك) : ليست في ((خ)) . وأثبتها من ((م)) ، و ((ط)) .

2 طريق التركيب؛ إذ زعموا أنّ إثبات الصفات يستلزم تعدّد القدماء، فيكون القديم مُركّباً، والقديم ليس بمُركّب، لذلك زعم عبد الجبار أنّ نفي الصفات هو السبيل الوحيد إلى القول بإفراد الله بالقدم انظر: المغني في أبواب التوحيد والعدل لعبد الجبار 4/341، ونفي الصفات هو أحد أصول المعتزلة الخمسة، ويُطلقون عليه اسم التوحيد. انظر: شرح المقاصد للتفتازاني 4/83 والملل والنحل للشهرستاني ص 46-47.

3 قال في المراقي:

وعند فقد الوصف لا يشتق وأعوز المعتزليّ الحقّ

شرح مراقي السعود ص 257. وانظر: بدائع الفوائد لابن القيم 1/22.

4 في ((خ)) : مشتق. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

5 في ((خ)) : معمن - موصولة.

6 أبو عليّ محمد بن عبد الوهاب بن سلام بن خالد بن حمران بن أبان، مولى عثمان ابن عفان، الجبائي البصري. ولد في سنة 234 ?. شيخ المعتزلة. تنسب إليه فرقة الجبائية من المعتزلة. درس الاعتزال على شيخ المعتزلة عن أبي يعقوب الشحّام، وتزوّج الجبائي بأمّ الأشعريّ، فتتلمذ عليه الأشعريّ قبل أن يترك الاعتزال. توفي سنة 335 ?، ومات بالبصرة.

انظر: الملل والنحل للشهرستاني 1/78. والبداية والنهاية 11/134. وسير أعلام النبلاء 14/183. وذكر مذاهب الفرق الثنتين والسبعين المخالفة للسنة والمبتدعين ص 50.

ص: 265

هاشم1،

الكلابية أثبتوا الصفات العقلية

فجاء ابن كُلاّب، ومن اتبعه؛ كالأشعريّ، والقلانسيّ2، فقرّروا أنّه لا بُدّ من إثبات الصفات متابعة للدليل السمعيّ والعقليّ، مع إثبات الأسماء. وقالوا: ليست أعراضاً3؛ لأنّ العرض لا يبقى

1 أبو هاشم: هو عبد السلام بن أبي علي محمد بن عبد الوهاب. ولد سنة 277?، وتوفي سنة 321. وإليه تنسب فرقة البهشمية - إحدى فرق المعتزلة.

انظر: شذرات الذهب 2/289. وسير أعلام النبلاء 15/63. والملل والنحل1/78وذكر مذاهب الفرق الثنتين والسبعين المخالفة للسنة والمبتدعين ص 57.

2 هو أبو العباس أحمد بن عبد الرحمن بن خالد القلانسي الرازي. قال عنه ابن عساكر: (إنه من معاصري أبي الحسن رحمه الله، لا من تلاميذه كما قال الأهوازي. وهو من جملة العلماء الكبار الأثبات، واعتقاده موافق لاعتقاده في الإثبات) . تبيين كذب المفتري ص 398.

3 ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أنّ العرض في اللغة: هو ما يعرض ويزول. انظر: مجموع الفتاوى 5/215،، 9/300. واستدلّ بقوله تعالى:{يَأْخُذُوْنَ عَرَضَ هَذَاْ الأدْنَىْ} [سورة الأعراف، 169] .

وذكر رحمه الله أنّ العرض عند أهل الاصطلاح الكلامي: "قد يُراد به ما يقوم بغيره مطلقاً، وقد يُراد به ما يقوم بالجسم من الصفات. ويُراد به في غير هذا الاصطلاح أمور أخرى". مجموع الفتاوى 9/300.

أمّا المتكلّمون: فالعرض عندهم ضدّ الجوهر؛ إذ العالم عندهم جواهر وأعراض. فالجوهر: هو المتحيّز، وكل ذي حجم متحيّز. والعرض: هو المعنى القائم بالجوهر؛ كاللون، والطعم، والرائحة، والحياة، والموت، والعلوم والإرادات، والقُدَر القائمة بالجواهر. انظر: الإرشاد للجويني ص 2. وأصول الدين للبغدادي ص 33.

ص: 266

زمانين1، [وصفات الربّ باقية2.

من قال: إن العرض لا يبقى زمانين

وسلكوا في هذا الفرق - وهو أنّ العرض لا يبقى زمانين] 3 - مسلكاً أنكره عليهم جمهور العقلاء، وقالوا: إنهم خالفوا الحسّ وضرورة العقل، وهم موافقون لأولئك4 على صحة هذه الطريقة - طريقة الأعراض - قالوا: وهذه5 تنفي عن الله أن يقوم به حادِث، وكلّ حادِثٍ فإنّما يكون بمشيئته وقدرته. قالوا: فلا يتّصف بشيء من هذه الأمور؛ لا يتكلّم بمشيئته وقدرته، ولا يقوم به فعل اختياري يحصل بمشيئته وقدرته6؛ كخلق العالَم، وغيره.

بل منهم من قال: لا يقوم به فعل، بل الخلق هو المخلوق؛ كالأشعريّ ومن وافقه7.

1 بل يطرأ عليه التغيّر والتحوّل، وهذا من صفات الحوادث.

انظر: درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية 1/302-306.

2 وليس ذلك شاملاً لكل صفات الله تعالى؛ بل يُفرّقون بين صفات الأفعال، وما عداها؛ فيُطلقون على صفات الأفعال اسم الأعراض، وينفون قيامها بالله تعالى؛ بحجة أنها تعرض وتزول - بزعمهم -، ولا يُطلقون اسم الأعراض على ما عدا ذلك من الصفات. انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية 6/36.

وعلى هذا المعتقد متقدموا الكلابيّة والأشعريّة، وقد نقل اتفاقهم على ذلك: الرازي في كتابه ((المحصّل)) ص 265. والإيجي في ((المواقف)) ص 101.

3 ما بين المعقوفتين ساقطة من أصل ((خ)) ، وملحقة بالهامش. وهي في ((م)) ، و ((ط)) .

4 للمعتزلة.

5 أي طريقة الأعراض.

6 قالوا: لو قامت به الأفعال الاختياريّة، للزم أن لا يخلو منها؛ لأنّ القابل للشيء لا يخلو عنه وعن ضدّه. وما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث. انظر: إحياء علوم الدين للغزالي 1/104-107. ونهاية الإقدام في علم الكلام للشهرستاني ص 11. وشرح جوهرة التوحيد للبيجوري ص 51.

7 كابن فورك، والغزالي، وغيرهما. انظر: مشكل الحديث وبيانه لابن فورك ص 472-473. وقواعد العقائد للغزالي ص 165-167.

ص: 267

ومنهم من قال: بل فعل الربّ قديم أزليّ، وهو من صفاته الأزليّة؛ وهو قول قدماء الكلابيّة1، وهو الذي ذكره أصحاب ابن خزيمة2

ما وقع بين ابن خزيمة والكلابية

لمّا وقع بينه وبينهم بسبب هذا الأصل، فكتبوا عقيدةً اصطلحوا عليها3، وفيها: إثبات الفعل القديم الأزليّ.

وكان سبب ذلك أنّهم كانوا كلابيّة يقولون: إنّه لا يتكلّم بمشيئته وقدرته، بل كلامه المعيّن لازمٌ لذاته أزلاً وأبداً.

1 الكلابية: هم أتباع أبي محمد عبد الله بن سعيد القطان، المعروف بابن كلاب. سلك الأشعريّ مسلكه في طوره الثاني، وتوفي سنة 240?.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (الكلابية والأشعرية خير من هؤلاء - يقصد النجارية والضرارية - في باب الأسماء والصفات؛ فإنهم يثبتون لله الصفات العقلية، وأئمتهم يثبتون الصفات الخبرية في الجملة؛ كما فصّلتُ أقوالهم في غير هذا الموضع. وأما في القدر ومسائل الأسماء والأحكام فأقوالهم متقاربة) . مجموع الفتاوى 3/103. وانظر: مقالات الإسلاميين 1/350، 351،، 2/225-227. وذكر مذاهب الفرق الثنتين والسبعين المخالفة للسنة والمبتدعين ص 139-140.

2 أصحاب ابن خزيمة: المقصود بهم: أبو علي الثقفي، وأبو بكر الصيفي، وكانا من أخص تلاميذ ابن خزيمة وكانا يقولان بقول ابن كلاب في كلام الله: أنّه أزليّ، وأنّه لا يتكلّم إذا شاء، متى شاء، ولا يتعلّق ذلك بمشيئته. فوقع بين ابن خزيمة وبينهما في ذلك نزاع، حتى أظهروا موافقتهم له فيما لا نزاع فيه.

انظر: درء تعارض العقل والنقل 2/9، 77-83، 101. ومجموع الفتاوى 17/56. وسير أعلام النبلاء 14/377-381.

وابن كُلاّب كان قد نفى أن يكون كلام الله تعالى من صفات الأفعال، وأثبته على أنّه كلامٌ يقوم بذات المتكلّم بلا قدرة ولا مشيئة، أزليّ كأزليّة العلم والقدرة. انظر: شرح حديث النزول لابن تيمية ص 169-170. ودرء تعارض العقل والنقل له 2/18.

3 ذكر شيخ الإسلام رحمه الله أنّ هذه المشاجرة التي وقعت بين ابن خزيمة وبعض أصحابه، وما نتج عنها، ذكرها بطولها الحاكم أبو عبد الله النيسابوري في تاريخ نيسابور. انظر: مجموع الفتاوى 17/56. ودرء تعارض العقل والنقل 2/78-83.

ص: 268

وكان ابن خزيمة وغيره على القول المعروف للمسلمين وأهل السنّة: أنّ الله يتكلّم بمشيئته وقدرته، وكان قد بلغه عن الإمام أحمد أنّه كان يذمّ الكلابيّة، وأنّه أمر بهجر الحارث المحاسبي1 لما بلغه أنه على قول ابن كلاب2. وكان يقول: حذروا عن حارث الفقير؛ فإنّه جهميّ3. واشتهر هذا عن أحمد4.

1 هو الحارث بن أسد المحاسبي، أبو عبد الله. من شيوخ الصوفية. قال عنه الذهبي: صدوق في نفسه. وقد نقموا عليه بعض تصوفه وتصانيفه. سير أعلام النبلاء12/110-112. وقال شيخ الإسلام رحمه الله: "وبسبب مذهب ابن كلاب هجره الإمام أحمد بن حنبل، وقيل تاب منه". منهاج السنة النبوية 1/424. وانظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام 12/368.

وقد نقل ابن الجوزي في تلبيس إبليس ص240 عن أبي عبد الرحمن السلمي - صاحب طبقات الصوفية ت 412 أنه قال "وتكلم الحارث المحاسبي في شيء من الكلام والصفات، فهجره أحمد بن حنبل، فاختفى إلى أن مات".

2 في ((ط)) : ابن كلام. وهو خطأ مطبعيّ.

3 لم أجد هذه العبارة بنصها فيما اطلعت عليه من مصادر. ولكن ذكر أبو يعلى في الطبقات: عن الإمام أحمد أنه قال: "حارث أصل البليّة.... ما الآفة إلاّ حارِث..... حذّروا عن حارث أشدّ التحذير..". الطبقات 1/62-63.

ونقل ابن الجوزي عن الخلال في كتابه السنة، عن أحمد بن حنبل أنه قال:"احذروا من الحارث أشد التحذير.. الحارث أصل البلية - يعني في حوادث كلام جهم - ذاك جالسه فلان وفلان، وأخرجهم إلى رأي جهم، وما زال مأوى أصحاب الكلام.. حارث بمنزلة الأسد المرابط، انظر: أي يوم يثب على الناس".

تلبيس إبليس ص 240.

4 لعل كلمة الإمام أحمد رحمه الله فيه قبل أن يتوب ويرجع كما ذكر ذلك ابن تيمية رحمه الله..

قال شيخ الإسلام رحمه الله: "وكان الحارث المحاسبي يوافقه - أي ابن كلاب، ثم قيل إنه رجع عن موافقته؛ فإنّ أحمد بن حنبل أمر بهجر الحارث المحاسبي وغيره من أصحاب ابن كلاب لما أظهروا ذلك.. كما أمر السري السقطي الجنيد أن يتقي بعض كلام الحارث. فذكروا أنّ الحارث رحمه الله تاب من ذلك، وكان له من العلم والفضل والزهد". مجموع الفتاوى 6/521-522. وانظر: المصدر نفسه 12/368، 17/56. ودرء تعارض العقل والنقل 2/6، 7/148-149. ومنهاج السنة النبوية 1/424.

وقال أيضاً رحمه الله: "وكان الناس قبل أبي محمد بن كلاب صنفين؛ فأهل السنة والجماعة يُثبتون ما قام بالله تعالى من الصفات والأفعال التي يشاؤها ويقدر عليها. والجهميّة من المعتزلة وغيرهم تنكر هذا وهذا. فأثبت ابن كلاب قيام الصفات اللازمة به، ونفى أن يقوم به ما يتعلّق بمشيئته وقدرته من الأفعال وغيرها. ووافقه على ذلك أبو العباس القلانسي، وأبو الحسن الأشعري، وغيرهما. وأما الحارث المحاسبي: فكان ينتسب إلى قول ابن كلاب، ولهذا أمر أحمد بهجره، وكان أحمد يحذر عن ابن كلاب وأتباعه، ثم قيل عن الحارث: إنه رجع عن قوله". درء تعارض العقل والنقل 2/6. وانظر: مجموع الفتاوى 12/366-368.

ص: 269

وكان بنيسابور1 طائفة من الجهميّة والمعتزلة ممّن يقولون2 إنّ القرآن وغيره من كلام الله مخلوق، ويُطلقون القول بأنّه متكلّم بمشيئته وقدرته، ولكنّ مرادهم بذلك أنّه يخلق كلاماً بائناً عنه، قائماً بغيره؛ كسائر المخلوقات. وكان من هؤلاء من عرف أصل ابن كلاب، فأراد التفريق بين ابن خزيمة وبين طائفة من أصحابه، فأطلعه على حقيقة قولهم3، فنَفَرَ

1 نيسابور: مدينة عظيمة من بلاد خراسان، سمّيت بذلك لأنّ سابور بن أزدشير بن بابك مرّ بها. ومنها ما لا يحصى من العلماء والأئمة؛ كالإمام مسلم وغيره. وقد دخلها التتر سنة 618 هـ فدمّروها. انظر: معجم البلدان 5/331. ولطائف المعارف ص 191.

2 في ((خ)) يقول: وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

3 أي أنّ هذا المعتزلي - أو الجهميّ - الذي أراد التفريق بين ابن خزيمة وبعض أصحابه أطلع ابن خزيمة على موافقة بعض أصحابه لابن كلاب في معتقده في كلام الله تعالى.

ص: 270

منه1. وهم كانوا قد بنوا ذلك على أصل ابن كلاب، واعتقدوا أنّه لا تقوم به الحوادث بناءً على هذه الطريقة؛ طريقة الأعراض. وابن خزيمة شيخهم، وهو الملقّب بإمام الأئمة، وأكثر الناس معه، ولكن لا يفهمون حقيقة النزاع؛ فاحتاجوا لذلك إلى ذكر عقيدة لا يقع فيها نزاع بين الكلابيّة وبين أهل الحديث والسنّة؛ فذكروا فيها: أنّ كلام الله غير مخلوق، وأنّه لم يزل متكلّماً2، وأنّ فعله أيضاً غير مخلوق؛ فالمفعول مخلوق، ونفس فعل الربّ له قديم غير مخلوق3.

وهذا قول الحنفيّة، وكثير من الحنبليّة، والشافعيّة، والمالكيّة، وهو اختيار القاضي أبي يعلى وغيره في آخر عمره. وبَسْطُ هذا له موضع آخر4.

1 قال الحاكم: "فلما ورد منصور بن يحيى الطوسي نيسابور، وكان يكثر الاختلاف إلى ابن خزيمة للسماع منه، وهو معتزلي، وعاين ما عاين من الأربعة الذين سميناهم، حسدهم، واجتمع مع أبي عبد الرحمن الواعظ القدري بباي معمر في أمورهم غير مرة، فقالا: هذا إمام لا يسرع في الكلام، وينهى أصحابه عن التنازع في الكلام وتعليمه، وقد نبغ له أصحاب يُخالفونه، وهو لا يدري، فإنّهم على مذهب الكلابية، فاستحكم طمعهما في إيقاع الوحشة بين هؤلاء الأئمة.

سير أعلام النبلاء 14/377، 381. وكذلك ذكر تلك القصة شيخ الإسلام رحمه الله في درء تعارض العقل والنقل 2/78-83، وفي مجموع الفتاوى 6/169-172.

2 وقد روى الحاكم بسنده عن الإمام ابن خزيمة أنّه قال: "القرآن كلام الله ووحيه وتنزيله غير مخلوق، ومن قال شيء منه مخلوق فهو جهميّ". نقله عنه الذهبي في سير أعلام النبلاء 14/379. وتذكرة الحفاظ 2/726. وابن تيمية في درء تعارض العقل والنقل 2/79.

3 انظر: هذه العقيدة في: مجموع الفتاوى 6/169-172. وسير أعلام النبلاء 14/381. وتذكرة الحفاظ 2/727.

4 انظر: موقف الإمام ابن خزيمة من بعض أصحابه ممّن كان يقول بقول ابن كلاب في: درء تعارض العقل والنقل 2/60، 77-83، 101. وشرح العقيدة الأصفهانية ص 34. ومجموع الفتاوى 6/169-172. وشرح حديث النزول ص 158-159. وسير أعلام النبلاء 14/377-381.

ص: 271

افتراق الأمة بسبب طريقة الأعراض

والمقصود التنبيه على افتراق الأمة بسبب هذه الطريقة.

ولما عرف كثير من النّاس باطن قول ابن كلاب، وأنّه يقول: إنّ الله لم يتكلّم بالقرآن العربيّ، وإنّ كلامه شيء واحد؛ هو معنى آية الكرسيّ، وآية الدَّيْن1 عرفوا ما فيه من مخالفة الشرع والعقل؛ فنفروا2 عنه، وعرفوا أنّ هؤلاء يقولون: إنّه لا يتكلّم بمشيئته وقدرته، فأنكروه.

وكان ممّن أنكر ذلك الكرّامية3، وغير الكرّاميّة؛ كأصحاب أبي معاذ

1 ذكر أبو الحسن الأشعريّ أنّ ابن كُلاّب زعم أنّ كلام الله: "ليس بحروف ولا صوت، ولا ينقسم، ولا يتجزّأ، ولا يتبعّض، ولا يتغاير. وأنّه معنى واحد قائم بالله عز وجل، وأنّ الرسم هو الحروف المتغايرة، وهو قراءة القرآن. وأنّه خطأ أن يقال: كلام الله هو هو، أو بعضه، أو غيره. وأنّ العبارات عن كلام الله تختلف وتتغاير، وكلام الله سبحانه ليس بمختلف ولا متغاير؛ كما أنّ ذكرنا لله عز وجل يختلف ويتغاير، والمذكور لا يختلف ولا يتغاير. وإنّما سُمّيَ كلام الله سبحانه عربياً؛ لأنّ الرسم الذي هو العبارة عنه، وهو قراءته: عربيّ؛ فسُمّي عربياً لعلّة، وكذلك سُمّي عبرانياً لعلّة؛ وهي أنّ الرسم الذي هو عبارة عنه عبرانيّ

". مقالات الإسلاميين لأبي الحسن الأشعري 2/257-258.

وانظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية 8/424-425، 12/49، 165، 370-371، 17/50-51، 147. والفتاوى المصرية 5/15.

2 في ((خ)) : فيفرّوا. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

3 الكرامية: فرقة من فرق المرجئة، تنتسب إلى محمد بن كرّام. قال عنه الذهبي: عابد متكلّم شيخ الكرامية. مات بالشام سنة 255 هـ.

قال شيخ الإسلام عنهم: "الكرامية قولهم في الإيمان قول منكر لم يسبقهم إليه أحد؛ حيث جعلوا الإيمان قول باللسان وإن كان مع عدم تصديق القلب؛ فيجعلون المنافق مؤمناً، لكنّه يخلد في النّار؛ فخالفوا الجماعة في الاسم دون الحكم. وأمّا في الصفات والقدر والوعيد فهم أشبه من أكثر طوائف الكلام التي في أقوالها مخالفة للسنّة". مجموع الفتاوى 3/103.

وقال رحمه الله أيضاً إنّ الكراميّة المجسمة كلّهم حنفيّة. مجموع الفتاوى 3/185.

وانظر: في بيان معتقد الكرامية: مجموع الفتاوى 6/36. والملل والنحل 1/108. والفرق بين الفرق ص 215-225. وميزان الاعتدال 4/21.

ص: 272

التومني1، وزهير البابي2، وداود بن3 عليّ4، وطوائف. فصار كثير من هؤلاء يقولون: إنّه يتكلّم بمشيئته وقدرته، فأنكروه، لكن يراعي تلك الطريقة لاعتقاده صحتها؛ فيقول: إنّه لم يكن في الأزل متكلّماً؛ لأنّه إذا

1 أبو معاذ التومني ينتسب إلى قرية تومن من قرى مصر. من أئمة المرجئة، ورأس الفرقة التومنية. لا يُعرف تاريخ وفاته. وأشار كل من الأشعريّ، والشهرستاني، والبغدادي إلى أقواله وآرائه بالتفصيل. انظر: المقالات لأبي الحسن الأشعري 1/351. والملل والنحل للشهرستاني 1/144. والفرق بين الفرق للبغدادي ص 203-204. والأنساب للسمعاني 3/111.

2 كذا في جامع الرسائل 2/6: البابي. وأحياناً يُذكر باسم زهير اليامي - ولعله تصحيف - انظر: مجموع الفتاوى 6/219) . لم أقف على ترجمته. وكثيراً ما يقرن شيخ الإسلام بينه وبين أبي معاذ التومني في عرض آرائهما العقديّة، وأنّهما من أهل الكلام من المرجئة. ويُسمّيه في درء تعارض العقل والنقل، وشرح حديث النزول: زهير الأبريّ. وقد أفاد د/محمد رشاد سالم رحمه الله أنّ هذه التسمية خاطئة، والصحيح أنّه زهير الأثريّ؛ كما ذكر ذلك الأشعريّ في المقالات، وقال: وكان أبو معاذ التومني يوافق زهيراً في أكثر أقواله.

وقد ذكر الأشعريّ في المقالات آراءه بالتفصيل. انظر: مقالات الإسلاميين 1/351، 2/232. وانظر: درء تعارض العقل والنقل 2/19. وشرح حديث النزول ص 404. ومنهاج السنة النبوية 2/361.

3 في ((خ)) : بابن.

4 هو داود بن علي بن خلف الأصبهاني، أبو سليمان، الملقّب بالظاهريّ. قال عنه الخطيب:(هو إمام أصحاب الظاهر، وكان ورعاً ناسكاً زاهداً. مات سنة 270 ?، وقيل سنة 275 ?) . تاريخ بغداد 8/369. وانظر: البداية والنهاية 11/55 والأعلام للزركلي 2/333.

ص: 273

كان لم يزل متكلماً بمشيئته، لزم وجود حوادث لا تتناهى12.

وأصل الطريقة أنّ هذا ممتنع، فصار حقيقة قول هؤلاء أنّه صار متكلّماً بعد أن لم يكن متكلّماً.

فخالفوا قول السلف والأئمة، أنه لم يزل متكلّماً إذا شاء.

وبسط هذه الأمور له موضع آخر3.

ذم السلف للكلام والمتكلمين

والمقصود هنا أنّ كثيراً من أهل النظر صار ما يوجبونه من النظر والاستدلال ويجعلونه أصل الدين والإيمان هو هذه الطريقة المبتدعة في الشرع، المخالفة للعقل، التي اتفق سلف الأمة وأئمتها على ذمها وذمّ أهلها:

فذمّهم للجهميّة الذين ابتدعوا هذه الطريقة أولاً متواترٌ مشهور، قد صُنِّف فيه مصنّفات4. وذمّهم للكلام والمتكلّمين ممّا عني به أهل هذه الطريقة؛

1 في ((خ)) : (تتناهى) بدلاً من (لا تتناهى) ، وهو غير مستقيم. والصواب ما في ((م)) ، و ((ط)) .

2 وهم يقولون: إنّ الله تعالى لم يكن في الأزل متكلماً إلا بمعنى القدرة على الكلام؛ لأنه لو كان متكلّماً أزلاً بكلام متعلق بمشيئته وقدرته للزم وجود حوادث لا تتناهى في القدم، ويمتنع وجود حوادث لا أول لها.

انظر: توضيح معتقدهم في صفة الكلام في كتب ابن تيمية: مجموع الفتاوى 6/524. والفرقان بين الحق والباطل ص 100. وبغية المرتاد ص 361.

3 بسط شيخ الإسلام رحمه الله الكلام عن موقف المشبهة من صفة الكلام، ومخالفتهم للسلف والأئمة في هذه القضيّة في كتابه: رسالة في العقل والروح - موجود ضمن مجموعة الرسائل المنيرية 2/33 -. وفي قاعدة نافعة في صفة الكلام - يوجد أيضاً ضمن مجموعة الرسائل المنيرية 2/75 -. وفي الفرقان بين الحق والباطل ص100-101. وفي مجموع الفتاوى 6/524.

4 فالإمام نعيم بن حماد، قال عنه الذهبي:"وضع ثلاثة عشر كتاباً في الردّ على الجهميّة". انظر: سير أعلام النبلاء 10/599.

والإمام أحمد بن حنبل صنّف كتاباً في الردّ على الجهميّة والزنادقة. وهو مطبوع.

والإمام محمد بن أسلم الطوسيّ، له كتاب ((الرد على الجهميّة)) . انظر: سير أعلام النبلاء 12/197.

والإمام ابن أبي حاتم له كتاب ((الرد على الجهميّة)) . انظر: سير أعلام النبلاء13/264.

والإمام ابن قتيبة له كتاب ((الرد على الجهميّة)) . انظر: سير أعلام النبلاء 13/298.

والإمام عثمان بن سعيد الدارمي صنّف في الردّ على بشر المريسي، وفي الرد على الجهميّة، وكلاهما مطبوع.

وغير هؤلاء كثير جداً ممّن لا يُحصون في موضع واحد

ص: 274

كذمّ الشافعيّ لحفص الفرد12، الذي كان على قول ضرار بن3 عمرو4.

1 حفص الفرد من المجبرة، ومن أكابرهم، نظير النجّار، ويكنى أبا عمرو، وكان من أهل مصر. كان أول أمره معتزلياً، ثمّ قال بخلق الأفعال، وهو من أتباع ضرار بن عمرو، وسمع من أبي الهذيل العلاف من كتبه: الاستطاعة، وكتاب التوحيد، وكتاب الرد على النصارى، وغيرها. قال عنه الذهبي:"حفص الفرد مبتدع، قال النسائي: صاحب كلام لا يكتب حديثه. وكفّره الشافعيّ في مناظرته". ميزان الاعتدال1/564. وانظر: الفرق بين الفرق ص 214. والفهرست لابن النديم ص 255.

2 وأمّا ذم الشافعي له، ففيما رواه البيهقي عن أبي الوليد بن الجارود، قال:"دخل حفص الفرد على الشافعي، فقال - أي الشافعي - لنا: لأن يلقى اللهَ العبدُ بذنوب مثل جبال تهامة، خير له من أن يلقاه باعتقاد حرف ممّا عليه هذا الرجل وأصحابه. وكان يقول بخلق القرآن". أخرجه البيهقي في مناقب الشافعي 1/452، وفي الاعتقاد ص 239. وانظر: درء تعارض العقل والنقل 7/250. وشرح الأصفهانية 2/321.

3 في ((خ)) ابن.

4 هو ضرار بن عمرو القاضي. قال عنه الذهبي: "من رؤوس المعتزلة، شيخ الضراريّة. قال الإمام أحمد بن حنبل: شهدت على ضرار بن عمرو عند سعيد بن عبد الرحمن، فأمر بضرب عنقه، فهرب". سير أعلام النبلاء 10/544-545. وانظر: الملل والنحل 1/90. والمقالات 1/339. والفرق بين الفرق ص 213-214

ص: 275

وذمّ أحمد بن حنبل لأبي عيسى؛ محمد بن1 عيسى برغوث23، الذي كان على قول حسين النجار4. وذمّهما، وذمّ أبي يوسف56،

1 في ((خ)) : ابن.

2 برغوث: أبو عبد الله محمد بن عيسى. وكان على مذهب النجّار. قال عنه الذهبي: وهو رأس البدعة.. الجهميّ، أحد من كان يناظر الإمام أحمد وقت المحنة. صنّف كتاب الاستطاعة، وكتاب المقالات، وكتاب الاجتهاد، وكتاب الردّ على جعفر ابن حرب، وكتاب المضاهاة. قيل توفي سنة أربعين ومائتين، وقيل سنة إحدى وأربعين. وإليه تنسب الفرقة البرغوثيّة. سير أعلام النبلاء 10/544.

وانظر: الفرق بين الفرق ص 209. والمقالات 2/230. ودرء تعارض العقل والنقل 7/257. وشرح حديث النزول ص 251-252. وشرح الأصفهانية 2/322.

3 ومن أقوال الإمام أحمد في ذمّ أهل الكلام: (علماء الكلام زنادقة) ، "لا يفلح صاحب كلام أبداً، ولا يرى أحد نظر في الكلام إلا في قلبه دغل". انظر: جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر 2/95. وتلبيس إبليس لابن الجوزي ص 83. ودرء تعارض العقل والنقل 7/275.

4 هو أبو عبد الله الحسين بن محمد بن عبد الله النجار، وكان حائكاً في حراز العباس ابن محمد الهاشمي. من كبار المجبرة ومتكلميهم. والسبب في موته أنّه اجتمع مع إبراهيم النظّام، فأفحمه النظّام في مناظرات جرت بينهما، فانصرف محموماً، فكان ذلك سبب علته التي مات فيها. انظر: الفهرست لابن النديم ص 204.

وذكر الأشعريّ في المقالات 2/340 أنّ أصحابه يسمون الحسينيّة. وأما الشهرستاني في الملل والنحل فسمّأهم النجّاريّة، وذكر أنّ أكثرهم معتزلة. وكذلك ذكرهم البغدادي في الفرق بين الفرق ص 207.

5 هو القاضي أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم بن حبيب الأنصاري الكوفي، تلميذ أبي حنيفة. عالم، فقيه، محدث. قال يحيى بن معين: ما رأيت في أصحاب الرأي أثبت في الحديث، ولا أحفظ، ولا أصلح رواية من أبي يوسف. توفي رحمه الله سنة 182 هـ.

انظر: تذكرة الحفاظ 1/292. والجواهر المضيئة 2/220.

6 ومن ذم أبي يوسف لأهل الكلام، قوله:"من طلب العلم بالكلام تزندق". انظر: درء تعارض العقل والنقل 1/232. والصواعق المرسلة لابن القيم 4/1264.

وقد ذكر الذهبي رحمه الله في العلو ص112 قول أبي يوسف: (من طلب الدين بالكلام تزندق، ومن طلب المال بالكيمياء أفلس، ومن تتبع غريب الحديث كذب) .

ص: 276

ومالك1، وغيرهم2 لأمثال هؤلاء الذين سلكوا هذه الطريقة3.

وقد صنّف في ذمّ الكلام وأهله مصنّفات أيضاً4، وهو متناول لأهل

1 ومن ذمّ الإمام مالك لأهل الكلام، قوله: (لعن الله عمراً - يعني عمرو بن عبيد؛ فإنّه ابتدع هذه البدع من الكلام، ولو كان الكلام علماً، لتكلّم فيه الصحابة والتابعون كما تكلموا في الأحكام والشرائع. ولكنّه باطل يدلّ على باطل". شرح السنة للبغوي 1/217. وانظر: الفتاوى المصرية لابن تيمية 6/560.

ومن أقواله: "لا تجوز شهادة أهل الأهواء والبدع..". انظر: الصواعق المرسلة لابن القيم 4/1264.

2 كالقاضي ابن سريج ((مجموع الفتاوى 17/305)) ، والإمام البغوي ((شرح السنة 1/216)) ، وغيرهما.

3 قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "فقول ضرار والنجار وأتباعهما كبرغوث وحفص، وقول بشر المريسي ونحوه من أهل الكلام الذين ذمهم الشافعي، وأحمد، وغيرهما من الأئمة: ليس فيه إنكار للقدر، بل فيه إثبات له، وإنّما ذموهم لما في قولهم من نفي ما وصف الله به نفسه، مع أنّ قول النجار وضرار خير من قول المعتزلة، وقولهما في الرؤية يشبه قول من ينفي العلوّ ويُثبت الرؤية من الأشعريّة ونحوهم. وأصل كلامهم الذي بنوا عليه نفي ذلك ما تقدّم من الأصول الثلاثة ليس لهم غيرها، وهي: دليل الأعراض، والتركيب، والاختصاص".

درء تعارض العقل والنقل 7/278.

4 يقول الشيخ عبد الرحمن الشبل في مقدمة تحقيق كتاب ذم الكلام للهروي 1/2: "أمّا الكتب التي ألفها أهل العلم في بيان زيف علم الكلام وبطلانه، وفضح أهله، والرد عليهم، فأكثر من أن تحصى. ولشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله النصيب الأكبر منها، بل إنّ كلّ كتاب ألّفه لا بُدّ أن يُشير غالباً إلى شيء من ذلك. لكن من باب التمثيل أيضاً أُشير إلى الكتب الآتية:

1-

الغنية عن الكلام وأهله لأبي سليمان الخطابي.

2-

إلجام العوام عن علم الكلام لأبي حامد الغزالي. وله أيضاً:

3-

تهافت الفلاسفة.

4-

الرد على المنطقيين لشيخ الإسلام ابن تيمية. وله أيضاً: نقض المنطق.

5-

نصيحة أهل الإيمان في الرد على منطق اليونان.

6-

فصل الكلام في ذم الكلام لجلال الدين السيوطي. وله أيضاً:

7-

القول المشرق في تحريم الاشتغال بالمنطق.

8-

صون المنطق والكلام عن فني المنطق والكلام.

9-

جهد القريحة في تجريد النصيحة. لخّص فيه السيوطي كتاب شيخ الإسلام ابن تيمية المذكور آنفاً.

وانظر: أيضاً درء تعارض العقل والنقل لشيخ الإسلام ابن تيمية، والصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة لابن قيم الجوزية، ومختصره لمحمد الموصلي؛ ففيهما مباحث قيّمة تتعلّق بهذا الباب".

ص: 277

هذه الطريقة قطعاً. فكان إيجاب النظر بهذا التفسير باطلاً قطعاً، بل هذا نظر فاسد يُناقض الحقّ والإيمان.

حذاق الطوائف ببينوا فساد طريقة الأعراض

ولهذا صار من يسلك هذه الطريقة1 من حذّاق الطوائف يتبيّن لهم فسادها2؛ كما ذكر مثل ذلك أبو حامد الغزالي3، وأبو عبد الله الرازي4، وأمثالهما5.

1 طريقة الأعرض وحدوث الأجسام.

2 كذا في ((خ)) ، و ((م)) . وفي ((ط)) : فاسدها. وهو خطأ.

3 وقد تقدّم قوله: "فليت شعري متى نُقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو عن الصحابة رضوان الله عليهم أنهم قالوا لمن جاءهم مسلماً: الدليل على أنّ العالم حادث: أنّه لا يخلو عن الأعراض، وما لا يخلو عن الحوادث حادث". فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة ص 89.

وفي قوله توهين لقيمة هذه الطريقة، وتقليل من شأنها، ودليل على أنّه لا يرى - في قرارة نفسه - أنّ هذه الطريقة صالحة للاستدلال على إثبات الصانع.

4 وقد تقدّم أنّ الرازي ضعّف البراهين الخمسة التي احتُجّ بها على حدوث العالم وحدوث الأجسام. انظر: المطالب العالية للرازي 1/71، والمباحث المشرقية له1/327.

5 ذكر أبو الحسن الأشعري في رسالته إلى أهل الثغر أنّ الرسل لم تدع إلى هذا الدليل المبتدع انظر: ص 185-192) . وكذلك نقل الشهرستاني والخطابي ذمّها. انظر: درء تعارض العقل والنقل 7/227، 293، وما بعدها.

ص: 278

ثمّ الذي يتبيّن له فسادها: إذا لم يجد عند من يعرفه من المتكلمين في أصول الدين غيرها بقي حائراً مضطرباً1.

الفلاسفة تسلطوا على المتكلمين بسبب فساد طريقة الأعراض

والقائلون بقدم العالم؛ من الفلاسفة، والملاحدة، وغيرهم تبيّن2 لهم فسادها؛ فصار ذلك من أعظم حججهم على قولهم الباطل؛ فيُبطلون قول هؤلاء أنّه صار فاعلاً، أو فاعلاً ومتكلماً بمشيئته بعد أن لم يكن3، ويُثبتون وجوب دوام نوع الحوادث، ويظنّون أنّهم إذا أبطلوا كلام أولئك المتكلمين بهذا حصل مقصودهم4. وهم5 أضلّ وأجهل من أولئك6؛ فإنّ أدلتهم لا توجب قدم شيء بعينه من العالم، بل كلّ ما سوى الله فهو حادث مخلوق كائن بعد أن لم يكن، ودلائل كثيرة غير تلك الطريقة7.

1 لذلك نجد أكثر من سلك هذا المسلك أصابته الحيرة في آخر عمره؛ فمنهم من تاب وأناب، ومنهم من صرّح بما كان يخفيه، وأعلن عن رأيه في الكلام والمنطق.

وسيأتي كلام الرازي، والشهرستاني، والغزالي، وغيرهم لاحقاً إن شاء الله.

2 في ((خ)) يبين. والصواب من ((م)) ، و ((ط)) .

3 يقول شيخ الإسلام ابن تيمية حاكياً عن طريقة الأعراض التي سلكها المتكلمون: "فطريقتهم التي أثبتوا بها أنه خالق للخلق، مرسل للرسل، إذا حُقّقت عليهم، وُجد لازمها أنه ليس بخالق ولا مُرسِل. فيبقى المسلم العاقل إذا تبيّن له حقية الأمر، وكيف انقلب العقل والسمع على هؤلاء، متعجباً. ولهذا تسلّط عليهم بها أعداء الإسلام من الفلاسفة والملاحدة وغيرهم؛ لما بيّنوا أنّه لا يثبت بها خلق ولا إرسال؛ فادّعى أولئك قدم العالم، وأثبتوا موجباً بذاته، وقالوا: إنّ الرسالة فيض يفيض على النبيّ من جهة العقل الفعّال، لا أنّ هناك كلاماً تكلّم الله تعالى به قائماً به أو مخلوقاً في غيره". شرح العقيدة الأصفهانية - بتحقيق السعوي - ص 329-330.

4 أي مقصود الفلاسفة.

5 أي الفلاسفة.

6 أي من المتكلمين.

7 انظر: كلام شيخ الإسلام رحمه الله على تسلط الفلاسفة وملاحدة الصوفية على المتكلمين في: الرد على المنطقيين ص 310-311. وشرح الأصفهانية ص 329-331. ومجموع الفتاوى 13/157. وشرح حديث النزول ص 420-422، 428. ومنهاج السنة النبوية 1/352.

قال شيخ الإسلام: "إنّ هؤلاء المتكلمين الذين زعموا أنهم ردوا عليهم، لم يكن الأمر كما قالوه، بل هم فتحوا لهم دهليز الزندقة. ولهذا يوجد كثير ممن دخل في هؤلاء الملاحدة إنما دخل من باب أولئك المتكلمين؛ كابن عربي، وابن سبعين، وغيرهم. وإذا قام من يرد على هؤلاء الملاحدة، فإنهم يستنصرون ويستعينون بأولئك المتكلمين المبتدعين، ويعينهم أولئك على من ينصر الله ورسوله؛ فهم جندهم على محاربة الله ورسوله كما قد وجد ذلك عياناً". شرح حديث النزول ص 422-423.

ص: 279

وإن كان الفاعل لم يزل فاعلاً لما يشاء، ومتكلماً بما يشاء، وصار كثير من أولئك1 إذا ظهر له فساد أصل أولئك المتكلمين المبتدعين، وليس عنده إلا قولهم، وقول هؤلاء2، يميل إلى قول هؤلاء الملاحدة، ثمّ قد يُبطن ذلك، وقد يُظهر لمن يأمنه.

أثر طريقة الأعراض على المتصوفة

وابتُلِيَ بهذا كثير من أهل النظر والعبادة والتصوف، وصاروا يُظهرون هذا في قالب المكاشفة3، ويزعمون أنّهم أهل التحقيق والتوحيد

1 ممّن سلكوا طريقة الأعراض وحدوث الأجسام.

2 الفلاسفة والملاحدة.

3 المكاشفة: هي عبارة عن بيان ما يستتر عن الفهم، فيُكشف للعبد عنه كأنّه يراه رأي العين. انظر: حياة القلوب في كيفية الوصول إلى المحبوب - بهامش قوت القلوب - (2/273) .

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "فما كان من الخوارق من باب العلم، فتارة بأن يسمع العبد ما لا يسمعه غيره، وتارة بأن يرى ما لا يراه غيره يقظة ومناماً، وتارة بأن يعلم ما لا يعلم غيره وحياً وإلهاماً. أو إنزال علم ضروري، أو فراسة صادقة، ويُسمّى كشفاً ومشاهدات ومكاشفات ومخاطبات. فالسماع مخاطبات، والرؤية مشاهدات، والعلم مكاشفة. ويُسمّى ذلك كله (كشفاً) و (مكاشفة) ؛ أي كشف له عنه". مجموع الفتاوى 11/313. وانظر: الصفدية 1/186.

ص: 280

والعرفان. فأخذوا من نفي الصفات أنّ صانع العالم1 لا داخل العالم، ولا خارجه. ومن قول هؤلاء: إنّ العالم قديم، ولم يروا موجوداً سوى العالم، فقالوا: إنّه هو الله، وقالوا: هو الوجود المطلق، والوجود واحد، وتكلّموا في وحدة الوجود2، وأنه الله بكلام ليس هذا موضع بسطه3.

1 في ((خ)) العلم. وهو خطأ. وما أثبته من ((م)) ، و ((ط)) .

2 وحدة الوجود: من أبرز عقائد ملاحدة الصوفية. وقد أوضح شيخ الإسلام مقصودهم به فقال: "معناه أن وجود الكائنات هو عين وجود الله تعالى، وليس وجودها غيره، ولا شيء سواه البتة". مجموع الفتاوى 11/140. وانظر: المصدر نفسه 11/172-173.

والباطنية: باطنية الشيعة والمتصوّفة؛ كابن سبعين وابن عربي هم في الباطن كذلك، بل يقولون: الوجود واحد: وجود الخالق هو وجود الخلق، فيجب أن يكون كل موجود عابداً لنفسه، شاكراً لنفسه، حامداً لنفسه.

وابن عربي يجعل الأعيان ثابتة في العدم، وقد صرّح بأنّ الله لم يعط أحداً شيئاً، وأنّ جميع ما للعباد فهو منهم لا منه، وهو مفتقر إليهم لظهور وجوده في أعينهم، وهم مفتقرون إليه لكون أعيانهم ظهرت في وجوده، فالربّ إن ظهر فهو العبد، والعبد إن بطن فهو ربّ، ولهذا قال: لا تحمد ولا تشكر إلا نفسك، فما في أحد من الله شيء ولا في أحد من نفسه شيء. ولهذا قال: إنه يستحيل من العبد أن يدعوه لأنه يشهد أحدية العين، فالداعي هو المدعو، فكيف يدعو نفسه. وزعم أن هذا هو خلاصة غاية الغاية، فما بعد هذا شيء.

انظر: جامع المسائل 2/104-105.

3 وقد تكلّم شيخ الإسلام رحمه الله عن هذا الموضوع بكثرة. انظر: على سبيل المثال: الجزء الثاني من الفتاوى؛ فقد حوى رسائل في هذا الموضوع، منها رسالة تسمى ((حقيقة مذهب الاتحاديين أو وحدة الوجود)) من ص 134-285، وكذلك ((رسالة إلى نصر المنبجي)) من ص 452-479. وانظر: جامع الرسائل 2/104-116، 201-206.

ص: 281

ثمّ لمّا ظهر أنّ كلامهم يُخالف الشرع والعقل، صاروا يقولون: ثَبَتَ1 عندنا في الكشف ما يُناقض صريح العقل، ويقولون: القرآن كله شرك، وإنّما التوحيد في كلامنا، ومن أراد أن يحصل له هذا العلم اللدنيّ الأعلى، فليترك العقل والنقل2. وصار حقيقة قولهم الكفر بالله، وبكتبه، ورسله، وباليوم الآخر من جنس قول الملاحدة الذين يظهرون التشيّع. لكنّ أولئك لمّا كان ظاهر قولهم هو ذمّ الخلفاء كأبي بكر وعمر وعثمان [رضي الله عنهم] 3، صارت وصمة الرفض تنفر عنهم خلقاً كثيراً لم يعرفوا باطن أمرهم، وهؤلاء صاروا ينتسبون إلى المعرفة والتوحيد واتباع شيوخ الطرق؛

1 كذا في ((خ)) . وفي ((م)) ، و ((ط)) : يثبت.

2 انظر: كلام هؤلاء في الفرقان ص 229. والفتاوى 2/472.

قال شيخ الإسلام رحمه الله عنهم: "ولهذا كان هؤلاء الاتحاديّة والحلوليّة يصفونه بما توصف به الأجسام المذمومة، ويصرحون بذلك، وهؤلاء من أعظم النّاس كفراً وشتماً لله، وسبّاً لله سبحانه وتعالى عمّا يقول الظالمون علواً كبيراً

ويُسمّون أنفسهم المنزِّهون، وهم أبعد الخلق عن تنزيه الله وأقرب لتنجيس تقديسه.... وهذا التلمساني هو وسائر الاتحادية؛ كابن عربي الطائي صاحب الفصوص وغيره، وابن سبعين، وابن الفارض والقونوي صاحب ابن عربي شيخ التلمساني، وسعيد الفرغاني، إنما يدعون الكشف والشهود لما يخبرون عنه وأن تحقيقهم لا يوجد بالنظر والقياس والبحث، وإنما هو شهود الحقائق وكشفها. ويقولون: ثبت عندنا في الكشف ما يُناقض صريح العقل، ويقولون لمن يسلكونه لا بد أن يجمع بين النقيضين وأن يخالف العقل والنقل، ويقولون: القرآن كله شرك، وإنما التوحيد في كلامنا، ويقولون: لا فرق عندنا بين الأخوات والبنات والزوجات؛ فإنّ الوجود واحد، لكن هؤلاء المحجوبون قالوا حرام، فقلنا حرام عليكم

". بيان تلبيس الجهميّة 2/538-539. وانظر: بغية المرتاد ص 491. والفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص 229-230. وكتاب الصفدية ص 244.

3 ليست في ((خ)) و ((م)) ، وهي في ((ط)) .

ص: 282

كالفضيل1، وإبراهيم بن أدهم2، والتستري3، والجنيد4، وسهل بن5 عبد الله6، وأمثال هؤلاء ممّن له في الأمة لسان صدق، فاغترّ بهؤلاء من لم يعرف باطن أمرهم، وهم في الحقيقة من أعظم خلق الله خلافاً لهؤلاء المشايخ

1 الفضيل بن عياض بن مسعود التميمي اليربوعي، الإمام القدوة الثبت، شيخ الإسلام، أبو علي. ولد بسمرقند وأصله من الكوفة، وسكن مكة. يُعدّ من العباد الصالحين، وكان ثقة نبيلاً فاضلاً عابداً ورعاً كثير الحديث. توفي بمكة سنة 187?. انظر: سير أعلام النبلاء 8/421-442. وحلية الأولياء 8/84. وشذرات الذهب 1/316-317. وطبقات الصوفية 6-14. والأعلام 5/153.

2 إبراهيم بن أدهم بن منصور التميمي نزيل الشام، مولده في حدود المائة. قال عنه ابن كثير رحمه الله: (أحد مشاهير العباد، كانت له همة عالية في ذلك رحمه الله . توفي سنة 162?. انظر: سير أعلام النبلاء 7/387-396. وحلية الأولياء7/367. وطبقات الصوفية ص 27. والبداية والنهاية 10/138.

3 في ((خ)) السّري، وما أُثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

والتستري هو: سهل بن عبد الله بن يونس التستري، أبو محمد الصوفي الزاهد، وهو من كبار الصوفية. مات سنة 283?. انظر: سير أعلام النبلاء 13/330. وطبقات الصوفية ص206. وحلية الأولياء 10/189. وشذرات الذهب 2/182.

4 هو الجنيد بن محمد بن الجنيد، أبو القاسم. قال عنه الخطيب:(نشأ ببغداد، وسمع بها الحديث، ثمّ اشتغل بالعبادة ولازمها) . مات سنة 298?. انظر: تاريخ بغداد 7/241. وسير أعلام النبلاء 20/272. وحلية الأولياء 10/255. وشذرات الذهب 2/228. وطبقات الصوفية ص 155.

5 في ((خ)) لبن. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

6 لعله أبو طاهر سهل بن عبد الله بن الفرخان الأصبهاني. قال عنه الذهبي: أحد الثقات.. وكان من حملة الحجة، كبير القدر. قال أبو نعيم: لقيت أصحابه، وكان مجاب الدعوة..... وهو أول من حمل مختصر حرملة من علم الشافعي.... إلى أن قال: - ومات في سنة ست وسبعين ومائتين. انظر: سير أعلام النلاء 13/333-334. وحلية الأولياء 10/212-213 - وسماه الفرحان.

ص: 283

السادة، ولمن هو أفضل منهم من السابقين الأولين، والأنبياء المرسلين1.

وكان من أسباب ذلك أنّ العبادة والتألّه والمحبة ونحو ذلك ممّا يتكلّم فيه شيوخ المعرفة والتصوّف أمر معظّم في القلوب، والرسل إنّما بُعثوا بدعاء الخلق إلى أن يعرفوا الله، ويكون أحبّ إليهم من كلّ ما سواه، فيعبدوه ويألهوه، ولا يكون لهم معبود مألوه غيره2.

وقد أنكر جمهور أولئك المتكلمين أن يكون الله محبوباً، أو أنّه يُحبّ شيئاً، أو يُحبّه أحد3. وهذا في الحقيقة إنكار لكونه إلهاً معبوداً؛ فإنّ

1 قال شيخ الإسلام رحمه الله: "فإنّ ابن عربي وأمثاله وإن ادعوا أنهم من الصوفية، فهم من صوفية الملاحدة الفلاسفة، ليسوا من صوفية أهل الكلام، فضلاً عن أن يكونوا من مشايخ أهل الكتاب والسنة؛ كالفضيل بن عياض، وإبراهيم بن أدهم، وأبو سليمان الداراني، ومعروف الكرخي، والجنيد بن محمد، وسهل بن عبد الله التستري، وأمثالهم رضوان الله عليهم أجمعين". الفرقان ص 213.

2 قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "محبة الله، بل محبة الله ورسوله من أعظم واجبات الإيمان، وأكبر أصوله، وأجلّ قواعده، بل هي أصل كلّ عمل من أعمال الإيمان؛ كما أن التصديق به أصل كلّ قول من أقوال الإيمان والدين". مجموع فتاوى ابن تيمية 10/48-49. وانظر: جامع الرسائل 2/235.

وتقديم محبة الله تعالى على محبة ما سواه أحد الأسباب - بل أهمها - التي يجد العبد بها حلاوة الإيمان؛ كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث من كنّ فيه، وجد بهنّ حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه ممّا سواهما.." الحديث. أخرجه البخاري في صحيحه 1/14، كتاب الإيمان، باب حلاوة الإيمان. ومسلم في صحيحه 1/66، كتاب الإيمان، باب بيان خصال من اتّصف بهنّ وجد حلاوة الإيمان.

3 انظر: إنكار ابن كلاب لذلك في مقالات الإسلاميين 1/250، 2/225. وإنكار الباقلاني في كتابه الإنصاف ص 69. وابن فورك في مشكل الحديث وبيانه ص 332. وابن جماعة في إيضاح الدليل ص 139. والقرطبي في تفسيره 20/4. ومدارك التنزيل للنسفي 1/209. وعمدة القاري للعيني 25/84. وانظر: أيضاً: مجموع فتاوى ابن تيمية 10/66.

ص: 284

الإله: هو المألوه الذي يستحق أن يؤله ويُعبد، والتألّه والتعبّد: يتضمن غاية الحب بغاية الذلّ1.

الإلهية: القدرة على الاختراع عند الأشعري

ولكن غلط كثير من أولئك، فظنّوا أنّ الإلهيّة هي القدرة على الخلق، وأنّ الإله بمعنى الآلِه، وأنّ العباد يألههم الله، لا أنّهم هم يألهون الله؛ كما ذكر ذلك طائفة منهم الأشعريّ وغيره2.

وطائفة ثالثة3 لما رأت ما دلّ على أنّ الله يُحِبّ أن يكون محبوباً من أدلة الكتاب والسنة،

الذين غلطوا في مسمى المحبة والإرادة

وكلام السلف وشيوخ أهل المعرفة، صاروا يقرّون

1 انظر: كتاب العبودية للمؤلف؛ فقد تحدّث حول هذا الموضوع ص 35. وانظر: أيضاً: مجموع الفتاوى له 13/202-203، والمصدر نفسه 8/378. والجواب الصحيح 6/31. وجامع الرسائل 2/196، 254-256.

2 هذا الفهم الخاطئ قال به الأشعريّ، وتبعه عليه جميع الأشعريّة. انظر: الملل والنحل للشهرستاني 1/91. وانظر: أيضاً: الجواب الصحيح 2/152. والصفدية 1/148. واقتضاء الصراط المستقيم 2/845. ودرء تعارض العقل والنقل 9/377. ومجموع الفتاوى 8/101. والتدمرية ص 185-186.

وفهمهم هذا خاطئ؛ فإنّ الإله بمعنى المألوه المعبود، لا بمعنى الآلِه كما زعموا. وقد بيّن شيخ الإسلام خطأهم في ذلك، فقال:(والإله هو بمعنى المألوه المعبود الذي يستحق العبادة، ليس هو الآلِه بمعنى القادر على الخلق. فإذا فسّر المفسر الإله بمعنى القادر على الاختراع، واعتقد أنّ هذا أخص وصف الإله، وجعل إثبات هذا التوحيد هو الغاية في التوحيد، كما يفعل ذلك من يفعله من متكلمة الصفاتية - وهو الذي ينقلونه عن أبي الحسن وأتباعه - لم يعرفوا حقيقة التوحيد الذي بعث الله به رسوله؛ فإنّ مشركي العرب كانوا مقرّين بأنّ الله وحده خالق كل شيء، وكانوا مع هذا مشركين؛ قال تعالى: {وَمَاْ يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلا وَهُمْ مُشْرِكُوْنَ} [يوسف 106] قال طائفة من السلف: تسألهم من خلق السموات والأرض، فيقولون: الله، وهم مع هذا يعبدون غيره..) . درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية 1/226-227. وانظر: مجموع الفتاوى 8/378. وشرح الأصفهانية 1/148.

3 انظر: مجموع الفتاوى 10/74-75.

ص: 285

بأنّه محبوب، لكنّه هو نفسه لا يحبّ شيئاً إلا بمعنى المشيئة، وجميع الأشياء مرادة له فهي محبوبة له. وهذه طريقة كثير من أهل النظر والعبادة والحديث؛ كأبي إسماعيل الأنصاري1، وأبي حامد الغزالي، وأبي بكر بن العربي23.

1 هو أبو إسماعيل عبد الله بن محمد بن علي الهروي الأنصاري، ولد سنة 396، وتوفي سنة 481?. قال عنه الذهبي:"شيخ الإسلام الإمام القدوة الحافظ الكبير، وشيخ خراسان من ذرية صاحب النبيّ صلى الله عليه وسلم أبي أيوب الأنصاري". انظر: سير أعلام النبلاء 18/503. وطبقات الحنابلة 2/247-248. وشذرات الذهب 3/365-366.

وانظر: كلامه في مدارج السالكين 1/227، وقد علّق عليه ابن القيم رحمه الله بأنّه من أبطل الباطل.

كما نقل كلامه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وسمى هذه المسألة مسألة إرادة الكائنات وخلق الأفعال. وقال عنه بأنّه في هذه المسألة (أبلغ من الأشعريّة؛ لا يُثبت سبباً ولا حكمة، بل يقول: إنّ مشاهدة العارف الحكم لا يبقى له استحسان حسنة ولا استقباح سيئة، والحكم عنده هو المشيئة؛ لأنّ العارف عنده من يصل إلى مقام الفناء) . مجموع الفتاوى 8/230. وانظر: المصدر نفسه 8/339-340.

2 في ((خ)) :ابن عربي. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

وأبو بكر بن العربي، هو: محمد بن عبد الله بن محمد بن أحمد بن العربي الأندلسي الأشبيلي المالكي. ولد في أشبيلية سنة 468?، وتوفي سنة 543?. رحل إلى المشرق، وأخذ من العلماء وأشهرهم الغزالي، ثم رجع إلى الأندلس وتولى قضاء أشبيلية. يعتبر من أئمة المالكية، ومن كبار حفّاظهم وفقهائهم إلا أنه أشعري تتلمذ على الغزالي وتأثر ببعض أفكاره. انظر: سير أعلام النبلاء 20/197. والبداية والنهاية 12/245 - وقال عن وفاته: إنها سنة 545 هـ. قانون التأويل - قسم التحقيق - لابن العربي ص 117، وموقف ابن تيمية من الأشاعرة 2/647.

3 بل هذا قول المعتزلة والجهميّة وأغلب الأشعريّة. انظر: المغني في أبواب التوحيد والعدل لعبد الجبار المعتزلي 6/51-56. والإنصاف للباقلاني ص 69-70. ولباب العقول في الرد على الفلاسفة في علم الأصول للمكلاتي ص 288.

ص: 286

وحقيقة هذا القول أنّ الله يُحبّ الكفر، والفسوق، والعصيان، ويرضاه1. وهذا هو المشهور من قول الأشعريّ وأصحابه2، وقد ذكر أبو المعالي أنه أول من قال ذلك3، وكذلك ذكر ابن عقيل4 أنّ أوّل من قال إن الله يحب الكفر والفسوق والعصيان هو الأشعريّ وأصحابه، وهم قد يقولون لا يُحبّه ديناً، ولا يرضاه ديناً، كما يقولون: لا يريده ديناً؛ أي لا يريد أن يكون فاعله مأجوراً، وأما هو نفسه فهو محبوب له كسائر المخلوقات؛ فإنّها عندهم محبوبة له؛ إذ كان ليس عندهم إلا إرادة واحدة

1 لأنّ من جوّز إطلاق المحبة على الإرادة، فلازم قوله أنّ الله يحب الكفر ويرضاه كفراً.

انظر: مجموع الفتاوى 8/343.

2 يقول أبو المعالي الجويني: "إذا تعلّقت الإرادة بنعيم ينال عبداً، فإنها تسمى محبة ورضى. وإذا تعلّقت بنقمة تنال عبداً فإنها تسمى سخطاً". الإرشاد للجويني ص 239.

وانظر: الإنصاف للباقلاني ص 69-70. والتمهيد له ص 385-386. وانظر: مدارج السالكين لابن القيم 1/228، 251، 2/189. ومنهاج السنة النبوية 1/134-135، 5/360. وسيأتي مزيد إيضاح لهذا الموضوع، حين نقل كلام الأشعري نفسه في اللمع، في ص 301 من هذا الكتاب.

3 انظر: الإرشاد للجويني ص 237-239. وانظر: أيضاً: أصول الدين للبغدادي ص 102-104. ومجموع فتاوى ابن تيمية 8/230. وفي منهاج السنة 5/360 قال: إن أبا الحسن أول من سوّى بينهما.

4 وكان يميل إلى بعض كلام المعتزلة كما ذكر ذلك شيخ الإسلام رحمه الله درء تعارض العقل والنقل 1/270.

وقد نقل في منهاج السنة النبوية 5/360 عنه قوله: (أجمع المسلمون على أن الله لا يحب الكفر والفسوق والعصيان، ولم يقل إنه يحبه غير الأشعري) .

ص: 287

شاملة لكل مخلوق؛ فكل مخلوق، فهو عندهم محبوب مرضيّ1.

وجماهير المسلمين يعرفون أنّ هذا القول معلوم الفساد بالضرورة من دين أهل الملل، وأنّ المسلمين واليهود والنصارى متفقون على أنّ الله لا يُحبّ الشرك، ولا تكذيب الرسل، ولا يرضى ذلك، بل هو يُبغض ذلك ويمقته ويكرهه؛ كما ذكر الله في سورة بني إسرائيل ما ذكره من المحرّمات، ثمّ قال:{كُلُّ ذَلِكَ كَاْنَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوْهَاً} 2. وبسط هذه الأمور له مواضع أُخَر3.

1 وهذا نجم عن قولهم "إنّ الإرادة تستلزم الرضى والمحبة"، وقد تقدّم نقل ذلك عنهم. وخطؤهم الذي وقعوا فيه وحدا بهم إلى هذه المآزق هو ظنّهم أنّ الإرادة في النصوص كلها بمعنى واحد، بل ولا تتجدّد أيضاً. وهذا خطأ عظيم، ووهم كبير، وقول مخالف للكتاب والسنّة.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله راداً على معتقدهم هذا: "وإثبات إرادة كما ذكروه لا يُعرف بشرع ولا عقل، بل هو مخالف للشرع والعقل؛ فإنّه ليس في الكتاب والسنّة ما يقتضي أنّ جميع الكائنات حصلت بإرادة واحدة بالعين تسبق جميع المرادات بما لا نهاية له". درء تعارض العقل والنقل 8/283. وانظر: أصول الدين للبغدادي ص 102. ومراتب الإرادة لابن تيمية - ضمن مجموع الفتاوى8/188-190، 197. ومجموع الفتاوى 6/115-116، 8/22-23، 339، 340-341، 440، 474-476، 16/301-303، 17/101، 18/132. ودرء تعارض العقل والنقل 2/172. وشرح الأصفهانيّة - ت مخلوف - ص 27. ومدارج السالكين لابن القيم 1/228، 251-252.

