الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني: حياة المؤلف العلمية
.
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: نشأته العلمية:
يُحدّثنا ثلاثة من تلاميذ الشيخ رحمه الله عن جدّه واجتهاده في طلب العلم، وحرصه عليه.
فيقول تلميذه البزار رحمه الله: "ولم يزل منذ إبان صغره مستغرق الأوقات في الجدّ والاجتهاد. وختم القرآن صغيراً، ثم انشغل بحفظ الحديث والفقه والعربية حتى برع في ذلك، مع ملازمة مجالس الذكر، وسماع الأحاديث والآثار. ولقد سمع غير كتاب عن غير شيخ من ذوي الروايات الصحيحة. أما دواوين الإسلام الكبار ك ((مسند أحمد)) و ((صحيح البخاري)) ، ومسلم، و ((جامع الترمذي)) ، و ((سنن أبي داود السجستاني)) ، والنسائي، وابن ماجه، والدارقطني؛ فإنه رحمه الله ورضي عنهم وعنه - سمع كل واحد منها عدّة مرات. وأول كتاب حفظه في الحديث ((الجمع بين الصحيحين)) للإمام الحميدي. وقلّ كتاب من فنون العلم إلا وقف عليه، وكان الله قد خصّه بسرعة الحفظ، وإبطاء النسيان، لم يكن يقف على شيء، أو يستمع لشيء غالباً إلا ويبقى على خاطره؛ إما بلفظه أو معناه. وكان العلم كأنه قد اختلط بلحمه ودمه وسائره.."1
وقال تلميذه ابن عبد الهادي رحمه الله: "..وشيوخه الذين سمع منهم أكثر من مائتي شيخ. وسمع ((مسند الإمام أحمد بن حنبل)) مرات، وسمع
1 الأعلام العلية ص 19-20.
الكتب الستة الكبار، والأجزاء، ومن مسموعاته:((معجم الطبراني الكبير)) . وعني بالحديث، وقرأ، ونسخ، وتعلم الخط والحساب في المكتب، وحفظ القرآن، وأقبل على الفقه، وقرأ العربية على ابن عبد القوي، ثم فهمها، وأخذ يتأمّل كتاب سيبويه حتى فهم في النحو، وأقبل على التفسير إقبالاً كليّاً حتى حاز فيه قصب السبق، وأحكم أصول الفقه وغير ذلك.. هذا كله وهو بعد ابن بضع عشرة سنة. فانبهر أهل دمشق من فرط ذكائه، وسيلان ذهنه، وقوة حافظته، وسرعة إدراكه"1.
وقال تلميذه الحافظ الذهبي رحمه الله: "نشأ - يعني الشيخ تقي الدين رحمه الله في تصون تام، وعفاف، وتألّه وتعبّد، واقتصاد في الملبس والمأكل. وكان يحضر المدارس والمحافل في صغره، ويناظر ويفحم الكبار، ويأتي بما يتحيّر منه أعيان البلد في العلم. فأفتى وله تسع عشرة سنة، بل أقلّ. وشرع في الجمع والتأليف من ذلك الوقت، وأكبّ على الاشتغال، ومات والده، وكان من كبار الحنابلة وأئمتهم، فدرس بعده وظائفه وله إحدى وعشرون سنة. واشتهر أمره، وبعد صيته في العالم، وأخذ في تفسير الكتاب العزيز في الجامع على كرسيّ من حفظه، فكان يُورد المجلس ولا يتلعثم. وكذا كان الدرس بتؤدة وصوت جَهْوري فصيح"2.
ونقل الذهبي عن بعض العلماء قوله في شيخ الإسلام: "ألفيته ممن أدرك من العلوم حظاً، وكاد يستوعب السنن والآثار حفظاً. إن تكلم في التفسير فهو حامل رايته، وإن أفتى في الفقه فهو مدرك غايته، أو ذاكر
1 العقود الدرية ص 3.
2 العقود الدرية ص 5.
بالحديث فهو صاحب علمه وذو روايته، أو حاضر بالنحل والملل لم يُرَ أوسع من نحلته، ولا أرفع من درايته. برز في كلّ فن على أبناء جنسه، ولم تر عين من رآه مثله، ولا رأت عينه مثل نفسه"1.
وقال الذهبي رحمه الله أيضاً: "ولقد نصر السنة المحضة، والطريقة السلفية، واحتج لها ببراهين ومقدمات وأمور لم يسبق إليها، وأطلق عبارات أحجم عنها الأولون والآخرون وهابوا، وجسر هو عليها"2.
وبذلك نرى شيخ الإسلام رحمه الله قد استحق هذا اللقب بجدارة؛ فهو شيخ الإسلام حقاً، وعلم الأعلام صدقاً.
المسألة الثانية: أبرز شيوخه:
حرص الشيخ رحمه الله على تلقي العلم من الصغر، ولذلك أخذ عن كثير من الشيوخ، حتى قال ابن عبد الهادي:"إن شيوخه الذين سمع منهم أكثر من مائتي شيخ"3.
ومن أبرزهم:
1-
زين الدين أحمد بن عبد الدائم بن نعمة المقدسي.
2-
ابن أبي اليسر.
3-
الكمال بن عبد.
4-
ابن عساكر الجدّ.
5-
أصحاب الخشوي.
1 كتاب الذيل 2/390-391.
2 المصدر نفسه 2/394.
3 العقود الدرية 3/32.
6-
الجمال يحيى بن الصيرفي.
7-
أحمد بن أبي الخير الحداد.
8-
القاسم الأربلي.
9-
فخر الدين بن البخاري.
10-
الكمال عبد الرحيم.
11-
أبو القاسم بن علان.
12-
أحمد بن شيبان.
13-
شمس الدين بن أبي عمر.
14-
إبراهيم بن الدرجي.
وخلقٌ كثير1.
المسألة الثالثة: أشهر تلاميذه:
1-
محمد بن أحمد بن عبد الهادي.
2-
محمد بن أبي بكر، ابن قيم الجوزية.
3-
محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي.
4-
محمد بن مفلح بن محمد المقدسي.
5-
إسماعيل بن عمر بن كثير.
6-
عمر بن علي البزار.
1 انظر: العقود الدرية ص 3. وكتاب الذيل لابن رجب 2/387.
وقد جمع الدكتور عبد الرحمن الفريوائي بعض أسماء شيوخه، وترجم لهم، وذكر منهم (69) عالماً، منهم خمس من النساء.
انظر: شيخ الإسلام ابن تيمية وجهوده في الحديث وعلومه 1/71-100.
7-
أحمد بن حسن بن عبد الله بن قدامه.
8-
محمد بن شاكر الكتبي.
9-
سليمان بن عبد القوي الطوفي الصرصري البغدادي.
10-
عمر بن مظفر الوردي المصري الحلبي.
11-
عمر بن سعد الله الحراني.
12-
محمد بن المنجا التنوخي الدمشقي.
وغيرهم 1.
المسألة الرابعة: أشهر مؤلفاته:
لقد كان شيخ الإسلام رحمه الله حريصاً على نشر مذهب السلف الصالح وتدوينه؛ من الأصول والفروع، وتقرير معتقدهم الصحيح، والردّ على المخالفين؛ من المتكلمين، والفلاسفة، والرافضة، والمتصوفة، والباطنية.
وأكثر مؤلفاته في الأصول والعقائد، والردّ على أهل البدع والأهواء.
وقد ذكر كلاماً في أحد كتبه، كأنّه يردّ على من يسأل عن سبب كثرة تأليفه في الأصول والعقائد، وتقرير مذهب السلف بذكر القواعد، فقال - رحمه الله تعالى:"فإنّ هذه القواعد المتعلقة بتقرير التوحيد، وحسم مادة الشرك والغلو، كلما تنوّع بيانها، ووضحت عباراتها، كان ذلك نوراً على نور، والله المستعان"2.