2 سورة الإسراء، الآية 38.

3 انظر: مجموع الفتاوى 6/115-116، 8/22-23، 230-234، 337-355، 370، 440، 474-476، 16/301-303، 17/101، 18/132. ودرء تعارض العقل والنقل 2/172، 8/283. وشرح الأصفهانيّة - ت مخلوف - ص 27. ومنهاج السنة النبوية 5/359-361.

ص: 288

الذين أوجبوا النظر أعرضوا عن طريق الرسول

والمقصود هنا أنّ الذين أعرضوا عن طريق الرسول في العلم و1العمل وقعوا في الضلال والزلل، وأنّ أولئك لما أوجبوا النظر الذي ابتدعوه، صارت فروعه فاسدة، إن قالوا إنّ من لم يسلكها كفر أو عصى2، فقد عُرف بالاضطرار من دين الإسلام أنّ الصحابة والتابعين لهم بإحسان لم يسلكوا طريقهم، وهم خير الأمة3. وإن قالوا: إنّ من ليس عنده علم ولا بصيرة بالإيمان، بل قاله تقليداً محضاً من غير معرفة يكون مؤمناً، فالكتاب والسنّة يُخالف4 ذلك. ولو أنّهم سلكوا طريقة الرسول، لحفظهم الله من هذا التناقض؛ فإنّ ما جاء به الرسول جاء من عند الله5،

1 في ((خ)) : أو. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

2 ذكر الإمام ابن حزم عنهم ذلك، فقال:"ذهب محمد بن جرير الطبري، والأشعريّة كلها، حاشا السمناني إلى أنّه لا يكون مسلماً إلا من استدلّ، وإلا فليس مسلماً. وقال الطبري: من بلغ الاحتلام أو الإشعار من الرجال والنساء، أو بلغ المحيض من النساء، ولم يعرف الله عز وجل بجميع أسمائه وصفاته من طريق الاستدلال، فهو كافر حلال الدم والمال". الفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم 4/35.

وانظر: كلام شيخ الإسلام رحمه الله عنهم في هذه المسألة في درء تعارض العقل والنقل 7/407. وانظر: رسالة السجزي في الرد على من أنكر الحرف والصوت ص 139.

3 وهذا سبق بيانه ص 297- 303.

4 في ((خ)) : تخالف. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

5 انظر: معارج الوصول إلى أنّ أصول الدين وفروعه قد بيّنها الرسول صلى الله عليه وسلم. وكذلك درء تعارض العقل والنقل 1/16-27، 38-43، 194-195، 5/363-370.

وانظر: كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن تناقض الأشاعرة في الشرعيّات والعقليّأت في التسعينيّة ص 259-260.

وانظر: كلامه رحمه الله عن أول واجب على المكلف في درء تعارض العقل والنقل 8/6-7. ومجموع الفتاوى 16/328.

ص: 289

وما ابتدعوه جاؤوا به من عند غير الله، وقد قال تعالى:{وَلَوْ كَاْنَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوْا فِيْهِ اخْتِلافَاً كَثِيْرَاً} 1.

وهؤلاء2 بنوا دينهم على النظر، والصوفية بنوا دينهم على الإرادة، وكلاهما لفظ مجمل، يدخل فيه الحق والباطل.

فالحق: هو النظر الشرعيّ، والإرادة الشرعيّة.

النظر الشرعي

[فالنظر الشرعيّ] 3: [هو] 4 النظر فيما بُعث به الرسول من الآيات والهدى؛ كما قال: {شَهْرُ رَمَضَاْنَ الَّذِيْ أُنْزِلَ فِيْهِ الْقُرْآنُ هُدَىً لِلنَّاْسِ وَبَيِّنَاْتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَاْن} 5.

الإرادة الشرعية والسماع الشرعي والدليل الشرعي

والإرادة الشرعيّة: إرادة ما أمر الله به ورسوله. والسماع الشرعيّ: سماع ما أحبّ الله سماعه كالقرآن. والدليل الذي يستدلّ به هو الدليل الشرعيّ، وهو الذي دلّ الله به عباده، وهداهم به إلى صراط مستقيم6؛ فإنّه لمّا ظهرت البدع، والتبس الحقّ بالباطل صار اسم النظر، والدليل، والسماع، [والإرادة يُطلق على ثلاثة أمور:

إطلاقات النظر والإرادة والسماع والدليل

منهم: من يريد به البدعيّ دون الشرعيّ؛ فيريدون بالدليل: ما ابتدعوه من الأدلة الفاسدة، والنظر فيها. ومن السماع والإرادة] 7: ما ابتدعوه من

1 سورة النساء، الآية 82.

2 أي المتكلمون.

3 ما بين المعقوفتين ليس في ((خ)) ، وهو في ((م)) ، و ((ط)) .

4 في ((خ)) : وهو. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

5 سورة البقرة، الآية 185.

6 كالنظر في المخلوقات، ودلالة المعجزات، وغير ذلك من الأدلة الشرعية. انظر: درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية 7/300-302. وشرح حديث النزول ص 27-28. ومجموع الفتاوى 11/378.

7 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) . وهو في ((م)) ، و ((ط)) .

ص: 290

اتباع ذوقهم ووجدهم، وما تهواه أنفسهم، وسماع الشعر والغناء الذي يُحرّك هذا الوجد التابع لهذه الإرادة النفسانيّة التي مضمونها اتباع ما تهوى الأنفس بغير هدى من الله.

ومنهم: من يريد مطلق الدليل والنظر، ومطلق السماع والإرادة، من غير تقييدها لا بشرعيّ ولا ببدعيّ. فهؤلاء يُفسّرون قوله:{الَّذِيْنَ يَسْتَمِعُوْنَ الْقَوْلَ} 1: بمطلق القول الذي يدخل فيه القرآن والغناء، ويستمعون إلى هذه وهذا، وأولئك2 يُفسّرون الإرادة بمطلق المحبة للإله3 من غير تقييدها بشرعيّ ولا بدعيّ، ويجعلون الجميع من أهل الإرادة؛ سواء عبد الله بما أمر الله به ورسوله من التوحيد وطاعة الرسول، أو كان عابداً للشيطان مشركاً، عابداً بالبدع، وهؤلاء أوسطهم، وهم أحسن حالاً من الذين قيّدوا ذلك بالبدعيّ

وأما القسم الثالث: فهم صفوة الأمة، وخيارها المتبعون للرسول علماً وعملاً، يدعون إلى النظر والاستدلال والاعتبار بالآيات والأدلة والبراهين التي بعث الله بها رسوله، وتدبّر القرآن وما فيه من البيان، ويدعون إلى المحبة والإرادة الشرعيّة؛ وهي محبة الله وحده، وإرادة عبادته وحده لا شريك له بما أمر به على لسان رسوله؛ فهم لا يعبدون إلا الله، ويعبدونه بما شرع وأمر، ويستمعون ما أحبّ استماعه، وهو قوله الذي قال فيه:{أَفَلَمْ يَدَّبَرُوْا الْقَوْلَ} 4، وهو الذي قال فيه: {فَبَشِّرْ عِبَاْدِ الَّذِيْنَ يَسْتَمِعُوْنَ الْقَوْلَ

1 سورة الزمر، الآية 18.

2 يقصد الصوفية.

3 في ((خ)) : للتأله. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

4 سورة المؤمنون، الآية 68.

ص: 291

فَيَتَّبِعُوْنَ أَحْسَنَهُ} 1؛ كما قال: {وَاتَّبِعُوْا أَحْسَنَ مَاْ أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ منْ رَبِّكُمْ} 2. وقال: {وَكَتَبْنَاْ لَهُ فِيْ الألْوَاْحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيْلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَاْ بِقُوَّةٍ وَاْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوْا بِأحْسَنِهَاْ} 3.

[والله] 4 سبحانه بيَّنَ القدرة على الابتداء؛ كقوله: {إِنْ كُنْتُمْ فِيْ رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّاْ خَلَقْنَاْكُمْ مِنْ تُرَاْبٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ} الآية5، ومثل قوله:{وَيَقُوْلُ الإِنْسَاْنُ أَإِذَاْ مَاْ مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيَّاً أَوَلا يَذْكُرُ الإِنْسَاْنُ أَنَّاْ خَلَقْنَاْهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئَاً} 6 الآية، ومثل قوله:{وَضَرَبَ لَنَاْ مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَاْلَ مَنْ يُحْيِيْ الْعِظَاْمَ وَهِيَ رَمِيْم قُلْ يُحْيِيْهَاْ الَّذِيْ أَنْشَأَهَاْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيْم} 7، وغير ذلك.

الاستدلال على الخالق بخلق الإنسان طريق عقلي صحيح

فالاستدلال على الخالق بخلق الإنسان في غاية الحسن والاستقامة، وهي طريقة عقليّة صحيحة. وهي شرعيّة؛ دلّ القرآن عليها، وهدى النّاس إليها، وبيّنها وأرشد إليها. وهي عقليّة8؛ فإنّ نفس كون الإنسان حادثاً

1 سورة الزمر، الآيتان 17، 18.

2 سورة الزمر، الآية 55.

3 سورة الأعراف، الآية 145.

4 ليست في ((خ)) ، و ((م)) .

5 سورة الحج، الآية 5.

6 سورة مريم، الآيتان 66، 67.

7 سورة يس، الآيتان 78، 79.

8 قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "فإنّ الفاضل إذا تأمّل غاية ما يذكره المتكلمون والفلاسفة من الطرق العقلية، وجد الصواب منها يعود إلى بعض ما ذكر في القرآن من الطرق. وفي طرق القرآن من تمام البيان والتحقيق ما قد نبهنا على بعضه في غير هذا الموضع". شرح الأصفهانية - ت السعوي - 1/41.

وانظر: الاستدلال بهذه الطريقة في: نقض أساس التقديس 1/80-82. ودرء تعارض العقل والنقل 7/300-302.

ص: 292

بعد أن لم يكن، ومولوداً ومخلوقاً من نطفة، ثمّ من علقة، هذا لم يُعلم بمجرّد خبر الرسول، بل هذا يعلمه النّاس كلهم بعقولهم؛ سواء أخبر به الرسول، أو لم يُخبر. لكنّ الرسول أمر أن يُستدلّ به، ودلّ به، وبيّنه، واحتجّ به؛ فهو دليل شرعيّ؛ لأنّ الشارع استدلّ به، وأمر أن يُستدلّ به؛ وهو عقليّ؛ لأنّه بالعقل تُعلم صحته. وكثيرٌ من المتنازعين في المعرفة هل تحصل بالشرع، أو بالعقل لا يسلكونه. وهو عقليّ شرعيّ، وكذلك غيره من الأدلة التي في القرآن؛ مثل الاستدلال بالسحاب والمطر؛ هو مذكور في القرآن في غير موضع، وهو عقليّ شرعيّ؛ كما قال تعالى:{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّاْ نَسُوْقُ الْمَاْءَ إِلَىْ الأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعَاً تأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَاْمُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُوْنَ} 1؛ فهذا مرئيّ بالعيون. وقال تعالى: {سَنُرِيْهِمْ آيَاْتِنَاْ فِيْ الآفَاْقِ وَفِيْ أَنْفُسِهِمْ حَتَّىْ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} 2، ثمّ قال:{أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىْ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيْدٌ} 3.

فالآيات التي يُريها الناس، حتى يعلموا أنّ القرآن حق، هي آيات عقليّة؛ يستدلّ بها العقل على أنّ القرآن حقّ، وهي شرعيّة؛ دلّ الشرع عليها، وأمر بها. والقرآن مملوء من ذكر الآيات العقليّة التي يستدلّ بها العقل، وهي شرعيّة؛ لأنّ الشرع دلّ عليها، وأرشد إليها.

ولكنْ كثيرٌ4 من النّاس لا يُسمّي دليلاً شرعيّاً إلا ما دلّ بمجرّد خبر الرسول، وهو اصطلاح قاصر، ولهذا يجعلون أصول الفقه هو لبيان الأدلة

1 سورة السجدة، الآية 27.

2 سورة فصلت، الآية 53.

3 سورة فصلت، الآية 53.

4 ما أثبت من ((خ)) ، و ((م)) ؛ على أنّ (لكنْ) - بالنون الساكنة - للاستدراك. وما في ((ط)) :(لكنّ) - بالنون المشدّدة - من أخوات (إنّ) .

ص: 293

الشرعيّة؛ الكتاب، والسنّة، والإجماع. والكتاب يُريدون به أن يعلم مراد الرسول فقط. والمقصود من أصول الفقه: هو معرفة الأحكام الشرعيّة العمليّة؛ فيجعلون الأدلة الشرعيّة: ما دلّت على الأحكام العمليّة فقط، ويُخرجون ما دلّ بإخبار الرسول عن أن يكون شرعاً، فضلاً عمّا دلّ بإرشاده وتعليمه. ولكن قد يُسمّون هذا دليلاً سمعيّاً، ولا يُسمّونه شرعيّاً، وهو اصطلاح قاصر. والأحكام العمليّة أكثر الناس يقولون إنها تُعلم بالعقل أيضاً، وأنّ العقل قد يعرف الحسن والقبح، فتكون الأدلة العقليّة دالّة على الأحكام العمليّة أيضاً.

ويجوز أن تُسمّى شرعيّة؛ لأنّ الشرع قرّرها، ووافقها، أو دلّ عليها وأرشد إليها؛ كما قيل مثل ذلك في المطالب الخبريّة؛ كإثبات الربّ، ووحدانيته، وصدق رسله، وقدرته على المعاد: أنّ الشرع دلّ عليها، وأرشد إليها. وبسط هذا له موضع آخر1.

1 انظر: كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في اختلاف الناس في مسألة (الحسن والقبح) في منهاج السنة النبوية 1/316-317. ومجموع الفتاوى 8/90، 309-310، 677-686،، 11/347-355، 676-677،، 16/246-247، 498. والتسعينيّة ص 247. وشرح الأصفهانيّة - ت مخلوف - ص 161. ودرء تعارض العقل والنقل 8/22، 492،، 9/49-62. والرد على المنطقيين ص 420-437. والجواب الصحيح 1/314-315.

وقال الأشعريّ: "العقل لا يقتضي حسن شيء، ولا قبحه، وإنّما عُرف القبيح والحسن بالسمع، ولولا السمع ما عُرف قبح الشيء، ولا حسنه". انظر: رسالة السجزي في الرد على من أنكر الحرف والصوت ص 139. والملل والنحل للشهرستاني 1/101. والإرشاد للجويني ص 258. والمحصل للرازي ص 202. وشرح المواقف للجرجاني 8/181-182.

فالأشاعرة يقولون: "لا حسن، ولا قبح قبل مجيء الرسول، وإنّما الحسن ما قيل فيه: افعل. والقبيح ما قيل فيه: لا تفعل".

ص: 294

الأشعري بنى أصول الدين على دليل الحوادث

والمقصود هنا: أنّ الأشعريّ بنى أصول الدين في ((اللمع)) ، و ((رسالة الثغر)) على كون الإنسان مخلوقاً محدثاً، فلا بُدّ له من محدِث1، لكون هذا الدليل مذكوراً في القرآن، فيكون شرعيّاً عقليّاً.

لكنّه في نفس الأمر سلك في ذلك طريقة الجهميّة بعينها2؛ وهو الاستدلال على حدوث الإنسان بأنّه مُركّب من الجواهر المفردة3، فلم يخل من الحوادث، وما لم يخل من الحوادث فهو حادث؛ فجعل العلم بكون الإنسان محدَثاً، وبكون غيره من الأجسام المشهودة محدثاً إنّما يُعلم بهذه الطريقة؛ وهو أنّه مؤلّف من الجواهر المفردة، وهي لا تخلو من اجتماع وافتراق - وتلك أعراض حادثة4 - وما لم ينفكّ من الحوادث، فهو محدَث5.

1 انظر: اللمع للأشعريّ ص 6 - ط مكارثي -. ورسالة إلى أهل الثغر ص 144.

2 وهذا تقدّم توضيحه قريباً ص 303.

3 الجواهر المفردة: تُعرف بأنها الجزء الذي لا يتجزأ، وهو متحيّز لا ينقسم لا بالفكّ والقطع، ولا بالوهم والغرض. انظر: الصحائف الإلهيّة للسمرقندي ص 255.

وقال صاحب التعريفات عنها: "والجزء الذي لا يتجزأ: جوهر ذو وضع لا يقبل الانقسام أصلاً، لا بحسب الوهم أو الغرض العقليّ. وتتألف الأجسام من أفراده بانضمام بعضها إلى بعض كما هو مذهب المتكلمين". التعريفات للجرجاني ص 103. وانظر: الإرشاد للجويني ص 17. وأصول الدين للبغدادي ص 33.

4 وهي من الأكوان الأربعة. والأكوان بعض الأعراض؛ كما تقدّم ص 258.

5 وقد نقل عنه تمسّكه بهذه الطريقة - طريقة الأعراض وحدوث الأجسام -، وبناءه عليها، وتأويله للنصوص كي يُوافقها من جاء بعده من أعلام الأشاعرة؛ كابن فورك في المجرد ص 67. والجويني في الإرشاد ص 120. والبغدادي في أصول الدين ص 113. والبيهقي في الأسماء والصفات ص 517، 564. والشهرستاني في نهاية الإقدام ص 304.

ص: 295

وهذه الطريقة أصل ضلال هؤلاء؛ فإنّهم أنكروا المعلوم بالحسّ، والمشاهدة، والضرورة العقليّة؛ من حدوث المحدثات المشهود حدوثها، وادّعوا أنه إنما يُشهد1 حدوث أعراض لا حدوث أعيان، مع تنازعهم في الأعراض. ثمّ قالوا: والأجسام لا تخلو من الأعراض - وهذا صحيح، ثمّ قالوا: والأعراض حادثة. فاضطربوا هنا. ثمّ قالوا: وما لم يخل من الحوادث فهو حادث. وهذا أصل دينهم، وهو أصل فاسد مخالف للسمع والعقل، كما قد بُسط في غير هذا الموضع2.

والمتفلسفة أشدّ مخالفة للعقل والسمع منهم، لكنهم عرفوا فساد طريقتهم هذه العقليّة، فاستطالوا عليهم بذلك، وسلكوا ما هو أفسد منها كطريقة الإمكان والوجوب3؛ كما قد بُسط في موضع آخر4؛

فلبّسوا هذا الباطل بالحقّ الذي جاء به الرسول؛ وهو الاستدلال بحدوث الإنسان وغيره

1 في ((ط)) : شُهد، وما أُثبت من ((خ)) ، و ((م)) .

2 انظر: من كتب شيخ الإسلام: مجموع الفتاوى 6/313، 330. وشرح العقيدة الأصفهانية - ت مخلوف - ص 70. وشرح حديث النزول ص 73، وص 413-420 - محقق -. وكتاب الصفدية 2/163. ودرء تعارض العقل والنقل 8/173. ورسالة في الصفات الاختيارية - ضمن جامع الرسائل 2/31-32 -. والفتاوى المصريّة 6/552-556.

3 تقدّم الكلام على مسلكهم - الوجوب والإمكان - قريباً ص 307.

4 انظر: من كتب شيخ الإسلام: شرح العقيدة الأصفهانية - ت السعوي - ص 331، 442-443. وشرح حديث النزول - محقق - ص 420، 422، 428، 436، 438. والفرقان بين الحق والباطل ص 102. ومنهاج السنة النبوية 1/303-304، 352-359، و3/361-362. ودرء تعارض العقل والنقل 3/336-342، 7/242، 345-352، 8/97، 9/68، 379، و10/316-317. ومجموع الفتاوى 12/590، 13/157. ونقض تأسيس الجهميّة 1/223، ومجموع الرسائل الكبرى 1/329-330، ولابن القيم رحمه: مختصر الصواعق المرسلة 1/197-199، ومفتاح دار السعادة 1/158.

ص: 296

من المحدثات التي يُشهد حدوثها. فصار في كلامهم حق وباطل، من جنس ما أحدثه أهل الكتاب؛ حيث لبسوا الحقّ بالباطل، واحتاجوا في ذلك إلى كتمان الحق - الذي جاء به الرسول - الذي يخالف ما أحدثوه، فصاروا يكرهون ظهور ما جاء به الرسول، بل يمنعون عن قراءة الأحاديث وسماعها، وقراءة كلام السلف وسماعه.

ومنهم من يكره قراءة القرآن وحفظه. والذين لا يقدرون على المنع من ذلك، صاروا يقرأون حروفه، ولا يعلمون حدود ما أنزل الله على رسوله، بل إن اشتغلوا بعلومه اشتغلوا بتفسير من يشركهم في بدعتهم؛ ممّن يُحرّف1 الكلم؛ كلم الله عن مواضعه. والأصل العقليّ الحسيّ الذي به فارقوا العقل والسمع، هو: حدوث ما يُشهد حدوثه؛ مثل حدوث الزرع، والثمار، وحدوث الإنسان، وغيره من الحيوان، وحدوث السحاب، والمطر، ونحو ذلك من الأعيان القائمة بنفسها، غير حدوث الأعراض؛ كالحركة، والحرارة، والبرودة، والضوء، والظلمة، وغير ذلك. بل تلك الأعيان التي يُسمّونها أجساماً وجواهر هي حادثة؛ فإنه معلوم أنّ الإنسان مخلوق من نطفة، ثمّ من علقة، ثمّ من مضغة، وأنّ الثمار تُخلق من الأشجار، وأنّ الزرع تُخلق من الحبّ، والشجر تُخلق من النوى؛ قال

تعالى: {إِنَّ اللهَ فَاْلِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَىْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللهُ فَأَنَّىْ تُؤْفَكُوْنَ فَاْلِقُ الإِصْبَاْحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنَاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاْنَاً ذَلِكَ تَقْدِيْرُ الْعَزِيْزِ الْعَلِيْمِ وَهُوَ الَّذِيْ جَعَلَ لَكُمُ النُّجُوْمَ لِتَهْتَدُوْا بِهَاْ فِيْ ظُلُمَاْتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَاْ الآيَاْتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُوْنَ وَهُوَ الَّذِيْ أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاْحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَاْ الآيَاْتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُوْنَ وَهُوَ الَّذِيْ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاْءِ مَاْءً فَأَخْرَجْنَاْ بِهِ نَبَاْتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَاْ مِنْهُ خَضِرَاً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبَّاً مُتَرَاْكِبَاً وَمِنَ

1 في ((م)) ، و ((ط)) : يُحرّفون.

ص: 297

النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَاْ قِنْوَاْنٌ دَاْنِيَةٌ وَجَنَّاتِ مِنْ أَعْنَاْبِ وَالزَّيْتُوْنَ وَالرُّمَّاْنَ مُشْتَبِهَاً وَغَيْرَ مُتَشَاْبِهٍ أُنْظُرُوْا إِلَىْ ثَمَرِهِ إِذَاْ أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِيْ ذَلِكم لآيَاْتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُوْنَ} 1.

طريقة الجهمية في خلق الإنسان هي تركيب الجواهر لا إحداثها

فهذا الإنسان، والشجر، والزرع المخلوق من مادّة قد خُلق منها عين قائمة بنفسها، [وهم يقولون: إنّما هي من] 2 الجسم3 القائم بنفسه، وهو الجوهر العامّ في اصطلاحهم، الذي يقولون إنّه مُركّبٌ من الجواهر المفردة4. [وهل الذي خُلق من المادّة هو] 5 أعيان، أم لم يخلق إلا أعراض قائمة بغيرها، وأمّا الأعيان فهي الجواهر المفردة، [وتلك لم يُخلق منها] 6 شيء في هذه الحوادث، ولكن أُحدِث فيها جمعٌ وتفريقٌ؛ فكان خلقُ الإنسان وغيره هو تركيب تلك الجواهر، وإحداث هذا التركيب لا إحداث تلك الجواهر. وأمّا حدوث تلك الجواهر فإنّما يُعلم بالاستدلال، فيُستدلّ عليه بأنّ الجواهر التي تركّبت منها هذه الأجسام لا تخلو7 من اجتماع وافتراق، والاجتماع والافتراق حادِث، وما لم يخلُ من الحوادِث فهو حادِث. فهذه طريق هؤلاء الجهميّة أهل الكلام المُحدَث.

وأما جمهور العقلاء فيقولون: بل نحن نعلم حدوث هذه الأعيان القائمة بنفسها، لا نقول أنّه لم يحدث8 إلا عرض؛ فإنّ هذا القول يقتضي

1 سورة الأنعام، الآيات 95-99.

2 ما بين المعقوفتين ليس في ((خ)) ، وهو في ((م)) ، و ((ط)) .

3 في ((خ)) : وهو الجسم. وما أُثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

4 وهذا أحد تعريفات الجوهر عند المتكلمين.

5 ما بين المعقوفتين من ((م)) ، و ((ط)) . وفي ((خ)) :[وهذه الأعيان خلقت من مادّة هي أعيان] .

6 في ((م)) ، و ((ط)) : وتلك منها.

7 في ((خ)) : لا يخلوا. وما أُثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

8 في ((ط)) فقط: لا محدث.

ص: 298

أنّ تلك الجواهر التي رُكّب منها آدم باقية لم يزل في كلّ آدميّ منها شيء. وهذا مكابرة؛ فإنّ بدن آدم لا يحتمل هذا كلّه، لا يحتمل أن يكون فيه جواهر بعدد ذريته، لا سيّما وكلّ آدميّ إنّما خُلق من مني أبويه. وهم يقولون: تلك الجواهر التي في مني الأبوين باقية بأعيانها في الولد. وهم يقولون: إنّ الجواهر لا تفنى، بل تنتقل من حال إلى حال. وكثير منهم يقول إنّها مستغنية عن الربّ بعد أن خلقها. وتحيّروا فيما إذا أراد أن يفنيها: كيف يفنيها؟ كما قد ذُكر في غير هذا الموضع1؛ إذ المقصود هنا التنبيه على أنّ أصل الأصول معرفة حدوث الشيء من الشيء؛ كحدوث الإنسان من المني، فهؤلاء ظنّوا أنه لا يحدث إلا الأعراض2.

ولهذا لمّا ذكر أبو عبد الله بن الخطيب الرازي في كتبه (الكبار والصغار) الطرقَ الدالّة على إثبات الصانع لم يذكر طريقاً صحيحاً، وليس في كتبه وكتب أمثاله طريق صحيح لإثبات الصانع، بل عدلوا عن الطرق العقليّة التي يعلمها العقلاء بفطرتهم؛ وهي التي دلّتهم عليها الرسل، إلى طرق سلكوها

1 وقد بسط شيخ الإسلام رحمه الله الكلام في ذلك في: مجموع الفتاوى 5/421-425، 17/242-260. ودرء تعارض العقل والنقل 3/83-86، 444-446. وشرح الأصفهانية 1/262. ومنهاج السنة النبوية 1/360، 2/139-141، 202، 5/443-444. ودرء تعارض العقل والنقل 1/122-124، 308، 5/195-203، 8/252. وبيان تلبيس الجهمية 1/178، 273.

وذكر الدكتور محمد رشاد سالم رحمه الله في أثناء تحقيقه لكتاب منهاج السنة النبوية 2/141، حاشية رقم (4) أن لابن تيمية رحمه الله كتاباً اسمه:((إبطال قول الفلاسفة بإثبات الجواهر العقلية)) ، ذكره ابن عبد الهادي في كتابه العقود الدرية في مناقب شيخ الإسلام أحمد بن تيمية ص 36، وابن قيم الجوزية في أسماء مؤلفات ابن تيمية ص 20. وهذا الكتاب من كتب شيخ الإسلام المفقودة.

2 في ((خ)) : عرض. وما أُثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

ص: 299

مخالفة للشرع والعقل، لا سيّما من سلك طريقة الوجوب والإمكان متابعة لابن سينا؛ كالرازي، فإنّ هؤلاء من أفسد النّاس استدلالاً كما قد ذكرنا طرق عامّة النّظّار في غير هذا الموضع؛ مثل كتاب منع تعارض العقل والنقل1، وغير ذلك2.

طرق الرازي العقلية في إثبات الصانع

والمقصود هنا أنّ الرازي ذكر أنّ ما يُستدلّ به على إثبات الصانع3؛ إمّا حدوث الأجسام4، وإما حدوث صفاتها5، وإمّا

1 انظر: درء تعارض العقل والنقل 1/38-39، 96-97، 307-308، 3/73، 7/71، 141-142، 242، 382، 8/17-18، 93،، 9/132، 10/260.

2 انظر: من كتب شيخ الإسلام: الاستقامة 1/102. وكتاب الصفدية 2/41-55. ومنهاج السنة النبوية 1/309-310، 315. والفتاوى المصرية 6/644-645. وشرح حديث النزول ص 160-161. والفرقان بين الحق والباطل ص 47. ونقض تأسيس الجهمية 1/141-144، 257-258. والرسالة التدمرية ص 148. ومجموع الفتاوى 6/313، 330،، 12/44.

3 وهذه المسالك جميعها ذكرها الرازي مطوّلة في كتابه نهاية العقول - مخطوط - ق 58/أ 63/أ. وذكرها مختصرة في كتابه الأربعين ص 70. ومعالم أصول الدين - على هامش محصل أفكار المتقدمين - ص 26-29.

4 وهذه هي طريقة الأشعريّة، وعامة من ينفي قيام الأفعال الاختيارية بذات الله تعالى؛ استدلّوا بقيام الأعراض بالأجسام على حدوثها - أي الأجسام -. وقد ذمّها الأشعريّ كما تقدّم لطولها وغموضها. وسيأتي بيان المصنّف لهذه الطريق، والقائلين بها قريباً.

وشيخ الإسلام قد ناقشها وبيّن بطلانها في الكثير من مصنفاته. انظر: شرح الأصفهانيّة - ت السعوي - ص 260-261. ودرء تعارض العقل والنقل 1/96، 307-308، 3/72-87، 5/292-294، 7/229-232.

5 كصيرورة النطفة علقة، ثمّ مضغة، ثمّ إنساناً - في النهاية، وتحوّل الطين إلى آجرّ، ولبن، ثمّ دار - في النهاية. وهذا التحوّل في صفات الأجسام يدلّ على أنّ لها فاعلاً فعلها.

وهذا المسلك ذكره الأشعريّ في كتابه: اللمع ص 6-7، ط مكارثي. وفي رسالة إلى أهل الثغر ص 34-40.

وشيخ الإسلام يرى أنّ هذا المسلك صحيح لو جُرّد من الأمور الباطلة التي أُدخلت فيه. انظر: درء تعارض العقل والنقل 3/83.

ص: 300

إمكانها1، وإمّا إمكان صفاتها2، وذكر في بعض المواضع: وإمّا الإحكام والإتقان3، لكن الإحكام والإتقان يدلّ4 على العلم ابتداءً، والاستدلال بحدوث الأجسام، وإمكانها، وإمكان صفاتها طرق فاسدة؛

1 أي الأجسام.

وهذا المسلك عمدة المتفلسفة؛ كابن سينا وأمثاله. انظر: النجاة لابن سينا ص 383. والرسالة العرشية له ص 2. والتعليقات للفارابي ص 37.

وطريقتهم أنّ الوجود ينقسم إلى واجب وممكن. وكلّ ممكن فلا بُدّ له من واجب.

وهذه الطريقة قد نصّ على ضعفها شيخ الإسلام في العديد من مصنفاته. انظر: درء تعارض العقل والنقل 3/75، 138،، 5/293،، 7/230،، 8/125، 127. ومجموع الفتاوى 1/49. وشرح الأصفهانيّة - ت السعوي - ص 141-145) .

2 وهذا يُعرف بدليل الاختصاص. وقد بنوه على أنّ الأجسام متماثلة، وتخصيص بعضها بالصفات دون بعض يفتقر إلى مخصّص. وقالوا: لا يجوز أن يكون الله تعالى جسماً، ونفوا لأجل ذلك صفتَي العلو والاستواء. وهو مسلك بعض الأشعريّة. انظر: أصول الدين للبغدادي ص69. ونهاية الإقدام للشهرستاني ص 105، 245.

وقد بيّن شيخ الإسلام رحمه الله فساد هذه الطريقة في مواضع عديدة من تصانيفه. انظر: درء تعارض العقل والنقل 5/192-203،، 7/112-114، 10/312-316. ونقض تأسيس الجهمية 1/183) .

وانظر: لهذه الطرق عند الرازي: مجموع الفتاوى 17/246. وشرح الأصفهانية 1/260. ودرء تعارض العقل والنقل 1/307.

3 وهذا المسلك أورده شيخ الإسلام، وبيّن ما فيه من حق وما أدخل سالكوه فيه من باطل. انظر: درء تعارض العقل والنقل 3/128-137.

4 في ((خ)) : تدلّ. وما أُثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

ص: 301

فإنّ [دلالة] 1 حدوثها مبنيّة2 على امتناع حوادث لا أول لها؛ و [دلالة] 3 إمكانها مبنية4 على أنّ ما قامت به الصفات يمتنع أن يكون واجباً بنفسه؛ لأنّه مُركّب؛ و [دلالة] 5 إمكان صفاتها مبنيّة6 على تماثلها، فلا بُدّ لتخصيص7 بعضها بالصفات من مُخصّص. وهذه كلها طرق باطلة.

قال8: وأمّا الاستدلال بحدوث الصفات، فهو الاستدلال بحدوث الأعراض9.

1 ما بين المعقوفتين ليس في ((خ)) ، وهو في ((م)) ، و ((ط)) .

2 في ((خ)) : مبنيّ. وما أثبته من ((م)) ، و ((ط)) .

3 ما بين المعقوفتين ليس في ((خ)) ، وهو في ((م)) ، و ((ط)) .

4 في ((خ)) : مبنيّ. وما أثبته من ((م)) ، و ((ط)) .

5 ما بين المعقوفتين ليس في ((خ)) ، وهو في ((م)) ، و ((ط)) .

6 في ((خ)) : مبنيّ. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

7 كذا في ((خ)) ، و ((م)) . وفي ((ط)) : للتخصيص.

8 القائل هو الباقلاني الذي قصد شيخ الإسلام رحمه الله بتأليفه لكتابه ((النبوات)) الردّ عليه.

وهذه المقولة ليست في كتاب ((البيان عن الفرق بين المعجزات والكرامات)) له، بل هي في كتابه:((شرح اللمع)) وهو غير موجود. وقد نقل عنه شيخ الإسلام رحمه الله في مواضع متفرقة من درء تعارض العقل والنقل.

9 تقدّم أنّ من الأمثلة على حدوث الصفات: صيرورة النطفة علقة، ثمّ مضغة، ثمّ إنساناً. أو: تحوّل القطن إلى غزل مفتول، ثمّ ثوب. أو تحوّل الطين إلى آجر ولبن، ثمّ إلى دار. وهذا التحوّل في هذه الأجسام يدلّ على أنّ لها فاعلاً فعلها. وكذا النطفة: لا بُدّ لها من صانع صنعها، وهو الله تعالى.

وهذا الدليل ذكره الأشعريّ في كتابه: ((اللمع)) ص 6-7 - ط مكارثي.

ثمّ جاء بعده الباقلاني، وشرح كتابه:((اللمع)) ، وحاول أن يُفسّر أقوال الأشعريّ في هذه المسألة ليُقرّب مذهبه؛ فذكر أنّ الأشعريّ أراد تعميم النطفة، لتشمل سائر الأعراض، كما حاول الباقلاني أن يُدلّل على أنّ مسألة (المحدَث لا بُدّ له من محدِث) مسألة نظرية تحتاج إلى برهان. بينما لم يتعرّض الأشعريّ لهذه المسألة لاعتقاده أنها بدهيّة، لا نظريّة.

وقد أطال شيخ الإسلام رحمه الله النَّفَسَ في مناقشة الباقلاني في هذه القضيّة في درء تعارض العقل والنقل 7/304-307، 8/70-88، 106، 300-343. وخلص إلى أنّ ما قرّره الأشعريّ في ((اللمع)) خير ممّا قاله الباقلاني في شرحه لهذا الكتاب.

ص: 302

وهذه الطريق1 أجود ما سلكوه من الطرق مع أنها قاصرة؛ فإنّ مدارها على أنهم لم يعرفوا حدوث شيء من الأعيان، وإنّما علموا حدوث بعض الصفات. وهذا يدلّ على أنّه لا بُدّ لها من محدث2.

قال3: وهذا لا ينفي كون المحدَث جسماً، بخلاف تلك الطرق4.

وهذه الطريق تدلّ على أنّ الأعراض؛ كتركيب الإنسان لا بُدّ له من مُركّب، ولا ينفي بها شيء من قدم الأجسام والجواهر، بل يجوز أن يكون جميع جواهر الإنسان وغيره قديمة أزليّة، لكن حدثت5 فيها الأعراض. ويجوز أن يكون المحدث للأعراض بعض أجسام العالم.

1 أي: الاستدلال بحدوث الصفات.

2 وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله في موضع آخر - أنّ طريقة القرآن هي الاستدلال بحدوث الأعيان والمخلوقات ذاتها؛ من إنسان، وحيوان، وغير ذلك، لا بحدوث الصفات؛ يقول رحمه الله:(الطريقة المذكورة في القرآن هي الاستدلال بحدوث الإنسان وغيره من المحدثات المعلوم حدوثها بالمشاهدة ونحوها على وجود الخالق سبحانه وتعالى، فحدوث الإنسان يستدلّ به على المحدث، لا يحتاج أن يُستدلّ على حدوثه بمقارنة التغيّر أو الحوادث له ووجوب تناهي الحوادث. والفرق بين الاستدلال بحدوثه، والاستدلال على حدوثه بيِّن. والذي في القرآن هو الأول لا الثاني؛ كما قال تعالى: {أَمْ خُلِقُوْا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَاْلِقُوْنَ} [الطور 35] ، فنفس حدوث الحيوان، والنبات، والمعدن، والمطر، والسحاب، ونحو ذلك معلومٌ بالضرورة، بل مشهود لا يحتاج إلى دليل، وإنّما يُعلم بالدليل ما لم يُعلم بالحسّ وبالضرورة) . درء تعارض العقل والنقل 7/219. وانظر: شرح الأصفهانية - ت السعوي - 1/40-41.

3 أي: الباقلاني.

4 كأنّ الباقلاني يرى أنّ هذه الطريق أدلّ على مذهبه - في نفي الصفات خشية التجسيم - من سائر الطرق الأخرى.

5 في ((خ)) : حديث. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

ص: 303

فهذه الطريق لا تنفي أن يكون الربّ بعض أجسام العالم.

وتلك باطلة، مع أنّ مضمونها أنّ الربّ لا يتصف بشيء من الصفات، فهي لا تدلّ على صانع، وإن دلّت على صانع، فليس بموجود، بل معدوم، أو متصف بالوجود والعدم؛ كما قد بُسط في غير موضع1.

ولهذا يقول الرازي في آخر مصنّفاته2: لقد تأمّلتُ الطرق الكلاميّة، والمناهج الفلسفيّة، فما رأيتُها تشفي عليلاً، ولا تروي غليلاً، ورأيتُ أقرب الطرق طريقة القرآن؛ اقرأ في الإثبات:{إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} {الرَّحْمَنُ عَلَىْ الْعرْشِ استَوَىْ} 4، واقرأ في النفي:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شيْءٌ}

1 انظر: درء تعارض العقل والنقل 3/83،، 7/219، 224-232، 300، 304-307،، 8/70-88، 100، 106، 300-343. وشرح العقيدة الأصفهانيّة - ت السعوي - ص 261-262. ومجموع الفتاوى 17/267-270.

2 في كتاب ((أقسام اللذات)) .

وقد صرح شيخ الإسلام رحمه الله بذكر اسمه بقوله: وقد ذكر هذا الإمام لأتباعه أبو عبد الله الرازي في كتابه أقسام اللذات لما ذكر اللذة العقلية، وأنها العلم، وأن أعرف العلوم العلم بالله، لكنه العلم بالذات والصفات والأفعال، وعلى كل واحدة من ذلك عقدة: هل الوجود هو الماهية أم قدر زائد؟ وهل الصفات زائدة على الذات أم لا؟ وهل الفعل مقارن أم محدث؟ ثم قال: ومن الذي وصل إلى هذا الباب، أو ذاق من هذا الشراب! ". بيان تلبيس الجهمية 1/128-129.

وقال الحافظ ابن القيم رحمه الله عن هذا الكتاب: (وهو كتاب مفيد، صنّفه في آخر عمره) . اجتماع الجيوش الإسلامية ص 121.

3 سورة فاطر، الآية 10.

4 سورة طه، الآية 5.

5 سورة الشورى، الآية 11.

ص: 304

{وَلا يُحِيْطُوْنَ بِهِ عِلْمَاً} 1. قال: ومن جرّب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي2.

ولما ذكر الرازي الاستدلال بحدث الصفات3؛ كالحيوان، والنبات، والمطر، ذكر أنّ هذه طريقة القرآن4.

ولا ريب أنّ القرآن يُذكر فيه الاستدلال بآيات الله؛ كقوله: {إِنَّ فِيْ خَلْقِ السَّمَوَاْتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَاْرِ وَالْفُلْكِ الَّتِيْ تَجْرِيْ فِيْ الْبَحْرِ بِمَاْ يَنْفَعُ النَّاْسَ وَمَاْ اَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاْءِ مِنْ مَاْءٍ فَأَحْيَاْ بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَاْ وَبَثَّ فِيْهَاْ مِنْ كُلِّ دَاْبَّةٍ وَتَصْرِيْفِ الرِّيَاْحِ وَالسَّحَاْبِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاْءِ وَالأَرْضِ لآيَاْتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُوْنَ} 5. وهذا مذكورٌ بعد قوله: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاْحِدٌ لا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيْم} 6، وقبل قوله: {وَمِنَ النَّاْسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُوْنِ اللهِ أَنْدَاْدَاً يُحِبُّوْنَهُمْ كَحُبِّ اللهِ} 7.

لكن القرآن لم يذكر أنّ هذه صفات حادثة، وأنّه ليس فيها إحداثُ عين

1 سورة طه، الآية 110.

2 نقل شيخ الإسلام رحمه الله كلام الرازي هذا في الكثير من مصنفاته. انظر: مجموع الفتاوى 4/72-73. ودرء تعارض العقل والنقل 1/159-160. وشرح حديث النزول ص 441. والفتوى الحموية ص15. ومنهاج السنة النبوية 5/271-272. ونقض المنطق ص 60-61. ومعارج الوصول ص 20. والفرقان بين الحق والباطل ص 84. وبيان تلبيس الجهمية 1/128-129.

3 تقدّم ص 351 - 352 أنّ الرازي ذكرها مطوّلة في كتابه نهاية العقول، ومختصرة في كتابه الأربعين.

4 انظر: نهاية العقول للرازي - مخطوط - ق 58/ب.

5 سورة البقرة، الآية 164.

6 سورة البقرة، الآية 163.

7 سورة البقرة، الآية 165.

ص: 305

قائمة بنفسها، بل القرآن يُبيِّن أنّ في خلق الأعيان القائمة بنفسها آيات، ويذكر الآيات في خلق الأعيان والأعراض؛ كقوله:{إِنَّ فِيْ خَلْقِ السَّمَوَاْتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَاْرِ وَالْفُلْكِ الَّتِيْ تَجْرِيْ فِيْ الْبَحْرِ بِمَاْ يَنْفَعُ النَّاْسَ} 1، وهي أعيان. ثمّ قال:[ {وَمَاْ أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاْءِ مِنْ مَاْءٍ} ، والماء عينٌ قائمةٌ بنفسها. وقوله:] 2 {فَأَحْيَاْ بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَاْ} 3؛ هو ما يخلقه فيها من النبات، وهو أعيان. وكذلك قوله:{وَبَثَّ فِيْهاْ مِنْ كُلِّ دَاْبَّة} ، وقوله:{وَتَصْرِيْفِ الرِّيَاْحِ} ؛ فالرياح أعيان، وتصريفها أعراض. وقوله:{وَالسَّحَاْبِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاْءِ وَالأَرْضِ} ، والسحاب أعيان. {لآيَاْتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُوْنَ} 4.

وقد تقدّم5 أنّ أصل الاشتباه في هذا أنّ خلقَ الشيء من مادّة، هل هو خلق عين، أم إحداث اجتماع [و] 6 افتراق وأعراض فقط.

اختلاف الناس في خلق الشيء هل هو خلق عين، أم إحداث اجتماع وافتراق على ثلاثة أقوال

والناس مختلفون في هذا على ثلاثة أقوال7: فالقائلون بالجواهر المفردة8 من أهل الكلام القائلون بأنّ الأجسام مُركّبة من الجواهر الصغار التي قد بلغت من الصغر إلى حدّ لا يتميّز منها جانب عن جانب يقولون: تلك الجواهر باقية تنقّلت في الحوادث، ولكن تعتقب عليها الأعراض الحادثة. والاستدلال بالأعراض على حدوث ما يلزمه من الجواهر، ثمّ

1 سورة البقرة، الآية 164.

2 ما بين المعقوفتين ليس في ((ط)) ، وهو في ((خ)) ، و ((م)) .

3 سورة البقرة، الآية 164.

4 سورة البقرة، الآية 164.

5 انظر: ما تقدم ص 345-351، وما سيأتي ص 1340-1349 من هذا الكتاب.

6 ليست في ((خ)) . وأثبتها من ((م)) ، و ((ط)) .

7 وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله اختلاف الناس وأقوالهم في هذه المسألة.. انظر: منهاج السنة النبوية 2140-142. ومجموع الفتاوى 17243-245. ودرء تعارض العقل والنقل 383-86.

8 تقدم تعريف الجوهر الفرد ص 345.

ص: 306

الاستدلال بذلك على المحدِث، غير الاستدلال بحدوث هذه الأعراض على المحدِث لها؛ فتلك1 هي طريقة الجهميّة المشهورة، وهي التي سلكها الأشعريّ في كتبه كلها متابعة للمعتزلة2، ولهذا قيل: الأشعريّة مخانيث المعتزلة3.

وأما الاستدلال بالحوادث على المحدِث، فهي الطريقة المعروفة لكل أحد4، لكن تسمية هذه أعراضاً هو تسمية القائلين بالجوهر الفرد5، مع

1 أي الاستدلال بحدوث الأعراض على حدوث الجواهر والأجسام، ثمّ الاستدلال بحدوث الجواهر والأجسام على أنّ لها محدِثاً. هذه هي طريقة الجهميّة، ومن تابعهم.

2 انظر: اللمع ص 7، 22 - ط مكارثي -. ورسالة إلى أهل الثغر ص 218-219. والإبانة - ت فوقية - ص 67، 80-81، 102.

3 هذه العبارة يذكرها شيخ الإسلام رحمه الله كثيراً بقوله: قيل. وقد نسبها في الفتاوى 8227 لأبي إسماعيل الأنصاري رحمه الله، أنّه قال:"الأشعريّة الإناث، هم مخانيث المعتزلة". وأحياناً يذكر رحمه الله هذه العبارة بقوله: "فالمعتزلة في الصفات مخانيث الجهميّة".

وأمّا الكلابيّة: فيُثبتون الصفات في الجملة، وكذلك الأشعريّون، ولكنّهم كما قال الشيخ أبو إسماعيل الأنصاري:"الأشعريّة الإناث، وهم مخانيث المعتزلة". انظر: مجموع الفتاوى 14348-349.

أو يذكرها بقوله: "كما قيل: المعتزلة مخانيث الفلاسفة". انظر: مجموع الفتاوى 1231.

4 وهذه طريقة شرعيّة عقليّة؛ فالقرآن مليء بالآيات التي تحثّ على التفكّر والتدبّر في خلق الله للاستدلال به على الخالق. وهو أمرٌ معلوم بضرورة العقل. انظر: مجموع الفتاوى 1425. والرسالة التدمرية ص 20. ومنهاج السنة النبوية 329-30.

5 وهم متأخّروا المعتزلة والأشعريّة. انظر: الفرق بين الفرق للبغدادي ص 328. والمواقف في علم الكلام للإيجي ص165. والصحائف الإلهية للسمرقندي ص255.

ص: 307

أنّ الرازي توقّف في آخر أمره فيه؛ كما ذَكَرَ ذلك في نهاية العقول1. وذُكِر أيضاً عن أبي الحسين البصري2، وأبي المعالي3 أنّهما توقّفا فيه4.

والمقصود أنّ القائلين بالجوهر الفرد يقولون: إنّما أحدث أعراضاً لجمع الجواهر وتفريقها. فالمادّة5 التي هي الجواهر المنفردة باقية عندهم بأعيانها، ولكن أحدث صوراً هي أعراض قائمة بهذه الجواهر6.

1 انظر: نهاية العقول - مخطوط - ق 67أ.

2 هو أبو الحسين؛ محمد بن علي الطيب البصري. ولد في البصرة، ودرس في بغداد على القاضي عبد الجبار. من متأخري المعتزلة، ومن أئمتهم. وقال عنه ابن حجر:"شيخ المعتزلة، ليس بأهل للرواية". مات سنة 436?. انظر: لسان الميزان 5598. وشذرات الذهب 359.

3 الجويني.

4 بل إنّ أكثر طوائف أهل الكلام لم يتكلّموا به. انظر: من كتب ابن تيمية: درء تعارض العقل والنقل 4135-136. والرد على المنطقيين ص 67. ومجموع الفتاوى 12318. ومنهاج السنة النبوية 2211. وتفسير سورة الإخلاص ص 86.

5 المادّة تُسمّى عند المتفلسفة: هيولى. وهي أحد جُزأي الجسم، والجزء الآخر هو الصورة. وكلّ جزء من هذا الجسم محلّه الجزء الآخر. فالصورة صورة للمادة؛ أي أنّها تحلّ بها. والمادّة محلّ للصورة. انظر: التعليقات للفارابي ص 41، 43، 60. والمبين في ألفاظ الحكماء والمتكلمين للآمدي ص 110.

يقول شيخ الإسلام: "التحقيق أنّ المادّة والصورة لفظ يقع على معان؛ كالمادّة والصورة الصناعيّة، والطبيعيّة، والكليّة، والأوليّة. فالأوّل: مثل الفضة إذا جعلت درهماً وخاتماً وسبيكةً، والخشب إذا جُعل كرسيّاً، واللبِن والحجر إذا جعل بيتاً، والغزل إذا نُسج ثوباً، ونحو ذلك. فلا ريب أنّ المادّة هنا التي يُسمّونها الهيولى هي أجسام قائمة بنفسها، وأنّ الصورة أعراض قائمة بها، فتحوُّل الفضة من صورة إلى صورة هو تحوُّلها من شكل إلى شكل، مع أنّ حقيقتها لم تتغيّر أصلاً". درء تعارض العقل والنقل 384.

6 انظر: منهاج السنة النبوية 2139-140.

ص: 308

قول الفلاسفة

وأمّا المتفلسفة فيقولون: أحدث صوراً في موادّ باقية كما يقول هؤلاء، لكن [يقولون] 1: أحدث صوراً هي جواهر في مادّة هي جوهر، وعندهم ثمّ مادّة باقية بعينها، والصور الجوهرية؛ كصورة الماء، والهواء، والتراب، والمولّدات تعتقب عليها2.

أقسام الموجودات عند الفلاسفة

وهذه المادة - عندهم3 - جوهر عقليّ، وكذلك الصورة المجرّدة جوهر عقليّ4، ولكن الجسم مُركّب من المادّة والصورة5، ولهذا قسّموا الموجودات، فقالوا: إما أن يكون الموجود حالا [بغيره] 6، أو محلا، أو مركبا من الحال، والمحل، [أو] 7 لا هذا ولا هذا. فالحال في غيره هو الصورة، والمحلّ هو المادّة، والمركّب منهما هو الجسم، وما ليس كذلك؛ إن كان متعلّقاً بالجسم، فهو النفس، وإلا فهو العقل8.

وهذا التقسيم فيه خطأ كثير من وجوه، ليس هذا موضعها9؛ إذ

1 ملحقة بهامش ((خ)) .

2 انظر منهاج السنة النبوية 1360.

3 أي عند الفلاسفة.

4 انظر كتاب الشفا لابن سينا 361.

5 انظر تهافت الفلاسفة للغزالي ص 163.

6 في ((خ)) : لغيره. وما أثبت من ((م)) و ((ط)) .

7 ليست في ((خ)) وهي في ((م)) و ((ط)) .

8 انظر: كتاب الشفا لابن سينا 372. والتعليقات للفارابي ص 41، 43، 60. وتهافت الفلاسفة للغزالي ص 163. والمبين في شرح ألفاظ الحكماء والمتكلمين للآمدي ص 110. والتعريفات للجرجاني ص 135، 136، 257.

9 وقد بيّن شيخ الإسلام رحمه الله خطأ هذا التقسيم في مواضع متعدّدة من كتبه. انظر: منهاج السنة النبوية 2211. ودرء تعارض العقل والنقل 4146. وبغية المرتاد ص 416. والرد على المنطقيين ص 67. وكتاب الصفدية 2229.

ص: 309

المقصود أنّهم يقولون أيضاً أنّه لم يُحدِث جسماً قائماً بنفسه، بل إنما أحدث صورة في مادّة باقية1.

ولا ريب أنّ الأجسام بينها قدر مشترك في الطول والعرض والعمق، وهو المقدار المجرّد الذي لا يختصّ بجسم بعينه2، ولكنّ هذا المقدار المجرّد هو في الذهن، لا في الخارج؛ كالعدد المجرّد، والسطح المجرّد، والنقطة المجرّدة، وكالجسم التعليميّ3؛ وهو الطويل العريض العميق الذي لا يختصّ بمادّة بعينها4.

1 راجع المصادر المتقدّمة في هامش (6) من الصفحة السابقة.

2 فكلّ جسم له طول، وعرض، وعمق. ولكن هذه الأبعاد لا تُسمّى تركيباً. يقول شيخ الإسلام رحمه الله:"وإذا سمّى مسمّ هذه مركّباً كان إما غالطاً في عقله؛ لاعتقاده اشتمالها على حقيقتين؛ وجودها، وحقيقتها المغايرة لوجودها. أو على حقيقتين؛ ذات قائمة بنفسها معقولة مستغنية عن صفاتها، وصفات زائدة عليها قائمة بها. أو على جواهر منفردة، أو معقولة، أو نحو ذلك من الأمور التي يُثبتها طائفة من الناس ويُسمّونها تركيباً". انظر: درء تعارض العقل والنقل5146.

3 الجسم التعليمي: هو الذي يقبل الإنقسام طولاً وعرضاً وعمقاً، ونهايته السطح، وهو نهاية الجسم الطبيعيّ. ويُسمّى جسماً تعليمياً إذ يُبحث عنه في العلوم التعليميّة؛ أي الرياضيّة الباحثة عن أحوال الكمّ المتصل والمنفصل منسوبة إلى التعليم والرياضة؛ فإنهم كانوا يبتدؤون بها في تعاليمهم ورياضتهم لنفوس الصبيان لأنها أسهل إدراكاً. انظر: التعريفات للجرجاني ص 76.

وانظر: زيادة إيضاح حول هذا الموضوع من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في الجواب الصحيح 4307. وفي درء تعارض العقل والنقل 10290.

4 قال شيخ الإسلام رحمه الله في موضع آخر - عن لفظ الجسم: "

وكذلك النظار، يُريدون بلفظ الجسم تارة المقدار، وقد يُسمونه الجسم التعليمي، وتارة يريدون به الشيء المقدر، وهو الجسمي الطبيعي والمقدار المجرد عن المقدار، كالعدد المجرد عن المعدود، وذلك لا يوجد إلا في الأذهان دون الأعيان، وكذلك السطح والخط والنقطة المجردة عن المحل الذي تقوم به لا يوجد إلا في الذهن

". مجموع الفتاوى 12316-317.

ص: 310

فهذه المادة المشتركة التي أثبتوها هي في الذهن، وليس بين الجسمين في الخارج شيء اشتركا فيه بعينه، فهؤلاء جعلوا الأجسام مشتركة في جوهر عقليّ، وأولئك جعلوها مشتركة في الجواهر الحسيّة. وهؤلاء قالوا: إذا خلق كلّ شيء من شيء، فإنّما أُحدِثت صورة، مع أنّ المادّة باقية بعينها، لكن أفسدت صورة، وكونت صورة. ولهذا يقولون عن ما تحت الفلك: عالم الكون والفساد1.

ولهذا قال ابن رشد2: "إنّ الأجسام المركبة من المادة والصورة هي في عالم الكون والفساد، بخلاف الفَلَك؛ فإنه ليس مركباً من مادة وصورة عند الفلاسفة".

حيرة المتكلمين والفلاسفة في خلق الشيء من مادة

قال3: وإنّما ذكر أنه مركّب من هذا، وهذا: ابن سينا4.

1 انظر: الإرشاد للجويني ص 25، وقد أشار إلى هذا القول للفلاسفة.

2 هو أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن رشد الأندلسي الفيلسوف. ولد سنة 520?. من أهل قرطبة. وهو المعروف بابن رشد الحفيد تمييزاً له عن جدّه شيخ المالكية. عني بكلام أرسطو وترجمه إلى العربية، وزاد عليه زيادات. قرّبه المنصور أولاً، ثمّ اتهمه خصومه بالزندقة والإلحاد، فنفاه إلى مراكش وأحرق بعض كتبه، ثمّ رضي عنه، وأذن له بالعودة، فعاجلته الوفاة بمراكش سنة 595?. من مصنفاته: تهافت التهافت، ومناهج الأدلة. انظر: شذرات الذهب 4320. والأعلام 5318. وسير أعلام النبلاء 21307.

3 أي ابن رشد.

4 تقدمت ترجمته.

ص: 311

[وهؤلاء، وهؤلاء] 1 تحيّروا في خلق الشيء من مادة؛ كخلق الإنسان من النطفة، والحب من الحب، والشجرة من النواة، وظنّوا أنّ هذا لا يكون إلا مع بقاء أصل تلك المادّة؛ إمّا الجواهر عند قوم2، وإمّا المادّة المشتركة عند قوم3. وهم في الحقيقة يُنكرون أن يخلق الله شيئاً من شيء؛ فإنّه عندهم لم يُحدِث إلا الصورة التي هي عرض عند قوم، أو جوهر عقليّ عند قوم. وكلاهما لم يخلق من مادّة، والمادّة عندهم باقية بعينها، لم يخلق، و [لن] 4 يخلق منها شيء.

وقد ذكروا في قوله: {أَمْ خُلِقُوْا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ} 5 ثلاثة أمور:

قال ابن عباس والأكثرون: أم خُلقوا من غير خالق، وهو الذي ذكره6 الخطابي7.

1 كذا وردت في ((خ)) مكرّرة. ولا يوجد التكرار في النسختين الأخريين.

2 وهم المتكلمون. انظر: شرح الأصفهانية 1262. ومجموع الفتاوى 5424-425.

3 وهم الفلاسفة. انظر: منهاج السنة النبوية 1360. وشرح الأصفهانية 1262.

4 في ((خ)) : لم. وما أثبته من ((م)) ، و ((ط)) .

5 سورة الطور، الآية 35.

6 في ((خ)) : ذكر. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

7 هو حمد بن محمد بن إبراهيم بن الخطاب البستي، أبو سليمان. فقيه، مُحدِّث، من أهل بست من بلاد كابل، من نسل زيد بن الخطاب. له معالم السنن في شرح سنن أبي داود، وغريب الحديث، والغنية عن الكلام وأهله. توفي في بست سنة 388 ?. انظر: شذرات الذهب 2127. والبداية والنهاية 11346. والأعلام 2273.

ص: 312

وقال الزجاج1، وابن كيسان2:"أم خلقوا عبثاً وسُدى، فلا يُبعثون، ولا يُحاسبون، ولا يؤمرون، ولا يُنهون؛ كما يقولون: فعلتُ هذا من غير شيء؛ أي: لغير علّة"3.

وقيل: أم خُلقوا من غير مادّة؛ أي: من غير أب وأمّ. ثمّ من هؤلاء من قال: فهم كالجماد. ومنهم من قال: كالسموات؛ ظنّاً منه أنّها خُلقت من غير مادّة. ذكر الأربعة أبو الفرج45.

وذكر البغوي6 الوجهين الأولين7.

1 هو إبراهيم بن السري بن سهل، أبو إسحاق الزجاج. كان فاضلاً ديناً حسن الاعتقاد. وله المصنفات الحسنة، منها كتاب معاني القرآن. مات سنة 311 ?. انظر: البداية والنهاية 11159. وتاريخ بغداد 689.

2 هو محمد بن أحمد بن كيسان النحوي، أحد حفاظه والمكثرين منه. كان يحفظ طريقة البصريين والكوفيين معاً. قال ابن مجاهد: كان ابن كيسان أنحى من الشيخين؛ المبرد وثعلب. توفي سنة 299 ?. انظر: البداية والنهاية 11125. وسير أعلام النبلاء 16329؛ وقد ترجم لولديه، ولم يفرده بترجمة.

3 انظر: معاني القرآن وإعرابه للزجاج 565.

4 هو عبد الرحمن بن علي بن محمد بن علي القرشي البكري الحنبلي. ينتهي نسبه إلى أبي بكر الصديق. قال عنه الذهبي: "الإمام، العلامة، الحافظ، عالم العراق، وواعظ الآفاق". توفي سنة 595 ?. انظر: تذكرة الحفاظ 41342. وسير أعلام النبلاء 21365. وذيل طبقات الحنابلة 1399. وشذرات الذهب 4239.

5 زاد المسير لابن الجوزي 855-56.