1 وقد جمع د/ عبد الرحمن الفريوائي أكثر تلاميذ شيخ الإسلام رحمه الله ورحمهم - وترجم لهم، وعدّ منهم (161) تلميذاً.
انظر: شيخ الإسلام ابن تيمية وجهوده في الحديث وعلومه 1/101-159.
2 مجموع الفتاوى 1/313.
فكثرة ترداد القواعد يزيدها وضوحاً، وتنوّع البيان يوضّح العبارات.
وتصانيفه رحمه الله كثيرة في الأصول والقواعد، وغير ذلك، ولا يُقدر على إحصائها، حتى إن تلميذه - وهو من ألصق الناس به - يقول عنها:"وأما مؤلفاته ومصنفاته، فإنها أكثر من أن أقدر على إحصائها، أو يحضرني جملة أسمائها، بل هذا لا يقدر عليه غالباً أحدٌ؛ لأنها كثيرة جداً، وكباراً وصغاراً، وهي منشورة في البلدان، فقلّ بلد نزلتُه إلا ورأيت فيه من تصانيفه"1.
وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله: "وأما تصانيفه رحمه الله فهي أشهر من أن تذكر، وأعرف من أن تُنكر، سارت مسير الشمس في الأقطار، وامتلأت بها البلاد والأمصار. وقد جاوزت حدّ الكثرة فلا يمكن لأحد حصرها، ولا يتسع هذا المكان لعدّ المعروف منها، ولا ذكرها) 2.
ومن أهمّ ما كتب الشيخ رحمه الله في العقيدة - وهو المطبوع منها:
1-
((منهاج السنة النبوية)) .
2-
((شرح الأصفهانية)) .
3-
((الجواب الصحيح لمن بدّل دين المسيح)) .
4-
((درء تعارض العقل والنقل)) .
5-
((الاستقامة)) .
6-
((بيان تلبيس الجهمية)) .
7-
((الرد على المنطقيين)) .
8-
((بغية المرتاد)) .
9-
((كتاب الصفدية)) .
1 الأعلام العلية ص 25.
2 كتاب الذيل على طبقات الحنابلة لابن رجب 2/403.
10-
((قاعدة في المعجزات والكرامات)) .
11-
((الرسالة القبرصية)) .
12-
((الرسالة البعلبكية)) .
13-
((الرسالة المراكشية)) .
14-
((الرسالة المدنية)) .
15-
("شرح حديث النزول)) .
16-
((شرح حديث ((فحج آدم موسى)) )) .
17-
((الإيمان الكبير)) .
18-
((الإيمان الأوسط)) .
19-
((اقتضاء الصراط المستقيم)) .
20-
((التدمرية)) .
21-
((الحموية)) .
22-
((تفسير آيات أَشكلت)) .
23-
((تفسير سورة الإخلاص)) .
24-
((العبودية)) .
25-
((قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة)) .
وقد صنّف الإمام ابن القيم رحمه الله فهرساً بأسماء كتب ابن تيمية، أوصل عددها إلى (321) ما بين رسالة وكتاب كبير1.
1 وقد طبعها د/ صلاح الدين المنجد، بيروت، 1976 م.
وقد ذكر بعض العلماء عدداً من مصنّفات شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، منهم: ابن شاكر الكتبي في فوات الوفيات 1/75-80. وابن عبد الهادي في العقود الدرية ص 26-67. والبزار في الأعلام العلية ص 22-28. والصفدي في كتابه الوافي بالوفيات ص 7/30-33.
فشيخ الإسلام رحمه الله جمع بين غزارة العلم، وعمق الفهم، وشدة الذكاء، والإحاطة بعلوم الشريعة والمعارف الفكرية، والنظريات، والمسائل الكلامية. واستقرأ، واستوعب ما ألفه من كان قبله، فحوى تلك العلوم، ونقلها إلينا بفهم ثاقب، وعقيدة صائبة، فأكثر رحمه الله من الإنتاج والتأليف.