6 هو الحسين بن مسعود بن محمد البغوي، صاحب التفسير، وشرح السنة، والتهذيب في الفقه. قال عنه الذهبي: الإمام الحافظ الفقيه المجتهد محيي السنة". وقال عنه ابن كثير: "وكان علامة زمانه فيها، وكان ديناً ورعاً زاهداً عابداً صالحاً". توفي سنة 516 ?. انظر: تذكرة الحفاظ 41257. والبداية والنهاية 12206. وشذرات الذهب 448.

7 انظر: تفسير البغوي المسمى معالم التنزيل 4241.

ص: 313

قول الفلاسفة في المادة

والذي ذكرناه من قول أولئك المتكلمين والفلاسفة معنى آخر؛ وهو: أنّ من قال المادّة باقية بعينها، وإنما حدث عرض، أو صورة، وذلك لم يُخلق من غيره، ولكن أُحدِث في المادّة الباقية. فلا يكون الله خلق شيئاً من شيء؛ لأنّ المادّة عندهم لم تُخلق. أمّا المتفلسفة: فعندهم المادّة قديمة أزليّة باقية بعينها.

قول المتكلمين في الجواهر

وأمّا المتكلّمون: فالجواهر عندهم موجودة، ما زالت موجودة، لكن من قال إنّها حادثة من أهل الملل وغيرهم قالوا: يُستدلّ على حدوثها بالدليل، لا أنّ خلقها معلوم للناس؛ فهو عندهم ممّا يُستدلّ عليه بالأدلة الدقيقة الخفيّة، مع أنّ ما يذكرونه منتهاه إلى أنّ ما لا يخلو عن الحوادِث فهو حادث. وهو دليل باطل. فلا دليل عندهم على حدوثها. وإذا كانت لم تُخلق إذ خُلق الإنسان، بل هي باقية في الإنسان، والأعراض الحادثة لم تخلق من مادّة، فإذا خلق الإنسان لم [يُخلق] 1 من شيء؛ لا جواهره، ولا أعراضه. وعلى قولهم، ما جعل الله من الماء كلّ شيء حيّ، ولا خلق كلّ دابّة من ماء، ولا خلق آدم من تراب، ولا ذريّته من نطفة، بل نفس الجواهر الترابيّة باقية بعينها لم تخلق حينئذ، ولكن أُحدث فيها أعراض، أو صورة حادثة، وتلك الأعراض ليست من التراب. فلمّا خُلق آدم، لم يُخلق شيءٌ من تراب، وكذلك النطفة جواهرها باقية؛ إمّا الجواهر المنفردة، وإمّا المادّة. والحادث هو عرض، أو صورة في مادّة. ولا هذا، ولا هذا خلق من نطفة. وليس قولهم أنّه لم يُخلق من مادّة، معناه أنّ الخالق أبدعه لا من شيء، وأنّهم قصدوا بها تعظيم الخالق، بل الإنسان لا ريب أنّه جوهر قائم بنفسه. وعندهم ذلك القائم بنفسه ما زال موجوداً،

1 في ((ط)) فقط: يخل.

ص: 314

لم يخلق إذ خلق الإنسان. والجوهر الحامل لصورته ما زال موجوداً أيضاً؛ فلم يخلق عند [هؤلاء1 إلا الأعراض] 2، وعند هؤلاء3 إلا صورة مجرّدة.

المخلوق عند المتكلمين والفلاسفة

وكلاهما ليس هو الإنسان، بل صفة له، أو صورة له. هذا هو المخلوق4 عندهم؛ يُخلق الإنسان فقط.

وقد قال تعالى: {أَوَلا يَذْكرُ الإِنْسَاْنُ أَنَّاْ خَلَقْنَاْهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئَاً} 5، وقال تعالى:{وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئَاً} 6. فقد أمر الإنسان أن يتذكّر أنّ الله خلقه ولم يكُ شيئاً. والإنسان إذا تذكرّ إنّما يذكر أنّه خلق من نطفة.

الجواهر والأعراض عند المتكلمين

وعندهم ما زال جواهر الإنسان شيئاً، وذلك الشيء باق، وإنّما حدث أعراض لتلك الأشياء. ومعلوم أنّ تلك الأعراض وحدها ليست هي الإنسان؛ فإنّ الإنسان مأمورٌ، منهيّ، حيّ، عليم، قدير، متكلّم، سميع، بصير، موصوفٌ بالحركة والسكون. وهذه صفات الجواهر، والعرض لا يُوصف بشيء؛ لا سيّما وهم يقولون: العرض لا يبقى زمانين7. فالمخلوق - على قولهم - لا يبقى زمانين، بل يفنى عقِب ما يُخلق.

اضطرابهم في البعث

ولهذا اضطربوا في المعاد؛ فإنّ معرفة المعاد مبنيّة على معرفة المبدأ، والبعث مبنيّ على الخلق. فقال بعضهم: هو تفريق تلك الأجزاء، ثمّ جمعها، وهي

1 أي المتكلمون.

2 في ((خ)) : هؤلاء الأعراض. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

3 أي الفلاسفة.

4 كذا في ((خ)) ، و ((م)) ، و ((ط)) . وفي حاشية ((خ)) كُتب: لعله المراد.

5 سورة مريم، الآية 67.

6 سورة مريم، الآية 9.

7 تقدّمت مقولتهم هذه ص 310.

ص: 315

باقية بأعيانها. وقال بعضهم: بل يُعدمها، ويُعدم الأعراض القائمة بها، ثمّ يُعيدها، وإذا أعادها فإنّه يُعيد تلك الجواهر التي كانت باقية، إلى أن حصلت في هذا الإنسان.

اضطرابهم في جواهر المأكول إذا أُعيدت من الآكل

فلهذا اضطربوا لما قيل لهم: فالإنسان إذا أكله حيوان آخر، فإن أُعيدت تلك الجواهر من الأول، نقصت من الثاني، وبالعكس. أما على قول من يقول إنّها تُفرّق ثمّ تجمع، فقيل له: تلك الجواهر إن جمعت للآكل، نقصت من المأكول، وإن [أُعيدت] 1 للمأكول، نقصت من الآكل2.

وأما الذي يقول: تُعدم ثمّ تُعاد بأعيانها، فقيل له: أتُعدم لما أكلها الآكل، أم قبل أن يأكلها؟ فإن كان بعد أن أكلها؛ فإنّها تُعاد في الآكل، فينقص المأكول. وإن كان قبل الأكل، فالآكل لم يأكل إلا أعراضاً، لم يأكل جواهر. [فهذا] 3 مكابرة. ثمّ إنّ المشهور أنّ الإنسان يبلى ويصير تراباً كما خُلق من تراب، وبذلك أخبر الله. فإن قيل: إنّه إذا صار تراباً عُدمت تلك الجواهر؛ فهو لما خُلق من تراب عُدمت أيضاً تلك الجواهر. فكونهم يجعلون الجواهر باقية في جميع الاستحالات - إلا إذا صار تراباً - تناقضٌ بيِّن، ويلزمهم عليه الحيوان المأكول، وغير ذلك.

وكأنّ هذا الضلال [أصل] 4 ضلالهم في تصوّر الخلق الأوّل، والنشأة

1 في ((ط)) : أعقيدت. وما أثبت من ((خ)) ، و ((م)) .

2 وقد بحث شيخ الإسلام رحمه الله هذه المسألة في مواضع أخرى. انظر: مجموع الفتاوى 17247، 257. وانظر: هذه المسألة في شرح الطحاوية ص 523. وفي لوامع الأنوار 2160.

3 في ((خ)) : وهذا. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

4 في ((خ)) : أصله. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

ص: 316

الأولى التي أمرهم الرب أن يتذكروها ويستدلوا بها على قدرته على الثانية1. قال تعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَاْ تُمْنُوْنَ أَأَنْتُمْ تَخْلُقُوْنَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَاْلِقُوْن نَحْنُ قَدَّرْنَاْ بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَاْ نَحْنُ بِمَسْبُوْقِيْنَ عَلَىْ أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَاْلَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِيْمَاْ لا تَعْلَمُوْنَ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الأُوْلَىْ فَلَوْلا تَذْكُرُوْنَ} 2.

والفلاسفة أجود تصوّراً في هذا الموضع؛ حيث قالوا: تفسد الصورة الأولى وهي جوهر، وتحدث صورة أخرى. فإنّ هذا أجود من أن يُقال: يزول عرض ويحدث عرض.

ولكنّ الفلاسفة غلطوا في توهمهم أنّ هناك مادة باقية بعينها، وإنما تفسد صورتها.

التحقيق في مسألة المادة

والحقّ أنّ المادّة التي منها يُخلق الثاني تفسد، وتستحيل، وتتلاشى، ويُنشئ الله الثانيَ ويبتديه، ويخلق3 من غير أن يبقى من الأول شيء؛ لا مادة، ولا صورة، ولا جوهر، ولا عرض. فإذا خلق الله الإنسان من المني، فالمني استحال وصار علقةً، والعلقة استحالت وصارت مضغةً، والمضغة استحالت إلى عظام وغير عظام. والإنسان بعد أن خُلق، خُلق كلّه؛ جواهره وأعراضه، وابتدأه الله ابتداءً؛ كما قال تعالى:{الَّذِيْ أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنْسَاْنِ مِنْ طِيْنٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاْءٍ مَهِيْنٍ} 4، وقال تعالى:{أَوَلا يَذْكُرُ الإِنْسَاْنُ أَنَّاْ خَلَقْنَاْهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئَاً} 5.

1 أي النشأة الثانية.

2 سورة الواقعة، الآيات 58-62.

3 في ((خ)) : يخلقه. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

4 سورة السجدة، الآيتان 7-8.

5 سورة مريم، الآية 67.

ص: 317

فالإنسان مخلوق، خلق الله جواهره وأعراضه كلّها من المني؛ من مادّة استحالت، ليست باقية بعد خلقه؛ كما تقول المتفلسفة أنّ هناك مادّة باقية1.

ولفظ المادّة مشترك:

فالجمهور يُريدون به ما منه خُلق، وهو أصله وعنصره.

وهؤلاء يُريدون بالمادّة جوهر باق، وهو محلّ للصورة الجوهرية. فلم يُخلق عندهم الإنسان من مادّة، بل المادّة باقية، وأحدث2 صورته فيها؛ كما أنّ الصور الصناعيّة؛ كصورة الخاتم، والسرير، والثياب، والبيوت، وغير ذلك إنّما أحدث الصانع صورته العرضيّة في مادّة لم تزل موجودة ولم تفسد، ولكن حُوِّلَت من صفة إلى صفة. فهكذا تقول الجهميّة المتكلّمة المبتدعة أنّ الله أحدث صورة عرضيّة في مادّة باقية لم تفسد؛ فيجعلون خلق الإنسان بمنزلة عمل الخاتم، والسرير، والثوب.

والمتفلسفة تقول أيضاً: إنّ مادّته باقية لم تفسد؛ كمادّة الصورة الصناعيّة، لكن يقولون: إنّه أحدث صورة جوهريّة. وهم قد يخلطون ولا يفرقون بين الصور العرضيّة والجوهريّة؛ فإنّهم يُسمّون صورة الإنسان صورةً في مادّة، وصورة الخاتم صورةً في مادّة؛ فيكون خلق الإنسان عند هؤلاء وهؤلاء من جنس ما يُحدِثه الناس في الصور من الموادّ، ويكون خلقه بمنزلة تركيب الحائط من اللَّبِن. ولهذا قال من قال منهم: إنّه يستغني عن الخالق بعد الخلق، كما يستغني الحائط عن البَنَّاء.

1 انظر: درء تعارض العقل والنقل 1308،، 5195-203. ومنهاج السنة النبوية 2140.

2 في ((خ)) : وأحدثت. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

ص: 318

والأشعريّة عندهم أنّ البَنَّاءَ، والخيَّاط، وسائر أهل الصنائع لم يُحدِثوا في تلك الموادّ شيئاً؛ فإنّ القدرة المُحدثة - عندهم - لا تتعلّق إلا بما هو في محلّها، لا خارجاً عن محلّها. ويقولون: إنّ تلك المصنوعات كلّها مخلوقة لله، ليس للإنسان فيها صنع.

وخَلْقُ اللهِ على أصلهم: هو إحداث أعراض فيها كما تقدّم1.

فيُنكرون ما يصنعه الإنسان، وهو في الحقيقة مثلما يجعلونه [مخلوقاً] 2 للرحمن، وهم لا يشهدون للرحمن إحداثاً ولا إفناءً، بل إنما يحدث عندهم الأعراض، وهي تفنى بأنفسها، لا بإفنائه، وهي تفنى عقب إحداثها.

إفناء الأعراض والجواهر عند المتكلمين

وهذا لا يُعقل، وهم حائرون؛ إذا أراد أن يُعدم الأجسام، كيف يُعدمها؟. والمشهور - عندهم - أنّها تعدم بأنفسها إذا لم يخلق لها أعراضاً. فالعرض يفني عندهم بنفسه، والجوهر يفني بنفسه إذا لم يخلق له عرض بعد عرض. هذا في الإفناء. وأمّا في الإحداث: فإنّهم استدلوا على حدوثها بدليل باطل، لو كان صحيحاً، للزم حدوث كلّ شيء من غير مُحدِث.

فحقيقة أصل [أهل] الكلام المتبعين للجهمية: أنّه لا يُحدِث شيئاً، ولا يُفني شيئاً، بل يُحدث كلَّ شيءٍ بنفسه، ويُفني بنفسه، ويلزمهم جواز أن يكون الربّ مُحدثاً أيضاً بلا محدث.

وهذه الأصول [هي] 3 أصول دينهم العقلية التي بها يعارضون الكتاب، والسنّة، والمعقولات الصريحة، وهي في الحقيقة لا عقل،

1 انظر: ص 361-367 من هذا الكتاب.

2 في ((خ)) : مخلوقة. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

3 ما بين المعقوفتين ليس في ((خ)) ، وهي في ((م)) ، و ((ط)) .

ص: 319

ولا سمع؛ كما حكى [الله] 1 عن من قال: {لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا في أَصْحَابِ السَّعِير} 2.

والخلق يشهدون إحداث الله لما يحدثه، وإفناءه لما يُفنيه؛ كالمني الذي استحال، وفني، وتلاشى، وأحدث منه هذا الإنسان؛ وكالحبة التي فنيت، واستحالت، وأحدث منها الزرع؛ وكالهواء الذي استحال، وفني، وحدث منه النار أو الماء؛ وكالنار التي استحالت، وحدث منها الدخان. فهو - سبحانه - دائماً يُحدث ما يُحدثه ويكوّنه، ويُفني ما يُفنيه ويُعدمه. والإنسان إذا مات وصار تراباً فَنِي وعُدِم، وكذلك سائر ما على الأرض؛ كما قال:{كُلّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} 3، ثمّ يُعيده من التراب كما خلقه ابتداءً من التراب، ويخلقه خلقاً جديداً.

ولكنْ للنشأةِ الثانية [أحكامٌ] 4 وصفات ليست للأولى.

فمعرفة الإنسان بالخلق الأول، وما يخلقه من بني آدم وغيرهم من الحيوان، وما يخلقه من الشجر والنبات والثمار، وما يخلقه من السحاب والمطر وغير ذلك: هو أصلٌ لمعرفته بالخلق، والبعث بالمبدأ والمعاد، وإن لم يعرف أنّ الله يخلقه كلّه من المنيّ؛ جواهره وأعراضه، وإلا فما عرف أنّ الله خلقه. ومن ظنّ أنّ جواهره لم يخلقها إذ خلقه، بل جواهر المنيّ، وجواهر ما يأكله ويشربه باقية بعينها فيه، لم يخلقها، أو أنّ مادته التي تقوم بها صورته لم يخلقها إذ خلقه، بل هي باقية أزليّة أبديّة، لم يكن قد عرف أنّه مخلوقٌ مُحدَثٌ.

1 ما بين المعقوفتين ليس في ((خ)) ، وهي في ((م)) ، و ((ط)) .

2 سورة الملك، الآية 10.

3 سورة الرحمن، الآية 26.

4 في ((ط)) فقط: أحكاماً.

ص: 320

والعلماء ينكرون على من يقول إنّ روح الإنسان قديمةٌ أزليّة من المنتسبين إلى الإسلام.

وهؤلاء الذين يقولون1 إنّ مادة جسمه باقية بعينها، وهي أزليّة أبديّة، أبعد عن العقل والنقل منهم. وأولئك أنكروا عليهم حيث قالوا:[الإنسان] 2 مركّبٌ من قديمٍ ومحدَثٍ؛ من لاهوتٍ قديم، وناسوتٍ محدَثٍ.

[و] 3 هؤلاء4 جعلوه مركباً من مادة قديمة أزلية، وصورة محدثة، وجعلوا القديم الأزلي فيه أخس ما فيه، وهو المادة؛ فإنّها عندهم أخسّ الموجودات، وهي قديمة أزلية. وأولئك5 جعلوا القديم الأزلي أشرف ما فيه وهي النفس الناطقة. وكلتا الطائفتين وإن كان ضالاً؛ فالشريف العالي أولى بالقدم من الخسيس السافل، وهذا أولى بالحدوث.

وأما المتكلمة الجهمية: فهم لا يتصوّرون ما يشهدونه؛ من حدوث هذه الجواهر في جواهرَ أُخَر من مادة، ثمّ يدّعون أنّ الجواهر جميعها أُبدعت ابتداءً لا من شيء. وهم لم يعرفوا قطّ جوهراً أُحدث لا من شيء، كما لم يعرفوا عرضاً أُحدِث لا في محلّ. وحقيقة قولهم: أنّ الله لا يُحدث شيئاً من شيء؛ لا جوهراً، ولا عرضاً؛ فإنّ الجواهر كلّها أُحدثت لا من شيء، والأعراض كذلك.

1 وهم الفلاسفة المنتسبون للإسلام، والمتكلمون.

2 في ((ط)) فقط: لإنسان.

3 في ((م)) ، و ((ط)) : أو.

4 الذين يقولون: إنّ مادة جسم الإنسان باقية بعينها، وهي أزليّة أبديّة.

5 الذين قالوا: "إنّ روح الإنسان قديمة أزليّة، وإنّ الإنسان مُركّب من لاهوتٍ قديم، وناسوتٍ مُحدَث.

ص: 321

والمشهود المعلوم للناس إنّما هو إحداثه لما يحدثه من غيره، لا إحداثاً من غير مادة، ولهذا قال تعالى:{وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئَاً} 1، ولم يقل خلقتك لا من شيء، وقال تعالى:{وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ} 2، ولم يقل خلق كل دابة لا من شيء، وقال تعالى:{وَجَعَلْنَا مِنَ المَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} 3.

الرد على الجهمية

وهذا4 هو القدرة التي تبهر العقول؛ وهو أن يقلب حقائق الموجودات فيحيل الأول ويُفنيه ويُلاشيه، ويُحدث شيئاً آخر؛ كما قال:{فَالِقُ الحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ وَمُخْرِجُ المَيِّتِ مِنَ الحَيِّ} 5، ويُخرج الشجرة الحية، والسنبلة الحية، من النواة والحبة الميتة، ويخرج النواة الميتة، والحبة الميتة، من الشجرة والسنبلة الحية؛ كما يخرج الإنسان الحي من النطفة الميتة، والنطفة الميتة من الإنسان الحي.

وعندهم6 لا يُخرج حيّاً من ميت، ولا ميتاً من حي؛ فإنّ الحيّ والميت إنّما هو الجوهر القائم بنفسه؛ فإنّ الحياة عرض لا يقوم إلا بجوهر، والعرض نفسه لا يقوم بعرض آخر. وإن كان العرض يوصف بأنّه حيّ؛ كما يقال: قد أحييت العلم والإيمان، وأحييت الدين، وأحييت السنة والعدل؛ كما يقال:[أمات] 7 البدعة.

1 سورة مريم، الآية 9.

2 سورة النور، الآية 45.

3 سورة الأنبياء، الآية 30.

4 هكذا وردت في ((خ)) ، و ((م)) ، و ((ط)) .

5 سورة الأنعام، الآية 95.

6 عند المتكلمة الجهمية.

7 في ((خ)) رسمت هكذا: امه. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

ص: 322

فهؤلاء1 عندهم لا يُخرج جوهراً من جوهر، ولا عرضاً من عرض؛ فلا يُخرج حيّاً من ميت، ولا ميتاً من حيّ، بل الجواهر التي كانت في الميت هي بعينها باقية كما كانت، ولكن أحدث فيها حياة لم تكن.

وتلك الحياة لم تخرج من ميت؛ فما أُخرج عندهم حيّ من ميت، ولا ميت من حي، ولهذا ينكرون أن يقلب الله جنساً إلى جنس آخر، ويقولون: الجواهر كلّها جنس واحد؛ فإذا خلق النطفة إنساناً، لم يقلب عندهم جنساً إلى جنس، بل نفس الجواهر هي باقية كما كانت. وخاصية الخلق إنما هي بقلب جنس إلى جنس، وهذا لا يقدر عليه إلا الله؛ كما قال تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابَاً وَلَو اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبُهُمُ الذُّبَابُ شَيْئَاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالمَطْلُوبُ مَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللهَ لَقَوِيّ عَزِيزٌ} 2.

ولا ريب أنّ النخلة ما هي من جنس النواة، ولا السنبلة من جنس الحبّة، ولا الإنسان من جنس المني، ولا المني من جنس الإنسان. وهو يخرج هذا من هذا، وهذا من هذا؛ فيخرج كلّ جنسٍ من جنسٍ آخر بعيدٍ عن مماثلته3، و {هَذَا خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} 4.

وهو سبحانه إذا جعل الأبيض أسود، أعدم ذلك البياض، وجعل موضعه السواد، لا أنّ الأجسام تعدم تلك المادة [فتحيلها، وتلاشيها، وتجعل] 5

1 المتكلمة الجهمية.

2 سورة الحج، الآية 73، 74.

3 انظر: درء تعارض العقل والنقل 1308، ففيه كلام مماثل لما هنا. وكذا المصدر نفسه 5201.

4 سورة لقمان، الآية 11.

5 في ((خ)) : فيحيلها، ويلاشيها، ويجعل. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

ص: 323

منها هذا المخلوق الجديد، ويخلق الضدّ من ضدّه؛ كما جعل من الشجر الأخضر ناراً، فإذا حك الأخضر بالأخضر، سخن ما يسخنه بالحركة، حتى ينقلب نفس الأخضر فيصير ناراً1. وعلى قولهم ما جعل فيه ناراً، بل تلك الجواهر باقية بعينها، وأُحْدِثَ فيها [عرضٌ] 2 لم يكن.

وخلقُ الشيءِ من غير جنسه أبلغ في قدرة القادر الخالق سبحانه وتعالى؛ كما وصف نفسه بذلك في قوله: {قُل اللَّهُمَّ مَالِكَ المُلْكِ تُؤْتِي المُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ المُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الخَيْر إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ تُولِجُ اللَّيْلَ في النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ في اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ وَتُخْرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَيّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَاب} 3. ولهذا قال للملائكة: {إِنِّي خَالِقٌ بَشَرَاً مِنْ طِين فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} 4، وقال: {أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ فَجَعَلْنَاهُ في قَرَارٍ مَكِينٍ إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ القَادِرُونَ} 5.

ولهذا امتنع اللعين؛كما قال تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَاّ إِبْلِيْسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينَاً} 6، وقال:{لَمْ أَكُنْ لأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُون} 7.

1 كما قال تعالى: {الَّذي جَعَلَ لَكُم مِن الشَّجَر الأخضَرِ ناراً فَإذَا أنتُم منهُ تُوقِدُون} . سورة يس، الآية 80.

والمقصود به ما يُشاهدونه من جعله النّار من العفار والمرخ، وهما شجرتان خضراوان، إذا حكت إحداهما بالأخرى بتحريك الريح لها، اشتعل النار فيها.

انظر: تفسير الطبري 2332. ورسالة إلى أهل الثغر ص 160.

2 في ((ط)) فقط: عرضاً.

3 سورة آل عمران، الآيتان 26-27.

4 سورة ص، الآيتان 71-72.

5 سورة المرسلات، الآية 20-23.

6 سورة الإسراء، الآية 61.

7 سورة الحجر، الآية 33.

ص: 324

وأيضاً: فكون الشيء مخلوقاً من مادّة وعنصر، أبلغ في العبودية من كونه خُلق لا من شيء، وأبعد عن مشابهة الربوبية؛ فإنّ الرب هو أحدٌ، صمدٌ، لم يلد، ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد؛ فليس له أصل وجد منه، ولا فرع يحصل عنه.

فإذا كان المخلوق له أصلٌ وُجد منه، كان بمنزلة الولد له، وإذا خلق له شيء آخر، كان بمنزلة الوالد، وإذا كان والداً ومولوداً كان أبعد عن مشابهة الربوبية والصمدية؛ فإنه خرج من غيره، ويخرج منه غيره؛ لا سيما إذا كانت المادة التي خلق منها مهينة؛ كما قال تعالى:{أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} 1، وقال تعالى {فَلْيَنْظُرِ الإِنْسَانُ مِمَّ خُلِق خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَرَائِبِ إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا نَاصِرٍ} 2.

وفي المسند عن [بسر] 3 بن جحاش4 قال: "بصق رسول الله صلى الله عليه وسلم في كفه، فوضع عليها إصبعه، ثم قال: يقول الله تعالى: ابن آدم أنّى [تُعجزني] 5، وقد خلقتك من مثل هذه، حتى إذا سويتك وعدلتك، مشيتَ بين بردين وللأرض منك وئيد، فجمعتَ، ومنعتَ، حتى إذا بلغت التراقي، قلتَ أتصدَّقُ، وأنّى أوان الصدقة"6.

1 سورة المرسلات، الآية 20.

2 سورة الطارق، الآيات 5-10.

3 في ((خ)) ، و ((م)) ، و ((ط)) : بشر - بالشين المعجمة. وقد قال الدارقطني، وابن زبر، وغيرهما: لا يصحّ بالمعجمة. انظر: الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر 1148.

4 هو بسر بن جِحاش القرشيّ. صحابي، نزل حمص، ومات بها. الإصابة لابن حجر 1148.

5 في ((ط)) فقط: تعج.

6 أخرجه الإمام أحمد في مسنده 4210. وابن ماجه في سننه 1903، وقال في الزوائد: إسناده صحيح.

ص: 325

وكذلك إذا خلق في محلّ مظلمٍ وضيّق؛ كما خلق الإنسان في ظلمات ثلاث، كان أبلغ في قدرة القادر، وأدلّ على عبودية الإنسان، وذلّه لربّه، وحاجته إليه.

وقد يقول [المعيّر] 1 للرجل: مالك أصل ولا فصل2، و [لكنّ] 3 الإنسان أصله التراب، وفصله الماء المهين.

ولهذا لمّا خُلق المسيح من غير أب، وقعت به الشبهة لطائفة4، وقالوا: إنّه ابن الله، مع أنّه لم يُخلق إلَاّ من مادّة أمّه، ومن الروح التي نُفخ فيها؛ كما قال تعالى:{وَمَرْيَمَ ابنَةَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا} 5، [وقال تعالى أيضاً] 6:{فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرَاً سَوِيَّاً قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيَّاً قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ [لأَهَبَ] 7 لَكَ غُلامَاً زَكِيَّاً} 8؛ فما خلق من غير مادة [يكون] 9 كالأب له، قد يظن فيه أنّه ابن الله، وأنّ الله خلقه من ذاته.

1 في ((خ)) رسمت هكذا: المعري. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

2 في مجمع الأمثال للميداني: "لا أصل له ولا فصل". قال الكسائي: "الأصل: الحسب، والفصل: اللسان؛ يعني النطق". مجمع الأمثال 2285. وانظر: اللسان 1117، مادة أصل.

3 ما بين المعقوفتين ليس في ((خ)) ، وهو في ((م)) ، و ((ط)) .

4 المقصود بهم النصارى.

5 سورة التحريم، الآية 12.

6 ما بين المعقوفتين ليس في ((خ)) ، وهو في ((م)) ، و ((ط)) .

7 في ((خ)) : ليهب.

8 سورة مريم، الآيات 17-19.

9 في ((م)) ، و ((ط)) : تكون.

ص: 326

فلهذا كانت الأنبياء مخلوقة من مادة لها أصول، ومنها فروع، لها والد ومولود. والأحد الصمد: لم يلد، ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد.

وحدوث الشيء لا من مادة، قد يُشبه حدوثه من غير رب خالق، وقد يُظنّ أنّه حَدَثَ من ذات الرب؛ كما قيل مثل ذلك في المسيح، والملائكة أنّها بنات الله، لمّا لم يكن لها [أب] 1، مع أنّها مخلوقة من مادّة؛ كما ثبت في الصحيح؛ صحيح مسلم عن عائشة: أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "خلقت الملائكة من نور، وخلق الجان من مارج من نار، وخلق آدم ممّا وُصف لكم"2.

ولمّا ظنّ طائفة أنّها لم تُخلق من مادة، ظنّوا أنّها قديمة أزلية. وأيضاً فالدليل الذي احتجّ به كثيرٌ من النّاس على أنّ كُلّ حادث لا يحدث إلا من شيء، أو في شيء؛ فإن كان عرضاً لا يحدث إلَاّ [في] 3 محلّ، وإن كان عيناً قائمة بنفسها لم [تحدث] 4 إلَاّ من مادة، فإنّ الحادث إنّما يحدث إذا كان حدوثه ممكناً، وكان يقبل الوجود والعدم، فهو مسبوق بإمكان الحدوث وجوازه، فلا بُدَّ له من محلّ يقوم به هذا الإمكان والجواز.

وقد تنازعوا في هذا: هل الإمكان صفة خارجية، لا بُدّ لها من محلّ، أو هي حكم عقلي لا يفتقر إلى غير الذهن؟

1 في ((خ)) : أبا. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

2 الحديث أخرجه الإمام مسلم في صحيحه 42294. والإمام أحمد في مسنده 6153، 168.

3 في ((خ)) : من. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

4 في ((خ)) : يحدث. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

ص: 327

الإمكان نوعان

والتحقيق: أنّه نوعان: فالإمكان الذهني: وهو تجويز الشيء، أو عدم العلم بامتناعه، محلّه الذهن. والإمكان الخارجي المتعلق بالفاعل، أو المحل؛ مثل أن [تقول] 1: يمكن القادر أن يفعل، والمحل؛ مثل أن [تقول] 2: هذه الأرض يمكن أن تزرع، وهذه المرأة يمكن أن تحبل. [و] 3 هذا لا بُدّ له من محلّ خارجيّ، فإذا قيل عن الربّ: يمكن أن يخلق؛ فمعناه أنّه يقدر على ذلك، ويتمكّن منه. وهذه صفة قائمة به.

وإذا قيل: يمكن أن يحدث حادث؛ فإن قيل يمكن حدوثه بدون سبب حادث، فهو ممتنع، وإذا كان الحدوث لا بُدّ له من سبب حادث؛ فذاك السبب إن كان قائماً بذات الرب، فذاته قديمةٌ أزليّةٌ، واختصاص ذلك الوقت بقيام مشيئةٍ، أو تمام تمكّنٍ، ونحو ذلك، لا يكون إلا لسببٍ قد أحدثه قبل هذا في غيره، فلا يحدث حادثٌ مبايِنٌ إلَاّ مسبوقاً بحادثٍ مباينٍ له.

فالحدوث مسبوقاً بإمكانه، ولا بُدّ لإمكانه من محلّ، ولهذا لم يذكر الله قط أنّه أحدث شيئاً إلا من شيء. والذي يقول إنّ جنس الحوادث حدثت لا من شيء، هو كقولهم: إنها حدثت بلا سبب حادث، مع قولهم إنّها كانت ممتنعة، ثم صارت ممكنة، من غير تجدّد سبب، بل حقيقة قولهم أنّ الربّ صار قادراً بعد أن لم يكن، من غير تجدّد شيءٍ يُوجِب ذلك.

وهذه الأمور كلّها من أقوال الجهمية؛ أهل الكلام المحدَث المبتَدَع المذموم، وهو بناء على قولهم: إنّه تمتنع حوادث لا أوّل لها. وهؤلاء وأمثالهم غلطوا فيما جاء به الشرع، وأخبرت به الرسل؛ كما غلطوا في المعقولات؛ فكلّ واحدٍ ممّا يُسمّى شرعاً، وعقلاً، وسمعاً، قد وقع فيه اشتباه.

1 في ((خ)) : يقول. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

2 في ((خ)) : يقول. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

3 ما بين المعقوفتين ليس في ((خ)) ، وهو في ((م)) ، و ((ط)) .

ص: 328

معنى الشرع

فالشرع يطلق تارة على ما جاء به الرسول؛ من الكتاب والسنة. هذا هو الشرع المنزل، وهو الحق الذي ليس لأحد خلافه، ويُطلق على ما يضيفه بعض الناس إلى الشرع إمّا بالكذب والافتراء، وإما بالتأويل والغلط، وهذا شرع مبدل لا منزّل ولا يجب، بل ولا يجوز اتباعه.

لفظ السنة

وكذلك لفظ السنة: فإنّ السنّة التي يجب اتباعها هي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والسنة تُذكر في الأصول والإعتقادات، وتُذكر في الأعمال والعبادات. وكلاهما يدخل فيما أخبر به وأمر به؛ فما أخبر به وجب تصديقه فيه، وما أوجبه وأمر به وجبت طاعته فيه.

ثم كثيرٌ من الناس يُضيف إلى السنّة ما أدخله بعض الناس فيها؛ إمّا بالكذب، وإما بالتأويل؛ مثل أحاديث كثيرة ضعيفة، بل موضوعة، واستدلالات بأقواله على ما لا يدلّ عليه، ومثل أقوال أحدثها قوم انتسبوا إلى السنة في بعض الأمور؛ مثل إثبات الصفات، والقدر؛ فإنّ [المنتسبين] 1 لذلك يُضافون إلى السنة؛ لأنّ نفاة الصفات، والقدر مبتدعة.

وكذلك حب الخلفاء الراشدين، وموالاتهم يضاف أهله إلى السنّة؛ لأنّ الطاعنين فيهم أهل بدعة.

ومثل الإستدلال بالنصوص على موارد النزاع؛ فإنّ أهل ذلك يُضافون إلى السنّة؛ لكونهم يقصدون اتباع القرآن والحديث، والمخالفون لذلك الذين يردّون الأخبار الصحيحة، أو لا يحتجّون بالقرآن مبتدعون.

ثم قد يقول المضافون إلى السنّة أشياء ليست من السنة؛ مثل أحاديث كثيرة يروونها في فضائل بعض الصحابة، وهي كذب؛ ومثل [نفي] 2

1 في ((خ)) : المنتبين. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

2 في ((ط)) فقط: تقى.

ص: 329

الحكمة والأسباب في مسائل القدر؛ ومثل كلامهم في الأجسام والاعراض، وتناهي الحوادث، ونحو ذلك ممّا لم يأخذوه عن الرسول. فهذا ليس من السنّة، وإن كان أهلها وافقوا السنة في مواضع خالفهم [فيها] 1 من تنازعهم في هذه المسائل.

فلا يجب إذا كانوا أصابوا حيث وافقوا السنة، أن يُصيبوا حيث لم يوافقوها.

وكذلك مسمى العقل؛ فإنّ مسمّى العقل قد مدحه الله في القرآن في غير آية2.

لكن لمّا أحدث قومٌ من الكلام المبتدَع المخالِف للكتاب والسنّة - بل وهو في نفس الأمر مخالفٌ للمعقول، وصاروا يُسمّون ذلك عقليّات، وأصولَ دين، وكلاماً في أصول الدين، صار من عَرَفَ أنّهم مبتدعة ضُلاّل في ذلك ينفر عن جنس المعقول، والرأي، والقياس، والكلام، والجدل. فإّذا رأى من يتكلّم بهذا الجنس اعتقده مبتدِعاً مبطلاً؛

وهؤلاء وهؤلاء أدخلوا في مسمى الشرع والعقل ما هو محمود وما هو مذموم

كما أنّ هؤلاء3 لمّا رأوا أنّ جنس المنتسبين إلى السنّة والشرع والحديث قد أخطأوا في مواضع، وخالفوا فيها صريح المعقول، وهم يقولون إنّ السنّة جاءت بذلك، صار هؤلاء ينفرون عن جنس ما يُستدلّ في الأصول بالشرع والسنّة،

1 في ((خ)) : فيه. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

2 قال تعالى: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [سورة الملك، الآية 10] . وقال تعالى: {وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [سورة البقرة، الآية 73] . وقال تعالى: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [سورة العنكبوت، الآية 43] . وقال تعالى: {لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ} [سورة الزمر، الآية 43] .

3 المتفلسفة.

ص: 330

ويُسمّونهم حشويّة وعامّة1. وكلّ من هؤلاء، وهؤلاء أدخلوا في مسمّى الشرع والعقل والسمع ما هو محمود ومذموم.

[ثمّ هؤلاء قبلوا من مسمّى الشرع والسنّة عندهم محموده ومذمومه، وخالفوا مسمّى العقل محموده ومذمومه]2. وأولئك قبلوا مسمّى العقل عندهم محموده، ومذمومه، [وخالفوا مسمّى الشرع محموده ومذمومه] 3.

1 الحشو من الكلام: الفضل الذي لا يعتمد عليه. وكذلك هو من الناس؛ فحشوة الناس: رذالتهم. انظر: لسان العرب 14180. وتهذيب اللغة 5137-138.

وقال شيخ الإسلام رحمه الله: "مسمّى الحشو في لغة الناطقين به ليس هو اسماً لطائفة معينة لها رئيس قال مقالة فاتبعته؛ كالجهمية، والكلابيّة، والأشعريّة، ولا اسماً لقولٍ معين من قاله كان كذلك. والطائفة إنما تتميز بذكر قولها، أو بذكر رئيسها

- إلى أن قال: - وإذا كان كذلك، فأوّل من عُرف أنّه تكلّم في الإسلام بهذا اللفظ: عمرو بن عبيد رئيس المعتزلة؛ فقيههم وعابدهم، فإنّه ذُكر له عن ابن عمر شيء يُخالف قوله، فقال: كان ابن عمر حشوياً؛ نسبه إلى الحشو، وهم العامّة والجمهور. وكذلك تُسمّيهم الفلاسفة كما سمّاهم صاحب هذا الكتاب - يعني الرازي -. والمعتزلة ونحوهم يُسمّونهم الحشوية. والمعتزلة تعني بذلك كلّ من قال بالصفات وأثبت القدر. وأخذ ذلك عنها متأخرو الرافضة، فسمّوا هم الجمهور بهذا الاسم. وأخذ ذلك عنهم القرامطة الباطنية فسمّوا بذلك كل من اعتقد صحة ظاهر الشريعة؛ فمن قال عندهم بموجب الصلوات الخمس، والزكاة المفروضة، وصوم رمضان، وحج البيت، وتحريم الفواحش والمظالم والشرك ونحو ذلك، سمّوه حشوياً؛ كما رأينا ذلك مذكوراً في مصنفاتهم. والفلاسفة تُسمّي من أقرّ بالمعاد الجسمي والنعيم الحسّي حشوياً. وأخذ ذلك عن المعتزلة تلامذتهم من الأشعريّة فسمّوا من أقرّ بما ينكرونه من الصفات، ومن يذمّ ما دخلوا فيه من بدع أهل الكلام والجهميّة والإرجاء حشوياً. ومنهم أخذ ذلك هذا المصنّف" - يعني الرازي -. بيان تلبيس الجهميّة 1242، 244-245.

وانظر: كلام شيخ الإسلام ابن تيمية عن لفظ ((الحشوية)) في منهاج السنة النبوية 2520-522. ومجموع الفتاوى 487، 89، 146،، 3186،، 12176.

2 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) .

3 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) .

ص: 331

فيجب البيان والتفصيل والاستفسار، وبيان الفرقان بين الحق والباطل؛ فإنّ ذلك يوجب التصديق بما جاء به الشرع المنزّل، والسنّة الغرّاء؛ وهو المعقول الحقّ؛ وهو الكلام الصدق؛ وهو الجدل بالتي هي أحسن؛ ويُوجب ردّ ما أُدخل في الشرع والسنّة، وليس منها؛ وردّ ما سُمّي معقولاً، وهو باطل؛ وسُمّي كلاماً صدقاً، وهو كذب؛ وسُمّي جدلاً بالتي هي أحسن، وهو جدل بالباطل بغير علم.

ولهذا حصل من الذين لبسوا الحقّ بالباطل تبديل لما بدّلوه من الدين، وتحريف الكلم عن مواضعه، ومضاهاة لأهل الكتاب ممّا ذمهم الله عليه. والبخاري في أول كتاب ((خلق أفعال العباد)) : ذكر الردّ على المعطّلة الذين يُبدّلون كلام الله من الجهميّة، وذكر من كلام السلف والأئمة فيهم ما عُرِف به مقصودهم1.

التبديل نوعان

والتبديل نوعان: أحدهما: أن يُناقضوا خبره. والثاني: أن يُناقضوا أمره. فإنّ الله بعثه بالهدى ودين الحق، وهو صادقٌ فيما أخبر به عن الله، آمرٌ بما أمر الله به؛ كما قال:{مَنْ يُطِعِ الرَّسُوْلَ فَقَدْ أَطَاْعَ اللهَ} 2. وأهل التبديل [الذين يُضيفون إلى دينه وشرعه ما ليس منه، وهم أهل الشرع المبدّل] 3: تارةً يُناقضونه في خبره؛ فينفون ما أثبته، أو يُثبتون ما نفاه؛

1 وكتابه رحمه الله قسمه إلى جزئين؛ الأوّل منهما في ذكر كلام السلف والأئمة؛ وابتدأه ببابٍ سمّاه: باب ما ذكر أهل العلم للمعطلة الذين يريدون أن يُبدّلوا كلام الله عز وجل. انظر: ص 7-24. وأمّا الجزء الثاني فقد أفرده للردّ على الجهميّة، وابتدأه ببابٍ سمّاه: باب الردّ على الجهميّة وأصحاب التعطيل. انظر: ص 71 وما بعدها.

2 سورة النساء، الآية 80.

3 ما بين المعقوفتين ملحقة بهامش ((خ)) .

ص: 332

كالجهميّة الذين ينفون ما أثبته من صفات الله وأسمائه؛ والقدريّة الذين ينفون ما أثبته من قدر الله ومشيئته وخلقه وقدرته؛ والقدرية المجبرة الذين ينفون ما أثبته من عدل الله وحكمته ورحمته، ويُثبتون ما نفاه من الظلم والعبث والبخل ونحو ذلك عنه. وأمثال ذلك.

ومسائل أصول الدين عامّتها من هذا الباب.

الذين أوجبوا النظر لإثبات الصانع

ثمّ إنّهم أيضاً يُوجبون ما لم يُوجبه، بل حرّمه، ويُحرّمون ما لم يُحرّمه، بل أوجبه؛ فيوجبون اعتقاد هذه الأقوال والمذاهب المناقضة لخبره، وموالاة أهلها، ومعاداة من خالفها. ويُوجبون النظر المعيّن في طريقهم الذي أحدثوه؛ كما أوجبوا النظر في دليل الأعراض الذي استدلّوا به على حدوث الأجسام1، وقالوا: يجب على كلّ مكلّف أن ينظر فيه ليحصل له العلم بإثبات الصانع2،

1 وهذا نظر مخصوص؛ يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في موضع آخر: "جعلوا ذلك نظراً مخصوصاً؛ وهو النظر في الأعراض، وأنّها لازمة للأجسام، فيمتنع وجود الأجسام بدونها". مجموع فتاوى ابن تيمية 16329.

2 يقول الماتريديّ عن الله جلّ وعلا: "لا سبيل إلى العلم به إلا من طريق دلالة العالَم عليه بانقطاع وجوه الوصول إلى معرفته من طريق الحواس عليه، أو شهادة السمع". التوحيد للماتريدي ص 129.

وقد أورد شيخ الإسلام رحمه الله طريقة المتكلمين في إثبات الصانع، فقال:"قالوا: لأنّه لا يعرف بالنظر والاستدلال المفضي إلى العلم بإثبات الصانع، قالوا: ولا طريق إلى ذلك إلا بإثبات حدوث العالم. ثمّ قالوا: ولا طريق إلى ذلك إلا بإثبات حدوث الأجسام، قالوا: ولا دليل على ذلك إلا الاستدلال بالأعراض، أو ببعض الأعراض؛ كالحركة والسكون، أو الاجتماع والافتراق؛ وهي الأكوان؛ فإنّ الجسم لا يخلو منها، وهي حادثة، وما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث....".

ثمّ ذكر رحمه الله ذمّ السلف لهذه الطريقة، واللوازم التي تلزم سالكيها، فقال:"وهذه الطريقة هي أساس الكلام الذي اشتهر ذم السلف والأئمة له، ولأجلها قالوا بأنّ القرآن مخلوق، وأنّ الله لا يُرى في الآخرة، وأنه ليس فوق العرش، وأنكروا الصفات. والذامون لها نوعان: منهم من يذمها لأنها بدعة في الإسلام؛ فإنّا نعلم أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يدع الناس بها، ولا الصحابة؛ لأنها طويلة مخطرة كثيرة الممانعات والمعارضات، فصار السالك فيها كراكب البحر عند هيجانه. وهذه طريقة الأشعري في ذمّه لها، والخطابي، والغزالي، وغيرهم ممن لا يُفصح ببطلانها. ومنهم من ذمها لأنها مشتملة على مقامات باطلة لا تحصل المقصود، بل تناقضه. وهذا قول أئمة الحديث وجمهور السلف". كتاب الصفدية 1274-275.

ص: 333

قالوا: لأنّ معرفة الله واجبة،

ولا طريق إليها إلا هذا النظر وهذا الدليل1.

الرسول لم يوجب النظر

ولما علم كثيرٌ من موافقيهم2 أنّ الاستدلال بهذا الدليل لم يُوجبه الرسول، خالفوهم في إيجابهم، مع موافقتهم لهم على صحته3.

والتحقيق ما عليه السلف؛ أنّه ليس بواجب أمراً، ولا هو صحيح خبراً، بل هو باطلٌ منهيّ4 عنه شرعاً؛ فإنّ الله تعالى لا يأمر بقول الكذب والباطل، بل ينهى عن ذلك. لكن غلطوا حيث اعتقدوا أنّه حقّ، وأنّ الدين لا يقوم إلا على هذا الأصل الذي أصّلوه.

1 يقول أبو حامد الغزالي: "من لا يعتقد حدوث الأجسام، فلا أصل لاعتقاده في الصانع أصلاً". تهافت الفلاسفة ص 197.

وانظر: الإرشاد للجويني ص 8-9. والفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم 435. ورسالة السجزي ص 198.

وقد ناقش شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله هذه المسألة ونقل كلام بعض من ردّ على هذا القول، أو تبنّاه.

انظر: درء تعارض العقل والنقل 7352-445.

2 في ((خ)) : موافقتهم. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

3 ومن هؤلاء: أبو الحسن الأشعريّ في رسالته إلى أهل الثغر ص 186. والخطابي في الغنية عن الكلام وأهله - انظر: نقض تأسيس الجهمية 1254، والغزالي في فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة ص 127. وغيرهم.

4 في ((ط)) : منهم. وما أثبت من ((خ)) ، و ((م)) .

ص: 334

الذين ضلوا عن طريق الرسول صلى الله عليه وسلم

كما أنّ طوائف من أهل العبادة، والزهد، والإرادة، والمحبة، والتصوف سلكوا طرقاً1 ظنّوا أنّه لا يُوصل إلى الله إلا بها. ثمّ منهم من يوجبها ويذمّ من لم يسلكها، ومنهم من لم ير أنّ سالكيها أفضل من غيرهم، ويوسع الرحمة؛ لأنّه قد علم أنّ الرسول والصحابة لم يأمروا بها النّاس، مع اعتقادهم أنّها طرق صحيحة موصلة إلى رضوان الله. وهي عند التحقيق طرق مضلّة إنّما توصل إلى رضى الشيطان، وسخط الرحمن؛ كالعبادات التي ابتدعها ضلاّل أهل الكتاب والمشركين، وخالفوا بها دين المرسلين؛ فهؤلاء في الأحوال البدعيّة، وأولئك في الأقوال البدعيّة.

والقول الحقّ هو القرآن، والحال الحق هو الإيمان؛ كما قال جندب2، وابن عمر:"تعلّمنا الإيمان، ثمّ تعلّمنا القرآن، فازددنا إيماناً"3.

وفي الصحيحين عن أبي موسى، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال: "مَثَلُ المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأُترجّة طعمها طيّب، وريحها طيّب. ومثل المؤمن الذي

1 كسلوك الصوفيّة للكشف، والوجد، والذوق، وجعل ذلك أساساً للمعرفة؛ فلا تنال حقائق الأمور عندهم إلا بهذه الطرق التي تُعدّ السبيل الأوحد - لديهم - لتحصيل المعارف، ودرك العلوم. وقد نبذوا لأجل هذه الطرق الكتاب والسنّة، بل وعارضوهما بها، وقدموها عليهما. انظر: تفصيل ذلك في كتاب المصادر العامة للتلقي عند الصوفية - عرضاً ونقداً - لصادق سليم صادق -.

2 ابن عبد الله بن سفيان البجليّ. صحابي. مات بعد الستين. انظر: تقريب التهذيب 1166.

3 أخرجه ابن ماجه في السنن 123، وكذا أخرجه الخلال في السنة 554، وأشار محققه إلى أنّ إسناده حسن. وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه 116.

ص: 335

لا يقرأ القرآن مثل التمرة طعمها طيّب، ولا ريح لها. ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة ريحها طيّب، وطعمها مُرّ. ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن مثل الحنظلة طعمها مرّ، ولا ريح لها"1.

الناس أربعة أصناف

فالنّاس أربعة أصناف: صاحب قول قرآنيّ، [وحال إيمانيّ؛ فهم أفضل الخلق. وصاحب قول قرآني] 2، وحال ليس بإيمانيّ. وصاحب حال إيمانيّ، وليس له قول. ومن ليس له لا قول قرآنيّ، ولا حال إيمانيّ.

وكثيرٌ من المنتسبين إلى القول، والكلام، والعلم، والنظر، والفقه، والاستدلال ابتدعوا أقوالاً تُخالف القرآن. وكثيرٌ من المنتسبين إلى العمل، والعبادة، والإرادة، والمحبّة، وحسن الخلق، والمجاهدة ابتدعوا أحوالاً وأعمالاً تُخالف الإيمان، وصار مع كلّ طائفة نوعٌ من الحقّ الذي جاء به الرسول، لكن ملبوسٌ بغيره. وصار كثيرٌ من الطائفتين يُنكر ما عليه الأخرى مطلقاً؛ كما قالت اليهود ليست النصارى على شيء، وقالت النصارى ليست اليهود على شيء3.

1 الحديث أخرجه البخاري في الصحيح عن أبي موسى 41917، كتاب فضائل القرآن، باب فضل القرآن على سائر الكلام،، و52070، كتاب الأطعمة، باب ذكر الطعام، و62748، كتاب التوحيد، باب قراءة الفاجر والمنافق وأصواتهم وتلاوتهم لا تجاوز حناجرهم. ومسلم في صحيحه 1549، كتاب صلاة المسافرين، باب فضيلة حافظ القرآن.

2 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) .

3 يشير إلى قوله تعالى حاكياً عن اليهود والنصارى: {وَقَاْلَتِ الْيَهُوْدُ لَيْسَتِ النَّصَاْرَى عَلَىْ شَيْءٍ وَقَاْلَتِ النَّصَاْرَى لَيْسَتِ الْيَهُوْدُ عَلَىْ شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُوْنَ الْكِتَاْبَ كَذَلِكَ قَاْلَ الَّذِيْنَ لا يَعْلَمُوْنَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَاْمَةِ فِيْمَاْ كَاْنُوْا فِيْهِ يَخْتَلِفُوْنَ} سورة البقرة، الآية 113.

ص: 336

وفي كلّ من الطائفتين شَبَهٌ من إحدى1 الأمتين؛ ففي المنتسبين إلى العلم إذا لم يُوافقوا العلم النبويّ ويعملوا به شَبَهٌ من اليهود2. وفي أهل العمل إذا لم يُوافقوا العمل الشرعيّ، ويعملوا بعلمٍ شَبَهٌ من النّصَارى34. وصار كثيرٌ من أهل الكلام والرأي يُنكرون جنس محبّة الله، وإرادته؛ [كما صار كثيرٌ من أهل الزهد، والتصوّف يُنكر جنس العلم، والكلام، والنظر. وأولئك الذين أنكروا محبّة الله وإرادته] 5، بَنَوْا ذلك على أصل لهم للقدريّة المجبرة6، والنافية؛ وهو: أنّ المحبّة، والإرادة، والرضا، والمشيئة شيءٌ واحدٌ، ولا يتعلّق ذلك إلا بمعدوم؛ وهو إرادة الفاعل أن يفعل ما لم يكن فَعَلَه؛ فاعتقدوا أنّ المحبّة، والإرادة لا تتعلّق إلا بمعدوم. فالموجود لا يُحَبّ، ولا يُراد. والقديم الأزليّ لا يُحَبّ، ولا يُراد. والباقي لا يُحَبّ، ولا يُراد؛ فأنكروا أن يكون الله محبوباً، أو مُراداً7. وهم لإنكار

1 في ((ط)) ، و ((م)) : أحد. وما أثبت من ((خ)) .

2 الذين عرفوا الحق، فلم يعملوا به، بل عملوا بخلافه.

3 الذين لم يعرفوا الحقّ، فعملوا على جهالة.

4 قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "ولهذا كان السلف؛ سفيان بن عيينة وغيره يقولون: إنّ من فسد من علمائنا ففيه شبه من اليهود. ومن فسد من عُبّادنا ففيه شبه من النصارى". اقتضاء الصراط المستقيم 167. وانظر: درء تعارض العقل والنقل 869-70. ومجموع الفتاوى 8197.

5 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) .

6 في ((ط)) : للقدرية والمجبرة. وهو خطأ. وما أثبت من ((خ)) ، و ((م)) .

7 ففسّروا محبّة العبد لربه بأنّها إرادة العبادة له، وإرادة التقرب إليه، ولم يُثبتوا أنّ العبد يُحبّ الله. انظر: قاعدة في المحبة لابن تيمية ص 51.

ص: 337

كونه يُحِبّ أبلغ وأبلغ؛ فلا يُثبتون إلا مشيئته أن يخلق فقط، وهي لا تتعلّق إلا بمعدوم. فأمّا أن يُحِبّ موجوداً من خَلْقِه، فهذا باطل عند الطائفتين1. لكنّ المجبرة يقولون: محبّته هي مشيئته، وقد شاء خَلْقَ كلّ شيء، فهو يُحِبّ كلّ شيء2. والنفاة يقولون: محبّته هي إرادته إثابة المطيعين؛ وهي مشيئة خاصّة3.

والذي جاء به الكتاب والسنّة، واتفق عليه سلف الأمة، وعليه مشايخ المعرفة، وعموم المسلمين: أنّ الله يُحِبّ، ويُحَبّ؛ كما نطق بذلك الكتاب والسنّة في مثل قوله:{يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّوْنَهُ} 4، ومثل قوله:{وَالَّذِيْنَ آمَنُوْا أَشَدُّ حُبَّاً لِلَّهِ} 5، وقوله:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّوْنَ اللهَ فاتَّبِعُوْنِيْ يُحْبِبْكُمُ اللهُ} 6.

لا يُحبّ لذاته محبة مطلقة إلا الله وحده

بل لا شيء يُستحقّ أن يُحَبّ لذاته محبّة مطلقة إلا الله وحده. وهذا من معنى كونه معبوداً7؛ فحيث جاء القرآن بالأمر بالعبادة، والثناء على أهلها، أو على المنيبين إلى الله، والتوّابين إليه، أو الأوّابين، أو المطمئنّين بذكره، أو المحبين له، ونحو ذلك: فهذا كلّه يتضمّن محبته. وما لا يُحَبّ يمتنع8

1 القدرية المجبرة، والقدرية النافية على السواء في ذلك.

2 نقل ذلك عنهم القاضي عبد الجبار المعتزلي في المحيط بالتكليف ص 408.

3 انظر: المغني في أبواب التوحيد والعدل لعبد الجبار 63، 4، 5. وانظر: منهاج السنة النبوية 5388.

4 سورة المائدة، الآية 54.

5 سورة البقرة، الآية 165.

6 سورة آل عمران، الآية 31.

7 إذ العبادة تتضمّن معنى الحبّ، ومعنى الذلّ؛ فهي تتضمّن كما قال شيخ الإسلام رحمه الله في موضع آخر:(غاية الذلّ لله، بغاية المحبّة له) . انظر: العبودية ص 6.

8 في ((م)) ، و ((ط)) : ممتنع.

ص: 338

كونه معبوداً، ومألوهاً، [و] 1 مُطْمَأَنَاً بذكره. ومن أُطيع لعوضٍ يُؤخذ منه، أو لدفع ضرره، فهذا ليس بمعبود ولا إله، بل قد يكون الشخص كافراً، وظالماً يُبغَض، ويُلعَن، ومع هذا يُعمل معه عمل بعوض. فمن جعل العمل لله لا يكون إلا لذلك، فلم يُثبت الربّ إلهاً معبوداً، ولا ربّاً محموداً، وهو حقيقة قول النفاة من الجهميّة، والقدريّة النافية، والمثبتة. والله سبحانه [وتعالى] 2 رغَّب في عبادته، والعمل له بما ذكره من الوعد، ورهَّب من الكفر به، والشرك بما ذكره من الوعيد، وهو حقّ، لكنّه لم يقل إنّ العابد لله، والعامل له لا يحصل له إلا ما ذُكِرَ، بل وقد قال تعالى:{فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَاْ أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} 3. وفي الحديث الصحيح يقول الله تعالى: "أعددتُ لعبادي الصالحين ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ذُخْراً، بله ما أطلعتهم عليه. اقرؤوا إن شئتم: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَاْ أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاْءً بِمَاْ كَاْنُوْا يَعْمَلُوْنَ} 4 5. وقد ثبت في [الحديث] 6 الصحيح عن صهيب، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "يقول الله: يا أهل الجنّة ! إنّ لكم عندي موعداً أُريد أن أُنجزكموه. فيقولون: ما هو؟ ألم [تُبَيِّض] 7 وجوهنا، وتثقل موازيننا، وتُدخلنا الجنّة، وتُجرنا من النّار؟

1 في ((خ)) : أو. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

(وتعالى) ليست في ((خ)) ، وهي في ((م)) ، و ((ط)) .

3 سورة السجدة، الآية 17.

4 سورة السجدة، الآية 17.

5 أخرجه البخاري في صحيحه 41794، كتاب التفسير، باب قوله:{فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَاْ أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} الآية. ومسلم في صحيحه 42174-2175، كتاب الجنة وصفة نعيمها. وأحمد في مسنده 2313، 416.

6 ما بين المعقوفتين ملحق في ((خ)) بين السطرين.

7 في ((م)) ، و ((ط)) : تنتضر.

ص: 339

قال: فيَكشفُ الحجاب، فينظرون إليه، فما أعطاهم شيئاً أحبّ إليهم من النّظر إليه، وهي الزيادة"1.

وفي الحديث الذي رواه النسائي: لمّا صلّى عمّار، فأوجز، وقال: دعوتُ في الصلاة بدعاء سمعته من النبيّ صلى الله عليه وسلم: "اللهمّ بعلمك2 الغيبَ، وقدرتك على الخلق أحيني ما كانت الحياة خيراً لي، وتوفّني إذا كانت الوفاة خيراً لي. اللهمّ إنّي أسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وكلمة الحقّ في الغضب والرضا، والقصد في الفقر والغنى، وأسألك نعيماً لا ينفد، وقُرّة عينٍ لا تنقطع. وأسألك الرضا بعد القضاء، وأسألك برد العيش بعد الموت، وأسألك لذّة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك، من غير ضرّاء مُضرّة، ولا فتنة مُضلّة. اللهمّ زيِّنَّا بزينة الإيمان، واجعلنا هداةً مهتدين"3. وروي نحوَ هذا من وجه آخر4؛ فقد أخبر الصادق المصدوق أنّه لم يُعطَ

1 الحديث أخرجه مسلم في صحيحه 1163، كتاب الإيمان، باب إثبات رؤية المؤمنين في الآخرة ربهم سبحانه وتعالى. وأحمد في المسند 4332، 333. والترمذي في جامعه 4687، كتاب صفة الجنة، باب في رؤية الرب تبارك وتعالى. وابن ماجه في سننه 167؛ في المقدمة، حديث رقم (187) . كلّهم أخرجوه بألفاظ مقاربة للّفظ الذي ساقه المصنّف.

2 في ((خ)) : بعملك. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

3 أخرجه النسائي في سننه 354-55، كتاب السهو، باب نوع آخر في الدعاء بعد الذكر، رقم (62) . وأحمد في المسند 4264. والحاكم في المستدرك 10524-525، وصححه، ووافقه الذهبي. وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي 1280-281، رقم 1237-1238.

4 من رواية زيد بن ثابت رضي الله عنه؛ كما في مسند الإمام أحمد 5191.

وهو حديث طويل، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم:".... أسألك اللهم الرضا بعد القضاء، وبرد العيش بعد الممات، ولذةَ نظرٍ إلى وجهك، وشوقاً إلى لقائك، من غير ضرّاء مضرّة، ولا فتنة مُضلّة..".

وقد صرّح شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى 8356 أنّه يقصد بهذا الوجه رواية زيد بن ثابت رضي الله عنه هذه.

ص: 340

أهلُ الجنّة أحبّ إليهم من النظر إليه. وسُنّ أن يُدعى بلذة النظر إلى وجهه الكريم. وأهل الجنّة قد تنعّموا من أنواع النّعيم بالمخلوقات بما هو غاية النّعيم، فلمّا كان نظرهم إليه أحبّ إليهم من كلّ أنواع النّعيم، عُلم أنّ لذّة النّظر إليه أعظم عند أهل الجنّة من جميع أنواع اللَّذَّات.