ومؤلفات شيخ الإسلام رحمه الله من الصعب حصرها وجمعها.
حتى قال الذهبي رحمه الله: "جمعت مصنفات شيخ الإسلام تقي الدين أبي العباس أحمد بن تيمية رضي الله عنه فوجدته ألف مصنّف، ثم رأيت له أيضاً مصنفات أخر"1.
وقال ابن عبد الهادي رحمه الله بعد أن ذكر أسماء كثير من كتب شيخ الإسلام رحمه الله: "وله من الأجوبة والقواعد شيء كثير غير ما تقدم ذكره، يشق ضبطه وإحصاؤه، ويعسر حصره واستقصاؤه. وسأجتهد إن شاء الله تعالى في ضبط ما يمكنني ضبطه من مؤلفاته في موضع آخر غير هذا، وأُبيِّن ما صنّفه منها بمصر، وما ألفه منها بدمشق، وما جمعه وهو في السجن، وأرتبه ترتيباً حسناً غير هذا الترتيب بعون الله تعالى وقوته ومشيئته.
قال الشيخ أبو عبد الله2: لو أراد الشيخ تقي الدين رحمه الله أو غيره حصرها - يعني مؤلفات الشيخ - لما قدروا لأنه ما زال يكتب. وقد منّ الله عليه بسرعة الكتابة، وكان يكتب من حفظه من غير نقل.
1 الرد الوافر ص 72.
2 هو عبد الله بن رشيق المغربي، توفي سنة 749هـ يوم عرفة. قال عنه ابن كثير رحمه الله:(كاتب مصنفات شيخنا العلامة ابن تيمية كان أبصر بخط الشيخ منه إذ عزب شيء منه على الشيخ استخرجه أبو عبد الله هذا. وكان سريع الكتابة لا بأس به ديناً عابداً كثير التلاوة حسن الصلاة له عيال وعليه ديون رحمه الله وغفر له آمين) . البداية والنهاية 14/241.
وأخبرني غير واحد أنه كتب مجلداً لطيفاً في يوم، وكتب غير مرة أربعين ورقة في جلسة وأكثر. وأحصيت ما كتبه وبيضه في يوم فكان ثمان كراريس في مسألة من أشكل المسائل.
وكان يكتب على سؤال الواحد مجلداً.
وأما جواب يكتب فيه خمسين ورقة، وستين، وأربعين، وعشرين فكثير.
وكان يكتب الجواب، فإن حضر من يبيضه، وإلا أخذ السائل خطه وذهب.
ويكتب قواعد كثيرة في فنون من العلم في الأصول والفروع والتفسير وغير ذلك، فإن وجد من نقله من خطه، وإلا لم يشتهر، ولم يعرف، وربما أخذه بعض أصحابه، فلا يقدر على نقله، ولا يرده إليه، فيذهب.
وكان كثيراً ما يقول: قد كتبت في كذا وكذا. ويُسئل عن الشيء، فيقول: قد كتبتُ في هذا، فلا يُدرى أين هو. فيلتفت إلى أصحابه ويقول: ردّوا خطي وأظهروه لينقل. فمن حرصهم عليه لا يردونه. ومن عجزهم لا ينقلونه، فيذهب ولا يعرف اسمه.
فلهذه الأسباب وغيرها تعذّر إحصاء ما كتبه وما صنّفه.