الذين أنكروا محبة الله حزبان الحزب الأول

والجنّةُ فيها ما تشتهي الأنفس، وتلذّ الأعين؛ فما لذّت أعينهم بأعظم من لذّتها بالنظر إليه. واللّذّة تحصل بإدراك المحبوب، فلو لم يكن أحبّ إليهم من كلّ شيء، [ما كان النظر إليه أحبّ إليهم من كلّ شيء] 1، وكانت لذّته أعظم من كلّ لذّة. والله تعالى وعد عباده المؤمنين بالجنّة؛ وهي اسمٌ لدارٍ فيها جميع أنواع اللّذّات المتعلقة بالمخلوق، وبالخالق؛ كما أنّ النّار اسمٌ لدارٍ فيها أنواع الآلام، لكن غلط من ظنّ أنّ التنعيم بالنظر إليه ليس من نعيم أهل الجنّة. وصار هؤلاء حزبين: حزباً أنكروا التنعيم بالنظر إليه؛ وهم المنكرون للمحبّة2؛ حتى قال أبو المعالي3 ونحوه ممّن يُنكر محبّته أنّهم إذا رأَوْه لم يلتذوا بنفس النظر، بل يخلق لهم لذّة ببعض المخلوقات مع

1 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) .

2 قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: "والمنكرون لرؤيته من الجهميّة والمعتزلة تُنكر هذه اللذة. وقد يُفسّرها من يتأوّل الرؤية - بمزيد العلم - على لذة العلم به؛ كاللذة التي في الدنيا بذكره، لكن تلك أكمل. وهذا قول متصوفة الفلاسفة والنفاة؛ كالفارابي، وأبي حامد، وأمثاله، فإنّ ما في كتبه من الإحياء وغيره من لذة النظر إلى وجهه هو بهذا المعنى". منهاج السنة النبوية 5390. وانظر: درء تعارض العقل والنقل 762-78.

3 الجويني.

ص: 341

النّظر1. وكذلك قال من شاركهم في التجهّم؛ من أهل الوحدة2؛ كابن عربي؛ قال: ما التذّ عارفٌ بمشاهدة قطّ3. وادّعى أبو المعالي أنّ إنكار محبّته من أسرار التوحيد4. وهو من أسرار توحيد الجهميّة المعطّلة المبدّلة. وحُكِيَ عن ابن عقيل أنّه سمع رجلاً يقول: أسألك لذّة النظر إلى وجهك الكريم. فقال له: هَبْ أنّ له وجهاً، أله وجهٌ يُلتذّ بالنظر إليه5. وهذا بناءً على هذا الأصل؛ فإنّه وشيخه أبا يعلى، ونحوهما وافقوا الجهميّة في إنكار أن يكون الله محبوباً، واتّبعوا في ذلك قول أبي بكر بن الباقلاني6 ونحوه ممّن يُنكر محبّة الله، وجعل القول بإثباتها قول الحلوليّة7.

1 انظر: العقيدة النظامية للجويني ص 39. والإرشاد له ص 171. وقواعد العقائد للغزالي ص 171-172.

وانظر: توضيح هذه المسألة في كتب شيخ الإسلام التالية: مجموع الفتاوى 8345، 10695. ومنهاج السنة 5391-392. والاستقامة 298.

2 وحدة الوجود. تقدّم تعريفها 328.

3 لم أعثر عليه في مظانّه.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "والفلاسفة تُثبت اللذّة العقليّة، وأبو نصر الفارابي وأمثاله من المتفلسفة يُثبت الرؤية لله، ويُفسّرها بهذا المعنى". منهاج السنة النبوية 5388-400.

4 انظر: مجموع الفتاوى 8345، 10 695. ودرء تعارض العقل والنقل 665-77 - فقد ردّ فيه على من أنكر لذّة النظر إلى وجه الله سبحانه وتعالى.

5 انظر: مجموع الفتاوى 8355، 10695. ومنهاج السنة النبوية 5392. والاستقامة 298.

6 يقول الباقلاني: "واعلم أنّه لا فرق بين الإرادة، والمشيئة، والاختيار، والرضى، والمحبّة، على ما قدّمنا. واعلم أنّ الاعتبار في ذلك كلّه بالمآل لا بالحال". الانصاف للباقلاني ص 69.

7 انظر: مجموع الفتاوى 10697. ومنهاج السنة النبوية 5392.

ص: 342

الحزب الثاني

[والحزب الثاني] 1 أنّ طائفة من الصوفيّة والعبّاد شاركوا هؤلاء في أنّ مسمّى الجنّة لا يدخل فيه النظر إلى الله. وهؤلاء لهم نصيب من محبّة الله تعالى والتلذّذ بعبادته، وعندهم نصيب من الخوف والشوق والغرام، فلمّا ظنّوا أنّ الجنّة لا يدخل فيها النظر إليه، صاروا يستخفّون بمسمّى الجنّة، ويقول أحدهم: ما عبدتُك شوقاً إلى جنّتك، ولا خوفاً من نارك2.

وهم قد غلطوا من وجهين:

الرد عليهم من وجهين

أحدهما: أنّ ما يطلبونه من النظر إليه والتمتع بذكره ومشاهدته، كلّ ذلك في الجنّة.

الثاني: أنّ الواحد من هؤلاء لو جاع في الدنيا أياماً، أو أُلقي في بعض عذابها، طار عقله، وخرج من قلبه كلّ محبّة.

ولهذا قال سمنون3:

1 في ((م)) ، و ((ط)) : الجواب الثاني.

2 نقل الغزالي عن معروفٍ الكرخيّ نحواً من هذه المقالة؛ أنّه عبد الله لا خوفاً من ناره، ولا شوقاً إلى جنّته، بل حُبّاً له. انظر: إحياء علوم الدين 4287.

ونقل الغزالي أيضاً عن أبي سليمان الدارانيّ قوله: (إنّ لله عباداً ليس يشغلهم عن الله خوف النّار، ولا رجاء الجنّة) . إحياء علوم الدين 4287.

ونقل الغزالي أيضاً قول الثوريّ لرابعة العدويّة: (ما حقيقة إيمانك؟ قالت: ما عبدتُه خوفاً من ناره، ولا حبّاً لجنّته..) . إحياء علوم الدين 4287.

والنقول في ذلك عن الصوفيّة كثيرة جداً.

وانظر: مجموع الفتاوى 10240، 699. والاستقامة 2104، 105.

3 هو سمنون بن حمزة، أبو الحسن الخواص. موسوس في آخر عمره، وله كلام في المحبّة مستقيم، وسمّى نفسه سمنون الكذّاب. توفي سنة 298?. انظر: البداية والنهاية 11123. وطبقات الصوفيّة ص 195. وحلية الأولياء 10309. وسير أعلام النبلاء 17441، 651.

ص: 343

وليس لي في سواك حظٌّ

فكيفما شئتَ فامْتحنّي

ابتلي بعسر البول، فصار يطوف على المكاتب ويقول: ادعوا لعمّكم الكذّاب1.

وأبو سليمان2 لمّا قال: قد أُعطيتُ من الرضا نصيباً لو ألقاني في النّار لكنتُ راضياً3، ذُكِرَ أنّه ابتُليَ بمرض، فقال: إن لم يُعافني وإلا كفرتُ، أو نحو هذا.

والفضيل بن عياض ابتُلي بعسر البول، فقال:"بحبّي لك إلا فرّجتَ عنّي4. فَبَذَلَ حبّه في عسر البول".

فلا طاقة لمخلوق بعذاب الله، ولا غنى به عن رحمته.

1 انظر: كتاب نتائج الأفكار القدسيّة 1160، وذكر فيه بيتاً آخر زيادة على الذي أورده المصنّف، وهو قوله:

إن كان يرجو سواك قلبي

لانلتُ سُؤلي، ولا التمنّي

وانظر: أيضاً: حلية الأولياء 10309-310. وإحياء علوم الدين للغزالي 4141 ومجموع الفتاوى 10241، 690. والبداية والنهاية 11123.

2 هو أبو سليمان عبد الرحمن بن أحمد بن عطية العنسي الدارانيّ - نسبة إلى داريّا؛ قرية من قرى دمشق، له كلام في الزهد. توفي سنة 215?. انظر: حلية الأولياء 9254. وطبقات الصوفية ص 75. وسير أعلام النبلاء 10182.

3 هذه الكلمة رواها أبو نعيم بسنده عن أبي سليمان في حلية الأولياء 9163. وكذا أسندها القشيريّ في رسالته 2246. وانظر: مجموع الفتاوى 10241، 689.

4 أوردها القشيريّ في رسالته 2623. وانظر: مجوع الفتاوى 10691.

ص: 344

وقد قال النبيّ صلى الله عليه وسلم لرجلٍ: "ما تدعو في صلاتك؟ ". قال: أسأل اللهَ الجنّة، وأعوذ به من النّار، أما أنّي لا أُحسن دندنتك، ولا دندنة معاذ. فقال:"حولها ندندن"1.

ودَخَلَ على أعرابيّ قد صار مثل الفَرْخ، فقال:"هل كنتَ تدعو الله بشيء؟ ". قال: كنتُ أقول: اللهمّ ما كنتَ معاقبي به في الآخرة، فعجّله [لي] 2 في الدنيا. فقال:"سبحان الله! إنّك لا تستطيعه، ولا تُطيقه، [هلاّ] 3 قلتَ: اللهمّ آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النّار"4.

والعدوان في الإرادة، والعبادة، والعمل حصل من إعراضهم عن العلم الشرعيّ، واتّباع الرسول، وقد قال تعالى:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّوْنَ اللهَ فَاتَّبِعُوْنِيْ يُحْبِبْكُمُ اللهُ} 5.

1 أخرجه أحمد في المستد 3474. وأبو داود في السنن 1501، كتاب الصلاة، باب في تخفيف الصلاة، رقم 792. وابن ماجه في السنن 1295، كتاب إقامة الصلاة، باب ما يُقال في التشهد، والصلاة على النبيّ صلى الله عليه وسلم، رقم 910. وصحّح النوويّ إسناده في الأذكار 1197، والألباني في صحيح سنن أبي داود 1150، وفي صحيح سنن ابن ماجه 1150، وفي تخريج أحاديث الكلم الطيب 103.

2 في ((خ)) : له. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

3 في ((خ)) : هل لا. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

4 أخرجه الإمام مسلم في صحيحه 42068-2069، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب كراهية الدعاء بتعجيل العقوبة في الدنيا. والإمام أحمد في مسنده 3107، مع اختلاف يسير في بعض ألفاظ الحديث.

5 سورة آل عمران، الآية 31.

ص: 345

قال بعضهم: ليس الشأن في أن تُحبّه، الشأنُ في أن يكونَ هو يُحِبُّكَ1. وهو إنّما يُحِبُّ من اتَّبع الرسول، وإلا فالمشركون وأهل الكتاب يدّعون أنّهم يُحبُّونه، وأولئك2 غلطوا [بنفي] 3 محبّته، وهؤلاء4 أثبتوا محبّة شركيّة، لم يثُبتوا محبّة توحيديّة خالصة5، وقد قال تعالى: {وَمِنَ النَّاْسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُوْنِ اللهِ أَنْدَاْدَاً يُحِبُّوْنَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِيْنَ آمَنُوْا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} 6.

أقسام الناس في المحبة

فالأقسام ثلاثة7: أولئك8 معطّلة للمحبّة، وحقيقة قولهم تعطيل العبادة مطلقاً. وهؤلاء9 مشركون في المحبّة؛ فهم مشركون في العبادة. أولئك مستكبرون عن عبادته، والكبر لليهود. وهؤلاء مشركون في عبادته، والشرك للنصارى.

لفظ الإسلام

وكلّ واحدٍ من المستكبرين والمشركين ليسوا مسلمين، بل الإسلام هو الاستسلام لله وحده. ولفظ الإسلام يتضمّن الإسلام، ويتضمّن

1 نقله ابن كثير في تفسيره 1358 عند تفسيرقوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّوْنَ اللهَ فَاتَّبِعُوْنِيْ} [آل عمران 31] وقال: عن بعض العلماء والحكماء.. ولم يعزه لأحد.

2 أي الجهميّة، ومن تبعهم من أهل الكلام..

3 ليست في ((خ)) . وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

4 أي الصوفيّة.

5 وقد قال عنهم شيخ الإسلام رحمه الله: "لكنهم قصروا في الأمر والنهي، والوعد والوعيد، وأفرطوا حتى غلا بهم إلى الإلحاد، فصاروا من جنس المشركين".

مجموعة الرسائل والمسائل 4300.

6 سورة البقرة، الآية 165.

7 انظر: بيانها في مجموع الفتاوى 1082، 683، 684.

8 أي الجهميّة ومن تبعهم من المتكلمين.

9 أي الصوفيّة.

ص: 346

إخلاصه لله1. وقد ذكر ذلك غير واحدٍ، حتى أهل العربيّة؛ كأبي بكر ابن الأنباري2، وغيره.

ومن المفسرين من يجعلهما قولين؛ كما يذكر طائفة منهم البغويّ أنّ المسلم هو: المستسلم لله. وقيل: هو المخلص3.

والتحقيق: أنّ المسلم يجمع هذا وهذا؛ فمن لم يستسلم له، لم يكن مسلماً؛ ومن استسلم لغيره كما يستسلم له، لم يكن مسلماً؛ ومن استسلم له وحده، فهو المسلم؛ كما في القرآن:{بَلَىْ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُوْنَ} 4، وقال:{وَمَنْ أَحْسَنُ دِيْنَاً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاْهِيْمَ حَنِيْفَاً وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْرَاْهِيْمَ خَلِيْلاً} 5.

والاستسلام له يتضمّن الاستسلام [لقضائه] 6، وأمره، [ونهيه] 7؛ فيتناول فعل المأمور، وترك المحظور، والصبر على المقدور: {إِنَّهُ مَنْ

1 انظر: مجموع الفتاوى 8623، 635، 1014. والجواب الصحيح 631. وجامع الرسائل 2254.

2 هو أبو بكر محمد بن القاسم بن محمد بن بشار الأنباري. ولد في الأنبار سنة 271 ?. من أعلم أهل زمانه بالآداب واللغة. كان حافظاً للشعر والأخبار، كان يحفظ ثلاثمائة ألف بيت شاهد في القرآن. توفي في بغداد سنة 328?. انظر: طبقات النحويين ص 171. والأعلام 6334.

3 تفسير البغوي 1106.

4 سورة البقرة، الآية 112.

5 سورة النساء، الآية 125.

6 في ((خ)) : لخلقه. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

7 ليست في ((خ)) ، وهي في ((م)) ، و ((ط)) .

ص: 347

يَتَّقِ وَيَصْبِرُ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيْعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِيْنَ} 1.

قال ابن أبي حاتم2: حدثنا عصام3 بن [رواد][حدثنا] 5 آدم6، عن أبي جعفر7، عن الربيع، عن أبي العالية8 في قوله:{بَلَىْ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ} 9؛ يقول: من أخلص لله. قال ابن أبي حاتم: وروي عن الربيع

1 سورة يوسف، الآية 90.

2 هو أبو محمد عبد الرحمن بن محمد بن إدريس بن المنذر بن مهران التميمي الرازيّ. ولد سنة240?، ورحل في طلب الحديث إلى البلاد مع أبيه وبعده، وصنّف التصانيف، من جملتها: كتاب السنة، والتفسير، وكتاب الرد على الجهمية، وفضائل الإمام أحمد. توفي 327 ?. انظر: سير أعلام النبلاء 13263. وطبقات الحنابلة 255. وشذرات الذهب 2308-309. وطبقات الشافعية للسبكي 3324-328.

3 هو عصام بن رواد بن الجراح العسقلاني.

انظر: الجرح والتعديل 726. وميزان الاعتدال 366. ولسان الميزان 4167) .

4 في ((ط)) : وران. وما أثبت من ((خ)) ، و ((م)) ، وتفسير ابن أبي حاتم.

5 في ((خ)) : ثنا. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

6 هو آدم بن أبي إياس العسقلاني. توفي سنة 220 ?.

انظر: الجرح والتعديل 2268. وتهذيب التهذيب 1196) .

7 هو عيسى بن عبد الله بن ماهان الرازي.

انظر: الجرح والتعديل 5227. وميزان الاعتدال 2404. وتهذيب التهذيب 5176.

8 هو رفيع بن مهران البصري، أبو العالية الرياحي. توفي سنة 93 ?.

انظر: الجرح والتعديل 3510. وسير أعلام النبلاء 4207. وتهذيب التهذيب 3284.

9 سورة البقرة، الآية 112.

ص: 348

نحو ذلك1. وقال: ذُكِرَ عن يحيى بن آدم2، حدثنا ابن المبارك3، عن حيوة بن شريح4، عن عطاء بن دينار5، عن سعيد بن جبير6: {مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ} ، قال: دينه7.

1 تفسير ابن أبي حاتم 1237. وأخرجه ابن جرير 1493. وابن كثير 1222. وانظر: الدر المنثور 1108. وفتح القدير 1120.

وقال محقق تفسير ابن أبي حاتم عن رجال هذا الإسناد: "يُحتجّ بروايتهم، لكنّ أبا العالية يُرسل كثيراً، ورواية أبي جعفر الرازي عن الربيع بن أنس مضطربة". تفسير ابن أبي حاتم 128، 35، 42. فالأثر في سنده اضطراب.

2 هو يحيى بن آدم بن سليمان الأموي، أبو زكريا الكوفي، توفي سنة 203 ?.

انظر: الجرح والتعديل 9128. وتهذيب التهذيب 11175، 580، 584.

3 هو عبد الله بن المبارك بن واضح الحنظلي التميمي مولاهم. ولد سنة 118?، وتوفي سنة 181. أحد الأئمة الحفاظ.

انظر: تذكرة الحفاظ 1284. وتهذيب التهذيب 5382.

4 هو حيوة بن شريح بن صفوان التجيبي، أبو زرعة المصري. توفي سنة 158 ?.

انظر: الجرح والتعديل 3306. وتهذيب التهذيب 369.

5 هو عطاء بن دينار الهذلي، مولاهم المصري. توفي سنة 126?. له مراسيل عن سعيد بن جبير. انظر: الجرح والتعديل 6332. وميزان الاعتدال 369. وتهذيب التهذيب 7198.

6 هو سعيد بن جبير بن هشام الأسدي الوالبي مولاهم، أبو محمد. تابعي ثقة، أخذ العلم في التفسير عن ابن عباس، وقتله الحجاج سنة 95 ?، ومات بعده بأيام.

انظر: الجرح والتعديل 49. والثقات 4275. وتهذيب التهذيب 411.

7 تفسير ابن أبي حاتم 1337-338.

وقال محقق تفسير ابن أبي حاتم أيضاً: رجال إسناده ثقات، لكن رواية عطاء - التفسير - عن سعيد بن جبير مرسلة؛ حيث لم يأخذ عنه مباشرة، وإنما وجد صحيفة عن سعيد، فاكتتبها.

ص: 349

وقال أبو الفرج1: "أسلم: أخلص. وفي الوجه قولان: أحدهما: أنّه الدين، والثاني: العمل"2.

وقال البغوي: {أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ} : أخلص دينه لله، وقيل: أخلص عبادته لله، وقيل: خضع وتواضع لله، وأصل الإسلام: الاستسلام والخضوع، وخُصّ الوجه لأنّه إذا جاد بوجهه في السجود، لم يبخل بسائر جوارحه. {وَهُوَ مُحْسِنٌ} في عمله، قيل: مؤمنٌ، وقيل: مُخلصٌ3.

قلت: قول من قال: خضع وتواضع لربّه، هو داخلٌ في قول من قال: أخلص دينه، أو عمله، أو عبادته لله؛ فإنّ هذا إنّما يكون إذا خضع له وتواضع له دون غيره؛ فإنّ العبادة والدين والعمل له لا يكون إلا مع الخضوع له والتواضع، وهو مستلزمٌ لذلك. ولكنّ أولئك4 ذكروا مع هذا أن يكون هذا الإسلام لله وحده؛ فذكروا المعنيَيْن: الاستلزام، وأن يكون لله.

حقيقة دين االإسلام

[و] 5 قول من قال: خضع وتواضع لله، يتضمّن أيضاً أنّه أخلص عبادته ودينه لله؛ فإنّ ذلك يتضمّن الخضوع والتواضع لله دون غيره. وأمّا ذكره [التوجه] 6: فقد بُسط الكلام عليه في غير هذا الموضع7، وتبيّن أنّ الله ذكر إسلام الوجه له، وذكر إقامة الوجه له في قوله: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ

1 ابن الجوزي.

2 زاد المسير (تفسير ابن الجوزي)1133.

3 تفسير البغوي 1106.

4 الذين فسّروا إسلام الوجه بإخلاص الدين أو العبادة أو العمل.

5 ليست في ((ط)) ، وهي في ((خ)) ، و ((م)) .

6 في ((خ)) : الوجه. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

7 انظر: الجواب الصحيح 631.

ص: 350

لِلدِّيْنِ} 1، وذكر توجيه الوجه له في قوله:{إِنِّيْ وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِيْ فَطَرَ السَّمَوَاْتِ وَالأرْضَ} 2؛ لأنّ الوجه إنّما يتوَجّه إلى حيث توجَّه القلب، والقلب هو الملك، فإذا توجَّه الوجه نحو جهةٍ كان القلب متوجّهاً إليها، ولا يُمكن الوجه أن يتوجّه بدون القلب؛ فكان إسلام الوجه، وإقامته، وتوجيهه، مستلزماً لإسلام القلب، وإقامته، وتوجيهه. وذلك يستلزم إسلام كلّه لله، وتوجيه كله لله، وإقامة [كلّه] 3 [لله]4. وبسط الكلام على ما يُناسب ذلك56.

الذين أنكروا المحبة لهم شبهتان

وهذا حقيقة دين الإسلام7. لكن الذين أنكروا ذلك لهم شبهتان: إحداهما: أنّ المحبّة تقتضي المناسبة8، قالوا: وهي منتفية؛ فلا مناسبة بين المحدَث والقديم9.

الشبهة الأولى والرد عليها

فيُقال لهم: هذا كلامٌ مجملٌ. تعنون بالمناسبة: الولادة؟ أو المماثلة؟ ونحو ذلك ممّا يجب تنزيه الربّ عنه؟؛ فإنّ الشيء

1 سورة الروم، الآية 30.

2 سورة الأنعام، الآية 79.

3 في ((ط)) : كلها. وما أثبت من ((خ)) ، و ((م)) .

4 ليست في ((خ)) ، وهي في ((م)) ، و ((ط)) .

5 انظر: الرد على المنطقيين ص 448.

6 ها هنا في ((خ)) بياض بمقدار سطرين. وقد أُشير إلى ذلك في ((م)) ، و ((ط)) .

7 انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية 1014،، 11200، 218.

8 المناسبة بين المحِبّ والمحَبّ.

9 ومثل هذا القول صدرمنهم في الرؤية، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:"إنّ مثبتة الرؤية، منهم من أنكر أن يكون المؤمن ينعم بنفس رؤية ربّه؛ قالوا: لأنّه لا مناسبة بين المحدَث والقديم؛ كما ذكر ذلك الأستاذ أبو المعالي الجويني في الرسالة النظاميّة، وكما ذكره أبو الوفاء بن عقيل في بعض كتبه". مجموع الفتاوى 10695.

ص: 351

يُنسب إلى أصله بأنّه ابن فلان، وإلى فرعه بأنّه أبو فلان، وإلى نظيره بأنّه مثل فلان. ولمّا سأل المشركون النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن نسب ربّه1، أنزل الله تعالى:{قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ اللهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُوْلَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوَاً أَحَد} 2؛ فلم يخرج من شيء، ولا يخرج منه شيء، ولا له مثل.

فإن عنيتُم هذا، لم نُسلِّم أنّ المحبّة لا بُدّ فيها من هذا. وإن أردتم بالمناسبة أن يكون المحبوب متّصفاً بمعنى يُحبّه المحِبّ، فهذا لازم المحبّة، والربّ متّصفٌ بكل صفةٍ تُحَبّ. وكلّ ما يُحبّ فإنّما هو منه؛ فهو أحقّ بالمحبّة من كلّ محبوب. وإذا كان الإنسان يُحِبّ الملائكة، وهم من غير جنسه، لما اتصفوا به من الصفات الحميدة؛ فالسُبُّوح القُدُّوس ربُّ الملائكة والروح الذي كلّ ما اتّصفت به الملائكة وغيرهم، فهو من جوده وإحسانه، وهو العزيز الرحيم، إذ كان المخلوق كثيراً ما يتّصف بالعزّة دون الرحمة، أو تكون فيه رحمة بلا عزّة. وهو سبحانه: العزيز، الرحيم، الغفور، الودود، المجيد.

معنى اسم الودود

والودود: فعولٌ من الودّ. وقال شعيب: {إنَّ رَبِّيْ رَحِيْمٌ وَدُوْدٌ} 3، وقال تعالى:{وَهُوَ الْغَفُوْرُ الْوَدُوْدُ} 4؛ فقرنه بالرحيم في موضع، وبالغفور في موضع.

1 قال الطبري: "ذُكِرَ أنّ المشركين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نسب ربّ العزّة، فأنزل الله هذه السورة جواباً لهم. وقال بعضهم: بل نزلت من أجل اليهود: سألوه، فقالوا له: هذا الله خلق الخلقَ، فمن خلق الله؟ فأنزلت جواباً لهم". تفسير الطبري 15342.

2 سورة الإخلاص 1-4.

3 سورة هود، الآية 90.

4 سورة البروج، الآية 14.

ص: 352

قال أبو بكر بن1 الأنباري2: الودود معناه: المحِبّ لعباده؛ من قولهم: وددتُ الرجل أودّه [وُدّاً، ووِدّاً، ووَدّاً] 3، ويُقال: وددتُ الرجلَ [وَدَاداً، ووِدَاداً، ووَدادةً]4.

وقال الخطابي5: "هو اسمٌ مأخوذٌ من الودّ، وفيه وجهان: أحدهما: أن يكون فعولاً في محلّ مفعول؛ كما قيل: رجل هيوب بمعنى مهيب، وفرس رَكوب بمعنى مركوب. والله سبحانه [وتعالى] 6 مودودٌ في قلوب أوليائه، لما [يتعرّفونه] 7 من إحسانه إليهم8. والوجه الآخر: [أن يكون بمعنى الوادّ] 9؛ أي أنّه يودُّ عباده الصالحين؛ بمعنى أنّه يرضى عنهم، ويتقبّل أعمالهم10. [ويكون] 11 معناه أن يُودِّدهم إلى خلقه؛ كقوله: {سَيَجْعَلُ لَُهمُ الرَّحْمَنُ وُدَّاً} 12 "13.

1 في ((خ)) : ابن.

2 انظر: كلام ابن الأنباري في تفسير ابن الجوزي؛ زاد المسير 4152. وانظر: كذلك تهذيب اللغة للأزهري؛ فقد نقل كلام ابن الأنباري في 14236.

وابن لأنباري هو: محمد بن القاسم بن محمد بن بشار، أبو بكر الأنباري.

تقدمت ترجمته.

3 ما بين المعقوفتين ضُبطت هكذا في ((خ)) .

4 ما بين المعقوفتين ضبطت هكذا في ((خ)) .

5 تقدمت ترجمته.

6 ما بين المعقوفتين ليست في ((خ)) ، ولا في شأن الدعاء للخطابي. وهي في ((م)) ، و ((ط)) .

7 كذا في ((خ)) ، وفي شأن الدعاء. وفي ((م)) ، و ((ط)) : يعرفونه.

8 في ((شأن الدعاء)) زيادة: وكثرة عوائده عندهم.

9 ما بين المعقوفتين في شأن الدعاء هكذا: أن يكون الودّ بمعنى الوادّ. وما أثبت من ((خ)) ، وفي ((م)) ، و ((ط)) : أن يكون بمعنى الودّ.

10 وهذا تأويل للصفة؛ لأنّ المحبّة غير الرضى، وغير قبول الأعمال.

11 في ((شأن الدعاء)) للخطابي: وقد يكون. وفرق بين العبارتين؛ فالأولى فسّرت الوجه الآخر، وهذه أتت بمعنى جديد.

12 سورة مريم، الآية 96.

13 شأن الدعاء للخطابي ص74. وانظر: كلامه في زاد المسير لابن الجوزي 4152.

ص: 353

الأدلة على أن الله يحب عباده ويحبونه

قلت: قوله: {سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدَّاً} 1 فسّروها بأنّه يُحبُّهم، ويُحبِّبُهم إلى عباده2؛ كما في الصحيحين عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال:"إذا أحبَّ اللهُ العبدَ نادى: يا جبريل إنّي أُحِبُّ فلاناً فأحبَّه، فيُحبُّهُ جبريل، ثمّ يُنادى في السماء: إنّ الله يُحِبُّ فلاناً فأحبُّوه، فيُحبُّه أهل السماء، ثمّ يُوضع له القبول في الأرض". وقال في البغض مثل ذلك3.

وقال عبد [بن] 4 حُميد5: أنبأ عبيد الله بن موسى6، عن ابن أبي

1 سورة مريم، الآية 96.

2 انظر: تفسير الطبري 1132-133. وزاد المسير 5266. وانظر: أيضاً مجموع الفتاوى 15232.

3 أخرجه البخاري في صحيحه 31175، كتاب بدء الخلق، باب ذكر الملائكة، و52146، كتاب الأدب، باب الحبّ في الله، و62721، كتاب التوحيد، باب كلام الربّ مع جبريل، ونداء الله الملائكة. - وفي كلّ هذه المواضع لم يذكر في البُغض مثل ذلك - ومسلم في صحيحه 42030، كتاب البرّ والصلة والآداب، باب إذا أحبّ الله عبداً حبّبه إلى عباده. ومالك في الموطأ 2953. وأحمد في المسند 2514. - وقد ذُكر فيها في البُغض مثل ما ذُكِر في الحبّ -.

4 في ((خ)) : ابن بإثبات ألف ابن.

5 هو عبد بن حميد بن نصر، أبو محمد الكِسِّيّ، اسمه عبد الحميد، فخُفِّف. والكِسِّيّ نسبة إلى بلدة في ما وراء النهر، تُقارب سمرقند، يُقال لها: كِسّ. ويُقال له أيضاً: الكِشِّيّ؛ منسوب إلى كِشّ؛ قرية من قرى جرجان، وإذا أعرب كتب بالسين. ولد عبد بن حميد بعد السبعين ومائة بكِشّ، ونشأ بها، ثمّ رحل وطوّف في البلاد الإسلاميّة للسماع والتلقّي. قال عنه الذهبيّ: كان من الأئمة الثقات. وقال ابن حجر: ثقة حافظ من الحادية عشرة. مات سنة تسع وأربعين. ومن مصنفاته: التفسير، والمسند. انظر: الأنساب للسمعانيّ 11108. وسير أعلام النبلاء 12235. وتذكرة الحفّاظ 2524. وتقريب التهذيب 1640.

6 هو عبيد الله بن موسى بن أبي المختار باذام العبسي الكوفي، أبو محمد، من التاسعة. مات سنة 213 ?. انظر: الجرح والتعديل 5334. وميزان الاعتدال 316. وتقريب التهذيب 1640.

ص: 354

ليلى1، عن الحكم2، عن سعيد بن جبير، عن ابن عبّاس:{سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدَّاً} 3، قال:"يُحبُّهم، ويُحبِّبُهم"4. ورواه ابن أبي حاتم أيضاً5.

وقال عبدُ: أخبرني شبّابة6، عن ورقاء7، عن ابن أبي نجيح8، عن مجاهد9:{سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدَّاً} ، قال:"يُحبُّهم، ويُحبِّبُهم إلى المؤمنين"10.

1 ستأتي ترجمته.

2 هو الحكم بن عتيبة الكندي - بالولاء -، أبو محمد. توفي سنة 113 ?.

انظر: الجرح والتعديل 3123. وتهذيب التهذيب 2433.

3 سورة مريم، الآية 96.

4 أخرجها الطبري في تفسيره 1132. وانظر: زاد المسير 5266. والدر المنثور 4287.

5 انظر: الدر المنثور 4287.

6 هو شبابة بن سوار الفزاري، مولاهم أبو عمر المدائني الخراساني. توفي سنة 254 ?. انظر: الجرح والتعديل 4392. وميزان الاعتدال 2260.

7 هو ورقاء بن عمر بن كليب اليشكري، أبو بشر الكوفي. ثقة.

انظر: الجرح والتعديل 950. وميزان الاعتدال 4332. وتهذيب التهذيب 11113.

8 هو عبد الله بن أبي نجيح؛ يسار الثقفي، أبو يسار المكي. توفي سنة 101 ?. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن تفسيره:"تفسير ابن أبي نجيح عن مجاهد من أصح التفاسير". مجموع الفتاوى 17409.

9 هو مجاهد بن جبر المكي، أبو الحجاج المخزومي. ولد سنة 21، وتوفي سنة 103 ?. انظر: الجرح والتعديل 8319. وميزان الاعتدال 3439. وتهذيب التهذيب 1042.

10 تفسير مجاهد - تحقيق عبد الرحمن السورتي - ص 391. وانظر: تفسير الطبري 1132.

ص: 355

أخبرنا1 عبد الرزاق2، عن الثوري3، عن مسلم4، عن مجاهد، عن ابن عبّاس:{سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدَّاً} ، قال: محبّةً5.

وهذا فيه إثبات حبّه لهم، بعد أعمالهم؛ بقوله:{سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدَّاً} ، وهو نظير قوله:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّوْنَ اللهَ فَاتَّبِعُوْنِيْ يُحْبِبْكُمُ اللهُ} 6؛ فهو يُحبُّهم إذا اتّبعوا الرسول. ونظير قوله في الحديث الصحيح: "ولا يزال عبدي يتقرّب إليّ بالنوافل حتى أُحبَّه، فإذا أحببتُه كنتُ سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يُبصر به، ويدَه التي يبطش بها، ورجلَه التي يمشي بها"7.

1 القائل عبد بن حميد.

2 هو عبد الرزاق بن همام بن نافع الحميري، مولاهم الصنعاني. ولد سنة 126، وتوفي سنة 211?. انظر: الجرح والتعديل 639. وميزان الاعتدال 2609. وتهذيب التهذيب 6311.

3 هو سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري، أبو عبد الله الكوفي. الحافظ، أمير المؤمنين في الحديث. ولد سنة 97?، وتوفي سنة 161?. انظر: الجرح والتعديل 4222. وتاريخ بغداد 9151. وتهذيب التهذيب 4111.

4 هو مسلم بن عمران، أو ابن أبي عمران البطين الكوفي.

انظر: الجرح والتعديل 8191. وتهذيب التهذيب 10134.

5 تفسير القرآن للإمام عبد الرزاق - تحقيق مصطفى مسلم - 214. وانظر: تفسير الطبري 1132. والدر المنثور 4287.

6 سورة آل عمران، الآية 31.

7 أخرجه البخاري في صحيحه 52384-2385، كتاب الرقاق، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم:"بُعثت أنا والساعة كهاتين". وأحمد في مسنده 6256.

ص: 356

وكذلك قوله: {وَأَحْسِنُوْا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِيْنَ} 1. {إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّاْبِيْنَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِيْنَ} 2. {إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِيْنَ} 3. {إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِيْنَ يُقَاْتِلُوْنَ فِيْ سَبِيْلِهِ صَفَّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَاْنٌ مَرْصُوْصٌ} 4.

وهذه الآيات وأشباهها تقتضي أنّ الله يُحِبّ أصحاب هذه الأعمال؛ فهو يُحِبّ التوابين، وإنّما يكونون توّابين بعد الذنب، ففي هذه الحال يُحِبُّهم. وهذا مبنيّ على الصفات الاختياريّة5، فمن نفاها6 ردّ هذا كلّه.

من نفى الصفات الاختيارية لهم في المحبة قولان

ولهم7 قولان: أحدهما: أنّ المحبّة قديمة؛ فهو يُحبّهم في الأزل إذا علِم

1 سورة البقرة، الآية 195.

2 سورة البقرة، الآية 222.

3 سورة التوبة، الآية 4.

4 سورة الصف، الآية 4.

5 الصفات الاختياريّة: هي الأمور التي يتصف بها الربّ عز وجل، فتقوم بذاته بمشيئته وقدرته؛ مثل كلامه، وسمعه، وبصره، وإرادته، ومحبّته

إلخ. فالجهميّة، ومن وافقهم من المعتزلة وغيرهم يقولون: لا يقوم بذاته شيء من الصفات، ولا غيرها. جامع الرسائل 23-4.

ولشيخ الإسلام رحمه الله رسالة صغيرة في هذا الموضوع، اسمها:((رسالة في الصفات الاختياريّة)) ضمن جامع الرسائل 24-70.

وانظر: كلامه أيضاً رحمه الله عن مسألة قيام الأفعال الاختياريّة بالله تعالى، وأقوال السلف فيها، ومن أثبتها، أو نفاها في درء تعارض العقل والنقل 218-24.

6 قال شيخ الإسلام رحمه الله: فباب محبّة الله ضلّ فيه فريقان من الناس؛ فريق من أهل النظر والكلام والمنتسبين إلى العلم جحدوها، وكذّبوا بحقيقتها. وفريق من أهل التعبّد والتصوّف والزهد، أدخلوا فيها من الاعتقادات، والإرادات الفاسدة ما ضاهوا بها المشركين". جامع الرسائل 2245.

7 أي للمتكلّمة الكلابيّة والآشعريّة، ومن وافقهم في نفي الصفات الاختياريّة.

ص: 357

أنّهم يموتون على حالٍ [مرضيّة] 1، ويقولون: إنّ الله يُحِبّ الكفّار في حال كفرهم إذا علم أنّهم يموتون على الإيمان، ويُبغض المؤمن إذا علم أنّه يرتدّ. هذا قول ابن كلاّب2، ومن [تبعه]3. ثمّ منهم من يُفسّر المحبّة بالإرادة4، ومنهم من يقول: هي صفة زائدة على الإرادة5. والقول الثاني: يجعلون هذا من باب الفعل؛ فالمحبّة عندهم: إحسانه إليهم،

1 ليست في ((خ)) . وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

2 انظر: الإنصاف للباقلاني ص 69.

وذكر الأشعريّ في المقالات قول أصحاب ابن كلاّب "أنّ الله لم يزل راضياً عمّن يعلم أنّه يموت مؤمناً، ساخطاً على من يعلم أنّه يموت كافراً"، وذكر أنّ هذا هو قولهم في الولاية، والعداوة، والمحبّة. مقالات الإسلاميّين للأشعريّ 1350. وانظر: المصدر نفسه 2225، 255.

وقال شيخ الإسلام رحمه الله مبيّناً حال ابن كلاب وعقيدته: "أبو محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب القطان، له فضيلة ومعرفة ردّ بها على الجهميّة والمعتزلة نفاة الصفات، وبيّن أنّ الله نفسه فوق العرش، وبسط الكلام في ذلك. ولم يتخلّص من شبهة الجهميّة كلّ التخلّص، بل ظنّ أنّ الربّ لا يتصف بالأمور الاختياريّة التي تتعلّق بقدرته ومشيئته؛ فلا يتكلّم بمشيئته وقدرته، ولا يُحب العبد ويرضى عنه بعد إيمانه وطاعته، ولا يغضب عليه ويسخط بعد كفره ومعصيته، بل محباً راضياً، أو غضبان ساخطاً على من علم أنّه يموت مؤمناً أو كافراً. ولا يتكلّم بكلام بعد كلام

". مجموع الفتاوى 7662. وانظر: المصدر نفسه 8340-343.

3 في ((خ)) : اتبعه. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

4 انظر: مشكل الحديث وبيانه لابن فورك ص 332. وانظر: الإنصاف للباقلاني ص 69. وجامع الرسائل 2237. ومجموع الفتاوى 10697.

5 انظر: الاقتصاد في الاعتقاد للغزالي ص 37. وإيضاح الدليل في قطع حجج أهل التعطيل لابن جماعه ص 139، 143-144. وتأويل الأحاديث الموهمة للتشبيه للسيوطي ص 120. وانظر: أيضاً مجموع الفتاوى لابن تيمية 8340-341.

ص: 358

والإحسان عندهم ليس فعلاً قائماً به، بل بائناً عنه1.

والكتاب، والسنّة، وأقوال السلف والأئمة، والأدلة العقليّة إنّما تدلّ على القول الأوّل2، كما قد بُسط في غير هذا الموضع3؛ إذ المقصود هنا [ذِكرُ اسمه (الودود) ، والأكثرون على ما ذكره] 4 ابن الأنباري5، وأنّه فعولٌ بمعنى فاعل؛ أي هو الوادُّ، كما قرنه بالغفور؛ وهو الذي يغفر، وبالرحيم؛ وهو الذي يرحم.

قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي6، ثنا عيسى بن جعفر؛ قاضي الريّ7، ثنا سفيان في قوله:{إَنَّ رَبِّيْ رَحِيْمٌ وَدُوْدٌ} 8، قال: مُحِبّ. وقال9:

1 انظر: الإشارة إلى الإيجاز في بعض أنواع المجاز للعز بن عبد السلام ص 144- 145 والجامع لأحكام القرآن للقرطبي1150. وانظر: جامع الرسائل 2237.

2 القول الأوّل: هو تفسير الودود بأنّه المُحِبّ لعباده. وليس المراد به القول الأول من أقوال المؤوّلة لصفة المحبّة - والذي تقدّم آنفاً -.

3 انظر: من كتب شيخ الإسلام: قاعدة في المحبّة - ضمن جامع الرسائل 2193-401. ومجموع الفتاوى 8337، 370. ودرء تعارض العقل والنقل 662-65.

4 ما بين المعقوفتين ساقط من ((ط)) . وهي في ((خ)) ، و ((م)) .

5 انظر: زاد المسير لابن الجوزي 4152.

6 هو محمد بن إدريس بن المنذر بن داود، أبو حاتم الرازي الحنظلي. الإمام الحافظ شيخ المحدثين.

انظر: الجرح والتعديل 1349-375. وسير أعلام النبلاء 13247. وشذرات الذهب 2171.

7 انظر: ترجمته في الجرح والتعديل 6273.

8 سورة هود، الآية 90.

9 أي ابن أبي حاتم.

ص: 359

قُرئ على يونس1: ثنا ابن وهب2، قال: وقال ابن زيد3: قوله: (الودود)، قال: الرحيم. وقد ذَكَرَ4 فيه [قولين] 5؛ القول الأوّل رواه من تفسير الوالبي6

1 هو يونس بن حبيب بن عبد القاهر بن عبد العزيز الأصبهاني، أبو بشر. توفي سنة 267?. قال ابن أبي حاتم: كتبت عنه بأصبهان وهو ثقة. انظر: الجرح والتعديل 9237.

أو: يونس بن راشد الجزري، أبو إسحاق الحراني القاضي. انظر: الجرح والتعديل 9239. وميزان الاعتدال 4480. وتهذيب التهذيب 11439.

2 هو عبد الله بن وهب بن مسلم القرشي، مولاهم، أبو محمد المصري. توفي سنة 198 ?.

انظر: الجرح والتعديل 5189. وتهذيب التهذيب 671.

3 هو عبد الرحمن بن زيد بن أسلم العدوي مولاهم، المدني. توفي سنة 182 ?.

انظر: الجرح والتعديل 5233. وميزان الاعتدال 2564. وتهذيب التهذيب 6177.

4 أي ابن أبي حاتم. والظاهر أنّه ذكر هذين القولين في تفسيره، ولكن لم يُطبع منه إلا الأجزاء الأولى.

5 ما بين المعقوفتين ملحق في ((خ)) بين السطرين.

6 هو علي بن أبي طلحة؛ سالم بن مخارق الوالبي. قال عنه الذهبي: "أخذ تفسير ابن عباس عن مجاهد، فلم يذكر مجاهداً، بل أرسله عن ابن عباس". مات سنة 123 هـ. صنّف تفسير القرآن. وطريقه عن ابن عباس من أجود الطرق، قال عنه الإمام أحمد رحمه الله:(إنّ بمصر صحيفة في التفسير رواها علي بن أبي طلحة، لو رحل رجلٌ فيها إلى مصر قاصداً ما كان كثيراً) .

انظر: ميزان الاعتدال للذهبي 3134. وتهذيب التهذيب لابن حجر 7339. والاتقان للسيوطي 2188. والتفسير والمفسرون للذهبي - المعاصر - 177.

وتفسير الوالبي نقل عنه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله مراراً في كتبه بهذا الاسم.

انظر: على سبيل المثال: درء تعارض العقل والنقل 8478، 480. وشرح حديث النزول ص 312. وشرح الأصفهانية - ت السعوي - ص 380. ومنهاج السنة النبوية 2186، 5136، 139، 290. وجامع الرسائل والمسائل 4-5340. وأخذ عنه في هذا الكتاب - النبوات - عدّة مرات.

ولقب الوالبي يشترك فيه ثلاثة أشخاص، كلهم يروي عن ابن عباس رضي الله عنهما، وكلهم من المفسرين؛ أولهم: سعيد بن جبير الأسدي الوالبي مولاهم، الكوفي. قال عنه ابن حجر: ثقة. قتله الحجاج سنة 95 ?. انظر: تقريب التهذيب 1292. وحلية الأولياء 4272. وثانيهم: أبو خالد هرمز مولى بني والبة، من بني أسد، من أهل الكوفة. ثقة، مات سنة 100 ? انظر: طبقات ابن سعد 6228. وتهذيب التهذيب 1283-84. والثالث: علي بن أبي طلحة؛ سالم بن مخارق الوالبي؛ كما صرّح باسمه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، مبيِّناً أنّه هو المقصود، وقال عنه: إنه لم يسمع التفسير عن ابن عباس. انظر: جامع الرسائل والمسائل 4-5540. وشرح الأصفهانية 1380.

ص: 360

عن ابن عباس قوله: (الودود)، قال: الحبيب1. والثاني: قول ابن زيد: الرحيم2. وما ذكره الوالبي [أنّه] 3 الحبيب، قد يُراد به المعنيان؛ أنّه يُحِبُّ، ويُحَبُّ4؛ فإنّ الله يُحب من يحبه، وأولياؤه يُحبهم ويُحبُّونه.

1 رواه الطبري في تفسيره عن ابن عباس 15138، عند قوله تعالى:{وَهُوَ الْغَفُوْرُ الْوَدُوْدُ} . وانظر: صحيح البخاري 41885، كتاب التفسير، باب تفسير سورة البروج؛ فإنّه ذكره عن ابن عباس. وانظر: أيضاً فتح القدير للشوكاني 5417.

2 رواه الطبري في تفسيره عن ابن زيد 15139 عند تفسير قوله تعالى: {وَهُوَ الْغَفُوْرُ الْوَدُوْدُ} ، وانظر: تفسير القرطبي 19195. وفتح القدير للشوكاني 5413.

3 ما بين المعقوفتين ساقط من ((ط)) ، وهو في ((خ)) ، و ((م)) .

4 قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى في النونية 289 - شرح الهراس -:

وهو الودود يُحِبّهم ويُحبُّهُ

أحبابه والفضل للمنّان

وهو الذي جعل المحبّة في

قلوبهم وجازاهم بحب ثان

وانظر: توضيح المقاصد - شرح ابن عيسى - 2230. وبدائع التفسير الجامع لتفسير الإمام ابن القيم رحمه الله 5172 عند تفسير قوله تعالى: {وَهُوَ الْغَفُوْرُ الْوَدُوْدُ} . وانظر: كتاب الأسماء والصفات للبيهقي 1198.

ص: 361

والبغويّ ذكر الأمرين، فقال: وللودود معنيان؛ [أنّه] 1 يُحِبّ المؤمنين، وقيل: هو بمعنى المودود؛ أي محبوب المؤمنين2.

وقال3 أيضاً في قوله: {وَهُوَ الْغَفُوْرُ الْوَدُوْدُ} 4: أي المحبّ لهم، وقيل: معناه المودود؛ كالحَلُوب، والرَّكوب؛ بمعنى المحلوب والمركوب، وقيل: يغفر، ويودّ أن يغفر، وقيل: المتودّد إلى أوليائه بالمغفرة5.

قلت: هذا اللفظ معروفٌ في اللغة أنّه بمعنى الفاعل6؛ كقول النبيّ [صلى الله عليه وسلم] : "تزوّجوا الودود الولود"7. وفعول بمعنى فاعل كثيرٌ؛ كالصبور، والشكور، وأمّا بمعنى مفعول، فقليلٌ. وأيضاً: فإنّ سياق القرآن يدلّ على

1 في ((م)) ، و ((ط)) : أن.

2 تفسير البغوي 2399.

3 أي البغويّ.

4 سورة البروج، الآية 14.

5 تفسير البغوي 5471.

6 انظر: اشتقاق أسماء الله ص 152 لأبي القاسم عبد الرحمن بن إسحاق الزجاجي؛ فإنه قال: "الودود فيه قولان: أحدهما: أنّه فعول بمعنى فاعل؛ كقولك غفور بمعنى غافر، وكما قالوا: رجل صَبور بمعنى صابر، وشَكور بمعنى شاكر؛ فيكون الودود في صفات الله تعالى عز وجل على هذا المذهب أنّه يودّ عباده الصالحين ويُحبّهم. والودّ، والمودّة، والمحبّة في المعنى سواء؛ فالله عز وجل ودودٌ لأوليائه والصالحين من عباده، وهو محبّ لهم. والقول الآخر: أنّه فعول بمعنى مفعول؛ كما يُقال: رجلٌ هَيوب؛ أي مهيب؛ فتقديره: أنّه عز وجل مودودٌ؛ أي يودّه عباده ويحبّونه. وهما وجهان جيّدان". اشتقاق أسماء الله لأبي القاسم الزجاجي ص 152. وانظر: تفسير الأسماء للزجاج ص 52.

7 أخرجه الإمام أحمد في مسنده 3158، 245. ورواه ابن حبان في صحيحه وصححه في كتاب النكاح، باب ما جاء في التزويج واستحبابه، رقم 1228. ورواه سعيد بن منصور في سننه 1139، باب الترغيب في النكاح.

ص: 362

أنّه1 أراد أنّه هو الذي يودّ عباده؛ كما أنّه هو الذي يرحمهم ويغفر لهم؛ فإنّ شعيباً قال: {وَاسْتَغْفِرُوْا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوْبُوْا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّيْ رَحِيْمٌ وَدُوْدٌ} 2؛ فذكر رحمته وودّه؛ كما قال تعالى: {وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} 3. وهو أراد وصفاً يُبيّن لهم أنّه سبحانه يغفر الذنب، ويُقبل على التائب؛ وهو كونه وَدوداً؛ كما قال: {إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّاْبِيْنَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِيْنَ} 4. وقد ثبت في الصحاح من غير وجهٍ عن النبيّ [صلى الله عليه وسلم] أنّ الله يفرح بتوبة التائب أشدّ من فرح من فقد راحلته بأرضٍ دَوِّيَّةٍ5 مُهلكة، ثمّ وجدها بعد اليأس6.

1 في ((م)) ، و ((ط)) زيادة كلمة (صح) بعد: أنّه، وهي ليست في ((خ)) . ولا وجه لإثباتها.

2 سورة هود، الآية 90.

3 سورة الروم، الآية 21.

4 سورة البقرة، الآية 222.

5 الأرض الدويّة: هي الأرض القفر، والفلاة الخالية. قال الخليل: هي المفازة، قالوا: ويُقال: دوية، وداوية: مهلكة: هي موضع خوف الهلاك. ويُقال لها مفازة، قيل: إنّه من قولهم: فوز الرجل إذا هلك. وقيل: على سبيل التفاؤل بفوزه ونجاته منها؛ كما يُقال للّديغ: سليم. انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر 2143، 5271. وشرح النووي على صحيح مسلم 1761.

6 يُشير رحمه الله إلى الحديث الذي أخرجه الشيخان في صحيحيهما، ولفظه:"لله أشدّ فرحاً بتوبة عبده المؤمن من رجلٍ في أرضٍ دوّيّة مهلكة، معه راحلته، عليها طعامه وشرابه، فنام فاستيقظ وقد ذهبت. فطلبها، حتى أدركه العطش، ثمّ قال: أرجع إلى مكاني الذي كنتُ فيه، فأنام حتى أموت. فوضع رأسه على ساعده ليموت، فاستيقظ وعنده راحلته، وعليها زاده وطعامه وشرابه. فالله أشدّ فرحاً بتوبة العبد المؤمن من هذا براحلته وزاده" الحديث أخرجه البخاري في صحيحه 52324-2325، كتاب الدعوات، باب التوبة. ومسلم في صحيحه 42102-2103، كتاب التوبة، باب في الحضّ على التوبة والفرح بها. ومسند الإمام أحمد 383؛ كلهم أخرجوه بألفاظ متقاربة.

ص: 363

فهذا الفرح منه بتوبة التائب يُناسب محبّته له، ومودّته له. وكذلك قوله في الآية الأخرى:{وَهُوَ الْغَفُوْرُ الْوَدُوْدُ} 1، فإنّه مثل قوله:{وَهُوَ الرَّحِيْم الْغَفُوْرُ} 2.

وأيضاً: فإنّ كونه مودوداً؛ أي محبوباً، يُذكر على الوجه الكامل الذي يتبيّن اختصاصه به؛ مثل:[اسم] 3 الإله؛ فإنّ الإله: المعبود هو مودودٌ بذلك، ومثل اسمه الصمد، ومثل ذي الجلال والإكرام، ونحو ذلك4.

وكونه مودوداً ليس بعجيب، وإنّما العجب: جوده، وإحسانه؛ فإنّه يتودّد إلى عباده، كما جاء في الأثر:"يا عبدي! كم أتودّد إليك بالنّعم، وأنت تتمقّت إليّ بالمعاصي، ولا يزال مَلَكٌ كريم يصعد إليّ منك بعمل سيء"5. وفي

الصحيحين عن النبيّ [صلى الله عليه وسلم] أنّه قال: يقول الله تعالى: "من

1 سورة البروج، الآية 14.

2 سورة سبأ، الآية 2.

3 في ((ط)) : الاسم. وما أثبت من ((خ)) ، و ((م)) .

4 قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وهو سبحانه يحب عباده الذين يحبونه، والمحبوب لغيره أولى أن يكون محبوباً. فإذا كنّا إذا أحببنا شيئاً لله كان الله هو المحبوب في الحقيقة، وحبّنا لذلك بطريق التبع. وكنّا نحب من يحب الله لأنّه يُحب الله، فالله تعالى يُحبّ الذين يحبونه؛ فهو المستحق أن يكون هو المحبوب المألوه المعبود، وأن يكون غاية كل حب". درء تعارض العقل والنقل 415. وانظر: أيضاً المصدر نفسه - عن المحبّة - 9374-376،، 672-73. وجامع الرسائل 2254.

5 روى أبو نعيم الأصبهاني عن مالك بن دينار أنّه قال: "قرأت في بعض الكتب أنّ الله تعالى يقول: يا ابن آدم خيري ينزل عليك، وشرّك يصعد إليّ، وأتحبّب إليك بالنّعم، وتتبغّض إليّ بالمعاصي، ولا يزال ملك كريم قد عرج منك إليّ بعمل قبيح". حلية الأولياء 2358.

وانظر: طبقات الحنابلة لابن أبي يعلى 1194. وإثبات صفة العلو لابن قدامه ص 113وقال محققه: إسناده ضعيف لجهالة الشيخ القرشي. وأورده الذهبي من طريق ابن أبي الدنيا ص 97 وقال: إسناده مظلم. وانظر: اجتماع الجيوش الإسلامية لابن القيم ص 268، فقد ذكر أنّ هذا الأثر رواه ابن أبي الدنيا.

ص: 364

تقرّب إليّ شبراً تقرّبتُ إليه ذراعاً، ومن تقرّب إليّ ذراعاً تقرّبتُ إليه باعاً، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة"1.

وجاء في تفسير اسمه الحنّان، المنّان: أنّ الحنّان: الذي يُقبل على من أعرض عنه.

معنى الحنان والمنان

والمنّان: الذي يجود بالنوال قبل السؤال2.

وأيضاً: فمبدأ الحبّ والودّ منه، لكن اسمه الودود يجمع المعنَيَيْن؛ كما قال الوالبيّ عن ابن عبّاس: أنّه الحبيب3؛ وذلك أنّه إذا كان يودّ عباده، فهو مستحقٌ لأن يودّه العباد بالضرورة. ولهذا من قال إنّه يُحبّ المؤمنين، قال: إنّهم يُحِبّونه؛ فإنّ كثيراً من النّاس يقول إنّه محبوب، وهو

1 الحديث أخرجه البخاري في صحيحه 62741، كتاب التوحيد، باب ذكر النبي صلى الله عليه وسلم وروايته عن ربه، و62694، كتاب التوحيد باب قوله تعالى:{ويُحذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ} [سورة آل عمران 28] ، باختلاف يسير في بعض الألفاظ.

ومسلم في صحيحه 42067-2068، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب فضل الذكر والدعاء.

وأحمد في مسنده 2413، 340، 122.

2 قال الأزهريّ في تهذيب اللغة 15471: "ومن صفات الله تعالى: المنّان؛ ومعناه: المعطي ابتداءً. ولله المنّة على عباده، ولا منّة لأحدٍ منهم عليه".

وانظر: أيضاً شأن الدعاء للخطّابيّ ص 100.

وهذا الأثر أورده القرطبي بدون عزو في كتاب: الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى - مخطوط - ق 70أ. وفيه: أنّ أكينة بن عبد الله التميمي سمع علي بن أبي طالب يقول وقد سئل عن الحنّان المنّان، فذكره

وانظر: شرح حديث النزول لابن تيمية ص 453، تعليق المحقق رقم 13، والفتاوى 5573، و 16217.

3 انظر: تفسير الطبريّ 15139.

ص: 365

لا يُحِبّ شيئاً مخصوصاً، لكن محبّته بمعنى مشيئته العامّة1. ومن النّاس من قال: أنّه لا يُحَبّ، مع أنّه يُثبت محبّته للمؤمنين.

القسمة في المحبة رباعية

فالقسمة في المحبّة رباعيّة؛ فالسلف وأهل المعرفة أثبتوا النوعين؛ قالوا: إنّه يُحِبّ، ويُحَبّ. والجهميّة والمعتزلة تُنكر الأمرين2. ومن النّاس من قال: إنّه يُحبّه المؤمنون، وأمّا هو، فلا يُحبّ شيئاً دون شيء. ومنهم من عكس فقال: بل هو يُحبّ المؤمنين، مع أنّ ذاتَه لا يُحَبّ3؛ كما

1 ومن هؤلاء: غلاة الصوفيّة؛ فإنّهم يعتقدون أنّه ليس في مشهدهم لله محبوبٌ، مرضيّ، مرادٌ إلا ما يقع، فما وقع فالله يُحِبّه ويرضاه، وما لم يقع فالله لا يحبه ولا يرضاه. فمشيئة الله العامّة التي تقع كلّها محبوبة له، يُريدها، ويرضى عنها كما زعموا.

انظر: رسالة الاحتجاج بالقدر لابن تيمية ص 80-81.

ومن هؤلاء: الأشاعرة، ومن وافقهم؛ فإنّه لما ثبت عندهم أنّ المشيئة، والإرادة، والمحبّة، والرضى كلّها بمعنى واحد - على حدّ زعمهم، قالوا: فالمعاصي والكفر كلها محبوبة لله؛ لأنّ الله شاءها وخلقها.

انظر: رسالة الاحتجاج بالقدر لابن تيمية ص 67. ومدارج السالكين لابن القيم 1228، 251، 2189.

ولازم هذا القول: أنّ الله - تعالى عن ذلك - يُحِبّ الكفر والمعاصي. انظر: الرسالة الأكملية - ضمن مجموع الفتاوى 6115-116 -.

2 انظر: درء تعارض العقل والنقل 662-66. وجامع الرسائل 2245. ومجموع الفتاوى 8356.

3 وقد بيّن شيخ الإسلام رحمه الله بطلان هذا القول، وذكر أنّ المحبوبات على قسمين، فقال: "المحبوبات على قسمين: قسمٌ يُحبّ لنفسه، وقسمٌ يُحب لغيره. إذ لا بُدّ من محبوبٍ يُحبّ لنفسه. وليس شيء شُرع أن يُحبّ لذاته إلا الله تعالى. وكذلك التعظيم لذاته، تارة يُعظّم الشيء لنفسه، وتارة يعظّم لغيره. وليس شيء يستحق التعظيم لذاته إلا الله تعالى. وكلّ ما أمر الله أن يُحَبّ ويُعظّم، فإنّما محبّته لله وتعظيمه عبادة لله؛ فالله هو المحبوب المعظَّم في المحبّة والتعظيم، المقصود المستقر الذي إليه المنتهى

". جامع الرسائل - قاعدة في المحبّة - 2287.

ص: 366

يقولون أنّه يَرحَم، ولا يُرحَم. فإذا قيل: إنّ الودود بمعنى الوادّ، لزم أن يكون مودوداً، بخلاف العكس. فالصواب القطع بأنّ الودود هو الذي يُوَدّ، وإن كان ذلك مُتَضَمَّنَاً؛ لأنّه يستحقّ أن يُوَدّ، ليس هو بمعنى الودود فقط.

ولفظ الوِداد بالكسر هو مثل الموادّة والتوادّ، وذاك يكون من الطرفين؛ كالتحابّ. وهو سبحانه لمّا جَعَلَ بين الزوجين مودّة ورحمة، كان كلّ منهما يودّ الآخر ويرحمه.

وهو سبحانه كما ثبت في الحديث الصحيح أرحم بعباده من الوالدة بولدها1، وقد بيّن الحديث الصحيح أنّ فرحه بتوبة التائب أعظم من فرح الفاقد ماله ومركوبه في مهلكة، إذ أوجدهما بعد اليأس2. وهذا الفرح [يقتضي] 3 أنّه أعظم مودّة لعبده المؤمن من المؤمنين بعضهم لبعض. كيف، وكلّ وُدِّ في الوجود فهو من فعله. فالذي جعل الودّ في القلوب هو أولى بالودّ؛ كما قال ابن عبّاس، ومجاهد، وغيرهما4 في قوله:{سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدَّاً} 5؛ قال: يُحِبّهم، ويُحَبِّبهم6. وقد دلّ الحديث

1 الحديث أخرجه البخاري في صحيحه 52235، كتاب الأدب، باب رحمة الولد وتقبيله ومعانقته.

ومسلم في صحيحه 42109، كتاب التوبة، باب في سعة رحمة الله تعالى وأنّها سبقت غضبه.

وابن ماجه في السنن 21436، كتاب الزهد، باب ما يُرجى من رحمة الله يوم القيامة.

وأبو داود في سننه 3469، كتاب الجنائز، باب الأمراض المكفرة للذنوب.

2 سبق تخريجه في ص 425.

3 في ((خ)) : تقتضي. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

4 سبق نقل كلامهم قريباً، ص 415-417.

5 سورة مريم، الآية 96.

6 تقدّم ص 417.

ص: 367

الذي في الصحيحين1 على أنّ ما يجعل من المحبّة في قلوب النّاس هو بعد أن يكون هو قد أحبّه، وأمر جبريل أن يُنادي بأنّ الله يُحبّه. فنادى جبريل في السماء أنّ الله يُحِبّ فلاناً فأحبّوه2. وبسط هذا له موضعٌ آخر3.

وفي مناجاة بعض الداعين: ليس العجب من حبّي لك مع حاجتي إليك، العجب من حبّك لي مع غناك عنّي4.

وفي أثرٍ آخر: يا عبدي! وحقّي إنّي لك محبّ، فبحقّي عليك كن لي محبّاً5.

ورُوِيَ: يا داود حبّبني إلي عبادي، وحبّب عبادي إليّ؛ مرهم بطاعتي فأحبّهم، وذكّرهم آلائي فيُحبّوني؛ فإنّهم لا يعرفون منّي إلا الحسن الجميل6.

وهو سبحانه كما قال؛ كلّ ما خلقه، فإنّه من نعمه على عباده. ولهذا يقول:{فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَاْ تُكَذِّبَاْن} 7. والخير بيديه، لا يأتي بالحسنات إلا

1 وهو قوله عليه السلام: " إذا أحبّ الله عبداً.." الحديث.

2 سبق تخريج هذا الحديث ص 414.

3 انظر: قاعدة في المحبّة - ضمن جامع الرسائل 2287 -.

4 انظر: حلية الأولياء لأبي نعيم 1034؛ عن أبي يزيد البسطامي.

5 قال أبو حامد الغزالي: "وفي بعض الكتب: عبدي! أنا - وحقّك - لك محبّ، فبحقّي عليك كن لي محبّاً". إحياء علوم الدين 4274.

6 انظر: إحياء علوم الدين 4138. وقال محقّقه: "الحديث لم أجد له أصلاً، وكأنّه من الإسرائيليّات".

وانظر: كتاب تصفية القلوب لليماني الذمار ص 298-299. وقال محقّقه: "رواه ابن حبان من حديث أبي هريرة".

ولم أقف عليه في صحيح ابن حبان.

7 سورة الرحمن، وردت في آيات كثيرة.

ص: 368

هو، ولا يذهب بالسيئات إلا هو، ولا حول ولا قوّة إلا به، ولا ملجأ ولا منجا منه إلا إليه.

وودّه سبحانه هو لمن تاب إليه وأناب إليه؛ كما قال: {إِنَّ الَّذِيْنَ آمَنُوْا وَعَمِلُوْا الصَّاْلِحَاْتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدَّاً} 1، وقال:{إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّاْبِيْنَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِيْنَ} 2؛ فلا يستوحش أهل الذنوب، وينفرون منه كأنّهم حمرٌ مستنفرة؛ فإنّه ودودٌ رحيمٌ بالمؤمنين، يُحبّ التوابين، ويُحبّ المتطهّرين.

ولهذا قال شعيب: {وَاسْتَغْفِرُوْا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوْبُوْا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّيْ رَحِيْمٌ وَدُوْدٌ} 3، وقال هنا:{وَهُوَ الْغَفُوْرُ الْوَدُوْدُ} 4؛ فذكر (الودود) في الموضعين لبيان مودّته للمذنب إذا تاب إليه، بخلاف القاسي الجافي الغليظ الذي لا ودّ فيه.

الشبهة الثانية لمن ينكر المحبة

والحجّة الثانية لهم: قالوا: إنّ الإرادة والمحبّة لا تتعلّق إلا بمعدومٍ يُراد فعله؛ فإنّه لو جاز أن يُراد الموجود، وأن يُراد القديم، لجاز أن يكون العالَم قديماً مع كونه مُراداً مقدوراً؛ كما يقول ذلك من يقوله من المتفلسفة5؛ فإنّ القائلين أنّه موجب بذاته والعالَم قديم؛ منهم من يصفه

1 سورة مريم، الآية 96.

2 سورة البقرة، الآية 222.

3 سورة هود، الآية 90.

4 سورة البروج، الآية 14.

5 انظر: كلام الفلاسفة في هذا الموضوع في: قاعدة في المحبة - ضمن جامع الرسائل 2397-398 -. والجواب الصحيح 622-45. ومجموع الفتاوى 7586-597.

ص: 369

بالإرادة؛ كأبي البركات1، وغيره؛ قالوا: ومن المعلوم بالاضطرار للعقلاء إذ قالوا: هذا الأمر حصل بالإرادة أن يكون محدَثاً، كائناً بعد أن لم يكن، ولهذا لا يجوز أن يُقال إنّ قدرته ومشيئته تعلّقت بوجوده، ولا ببقائه، ولا بكونه حيّاً، ومن قال إنّ صفاته قديمة الأعيان، لا يقول إنّ كلامه وإرادته حصلت بإرادته وقدرته.

فيقال: هذا الذي قالوه، صحيحٌ. لكن هنا نوعان؛

أحدهما: إرادة أن يفعل الشيء ويكون. فهذه لا تكون إلا مع حدوثه.

والثانية: محبّة نفس ذاته، من غير أن يفعل في الذات شيء. فهذه التي تتعلّق بالموجود، والباقي، والقديم. وإرادة الفعل تابعة لهذه؛ فإنّه لولا أن تكون الإرادة متعلّقة بنفس الشيء الموجود، امتنع أن يراد إيجاده؛ فإنّ من أراد [أن] 2 يبنيَ بيتاً ليسكنه، إنّما مراده نفس البيت لسكناه والانتفاع، وإنّما البناء وسيلة إلى ذلك. لولا إرادة الغاية المقصودة بالذات لم تُرد الوسيلة. وإذا بناه، فهو مريد له بعد البناء، ولهذا يكره خرابه وزواله. وكذلك من أراد أن يلبس ثوباً، فلبسه، فهو في حال اللبس مريدٌ له. فمن أراد إحداث أمر وفعله، كانت إرادة فعله لغاية مقصودة بعد الفعل، هي العلّة [الغائيّة]3.

1 هو أبو البركات، هبة الله بن علي بن ملكا البلدي. قال عنه الذهبي:"العلامة الفيلسوف، شيخ الطب، أوحد الزمان". وكان يهودياً، وأسلم في آخر عمره. ولد نحو سنة 480 ?، وتوفي سنة 560 ?. انظر: سير أعلام النبلاء 20419. والأعلام 874.

2 ما بين المعقوفتين ليس في ((خ)) ، وهو في ((م)) ، و ((ط)) .

3 ما بين المعقوفتين في ((ط)) : الغائبة. وما أثبت من ((خ)) ، و ((م)) .

والعلّة الغائيّة هي: ما يوجد الشيء لأجله.

انظر: التعريفات للجرجاني ص 202. والمبين في شرح ألفاظ الحكماء والمتكلمين للآمدي ص 123. ومعيار العلم في فنّ المنطق للغزالي ص 313.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "فالعلة الغائية متقدّمة في التصوّر والإرادة، وهي متأخرة في الوجود؛ فالمؤمن يقصد عبادة الله ابتداءً، وهو يعلم أنّ ذلك لا يحصل إلا بإعانته، فيقول:{إِيَّاْكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاْكَ نَسْتَعِيْنُ} .

مجموع الفتاوى 10284. وانظر: المصدر نفسه 8187. ودرء تعارض العقل والنقل 1329-330.

ص: 370

والفعل المطلوب لغاية، لفاعله إرادتان: إرادة الفعل، وإرادة الغاية. وهذه1 هي الأصل، وتلك2 تبعٌ لهذه.

والإرادة إرادة لا تتعلّق بالمعدوم من جهة كونه معدوماً، بل تتعلّق بوجود الفعل، لكن يمتنع أن يراد فعله إلا إذا كان معدوماً3.

فالعدم شرطٌ في إرادة فعله، ولهذا جُعل من جملة علل الفعل.

ولهذا كان جماهير العقلاء مطبقين على أنّ كلّ مفعولٍ فهو حادث، وكلّ ما أريد أن يُفعل فإنّه يكون حادثاً، وكلّ ما تعلّقت المشيئة والقدرة بفعله فهو حادث.

ثمّ من النّاس من يقول: هذا مختصّ بكونه مفعولاً بالاختيار، وإلا إذا كان معلولاً لعلّة موجبة، لم يلزم حدوثه.

وهو غلط. بل كلّ ما فُعل، فلا يكون إلا مُحدَثاً؛ سواءٌ كان ذلك ممكناً، أو ممتنعاً. بل نفس كونه مفعولاً مستلزمٌ حدوثه، ونفس تصوّر

1 أي إرادة الغاية.

2 أي إرادة الفعل.

3 انظر: قاعدة في المحبة - ضمن جامع الرسائل 2398 -.

ص: 371

العلم بكونه مفعولاً يوجب العلم بحدوثه، وإن لم يخطر بالبال كونه مفعولاً بالقدرة والاختيار1.

ثمّ قد يُقال: ما من مفعول إلا وهو مفعولٌ بالاختيار. والقديم إذا قُدّر فاعلاً بلا مشيئة، كان ذلك ممتنعاً. والموجب بالذات إذا قيل هو موجب بذاته المتصفة بمشيئته وقدرته لما يشاؤه، و [هذا] 2 حقّ، وهو مستلزمٌ لكونه فاعلاً بمشيئته وقدرته. وأمّا موجب بلا مشيئة، أو موجب يُقارنه موجب، فهذان باطلان، وبهما ضلّ من ضلّ من االمتفلسفة القائلين بقدم الفلك ونفي الصفات. ولكن: من أراد إحداث شيء وأحدثه، لم يجب أن تنقطع إرادته، بل قد يكون مريداً له ما دام موجوداً، ولولا أنّه مريد لوجوده لما فعله. فكلّ ما شاء الله وجوده، فهو مريد إحداثه وبقاءه ما دام باقياً. وأمّا الإرادة والمحبّة المتعلّقة بالقديم: فليست إرادة فعل فيه، بل هي محبّة ذاته. وكلّ إرادة ومحبّة، فلا بُدّ أن تنتهي إلى محبوبٍ لذاته. وكلّ فاعل بالإرادة، فإرادته تستلزم محبّة عامّة لأجلها فعل3.

فالحبّ أصل وجود كلّ موجود، والربّ تعالى يُحبّ نفسه. ومن لوازم [حبّه] 4 نفسه: أنّها محبّة مريدة لما يريد أن يفعله، وما أراد فعله، فهو يريده لغاية يُحبّها؛ فالحبّ هو العلّة الغائيّة التي لأجله كان كلّ شيء.

1 انظر: مختصر الصواعق لابن الموصلي 2116.

2 في ((خ)) : ولهذا. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

3 انظر: قاعدة في المحبّة - ضمن جامع الرسائل 2401 -.

4 ما بين المعقوفتين ليس في ((خ)) ، وهو في ((م)) ، و ((ط)) .

ص: 372

الفلاسفة يصفون الله بالابتهاج والفرح

والمتفلسفة يصفونه بالابتهاج و [الفرح] 1؛ كما جاءت به النصوص النبويّة، لكنّهم يُقصّرون في معرفة هذا وأمثاله من الأمور الإلهيّة؛ فإنّهم يقولون: اللّذّة إدراك الملائم من حيث هو ملائم، وهو مدرك لذاته بأفضل إدراك2؛ فهو أفضل مدرِك لأفضل مدرَك بأفضل [إدراك]3.

تقصير الفلاسفة في ذلك من ثلاثة أوجه

وقد قصّروا في ذلك من ثلاثة أوجه:

أحدها: أنّ اللّذّة والفرح والسرور والبهجة ليس هو مجرّد الإدراك، بل هو حاصل عقب الإدراك؛ فالإدراك موجب له، ولا بُدّ في وجوده من محبّة. فهنا ثلاثة أمور: محبّة، وإدراك لمحبوب، ولذّة تحصل بالإدراك. وهذا في اللّذّات الدنيويّة الحسيّة وغيرها؛ فإنّ الإنسان يشتهي الحلو ويُحبّه، فإذا ذاقه التذّ بذوقه، والذوق هو الإدراك4. وكذلك في لذّات قلبه يُحِبّ الله؛ فإنّه إذا ذكره، وصلّى له، وجد حلاوة ذلك؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: "جُعِلَتْ قُرّة عيني في الصلاة"5.

وأهل الجنّة إذا تجلّى لهم، فنظروا إليه، قال: فما أعطاهم شيئاً أحبّ إليهم من النّظر إليه6.

1 في ((خ)) : الفرج. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

2 انظر: المباحث المشرقية في علم الإلهيّات والطبيعيّات للرازي 1513-514.

3 في ((خ)) : ادرك. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

4 انظر: المباحث المشرقية للرازي 1514؛ فقد ذكر نحواً من كلام شيخ الإسلام هذا.

5 الحديث رواه أحمد في المسند 3128، 199، 285. والنسائي 761 في عشرة النساء، باب حبّ النساء. والحاكم في المستدرك 2160، وقال: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبيّ من حديث أنس.

6 هو جزء من حديث سبق تخريجه ص 398.

ص: 373

والله أعلم12.

1 وانظر: أقسام النّاس في مقاصد العبادات - سيّما الفلاسفة - في: الجواب الصحيح 637-41. وجامع الرسائل 2251-252. ومجموع الفتاوى 7536.

2 كتب الناسخ عند نهاية هذا الكلام:

آخر المجلد الحادي والعشرين من بعد المائة الملحق بالكواكب الدراري، ولله الحمد والمنّة، لا نحصي ثناءً عليه. وصلواته وسلامه وبركاته على سيدنا محمد وآله وأصحابه. ختم آخره [.......] بن محمد بن محمود بن بدر الحنبلي عشيّة يوم الخميس حادي وعشرين شهر شوال سنة ثلاثين وثمان مائة من الهجرة النبوية، عفى الله لمؤلفه ولكاتبه ولقارئه ولجميع المسلمين.

يتلوه فصل في تمام القول في محبة الله وانقسام المراد إلى ما يراد لذاته

إلخ.

ملاحظة: في الأصل بين المعقوفتين - التي بعد ختم آخره - بياض، وقد ظهر لي أن اسمه إبراهيم، وذلك من خلال جزء من مخطوطة الكواكب الدراري التي كتبها. وكذلك في البطاقة التي فيها الفهارس والتعريف بكتاب النبوات في مكتبة الجامعة الإسلامية.

ص: 374

فصل1

في تمام القول في محبّة الله2،

وانقسام المراد إلى ما يُراد لذاته، وإلى ما يُراد لغيره3

تابع: الوجه الأول في الرد على الفلاسفة

ثمّ4 ذلك الغير لا بُدّ أن يكون مُراداً لذاته، فالمراد لذاته لازمٌ لجنس الإرادة، والإرادة لازمة لجنس الحركة؛ فإنّ الحركة [الطبيعيّة5،و] 6 القسريّة7 مستلزمةٌ للحركة الإراديّة8. والحركة الإراديّة مستلزمة لمرادٍ

1 كُتب في بداية الورقة: "بسم الله الرحمن الرحيم. اللهم عونك، لا حول ولا قوة إلا بك".

2 انظر: كلام المؤلف رحمه الله على محبّة الله تعالى في: منهاج السنة النبوية 5388-412. والاستقامة 288-128. ومجموع الفتاوى 1478. والجواب الصحيح 639. وقاعدة في المحبة - ضمن جامع الرسائل - 2193-401.

3 انظر: مزيد كلامٍ للمؤلف رحمه الله عن انقسام المراد إلى ما يُراد لذاته، وإلى ما يُراد لغيره في: درء تعارض العقل والنقل 663-66.

4 في ((ط)) : تمّ - بالتاء -، وما أثبت من ((خ)) ، و ((م)) .

5 الحركة الطبيعيّة: هي التي لا تحصل بسبب أمر خارج، ولا تكون مع شعورٍ وإرادة؛ كحركة الحجر إلى أسفل. التعريفات للجرجاني ص 85.

6 ما بين المعقوفتين ليس في ((م)) ، و ((ط)) . وهو في حاشية ((خ)) ، فوق السطر، وعليه علامة التصحيح ((صح)) .

7 الحركة القسريّة: ما يكون مبدؤها بسبب ميلٍ مستفادٍ من خارج؛ كالحجر المرمى إلى فوق. فهي حركة اضطراريّة. التعريفات للجرجاني ص 85.

8 الحركة الإراديّة: ما لا يكون مبدؤها بسبب أمرٍ خارجٍ مقارناً بشعورٍ وإرادة؛ كالحركة الصادرة من الحيوان بإرادته. التعريفات ص 85.

ص: 375

لذاته. فكان جنس الحركات الموجودة في العالَم مستلزمة للمراد لذاته؛ وهو المعبود الذي يستحق العبادة لذاته؛ وهو الله لا إله إلا هو1، فلو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا. وكلّ عملٍ لا يُراد به وجهه، فهو باطلٌ. وكلّ عاملٍ لا يكون [عمله] 2 لله، بل لغيره، وهو المشرك؛ فإنّه كما قال تعالى:{فَكَأَنَّمَاْ خَرَّ مِنَ السَّمَاْءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِيْ بِهِ الرِّيْحُ فِيْ مَكَاْنٍ سَحِيْقٍ} 3؛ فإنّ قوام الشيء بطبيعته الخاصّة به؛ فالحيّ قوامه بطبيعته المستلزمة لحركته الإراديّة، وقوامها بالمراد لذاته، فإذا لم يكن حركتها لإرادة المعبود لذاته، لم يكن لنفسه قوام، بل بقيت ساقطة، خارَّة؛ كما ذكر الله تعالى. ولهذا يهوي في الهاوية؛ وهو ذنبٌ لا يُغفر؛ لأنّه فسد الأصل؛ كالمريض الذي فسد قلبه، لا ينفع مع ذلك إصلاح أعضائه.

1 هذا الدليل الذي ذكره شيخ الإسلام رحمه الله دليلٌ عقليّ، يستخدمه كثيراً رحمه الله، وقد قال عنه في بعض كتبه:"الحركات الموجودة في العالم ثلاثة: قسرية، وطبيعية، وإرادية. ووجه الحصر: أنّ مبدأ الحركة إما أن يكون من المتحرك، أو من سبب خارج. فإن لم تمكن حركته إلا بسبب خارج عنه؛ كصعود الحجر إلى فوق؛ فهذه الحركة القسرية. وإن كانت بسبب منه؛ فإمّا أن يكون المتحرك له شعور، وإما أن لا يكون. فإن كان له شعور، فهي الحركة الإرادية، وإلا فهي الطبيعية. والحركة الطبيعية في العناصر: إما أن تكون لخروج الجسم عن مركزه الطبيعيّ، وإلا فالتراب إذا كان في مركزه لم يكن في طبعه الحركة. فالمتولدات من العناصر لا تتحرك إلا بقاسر يقسر العناصر على حركة بعضها إلى بعض. وإذا كانت الحركات الطبيعية والقسرية مفتقرة إلى محرك في الخارج، عُلم أنّ أصل الحركات كلها الإرادة، فيلزم من هذا أن يكون مبدأ جميع الحركات من العالم العلويّ والسفليّ هو الإرادة". كتاب الصفدية 1174-175. وانظر: مجموع الفتاوى 16131، 8171.

وقد استخدم شيخ الإسلام رحمه الله هذا الدليل أيضاً لإثبات وجود الملائكة بالعقل. انظر: المصدر المتقدم نفسه.

2 ما بين المعقوفتين ملحق في ((خ)) بين السطرين.

3 سورة الحج، الآية 31.

ص: 376

لفظ الدعاء في القرآن

ولفظ دعاء الله في القرآن1 يُراد به دعاء العبادة، ودعاء [المسألة] 2؛ فدعاء العبادة يكون الله هو المراد به، فيكون الله هو المراد. ودعاء المسألة يكون المراد منه3؛ كما في قول المصلّي:{إِيَّاْكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاْكَ نَسْتَعِيْنُ} 4؛ فالعبادة إرادته، والاستعانة وسيلة إلى العبادة إرادة المقصود، وإرادة الاستعانة إرادة الوسيلة إلى المقصود، ولهذا قدّم قوله:{إِيَّاْكَ نَعْبُدُ} ، وإن كانت لا تحصل إلا بالاستعانة؛ فإنّ العلّة الغائيّة مقدّمة في التصوّر والقصد، وإن كانت مؤخّرة في [الوجود] 5 والحصول، وهذا إنّما يكون لكونه هو المحبوب لذاته.

لكن المراد به محبّة مختصة به على سبيل الخضوع له والتعظيم، وعلى سبيل تخصيصها به؛ فيُعبّر عنها بلفظ الإنابة، والعبادة، ونحو ذلك؛ [إذ] 6 كان لفظ المحبّة (جنس عامّ) ، يدخل فيه أنواع كثيرة، فلا يرضى لله

1 قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الدعاء هو العبادة"، وقرأ:{وَقَاْلَ رَبُّكُمُ ادْعُوْنِيْ أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاْخرِيْنَ} [سورة غافر، الآية 60] . والحديث أخرجه الترمذيّ، وقال: هذا حديث حسن صحيح.

2 في ((خ)) : للمسألة. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

3 أي من الله تعالى.

والدعاء ينقسم إلى نوعين:

دعاء مسألة: وهو سؤال الله تعالى بأسمائه الحسنى ما ينفع الداعي وطلب كشف ما يضره. ودعاء عبادة: وهو التعبّد لله تعالى بمقتضى هذه الأسماء التي فيها ثناء على الله تعالى، والنوعان متلازمان. قال الله تعالى:{ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} الآيات وفيها: {وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعا} وقد اشتملت الآية على النوعين، قيل: أعطيه إذا سألني، قيل: أثيبه إذا عبدني. انظر: مجموع الفتاوى 5211، 1510-11. واقتضاء الصراط المستقيم 2778-779. وبدائع الفوائد1164، 32-3. وزاد المعاد 1335. وتيسير العزيز الحميد ص 216، 640.

4 سورة الفاتحة، الآية 5.

5 في ((خ)) : الوجد. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

6 في ((ط)) : إذا. وما أثبت من ((خ)) ، و ((م)) .

ص: 377

بالقدر المشترك، بل إذا ذُكِر من يُحبّ غير الله، قال تعالى:{وَالَّذِيْنَ آمَنُوْا أَشَدُّ حُبَّاً للهِ} 1، وإذا ذُكِر محبّتهم لربّهم، ذُكِرت محبّته لهم، وجهادهم؛ كما في قوله:{فَسَوْفَ يَأْتِيْ اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّوْنَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِيْنَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَاْفِرِيْنَ يُجَاْهِدُوْنَ فِيْ سَبِيْلِ اللهِ وَلا يَخَاْفُوْنَ لَوْمَةَ لائِمٍ} 2، وفي مثل قوله:{أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُوْلِهِ وَجِهَاْدٍ فِيْ سَبِيْلِهِ} 3. ولهذا كانت القلوب [تطمئنّ بذكره] 4؛ كما قال تعالى: {أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوْبُ} 5؛ فتقديم المفعول يدلّ على أنّها لا تطمئِنّ إلا بذكره، [و] 6 هو تعالى إذا ذُكِرَ وَجِلَتْ، فحصل لها اضطراب ووجل لما [تخافه] 7 من [دونه] 8، و [تخشاه] 9 من فوات نصيبها منه. فالوجل إذا ذُكر حاصل بسبب من الإنسان، وإلا فنفس ذكر الله يوجب الطمأنينة؛ لأنّه هو المعبود لذاته، والخير كلّه منه؛ قال تعالى:{نَبِّئْ عِبَاْدِيْ أَنِّيْ أَنَاْ الْغَفُوْرُ الرَّحِيْمُ وَأَنَّ عَذَاْبِيْ هُوَ الْعَذَاْبُ الألِيْمُ} 10، وقال تعالى:{اِعْلَمُوْا أَنَّ اللهَ شَدِيْدُ العِقَاْبِ وَأَنَّ اللهَ غَفُوْرٌ رَحِيْمٌ} 11. وقال علي رضي الله عنه: "لا يرجونّ

1 سورة البقرة، الآية 165.

2 سورة المائدة، الآية 54.

3 سورة التوبة، الآية 25.

4 ما بين المعقوفتين ليس في ((خ)) ، وهو في ((م)) ، و ((ط)) .

5 سورة الرعد، الآية 28.

6 ما بين المعقوفتين ليس في ((ط)) ، وهو في ((خ)) ، و ((م)) .

7 في ((خ)) : يخافه. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

8 في ((خ)) : دونها. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

9 في ((خ)) : يخشاه. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

10 سورة الحجر، الآيتان 49-50.

11 سورة المائدة، الآية 98.

ص: 378

عبدٌ إلا ربّه، ولا يخافنّ عبدٌ [إلا] 1 ذنبه)) 2؛ فالخوف الذي يحصل عند ذكره، هو بسبب [من] 3 العبد، وإلا فذكر الربّ نفسه يحصل الطمأنينة والأمن؛ فما أصابك من حسنةٍ فمن الله، وما أصابك من سيئة فمن نفسك؛ كما قال ذلك المريض الذي سُئل: كيف تجدك؟ فقال: أرجو الله، وأخاف ذنوبي. فقال [النبيّ صلى الله عليه وسلم] 4:"ما اجتمعا في قلب عبدٍ في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله ما يرجو، وأمّنه ممّا يخاف"5.

ولم يقل بذكر الله توجل القلوب، كما قال:{أَلا بِذِكُرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوْبُ} 6، بل قال:{إِذَاْ ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوْبُهُم} 7، ثمّ قال:{وَإِذَاْ تُلِيَتْ عَلَيْهمْ آيَاْتُهُ زَأْدَتْهُمْ إِيْمَاْنَاً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكلُوْنَ} 8. وإنّما يتوكّلون عليه لطمأنينتهم إلى كفايته، وأنّه سبحانه حَسْبُ من توكّل عليه؛ يهديه، وينصره،

1 ما بين المعقوفتين ليس في ((ط)) ، وهو في ((خ)) ، و ((م)) .

2 سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن قول عليّ هذا: ما معناه؟ فأجاب رحمه الله: "هذا الكلام يؤثر عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وهو من أحسن الكلام، وأبلغه، وأتمّه؛ فإنّ الرجاء يكون للخير، والخوف يكون من الشرّ، والعبد إنّما يُصيبه الشرّ بذنوبه....." إلى آخر كلامه القيّم رحمه الله تعالى. انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية 8161-181.

3 ما بين المعقوفتين ليس في ((ط)) ، وهو في ((خ)) ، و ((م)) .

4 ما بين المعقوفتين ليس في ((خ)) ، وهو في ((م)) ، و ((ط)) .

5 جزء من حديث رواه الترمذي في جامعه 3302، كتاب الجنائز، رقم 983، وقال: حديث غريب. وابن ماجه - من حديث أنس - في سننه 21423، كتاب الزهد، باب ذكر الموت والاستعداد له. وقال الحافظ المنذري في الترغيب والترهيب 4163: إسناده حسن. وقال عنه الشيخ الألباني: "رجاله ثقات، وفي سيار بن حاتم كلامٌ لا يضرّ. فالسند حسن". مشكاة المصابيح 1506.

6 سورة الرعد، الآية 28.

7 سورة الأنفال، الآية 2.

8 سورة الأنفال، الآية 2.

ص: 379

ويرزقه بفضله، ورحمته، وجوده. فالتوكّل [عليه] 1 يتضمّن الطمأنينة إليه، والاكتفاء به عمّا سواه.

وكذلك قال في الآية الأخرى: {فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاْحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوْا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِيْنَ الَّذِيْنَ إِذَاْ ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوْبُهُمْ وَالصَّاْبِرِيْنَ عَلَى مَاْ أَصَاْبَهُمْ وَالْمُقِيْمِيْ الصَّلاةِ وَمِمَّاْ رَزَقْنَاْهُمْ يُنْفِقُوْنَ} 2، فهم مُخبتون. والمُخبت: المطمئنّ الخاضع لله. والأرض [الخبت] 3: [المطمئنّة]4.

روى ابن أبي حاتم من حديث ابن مهدي، عن الثوري، عن ابن أبي نجيح:{وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِيْنَ} ، قال: المطمئنّين5. وعن الضحّاك: المتواضعين6؛ فوصفهم بالطمأنينة مع الوجل، كما وصفهم هناك بالتوكّل عليه مع الوجل، وكما قال في وصف القرآن: {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُوْدُ الَّذِيْنَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِيْنُ جُلُوْدُهُمْ وَقُلُوْبُهُمْ إِلَىْ ذِكْرِ اللهِ} 7. فذكر أنّه بعد الاقشعرار تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله؛ فذكره بالذات يوجب الطمأنينة، وإنّما الاقشعرار والوجل عارضٌ بسبب ما في نفس الإنسان من التقصير في حقّه، والتعدّي لحدّه؛ فهو كالزبد مع ما ينفع النّاس: الزبد يذهب جفاء، وما ينفع النّاس يمكث في الأرض.

1 ما بين المعقوفتين ملحق في ((خ)) بين السطرين.

2 سورة الحج، الآيتان 34-35.

3 ما بين المعقوفتين ليس في ((ط)) ، وهو في ((خ)) ، و ((م)) .

4 ما بين المعقوفتين ليس في ((خ)) ، و ((م)) ، وهو في ((ط)) .

5 تفسير مجاهد ص 425، وفيه عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:{وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِيْنَ} ، قال: المطمئنّين. وكذلك تفسير الطبري 9151.

6 رواه الطبري في تفسيره عن قتادة. انظر: تفسيره 9151.

7 سورة الزمر، الآية 23.

ص: 380

فالخوف مطلوبٌ لغيره، ليدعو النّفس إلى فعل الواجب، وترك المحرّم. وأمّا الطمأنينة بذكره، وفرح القلب به، ومحبّته، فمطلوب لذاته. ولهذا يبقى معهم هذا في الجنّة، فيُلهَمون التسبيح، كما يُلهَمون النَّفَس1.

اللذات عند الفلاسفة ثلاث

والمتفلسفة2 رأوا اللّذّات في الدنيا ثلاثة3: حسيّة، ووهميّة،

1 أخرج مسلم في صحيحه، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: "إنّ أهل الجنّة يأكلون فيها، ويشربون، ولا يتفلون، ولا يبولون، ولا يتغوّطون، ولا يمتخطون". قالوا: فما بال الطعام؟ قال: "جشاء، ورشح كرشح المسك، يُلهمون التسبيح والتحميد، كما يُلهمون النَّفس". صحيح مسلم 42180-2181، كتاب الجنّة وصفة نعيمها وأهلها، باب في صفات أهل الجنّة وتسبيحهم فيها بكرة وعشيّاً. ومسند الإمام أحمد 3349. وانظر: جامع العلوم والحكم لابن رجب 2211.

2 الفلاسفة هم طائفة من اليونانيّين يشتغلون بالفلسفة، ولهم أقوال مختلفة. وكلمة فلسفة كلمة يونانيّة مركّبة من فيلو، ومعناها: محبّ، وسوفيا، ومعناها: الحكمة. فالفيلسوف هو محبّ الحكمة. ومذهبهم: أنّ العالّم قديم، وعلّته مؤثّرة بالإيجاب، وليست فاعلة بالاختيار. وأكثرهم ينكرون علم الله تعالى، وينكرون حشر الأجساد. وتأثّر بهم كثيرٌ ممّن أراد أن يجمع بين الشريعة والفلسفة؛ مثل ملاحدة الصوفيّة، والشيعة. انظر: الفصل في الملل والأهواء والنحل 141. والملل والنحل 2155. والمعجم الفلسفي ص 138-140. والجواب الصحيح 622-45. وكتاب الصفدية 1267،، 2323. والرد على المنطقيّين ص 332.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن الفلسفة: "والفلسفة هي باطن الباطنيّة، ولهذا صار في هؤلاء نوع من الإلحاد، فقلّ أن يسلم من دخل مع هؤلاء في نوع من الإلحاد في أسماء الله وآياته، وتحريف الكلم عن مواضعه". درء تعارض العقل والنقل 3269.

3 ولقد شاركهم الرازي، وقسّمها مثل تقسيمهم في آخر كتبه؛ وهو كتاب أقسام اللّذّات، وبيّن أنّها ثلاثة: الحسيّة؛ كالأكل، والشراب، والنكاح، واللباس. واللذة الخياليّة الوهميّة؛ كلذة الرياسة، والأمر، والنهي، والترفع، ونحوها. واللذة العقليّة؛ كلذة العلوم، والمعارف. وهي الحقّ، وأنّ شرف العلم بشرف المعلوم. انظر: اجتماع الجيوش الإسلامية ص 304-305. وجامع الرسائل 2250-251. وانظر: ما سيأتي لاحقاً ص 478.

ص: 381

وعقليّة. والحسيّة في الدنيا غايتها دفع الألم. والوهميّة خيالات [وأضغاث] 1، واللذّة الحقيقيّة هي العلم. فجعلوا جنس العلم غاية، وغلطوا من وجوه: أحدها: أنّ العلم بحسب المعلوم، فإذا كان المعلوم محبوباً تكمل النفس بحبّه، كان العلم به كذلك. وإن كان مكروهاً، كان العلم به لحذره، ودفع ضرره؛ كالعلم بما يضرّ الإنسان من شياطين الإنس والجنّ. فلم يكن المقصود نفس العلم، بل المعلوم. ولهذا قد يقولون: سعادتها في العلم بالأمور الباقية2، وأنّها تبقى ببقاء معلومها. ثمّ يظنّون أنّ الفَلَك والعقول والنفوس أمور باقية، وأنّ بمعرفة هذه تحصل سعادة النفس. وأبو حامد في مثل ((معراج السالكين)) ، ونحوه، يُشير إلى هذا3؛ فإنّ كلامه برزخٌ بين المسلمين وبين الفلاسفة؛ ففيه فلسفة مشوبة بإسلام، وإسلامٌ مشوبٌ بفلسفة4،

الغزالي بين المسلمين والفلاسفة

ولهذا

1 في ((خ)) رسمت: (واصحار) كذا مهملة. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

2 انظر: كتاب العلم، ضمن إحياء علوم الدين للغزالي.

3 انظر: معراج السالكين - ضمن مجموعة القصور العوالي 3113-114 -.

وقال الغزالي في المضنون به على غير أهله - ضمن القصور العوالي 2162: "وأمّا الكلام في أنّ بعض هذه اللّذّات ممّا لا يُرغَب فيها؛ مثل اللبن، والاستبرق، والطلح المنضود، والسدر المخضود، فهذا ممّا خوطب به جماعة يعظم ذلك في أعينهم، ويشتهونه غاية الشهوة".

4 وقال شيخ الإسلام رحمه الله عنه أيضاً: "ولهذا جعلوا كثيراً من كلامه برزخاً بين المسلمين والفلاسفة المشائين؛ فالمسلم يتفلسف به على طريقة المشائين تفلسف مسلم، والفيلسوف يسلم به إسلام فيلسوف، فلا يكون مسلماً محضاً، ولا فيلسوفاً محضاً على طريقة المشائين". منهاج السنة النبوية 1357. وانظر: بغية المرتاد ص 193، 198، 199. وشرح الأصفهانية 2507.

ص: 382

كان في كتبه؛ كالإحياء، وغيره يجعل المعلوم بالأعمال، والأعمال كلها إنّما غايتها هو العلم فقط1، وهذا حقيقة قول هؤلاء الفلاسفة2، وكان يُعظِّم الزهد3 جداً، ويعتني به أعظم من اعتنائه بالتوحيد الذي جاءت به الرسل؛ وهو عبادة الله وحدَه لا شريك له، وترك عبادة ما سواه؛ فإنّ هذا التوحيد يتضمّن محبّة الله وحده، وترك محبّة المخلوق مطلقاً، إلا إذا أحبّه [لله] 4، فيكون داخلاً في محبّة الله، بخلاف من يُحبّه مع الله؛ فإنّ هذا شرك.

وهؤلاء المتفلسفة إنّما يُعظّمون تجريد النفس عن الهيولي5، وهي

1 انظر: إحياء علوم الدين 153.

2 وقال عنهم شيخ الإسلام رحمه الله أيضاً: "ثمّ إنّهم مع إقرارهم بأنّ جعل هذه المعاني الصابئية الفلسفية هي مسميات هذه الأسماء النبوية، أو التي يٌقال إنّها نبويّة، هو من كلام هؤلاء المتفلسفة، يقطعون بذلك في مواضع أُخر. بل فيما يجعلونه من أشرف العلوم والمعارف، حتى إنّهم يجعلونه من العلوم التي يُضنّ بها على غير أهلها، ومن العلم المكنون الذي يُنكره أهل الغرة بالله، ولا يعرفه إلا أهل العلم بالله. وهذا موجود في مواضع كثيرة؛ كما في كتاب التفرقة بين الإيمان والزندقة". بغية المرتاد ص 195-196.

3 انظر: كتاب الزهد، ضمن إحياء علوم الدين 4203-225.

4 في ((م)) ، و ((ط)) : الله. وما أثبت من ((خ)) .

5 قال صاحب التعريفات: "الهيولي: لفظ يوناني، بمعنى الأصل والمادّة. وفي الاصطلاح: هي جواهر في الجسم قابلة لما يعرض لذلك الجسم من الاتصال، والانفصال، محلّ للصورتين: الجسميّة، والنوعيّة". التعريفات ص 321.

وقال عنه شيخ الإسلام رحمه الله: "الهيولي في لغتهم بمعنى المحلّ؛ يُقال الفضة هيولي الخاتم والدرهم، والخشب هيولي الكرسيّ؛ أي هذا المحلّ الذي تُصنع فيه هذه الصورة، وهذه الصورة الصناعية عرض من الأعراض. ويدّعون أنّ للجسم هيولي، محلّ الصورة الجسميّة، غير نفس الجسم القائم بنفسه". مجموع الفتاوى 17328.

ص: 383

المادّة، وهي البدن، وهو الزهد في أغراض البدن، و [هو] 1 الزهد في الدنيا. وهذا ليس فيه إلا تجريد النفس عن الاشتغال بهذا؛ فتبقى النفس فارغة؛ فيُلقي إليها الشيطان ما يُلقيه، ويوهمه أنّ ذلك من علوم المكاشفات والحقائق2، وغايته وجود مطلق، هو في الأذهان، لا في الأعيان3.

الغزالي جعل السلوك إلى الله ثلاثة منازل

ولهذا جعل أبو حامد السلوك إلى الله ثلاثة منازل، بمنزلة السلوك4

1 في ((خ)) : هي. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

2 يقول الغزالي عن هذه المكاشفات والحقائق التي تحصل له: "وهذه هي العلوم التي لا تسطّر في الكتب، ولا يتحدّث بها من أنعم الله عليه بشيء منها إلا مع أهله، وهو المشارك فيه، على سبيل المذاكرة، وبطريق الإسرار، وهذا هو العلم الخفي". إحياء علوم الدين 120-21. وانظر: المنقذ من الضلال ص 51.

ويقول أيضاً في ((كيمياء السعادة)) - ضمن الجواهر الغوالي ص 15-16: "إنّ صاحب الرياضة قد يسمع كلام الله، كما سمعه موسى بن عمران عليه السلام".

وانظر: العواصم من القواصم ص 22-23. والرد على المنطقيّين ص509-510. والصفدية 1230. ودرء تعارض العقل والنقل 10281-282. وسير أعلام النبلاء 19333-334. وجامع الرسائل 1163-164.

3 وأوضح شيخ الإسلام رحمه الله مرادهم من الوجود المطلق: "أنّ الحق هو الوجود المطلق، والفرق بينه وبين الخلق من جهة التعيين، فإذا عُيِّن كان خلقاً، وإذا أُطلق الوجود كان هو الحقّ". بغية المرتاد ص 410.

وقال أيضاً رحمه الله: "ومنتهاهم أن يُثبتوا وجوداً مطلقاً لا حقيقة له إلا في الذهن، لا في الخارج. وهذا منتهى هؤلاء المتفلسفة ومن سلك سبيلهم من المتصوّفة أهل الوحدة والحلول والاتحاد، ومن ضاهاهم من أصناف أهل الإلحاد". درء تعارض العقل والنقل10282. وانظر: المصدر نفسه 1290، 318، 6242. والرد على المنطقيّين ص 309، 522. وشرح حديث النزول ص 97.

4 في ((خ)) : تكرار: (ثلاثة منازل بمنزلة السلوك) . إلا أنّ الذي قابل النسخة تنبّه لهذا التكرار، فوضع (من) في أوله، و (إلى) في آخره؛ علامة على الحذف. والله أعلم.

ص: 384

إلى مكة؛ فإنّ السالك إليها له ثلاثة أصناف من الشغل:

الأول: تهيئة الأسباب؛ كشراء الزاد، والراحلة، وخرز الراوية1.

والآخر: السلوك، ومفارقة الوطن، بالتوجّه إلى الكعبة، منزلاً بعد منزل.

والثالث: الاشتغال بأركان الحجّ، ركناً بعد ركن، ثمّ بعد النزوع2 عن لبسة الإحرام، وطواف الوداع، استحقّ التعرّض للملك، والسلطنة. قال: فالعلوم ثلاثة3: قسمٌ يجري مجرى سلوك البوادي، وقطع العقبات؛ وهو تطهير الباطن عن كدورات الصفات، وطلوع تلك [العقبة] 4 الشامخة التي عجز عنها الأوّلون والآخرون، إلا الموفّقون.

قال5: فهذا سلوك للطريق، وتحصيل علمه6؛ كتحصيل علم جهات الطريق، ومنازله. وكما لا يغني علم المنازل وطريق البوادي دون سلوكها، فكذا لا يغني علم تهذيب الأخلاق دون مباشرة التهذيب. لكن المباشرة دون العلم، غير ممكن.

قال: وقسم ثالث يجري مجرى نفس الحج وأركانه؛ وهو العلم بالله، وصفاته، وملائكته، وأفعاله، وجميع ما ذكرناه في تراجم علم المكاشفة.

1 خرز الرواية خياطة الأدم. لسان العرب 5344، والمصباح المنير ص 166 والمقصود خياطة القربة للماء.

2 في إحياء علوم الدين: ثمّ بعد الفراغ والنزوع.

3 ذكر شيخ الإسلام رحمه الله تعالىهنا القسمين الثاني والثالث من العلوم التي ذكرها الغزالي في الإحياء، وترك الأول منها؛ وهو:"قسم يجري مجرى إعداد الزاد والراحلة، وشراء الناقة؛ وهو علم الطب، والفقه، وما يتعلّق بمصالح البدن في الدنيا". إحياء علوم الدين 154.

4 في ((خ)) : العاقبة. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

5 أي أبو حامد الغزالي.

6 أي علم الطريق.

ص: 385

قال: وها هنا نجاة وفوز بالسعادة. والنجاة حاصلة لكلّ سالك للطريق، إذا كان غرضه المقصد؛ وهو السلامة. وأمّا الفوز بالسعادة: فلا ينالها إلا العارِفون؛ فهم المقرّبون المنعّمون في جوار الله بالروح، والريحان، وجنّة نعيم1.

وأما الممنوعون دون ذروة الكمال، فلهم النجاة والسلامة؛ كما قال تعالى:{فَأَمَّاْ إِنْ كَاْنَ مِنَ الْمُقَرَّبِيْن فَرَوْحٌ وَرَيْحَاْنٌ وَجَنَّةُ نَعِيْمٍ وَأَمَّاْ إِنْ كَاْنَ مِنْ أَصْحَاْبِ الْيَمِيْنِ فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَاْبِ الْيَمِيْن} 2.

وقال: وكل من لم يتوجّه إلى المقصد، أو انتهض إلى جهته لا على قصد الامتثال بالأمر والعبوديّة، بل لغرض عاجل، فهو من أصحاب الشمال، ومن الضالّين؛ فله نزلٌ من حميم وتصلية جحيم.

قال: واعلم أنّ هذا هو الحق اليقين عند العلماء الراسخين في العلم؛ أعني أنّهم أدركوه بمشاهدة من الباطن. ومشاهدة الباطن أقوى وأجلّ من مشاهدة الأبصار3، وترقّوا فيه عن حدّ التقليد إلى الاستبصار4.

1 في ((م)) ، و ((ط)) : وجنّةٍ، ونعيم - بزيادة الواو.

2 سورة الواقعة، الآيات 88-91.

3 والغزالي يمتدح الصوفية بأنها أفضل الطرق الموصلة للمكاشفات، فيقول:"ومن أول الطريقة تبتدي المكاشفات والمشاهدات، حتى إنّهم في يقظتهم يُشاهدون الملائكة وأرواح الأنبياء، ويسمعون منهم أصواتاً، ويقتبسون منهم فوائد. ثمّ يترقّى الحال من مشاهدة الصور والأمثال إلى درجات يضيق عنها نطاق النطق، فلا يحاول معبّر أن يُعبّر عنها، إلا اشتمل لفظه على خطأ صريح لا يمكنه الاحتراز منه". المنقذ من الضلال ص 50.

4 إحياء علوم الدين للغزالي 154-55، مع اختلاف يسير جداً في بعض الكلمات.

ص: 386

تعليق شيخ الإسلام على كلام الغزالي

قلت: وكلامه من هذا الجنس كثير، ومن لم يعرف حقيقة مقصده [يهوله] 1 مثل هذا الكلام؛ لأنّ صاحبه يتكلّم بخبرة ومعرفة بما يقوله، لا بمجرد تقليدٍ لغيره. لكنّ الشأن فيما خبره، هل هو حقّ مطابق. ومن سلك مسلك المتكلمين؛ الجهميّة، والفلاسفة، ولم يكن عنده خبرة بحقائق ما بعث به رسله، وأنزل به كتبه، بل ولا بحقائق الأمور عقلاً وكشفاً، فإنّ هذا الكلام غايته.

[و] 2 أمّا من عرف حقيقة ما جاءت به الرسل، أو عرف مع ذلك بالبراهين العقليّة والمكاشفات الشهوديّة صدقَهم فيما أخبروا؛ فإنّه يعلم غاية مثل هذا [الكلام] 3، وأنّه إنّما ينتهي إلى التعطيل4.

ولهذا ذاكرني مرة شيخ جليل له معرفة، وسلوك، وعلم في هذا، فقال: كلام أبي حامد يشوقك، فتسير خلفه، منزلاً بعد منزل، فإذا هو ينتهي إلى لا شيء5.

1 في ((ط)) : فهو له. وما أثبت من ((خ)) ، و ((م)) .

2 ما بين المعقوفتين ليس في ((م)) ، و ((ط)) .

3 في ((ط)) : كالكلام.

4 قال شيخ الإسلام رحمه الله عن الغزالي، وما تؤول إليه حاله:(وما يُشير إليه أحياناً في الإحياء وغيره، فإنّه كثيراً ما يقع في كلامه ما هو مأخوذ من كلام الفلاسفة، ويخلطه بكلام الصوفيّة، أو عباراتهم، فيقع فيه كثيرٌ من المتصوّفة الذين لا يُميّزون بين حقيقة دين الإسلام، وبين ما يخالفه من الفلسفة الفاسدة وغيرها، لا سيّما إذا بُني على ذلك، واتُّبِعت لوازمه، فإنّه يُفضي إلى قول ابن سبعين وابن عربي صاحب الفصوص وأمثالهما، ممّن يقول بمثل هذا الكلام، وحقيقة مذهبهم يؤول إلى التعطيل المحض، وأنّه ليس للعالَم ربّ مباين له، بل الخالق هو المخلوق، والمخلوق هو الخالق) . جامع الرسائل 1164.

5 لم أعرف هذا الرجل الذي شافه شيخ الإسلام بشأن حال الغزالي.

وللإمام الطرطوشي عبارة في حال الغزالي، مثل ما ذكر هذا الرجل. انظر: سير أعلام النبلاء 19339، 494.

ص: 387

وهذا الذي جعله هنا الغايةَ، وهو: معرفة الله، وصفاته، وأفعاله، وملائكته، قد ذكره في ((المضنون به على غير أهله)) 1، وهو فلسفة محضة. قولُ المشركين من العرب خيرٌ منه، دع قول اليهود والنصارى. بل قوم نوح، وهود، وصالح، ونحوهم كانوا يُقرّون بالله، وبملائكته، وصفاته، وأفعاله، خيراً من هؤلاء. [لكن] 2 لم يُقرّوا بعبادته وحده لا شريك له، ولا بأنّه أرسل رسولاً من البشر.

حقيقة قول الفلاسفة في أصول الدين

[وهذا حقيقة قول] 3 هؤلاء؛ فإنّهم لا يأمرون بعبادة الله وحده لا شريك له، ولا يُثبتون حقيقة الرسالة، بل النّبوّة عندهم فيضٌ من جنس المنامات4.

وأولئك الكفّار ما كانوا يُنازعون في هذا الجنس؛ فإنّ هذا الجنس موجود لجميع بني آدم، ومع هذا فقد أخبر الله تعالى عنهم أنّهم كانوا يُقرّون بالملائكة؛ كما قال: {فَإِنْ أَعْرَضُوْا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاْعِقَةً مِثْلَ صَاْعِقَةِ عَاْدٍ وَثَمُوْدَ

1 المضنون به على غير أهله - ضمن القصور العوالي - 2126-153.

2 في ((خ)) : ثمّ من. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

3 ما بين المعقوفتين ساقطٌ من ((ط)) ، وهو في ((خ)) ، و ((م)) .

4 انظر: المضنون به على غير أهله - ضمن القصور العوالي - 2143، 149-150. وانظر: معارج القدس في مدارج معرفة النفس ص 151؛ حيث سلك فيه طريقة الفلاسفة في النبوة، وأنّها ثلاث: قوة التخييل، وقوة العقل، وقوة النفس.

ولاحظ كتاب الصفدية لشيخ الإسلام 1230، وفيه ينقل عن الغزالي:(أنّه قد يسمع نفس الخطاب الذي سمعه موسى) . وانظر: سير أعلام النبلاء 19333-334.

ص: 388

إِذْ جَاْءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيْهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَاّ تَعْبُدُوْا إِلَاّ اللهَ قَاْلُوا لَوْ شَاْءَ رَبُّنَاْ لأَنْزَلَ مَلائِكَةً} 1. وقال [قوم] 2 نوح: {مَاْ هَذَاْ إِلَاّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيْدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاْءَ اللهُ لأَنْزَلَ مَلائِكَةً مَاْ سَمِعْنَاْ بِهَذَاْ فِيْ آبَاْئِنَاْ الأَوَّلِيْنَ} 3. بل فرعون قال لموسى: {أَمْ أَنَاْ خَيْرٌ مِنْ هَذَاْ [الَّذِيْ] 4 هُوَ مَهِيْنٌ وَلا يَكَاْدُ يُبِيْنُ فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاْءَ مَعَهُ المَلائِكَةُ مُقْتَرِنِيْنَ فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاْعُوْهُ إِنَّهُمْ كَاْنُوْا قَوْمَاً فَاْسِقِيْنَ} 5.

والعبادات كلّها عندهم مقصودها تهذيب الأخلاق. والشريعة سياسة مدنيّة. والعلم الذي يدّعون الوصول إليه لا حقيقة لمعلومه في الخارج6.

والله أرسل رسوله بالإسلام والإيمان بعبادة الله وحده، وتصديق الرّسول فيما أخبر؛ فالأعمال عبادة الله، والعلوم تصديق الرّسول. وكان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يقرأ في ركعتي الفجر تارةً بسورتي الإخلاص7، وتارةً: {قُوْلُوْا

1 سورة فصلت، الآية 13-14.

2 ما بين المعقوفتين ملحق في ((خ)) بين السطرين.

3 سورة المؤمنون، الآية 24.

4 ما بين المعقوفتين ليس في ((خ)) .

5 سورة الزخرف، الآيات 52-55.

6 قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "إنّ الموجودات العقلية التي يُثبتها هؤلاء من واجب الوجود؛ كالعقول العشرة التي هي عند التحقيق لا توجد إلا في الأذهان، لا في الأعيان. والواحد المجرّد الذي يقولون إنه صدر عنه العالم، لا يوجد إلا في الأذهان، لا في الأعيان. والوجود المطلق الذي يقولون إنه الوجود الواجب إنّما يُوجد في الأذهان لا في الأعيان". كتاب الصفدية 1243.

وانظر: مناظرات شيخ الإسلام لعلمائهم، وفضحه لأصولهم ومعتقداتهم، وبيانه رحمه الله أنّ آخر أمرهم ينتهي إلى الوجود المطلق، وهو في الأذهان لا في الأعيان: في كتاب الصفدية 1296، 302، 303.

7 من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: "أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قرأ في ركعتي الفجر: {قُلْ يَاْ أَيُّهَاْ الْكَاْفِرُوْنَ} ، و {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ} . أخرجه البخاري في كتاب التهجّد 272، باب ما يُقرأ في ركعتي الفجر. ومسلم 1502، كتاب صلاة المسافرين، باب في استحباب ركعتي سنة الفجر.

وأخرج الترمذي في جامعه 3607، كتاب الحج، باب ما يُقرأ في ركعتي الطواف، من حديث جابر بن عبد الله الأنصاريّ أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ في ركعتي الطواف بسورتي الإخلاص:{قُلْ يَاْ أَيُّهَاْ الْكَاْفِرُوْنَ} ، و {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ} وانظر: التدمرية ص 5. وكتاب الصفدية 2312.

وسمّيتا سورتي الإخلاص؛ لأنّ سورة {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ} وصف الله سبحانه بالوحدانيّة، والصمديّة، ونفي الكُفُؤ عنه، والمِثل؛ فاسمه الأحد دلّ على أنّه مستحق لجميع صفات الكمال وحده.

وسورة {قُلْ يَاْ أَيُّهَاْ الْكَاْفِرُوْنَ} ، فيها إيجاب عبادة الله وحده لا شريك له، والتبري من عبادة كلّ ما سواه.

وأمّا من حيث الدلالة: ف {قُلْ يَاْ أَيُّهَاْ الْكَاْفِرُوْنَ} : متضمّنة للتوحيد العمليّ الإراديّ؛ وهو إخلاص الدين لله بالقصد والإرادة.

وأمّا سورة {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ} : فمتضمّنة للتوحيد القولي العلميّ؛ كما ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أنّ رجلاً كان يقرأ: {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ} في صلاته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: سلوه لم يفعل ذلك؟ فقال: لأنّها صفة الرحمن، فأنا أُحبّ أن أقرأ بها. فقال:"أخبروه أنّ الله يُحبّه". انظر: التحفة المهدية ص 28.

ص: 389

آمَنَّاْ بِاللهِ وَمَاْ أُنْزِلَ إِلَيْنَاْ} 1 الآية؛ فإنّها تتضمّن الإيمان، والإسلام. وبالآية من آل عمران:{قُلْ يَاْ أَهْلَ الْكِتَاْبِ تَعَاْلَوْا إِلَىْ كَلِمَةٍ سَوَاْءٍ بَيْنَنَاْ وَبَيْنَكُمْ} 23.

فلاسفة الصوفية الذين تأثروا بكلام الغزالي

[والذين] 4 سلكوا خلف أبي حامد، أو ضاهوه في السلوك؛ كابن سبعين، وابن عربي، صرّحوا بحقيقة ما وصلوا إليه، وهو أنّ الوجود

1 سورة البقرة، الآية 136.

2 سورة آل عمران، الآية 64.

3 قراءة الرسول صلى الله عليه وسلم هذه أخرجها مسلم في صحيحه 1504، كتاب صلاة المسافرين، باب استحباب ركعتي سنة الفجر.

4 في ((ط)) : والذي. وما أثبت من ((خ)) ، و ((م)) .

ص: 390

واحد1، وعلموا أنّ أبا حامد لا يُوافقهم على هذا، فاستضعفوه، و [نسبوه] 2 إلى أنّه مقيّد بالشرع والعقل3.

وأبو حامد بين علماء المسلمين، وبين علماء الفلاسفة. علماء المسلمين يذمّونه على ما شارك فيه الفلاسفة ممّا يُخالف دين الإسلام. والفلاسفة يعيبونه على ما بقي معه من الإسلام، وعلى كونه لم ينسلخ [منه] 4 بالكليّة إلى قول الفلاسفة.

ذم ابن رشد للغزالي

ولهذا كان الحفيد ابن رشد5 يُنشد فيه:

يوماً يمان إذا ما جئتَ ذا يمنٍ وإن لقيتَ معديّاً فعدناني6

1 وشيخ الإسلام رحمه الله يرى أنّ ابن عربيّ، وابن سبعين؛ من أئمة ملاحدة الصوفيّة تأثّروا بكلام الغزالي، وبنوا أفكارهم على أصله الفاسد. انظر: من كتبه: كتاب الصفدية 1230-244. وجامع الرسائل 1163-164. ودرء تعارض العقل والنقل 6241، 10283.

2 في ((خ)) : نسبه. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

3 انظر: ذمّ ابن سبعين للغزالي في: بد المعارف لابن سبعين ص 144. وكذا انظر: ذمّ ابن طفيل له - وهو من الفلاسفة - في فلسفة ابن طفيل، ورسالته ((حي ابن يقظان)) دراسة عبد الحليم محمود ص 79، نقلاً عن تعليق محقق بغية المرتاد ص110.

4 في ((ط)) : عنه.

5 وابن رشد معدود من الفلاسفة. وقد قال يذمّ الغزالي: (إنّه لم يلزم مذهباً من المذاهب في كتبه، بل هو مع الأشاعرة أشعريّ، ومع الصوفية صوفي، ومع الفلاسفة فيلسوف، حتى أنّه كما قيل:

يوماً يمان إذا لاقيتَ ذا يمنٍ وإن لقيتَ معديّاً فعدنانيّ)

فصل المقال وتقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال ص 30.

6 من شعر عمران بن حطان الخارجي. انظر: الكامل للمبرد 2170. والأغاني للأصفهاني 18112. وانظر: منهاج السنة النبوية 1357. ودرء تعارض العقل والنقل 10283.

ص: 391

ذم القشيري للغزالي

وأبو نصر القشيريّ1، وغيره [ذمّوه] 2 على الفلسفة، وأنشدوا فيه [أبياتاً] 3 معروفة، يقولون فيها:

برئنا إلى الله من معشر

بهم مرضٌ من كتاب الشفا4

وكم قلت يا قوم أنتم على

شفا حفرة ما لها من شَفا

فلما استهانوا بتعريفنا

رجعنا إلى الله حتى كفا

فماتوا على دين [رسطالس] 5

وعشنا على سنة المصطفى6 ذم العلماء له

ولهذا كانوا يقولون: أبو حامد قد أمرضه الشفاء7.

1 هو أبو نصر عبد الرحيم بن عبد الكريم بن هوازن القشيري النيسابوري. قال عنه الذهبي: "النحويّ المتكلّم، وهو الولد الرابع من أولاد الشيخ - أبو القاسم القشيريّ". دخل بغداد، فوعظ بها، فوقع بسببه فتنة بين الحنابلة والشافعيّة، وأُخرج من بغداد لاطفاء الفتنة، فعاد إلى بلده. توفي سنة 514?. انظر: سير أعلام النبلاء 19424. والبداية والنهاية 12200. وطبقات الشافعيّة 7159.

2 ما بين المعقوفتين ملحق من ((خ)) بين السطرين.

3 في ((خ)) : أبيات. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

4 في ((خ)) ضبطها هكذا: الشِّفَا. وكتب في الحاشية: أي الشفا لابن سينا.

5 نسب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله هذه الأبيات إلى أبي نصر القشيري في مواضع أخرى من كتبه. انظر: مجموع الفتاوى 9253. والرد على المنطقيين ص 501-511.

6 في ((م)) و ((ط)) : برسطالس. ويقصد به أرسطوطاليس، أحد الفلاسفة اليونان القدماء. انظر: ترجمته ص 227.

7 قال شيخ الإسلام رحمه الله في موضع آخر: "وقد أنكر أئمة الدين على أبي حامد هذا في كتبه، وقالوا: مرّضه الشفاء؛ يعني شفاء ابن سينا في الفلسفة". مجموع الفتاوى 10551.

وقال شيخ الإسلام رحمه الله: "ومادّة أبي حامد في الفلسفة من كلام ابن سينا، ولهذا يُقال: أبو حامد أمرضه الشفاء، ومن كلام أصحاب رسائل إخوان الصفا، ورسائل أبي حيّان التوحيديّ، ونحو ذلك". بغية المرتاد ص 449.

وانظر: أيضاً: مجموع الفتاوى 655. والرد على المنطقيّين ص 511.

ص: 392

وكذلك الطرطوشي1، والمازري2، وابن عقيل3، وأبو البيان4،

1 هو محمد بن الوليد بن محمد بن خلف القرشي الفهري الأندلسي. قال عنه الذهبي: الإمام العلامة القدوة الزاهد شيخ المالكية عالم الاسكندرية. وطرطوشة هي آخر حدّ المسلمين من شمالي الأندلس. ولد فيها سنة 451 ? ورحل إلى المشرق، وأخذ عن العلماء، وحجّ، وسكن الاسكندرية، وتخرج على يديه نحو من مائتي فقيه مفت. توفي سنة 520?. ومن كتبه كتاب كبير عارض به إحياء علوم الدين للغزالي، وكتاب الحوادث والبدع، وسراج الملوك، وغيرها. انظر: سير أعلام النبلاء 19490. والأعلام 7133، 134. وشذرات الذهب 4602. وانظر: كلامه عن الغزالي في: سير أعلام النبلاء 19334، 339، 494، 495. وطبقات الشافعيّة للسبكي 6243.