وما كفى هذا، إلا أنه لما حُبس تفرّق أتباعه، وتفرّقت كتبه، وخوّفوا أصحابه من أن يُظهروا كتبه، فذهب كل أحدٍ بما عنده وأخفاه، ولم يظهروا كتبه، فبقي هذا يهرب بما عنده، وهذا يبيعه أو يهبه، وهذا يخفيه ويودعه، حتى منهم من تسرق كتبه، أو تجحد، فلا يستطيع أن يطلبها، ولا يقدر على تخليصها. فبدون هذا تتمزق الكتب والتصانيف. ولولا أن الله تعالى لطف وأعان، ومنَّ وأنعم، وجرت العادة في حفظ أعيان كتبه وتصانيفه، لما أمكن لأحد أن يجمعها. ولقد رأيت من خرق العادة في حفظ كتبه، وجمعها، وإصلاح ما فسد منها، وردّ ما ذهب منها، ما لو ذكرته لكان عجباً يعلم به
كل منصف أن لله عناية به وبكلامه؛ لأنه يذب عن سنة نبيه صلى الله عليه وسلم تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين"1.
وقال رحمه الله أيضاً: "وللشيخ رحمه الله من المصنفات والفتاوى والقواعد والأجوبة والرسائل وغير ذلك من الفوائد ما لا ينضبط، ولا أعلم أحداً من متقدمي الأمة ولا متأخريها جمع مثل ما جمع، ولا صنّف نحو ما صنّف، ولا قريباً من ذلك، مع أنّ أكثر تصانيفه إنما أملاها من حفظه، وكثير منها صنّفه في الحبس وليس عنده ما يحتاج إليه من الكتب"2.
وبهذا نعرف غزارة علم الشيخ رحمه الله ووفرة ما ألّف، وكثرة ما صنّف، حتى إنّ أقرب الناس إليه، ومن صحبه وسبر حاله، لم يستطع حصرها واستيعابها، وكلّهم يُشير إلى كثرتها في الأقطار، وانتشارها في الأمصار.
وما زال المسلمون - ولله الحمد - ينتفعون بها؛ فقد حفظ الله الكثير منها، ونفع بها، فله الحمد والمنّة
وقد جمع الأخ الباحث علي بن عبد العزيز الشبل قوائم ببعض مخطوطات شيخ الإسلام رحمه الله من فهارس المكتبات والمجموعات الخطية العامة والخاصة، وأوصل عدد ما جمع إلى (412) مخطوطاً ما بين رسالة وكتاب كبير، وأسماها الثبت. وهو مطبوع.
وقد أضاف إليه أيضاً قائمة ببعض مخطوطات العلامة ابن القيم رحمه الله. فجزاه الله خيراً.
ولا شكّ أنه لم يستوف كلّ الموجود، بل ربما كان ما فُقد أكثر.
1 العقود الدرية ص 26.
2 العقود الدرية ص 64-66.
المسألة الخامسة: اهتمام شيخ الإسلام رحمه الله بالتأليف في جانب العقيدة:
كتب شيخ الإسلام رحمه الله في كثير من الفنون، كما يُدرك ذلك من اطّلع على كتبه، إلا أنّ العقيدة هي السمة الغالبة في شتى مؤلفاته.
فقد تميزت أغلب كتبه بشرح معتقد السلف الصالح، وتقرير أصولهم، والردّ على من خالفهم؛ من متكلمين، وفلاسفة، وصوفية، ورافضة، وباطنية، وغيرهم من أهل الأهواء والبدع.
وقد ناقش هذه الفرق في شبهاتهم، ومن خلال هذه المناقشات كان ينصر معتقد السلف الصالح، ويعرضه بدلائله العقليّة والنقلية، ويردّ على من خالفه بأقوى ردّ، وأفحم حجّة.
قال تلميذه الحافظ الذهبي عنه: "عرف أقوال المتكلمين، وردّ عليهم، ونبّه على خطئهم، وحذّر منهم، ونصر السنة بأوضح حجج، وأبهر براهين"1.