2 هو أبو عبد الله محمد بن علي بن عمر التميمي المازري، محدث من فقهاء المالكية. قال عنه الذهبي:"وكان بصيراً بعلم الحديث. وقال عنه القاضي عياض: هو آخر المتكلمين، من شيوخ أفريقية بتحقيق الفقه ورتبة الاجتهاد ودقة النظر". ولد سنة 453 هـ، وتوفي سنة 536هـ. من مؤلفاته: الكشف والإنباء في الرد على الإحياء، والمعلم بفوائد مسلم. انظر: سير أعلام النبلاء 20104. وشذرات الذهب 4114. والأعلام للزركلي 6277. وانظر: كلامه على الغزالي في سير أعلام النبلاء 19330-332، 340-342. وطبقات الشافعية للسبكي 6240-242.

3 ترجمة ابن عقيل سبقت.

4 هو نبأ بن محمد بن محفوظ القرشي، أبو البيان الدمشقي الشافعي. قال عنه الذهبي:"اللغوي الأثري الزاهد، شيخ البيانيّة، وصاحب الأذكار المسجوعة..... وكان حسن الطريقة، صيِّناً، ديِّناً، تقياً، محبّاً للسنة والعلم والأدب، له أتباع ومحبّون". توفي سنة 551 ?. انظر: سير أعلام النبلاء 20326، 327. وطبقات الشافعيّة للسبكي 7318-320. والبداية والنهاية 12235. وشذرات الذهب 4160.

ص: 393

وابن حمدين1، ورفيق أبي حامد؛ أبو نصر المرغيناني2، وأمثال

1 هو أبو عبد الله محمد بن علي بن محمد بن عبد العزيز بن حمدين الأندلسي المالكي، قاضي الجماعة. قال الذهبي عنه:"صاحب فنون ومعارف وتصانيف. ولي القضاء ليوسف بن تاشفين في قرطبة. توفي سنة 508 ?، وكان ذكياً بارعاً في العلم، متفنناً، أصولياً، لغوياً، شاعراً، حميد الأحكام.... وكان يحطّ على الإمام أبي حامد في طريقة التصوف، وألّف في الردّ عليه". سير أعلام النبلاء 19422. وانظر: نفح الطيب 3537.

وقد أفتى قاضي الجماعة ابن حمدين مع بعض العلماء في إتلاف كتاب ((إحياء علوم الدين)) ، ورفعوا أمرهم إلى أمير المسلمين علي بن يوسف بن تاشفين، فأصدر أمره إلى جميع الأقاليم بمصادرة الكتاب وإحراقه. وأحرق بحضور جماعة من أعيان قرطبة وعلمائها، يتقدمهم قاضي الجماعة ابن حمدين. وكان ذلك سنة 503 ?. انظر: الحلل الموشية في ذكر أخبار المراكشية ص 104. وسير أعلام النبلاء 19327 - في ترجمة القاضي عياض - وكذلك عصر المرابطين والموحدين لمحمد عبد الله عنان ص 79.

2 وهو أبو الحسن علي بن أبي بكر بن عبد الجليل الفرغاني المرغيناني. من أكابر فقهاء الحنفية. كان حافظاً مفسّراً محققاً أديباً. من مؤلفاته: الهداية في شرح البداية، ومنتقى الفروع. ولد سنة 530?، وتوفي سنة 593?. انظر: الأعلام 4266.

وقد كنّاه شيخ الإسلام هنا أبو نصر. والصحيح أبو الحسن؛ كما ذكر ذلك شيخ الإسلام رحمه الله في بعض مؤلفاته. انظر: بغية المرتاد ص 281. ودرء تعارض العقل والنقل 6239. وكتاب الصفدية 1210. ومجموع الفتاوى 466. والأعلام 4266.

ص: 394

هؤلاء1 لهم كلامٌ كثيرٌ في ذمّه على ما دخل فيه من الفلسفة. ولعلماء الأندلس في ذلك مجموع كبير.

مراتب الناس عند ابن سبعين

ولهذا لما سلك خلفه ابن عربي2، وابن سبعين3، كان ابن سبعين في كتاب [ ((البد)) ] 4 وغيره، يجعل الغاية هو المقرّب؛ وهو نظير المقرّب

1 وممن ذمّ الغزالي من غير هؤلاء، وذكرهم شيخ الإسلام رحمه الله في كتبه الأخرى: أبو بكر بن العربي، وأبو عبد الله الذكي، ومحمود الخوارزمي، ويوسف الدمشقي، وأبو الفرج بن الجوزي، وأبو محمد المقدسي، وأبو عمرو بن الصلاح، وأولاد القشيري، وغيرهم من الشافعيّة. وأبو الحسن بن شكر، وأبو زكريا النووي. كما تكلم فيه الكردري وغيره من أصحاب أبي حنيفة.

انظر: درء تعارض العقل والنقل 6239، 240. وبغية المرتاد ص 280-281. وكتاب الصفدية 210-211. ومجموع الفتاوى 466. ونقض المنطق ص56.

وكذلك القاضي عياض، نقل كلامه الذهبي في سير أعلام النبلاء 19327. وذكر الزبيدي في اتحاف السادة المتقين 140، الذين أنكروا على الغزالي، أنّهم: "طوائف شتى؛ ما بين مغاربة، ومشارقة، ومالكية، وشافعية، وحنابلة

".

2 هو أبو بكر محمد بن علي بن محمد بن عربي الحاتمي الطائي. من أئمة فلاسفة الصوفية أهل الزندقة والإلحاد. قال عنه الذهبي: قدوة القائلين بوحدة الوجود. ولد بالأندلس عام 560، وتوفي بدمشق عام 638?. انظر: البداية والنهاية 13167. وشذرات الذهب 5190. والأعلام 6281.

3 هو عبد الحق بن إبراهيم بن محمد بن نصر بن سبعين. يُعدّ من فلاسفة الصوفية ومن القائلين بوحدة الوجود. ولد سنة 613، ومات سنة 668 بمكة. انظر: البداية والنهاية 13275. وشذرات الذهب 5329. والأعلام 3280. وانظر: مقدمة تحقيق بغية المرتاد ص 135-144.

4 في ((م)) ، و ((ط)) : اليد.

وكتاب ((البد)) هو: ((بد العارف)) لابن سبعين، وهو مطبوع. (نقلاً عن شرح الأصفهانية 2548) .

ص: 395

في كلام أبي حامد، ويجعل المراتب خمسة: أدناها الفقيه، ثمّ المتكلّم، ثمّ الفيلسوف، ثمّ الصوفيّ الفيلسوف؛ وهو السالك، ثمّ المحقّق1.

عقائد ابن عربي

وابن عربي له أربع عقائد2: الأولى: عقيدة أبي المعالي وأتباعه مجرّدة عن حُجّة. والثانية: تلك العقيدة مبرهنة بحججها الكلاميّة. والثالثة: عقيدة الفلاسفة؛ ابن سينا وأمثاله الذين يُفرّقون بين الواجب والممكن. والرابعة: التحقيق الذي وصل إليه؛ وهو [أنّ] 3 الوجود واحدٌ4. وهؤلاء يسلكون مسلك الفلاسفة الذي ذكره أبو حامد في ميزان

1 قال شيخ الإسلام رحمه الله: "وهم يُرتّبون الناس طبقات؛ أدناهم عندهم الفقيه، ثمّ المتكلّم، ثمّ الفيلسوف، ثمّ الصوفيّ؛ أي صوفيّ الفلاسفة، ثمّ المحقّق. ويجعلون ابن سينا وأمثاله من الفلاسفة في الثانية، وأبا حامد وأمثاله من الصوفيّة من العشرة، ويجعلون المحقّق هو الواحد". الردّ على المنطقيّين ص 522. وانظر: كتاب الصفدية 1268. وشرح الأصفهانية 2547-548.

وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كلاماً طويلاً - في موضع آخر - بيَّن فيه معنى المحقّق؛ فقال: "لهذا كان هؤلاء؛ كابن سبعين ونحوه يعكسون دين الإسلام؛ فيجعلون أفضل الخلق: المحقّق عندهم؛ وهو القائل بالوحدة. وإذا وصل إلى هذا فلا يضرّه عندهم أن يكون يهودياً أو نصرانياً، بل كان ابن سبعين، وابن هود، والتلمساني، وغيرهم يُسوّغون للرجل أن يتمسّك باليهوديّة والنصرانيّة؛ كما يتمسّك بالإسلام، ويجعلون هذه طرقاً إلى الله بمنزلة مذاهب المسلمين، ويقولون لمن يختصّ بهم من النصارى واليهود إذا عرفتم التحقيق لم يضرّكم بقاؤكم على ملّتكم، بل يقولون مثل هذا للمشركين عُبّاد الأوثان) . كتاب الصفدية 1268-269.

2 قال ابن عربي في الفتوحات المكية:

عقد البرية في الإله عقائداً

وأنا اعتقدت جميع ما اعتقدوه

نقلاً عن الفكر الصوفي ص 102.

3 ما بين المعقوفتين ليست في ((خ)) ، وهي في ((م)) ، و ((ط)) .

4 انظر: الفتوحات المكية 131-32، 38.

وقال شيخ الإسلام رحمه الله: "لهذا ذكر ابن عربي في الفتوحات له أربع عقائد؛ الأولى: عقيدة أبي المعالي وأمثاله مجرّدة عن الحجة. ثمّ هذه العقيدة بحجتها. ثمّ عقيدة الفلاسفة. ثمّ عقيدة المحققين؛ وذلك أنّ الفيلسوف يُفرّق بين الوجود والممكن والواجب. وهؤلاء يقولون: الوجود واحد. والصوفي الذي يُعظّمه هؤلاء هو الصوفي الذي عظّمه ابن سينا، وبعده المحقق" الرد على المنطقيين ص 522. وانظر: بغية المرتاد ص 446.

وقال رحمه الله أيضاً: "لهذا ذكر ابن عربي في أول الفتوحات ثلاث عقائد؛ عقيدة مختصرة من إرشاد أبي المعالي بحججها الكلامية. ثمّ عقيدة فلسفيّة؛ كأنّها مأخوذة من ابن سينا وأمثاله. ثمّ أشار إلى اعتقاده الباطن الذي أفصح به في فصوص الحكم؛ وهو وحدة الوجود، فقال: وأمّا عقيدة خلاص الخاصّ فتأتي مفرقة في الكتاب" كتاب الصفدية 1267.

ص: 396

العمل؛ وهو: أنّ الفاضل له ثلاث عقائد: عقيدة مع العوامّ يعيش بها في الدنيا؛ كالفقه مثلاً. وعقيدة مع الطلبة يدرّسها لهم؛ كالكلام. والثالثة: [سرٌ] 1 لا يطّلع عليه أحدٌ إلا الخواصّ2.

1 ما بين المعقوفتين ليس في ((م)) ، و ((ط)) .

2 انظر: ميزان العمل ص 405-408. بتحقيق سليمان دنيا.

ولخّص د محمد رشاد سالم في تعليقه على كتاب الصفدية 1268 كلام ابن عربي الذي ذكر فيه أنّ له ثلاث عقائد؛ فقال: "كر ابن عربي العقيدة الأولى في ج 1 ص 34 من كتاب الفتوحات المكية، وذكر في آخرها ص 38: "هذه عقيدة العوام من أهل الإسلام أهل التقليد وأهل النظر ملخّصة مختصرة" ثمّ قال بعد ذلك مباشرة: "م أتلوها إن شاء الله بعقيدة الناشئة الشادية

ثمّ أتلوها بعقيدة خواصّ أهل الله من أهل طريق الله؛ من المحققين أهل الكشف والوجود. وجردتها أيضاً في جزء آخر سمّيته المعرفة، وبه انتهت مقدمة الكتاب. وأما التصريح بعقيدة الخلاصة فما أفردتها على التعيين لما فيها من الغموض، لكن جئتُ بها مبدّدة في أبواب هذا الكتاب مستوفاة مبيّنة، لكنّها كما ذكرنا متفرّقة

إلخ. وتنتهي مقدمة الكتاب ص 47" والطبعة التي أشار إليها دمحمد رشاد سالم هي طبعة دار الكتب العربية الكبرى، القاهرة، 1329 ?.

ص: 397

المضنون به على غير أهله فلسفة محضة

ولهذا صنّف الكتب المضنون بها على غير أهلها، وهي فلسفة محضة، سلك فيها مسلك ابن سينا1. ولهذا يجعل اللوح المحفوظ هو النّفس الفلكيّة2 إلى أمور أخرى قد بُسطت في غير هذا الموضع، ذكرنا ألفاظه بعينها في مواضع؛ منها: الردّ على ابن سبعين وأهل الوحدة، وغير ذلك3؛ فإنّه لمّا انتشر الكلام في مذهب أهل الوحدة، وكنتُ لمّا دخلتُ إلى مصر بسببهم، ثمّ صرتُ في الإسكندرية، جاءني من فضلائهم من يعرف حقيقة أمرهم4، وقال: إن كنتَ تشرح لنا كلام هؤلاء، وتُبيِّن مقصودهم، ثمّ تُبطله، وإلا فنحن لا نقبل منك كما لا نقبل من غيرك؛

سبب تأليف بغية المرتاد السبعينية

فإنّ هؤلاء لا يفهمون كلامهم. فقلتُ: نعم! أنا أشرح لك ما شئتَ من كلامهم؛

1 قال د محمد رشاد سالم بعد ذكر عقائد الغزالي الثلاث: "هذا هو السبب الذي جعل الغزالي يكتب كتباً للعامّة، وكتباً أخرى للخواصّ، سمّاها أحياناً بالكتب المضنون بها على غير أهلها. وقد اختلف الباحثون في تعيين هذه الكتب الخاصّة (أو المضنون بها على غير أهلها) ، ولكنّهم اتفقوا على أنّه ألّف كتباً من هذا النوع أودعها أفكاراً لم يتمكّن من التصريح بها لعامّ الناس إشفاقا عليهم من الضلال. ولعلّ هذا التصريح في عناوين كتبه ورسائله مثل الاقتصاد في الاعتقاد، وإلجام العوام عن علم الكلام، والمضنون به على غير أهله" مقارنة بين الغزالي وابن تيمية ص 16-17. وانظر: الجواب الصحيح 539. وشرح الأصفهانية 2547.

2 انظر: المضنون الصغير - ضمن القصور العوالي 2183-184. ومشارق الأنوار ص 198.

3 انظر: بغية المرتاد (وهو الرد على ابن سبعين) ص 194، 198، 228، 326، 327. والرد على المنطقيين ص 474، 480. ومجموع الفتاوى 1244-245، 10402-403.

4 ذكر شيخ الإسلام رحمه الله هذه القصة في كتابه الصفدية 1302. وفي الرد على المنطقيين ص 3.

ص: 398

مثل كتاب [البُد] 1، والإحاطة2 لابن سبعين، وغير ذلك. فقال لي: لا، ولكن ((لوح الأصالة)) 3؛ فإنّ هذا يعرفون، وهو في رؤوسهم. فقلتُ له: هاته. فلمّا أحضره شرحتُه له شرحاً بيِّناً، حتى تبيَّن له حقيقة الأمر، وأنّ هؤلاء ينتهي أمرهم إلى الوجود المطلق، فقال: هذا حقّ. وذَكَرَ لي أنّه تناظر اثنان؛ متفلسف سبعينيّ، ومتكلّم على مذهب ابن التومرت4، فقال

1 في ((م)) ، و ((ط)) : اليد.

وكتاب ((البد)) هو: بد العارف لابن سبعين، وقد طُبع بتحقيق د. جورج. ونشر في دار الأندلس ودار الكندي سنة 1978 م. انظر: بغية المرتاد ص 48، ح 1.

2 الإحاطة: إحدى رسائل ابن سبعين، وقد طُبعت ضمن رسائل ابن سبعين، تحقيق د عبد الرحمن بدوي، دار الطباعة الحديثة بمصر.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "لهذا أمر ابن سبعين أن يُنقش على قبره صاحب نقش فص خاتم الإحاطة. والإحاطة عندهم: هي الوجود المطلق المجرّد الذي لا يتقيّد بقيد، وهو الكلّي الذي لا يتقيّد بإيجاب ولا إمكان" كتاب الصفدية 1285.

3 اسمها: رسالة الألواح؛ وهي ضمن رسائل ابن سبعين. تحقيق د عبد الرحمن بدوي ص 190-200. وهي التي ردّ عليها شيخ الإسلام رحمه الله في كتابه بغية المرتاد.

4 هو أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن تومرت البربري المصمودي الهرغي الخارجي بالمغرب، المدّعي أنّه علويّ حسنيّ، وأنّه الإمام المعصوم المهدي. مؤسس دولة الموحدين التي قامت على أنقاض دولة المرابطين. توفي سنة 524 هـ. قال عنه الذهبي: "افق المعتزلة في شيء، والأشعرية في شيء، وكان فيه تشيّع

وسمّى أصحابه بالموحدين، ومن خالفه بالمجسّمين" انظر: سير أعلام النبلاء 19539-552. وطبقات الشافعيّة للسبكي 6109-117. والبداية والنهاية 12199-200. وشذرات الذهب 470-72.

قال عنه شيخ الإسلام رحمه الله: "أقبح من غلوّ هؤلاء: ما كان عليه المتسمّون بالموحدين في متبوعهم الملقّب بالمهدي محمد بن تومرت الذي أقام دولتهم بما أقامها به من الكذب والمحال، وقتل المسلمين، واستحلال الدماء والأموال؛ فعل الخوارج المارقين، ومن الابتداع في الدين، مع ما كان عليه من الزهد والفضيلة المتوسطة، ومع ما ألزمهم به من الشرائع الإسلاميّة، والسنن النبوية؛ فجمع بين خير وشرّ. لكن من أقبح ما انتحلوه فيه: خطبتهم له على المنابر، بقولهم: الإمام المعصوم، والمهدي المعلوم" بغية المرتاد ص 494. وانظر: مجموع الفتاوى 13386.

ويُقال إنّهم قتلوا القاضي أبا بكر بن العربي، والقاضي عياض البستي. انظر: بغية المرتاد ص 495.

قال عبد الله بن الأشبيري: سمعت عبد المؤمن بن علي القيسيّ، سمعت أبا عبد الله ابن تومرت يقول: أبو حامد الغزالي قرع الباب، وفُتح لنا) . سير أعلام النبلاء 19326.

ص: 399

ذاك: نحن شيخنا يقول بالوجود المطلق1.

1 قال ابن سبعين: "يا هذا! الوجود المطلق هو الله، والمقيّد أنا وأنت، والقدر جميع ما يقع في المستقبل، والمطلق إذا ذكر نفسه ذكر كلّ شيء" الرسالة الرضوانيّة ضمن رسائل ابن سبعين ص 328 - نقلاً عن مقدمة محقق بغية المرتاد ص 140.

وقال شيخ الإسلام رحمه الله: "لهذا كان منتهى محققيهم الوجود المطلق؛ وهو الوجود المشترك بين الموجودات. وهذا إنمّا يكون مطلقاً في الأذهان لا في الأعيان. والمتفلسفة يجعلون الكلي المشترك موضوع العلم الإلهيّ" الرد على المنطقيين ص 309. وانظر: درء تعارض العقل والنقل 6242،، 10298. وبغية المرتاد ص 410. والجواب الصحيح 4304.

وقد أشار شيخ الإسلام رحمه الله إلى هذه القصّة في منهاج السنة بتوسّع، فقال:"صاروا يتباهون في التعطيل الذي سمّوه توحيداً أيّهم فيه أحذق، حتى فروعهم تباهوا بذلك كتباهيهم كابن سبعين وأمثاله من أتباع الفلاسفة، وابن التومرت، وأمثاله من أتباع الجهميّة؛ فهذا يقول بالوجود المطلق، وهذا يقول بالوجود المطلق، وأتباع كل منهما يباهون أتباع الآخرين في الحذق في هذا التعطيل. كما قد اجتمع بي طوائف من هؤلاء، وخاطبتهم في ذلك، وصنّفتُ لهم مصنّفات في كشف أسرارهم ومعرفة توحيدهم، وبيان فساده؛ فإنّهم يظنّون أنّ الناس لا يفهمون كلامهم، فقالوا لي: إن لم تُبيِّن وتكشف لنا حقيقة هذا الكلام الذي قالوه ثمّ تُبيِّن فساده، وإلا لم نقبل ما يُقال في ردّه، فكشف لهم حقائق مقاصدهم، فاعترفوا بأنّ ذلك مرادهم. ووافقهم على ذلك رؤوسهم، ثمّ بيّنت ما في ذلك من الفساد والإلحاد حتى رجعوا وصاروا يُصنّفون في كشف باطل سلفهم الملحدين الذين كانوا عندهم أئمة التحقيق والتوحيد والعرفان واليقين". منهاج السنة 3297-298.

وقال شيخ الإسلام رحمه الله: "ولهذا رأيت لابن تومرت كتاباً في التوحيد صرّح فيه بنفي الصفات، ولهذا لم يذكر في مرشدته شيئاً من إثبات الصفات، ولا أثبت الرؤية، ولا قال إنّ القرآن كلام الله غير مخلوق، ونحو ذلك من المسائل التي جرت عادة مثبتة الصفات بذكرها في عقائدهم المختصرة، ولهذا كان حقيقة قوله موافقاً لحقيقة قول ابن سبعين وأمثاله من القائلين بالوجود المطلق موافقة لابن سينا وأمثاله من أهل الإلحاد؛ كما يُقال: إنّ ابن تومرت ذكره في فوائده المشرقية أنّ الوجود مشترك بين الخالق والمخلوق، فوجود الخالق يكون مجرّداً، ووجود المخلوق يكون مقيّداً". درء تعارض العقل والنقل 520. وكذلك انظر: المصدر نفسه: 3438-439، 10298-300. وانظر: رد شيخ الإسلام على ابن تومرت في مجموع الفتاوى 11476-487.

ص: 400

وقال الآخر: ونحن كذلك إمامنا.

قلتُ له: والمطلق في الأذهان لا في الأعيان. فتبيّن له ذلك، وأخذ يُصنّف في الردّ عليهم1.

ابن تومرت يقول بالوجود المطلق

ولم أكن أظنّ ابنَ التومرت يقول بالوجود المطلق، حتى وقفتُ بعد هذا على كلامه المبسوط2، فوجدتُه كذلك، وأنّه كان يقول: الحقّ

1 وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله بعض مناظراته لهؤلاء السبعينيّة، فقال رحمه الله:"وقلتُ لبعض حذّاقهم: هب أنّ هذا الوجود المطلق ثابتٌ في الخارج، وأنّه عين الموجودات المشهودة. فمن أين لك أنّ هذا هو ربّ العالمين الذي خلق السموات والأرض وكلّ شيء. فاعترف بذلك، وقال: هذا ما فيه حيلة". الجواب الصحيح 4313.

وانظر: مناظرات أخرى لهؤلاء في: المصدر نفسه 4309-312. وبغية المرتاد ص 520-521. ومنهاج السنة النبوية 828. وكتاب الصفدية 1296.

2 في كتاب ابن تومرت: ((الدليل والعلم)) . وقد نقل عنه شيخ الإسلام بعضَ كلامه، ثمّ ردّ عليه. انظر: درء تعارض العقل والنقل 3439-440.

وهناك رد لشيخ الإسلام على المرشدة لابن تومرت، مخطوط، في جامعة الملك سعود بالرياض. وانظر: كلام شيخ الإسلام رحمه الله عن المرشدة لابن تومرت في مجموع الفتاوى 11476-493.

ص: 401

حقّان؛ الحقّ المقيّد، والحقّ المطلق؛ وهو الربّ. وتبيَّنتُ أنّه لا يُثبتُ شيئاً من الصفات، ولا ما يتميّز به موجود عن موجود؛ فإنّ ذلك يُقيّد شيئاً من الإطلاق.

وسألني هذا1 عمّا يحتجّون به من الحديث؛ مثل الحديث المذكور في العقل، وأنّ أوّل ما خلق الله تعالى العقل2، ومثل حديث: كنتُ كنزاً لا

1 يعني الرجل الذي في الاسكندرية، الذي طلب منه أن يشرح له كلام أصحاب وحدة الوجود.

2 رواه أبو نعيم في الحلية 7318 عن عائشة بلفظ: ":حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّ أوّل ما خلق الله سبحانه وتعالى العقل، فقال: أقبِل، فأقبل. ثمّ قال: أدبِر، فأدبَر. ثمّ قال: ما خلقتُ شيئاً أحسن منك، بك آخذ، وبك أُعطي". قال أبو نعيم: غريب من حديث سفيان. ومنصور الزهري أحد رواة الحديث - لا أعلم له راوياً عن عبد الحميد إلا سهلاً، وأراه واهماً فيه.

وقد بيَّن العلماء أنّه حديث موضوع على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فقد قال أبو الفرج ابن الجوزي: هذا حديث لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. (الموضوعات لابن الجوزي 1174) .

وقال شيخ الإسلام رحمه الله: "وهذا الحديث كذب موضوع على النبيّ صلى الله عليه وسلم كما ذكر ذلك أهل العلم بالحديث؛ كأبي جعفر العقيليّ، وأبي حاتم البستي، وأبي الحسن الدارقطني، وأبي الفرج بن الجوزي، وغيرهم". الجواب الصحيح 540-41. وانظر: بغية المرتاد ص 171-178. ومجموع الفتاوى 1244، 18122-123، 336-338. ودرء تعارض العقل والنقل 5224. ومنهاج السنة النبوية 815-16. وكتاب الصفدية 1238-239. والرد على المنطقيين ص 196-197. والفرقان بين أولياء الله وأولياء الشيطان ص 206.

قال ابن القيم: أحاديث العقل كلها كذب. انظر: المنار المنيف في الصحيح والضعيف ص 66-67. وانظر: اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة للسيوطي 1129-130.

ص: 402

أُعرف، فأحببتُ أن أُعرف1، وغير ذلك؟ فكتبتُ له جواباً مبسوطاً، وذكرتُ أنّ هذه الأحاديث موضوعة، وأبو حامد وهؤلاء لا يعتمدون على هذا، وقد نقلوه إمّا من رسائل إخوان الصفا2، أو من كلام أبي حيان

1 قال شيخ الإسلام رحمه الله: "وما يروونه: كنتُ كنزاً لا أُعرف، فأحببتُ أن أُعرف، فخلقتُ خلقاً فعرّفتهم بي، فبي عرفوني. هذا ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، ولا أعرف له إسناداً صحيحاً ولا ضعيفاً". مجموع الفتاوى 18122. وانظر: المصدر نفسه 18376. ودرء تعارض العقل والنقل 8507. وبغية المرتاد ص 169.

وقد حكم عليه بالوضع: السخاوي. انظر: المقاصد الحسنة ص 327.

2 إخوان الصفا: هم جماعة من الإسماعيليّة الباطنيّة، لزموا التكتّم، وألفوا مقالات، وعددها إحدى وخمسون مقالة؛ خمسون منها في خمسين نوعاً من الحكمة، ومقالة حادية وخمسون جامعة لأنواع المقالات. ثمّ بثّوا مقالاتهم وكتموا أسماءهم، وبثوها في الوراقين، ولقّنوها الناس، وزعموا أنّه متى انتظمت الفلسفة اليونانية والشريعة العربية فقد حصل الكمال. انظر: الامتاع والمؤانسة لأبي حيان التوحيدي 25. ومجموع الفتاوى 479. وكتاب إخوان الصفا لعمر الدسوقي.

وقال شيخ الإسلام رحمه الله عن رسائل إخوان الصفا: "وضعت في أثناء المائة الرابعة لما ظهرت الدولة العبيدية بمصر، وبنوا القاهرة. فصنّفت على مذاهب أولئك الإسماعيليّة كما يدلّ على ذلك ما فيها. وقد ذكروا فيها ما جرى على المسلمين من استيلاء النصارى على سواحل الشام. وهذا إنّما كان بعد المائة الثالثة. وقد عُرف الذين صنّفوها؛ مثل زيد بن رفاعة، وأبي سليمان بن معشر البستي المعروف بالمقدسي، وأبي الحسن علي بن هارون الزنجاني، وأبي أحمد النهرجوري، والعوفي. ولأبي الفتوح المعافى بن زكرياء الجريري صاحب كتاب الجليس والأنيس مناظرة معهم، وقد ذكر ذلك أبو حيّان التوحيدي في كتاب الإمتاع والمؤانسة" منهاج السنة النبوية 2466.

وقال رحمه الله أيضاً: "صنّفه طائفة من الذين أرادوا أن يجمعوا بين الفلسفة والشريعة والتشيّع؛ كما كان سلكه هؤلاء العبيديّون". منهاج السنة 811.

وانظر: المصدر نفسه 454-55. ودرء تعارض العقل والنقل 510، 26-27. والرد على المنطقيين ص 444. والجواب الصحيح 537-38. وبغية المرتاد ص 180-181. والإمتاع والمؤانسة لأبي حيان التوحيدي 23-12.

ص: 403

التوحيدي1، أو من نحو ذلك2.

وهؤلاء في الحقيقة من جنس الباطنيّة الإسماعيليّة3، لكنّ أولئك

1 أبو حيان علي بن محمد بن العباس التوحيدي. فيلسوف متصوّف معتزلي. قال أبو الفرج ابن الجوزي: "زنادقة الإسلام ثلاثة: ابن الراوندي، وأبو حيان التوحيديّ، وأبو العلاء المعري. وأشدّهم على الإسلام أبو حيّان؛ لأنّهما صرّحا وهو محجم ولم يُصرّح". وقال الذهبي عنه: "نسب نفسه إلى التوحيد؛ كما سمّى ابن التومرت أتباعه بالموحدين، وكما يُسمي صوفية الفلاسفة نفوسهم بأهل الوحدة، وبالاتحاديّة". مات مستتراً فقيراً عن نيف وثمانين عاماً، وأحرق كتبه، ولم يسلم منها غير ما نقل قبل الإحراق. من كتبه: المقايسات والصراحة، والصديق، والإمتاع والمؤانسة، وغيرها. مات سنة 400 ?.

انظر: سير أعلام النبلاء 17119-123. وطبقات الشافعية للسبكي 5286. والأعلام 4326.

2 قال شيخ الإسلام رحمه الله: "والغزالي في كلامه مادة فلسفية كبيرة، بسبب كلام ابن سيناء في الشفاء، وغيره، ورسائل إخوان الصفا، وكلام أبي حيان التوحيدي

وكلامه في الإحياء غالبه جيّد، لكن فيه موادّ فاسدة؛ مادة فلسفية، ومادة كلامية، ومادة من ترهات الصوفية، ومادة من الأحاديث الموضوعة". مجموع الفتاوى 654-55.

وانظر: المصدر نفسه 463-64. وبغية المرتاد ص 449. وسير أعلام النبلاء 19341. ودرء تعارض العقل والنقل 6242.

3 الإسماعيليّة: نسبة إلى محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق. وهم إحدى فرق الباطنية الذين جعلوا لكل ظاهر من الكتاب باطناً، ولكلّ تنزيل تأويلاً، ويخلطون كلامهم ببعض كلام الفلسفة، ويدّعون من الإلهيّة في علي بن أبي طالب رضي الله عنه وغيره كدعوى النصيريّة.

قال شيخ الإسلام رحمه الله عنهم: "الإسماعيليّة أخذوا من مذاهب الفرس، وقولهم بالأصلين: النور والظلمة وغير ذلك أموراً، وأخذوا من مذاهب الروم من النصرانية، وما كانوا عليه قبل النصرانية من مذهب اليونان وقولهم بالنفس والعقل وغير ذلك. ومزجوا هذا بهذا، وسمّوا ذلك باصطلاحهم السابق والتالي، وجعلوه هو القلم واللوح، وأنّ القلم هو العقل". منهاج السنة النبوية 815.

وانظر: الجواب الصحيح 2403-404. ومجموع الفتاوى 7502، 503. ودرء تعارض العقل والنقل 10-11. وانظر: أيضاً: الملل والنحل للشهرستاني 1191-198. والفرق بين الفرق للبغدادي ص 62-82.

ص: 404

يتظاهرون بالتشيّع والرفض، وهؤلاء غالبهم يميلون إلى التشيّع، ويُفضّلون علياً1. ومنهم من يُفضّله بالعلم الباطن، ويُفضّل أبا بكر2 في العلم الظاهر؛ كأبي الحسن [الحرالّي] 3، وفيه نوعٌ من مذهب الباطنيّة الإسماعيليّة، لكن لا يقول بوحدة الوجود مثل هؤلاء، ولا أظنّه يُفضّل غير الأنبياء عليهم؛ فهو أنبل من هؤلاء من وجه، لكنّه ضعيف المعرفة بالحديث، والسير، وكلام الصحابة والتابعين؛ فيبني له أصولاً على أحاديث موضوعة، ويخرج كلامه من تصوّف، وعقليّات، وحقائق. وهو

1 في ((ط)) : رضي الله عنه.

2 في ((ط)) : رضي الله عنه.

3 في ((خ)) ، و ((م)) ، و ((ط)) : الحرلي. وما أثبت من مصادر ترجمته.

والحرالّي: هو أبو الحسن علي بن أحمد بن حسن التجيبي الأندلسي الحرالّي - وحرالّه: قرية من عمل مرسيه - ولد في مراكش، ورحل إلى الشرق، وسكن حماه، وتوفي فيها سنة 637 ?. مفسّر من علماء المغرب. قال عنه الذهبي:"كان فلسفيّ التصوف، ملأ تفسيره بحقائقه ونتائج فكره، وزعم أنّه يستخرج من علم الحروف وقتَ خروج الدجال، ووقتَ طلوع الشمس من مغربها". ميزان الاعتدال 3114.

وانظر: سير أعلام النبلاء 2347. وشذرات الذهب 5189. والأعلام 4256. ووقع في المخطوطة الحرلي، وكذلك في أصل درء تعارض العقل والنقل 10286. ورجّح الدكتور محمد رشاد سالم رحمه الله أنّه الحرالّي.

ص: 405

خيرٌ من هؤلاء، وفي كلامه أشياء حسنة صحيحة، وأشياء كثيرة باطلة، والله سبحانه [وتعالى] 1 أعلم.

الوجه الثاني من أوجه الرد على الفلاسفة

الثاني: أنّ صلاح النفس في محبّة المعلوم المعبود؛ وهي عبادته، لا في مجرد علم ليس فيه ذلك، وهم جعلوا غاية النفس التشبّه بالله على حسب الطاقة2، وكذلك جعلوا حركة الفَلَك للتشبّه به3. وهذا ضلال عظيم؛ فإنّ جنس

1 ما بين المعقوفتين ليس في ((خ)) ، وهو في ((م)) ، و ((ط)) .

2 قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "إنّ هؤلاء جعلوا غاية الإنسان وكماله في مجرّد أن يعلم الوجود، أو يعلم الحقّ؛ فيكون عالماً معقولاً مطابقاً للعالم الموجود، وهو التشبّه بالإله على قدر الطاقة، وجعلوا ما يأتي به من العبادات والأخلاق إنّما هي شروط وأعوان على مثل ذلك، فلم يُثبتوا كون الربّ تعالى معبوداً مألوهاً يُحَبّ لذاته، ويكون كمال النفس أنها تُحبّه؛ فيكون كمالها في معرفته ومحبّته، بل جعلوا الكمال في مجرّد معرفة الوجود عند أئمتهم، أو في مجرّد معرفته عند من يقرب إلى الإسلام منهم". درء تعارض العقل والنقل 657.

وكذا قال رحمه الله في موضع آخر - بعد أن ذكر محبة الله لعباده، ومحبتهم له:"ومن نفى الأولى من الجهميّة والمعتزلة ومن وافقهم، فقد أخطأ. ومن نفى الثانية من المتفلسفة والمتصوفة على طريقتهم فقد أخطأ. مع أنّ هؤلاء المتفلسفة لا يُثبتون حقيقة الأولى، فإنّهم لا يُثبتون أنّ الربّ تُحبّه الملائكة والمؤمنون، وإنّما يجعلون الغاية تشبّههم به، لا حبّهم إياه. وفرقٌ بين أن تكون كوَّن هذا مثل هذا، وبين أن تكون الغاية كون هذا يُحبّه هذا محبّة عبوديّة وذلّ. ولهذا قالوا: "الفلسفة هي التشبّه بالإله على قدر الطاقة". ولهذا كان مطلوب هؤلاء إنّما هو نوع من العلم والقدرة الذي يحصل لهم به شرف. فمطلوبهم من جنس مطلوب فرعون، بخلاف الحنفاء الذين يعبدون الله محبة له وذلاً له". درء تعارض العقل والنقل 669-70.

وانظر: المصدر نفسه 670، 3269. وانظر: شرح الطحاوية 188. ومجموع الفتاوى 7536، 17321. والجواب الصحيح 632-37. وجامع الرسائل 2251-252.

3 انظر: مجموع الفتاوى 17329.

ص: 406

التشبّه يكون بين [اثنين] 1 مقصودهما واحد؛ كالإمام والمؤتمّ به.

وليس الأمر هنا كذلك. بل الربّ هو معبودٌ لذاته، وهو يعرف نفسه، ويُحبّ نفسه، ويُثني على نفسه، والعبد نجاتُه وسعادته في أن يعرف ربّه، ويُحبّه، ويُثني عليه. والتشبّه به: أن يكون هو [محبوباً لنفسه] 2، مثنياً بنفسه على نفسه. وهذا فسادٌ في حقّه، وضارٌ به. والقوم أضلّ من اليهود والنصارى، بل ومن مشركي العرب؛ فإنّه ليس الربّ عندهم؛ لا رب العالمين وخالقهم؛ ولا إلههم ومعبودهم.

ومشركو العرب كانوا يُقرّون بأنّه خالق كلّ شيء، وما سواه مخلوقٌ له محدَث. وهؤلاء الضالّون لا يعترفون بذلك؛ كما قد بُسط في غير هذا الموضع3.

الوجه الثالث من أوجه الرد على الفلاسفة

والوجه الثالث: أنّهم يظنّون أنّ ما عندهم هو علمٌ بالله. وليس كذلك، بل هو جهل.

والرازي لمّا شاركهم4 في بعض أمورهم صار حائراً معترفاً بذلك؛

1 ما بين المعقوفتين ملحق في ((خ)) بين السطرين.

2 ما بين المعقوفتين كتب في ((خ)) هكذا: (لنفسه محبوباً) . وعليها علامة ((م)) ؛ وهي علامة على التقديم والتأخير.

3 انظر: حقيقة مذهب الاتحاديّين أو وحدة الوجود ضمن مجموعة الرسائل والمسائل 43-114. وقاعدة في المحبّة ضمن جامع الرسائل 2193-401. ودرء تعارض العقل والنقل 662-70. والرد على المنطقيين ص 282، 394، 521-526. وكتاب الصفدية 1268-273. والفتاوى 7504، 586-597، 631-632، 17295. والفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص 217-230.

4 أي شارك الفلاسفة. انظر: جامع الرسائل 2250.

ص: 407

لمّا ذكر أقسام اللّذّات1، وأنّ اللّذّة العقليّة هي الحقّ؛ وهي لذّة العلم، وأنّ شرف العلم بشرف المعلوم؛ وهو الربّ، وأنّ العلم به ثلاث مقامات: العلم بالذات، والصفات، والأفعال. قال: وعلى كلّ مقامٍ عقدة؛ فالعلم بالذات فيه أنّ وجود الذات: هل هو زائد عليها أم لا؟ وفي الصفات: هل الصفات زائدة على الذات أم لا؟ وفي الأفعال: هل الفعل مقارنٌ أم لا؟. ثمّ قال: ومن الذي وصل إلى هذا الباب؟ أو من الذي ذاق من هذا الشراب؟

نهاية إقدام العقول عقال وأكثر سعي العالمين ضلال

وأرواحنا في وحشةٍ من جسومنا وغاية دنيانا أذى ووبال

ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا

لقد تأمّلتُ الطرق الكلاميّة، والمناهج الفلسفيّة، فما رأيتُها تشفي عَليلاً، ولا تروي غليلاً، ورأيتُ أقرب الطرق طريقة القرآن؛ اقرأ في الإثبات:{الرَّحْمَنُ عَلَىْ الْعَرْشِ اسْتَوَىْ} {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ والْعَمَلُ الصَّاْلِحُ يَرْفَعُهُ} 3، واقرأ في النفي:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} {وَلا يُحِيْطُوْنَ بِهِ عِلْمَاً} 5. ومن جرَّب مثل تجربتي، عرف مثل معرفتي6.

1 ذكر ذلك في كتابه: أقسام اللذات. وقد قال د محمد رشاد سالم عن هذا الكتاب: "وهذا الكتاب مخطوط بالهند، ولم يذكره بروكلمان ضمن مؤلفات الرازي". حاشية درء تعارض العقل والنقل 1160.

2 سورة طه، الآية 5.

3 سورة فاطر، الآية 10.

4 سورة الشورى، الآية 11.

5 سورة طه، الآية 110.

6 ذكر شيخ الإسلام رحمه الله هذا النص عن الرازي في كثير من كتبه، وكذلك تلميذه ابن القيم، والذهبي، مع اختلاف يسير في ألفاظه. وقد سبق أن ذُكر في ص 357-358 من هذا الكتاب.

وانظر: مجموع الفتاوى 472-73. ودرء تعارض العقل والنقل 1159-160. وبيان تلبيس الجهمية 1128-129. ومنهاج السنة النبوية 5270-272. واجتماع الجيوش الإسلامية لابن القيم ص 305-306. والمنار المنيف في الصحيح والضعيف ص 85. والصواعق المنزلة - تحقيق د أحمد بن عطية الغامدي، ود علي ابن ناصر الفقيهي - 170. وسير أعلام النبلاء - عند ترجمة الرازي - 21501. والبداية والنهاية لابن كثير 1354. وطبقات الشافعية للسبكي 896. وشرح الطحاوية 1244.

ص: 408

السعادة العلم بالله وما يقرب إليه..

فالسعادة هو أن يكون العلم المطلوب هو العلم بالله وما يُقرّب إليه، ويعلم أنّ السعادة في أن يكون الله هو المحبوب المراد المقصود، ولا يحتجب بالعلم عن المعلوم؛ كما قال ذلك الشيخ العارف للغزالي لمّا قال له: أخلصتُ أربعين صباحاً، فلم يتفجّر لي شيء! فقال: يا بنيّ أنتَ أخلصتَ للحكمة، لم يكن الله هو مرادك، والإخلاص لله أن يكون الله هو مقصود المرء ومراده، فحينئذ تتفجّر ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه؛ كما في حديث مكحول عن النبيّ صلى الله عليه وسلم:"من أخلص لله أربعين صباحاً تفجّرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه"12.

1 رواه أبو نعيم بإسناده عن مكحول، عن أبي أيوب الأنصاري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم

وقال: كذا رواه يزيد الواسطي متصلاً، ورواه ابن هارون، ورواه أبو معاوية عن الحجاج، فأرسله. حلية الأولياء 5189. وقال الألباني: حديث ضعيف انظر: السلسلة الضعيفة 155-66. وانظر: المغني عن حمل الأسفار رقم 1652. وانظر: تخريج أحاديث إحياء علوم الدين للحداد 21052، 62406-2407.

2 ذكر شيخ الإسلام رحمه الله هذه الحكاية عن الغزالي في: درء تعارض العقل والنقل 666.

ص: 409

ولهذا تقول العامّة: قيمة كلّ امرئ ما يُحسن1، والعارفون يقولون: قيمة كلّ امرئ ما يطلب2، وفي الإسرائيليّات: يقول الله تعالى: "إنّي لا أنظر إلى كلام الحكيم، وإنّما أنظر إلى همّته"3.

فالنفس لها قوة الإرادة مع الشعور، وهما متلازمان. وهؤلاء لحظوا شعورها وأعرضوا عن إرادتها. وهي تتقوّم بمرادها، لا بمجرّد ما [تشعر] 4 به؛ فإنّها تشعر بالخير والشرّ، والنافع والضارّ، ولكن لا يجوز أن يكون مرادها ومحبوبها إلا ما يُصلحها وينفعها؛ وهو الإله المعبود الذي لا يستحقّ العبادة غيره، وهو الله لا إله إلا هو، سبحانه وتعالى عمّا يقول الظالمون علواً كبيراً.

العلم الحق ما أخبرت به الرسل

ثمّ مع هذا يكون العلم حقاً، وهو ما أخبرت به الرّسل؛ فالعلم الحقّ هو ما أخبروا به، والإرادة النافعة إرادة ما أمروا به؛ وذلك عبادة الله وحده لا شريك له؛ فهذا هو السعادة، وهو الذي اتفقت عليه الأنبياء كلّهم؛ فكلّهم دعوا إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وذلك إنّما يكون بتصديق رسله [وطاعتهم]5.

السعادة متتضمنة للأصلين

فلهذا كانت السعادة متضمّنة لهذين الأصلين: الإسلام، والإيمان؛ عبادة الله وحده، وتصديق رسله؛ وهو تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله، وأنّ

1 هذه الحكمة منسوبة لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه. انظر: نهج البلاغة 418.

2 انظر: الجواب الصحيح 635.

3 انظر: الجواب الصحيح 635.

4 في ((خ)) : يشعر. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

5 في ((ط)) : وطاعته. وما أثبت من ((خ)) ، و ((م)) .

ص: 410

محمداً رسول الله، قال تعالى:{فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِيْنَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِيْنَ} 1؛ قال أبو العالية2: هما خصلتان يُسأل عنهما كلّ أحد؛ يُقال: لمن كنتَ تعبد، وبماذا أجبتَ المرسلين3. وقد بُسط هذا في غير هذا الموضع4. والله أعلم.

واتبع لها أسعد الناس في الدنيا والآخرة، وخير القرون القرن الذين شاهدوه مؤمنين به وبما يقول؛ إذ كانوا أعرف الناس بالفرق بين الحقّ الذي جاء به وبين ما يُخالفه، وأعظم محبّة لما جاء به وبُغضاً لما خالفه، وأعظم جهاداً عليه. فكانوا أفضل ممّن بعدهم في العلم، والدين، والجهاد؛ أكمل علماً بالحقّ والباطل؛ وأعظم محبّة للحقّ وبُغضاً للباطل؛ وأصبر على متابعة الحقّ، واحتمال الأذى فيه، وموالاة أهله، ومعاداة أعدائه. واتّصل بهم ذلك [إلى] 5 القرن الثاني، والثالث، فظهر ما بُعث به من الهدى ودين

1 سورة الأعراف، الآية 6.

2 هو رفيع بن مهران البصري، أبو العالية الرياحي. أدرك زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو شابّ، وأسلم في خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، ودخل عليه. روى عن عليّ، وابن مسعود، وابن عباس، وابن عمر، وأبيّ بن كعب، وغيرهم رضي الله عنهم. وهو من ثقات التابعين المشهورين بالتفسير بالمدينة. انظر: سير أعلام النبلاء 4207. والتفسير والمفسرون لمحمد الذهبي 1115.

3 لم أجد هذا الأثر في المصادر التي اطّلعت عليها.

4 انظر: درء تعارض العقل والنقل 662-70. وقاعدة في توحيد الإلهيّة وإخلاص العمل والوجه لله - ضمن مجموع الفتاوى 120-32 - والتدمرية ص 165-178، 195-206، 232-234. ومجموع الفتاوى 1189-310. والفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص 181-182.

5 ما بين المعقوفتين مكانها بياض في ((خ)) ، وهي في ((م)) ، و ((ط)) .

ص: 411

الحقّ على كلّ دين في مشارق الأرض ومغاربها؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: "زُوِيَت لي الأرضُ مشارقها ومغاربها، وسيبلغ مُلكُ أُمّتي ما زُوي لي منها"1.

وكان لا بُدّ أن يظهر في أمّته ما سبق به القدر، واقتضته نشأة البشر من نوعٍ من التفرّق والاختلاف، كما كان فيما غَبَر. لكن كانت أمّته صلى الله عليه وسلم خيرَ الأمم، فكان الخير فيهم أكثرَ منه في غيرهم، والشرّ فيهم أقلَّ منه في غيرهم؛ كما يعرف ذلك من تأمّل حالهم وحال بني إسرائيل قبلهم.

وبنو إسرائيل هم الذين قال الله فيهم: {وَلَقَدْ آتَيْنَاْ بَنِيْ إِسْرَاْئِيْلَ الْكِتَاْبَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاْهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاْتِ وَفَضَّلْنَاْهُمْ عَلَىْ الْعَاْلَمِيْنَ وَآتَيْنَاْهُمْ بَيِّنَاْتٍ مِنَ الأَمْرِ فَمَاْ اخْتَلَفُوْا إِلَاّ مِنْ بَعْدِ مَاْ جَاْءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيَاً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِيْ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَاْمَةِ فِيْمَاْ كَاْنُوْا فِيْهِ يَخْتَلِفُوْنَ ثُمَّ جَعَلْنَاْكَ عَلَىْ شَرِيْعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَاْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاْءَ الَّذِيْنَ لا يَعْلَمُوْنَ إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوْا عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئَاً وَإِنَّ الظَّاْلِمِيْنَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاْءُ بَعْضٍ وَاللهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِيْنَ} 2، وقال لهم موسى:{يَاْ قَوْمِ اذْكُرُوْا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيْكُمْ أَنْبِيَاْءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوْكَاً وَآتَاْكُمْ مَاْ لَمْ يُؤْتِ أَحَدَاً مِنَ الْعَاْلَمِيْنَ} 3.

1 أخرجه مسلم في صحيحه 42215-2216، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب في هلاك هذه الأمة بعضهم ببعض. وأحمد في المسند 5278. وأبو داود في سننه 4450، ح (4252) ، كتاب الفتن والملاحم، باب ذكر الفتن. والترمذي في جامعه 4472، ح (2176) ، كتاب الفتن، باب ما جاء في سؤال النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثاً في أمّته. وابن ماجه في سننه 21304، ح (3952) ، كتاب الفتن، باب ما يكون من الفتن. وكلّهم أخرجوه من طريق أبي أسماء الرحبي، عن ثوبان مرفوعاً.

2 سورة الجاثية، الآيات 16-19.

3 سورة المائدة، الآية 20.

ص: 412

خصائص أمة محمد صلى الله عليه وسلم

فإذا كان بنو إسرائيل الذين فضّلهم الله على العالَمين في تلك الأزمان، وكانت هذه الأمة خيراً منهم، كانوا خيراً من غيرهم بطريق الأولى. فكان ممّا خصّهم الله به أنّه لا يُعذّبهم بعذاب عامّ؛ لا من السماء، ولا بأيدي الخلق؛ فلا يُهلكهم بسنة عامة، ولا يُسلّط عليهم عدواً من غيرهم فيجتاحهم؛ كما كان يُسلّط على بني إسرائيل عدوّاً يجتاحهم، حتى لا يبقى لهم دينٌ قائمٌ منصورٌ، ومن لا يقبل منهم يبقى مقهوراً تحت حكم غيرهم. بل لا تزال في هذه الأمّة طائفة ظاهرة على الحقّ إلى يوم القيامة1، ولا يجتمعون على ضلالة2؛ فلا [تزال] 3 فيهم أمّة يدعون إلى الخير، ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، وأولئك هم المفلحون4.

وقد ثبت في الحديث الصحيح عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال: "سألتُ ربّي

1 قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة من أمتي يُقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة". رواه مسلم في صحيحه 31524، رقم (173) ، كتاب الإمارة، باب قوله صلى الله عليه وسلم:"ولا تزال طائفة من أمتي ظاهرين "، و1137، رقم (247) ، كتاب الإيمان، باب نزول عيسى بن مريم حاكماً بشريعة نبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم. وأحمد في المسند 3345.

وعند البخاري من حديث المغيرة بن شعبة 62667، كتاب الاعتصام، باب قوله صلى الله عليه وسلم:"لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحقّ" وهم أهل العلم.

2 قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنّ الله لا يجمع أمتي على ضلالة". أخرجه الترمذي في جامعه من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما 4466، كتاب الفتن، باب ما جاء في لزوم الجماعة.

وللحديث شواهد أخرى عن أبي ذر وغيره أخرجها الدارمي في سننه 129. والحاكم في مستدركه 1115.

3 في ((خ)) : يزال. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

4 قال تعالى: {ولتكن منكم أمّةٌ يدعونَ إلى الخيرِ وَيأمرونَ بالمعروفِ وينهونَ عنِ المُنْكَرِ وأولئك همُ المفلحون} . سورة آل عمران، الآية 104.

ص: 413

ثلاثاً، فأعطاني اثنتين، ومنعني [عن] 1 واحدة؛ سألتُ ربّي أن لا يُسلّط عليهم عدوّاً من غيرهم فيجتاحهم، فأعطانيها؛ وسألتُه أن لا يُهلكهم بسنة عامّة، فأعطانيها؛ وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم، فمنعنيها" 2.

معنى البأس

وهذا البأس نوعان؛ أحدهما: الفتن التي تجري عليهم. والفتنة تَرِدُ على القلوب، فلا [تعرف] 3 الحقَّ، ولا [تقصده] 4؛ فيؤذي بعضهم بعضاً بالأقوال والأعمال. والثاني: أن يعتدي أهل الباطل منهم على أهل الحقّ منهم، فيكون ذلك محنةً في حقّهم، يُكفّر الله بها سيِّئاتهم، ويرفع بالصبر عليها درجاتهم، وبصبرهم وتقواهم لا يضرّهم كيد الظالمين لهم، بل تكون العاقبة للتقوى، ويكونون من أولياء الله المتقين، وحزب الله المفلحين، وجند الله الغالبين؛ إذا كانوا من أهل الصبر واليقين؛ ف {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِر فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيْعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِيْنَ} 5. والمتعدّي منهم إمّا أن يتوبَ الله عليه كما تاب على إخوة يوسف بعد عدوانهم عليه، وآثره الله عليهم بصبره وتقواه؛ كما قال لمّا قالوا: {أَئِنَّكَ لأَنْتَ يُوْسُفُ قَاْلَ أَنَاْ يُوْسُفُ وَهَذَاْ أَخِيْ قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنَاْ إِنَّهُ مِنْ يَتَّقِ وَيَصْبِر فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيْعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِيْنَ قَاْلُوْا تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنَاْ وَإِنْ كُنَّاْ لَخَاْطِئِيْنَ قَاْلَ لا تَثْرِيْبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاْحِمِيْنَ} 6.

1 ما بين المعقوفتين ليس في ((خ)) ، وهو في ((م)) ، و ((ط)) .

2 هو جزء من حديث أخرجه الإمام مسلم في صحيحه 42216، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب هلاك هذه الأمة بعضهم ببعض.

3 في ((خ)) : يعرف. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

4 في ((خ)) : يقصده. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

5 سورة يوسف، الآية 90.

6 سورة يوسف، الآيات 90-92.

ص: 414

وكما فعل سبحانه بقادة الأحزاب الذين كانوا عدواً لله وللمؤمنين، وقال فيهم:{لا تَتَّخِذُوْا عَدُوِّيْ وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاْء} 1، ثمّ قال:{عَسَىْ اللهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِيْنَ عَاْدَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةٌ وَاللهُ قَدِيْرٌ وَاللهُ غَفُوْرٌ رَحِيْمٌ} 2؛ وفي هذا ما دلّ على أنّ الشخص قد يكون عدواً لله، ثمّ يصير وليّاً لله، موالياً لله ورسوله والمؤمنين؛ فهو سبحانه يتوب على من تاب، ومن لم يتب فإلى الله إيابه، وعليه حسابه. وعلى المؤمنين أن يفعلوا معه ومع غيره ما أمر الله به ورسوله؛ من قصد نصيحتهم، وإخراجهم من الظلمات إلى النّور، وأمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر؛ كما أمر الله ورسوله، لا اتّباعاً للظنّ وما تهوى الأنفس، حتى [يكون] 3 من خير أمة أخرجت للنّاس؛ يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ويؤمنون بالله. وهؤلاء يعلمون الحقّ ويقصدونه، ويرحمون الخلق، وهم أهل صدقٍ وعدلٍ؛ أعمالهم خالصة لله، صوابٌ موافقة لأمر الله؛ كما قال تعالى:{لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} 4. قال [الفُضَيْل] 5 بن عياض6، وغيره: أخلصه، وأصوبه؛ والخالص أن يكون لله؛ والصواب أن يكون على السنّة7.

1 سورة الممتحنة، الآية 1.

2 سورة الممتحنة، الآية 7.

3 في ((خ)) : تكون. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

4 سورة الملك، الآية 2.

5 ما بين المعقوفتين لا توجد في ((ط)) .

6 سبقت ترجمته.

7 انظر: تفسير البغوي 4369.

وقد أورده شيخ الإسلام ابن تيمية في عدة مواضع من كتبه، انظر: جامع الرسائل 1257، 2226. والعبودية ص 69-70. ومجموع الفتاوى 1333، 7495. والتدمرية ص 233.

ص: 415

دين الإسلام

وهو كما قالوا؛ فإنّ هذين الأصلين هما دين الإسلام الذي ارتضاه الله؛ كما قال: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِيْنَاً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاْهِيْمَ حَنِيْفَاً وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْرَاْهِيْمَ خَلِيْلاً} 1؛ فالذي أسلم وجهه لله: هو الذي يُخلص نيّته لله، ويبتغي بعمله وجه الله. والمحسن: هو الذي يُحسن عمله؛ فيعمل الحسنات. والحسنات: هي العمل الصالح. والعمل الصالح: هو ما أمر الله به ورسوله؛ [من] 2 واجبٍ ومستحبٍ. فما ليس من هذا ولاهذا، ليس من الحسنات، والعمل الصالح، فلا يكون فاعله محسناً.

وكذلك قال لمن قال: {لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَاّ مَنْ كَاْنَ هُوْدَاً أَوْ نَصَاْرَىْ} 3، قال:{تِلْكَ أَمَاْنِيُّهُمْ قُلْ هَاْتُوْا بُرْهَاْنَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَاْدِقِيْنَ بَلَىْ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُوْنَ} 4. وقد قال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلَامِ دِيْنَاً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِيْ الآخِرَةِ مِنَ الْخَاْسِرِيْنَ} 5.

الإسلام دين جميع الأنبياء

والإسلام هو دين جميع الأنبياء والمرسلين ومن اتبعهم من الأمم؛ كما أخبر الله بنحو ذلك في غير موضع6 من كتابه؛ فأخبر عن نوح7،

1 سورة النساء، الآية 125.

2 في ((ط)) : مزن.

3 سورة البقرة، الآية 111.

4 سورة البقرة، الآيتان 111-112.

5 سورة آل عمران، الآية 85.

6 قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا} . سورة المائدة، الآية 44.

7 حكى الله تعالى عن نوح عليه السلام أنه قال لقومه: {فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} . سورة يونس، الآية 72.

ص: 416

وإبراهيم، وإسرائيل1 [عليهم السلام] 2 أنّهم كانوا مسلمين. وكذلك عن أتباع موسى3، وعيسى4 [عليهما السلام] 5، وغيرهم6.

معنى الإسلام

والإسلام هو أن يَستسلم لله، لا لغيره؛ فيعبد الله ولا يُشرك به شيئاً، ويتوَكَّل عليه وحده، ويرجوه، ويخافه وحده، ويُحبّ الله المحبّة التامّة، لا يُحبّ مخلوقاً كحبّه لله، بل يُحِبّ لله، ويُبغض لله، ويُوالي لله، ويُعادي لله. فمن استكبر عن عبادة الله لم يكن مسلماً، ومن عبد مع الله غيره لم يكن مسلماً. وإنّما تكون عبادتُه بطاعته؛ وهو طاعة رسله؛ [فَمَنْ] 7 يُطع الرسول فقد أطاع الله8؛ فكلّ رسول بُعث بشريعة، فالعمل بها في وقتها

1 وأخبر الله تعالى عن إبراهيم ويعقوب عليهما السلام: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} . سورة البقرة الآيات 130-132.

2 ما بين المعقوفتين من ((ط)) فقط.

3 حكى الله تعالى عن موسى عليه السلام أنّه قال لقومه: {يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} . سورة يونس، الآية 84.

4 قال الله تعالى عن عيسى عليه السلام: {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} . سورة آل عمران، الآية 52.

5 ما بين المعقوفتين من ((ط)) فقط.

6 قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "فهذا دين الأولين والآخرين من الأنبياء وأتباعهم هو دين الإسلام؛ وهو عبادة الله وحده لا شريك له. وعبادته تعالى في كلّ زمان ومكان بطاعة رسله عليهم السلام، فلا يكون عابداً له من عبده بخلاف ما جاءت به رسله". الجواب الصحيح 183. وانظر: مجموع الفتاوى 7624.

7 في ((م)) ، و ((ط)) : من.

8 انظر: معنى الإسلام كما أوضحه شيخ الإسلام رحمه الله في كتاب الإيمان ص 250-252، 346. ومجموع الفتاوى 7623، 635. والفرقان ص 182. والتدمرية ص 169. والاستقامة 2128.

ص: 417

هو دين الإسلام. وأمّا ما بُدِّل منها فليس من دين الإسلام. وإذا نُسخ منها ما نُسخ لم يبق من دين الإسلام؛ كاستقبال بيت المقدس في أول الهجرة بضعة عشر شهراً، ثمّ الأمر باستقبال الكعبة1؛ وكلاهما في وقته دين الإسلام، فبعد النسخ لم يبق دين الإسلام إلا أن يُولّي المصلّي وجهه شطر المسجد الحرام2.

فمن قصد أن يُصلّي إلى غير تلك الجهة، لم يكن على دين الإسلام؛ لأنّه يُريد أن يعبد الله بما لم يأمره. وهكذا كلّ بدعة تُخالف أمر الرسول؛ إمّا أن تكون من الدين المُبدّل الذي ما شرعه الله قطّ، أو من المنسوخ الذي نسخه الله بعد شرعه؛ كالتوجّه إلى بيت المقدس. فلهذا كانت السنّة في الإسلام كالإسلام في الدين؛ هو الوسط؛ كما قد شُرح هذا في غير موضع3.

1 روى البخاري عند تفسير قوله تعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [سورة البقرة، الآية 142] ، عن البراء رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم صلّى إلى بيت المقدس ستة عشر شهراً، أو سبعة عشر شهراً، وكان يعجبه أن تكون قبلته قِبَل البيت. وأنّه صلى - أو صلاها - صلاة العصر، وصلى معه قومٌ، فخرج رجل ممّن كان صلى معه، فمرّ على أهل المسجد وهم راكعون، قال: أشهد بالله لقد صليتُ مع النبي صلى الله عليه وسلم قِبَل مكّة. فداروا كما هم قبل البيت. وكان الذي مات على القبلة قبل أن تُحوّل قبل البيت رجال قُتلوا لم ندر ما نقول فيهم، فأنزل الله:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ} . صحيح البخاري 41631، كتاب التفسير، باب:{سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ} .

2 ويُوضّح شيخ الإسلام رحمه الله تفاوت الإيمان في حق العباد، وأنّ الأعمال إنّما تجب وتكون إيماناً وإسلاماً إذا فُرضت عليهم. انظر: كتاب الإيمان ص 184-186.

3 انظر: التدمرية ص 169-170. ومجموع الفتاوى 180، 189، 190، 310-311. وقاعدة عظيمة في الفرق بين عبادات أهل الإسلام والإيمان وعبادات أهل الشرك والنفاق ص 16-27.

ص: 418

والمقصود هنا أنّه إذا ردّ ما تنازع فيه الناس إلى الله والرسول؛ سواء كان في الفروع أو [الأصول] 1، كان ذلك خيراً وأحمدَ عاقبة؛ كما قال تعالى:{يَاْ أَيُّهَاْ الَّذِيْنَ آمَنُوْا أَطِيْعُوْا اللهَ وَأَطِيْعُوْا الرَّسُوْلَ وَأُوْلِيْ الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَاْزَعْتُمْ فِيْ شَيْءٍ فَرُدُّوْهُ إِلَىْ اللهِ وَالرَّسُوْلِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُوْنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيْلاً} 2. وقال تعالى: {كَاْنَ النَّاْسُ أُمَّةً وَاْحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّيْنَ مُبَشِّرِيْنَ وَمُنْذِرِيْنَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَاْبَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاْسِ فِيْمَاْ اخْتَلَفُوْا فِيْهِ وَمَاْ اخْتَلَفَ فِيْهِ إِلَاّ الَّذِيْنَ أُوْتُوْهُ مِنْ بَعْدِ مَاْ جَاْءَتْهُمُ الْبَيِّنَاْتُ بَغْيَاً بَيْنَهُمْ فَهَدَىْ اللهُ الَّذِيْنَ آمَنُوْا لِمَاْ اخْتَلَفُوْا فِيْهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللهُ يَهْدِيْ مَنْ يَشَاْءُ إِلَىْ صِرَاْطٍ مُسْتَقِيْمٍ} 3.

وفي صحيح مسلم عن عائشة، [أنّ] 4 النبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا قام [يُصلّي] 5 من اللّيْل يقول:"اللهمّ ربّ جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطرَ السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما [اختُلف] 6 فيه من الحقّ بإذنك إنّك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم"7.

1 في ((خ)) : الأصل. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

2 سورة النساء، الآية 59.

3 سورة البقرة، الآية 213.

4 في ((ط)) : فأنّ. وما أثبت من ((خ)) ، و ((م)) .

5 ما بين المعقوفتين في ((خ)) . وليس في ((م)) ، و ((ط)) .

وفي صحيح مسلم، قالت عائشة رضي الله عنها: كان إذا قام من الليل افتتح صلاته: "اللهمّ رب

" وذكرت الحديث.

6 في ((خ)) : اختلفت. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

7 أخرجه الإمام مسلم في صحيحه من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها 1534، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الدعاء.

ص: 419

أهل السنة

وهذه حال أهل العلم والحق والسنّة؛ يعرفون الحق الذي جاء به الرسول؛ وهو الذي اتفق عليه صريح المعقول وصحيح المنقول؛ ويدعون إليه؛ ويأمرون به نصحاً للعباد، وبياناً للهدى والسداد. ومن خالف ذلك لم يكن لهم معه هوى، ولم يحكموا عليه بالجهل، بل [حكمه] 1 إلى الله والرسول؛ فمنهم من يُكفره الرسول، ومنهم من يجعله من أهل الفسق أو العصيان، ومنهم من يعذره ويجعله من أهل الخطأ المغفور. والمجتهد من هؤلاء المأمور بالاجتهاد، يجعل له أجراً على فعل ما أمر به من الاجتهاد، وخطؤه مغفور له؛ كما دلّ الكتاب2.

أهل البدع

وأمّا أهل البدع: فهم أهل أهواء وشبهات، يتّبعون أهواءهم فيما يُحبّونه ويُبغضونه، ويحكمون بالظنّ والشبه؛ فهم يتّبعون الظنّ وما تهوى

1 في ((ط)) : حكمة. وما أثبت من ((خ)) ، و ((م)) .

2 قال تعالى: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} . [سورة البقرة، الآيتان 285-286] .

وثبت في صحيح مسلم أنّ الله سبحانه استجاب هذا الدعاء، وقال: قد فعلتُ. انظر: صحيح مسلم 1116، كتاب الإيمان، باب بيان أنه سبحانه وتعالى لا يُكلّف إلا ما يُطاق، رقم 200. ومسند الإمام أحمد 1233.

وقال تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} . [سورة الأحزاب، الآية 5] . وانظر: الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص 144-146 - تحقيق د عبد الرحمن عبد الكريم اليحيى.

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا اجتهد الحاكم فأصاب، فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ، فله أجر". متفق عليه؛ أخرجه الإمام البخاري في صحيحه 9133، كتاب الاعتصام، باب أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب. والإمام مسلم في صحيحه 31342، كتاب الأقضية، باب بيان أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ.

ص: 420

الأنفس، ولقد جاءهم من ربهم الهدى. فكلّ فريقٍ منهم قد أصّل لنفسه أصلَ دينٍ [صنعه] 1؛ إمّا برأيه وقياسه الذي يُسمّيه عقليّات؛ وإمّا بذوقه وهواه الذي يُسمّيه ذوقيّات2؛ وإمّا بما يتأوّله من القرآن، ويُحرّف فيه الكلم عن مواضعه، ويقول إنّه إنّما يتّبع القرآن كالخوارج3؛ وإمّا بما يدّعيه في الحديث والسنّة ويكون كذباً وضعيفاً كما يدّعيه الروافض4؛ من

1 في ((م)) ، و ((ط)) : وضعه.

2 قال صاحب التعريفات: "والذوق في معرفة الله عبارة عن نور عرفانيّ يقذفه الحقّ بتجلّيه في قلوب أوليائه، يُفرّقون به بين الحقّ والباطل من غير أن يتلقّوا ذلك من كتاب أو غيره". التعريفات ص 44.

وانظر: أيضاً تعريف الذوق في الرسالة القشيريّة 1271. وانظر: شرح الأصفهانية 2516-517.

3 المقصود أنّ الخوارج لا يأخذون بالسنة.

وكل من خرج على الإمام الحقّ الذي اتفقت الجماعة عليه يُسمّى خارجاً. وأول من عرف بذلك، واشتهر به: الذين خرجوا على علي رضي الله عنه في حروراء، وقاتلهم. وهم فرق كثيرة يقولون بتخليد صاحب الكبيرة، ويجمعهم القول بتكفير علي بن أبي طالب، وعثمان، والحكمين، وأصحاب الجمل، ومن رضي بالتحكيم وصوّب الحكمين أو أحدهما. ويجمعهم أيضاً القول بالخروج على الإمام إذا كان جائراً.

انظر: الملل والنحل 114. والفرق بين الفرق ص 72، 73. والمقالات 1167. وانظر أيضاً: منهاج السنة النبوية 3461.

4 قال شيخ الإسلام رحمه الله: "وإنّما سُمّوا رافضة، وصاروا رافضة لمّا خرج زيد بن علي بن الحسين بالكوفة في خلافة هشام، فسألته الشيعة عن أبي بكر وعمر، فترحّم عليهما، فرفضه قومٌ، فقال: رفضتموني، رفضتموني. فسمّوا رافضة. وتولاّه قومٌ فسمّوا زيديّة؛ لانتسابهم إليه. ومن حينئذٍ انقسمت الشيعة إلى رافضة إماميّة، وزيديّة. وكلما ازدادوا في البدعة، ازدادوا في الشرّ. فالزيديّة خيرٌ من الرافضة، أعلم، وأصدق، وأزهد، وأشجع".

منهاج السنة النبوية 296. وانظر: المصدر نفسه 3471. ومجموع الفتاوى 1335-36.

وهم يغلون في علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ويكفّرون أكثر الصحابة، إلا عدداً يسيراً.

وقد أخبر شيخ الإسلام رحمه الله أنّ "أصل الرفض من المنافقين والزنادقة؛ فإنّه ابتدعه ابن سبأ الزنديق، وأظهر الغلوّ في عليّ بدعوى الإمامة والنصّ، وادّعى العصمة له". مجموع الفتاوى 4435، 28483.

وانظر: في تعريف الرافضة: المقالات للأشعريّ 189. واعتقاد فرق المسلمين والمشركين للرازي ص 52. والملل والنحل 1155. والبرهان في معرفة عقائد أهل الأديان ص 36. وشرح حديث النزول لابن تيمية ص 427. وبغية المرتاد ص 341.

ص: 421

النصّ والآيات. وكثيرٌ ممّن يكون قد وضع دينه برأيه أو ذوقه يحتجّ من القرآن بما يتأوّله على غير تأويله، ويجعل ذلك حجّة لا عمدة، وعمدته في الباطن على رأيه، كالجهميّة والمعتزلة في الصفات والأفعال، بخلاف مسائل الوعد والوعيد1؛ فإنّهم قد يقصدون متابعة النصّ.

1 يُراد بمسائل الوعد والوعيد عند الرافضة ما أُريد بها عند المعتزلة.

ومسائل الوعد والوعيد بيّنها القاضي عبد الجبار المعتزلي بقوله: ".... وأما علوم الوعد والوعيد: فهو أنّ الله تعالى وعد المطيعين بالثواب، وتوعّد العصاة بالعقاب، وأنّه يفعل ما وعد به وتوعّد عليه لا محالة، ولا يجوز عليه التخلّف والكذب..". شرح الأصول الخمسة ص 135-136.

والروافض في إثبات الوعيد فرقتان؛ إحداهما تُثبته لمخالفيهم خاصّة. والأخرى تُثبته للنّاس عامّة.

يقول الأشعريّ في المقالات: "واختلفت الروافض في الوعيد، وهم فرقتان: فالفرقة الأولى منهم يُثبتون الوعيد على مخالفيهم، ويقولون: إنّهم يعذّبون، ولا يقولون بإثبات الوعيد فيمن قال بقولهم، ويزعمون أنّ الله سبحانه يدخلهم الجنّة، وإن أدخلهم النّار أخرجهم منها. ورووا في أئمتهم أنّ ما كان بين الشيعة وبين الناس من المظالم شفعوا لهم إليهم، حتى يصفحوا عنهم. والفرقة الثانية منهم يذهبون إلى إثبات الوعيد، وأنّ الله عز وجل يُعذّب كلّ مرتكب للكبائر من أهل مقالتهم كان، أو من غير أهل مقالتهم، ويُخلّدهم في النّار". المقالات للأشعريّ 1126. وانظر: منهاج السنة النبوية 2303.

ص: 422

البدع نوعان

فالبدع نوعان: نوعٌ كان قصد أهلها متابعة النصّ والرّسول، لكن غلطوا في فهم النصوص، وكذّبوا بما يُخالف ظنّهم من الحديث ومعاني الآيات؛ كالخوارج، وكذلك الشيعة المسلمين، بخلاف من كان منافقاً زنديقاً1 يُظهر التشيّع، وهو في الباطن لا يعتقد الإسلام. وكذلك المرجئة قصدوا اتباع الأمر والنهي، وتصديق الوعيد مع الوعد.

ولهذا قال عبد الله بن المبارك2، ويوسف بن أسباط3، وغيرهما إنّ الثنتين وسبعين فرقة4 أصولها أربعة: الشيعة، والخوارج، والمرجئة، والقدريّة.

1 قال شيخ الإسلام رحمه الله عن لفظ الزندقة أنّه "لا يُوجد في كلام النبي صلى الله عليه وسلم، كما لا يُوجد في القرآن. وهو لفظٌ أعجميّ معرّب، أُخذ من كلام الفرس بعد ظهور الإسلام وعُرِّب. وقد تكلّم به السلف والأئمة؛ في توبة الزنديق، ونحو ذلك. فأمّا الزنديق الذي تكلّم الفقهاء في قبول توبته في الظاهر، فالمراد به عندهم المنافق الذي يُظهر الإسلام، ويُبطن الكفر، وإن كان مع ذلك يُصلّي ويصوم ويحجّ ويقرأ القرآن، وسواء كان في باطنه يهودياً أو نصرانياً أو مشركاً أو وثنياً، وسواء كان معطِّلاً للصانع وللنبوّة، أو للنبوّة فقط، أو لنبوّة نبيِّنا صلى الله عليه وسلم فقط، فهذا زنديق، وهو منافق. وما في القرآن والسنّة من ذكر المنافقين يتناول مثل هذا بإجماع المسلمين". بغية المرتاد ص 338.

2 سبقت ترجمته.

3 يوسف بن أسباط الزاهد، من سادات المشايخ. له مواعظ وحكم. وثقه ابن معين. وقال أبو حاتم: لا يُحتجّ به. وقال البخاري: دفن كتبه، فكان حديثه لا يجيء كما ينبغي. انظر: سير أعلام النبلاء 9169. وحلية الأولياء 8237. وشذرات الذهب 1343.

4 يُشير إلى حديث: "إنّ أهل الكتابين افترقوا في دينهم على ثنتين وسبعين ملّة، وإنّ هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين ملّة - يعني الأهواء - كلّها في النار إلا واحدة وهي الجماعة. ..". أخرجه الإمام أحمد في المسند 4102. وأبو داود في سننه 55، كتاب السنّة، باب شرح السنّة. والحاكم في مستدركه 1128، وصحّحه ووافقه الذهبي.

ص: 423

الجهمية أصل دينهم المعقول

وأمّا الجهميّة النافية للصفات، فلم يكن أصل دينهم اتباع الكتاب والرسول1؛ فإنّه ليس في الكتاب والسنّة نصّ واحدٌ يدلّ على قولهم، بل نصوص الكتاب والسنّة متظاهرة بخلاف قولهم، وإنّما يدّعون التمسّك بالرأي المعقول. وقد بُسط القول على بيان فساد حججهم العقليّة، وما يدّعيه بعضهم من السمعيّات، وبُيِّن أنّ المعقول الصريح موافق للمنقول الصحيح في بطلان قولهم، لا مخالف له2.

الكلام في أفعال الرب تعالى

والمقصود هنا: الكلام في أفعال الربّ؛ فإنّ الجهميّة والمعتزلة ومن اتبعهم صاروا يسلكون فيه بأصلٍ أُصِّل بالمعقول، و [يجعلونه] 3 العمدة، وخاضوا في لوازم القدر برأيهم المحض، فتفرّقوا فيه تفرّقاً عظيماً، وظهر بذلك حكمة نهي النبيّ صلى الله عليه وسلم لأمّته عن التنازع في القدر، مع أنّ المتنازعين كان كلّ منهما يُدلي بآية، لكن كان ذلك يُفضي إلى إيمان كلّ طائفة ببعض الكتاب دون البعض، فكيف إذا كان المتنازعون [عمدتهم] 4 رأيهم.

1 وانظر: درء تعارض العقل والنقل 5302، 309،، 7110. وكتاب الصفدية 2239-240. ومجموع الفتاوى 3350-354. وشرح الطحاوية 2795. ورسالة السجزي إلى أهل زبيد ص 216. وشرح السنة للبربهاري ص 57.

2 وقد هدم شيخ الإسلام رحمه الله قانون المتكلّمين العقليّ الذي جعلوه مقدّماً على الأدلّة السمعيّة، والتزموا لأجله لوازمَ ردّوا بها كثيراً من أمور العقيدة. وقد بسط ذلك رحمه الله في كتابه الكبير:((درء تعارض العقل والنقل)) .

3 في ((خ)) ، و ((م)) : يجعلون. وما أثبت من ((ط)) .

4 في ((خ)) : عهدتهم. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

ص: 424

أحاديث النهي عن التنازع في القدر

والحديث رواه أهل المسند والسنن [مفصّلاً] 1، ورواه مسلم2 مجملاً عن عبد الله بن رباح الأنصاري أنّ عبد الله بن عمرو قال: هجَّرتُ3 إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً، فسمع [أصوات] 4 رجلين اختلفا في آية، فخرج علينا صلى الله عليه وسلم يُعرف في وجهه الغضب، فقال:"إنّما هلك من كان قبلكم باختلافهم في الكتاب".

وقال الإمام أحمد في المسند: [ثنا] 5 أبو معاوية، [حدثنا] 6 داود ابن أبي هند، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه7 قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، والنّاس يتكلّمون في القدر. قال: فكأنّما يُفْقأ في وجهه حبّ الرمّان من الغضب. قال: فقال: "ما لكم تضربون كتاب الله بعضَه ببعض؟ بهذا هَلَكَ من كان قبلكم" قال8: فما غبطتُ نفسي بمجلسٍ فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لم أشهده، ما غبطتُ نفسي بذلك المجلس أنّي لم أشهده". وهذا حديث محفوظ من [رواية] 9 عمرو بن شعيب. وقد رواه ابن ماجه

1 في ((خ)) : متصلاً. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

2 صحيح مسلم 42053، كتاب العلم، باب النهي عن اتباع متشابه القرآن، والتحذير من متبعيه، والنهي عن الاختلاف في القرآن.

3 قال ابن الأثير: "التهجير: التبكير إلى كلّ شيء، والمبادرة إليه؛ يُقال: هجّر يُهجّر تهجيراً فهو مُهجِّر". النهاية في غريب الحديث لابن الأثير 5246.

4 في ((خ)) : أصواتاً. وفي ((م)) ، و ((ط)) : صوت. وما أثبت من صحيح الإمام مسلم رحمه الله.

5 في ((م)) ، و ((ط)) : حدثنا.

6 في ((م)) ، و ((ط)) : ثنا.

7 عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.

8 أي عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.

9 في ((خ)) : روايته. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

ص: 425

من حديث أبي معاوية1.

وكتب أحمد في رسالته إلى المتوكّل2 هذا الحديث. وجعل يقول في مناظرته لهم يوم الدار في المحنة: إنّا قد نُهينا عن أن نضرب كتاب الله بعضه ببعض3.

وروى هذا المعنى: الترمذي من حديث أبي هريرة4، وقال:

1 رواه أحمد في المسند 2178، 196. وابن ماجه في السنن 133، في المقدمة، باب في القدر. وأخرجه اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة 1115، 3627. والبغوي في شرح السنّة1260. وقال محقّقاه: إسناده حسن. وأخرجه الحارث بن أبي أسامة في مسنده - كما في زوائد ابن ماجه 153 - وقال الساعاتي عن رواية الإمام أحمد: وقال البوصيريّ: هذا إسناد صحيح، رجاله ثقات. وانظر: الفتح الرباني 1142. وقد حسّنه محقّق جامع الأصول 10135 عبد القادر الأرناؤوط.

ورواه الآجري بسنده عن أبي أمامة في الشريعة ص 68. وقال الألباني في تعليقه على مشكاة المصابيح 136: سنده حسن، وقال في تعليقه على شرح الطحاوية ص 218: صحيح.

2 ذكر هذه الرسالة بنصها عبد الله بن الإمام أحمد رحمهما الله في كتاب السنّة ص 21-26. وأبو نعيم في الحلية - عند ترجمة الإمام أحمد - 9216-219.

وهي رسالة أرسلها الإمام أحمد رحمه الله جواباً لرسالة وصلته من وزير المتوكل عبيد الله بن يحيى بن خاقان يُخبره أنّ أمير المؤمنين أمره أن يكتب إليه، يسأله عن أمر القرآن، لا مسألة امتحان، ولكن مسألة معرفة وبصيرة.. وقال الذهبي عن هذه الرسالة:"رواة هذه الرسالة عن أحمد أئمة أثبات، أشهد بالله أنّه أملاها على ولده". تاريخ الإسلام. ومقدمة المسند لأحمد شاكر 1124.

3 كتاب السنة لعبد الله بن الإمام أحمد

4 أخرج الترمذي بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نتنازع في القدر، فغضب حتى احمرّ وجهه؛ حتى كأنّما فُقئ في وجنتيه حبُّ الرّمّان، فقال: أبهذا أُمرتم؟ أم بهذا أُرسلت إليكم؟! إنّما هلك من كان قبلكم حين تنازعوا في هذا الأمر. عزمتُ عليكم ألاّ تنازعوا فيه" الحديث أخرجه الترمذي في جامعه 4443، كتاب القدر، باب ما جاء في التشديد في الخوض في القدر. وقال: وفي الباب عن عمر، وعائشة، وأنس. وهذا الحديث غريب، لا نعرفه إلا من هذا الوجه، من حديث صالح المرّيّ، وصالح المرّيّ له غرائب يتفرّد بها، لا يُتابع عليها. وانظر: درء تعارض العقل والنقل 149،، 2104.

ص: 426

حديث حسن غريب.

شبهة من ينكر صفات الله

قال1: وفي الباب الذي [فررت] 2 منه؛ فإنّه لمّا قيل: إنّ له حياة، وعلماً، وقدرة، وإرادة، وغضباً، ورضي، ونحو ذلك، قلتَ: هذا يستلزم أن يكون موافقاً للمخلوق في مسمّى هذه الأسماء. وهذا تشبيه3. فقيل لك4: هذا يلزم مثله في الذات؛ فإن قيل بتعطيل الذات5، فذلك يستلزم ما فررت منه؛ من ثبوت جسم قديم حامل للأعراض والحركات. وإذا كان هذا لازماً لك على تقدير نفي الذات كما ثبت أنّه لازمٌ على تقدير إثباتها، كان لازماً على تقدير النقيضين؛ النفي والإثبات. وما كان كذلك لم يمكن

1 لم يتبيَّن لي القائل، والكلام الذي سيأتي غير واضح. ولا أدري أهو من كلام الترمذيّ، أم من كلام شيخ الإسلام - فلعله رجع بعد الاستطراد انظر: ص 499؛ فليس هذا الكلام في نسخ جامع الترمذي التي بين أيدينا.

2 في ((خ)) : قررت. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

3 وهذا الكلام - كما يُفهم - من كلام مَن يُنكر صفات الله؛ كالجهميّة، والمعتزلة. وهذه حجّتهم؛ إذ أنّهم لم يفهموا من صفات الخالق إلا ما هو من صفات المخلوق؛ فشبّهوا، ثمّ عطّلوا.

4 المقصود به الجهمي والمعتزلي الذي يُعطِّل الصفات ويُثبت الذات. فيُقال له: القول في الصفات كالقول في الذات.

5 وهذا قول ملاحدة الصوفية، وغلاة الفلاسفة الذين يقولون بالوجود المطلق الذي لا حقيقة له في الأعيان.

ص: 427

نفيه. و [أمّا] 1 نحن فقد بيَّنَّا أنّ اللازم على تقدير إثباتها لا محذور فيه، وإنّما المحذور لازم على تقدير نفيها. وهذا قد بُسط في غير هذا الموضع2.

مناقشة من ينفي الحكمة

والمقصود هنا: أنه يُقال لهؤلاء3 الذين ينفون الحكمة، ثمّ الإرادة،

1 في ((خ)) : انما. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

2 انظر: العقيدة التدمرية ص 15-30، 35-46. وشرح الأصفهانية 2384-388، 441-445، 450، 457-467. ودرء تعارض العقل والنقل 1128، 129، 6119-137. والرد على المنطقيين ص 225-232. ومنهاج السنة 2115-120، 160-172، 595-598. وكتاب الصفدية 188، 234-37.

3 المقصود بهم الفلاسفة، والجهميّة. وانظر: ص 533.

فهم ينفون تعليل أفعال الله سبحانه وتعالى، وأن يكون مختاراً في أفعاله، ويقولون هو موجب بالذات، فلا يكون فعله لغاية. انظر: الإشارات والتنبيهات لابن سينا 3150-155. وكذا انظر: بيان تلبيس الجهمية 1161.

وقال شيخ الإسلام عن الحكمة: "كل ما خلقه الله فله فيه حكمة؛ كما قال: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} ، وقال: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} . وهو سبحانه غنيّ عن العالمين. فالحكمة تتضمّن شيئين؛ أحدهما حكمة تعود إليه يُحبّها ويرضاها. والثانية إلى عباده، هي نعمه عليهم يفرحون بها، ويلتذّون بها. وهذا في المأمورات، وفي المخلوقات". مجموع الفتاوى 835-36.

وذكر شيخ الإسلام رحمه الله أقوال النّاس في الحكمة، فقال عن الجهميّة:"ُنكرون التعليل جملة، ولا يُثبتون إلا محض المشيئة، ولا يجعلون في المخلوقات والمأمورات معاني لأجلها كان الخلق والأمر، إلى غير ذلك من لوازم قولهم. والمعتزلة يُثبتون تعليلاً متناقضاً في أصله وفرعه؛ فيُثبتون للفاعل تعليلاً لا تعود إليه حكمة" درء تعارض العقل والنقل 854.

أمّا الفلاسفة، فيقول عنهم شيخ الإسلام رحمه الله إنّهم "ُثبتون علة غائيّة للفعل، وهي بعينها للفاعل. ولكنّهم متناقضون؛ فإنّهم يُثبتون له العلّة الغائيّة، ويُثبتون لفعله العلة الغائيّة، ويقولون مع هذا ليس له إرادة، بل هو موجب بالذات، لا فاعل بالاختيار. وقولهم باطل من وجوه

" مجموعة الرسائل والمسائل 4-5288.

ويذكر شيخ الإسلام رحمه الله تناقض الجهميّة والمتفلسفة في موضع آخر؛ فيقول: "لمتفلسفة متناقضون؛ فإنّهم يُثبتون غاية وحكمة غائيّة، ولا يُثبتون إرادة. والجهميّة تُثبت أنّه سبحانه مريد، ولا تُثبت له حكمة فعل لأجلها. وكلّ من القولين متناقض" شرح الأصفهانيّة 2378.

وانظر: الكلام عن الحكمة وأقوال الناس فيها في كتب شيخ الإسلام: شرح الأصفهانية 1150-155، 2353-378. ومنهاج السنة النبوية 1133-148، 454، 2612-615، 314، 32، 180-198، 207، 214-215. ودرء تعارض العقل والنقل 854، 9110-111. ومجموع الرسائل 4-5234-235، 240. وانظر: رسالة أقوم ما قيل في المشيئة والحكمة والقضاء والقدر والتعليل وبطلان الجبر - ضمن مجموع الرسائل والمسائل 4-5283-346 - وهي في مجموع الفتاوى 881-158. ومجموع الفتاوى 6128-130،، 835، 57، 377-378، 466-468، 16129-133، 296-298، 1795، 96، 99وبيان تلبيس الجهمية 1163-217. واقتضاء الصراط المستقيم 1409.

وانظر: الإرشاد للجويني ص 268 وما بعدها. ونهاية الإقدام للشهرستاني ص 297. ومحصل أفكار المتقدمين للرازي ص 205. والفصل لابن حزم 3174. والمغني في أبواب التوحيد والعدل لعبد الجبار الهمذاني 648، 1192-93.

ولعل القول الذي قصده شيخ الإسلام رحمه الله أنّه يُقال للفلاسفة نظير ما قيل لنفاة الصفات، هو ما صرّح به بقوله:"على هذا فكلّ ما فعله علمنا أنّ له فيه حكمة. وهذا يكفينا من حيث الجملة، وإن لم نعرف التفصيل. وعدم علمنا بتفصيل حكمته بمنزلة عدم علمنا بكيفيّة ذاته، وكما أنّ ثبوت صفات الكمال له معلوم لنا. وأما كنه ذاته فغير معلومة لنا، فلا نُكذّب بما علمناه ما لم نعلمه. وكذلك نحن نعلم أنّه حكيم فيما يفعله ويأمره، وعدم علمنا بالحكمة في بعض الجزئيّات لا يقدح فيما علمناه من أصل حكمته. فلا نُكذّب بما علمناه من حكمته ما لم نعلمه من تفصيلها" مجموعة الرسائل 4-5233.

ص: 428

ثمّ الفعل في الأفعال نظير ما قيل لأولئك1 في الصفات، ويجعل مبدأ الكلام من الإرادة في الموضعين2. فيُقال لمن أثبتها، ونفى الحكمة من المنتسبين إلى إثبات القدر3، والمنتسبين إلى أهل السنة والجماعة: لم نفيتم الحكمة؟ فإذا قالوا: لأنّا لا نعرف من يفعل [لحكمة] 4 إلا من يفعل

1 والمقصود بهم المعتزلة والجهميّة. وقد مرّ إلزامات المؤلف رحمه الله لهم قبل أسطر؛ وهو أن يُقال للجميع: يلزمكم التشبيه بالمقدار الذي تُثبتونه لخالقكم ومعبودكم، وإلا أثبتوا حكمته من غير تشبيه.

2 وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى أنّ نفي الحكمة هو أصل حجة الفلاسفة على نفي الصانع، فقال:"هذه الحجة لما كان أصلها هو البحث عن حكمة الإرادة، ولم فعل ما فعل؛ وهي مسألة القدر، ظهر بها ما كان السلف يقولونه: إن الكلام في القدر هو أبو جاد الزندقة. وعلم بذلك حكمة نهيه صلى الله عليه وسلم لما رآهم يتنازعون في القدر عن مثل ما هلك به الأمم، قال لهم: بهذا هلكت الأمم قبلكم أن تضربوا كتاب الله بعضه ببعض. وعن هذا نشأ مذهب المجوس القدرية، مجوس هذه الأمة، حيث خاضوا في التعديل والتجويز بما هو من فروع هذه الحجة، كما أن التجهم من فروع تلك الحجة" بيان تلبيس الجهمية 1163.

3 والمقصود بهم الأشاعرة؛ فهم قد أثبتوا الإرادة، ونفوا الحكمة. وانظر: كتاب الصفدية 1147-148،، 2331.

"قد ردّ ابن تيمية على نفاة الحكمة من الأشاعرة، وذلك لأنّ إثبات النبوة مبنيّ على إثبات صفة الحكمة لله تعالى، والمتكلمون ينفون أن تكون أفعال الربّ تعالى واقعة لسبب، أو لعلّة، أو لغرض، بمعنى آخر: ينفون أن يكون الله تعالى يفعل شيئاً لشيء آخر. ومثال ذلك:

أن تكون المعجزة مفعولة للربّ لغرض إثبات نبوّة الأنبياء؛ فهم ينفون ذلك الغرض، وهو في الحقيقة نفيٌ لحكمته سبحانه. ومن نفى صفة الحكمة عن الله تعالى فقد انسدّ عليه طريق إثبات النبوّة. لذا وجدناه يُقرّر أنّه قد أجمع المسلمون على أنّ الله تعالى موصوفٌ بالحكمة، ولكنّهم تنازعوا في تفسير ذلك.." النبوة عند ابن تيمية لسعيد خليفة ص 333-334. رسالة ماجستير مكتوبة على الآلة. وانظر: النبوات ص 821.

4 في ((ط)) : الحكمة. وما أثبت من ((خ)) ، و ((م)) .

ص: 430

لغرضٍ يعود إليه. وهذا لا يكون إلا فيمن يجوز عليه اللذّة، والألم، والانتفاع، والضرر، والله منزّهٌ عن ذلك1. فيُقال لهم ما قاله نفاة الإرادة2، وأنتم لا تعقلون إرادة إلا فيمن يجوز عليه اللذّة والألم والانتفاع والضرر، وقد قلتم أنّ الله تعالى مريدٌ؛ فإمّا أن تطردوا أصلكم النافي، فتنفوا الإرادة؛ أو المثبت، فتُثبتوا اللذّة، وإلا، فما المفرق3؟ فإذا قال نفاة الإرادة4: فلهذا نفينا الإرادة؛ كما رجّحه الرازي في المطالب العالية5، واحتجّ به الفلاسفة. قيل لهم: فانفوا أن يكون فاعلاً، فإنكم لا تعلمون فاعلاً غير مقهور إلا بإرادة، ولا يعقلون ما يفعل ابتداءً إلا بإرادة، أو فاعلاً حياءً إلا بإرادة، أو فاعلاً مطلقاً إلا بإرادة6.

1 انظر: التمهيد للباقلاني ص 50 - حيث ذكر هذا الكلام بنصّه. وكتاب الأربعين للرازي ص 250. والمواقف في علم الكلام للإيجي ص 331-332.

وقد ردّ شيخ الإسلام رحمه الله على هذه الحجة بأربعة وجوه. انظر: شرح الأصفهانيّة 2369-371.

2 من الجهميّة والمعتزلة.

3 معنى ذلك: "إذا أردتم به أنّ حكمة الله هي ما ذكرتم، فهي دعوى بلا برهان؛ لأنّ حكمة الربّ تعالى فوق تحصيل اللذّة ودفع الألم، بل هو يتعالى عن ذلك؛ لأنّ ما ذكر غرض المخلوق. أمّا الخالق سبحانه فهو غنيّ بذاته عن كلّ ما سواه، حكمته سبحانه لا تُشابه حكمة المخلوقين، كما أنّ إرادته وسائر صفاته لا تُشابه صفات المخلوقين. فحكمته سبحانه أجلّ وأعلى من أن يُقال إنّها تحصيل لذّة، أو دفع ألم وحزن". الحكمة والتعليل في أفعال الله تعالى ص 72. وانظر: التدمرية ص 34.

4 الجهميّة والمعتزلة.

5 انظر: المطالب العالية للرازي 3217.

6 المقصود أنّ المعتزلة القدرية يُثبتون أنّ الله فاعل. وشيخ الإسلام رحمه الله يلزمهم بإثبات الإرادة؛ لأنّه لا يعقل فاعل غير مقهور إلا بإرادة.

ص: 431

فإن قال أتباع أرسطو1:

1 أرسطو: هو أرسطو بن نيقوماخس (384 - 322 ق. م) . يُسمّونه المعلم الأول. ولد في مدينة أسطاغيرا اليونانيّة. وكان أفلاطون يُعلّم الفلسفة ماشياً، وتابعه على ذلك أرسطو فسمّي هو وأصحابه المشائين. انتهت إليه فلسفة اليونان، وكان هو خاتمتهم. وكان مُشركاً يعبد الأصنام. وقد عنى فلاسفة المسلمين بفلسفة أرسطو، وسمّوه معلّمهم الأول) .

انظر: الفهرست ص 307-312. وطبقات الأطباء والحكماء ص 25-27. والملل والنحل للشهرستاني 337-63. مجموع الفتاوى 11171-172. والرد على المنطقيّين ص 186، 283. والفرق بين الفرق ص 307-308.

وقد ذكر شيخ الإسلام عن أرسطو أنّه "أوّل من صرّح بقدم الأفلاك، وأنّ المتقدمين قبله من الأساطين كانوا يقولون إنّ هذا العالم محدَث

وأصحاب التعاليم كأرسطو وأتباعه كانوا مُشركين يعبدون المخلوقات، ولا يعرفون النبوات، ولا المعاد البدني، وإنّ اليهود والنصارى خيرٌ منهم في الإلهيّات، والنبوات، والمعاد". منهاج السنة النبوية 1360، 364. وانظر: درء تعارض العقل والنقل 2167. وشرح الأصفهانية 165. والجواب الصحيح 1345. والفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص 80-81.

أمّا عن مجمل اعتقاد أرسطو وأتباعه، فإنّهم يقولون: أنّ الله تعالى ليس هو خالق هذا العالم، بل لم يخلق شيئاً، وإنّما العالم قديم، وإنّما صدر عن الله العقل الأول لا على سبيل الخلق والإيجاد، وإنّما عن طريق ما يُسمّونه بالفيض والصدور، وأنّ الله هو علّة موجبة بذاته، وهو واحد لا يصدر عنه إلا واحد، ولذلك صدر عنه العقل الأوّل، وعن هذا العقل صدر عقل ثان، ونفس، وفلك. وعن العقل الثاني صدر عقل ثالث، ونفس، وفلك، وهكذا إلى أن أصبح هناك عشرة عقول، وتسعة نفوس وأفلاك. والعقل عند الفلاسفة بمنزلة الذكر، والنفس بمنزلة الأنثى. وأراد بعضهم التوفيق بين الفلسفة والشريعة، فقالوا: إنّ العرش هو الفلك التاسع. وربّما جعل بعضهم النفس هي اللوح المحفوظ، كما جعل العقل هو القلم. وتارة يجعلون اللوح هو العقل الفعّال العاشر، أو النفس المتعلقة به

وزعموا أنّ العقول والنفوس هي الملائكة، وأنّهم التسعة عشر الذين على سقر، وأنّ جبريل هو العقل الفعّال، وأنكروا وجود الملائكة.

ثمّ يزعمون أنّ هذه النفوس الفلكيّة هي المؤثرة الفعالة في القوى الأرضيّة المنفعلة، وأنّ القوى السماوية هي أسباب لحدوث الكائنات العنصرية؛ فهم يُثبتون بذلك صدوراً للمخلوقات بعضها عن بعض دون إرادة الله تعالى وعلمه ومشيئته، ويُثبتون كذلك التأثير في عالم الأرض، هو من عالم السموات والأفلاك. وأمّا تدبير الأمور اليوميّة؛ أي الحوادث الجزئيّة، وأنّه تعالى {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} فليس لله عندهم في ذلك تأثير، وأسقطوا عن الله تعالى رعايته لهذا الكون، وإمساكه عن الزوال والفناء.

وقد أوجبوا وجود نبيّ يستقيم به نظام الكون، وهو عندهم بمثابة الرئيس المدنيّ. والفيلسوف أفضل منه؛ لأنّ النبيّ يتلقى وحيه وعلمه عن طريق القوة المتخيلة، والفيلسوف يتلقى علمه عن طريق القوة الناطقة المفكرة. والقوة المفكرة عندهم هي الرئيسيّة المتحكمة في المتخيلة.

انظر: مقارنة بين الغزالي وابن تيمية ص 79. والنبوة عند ابن تيمية ص 370-371. ونقض المنطق ص 99-106. وتفسير سورة الإخلاص ص 49. وكتاب الصفدية 17-9، 280. والفارابي وآراء المدينة الفاضلة ص 55، 61، 89، 112. والنجاة لابن سينا ص 310-311.

ص: 432

فلهذا قلنا إنّه لا يفعل شيئاً1، وليس بموجب بذاته شيئاً، لكن قلنا:

1 وقال شيخ الإسلام رحمه الله موضّحاً هذا المعنى في كتابه الردّ على المنطقيّين: "فإنّ هؤلاء حقيقة قولهم أنّه لم يخلق شيئاً. ومتقدّموهم كأرسطو وأتباعه على أنّه يتحرّك الفلك للتشبّه بها. فليس هو عندهم لا موجباً بالذات، ولا فاعلاً بالمشيئة. وأما ابن سينا وأمثاله ممّن يقول إنّه موجب بذاته، فهم يقولون ما يعلم جماهير العقلاء أنّه مخالف لضرورة العقل؛ إذ يُثبتون مفعولاً ممكناً يمكن وجوده، ويمكن عدمه، وهو مع هذا قديمٌ أزليّ لم يزل ولا يزال، وهو مفعول معلول لعلّة فاعلة لم يزل مقارناً لها في الزمان. فكل من هذين القولين ممّا خالفوا فيه جماهير العقلاء من الأولين والآخرين

". الرد على المنطقيين ص 524-525.

وانظر: المصدر نفسه ص 220. ودرء تعارض العقل والنقل 1126، 127، 669-70، 8216-224، 290. ومنهاج السنة 1149-150، 402، 405، 3271-289. وشرح الأصفهانية 193. وكتاب الصفدية 2334-335.

ص: 433

إنّ الفلك يتشبّه به، أو قال من هو أعظم تعطيلاً منهم: فلهذا نفينا الأول بالكليّة، ولم [نُثبت] 1 علّة تفعل، ولا علّة يُتشبّه بها. قيل لهم2: فهذه الحوادث مشهودة، وحركة الكواكب، والشمس، والقمر مشهودة، فهذه الحركات الحادثة، وغيرها من الحوادث؛ مثل السحاب، والمطر، والنبات، والحيوان، والمعدن، وغير ذلك ممّا يُشهد حدوثه؛ أحدث بنفسه من غير أن يُحدثه محدِث قديم، أو لا بُدّ للحوادث من محدِث قديم؟

فإن قالوا: بل حَدَثَ كلّ حادث بنفسه، من غير أن يُحدثه أحد3: كان هذا ظاهر الفساد، يُعلم بضرورة العقل أنّه في غاية المكابرة، ونهاية السفسطة، مع لزوم ما فرّوا منه؛ فإنّهم فرّوا من أن يكون ثَمَّ فاعلٌ محدِث، وقد أثبتوا فاعلاً محدِثاً، لكن جعلوا كلّ حادِث هو يحدث بنفسه ويفعلها؛ فجعلوا ما ليس بشيء يجعل الشيء، وجعلوا المعدوم يُحدث الموجود؛ فلزمهم ما فرّوا منه من إثبات فاعل، مع ما لزمهم من الكفر العظيم، وغاية الجهل، وغاية فساد العقل.

1 في ((خ)) : يثبت. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

2 أي لهؤلاء الذين ينكرون وجود الله.

وقد ردّ عليهم شيخ الإسلام رحمه الله بهذا الطريق العقليّ المذكور في القرآن الكريم في كتابه شرح الأصفهانيّة 141، 2353. وكتاب الصفدية 19-10. وفي رسالة أقوم ما قيل في المشيئة والحكمة - ضمن جامع الرسائل والمسائل 4290.

3 انظر: شرح الأصفهانية 139.

وقد قال لهم شيخ الإسلام رحمه الله: "هذا السؤال ليس مختصاً بحدوث العالم، بل هو وارد في كلّ ما يحدث في الوجود من الحوادث. والحدوث مشهود، محسوس، متفق عليه بين العقلاء، فكلّ ما يُورده على حدوث خلق السموات والأرض يورد عليه نظيره في الحوادث المشهودة". مجموعة الرسائل والمسائل 4345.

ص: 434

وإن قالوا: بل كُلّ محدَثٍ يُحدِثه مُحدِث، وللمُحدِث مُحدِث1. قيل لهم: هذا أيضاً ممتنع في صريح العقل؛ فإنّ التسلسل في الفاعل ممتنع بصريح العقل واتفاق العقلاء2؛ فإنّه كلما كثر ما يُقدَّر أنّه حادث، كان

1 من نفى الحكمة عن الله من الفلاسفة والأشعريّة استدلّ على ذلك بلزوم التسلسل، وقال هو محال على الله. انظر: التمهيد للباقلاني ص 51-52. والأربعين في أصول الدين للرازي ص 250.

وقد ردّ شيخ الإسلام رحمه الله على شبهتهم هذه بأربعة وجوه في شرح الأصفهانية 2363-368. وانظر: كتاب الصفدية 227. ومنهاج السنة النبوية 1145-147.

وممّا قاله رحمه الله في ردّه على هذه الشبهة: (هذا التسلسل في الحوادث المستقبليّة، لا في الحوادث الماضية؛ فإنّه إذا فعل فعلاً لحكمة، كانت الحكمة حاصلة بعد الفعل. فإذا كانت تلك الحكمة يُطلب منها حكمة أخرى بعدها، كان تسلسلاً في المستقبل. وتلك الحكمة الحاصلة محبوبة له، وسبب لحكمة ثانية؛ فهو لا يزال سبحانه يُحدِث من الحكم ما يُحبّه ويجعله سبباً لما يُحبّه) . منهاج السنة النبوية 1149.

2 قال شيخ الإسلام رحمه الله في موضع آخر: "التسلسل الممتنع إنّما هو التسلسل في المؤثرات؛ وهو أن يكون للفاعل فاعل، وهلم جرا إلى غير نهاية؛ سواء عبّر عن ذلك بأنّ للعلّة علّة وللمؤثّر مؤثّر، أو عبّر عنه بأنّ للفاعل فاعلاً. فهذا هو التسلسل الممتنع في صريح العقل. ولهذا كان هذا ممتنعاً باتفاق العقلاء؛ كما أنّ الدور الممتنع هو الدور القبلي. فأما التسلسل في الآثار: وهو أن لا يكون الشيء حتى يكون قبله غيره، أو لا يكون إلاّ ويكون بعد غيره. فهذا للناس فيه ثلاثة أقوال: قيل: هو ممتنع في الماضي والمستقبل. وقيل: هو جائزٌ في الماضي والمستقبل. وقيل: ممتنع في الماضي، جائز في المستقبل. والقول بجوازه مطلقاً هو معنى قول السلف، وأئمة الحديث، وقول جماهير الفلاسفة القائلين بحدوث العالم والقائلين بقدمه". منهاج السنة النبوية 2393.

وقال رحمه الله: "لفظ التسلسل يُراد به التسلسل في المؤثرات؛ وهو أن يكون للحادث فاعل، وللفاعل فاعل. وهذا باطلٌ بصريح العقل واتفاق العقلاء. وهذا هو التسلسل الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يُستعاذ بالله منه، وأمر بالانتهاء عنه، وأن يقول القائل:((آمنت بالله ورسله)) ) . درء تعارض العقل والنقل 1363. وانظر: المصدر نفسه 3144، 161، 243، 4292-293، 9180-185، 238-241. ومنهاج السنة النبوية 1146، 176، 2128، 129، 392، 426. ومجموع الفتاوى 1245. وكتاب الصفدية 110-11، 23، 27، 30. وشرح الأصفهانيّة 146.

ص: 435

أحوج إلى القديم. فليس في تقدير حوادث لا [تتناهى] 1 ما يُوجب استغناءها عن القديم، بل إذا كان المحدَث الواحد لا بُدّ له [من] 2 محدِث غيره، فمجموع الحوادث أولى بالافتقار إلى محدِثٍ لها خارج عنها كلّها؛ فإنّ المحدِث لمجموعها يمتنع أن يكون واحداً منها؛ فإنّه يلزم أن يُحدِث نفسه، ويمتنع أن يكون المجموع أحدث المجموع؛ فإنّ الشيء لا يُحدِث نفسه.

والمجموع هي الآحاد الحادثة وهيئتها الاجتماعيّة، وتلك الهيئة محتاجة إلى [المجموع الذي] 3 هو كلّ واحد، واحد. والمجموع ليس إلا الآحاد واجتماعها، وكلّ ذلك مفتقر إلى محدِث مباين لها؛ فلا بُدّ للحوادث من قديم ليس بحادث4

ثمّ يُقال لهم: إذا قُدّر تسلسل الفاعلين، وأنّ ما كان محدِثاً له محدَث، وهلم جرا. فهذا فيه إثبات ما فررتم منه؛ وهو أنّ هذا المحدَث فعل هذا، وهذا فعل هذا. لكن أثبتم ما لا يتناهى من ذلك في آنٍ واحد، فركبتم ما فررتم منه، مع لزوم هذه الجهالات التي تقتضي غاية فساد العقل،

1 في ((خ)) : يتناهى. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

2 ما بين المعقوفتين ملحق في ((خ)) بين السطرين.

3 ما بين المعقوفتين ملحق في ((خ)) بين السطرين.

4 انظر: رد المؤلف رحمه الله على هذه الشبهة في مجموعة الرسائل والمسائل 4343.

ص: 436

والكفر [بالسمع]1. وإذا كان المحذور يلزمهم على تقدير أن يكون الحادث أحدث نفسه، أو أحدث كلُّ حادِثٍ [حادثاً] 2 آخر، مع فساد هذين، تبيّن أنّه لا ينفعه إنكار القديم. وإن قال3: بل أُقرّ بالمحدث القديم. قيل: فقد أقررت بفعل القديم للمحدَث، وإذا ثبت أنّ القديم فعل المحدَث، وأنت لا تعلم فاعلاً [إلا لجلب] 4 منفعة، أو دفع مضرّة5. قيل له:[فما] 6 كان جوابك عن هذا، كان جواباً عن كونه يفعل بإرادته7.

1 في ((ط)) : بالمسع.

2 في ((خ)) : حادث. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

3 أي الفيلسوف الذي يقول بقدم العالم. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "المشهور من مقالة أساطين الفلاسفة قبل أرسطو، هو القول بحدوث العالم. وإنّما اشتهر القول بقدمه عنه، وعن متبعيه؛ كالفارابي، وابن سينا، والحفيد، وأمثالهم". كتاب الصفدية 1130. وانظر: المصدر نفسه 1148-151. ومنهاج السنة النبوية 3386.

4 في ((ط)) : إل لجلب.

5 قال شيخ الإسلام: "

فإنّ الواحد منّا إنّما يُحسن إلى غيره لجلب منفعة، أو لدفع مضرّة. وإنّما يضرّ غيره لجلب منفعة أو دفع مضرة. فإذا كان الذي يُثبت صفة وينفي أخرى يلزمه فيما أثبته نظير ما يلزمه فيما نفاه، لم يكن إثبات إحداهما ونفي الأخرى أولى من العكس. ولو عكس عاكس فنفى ما أثبته من الإرادة، وأثبت ما نفاه من المحبة لما ذكره، لم يكن بينهما فرق. وحينئذ: فالواجب إمّا نفي الجميع، ولا سبيل إليه للعلم الضروريّ بوجود نفع الخلق والإحسان إليهم، وأنّ ذلك يستلزم الإرادة. وإمّا إثبات الجميع؛ كما جاءت به النصوص. وحينئذٍ فمن توهّم أنّه يلزم من ذلك محذور، فأحد الأمرين لازم؛ إمّا أنّ ذلك المحذور لا يلزم، أو أنه إن لزم فليس بمحذور". قاعدة في الكرامات والمعجزات ص 58.

6 في ((خ)) : فينما. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

7 يُوضّح شيخ الإسلام رحمه الله هذا الجواب الإلزاميّ في موضع آخر فقال: "إذا قال لهم الناس: إذا أثبتم حكمة حدثت بعد أن لم تكن، لزمكم التسلسل. قالوا: القول في حدوث الحكمة، كالقول في سائر ما أحدثه من المفعولات. ونحن نُخاطب من يُسلّم لنا أنّه إذا أحدث المحدثات بعد أن لم تكن؛ فإذا قلنا: إنّه أحدثها بحكمة حادثة، لم يكن له أن يقول: هذا يستلزم التسلسل. بل نقول له: القول في حدوث الحكمة، كالقول في حدوث المفعول الذي ترتّبت عليه الحكمة. فما كان جوابك عن هذا، كان جوابنا عن هذا". مجموعة الرسائل والمسائل 4341.

ص: 437

وقيل لمثبت الإرادة1: ما كان جوابك عن هذا، كان جواباً عن حكمته؛ فقد بيّن أنّ من نفى الحكمة، فلا بُدّ أن ينقض قوله، ويلزمه مع التناقض نفي الصانع، وهو مع نفي الصانع تناقضه أشدّ.

والمحذور الذي فرّ منه ألزم، فلم يُغن عنه فراره من إثبات الحكمة إلا زيادة الجهل والشرّ. وهكذا يُقال لمن نفى حبّه، ورضاه، وبغضه، وسخطه2.

وهذا مقامٌ شريفٌ من تدبّره وتصوّره تبيّن له أنّه لا بُدّ من الإقرار بما جاء به الرسول، وأنّه هو الذي يُوافق صريح المعقول، وأنّ من خالفه، فهو ممّن لا يسمع، ولا [يعقل، وهو] 3 أسوأ حالاً ممّن فرّ من الملك العادل الذي يلزمه [بطعام] 4 امرأته وأولاده، والزكاة الشرعيّة، إلى بلادٍ ملكها ظالم ألزمه بإخراج أضعاف ذلك لخنازيره وكلابه، مع قلّة الكسب في بلاده. و [بمنزلة] 5 من فرّ من معاشرة أقوام أهل صلاح وعدلٍ ألزموه ما يلزم

1 وهو الأشعري. وجوابه في إثبات الإرادة؛ فيُقال له: القول في الحكمة، كالقول في الإرادة التي تُثبتها.

2 وهم الأشاعرة الذين نفوا تلك الصفات مع الحكمة. انظر: التمهيد للباقلاني ص 47-48، 50-51.

3 في ((ط)) : يعق لو هو.

4 في ((خ)) : بالطعام. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

5 في ((ط)) : بمنزل.

ص: 438

واحداً منهم من الأمور المشتركة إذ كانوا مقيمين، أو مسافرين؛ ان يُخرج مثلما يُخرجه الواحد منهم. فكره هذا، وفرّ إلى بلدٍ، فألزمه أهلها بأن يُنفق عليهم ويخدمهم، وإلا قتلوه وما أمكنه الهرب منهم.

فمن فرّ من حكم الله ورسوله أمراً وخبراً، [أو] 1 ارتدّ عن الإسلام، أو بعض شرائعه خوفاً من محذور في عقله، أو عمله، أو دينه، أو دنياه، كان ما يُصيبه من الشرّ أضعاف ما ظنّه شرّاً في اتباع الرسول. قال تعالى:{أَلَمْ تَرَ إِلَىْ الَّذِيْنَ يَزْعُمُوْنَ أَنَّهُمْ آمَنُوْا بِمَاْ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَاْ اُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيْدُوْنَ أَنْ يَتَحَاْكَمُوْا إِلَىْ الطَّاْغُوْتِ وَقَدْ أُمِرُوْا أَنْ يَكْفُرُوْا بِهِ وَيُرِيْدُ الشَّيْطَاْنُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيْدَاً وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ المُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودَاً فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيْهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ باللهِ إِنْ أَرَدْنَا إلَاّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقَاً أُوْلَئِكَ الَّذِيْنَ يَعْلَمُ اللهُ مَا فِي قُلُوبِهِم فَأَعْرِض عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيْغَاً وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَاّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاْءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّابَاً رَحِيْمَاً فَلَا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيْمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجَاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيْمَاً} 2.

1 في ((خ)) : و. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

2 سورة النساء، الآيات 59-65.

ص: 439

فصل1 مناقشة من ينفي المحبة والحكمة والإرادة

ويقال لهم: لِمَ فررتم من إثبات المحبّة، والحكمة، والإرادة، والفعل؟ فإن قالوا: لأنّ ذلك لا يعقل إلا في حق من يلتذّ، ويتألم، وينتفع، ويتضرّر. والله منزّهٌ عن ذلك2. قيل للفلاسفة: فأنتم تُثبتون أنّه مستلذّ،

1 مسألة الحكمة وتعليل الأفعال وتداخلها بالقدر من أعظم المسائل التي اضطرب فيها المبتدعة.

وقد ألّف شيخ الإسلام رحمه الله في هذا الموضوع رسالة مستقلة، أسماها:"أقوم ما قيل في المشيئة والحكمة والقضاء والقدر والتعليل وبطلان الجبر والتعطيل". انظرها في جامع الرسائل والمسائل 4-5283-346.

وذلك على إثر سؤال ورد إليه وهو في الديار المصرية سنة أربع عشرة وسبعمائة في حسن إرادة الله تعالى لخلق الخلق، وإنشاء الأنام، وهل يخلق لعلة أم لغير علة؟ فأجاب رحمه الله بقوله: "هذه المسألة من أجل المسائل الكبار التي تكلّم فيها الناس، وأعظمها شعباً وفروعاً، وأكثرها شبهاً ومحارات؛ فإنّ لها تعلقاً بصفات الله تعالى، وبأسمائه، وأفعاله، وأحكامه؛ من الأمر، والنهي، والوعد، والوعيد. وهي داخلة في خلقه وأمره، فكلّ ما في الوجود متعلق بهذه المسألة؛ فإنّ المخلوقات جميعها متعلقة بها، وهي متعلقة بالخالق سبحانه. وكذلك الشرائع كلها؛ الأمر، والنهي، والوعد، والوعيد متعلقة بها، وهي متعلقة بمسائل القدر، والأمر، ومسائل الصفات والأفعال. وهذه جوامع علوم الناس

". جامع الرسائل والمسائل 4-5285.

2 هذه الشبه يحتجّ بها أكثر الفرق؛ كالجهميّة الذين ينفون بها المحبة، والإرادة، والحكمة، والفعل؛ والأشاعرة ينفون بها المحبة، والحكمة، والتحسين، والتقبيح "ذكر الرازي هذه الشبهة ضمن أدلّة الأشاعرة في نفي الحكمة انظر: الأربعين في أصول الدين للرازي ص 249-251. وانظر: نهاية الإقدام للشهرستاني ص 397. ولأبي الحسن الأشعريّ كلام في إنكار الحكمة، انظره في رسالة إلى أهل الثغر ص 240، 442"؛ والمعتزلة ينفون بها الصفات. وانظر: ص 7، 9، 27.

وشيخ الإسلام رحمه الله أورد هذه الشبهة ضمن أدلة الأشاعرة، وردّ عليها من وجهين بكلام طويل، انظره في قاعدة في المعجزات والكرامات ص 57-60. وأوردها في موضع آخر من قول الرازي في الأربعين ص 250 يحتجّ بها على نفي الحكمة، وردّ عليها بخمسة أوجه في شرح الأصفهانية 2369-371.

وقد يتمسّك الفلاسفة بهذه الشبهة في نفي المحبّة، والحكمة، والإرادة، والفعل. ولكنّ واقع الحال لا يُساعدهم على الأخذ بها، إذ عمدتهم في نفي الصفات هو دليل التركيب، وليس دليل الأعراض. وهذه الشبهة متفرعة عن دليل الأعراض كما سيأتي.

ص: 440

مبتهج، فهذا غير محذور عندكم1. وإن قلتم: لأنّ ذلك2 يستلزم لذّةَ

1 وهذا من الأجوبة الملزمة؛ لأنّ الفلاسفة كما قال شيخ الإسلام: "يُعبّرون بلفظ البهجة، واللذة، والعشق، ونحو ذلك عن الفرح، والمحبّة، وما يتبع ذلك". منهاج السنّة النبويّة 3183. وانظر: من كتب الفلاسفة النجاة لابن سينا ص 227-251.

فشيخ الإسلام رحمه الله يقول لهم: لِمَ لَمْ تُثبتوا المحبة، والحكمة،

إلخ، وأثبتم البهجة، واللذة، والعشق، مع أنّكم تُعبّرون بها عن المحبة، والفرح

إلخ.

وانظر: ردود شيخ الإسلام رحمه الله على الفلاسفة في هذه الجُزئيّة في: منهاج السنة النبوية 5388-400. والعقيدة التدمرية ص 40-41. ودرء تعارض العقل والنقل 1100،، 8216-224، 290 والرد على المنطقيين ص 214. وشرح الأصفهانية ص 236. وكتاب الصفدية 2263-264، 268-269.

وقد عاب شيخ الإسلام رحمه الله على الفلاسفة إثباتهم اللذة، والبهجة، ونحو ذلك ممّا أثبتوه ويقتضي نقصاً، وتركهم صفات الكمال التي أتى بها النصّ، فقال:"ويقولون أيضاً إنه يلتذّ ويبتهج. ولفظ اللذة فيها من التشبيه واحتمال النقص ما لا يخفى على عاقل. ويقولون إنّه مدرك، وأنّ اللذّة أفضل إدراك لأفضل مدرَك؛ فيُسمّونه مدرِكاً، ومدرَكاً". درء تعارض العقل والنقل 582.

2 أي إثبات المحبة، والحكمة، والإرادة.

ص: 441

حادثة. قيل لكم: في حلول الحوادث قولان، وليس معكم في النفي إلا ما يدلّ على نفي الصفات مطلقاً؛ كدليل التركيب1. وقد عُرف فساده من وجوه2.

وقيل للجهميّة3 والمعتزلة: إن أردتم أنّ ذلك يقتضي حاجته إلى

1 فهؤلاء الفلاسفة كما قال شيخ الإسلام يأخذون بدليل التركيب في نفي الصفات عموماً، ولا يأخذون بدليل الأعراض في نفي حلول الحوادث. بل هم يقولون:"الجسم مركّب إما من المادة والصورة، أو من الجواهر المنفردة. وكلّ مركب ممكن. فبهذه الحجة نفوا الصفات، وكانوا من أشدّ الناس تجهماً؛ لأنّهم زعموا أنّ إثبات الصفات يُنافي هذا التوحيد..". شرح الأصفهانية 151. وانظر: العقيدة التدمرية ص 40-41.

وانظر: كلام شيخ الإسلام رحمه الله عن مراد المتكلمين والفلاسفة ب (المركب) في درء تعارض العقل والنقل 3403-404.

2 فدليل التركيب من الأدلة الفاسدة الباطلة.

يقول شيخ الإسلام رحمه الله في بطلانه: "قالوا: والعالم حامل الصفات مركّب، فلا يكون واجباً. وإذا كان إثباتهم لصانع العالم على طريقتهم لا تتمّ إلا بنفي الصفات، ونفي الصفات باطل، كان طريقهم في إثبات الصانع باطلاً. ولهذا كان الصانع الذي يُثبتونه لا حقيقة له إلا في الأذهان، لا في الأعيان. فقولهم يستلزم التعطيل". كتاب الصفدية 1244.

وانظر: نقد شيخ الإسلام رحمه الله لدليل التركيب، وبيانه لفساده من أوجه عديدة في: شرح الأصفهانية ص 50-89. ودرء تعارض العقل والنقل 5246-247. وكتاب الصفدية 187، 104-106. وشرح حديث النزول ص 83-88.

3 وانظر: قول الجهمية، وشبهتهم في نفي الحكمة، وردّ شيخ الإسلام رحمه الله عليهم في جامع الرسائل والمسائل 4286-287.

وقال شيخ الإسلام أيضاً: "ونفوا الحكمة لظنهم أنها تستلزم الحاجة. وهذا قول الأشعري، وأصحابه، ومن وافقهم....... وهذا القول في الأصل قول جهم بن صفوان، ومن اتبعه من الجهمية". مجموع الفتاوى 837-38.

ص: 442

العباد، وأنّهم يضرّونه أو ينفعونه1، فهذا ليس بلازم. ولهذا كان الله منزّهاً عن ذلك، كما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الإلهيّ:"يا عبادي! إنّكم لن تبلغوا ضرّي فتضرّوني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني"2.

فالله أجلّ من أن يحتاج إلى عباده لينفعوه، أو يخاف منهم أن يضرّوه. وإذا كان المخلوق العزيز لا يتمكّن غيره من قهره، فمن له العزّة جميعاً، وكلّ عزة فمن عزّته أبعد عن ذلك. وكذلك الحكيم المخلوق إذا كان

1 ذكر هذه الحجة في نفي الحكمة عن الله: الشهرستاني في نهاية الإقدام ص 397-398. والرازي في الأربعين ص 249-250. والإيجي في المواقف في علم الكلام ص 331-332.

وقد ردّ على هذه الشبهة شيخ الإسلام رحمه الله بعشرة أوجه في شرح الأصفهانية 2358-363.

وقال رحمه الله في معرض ردّه على المعتزلة في قولهم في الحكمة: "أنتم متناقضون في هذا القول؛ لأنّ الإحسان إلى الغير محمود لكونه يعود منه على فاعله حكم يُحمد لأجله؛ إما لتكميل نفسه بذلك؛ وإما لقصده الحمد والثواب بذلك؛ وإما لرقة وألم يجده في نفسه، يدفع بذلك الإحسان لألم؛ وإما لالتذاذه، وسروره، وفرحه بالإحسان؛ فإنّ النفس الكريمة تفرح، وتسرّ، وتلتذ بالخير الذي يحصل منها إلى غيرها؛ فالإحسان إلى الغير محمود لكون المحسن يعود إليه من فعله هذه الأمور حكم يحمد لأجله. أما إذا قُدِّر أنّ وجود الإحسان وعدمه بالنسبة إلى الفاعل سواء، لم يعلم أنّ مثل هذا الفعل يحسن منه، بل مثل هذا يُعدّ عبثاً في عقول العقلاء، وكل من فعل فعلاً ليس فيه لنفسه لذة، ولا مصلحة، ولا منفعة بوجه من الوجوه لا عاجلة، ولا آجلة، كان عبثاً، ولم يكن محموداً على هذا. وأنتم عللتم أفعاله فراراً من العبث، فوقعتم في العبث؛ فإنّ العبث هو الفعل الذي ليس فيه مصلحة، ولا منفعة، ولا فائدة تعود على الفاعل". جامع الرسائل والمسائل 4291.

2 جزء من حديث قدسيّ طويل، أخرجه الإمام مسلم في صحيحه 41994-1995، كتاب البر والصلة، باب تحريم الظلم.

ص: 443

لا يفعل بنفسه ما يضرّها، فالخالق جل جلاله أولى أن لا يفعل ذلك لو كان ممكناً. فكيف إذا كان ممتنعاً.

قال تعالى: {وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِيْنَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئَاً [يُرِيْدُ اللهُ أَنْ لا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظَّاً فِي الآخِرَةِ] 1 وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} 2. وقال تعالى: {وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَىْ كُلُوا مِنْ طَيِّبَاْتِ مَا رَزَقْنَاْكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ [كَانُوا] 3 أَنْفُسَهُم يَظْلِمُون} 4.

فقد بيَّن أنّ العصاة لا يضرّونه، ولا يظلمونه، كعصاة المخلوقين؛ فإنّ مماليك السيّد، وجند الملك، وأعوان الرجل، وشركاءه إذا عصوه فيما يأمرهم ويطلبه منهم، فقد يحصل له بذلك ضرر في نفسه، أو ماله، أو عرضه، أو غير ذلك. وقد يكون ذلك ظلماً له.

والله تعالى لا يقدر أحدٌ على أن يضرّه ولا يظلمه. وإن كان الكافر على ربه ظهيراً، فمظاهرته على ربه، ومعاداته له، ومشاقّته، ومحاربته، عادت عليه بضرره، وظلمه لنفسه، وعقوبته في الدنيا والآخرة.

وأما النفع فهو سبحانه غنيٌ عن الخلق، لا يستطيعون نفعه [فينفعوه] 5؛ فما أمرهم به إذا لم يفعلوه، لم يضرّوه6 بذلك؛ كما قال تعالى: {وَللهِ عَلَى

1 ما بين المعقوفتين ساقطٌ من ((خ)) .

2 سورة آل عمران، الآية 176.

3 ما بين المعقوفتين ساقطٌ من ((خ)) .

4 سورة الأعراف، الآية رقم 60.

5 في ((خ)) : فيتفعونه. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

6 يقول شيخ الإسلام رحمه الله في معرض ردّه على منكري الحكمة، مبيِّناً أنّ قيام الصفات بالله لا يلزم منه افتقاره جلّ وعلا إليها، بل هو الغني عن العالمين:"فإنّ الله غني واجب بنفسه. وقد عُرف أن قيام الصفات به لا يلزم حدوثه، ولا إمكانه، ولا حاجته، وأنّ قول القائل بلزوم افتقاره إلى صفاته اللازمة بمنزلة قوله: مفتقر إلى ذاته. ومعلومٌ أنّه غنيّ بنفسه، وأنه واجب الوجود بنفسه، وأنه موجود بنفسه. فتوهّم حاجة نفسه إلى نفسه؛ إن عنى به أنّ ذاته لا تقوم إلا بذاته. فهذا حقّ؛ فإنّ الله غني عن العالمين، وعن خلقه، وهو غني بنفسه. وأما إطلاق القول بأنّه غني عن نفسه، فهو باطل؛ فإنّه محتاج إلى نفسه. وفي إطلاق كل منهما إيهام معنى فاسد. ولا خالق إلا الله تعالى". قاعدة في المعجزات والكرامات ص 58.

ص: 444

النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سبِيلاً وَمَنْ كفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌ عَنِ الْعَالَمِينَ} 1، وقال:{وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّيْ غَنِيٌ كَرِيْمٌ} 2، وقال:{إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُم وَلا تَزِرُ وَاْزِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} 3.

وإن أردتم أنّه [هو] 4 سبحانه لا يُريد، و [لا] 5 يفعل ما يفرح به، ويُسَرُّ به، ويجعل عباده المؤمنين يفعلون ما يفرح به، فمن أين لكم هذا6؟

1 سورة آل عمران، الآية 97.

2 سورة النمل، الآية 40.

3 سورة الزمر، الآية 7.

4 ما بين المعقوفتين ليس في ((م)) ، و ((ط)) .

5 ما بين المعقوفتين ليس في ((خ)) .

6 قال شيخ الإسلام رحمه الله: "ولهذا لم يأمر الله تعالى، ولا رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا أحد من العقلاء أحداً بالإحسان إلى غيره ونفعه ونحو ذلك، إلا لما له في ذلك من المنفعة والمصلحة. وإلا فأمر الفاعل بفعل لا يعود إليه منه لذة، ولا سرور، ولا منفعة، ولا فرح بوجه من الوجوه؛ لا في العاجل، ولا في الآجل، لا يُستحسن من الآمر". جامع الرسائل والمسائل 4291.

وانظر: النصوص الكثيرة التي ساقها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لإثبات محبة الله، وفرحه، وأفعاله جل وعلا في منهاج السنة النبوية 3160-162. وقاعدة في الكرامات والمعجزات ص 58-59.

ص: 445

وإن سمى هذا لذة، فالألفاظ المجملة التي قد يُفهم منها معنى فاسد إذا لم ترد في كلام الشارع لم [نكن] 1 محتاجين إلى إطلاقها؛ كلفظ (العشق) . وإن أُريد به المحبة التامّة، وقد أطلق بعضهم2 على الله أنّه يعشق، ويُعشق، وأراد به أنه يُحِبّ، ويُحَبّ محبة تامة، فالمعنى صحيح، واللفظ فيه نزاع. واللذة يُفهم منها لذة الأكل، والشرب، والجماع؛ كما يُفهم من العشق المحبة الفاسدة، والتصور الفاسد، ونحو ذلك ممّا يجب تنزيه الله عنه؛ فإنّ الذين قالوا لا يجوز وصفه بأنّه يعشق؛ منهم من قال: لأنّ العشق هو الإفراط في المحبة، والله تعالى لا إفراط في حبّه. ومنهم من قال: لأنّ العشق لا يكون إلا مع فساد التصوّر للمعشوق، وإلا فمع صحة التصور لا يحصل إفراط في الحبّ. وهذا المعنى لا يُمدح فاعله؛ فإنّ من تصوّر في الله ما هو منزّه عنه، فهو مذموم على تصوّره، ولوازم تصوّره. ومنهم من قال: لأنّ الشرع لم يرد بهذا اللفظ، وفيه إبهام، وإيهام، فلا يُطلق. وهذا أقرب. وآخرون يُنكرون محبة الله، وأن يُحِب ويُحَب؛ كالمعتزلة، والجهميّة، ومن وافقهم من الأشعرية3، وغيرهم، فهؤلاء يكون الكلام

1 في ((خ)) : يكن. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

2 قال شيخ الإسلام رحمه الله عن الفلاسفة: "ويقولون إنه عاشق، ومعشوق، وعشق. مع أنّ لفظ العشق فيه من التشبيه واحتمال النقص ما لا يخفى على عاقل. وليس في الكتب الإلهية تسميته بعقل، ولا عاشق، ولا معقول، ولا معشوق". درء تعارض العقل والنقل 582. وانظر: المصدر نفسه 5247،، 9304-310، 10224 والصفدية 136. ومنهاج السنة النبوية 3183.

3 قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن إنكار هؤلاء لمحبة الله تعالى: "وكان الجعد

أول من ظهر عنه التعطيل بإنكار صفات الله تعالى، وبإنكار محبته، وتكليمه؛ كما يقول هؤلاء المتفلسفة، والجهمية، والباطنية، ونحوهم من المعطلة، والجهمية، والمعتزلة، ومن اتبعهم؛ فيُنكرون أن يكون الله يُحِب، أو يُحَب حقيقةً، ويُنكرون التمتع برؤيته، ويُنكرون أن يكون هو سبحانه موصوفاً بالفرح، ونحوه؛ لزعمهم أنّ هذا من نوع اللذة، والبهجة. والله لا يُوصف بذلك عندهم

". كتاب الصفدية 2263.

ص: 446

معهم في كونه يُحِبّ، ويُحَبّ؛ كما نطق به الكتاب والسنّة في مثل [قوله] 1:{فَسَوْفَ يَأْتِيْ اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّوْنَهُ} 2، لا في لفظ العشق.

لفظ اللذة فيه إبهام وإيهام

كذلك لفظ اللذة فيه إبهام، وإيهام، والشرع لم يرد بإطلاقه، ولكن استفاض عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنّ الله يفرح بتوبة التائب أعظم من فرح من وجد راحلته بعد أن فقدها، وأيس منها في مفازةٍ مهلكة، [يائس] 3 من الحياة والنجاة من تلك الأرض، ومن وجود مركبه، ومطعمه، ومشربه، ثمّ وجد ذلك بعد اليأس؛ قال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"فكيف تجدون فرحه بدابّته"؟ . قالوا: عظيماً يا رسول الله. قال: " [لله] 4 أشدّ فرحاً بتوبة عبده من هذا براحلته"5.

وقد نطق الكتاب والسنّة بأنّه يُحِبّ المتقين6، والمحسنين7، والصابرين8، والتوابين والمتطهرين9، والذين يُقاتلون في سبيله صفّاً

1 في ((خ)) : قولهم.

2 سورة المائدة، الآية 54.

3 في ((م)) ، و ((ط)) : ويئس من.

4 في ((ط)) : الله.

5 أخرجه الإمام البخاري في صحيحه 52324-2325، كتاب الدعوات، باب التوبة. والإمام مسلم في صحيحه 42102-2104، كتاب التوبة، باب في الحض على التوبة، والفرح بها.

6 قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} . سورة التوبة، الآية 4.

7 قال تعالى: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} . سورة البقرة، الآية 195.

8 قال تعالى: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} .سورة آل عمران، الآية 146.

9 قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} . سورة البقرة، الآية 222.

ص: 447

كأنّهم بنيانٌ مرصوصٌ1، وأنّه يرضى عن المؤمنين2. فإذا كنتم نفيتم حقيقة الحب والرضى لأنّ ذلك يستلزم اللذة بحصول المحبوب. قيل لكم3: إن كان هذا لازماً، فلازم الحق حقّ. وإن لم يكن لازماً بطل نفيكم4. والفرح في الإنسان هو لذّة تحصل في قلبه بحصول محبوبه.

وقد جاء أيضاً وصفه تعالى بأنّه يُسَرّ في الأثر، والكتب المتقدّمة5؛ وهو مثل لفظ الفرح6.

1 قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} .سورة الصف، الآية 4.

2 قال تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} سورة الفتح، الآية 18.

3 المقصود بهم الفلاسفة، وغيرهم من الجهمية، والمعتزلة، والأشعريّة ممّن ينفي صفة المحبّة والرضى.

وانظر: جواب شيخ الإسلام رحمه الله المطوّل على هذه الشبهة في قاعدة في المعجزات والكرامات ص 58؛ فقد أجابهم بجوابين؛ أحدهما بالإلزام. وانظر: كتاب الصفدية 2260-264.

4 انظر: لشيخ الإسلام كلاماً مماثلاً لهذا في منهاج السنة النبوية 3182-183. وقاعدة في المعجزات والكرامات ص 55-56، 58-59.

5 قال ابن القيم رحمه الله: "وفي صفة النبيّ صلى الله عليه وسلم في بعض الكتب المتقدمة: "عبدي الذي سُرّت به نفسي"، وهذا من كمال محبته له؛ جعله مما تُسرّ به نفسه سبحانه". مدارج السالكين 1216. وانظر: كلامه رحمه الله في السرور، وهل يوصف الله تعالى به، أم لا؟ في مدارج السالكين 3161.

وسيأتي نقل ذلك مفصّلاً مما يُسمّى بالعهد القديم، في آخر هذا الكتاب، عند ذكر صفته صلى الله عليه وسلم في الكتب السابقة. انظر: ص 1284 من هذا الكتاب؛ حيث يرد في النصّ ما يُثبت سرور الربّ تبارك وتعالى بنبيّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم. وقد نقل الشيخ رحمه الله هذا النص في الجواب الصحيح 5175 في نبوة أشعيا: "عبدي الذي سُرّت به نفسي، أنزل عليه وحيي، فيظهر في الأمم عدلي، ويوصيهم بالوصايا".

6 الفرح في اللغة: السرور. انظر: مشكل الحديث لابن فورك ص 67. والأسماء والصفات للبيهقي 2421. وفتح الباري لابن حجر 1118.

ص: 448

صفة الضحك والبشبشة

وأمّا الضحك: فكثيرٌ في الأحاديث1. ولفظ البشبشة جاء أيضاً أنّه يتبشبش للداخل إلى المسجد؛ كما يتبشبش أهل الغائب بغائبهم إذا قدم2.

1 مثل قوله صلى الله عليه وسلم: "يضحك الله إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر، كلاهما يدخل الجنّة". الحديث رواه البخاري في صحيحه 31040، كتاب الجهاد والسير، باب الكافر يقتل المسلم، ثمّ يُسلم. ومسلم في صحيحه 31504، كتاب الإمارة، باب بيان الرجلين يقتل أحدهما الآخر، يدخلان الجنة.

2 الحديث رواه أبو هريرة رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال: "ما توطن رجل مسلم المساجد للصلاة والذكر إلا تبشبش الله له كما يتبشبش أهل الغائب بغائبهم إذا قدم عليهم". الحديث أخرجه ابن ماجه واللفظ له (صحيح سنن ابن ماجه، حديث رقم 652) . وأحمد في المسند 2307، 328، 340، 453. وابن خزيمة في صحيحه 2379، وصحح إسناده أحمد شاكر 8501. ورواه الدارمي في رده على بشر المريسي ص 203. وصححه الألباني انظر: صحيح ابن ماجه 652. وصحيح الترغيب والترهيب325.

والحديث فيه إثبات البشبشة، وهي بمعنى الفرح.

قال ابن الأثير: "البش: فرح الصديق بالصديق، واللطف في المسألة، والإقبال عليه. وقد بششت به أبش". فمعنى البشّ: الفرح. ويُضرب إذا تلقّى الصديق صديقه بالبرّ، وقرّبه، وأكرمه. انظر: النهاية في غريب الحديث 1130.

وقال أبو يعلى الفراء بعد الكلام على صفة الفرح لله تعالى: ".... وكذلك القول في البشبشة؛ لأنّ معناه يُقارب معنى الفرح. والعرب تقول: رأيتُ لفلان بشاشة، وهشاشة، وفرحاً. ويقولون: فلانٌ هشٌ بشٌ فرحٌ؛ إذا كان منطلقاً؛ فيجوز إطلاق ذلك كما جاز إطلاق الفرح.

وقد ذكر ابن قتيبة هذا الحديث في كتاب الغريب، وقال قوله:(يُبشبش) من البشاشة، وهو يتفعَّل؛ فحمل الخبر على ظاهره، ولم يتأوّله". انتهى كلام أبي يعلى في إبطال التأويلات لأخبار الصفات 1243. وانظر: غريب الحديث لابن قتيبة 1160. ومشكل الحديث وبيانه لابن فورك ص 68، 256. والأسماء والصفات للبيهقي 2421-422.

ص: 449

وجاء في الكتاب والسنة ما يُلائم ذلك ويُناسبه شيءٌ كثير1.

فيُقال لمن نفى ذلك: لم نفيتَه؟ ولم نفيتَ هذا المعنى؛ وهو وصف كمال لا نقص فيه؟ ومن يتصف به أكمل ممّن لا يتصف به؟ وإنّما النقص فيه أن يحتاج فيه إلى غيره، والله تعالى لا يحتاج إلى أحد في شيء، بل هو فعّال لما يُريد. لكن القدرية قد يُشكل هذا على قولهم؛ فإنّ العباد عندهم مستقلّون بإحداث فعلهم، ولكن هذا مثل إجابة دعائهم، وإثابتهم على أفعالهم، ونحو ذلك ممّا فيه أنّ أفعالهم تقتضي أموراً يفعلها هو. وهم لا [يفرّون] 2 من كونه [يجب] 3 عليه أشياء، وأنّه يفعل ما يجب عليه؛ فيكون العبد قد جعله مريداً لما لم يكن مريداً له. وحينئذٍ فإذا كان العباد يجعلونه مريداً عندهم، فالقول في لوازم الإرادة، كالقول فيها. وهذا إمّا أن يدلّ على [فساد] 4 قولهم في القدر، وهو الصواب. وإمّا أن يقولوا: إنّ مثل ذلك جائزٌ على الله، وجائزٌ أن يجعله العبد مريداً بدون مشيئته لذلك، وبدون أن يكون هو الذي شاء ذلك من العبد، فيلزمهم في لوازمها ما يلزمهم فيها.

وأمّا على قول المثبتة5: فكلّ ما يحدث، فهو بمشيئته، وقدرته، فما

1 يُريد رحمه الله الأدلة السمعية التي دلّت على إثبات صفات الله الفعليّة.

وقد جمع رحمه الله أدلة كثيرة من الكتاب والسنة على مسألة أفعال الله تعالى في درء تعارض العقل والنقل 3115-146.

2 في ((خ)) : يقرون. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

3 في ((ط)) : يحب.

4 ما بين المعقوفتين ملحق في ((خ)) بين السطرين.

5 المثبتة للقدر.

ص: 450

جعله أحدٌ مريداً فاعلاً، بل هو الذي يُحدِث كلَّ شيء، ويجعل بعضَ الأشياء سبباً لبعض.

فإن قال نافي المحبة، والفرح، والحكمة، ونحو ذلك1: هذا يستلزم حاجته إلى المخلوق. ظهر فساد قوله.

وإن قيل: إنّ ذلك إن كان وصف كمال، فقد كان فاقداً له، وإن كان نقصاً، فهو منزّه عن النقص. قيل له: هو كمال حين اقتضت الحكمة حدوثه، وحدوثه [قبل] 2 ذلك قد يكون نقصاً في الحكمة، أو يكون ممتنعاً غير ممكن؛ كما يُقال في نظائر ذلك3.

1 أي الجهمية، والمعتزلة، والفلاسفة، والأشعرية، وغيرهم من نفاة هذه الصفات.

2 في ((خ)) : قبل.

3 وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله هذه الحجّة، وأنّها قول من يقول:"خلق المخلوقات، وأمر بالمأمورات، لا لعلّة، ولا لداع، ولا باعث. وهو قول الأشعرية، والظاهرية". وقد ردّ عليها رحمه الله. انظر: مجموعة الرسائل والمسائل 4286.

وقال رحمه الله أيضاً في حصر الأقوال في التعليل وعدمه فذكر قول أهل السنة والجماعة: "والخامس قول من يُعلّل ذلك بأمور متعلقة بمشيئته وقدرته. فإن كان الفعل المفضي للحكمة حادث النوع، كانت الحكمة كذلك، وإن قُدّر أنّه قام به كلام أو فعل متعلّق بمشيئته وأنّه لم يزل كذلك، كانت الحكمة كذلك؛ فيكون النوع قديماً، وإن كانت آحاده حادثة". مجموعة الرسائل والمسائل 4342. وانظر: قاعدة في المعجزات والكرامات ص 57-58.

وقد ذكر هذه الحجة الرازي في الأربعين ص 249-250. وردّ عليها شيخ الإسلام رحمه الله من عشرة أوجه. انظر: شرح الأصفهانية 2357-363.

وذكر شيخ الإسلام رحمه الله هذه الحجة أيضاً عن الفلاسفة، وغيرهم من نفاة الأفعال الاختيارية وردّ عليهم رحمه الله من خمسة أوجه. انظر: مجموعة الرسائل والمسائل 4219-220.

وكذلك هذه الحجة هي شبهة لمنكري تعليل أفعال الله تعالى. وقد ردّ عليهم شيخ الإسلام رحمه الله من خمسة أوجه. انظر: مجموعة الرسائل والمسائل 4337-339 ومنهاج السنة النبوية 1145) .

وانظر: هذه الشبهة في: المواقف في علم الكلام للإيجي ص 331-332. وشرح المقاصد للتفتازاني 4301.

ص: 451

وتمام البسط في هذا الأصل مذكور في غير هذا الموضع1.

والمقصود هنا التنبيه على لوازم ذلك؛ فإنّ نفاة ذلك2 نفوا أن يكون في الممكن فعل ينزّه عنه، فليس عندهم فعل يحسن منه، وفعل يُنزّه عنه.

الحسن والقبح عند الأشاعرة

بل [عندهم] 3 تقسيم الأفعال؛ أفعال الربّ والعبد إلى حسن وقبيح، لا يكون عندهم إلا بالشرع. وذلك لا يرجع إلى صفة في الفعل، بل الشارع عندهم يُرجّح مثلاً على مثل4. والحسن والقبيح إنّما يعقل إذا كان الحسن ملائماً

1 انظر: مجموعة الرسائل والمسائل 4283-346 رسالة أقوم ما قيل في المشيئة والحكمة..؛ فإنّها في صميم الموضوع، وهي عبارة عن سؤال ورد للمؤلف رحمه الله من الديار المصرية، مضمونه: هل يفعل الله تعالى لحكمة أم لا؟ وهل هذه الحكمة لم تزل، أو محدثة؟ ثمّ أورد السائل على تفرعات السؤال إشكالات. فأجاب عنها شيخ الإسلام رحمه الله بهذه الرسالة القيمة. وانظر: أيضاً منهاج السنة النبوية 1133-147.

2 المقصود بهم الأشاعرة الذين ينفون التحسين والتقبيح العقليّين.

3 في ((م)) ، و ((ط)) : عنده.

4 يقول الجرجاني في شرح المواقف: "فلا حسن ولا قبح للأفعال قبل ورود الشرع. ولو عكس الشارع القضيّةَ فحسّن ما قبّحه، وقبّح ما حسّنه، لم يكن ممتنعاً، وانقلب الأمر، فصار القبيح حسناً، والحسن قبيحاً". شرح المواقف للجرجاني 8181-182. وانظر: رسالة إلى أهل الثغر للأشعري ص 243. واللمع له ص71. والإنصاف للباقلاني ص 48، 74-77. والإرشاد للجويني ص 258. والاقتصاد في الاعتقاد للغزالي ص 157. والمحصل للرازي ص 202. والمواقف في علم الكلام للإيجي ص 323-330. وشرح المقاصد للتفتازاني 4282-289.

ص: 452

للفاعل؛ وهو الذي يلتذ به، والقبيح يُنافيه؛ وهو الذي يُتألّم به. والحسن، والقبح في أفعال العباد بهذا الاعتبار متفق على جوازه. وإنّما النزاع في كونه يتعلّق به المدح والثواب. وهذا في الحقيقة يرجع إلى الألم واللذة.

فلهذا سلّم الرازي في آخر عمره ما ذكره في كتاب1 [أقسام اللذّات] 2 إنّ الحسن والقبح العقليّين [ثابتان] 3 في أفعال العباد دون الرب4،

1 كتاب أقسام اللذات؛ كما صرّح به شيخ الإسلام رحمه الله في بعض كتبه. انظر على سبيل المثال: جامع الرسائل 2250-251. وبيان تلبيس الجهمية 1127، وكذلك هذا الكتاب النبوات، كما سبق ص 478؛ حيث صرح بذكر هذا الاسم.

وانظر: اجتماع الجيوش الإسلامية لابن القيم رحمه الله ص 304-305؛ إذ أورد نماذج من هذا الكتاب، تبيَّن من خلالها تسليم الرازي، وحيرته في آخر عمره.

وشيخ الإسلام نقل هذا أيضاً. يقول رحمه الله: "ومن الناس من أثبت قسماً ثالثاً للحسن والقبح، وادّعى الاتفاق عليه، وهو كون الفعل صفة كمال، أو صفة نقص. وهذا القسم لم يذكره عامّة المتقدمين المتكلمين في هذه المسألة، ولكن ذكره بعض المتأخرين؛ كالرازي، وأخذه عن الفلاسفة. والتحقيق: أنّ هذا القسم لا يُخالف الأول؛ فإنّ الكمال الذي يحصل للإنسان ببعض الأفعال، هو يعود إلى الموافقة والمخالفة؛ فالنفس تلتذ بما هو كمال لها، وتتألّم بالنقص، فيعود الكمال والنقص إلى الملائم والمنافي". مجموعة الرسائل الكبرى 2104.

2 بياض بمقدار ثلاث كلمات في جميع النسخ. ولعلّ ما أثبتّ هو المقصود؛ لأنّه ألّفه في آخر حياته.

3 في ((خ)) رسمت هكذا: ياتيان.

4 قال شيخ الإسلام رحمه الله في تعريف الحسن والقبح، وعلاقتهما بالحكمة والقدر، وكيف وقع الاشتباه والاختلاف في ذلك:"إنّ الحسن هو: الحق، والصدق، والنافع، والمصلحة، والحكمة، والصواب. وإنّ الشيء القبيح هو: الباطل، والكذب، والضارّ، والمفسدة، والسفه، والخطأ".

ثم ذكر رحمه الله قول القدرية، والجبرية في أفعال العباد، وارتباط ذلك بالحسن، والقبح؛ فقال:"والمعتزلة ومن اتبعها من الشيعة تزعم أنّ الأعمال ليست من خلقه ولا كونها شيء، وأنّ الآلام لا يجوز أن يفعلها إلا جزاء على عمل سابق، أو تعويض بنفع لاحق. وكثير من أهل الإثبات ومن اتبعهم من الجبرية يقولون: بل الجميع خلقه، وهو يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، ولا فرق بين خلق المضارّ والمنافع، والخير والشرّ بالنسبة إليه. ويقول هؤلاء: إنّه لا يُتصوّر أن يفعل ظلماً، ولا سفهاً أصلاً. بل لو فرض أنّه فعل أي شيء، كان فعله حكمة وعدلاً وحسناً، إذ لا قبيح إلا ما نهى عنه، وهو لم ينه أحداً. ويُسوّون بين تنعيم الخلائق وتعذيبهم، وعقوبة المحسن، ورفع درجات الكفار والمنافقين. والفريقان متفقان على أنه لا ينتفع بطاعات العباد، ولا يتضرّر بمعصيتهم. لكنِ الأولون يقولون: الإحسان إلى الغير حسن لذاته، وإن لم يعد إلى المحسن منه فائدة. والآخرون يقولون: ما حسن منّا حسن منه، وما قبح منا قبح منه.....". وقد أطال شيخ الإسلام رحمه الله النفس في توضيح موقف المعتزلة والأشاعرة من الحسن والقبح. انظر: قاعدة في المعجزات والكرامات ص 53.

وأما التحسين والتقبيح عند أهل السنة والجماعة، فقد فصّل فيه شيخ الإسلام القول. وممّا قاله: "..وقد ثبت بالخطاب والحكمة الحاصلة من الشرائع، ثلاثة أنواع:

أحدها: أن يكون الفعل مشتملاً على مصلحة، أو مفسدة، ولو لم يرد الشرع بذلك؛ كما يُعلم أنّ العدل مشتمل على مصلحة العالم، والظلم يشتمل على فسادهم. فهذا النوع هو حسن وقبيح. وقد يُعلم بالعقل والشرع قبح ذلك، لا أنّه أثبت للفعل صفة لم تكن. لكن لا يلزم من حصول هذا القبح أن يكون فاعله معاقباً في الآخرة إذا لم يرد شرع بذلك. وهذا مما غلط فيه غلاة القائلين بالتحسين والتقبيح؛ فإنّهم قالوا: إنّ العباد يُعاقبون على أفعالهم القبيحة، ولو لم يبعث إليهم رسولاً. وهذا خلاف النصّ؛ قال تعالى:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} ....

النوع الثاني: إنّ الشارع إذا أمر بشيء صار حسناً، وإذا نهى عن شيء صار قبيحاً، واكتسب الفعل صفة الحسن والقبح بخطاب الشارع.

والنوع الثالث: أن يأمر الشارع بشيء ليمتحن العبد، هل يطيعه أم يعصيه، ولا يكون المراد فعل المأمور به؛ كما أُمر إبراهيم بذبح ابنه، فلمّا أسلما وتلّه للجبين حصل المقصود، ففداه بالذبح. وكذلك حديث أبرص، وأقرع، وأعمى لما بعث الله إليهم من سألهم الصدقة؟ فلمّا أجاب الأعمى، قال المَلَك: أمسك عليك مالك، فإنّما ابتُليتم، فرضي عنك، وسخط على صاحبيك. فالحكمة منشؤها من نفس الأمر، لا من نفس المأمور به. وهذا النوع والذي قبله لم يفهمه المعتزلة، وزعمت أنّ الحسن والقبح لا يكون إلا لما هو متصف بذلك بدون أمر الشارع. والأشعريّة ادّعوا أنّ جميع الشريعة من قسم الامتحان، وأنّ الأفعال ليست لها صفة، لا قبل الشرع، ولا بالشرع. وأما الحكماء والجمهور، فأثبتوا الأقسام الثلاثة. وهو الصواب". مجموع الفتاوى 8434-436. وانظر: المصدر نفسه 16498. ومجموعة الرسائل والمسائل 4292. ومنهاج السنة النبوية 1316، 2294-302، 3177. ودرء تعارض العقل والنقل 822، 492، 949-62. وقاعدة في المعجزات والكرامات ص 53-54. والرد على المنطقيين ص 420-437. ومجموعة الرسائل الكبرى 2103-105. وشرح الأصفهانية 2342، 393، 617.

وقال شيخ الإسلام رحمه الله عن موقف الناس من التحسين والتقبيح: "وقد تنازع الناس في حسن الأفعال وقبحها؛ كحسن العدل والتوحيد والصدق، وقبح الظلم والشرك والكذب: هل يُعلم بالعقل، أم لا يُعلم إلا بالسمع. وإذا قيل: إنّه يُعلم بالعقل، فهل يُعاقب من فعل ذلك قبل أن يأتيه رسول؟ على ثلاثة أقوال معروفة في أصحاب الأئمة وغيرهم؛ وهي ثلاثة أقوال لأصحاب الإمام أحمد وغيرهم

". الجواب الصحيح 2307-308.

ص: 453

إذا كان معناهما يؤول إلى اللذة والألم.

الحسن والقبح عند المعتزلة

والمعتزلة أثبتوا حسناً وقبحاً عقليّين في فعل القادر مطلقاً، سواء كان قديماً، أو محدَثاً. وقال1: الحُسْن: ما للقادر فعله. و [القبيح ما] 2 ليس له فعله. وقالوا: إنّ ذلك ثابتٌ بدون كونه مستلزماً للّذة والألم. كما ادّعوا ثبوت حكمته للفاعل القادر، ولا تعود إليه، ولا يستلزم اللذة؛ فادّعوا ما هو

1 لعلها: قالوا.

2 ما بين المعقوفتين ملحق في هامش ((خ)) .

ص: 455

خلاف الموجود والمعقول1. ولهذا تسلّط عليهم النفاة2، فكان حجّتهم عليهم أن يُثبتوا أنّ هذا أمر لا يُعقل إلا مع اللذة والألم. ثمّ يقولون: وذلك في حقّ الله مُحال. فحجّتهم مبنيّة على مقدّمتين: أنّ الحسن والقبح والحكمة مستلزم للذة والألم، وذلك في حق الله مُحال.

1 وانظر: تعريف عبد الجبار الهمذاني وهو من رؤوس المعتزلة للقبيح والحسن في كتابه: المغني في أبواب التوحيد والعدل ج 6، القسم الأول ص 26-30، 59-60. والأصول الخمسة له ص 326-332، 564-566. والمعتمد في أصول الفقه لأبي الحسين البصري المعتزلي 1363.

وقال شيخ الإسلام رحمه الله في ذكر موقف كل من المعتزلة والأشاعرة من الحسن والقبح والحكمة: "وتفصيل حكمة الله في خلقه وأمره يعجز عن معرفتها عقول البشر. والقدرية دخلوا في التعليل على طريقة فاسدة مثّلوا الله فيها بخلقه، ولم يُثبتوا حكمة تعود إليه، فسلبوه قدرته، وحكمته، ومحبته، وغير ذلك من صفات كماله. فقابلهم خصومهم الجهمية المجبرة ببطلان التعليل في نفس الأمر. كما تنازعوا في مسألة التحسين والتقبيح؛ فأولئك أثبتوا على طريقة سووا فيها بين الله وخلقه، وأثبتوا حسناً وقبحاً لا يتضمّن محبوباً ولا مكروهاً، وهذا لا حقيقة له. كما أثبتوا تعليلاً لا يعود إلى الفاعل حكمه. وخصومهم سووا بين جميع الأفعال، ولم يُثبتوا لله محبوباً، ولا مكروهاً، وزعموا أنّ الحسن لو كان صفة ذاتية للفعل، لم يختلف حاله. وغلطوا؛ فإنّ الصفة الذاتية للموصوف قد يُراد بها اللازمة له". منهاج السنة النبوية 3177.

2 الأشاعرة نفاة الحسن والقبح. انظر: الأربعين في أصول الدين للرازي ص 249-250.

ويُقال لهم: "حكمة الرب فوق تحصيل اللذة ودفع الألم، بل هو يتعالى عن ذلك؛ لأنّ ما ذكر غرض المخلوق. أمّا الخالق سبحانه فهو غنيٌ بذاته عن كلّ ما سواه؛ حكمته سبحانه لا تُشابه حكمة المخلوقين؛ كما أنّ إرادته، وسائر صفاته لا تُشابه صفات المخلوقين". الحكمة والتعليل في أفعال الله ص 72.

ص: 456

والمعتزلة منعوا المقدمة الأولى، فغلبوا معهم. والمقدمة الثانية جعلوها محلّ وفاق1، وهي مناسبة لأصول المعتزلة؛ لكونهم ينفون الصفات؛ فنفي الفعل القائم به أولى على أصلهم، ونفي مقتضى ذلك أولى على أصلهم. وهذه المقدمة التي اشتركوا فيها [تقتضي] 2 نفي كونه مريداً، ونفي كونه فاعلاً، ونفي حدوث شيء من الحوادث؛ كما أنّ نفي الصفات يقتضي نفي [شيء] 3 قائمٍ بنفسه موصوفٍ بالصفات.

فنفي اتصافه بالصفات يستلزم أن لا يكون في الوجود شيء يتصف بصفة، ونفي فعله، وإحداثه يقتضي أن لا يكون في الوجود شيء حادِث؛ فكان ما نفوه مستلزماً نهاية السفسطة4، وجحد الحقائق. ولهذا كان من

1 المعتزلة جعلوها محلّ وفاق مع الأشاعرة؛ لأنّها موافقة لأصولهم.

2 في ((خ)) : يقتضي.

3 ما بين المعقوفتين ليس في ((م)) ، و ((ط)) .

4 المقصود بالسفسطة: الحكمة المموّهة. ويُراد بها التمويه، والخداع، والمغالطة في الكلام، وجحد الحقائق. وهي كلمة معربة من اليونانية، مركبة من سوفيا؛ وهي الحكمة، ومن اسطس؛ وهو المموّه؛ فمعناه: حكمة مموّهة.

يقول الجرجاني في التعريفات ص 158: "السفسطة: قياس مركب من الوهميات. والغرض منه تغليط الخصم، وإسكاته؛ كقولنا: الجوهر موجود في الذهن، وكل موجود في الذهن قائم بالذهن عرضٌ؛ لينتج أنّ الجوهر عرض".

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "فإنّ هذه الكلمة هي كلمة معربة، وأصلها باليونانية (سوفسقيا) ؛ أي حكمة مموهة؛ فإنّ (سوفيا) باليونانية هي الحكمة، ولهذا يقولون:(فيلسوف) ؛ أي محبّ الحكمة

وأما هذه المموهة فهي تشبه الحق البرهاني ونحوه مما ينبغي قبوله، وهي في الحقيقة باطلة يجب ردها، ولكن موهت كما يموه الحق بالباطل، فسمّوها (سوفسقيا) ؛ أي حكمة مموهة". بيان تلبيس الجهمية 1322-324. وانظر: التسعينيّة ص 36-37. وتاريخ الفلسفة اليونانية ليوسف كرم ص 45. وانظر: تقسيم شيخ الإسلام للسفسطة إلى ثلاثة أقسام في منهاج السنة 1419. وفي كتاب الصفدية 197 قسمها إلى أربعة أقسام.

ص: 457

وافق هؤلاء على نفي محبة الله لما أمر به من الصوفية، يلزمهم تعطيل الأمر والنهي، وأن لا [ينفى] 1 إلا القدر [العامّ]2.

وقد التزم ذلك طائفة من محققيهم3، وكان نفي الصفات يستلزم نفي [الذات] 4، وأن لا يكون [موجودان] 5، أحدهما واجب قديم خالق، والآخر ممكن، أو محدَث، أو مخلوق. وهكذا التزمه طائفة من محققيهم؛ وهم القائلون بوحدة الوجود، و [هؤلاء] 6 يقولون [بكون] 7 العبد أولاً يشهد الرفق بين الطاعة والمعصية، ثمّ يشهد طاعة بلا معصية، ثمّ لا طاعة ولا معصية، بل الوجود واحد8، فالذين أثبتوا الحسن والقبح في الأفعال،

1 في ((خ)) : يبقى. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

2 في ((ط)) : العلم.

3 انظر: كتاب الصفدية 1243-245، 264-265.

4 في ((م)) ، و ((ط)) : الصفات.

5 في ((خ)) : موجودا ان.

6 في ((م)) ، و ((ط)) : هم.

7 في ((خ)) : يكون. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

8 وقد سوّى غلاة الصوفية بين الإيمان والكفر، والخير والشرّ بكونه منه سبحانه وتعالى. انظر: جامع الرسائل والمسائل 4300-301. وجامع الرسائل 1125. ومجموع الفتاوى 8331، 339، 343-350.

وقد قال عنهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "ولهذا يجوز عندهم أن يأمر الله بكل شيء، حتى الكفر والفسوق والعصيان، وينهى عن كل شيء، حتى عن الإيمان والتوحيد، ويجوز نسخ كل ما أمر به بكلّ ما نهى عنه. ولم يبق عندهم في الوجود خير ولا شرّ، ولا حسن ولا قبح إلا بهذا الاعتبار. فما في الوجود ضر ولا نفع. والنفع والضرّ أمران إضافيان، فربما نفع هذا ما ضرّ هذا؛ كما يُقال مصائب قوم عند قوم فوائد". مجموع الفتاوى 8343.

وانظر: بيان تلبيس الجهمية 1162.

ص: 458

وأنّ لها صفات تقتضي ذلك، قالوا بما قاله جمهور العقلاء من المسلمين وغيرهم.

قال أبو الخطاب1: "هذا قول أكثر الفقهاء والمتكلمين2، لكن تناقضوا، فلم يُثبتوا لازم ذلك، فتسلّط عليهم النفاة. والنفاة لمّا نفوا الحسن والقبح في نفس الأمر3، قالوا4: لا فرق في ما يخلقه الله، [وبما يأمر] 5 به بين فعل وفعل، وليس في نفس الأمر حسن، ولا قبيح، ولا صفات توجب ذلك. واستثنوا ما يوجب اللذة والألم، لكن اعتقدوا ما اعتقدته المعتزلة أنّ هذا لا يجوز إثباته في حق الربّ. وأما في حق العبد: فظنّوا أنّ الأفعال لا [تقتضي] 6 إلا لذة وألماً في الدنيا. وأمّا كونها مشتملة

1 أبو الخطاب هو محفوظ بن أحمد بن الحسن بن أحمد الكلوذاني البغدادي، أحد أعيان المذهب الحنبلي. ولد سنة 432?. وتفقه على القاضي أبي يعلى، وسمع الكثير، ودرّس، وأفتى، وناظر، وصنّف في الأصول والفروع. توفي في بغداد سنة 510 ?. قال السلفي:"هو ثقة رضيّ من أئمة أصحاب أحمد".

انظر: البداية والنهاية 12180. والذيل على طبقات الحنابلة 1116-127. والأعلام للزركلي 5291. وسير أعلام النبلاء 19349.

2 انظر: التمهيد في أصول الفقه لأبي الخطاب 4294.

وقد نقل شيخ الإسلام رحمه الله هذا النص عن أبي الخطاب في كتابه الجواب الصحيح 2309.

3 وهم الأشاعرة، نفاة الحسن والقبح العقليّين، والحكمة والمحبة.

ولأبي الخطاب كتاب مطبوع اسمه التمهيد في أصول الفقه، يقع في أربع مجلدات، من مطبوعات المجلس العلمي في جامعة أم القرى.

4 المقصود بهم الأشاعرة. وهذه حجتهم. وانظر: ص 547-552. وانظر: شرح الأصفهانية 2616-620.

5 في ((م)) ، و ((ط)) : وما يأمره.

6 في ((خ)) : يقتضي.

ص: 459

على صفات تقتضي لذة وألماً في الآخرة، [فذاك] 1 عندهم باطلٌ، ولم يمكنهم أن يقولوا إنّ الشارع يأمر بما فيه لذة مطلقاً، و [ينهى] 2 عمّا فيه ألم مطلقاً.

وكون الفعل يقتضي ما يوجب اللذة، هو عندهم من باب التولّد3.

1 في ((م)) ، و ((ط)) : فذلك.

2 في ((خ)) : نهي.

3 المقصود به هنا: التوليد؛ وهو " أن يحصل الفعل عن فاعله بتوسّط فعلٍ آخر؛ كحركة المفتاح في حركة اليد". التعريفات للجرجاني ص 98.

وقال شيخ الإسلام رحمه الله عن مسألة التوليد، وموقف كل من المعتزلة والأشاعرة منها:

"فإنّ أفعال الإنسان، وغيره من الحيوان على نوعين: أحدهما المباشر، والثاني المتولّد. فالمباشر ما كان في محلّ القدرة؛ كالقيام، والقعود، والأكل، والشرب. وأما المتولّد فهو ما خرج عن محلّ القدرة؛ كخروج السهم من القوس، وقطع السكين للعنق، والألم الحاصل من الضرب، ونحو ذلك. فهؤلاء المعتزلة يقولون: هذه المتولّدات فعل العبد؛ كالأفعال المباشرة. وأولئك المبالغون في مناقضتهم في مسائل القدر من الأشعرية وغيرهم يقولون: بل هذه الحوادث فعل الله تعالى، ليس للعبد فيها فعل أصلاً". كتاب الصفدية 1150.

وقال رحمه الله في موضع آخر عن أقوال الناس في التولّد:

"فأما الأمور المنفصلة عنه التي يُقال إنها متولّدة عن فعله. فمن الناس من يقول: ليست مفعولة له بحال، بل هي مفعولة لله تعالى؛ كما يقول ذلك كثيرٌ من متكلمي المثبتين للقدر. ومنهم من يقول: بل هو مفعول له على طريق التولد؛ كما يقوله من يقوله من المعتزلة. ويُحكى عن بعضهم أنه قال: لا فاعل لها بحال. وحقيقة الأمر: أنّ تلك قد اشترك فيها الإنسان، والسبب المنفصل عنه؛ فإنّه إذا ضَرَبَ بحجر فقد فعل الحَذْف، ووصول الحجر إلى منتهاه حصل بهذا السبب، وبسببٍ آخر من الحجر والهواء. وكذلك الشبع، والرّيّ حصل بسبب أكله وشربه الذي هو فعله، وبسبب ما في الطعام والشراب من قوة التغذية، وما في بدنه من قوة القبول لذلك. والله خالق هذا كلّه". درء تعارض العقل والنقل 9340-341.

وانظر: عن التولّد عند المعتزلة والأشعرية: الأصول الخمسة لعبد الجبار ص 387-390، 424. والتمهيد للباقلاني ص 63-64، 334-341. والإرشاد للجويني ص 230. وأصول الدين للبغدادي ص 137. والفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم 359. والمواقف في علم الكلام للإيجي ص 316-319. وشرح المقاصد للتفتازاني 4271.

ص: 460

معنى الكسب عند االأشاعرة

وهم لا يقولون به، بل قدرة العبد عندهم لا [تتعلّق] 1 إلا بفعل في محلّها، مع أنّها عند شيخهم2 غير مؤثرة في المقدور، ولا يقول أنّ العبد فاعلٌ في الحقيقة، بل كاسب3.

1 في ((خ)) : يتعلق. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

2 المقصود به أبو الحسن الأشعري. قال في مقالات الإسلاميين 2221: (والحق عندي أنّ معنى الاكتساب هو أن يقع الشيء بقدرة محدثة، فيكون كسباً لمن وقع بقدرته) .

وقال الشهرستاني في الملل والنحل 191: (قال أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري: إذا كان الخالق على الحقيقة هو الباري تعالى لا يُشاركه في الخلق غيره، فأخص وصفه تعالى هو القدرة على الاختراع) .

وقال الشهرستاني عن الكسب، وتأثير القدرة عند الأشعريّ:

"ثمّ على أصل أبي الحسن: لا تأثير للقدرة الحادثة في الإحداث؛ لأنّ جهة الحدوث قضيّة واحدة لا تختلف بالنسبة إلى الجوهر والعرض..... أنّ الله تعالى أجرى سنّته بأن يحقق عقيب القدرة الحادثة، أو تحتها، أو معها الفعل الحاصل إذا أراده العبد وتجرّد له. ويُسمّى هذا الفعل كسباً، فيكون خلقاً من الله تعالى إبداعاً وإحداثاً، وكسباً من العبد، حصولاً تحت قدرته". الملل والنحل للشهرستاني 197. وانظر: اللمع للأشعري ص93-95. والإنصاف للباقلاني ص70-71. والإرشاد للجويني ص 208-210. وأصول الدين للبغدادي ص 133-137.

3 الكسب عند الأشعريّ:

قال الأشعري عن الكسب: (فكل من وقع منه الفعل بقدرة قديمة، فهو فاعل خالق، ومن وقع منه بقدرة محدثة فهو مكتسب. وهذا قول أهل الحق) . مقالات الإسلاميين 1539.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن الكسب عند الأشعرية: "وهم وإن كانوا لا يُثبتون لقدرة العبد أثراً في حصول المقدور، فإنّهم يُفرّقون بين ما كان في محل القدرة فيجعلونه مقدوراً للعبد، وما كان خارجاً عن محل القدرة فلا يجعلونه مقدوراً للعبد. وأكثر من نازعهم يقول: إنّ هذا كلام لا يُعقل؛ فإنّه إذا لم يثبت للقدرة أثر، لم يكن الفرق بين ما كان في محلّ القدرة، وبين ما كان في غير محل القدرة إلا فرقاً في محلّ الحادث، من غير أن يكون للقدرة في ذلك تأثير. وتسمية هذا مقدوراً دون هذا تحكّم محض، وتفريق بين المتماثلين.

ولهذا قال بعض الناس: عجائب الكلام التي لا حقيقة لها ثلاثة: طفرة النظام، وأحوال أبي هاشم، وكسب الأشعري.

وإذا قيل لهؤلاء: الكسب الذي أثبتموه لا تُعقل حقيقته. فإذا قالوا: الكسب ما وُجد في محل القدرة المحدثة مقارناً لها من غير أن يكون للقدرة تأثير فيه. قيل لهم: فلا فرق بين هذا الكسب، وبين سائر ما يحدث في غير محلها وغير مقارن لها؛ إذ اشتراك الشيئين في زمانهما ومحلهما لا يُوجب كون أحدهما له قدرة على الآخر؛ كاشتراك العرضين الحادثين في محل واحد، في زمان واحد. بل قد يُقال: ليس جعل الكسب قدرة والقدرة كسباً بأولى من العكس إذا لم يكن إلا مجرد المقارنة في الزمان والمحل". كتاب الصفدية 1148، 150-152. وانظر: المصدر نفسه 2331. ومنهاج السنة النبوية 313، 109. ودرء تعارض العقل والنقل 8320. وشرح الأصفهانية 1150، 2350. ومجموع الفتاوى 30139.

وانظر: أيضاً: أصول الدين للبغدادي ص133-134. وشرح الجوهرة للبيجوري ص 104. والعقيدة الإسلامية لعبد الرحمن حبنكة ص 757-758.

ص: 461

ولم يذكروا بين الكسب والفعل فرقاً معقولاً، بل حقيقة قولهم قول جهم: إنّ العبد لا قدرة له، ولا فعل، ولا كسب1.

والله عندهم فاعل فعل العبد، وفعله هو نفس مفعوله؛ فصار الربّ عندهم فاعلاً لكلّ ما يُوجد من أفعال العباد. ويلزمهم أن يكون هو الفاعل للقبائح، وأن يتّصف بها على قولهم إنّه يُوصف بالصفات الفعليّة القائمة بغيره.

1 لاحظ الحاشية السابقة.

ص: 462

وقد تناقضوا في هذا الموضع1 [فجعلوه] 2 متكلماً بكلام يقوم بغيره، وجعلوه عادلاً ومحسناً بعدلٍ وإحسانٍ يقوم بغيره؛ كما قد بُسط في غير هذا الموضع3.

وحينئذٍ فما بقي يمكنهم أن يُفرّقوا بين ممكن وممكن من جميع الأجناس؛ أي يقولوا: هذا يحسن من الرب فعله، وهذا يُنزّه عنه. بل يجوز عندهم أن يفعل كلّ ممكن مقدور.

معنى الظلم عند الأشاعرة

والظلم عندهم هو فعل ما نهى المرء عنه، أو التصرّف في ملك الغير4. وكلاهما ممتنعٌ في حقّ الله. فأما أن

1 أي وصفه بالصفات الفعليّة القائمة بغيره.

2 في ((خ)) : فلم يجعلوه. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

3 انظر: كتاب الصفدية 1153-154. وشرح الأصفهانية 125-28. ومنهاج السنة النبوية 2107-120. ودرء تعارض العقل والنقل 5242-250.

4 انظر: التمهيد للباقلاني ص384-385. وأصول الدين للبغدادي ص131-133. وشرح المقاصد للتفتازاني 4274-281. وشرح العقائد العضدية لجلال الدواني 2186-189.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن هذه الطائفة إنهم يقولون: (الظلم ليس بممكن الوجود، بل كل ممكن إذا قُدّر وجوده منه فإنّه عدلٌ. والظلم هو الممتنع؛ مثل الجمع بين الضدّين، وكون الشيء موجوداً معدوماً؛ فإنّ الظلم إمّا التصرف في ملك الغير، وكل ما سواه ملكه؛ وإمّا مخالفة الآمر الذي تجب طاعته. وليس فوق الله تعالى آمرٌ تجب عليه طاعته. وهؤلاء يقولون: مهما تصور وجوده، وقُدّر وجوده فهو عدل. وإذا قالوا كل نعمة منه فضل، وكل نقمة منه عدل، فهذا أمر أُوهم. وهذا قول المجبرة؛ مثل جهم ومن اتبعه. وهو قول الأشعري ومن اتبعه، وأمثاله من أهل الكلام، وقول من وافقهم من الفقهاء، وأهل الحديث، والصوفية) . جامع الرسائل 1121-122.

قال الأشعري: "وهو المالك في خلقه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، فلو أدخل الخلائق بأجمعهم الجنة، لم يكن حيفاً، ولو أدخلهم النار لم يكن جوراً؛ إذ الظلم هوالتصرف فيما لا يملكه المتصرف، أو وضع الشيء في غير موضعه. وهو المالك المطلق فلا يتصور منه ظلم، ولا ينسب إليه جور". الملل والنحل 1100.

ص: 463

يكون هناك أمر ممكن مقدور، وهو منزّه عنه، فهذا عندهم لا يجوز.

من أصول الأشاعرة

فلهذا جوّزوا عليه كلّ ما يُمكن، ولا ينزهونه عن فعل لكونه قبيحاً، أو نقصاً، أو مذموماً، ونحو ذلك1. بل يعلم ما يقع وما لا يقع بالخبر؛ أي بخبر الرسول كما علم بخبره المأمور والمحظور، والوعد والوعيد، والثواب والعقاب، أو بالعادة مع أنّ العادة يجوز انتقاضها عندهم. لكن قالوا: قد يُعلم بالضرورة عدم ما يجوز وقوعه، من غير فرق؛ لا في الوجود، ولا في العلم بين ما علموا انتفاءه، وما لم يعلموه؛ إذ كان أصل قولهم هو جواز التفريق بين المتماثلين بلا سبب. فالإرادة القديمة عندهم تُرجّح مثلاً على مثل بلا سبب في خلق الرب وفي أمره. وكذلك عندهم قد يُحدث في قلب العبد علماً ضرورياً بالفرق بين المتماثلين بلا سبب. فلهذا قالوا: إنّ الشرع لا يأمر وينهى لحكمة2.

ولم يعتمدوا على المناسبة، وقالوا: علل الشرع أمارات3؛ كما قالوا: إنّ أفعال العباد أمارة على السعادة والشقاء فقط4، من غير أن يكون

1 انظر: المواقف في علم الكلام للإيجي ص 323، 328، 330، 331.

2 المقصود بهم الأشاعرة. انظر: التمهيد للباقلاني ص 50-66. والمواقف في علم الكلام للإيجي ص 331-332.

3 انظر: المواقف للإيجي ص 314-315، 323.

4 قال شيخ الإسلام رحمه الله: "وملخص ذلك أنّ الله إذا أمر بأمرٍ فإنّه حسنٌ بالاتفاق، وإذا نهى عن شيء فإنّه قبيحٌ بالاتفاق. لكن حسن الفعل وقبحه إما أن ينشأ من نفس الفعل، والأمر والنهي كاشفان؛ أو ينشأ من نفس تعلق الأمر والنهي به؛ أو من المجموع. فالأول هو قول المعتزلة. ولهذا لا يجوّزون نسخ العبادة قبل دخول وقتها؛ لأته يستلزم أن يكون الفعل الواحد حسناً قبيحاً. وهذا قول أبي الحسين التميمي من أصحاب أحمد، وغيره من الفقهاء. والثاني قول الأشعرية ومن وافقهم من الظاهرية، وفقهاء الطوائف. وهؤلاء يجعلون علل الشرع مجرّد أمارات، ولا يُثبتون بين العلل والأفعال مناسبة. لكن هؤلاء الفقهاء متناقضون في هذا الباب". شرح الأصفهانية 2618. وانظر: الإنصاف للباقلاني ص 74-75. والمواقف في علم الكلام للإيجي ص 323.

وقال شيخ الإسلام رحمه الله عن الأشعرية: "وقالوا: إن الطاعات والمعاصي مع الثواب والعقاب كذلك، ليس في الطاعة معنى يُناسب الثواب، ولا في المعصية معنى يُناسب العقاب، ولا كان في الأمر والنهي حكمة لأجلها أمر ونهى. ولا أراد بإرسال الرسل رحمة العباد ومصلحتهم، بل أراد أن يُنعّم طائفة، ويُعذّب طائفة لا لحكمة. والسبب هو جعل الأمر، والنهي، والطاعة، والمعصية علامة على ذلك، لا لسبب، ولا لحكمة. وأنه يجوز أن يأمر بكل شيء، حتى بالشرك، وتكذيب الرسل، والظلم، والفواحش، وينهى عن كل شيء، حتى التوحيد، والإيمان بالرسل، وطاعتهم". مجموع الفتاوى 8468.

ونحو هذا الكلام الذي حكاه شيخ الإسلام عن الأشعرية، ذكره البيجوري من الأشعرية في كتابه شرح جوهرة التوحيد، فقال:"وبالجملة: فهو سبحانه وتعالى لا تنفعه طاعة، ولا تضرّه معصية، والكلّ بخلقه. فليست الطاعة مستلزمة للثواب، وليست المعصية مستلزمة للعقاب، وإنما هما أمارتان تدلان على الثواب لمن أطاع، والعقاب لمن عصى، حتى لو عكس دلالتهما بأن قال: من أطاعني عذّبته، ومن عصاني أثبته، لكان ذلك منه حسناً". شرح الجوهرة ص 108.

ص: 464

في أحد الفعلين معنى يُناسب الثواب أو العقاب1.

ومن أثبت المناسبة من متأخّريهم؛ كأبي حامد2 ومن تبعه. قالوا: عرفنا بالاستقراء أنّ المأمور به تقترن به مصلحة العباد؛ وهو حصول ما ينفعهم، والمنهي عنه تقترن به المفسدة، فإذا وُجد الأمر والنهي عُلم وجود

1 انظر: الكلام على المناسبة، وما يُراد بها، وتفصيل شيخ الإسلام لها في مجموعة الرسائل والمسائل 4224-225. وانظر: الإنصاف للباقلاني ص 74-77.

2 الغزالي.

ص: 465

قرينه الذي علم بعادة الشرع من غير أن يكون الربّ أمر به لتلك المصلحة، ولا نهى عنه لتلك المفسدة.

وجمهورهم وأئمتهم على أنّه يمتنع أن يفعل لحكمة.

لكن الآمديّ قال: إنّ ذلك جائز غير واجب؛ فلم يجعله واجباً، ولا ممتنعاً1.

1 ولشيخ الإسلام رحمه الله كلام جميل مختصر في توضيح قول أهل السنة والجماعة في مسألة أفعال العباد، وإثبات ما لله في خلقه وأمره من الأسباب، والحكمة، نختم به هذا الفصل الذي أفاض فيه المؤلف رحمه الله في الحديث عن أقوال الفلاسفة والمتكلمين في هذه القضيّة.

يقول رحمه الله تعالى: "جمهور المسلمين يقولون بالحق الذي دلّ عليه المنقول والمعقول؛ فيقولون: إنّ أفعال العباد مخلوقة لله، مفعولة له، وهي فعلٌ للعباد حقيقة لا مجازاً. وهم يُثبتون ما لله في خلقه وأمره من الأسباب، والحكم، وما جعله الله في الأجسام من القوى والطبائع في الحيوان وفي الجماد. لكنهم مع إثباتهم للأسباب والحكم لا يقولون بقول الطبائعيّة من الفلاسفة وغيرهم، بل يقولون: إنّ الله خالق كلّ شيء، وربّه، ومليكه، وأنّه ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وأنه لا حول ولا قوة إلا به. ويعلمون أنّ الأسباب هي مخلوقة لله بمشيئته وقدرته، ولا تزال مفتقرة إلى الله. لا يقولون إنها معلولة له، أو متولدة عنه؛ كما يقوله الفلاسفة، ولا أنها مستغنية عنه بعد الإحداث؛ كما يقوله من يقوله من أهل الكلام. بل كل ما سوى الله تعالى دائم الفقر والاحتياج إليه، لا يحدث ولا يبقى إلا بمشيئته القديمة. فما كان بالأسباب، فالله خالقه، وخالق سببه جميعاً. ويقولون مع هذا: إنّ الأسباب التي خلقها ليس فيها ما يستقلّ بالتأثير في شيء من الأشياء، بل لا بُدّ له من أسباب أُخر تعاونه وتشاركه، وهو مع ذلك له معارضات وموانع تعارضه وتدافعه؛ كما في الشعاع الحادث عن الشمس، والاحتراق الحادث عن النار، ونحو ذلك؛ فإنّه لا بُدّ مع الشمس من محلّ قابل لانعكاس الشعاع عليه. وهو مع ذلك يمتنع بحصول الحائل؛ كالسحاب، والسقف، وغير ذلك من الموانع، وبكل حائل".كتاب الصفدية 1154-155.

ص: 466