وقال تلميذه البزار عن مؤلفاته: "وقد أبان - بحمد الله تعالى - فيما ألّف فيها لكلّ بصير الحق من الباطل، وأعانه بتوفيقه، حتى ردّ عليهم بدعهم وآراءهم وخدعهم وأهواءهم مع الدلائل النقليّة بالطريقة العقلية، حتى يجيب عن كلّ شبهة من شبههم بعدة أجوبة جليلة واضحة، يعقلها كلّ ذي عقل صحيح، ويشهد لصحتها كلّ عاقل رجيح"2.
ويُحدّثنا شيخ الإسلام عن نفسه، ويُخبرنا عن كثرة المخالفين لمذهب
1 ذيل طبقات الحنابلة 2/389.
2 الأعلام العلية ص 37.
أهل السنة في طرق إثبات الصانع، وعن سعة اطلاعه رحمه الله على أقوالهم، وعن ردِّه لتلك الجموع العظيمة الكثيرة، وفضحه لهم، وكشفه لعوارهم، فيقول:"وذكرنا عامّة طرائق أهل الأرض في إثبات الصانع؛ من المتكلمين والفلاسفة، وطرق الأنبياء صلوات الله عليهم، وما سلكه عامة نظّار الإسلام؛ من معتزلي، وكرّامي، وكلامي، وأشعري فيلسوف وغيرهم"1.
ويقول رحمه الله لخصومه أثناء مناظرتهم له: "أنا أعلم كلّ بدعة حدثت في الإسلام، وأوّل من ابتدعها، وما كان سبب ابتداعها"2.
وقد تمنّى بعض من ترجم لشيخ الإسلام رحمه الله أن لو جعل جهده في تفسير القرآن العظيم، وشرح السنة المطهرة، بدلاً من الإكثار من الردّ على أهل البدع والأهواء.
يقول الصفدي رحمه الله: "وضيّع الزمان في ردّه على النصارى، والرافضة، ومَنْ عاند الدين أو ناقضه. ولو تصدّى لشرح البخاري، أو لتفسير القرآن العظيم لقلّد أعناق أهل العلم بدرّ كلامه النظيم"3.
وقد تقدّم لشيخ الإسلام رحمه الله كلام، كأنّه ردّ فيه على أشباه هذه التساؤلات، يقول فيه - رحمه الله تعالى:"فإنّ هذه القواعد المتعلقة بتقرير التوحيد، وحسم مادة الشرك والغلو، كلما تنوّع بيانها، ووضحت عباراتها، كان ذلك نوراً على نور، والله المستعان"4.
1 الرد على المنطقيين ص 253.
2 مجموع الفتاوى 3/184.
3 الوافي بالوفيات للصفدي7/32.
4 مجموع الفتاوى 1/313. وقد تقدمت هذه العبارة في ص 76.
وقد أجابَ الشيخُ رحمه الله تلميذَه البزار رحمه الله عن هذا الإشكال، حين سأل هذا الأخير شيخَه شيخ الإسلام رحمه الله عن سبب إكثاره من التأليف في الأصول، وقلّة تآليفه في العلوم الأخرى
ومما قاله البزار: "ولقد أكثر رضي الله عنه التصنيف في الأصول، فضلاً عن غيره من بقية العلوم، فسألتُه عن سبب ذلك، والتمستُ منه تأليف نص في الفقه يجمع اختياراته وترجيحاته ليكون عمدة في الإفتاء، فقال لي ما معناه: الفروع أمرها قريب، ومتى قلّد المسلم فيها أحد العلماء المقلّدين، جاز له العمل بقوله ما لم يتيقّن خطأه. وأما الأصول: فإني رأيت أهل البدع والضلالات والأهواء؛ كالمتفلسفة، والباطنية، والملاحدة، والقائلين بوحدة الوجود، والدهرية، والقدرية، والنصيرية، والجهمية، والحلولية، والمعطلة، والمجسمة، والمشبهة، والراوندية، والكلابية، والسليمية1، وغيرهم من أهل البدع قد تجاذبوا فيها بأزمة الضلال، وبان لي أنّ كثيراً منهم إنما قصد إبطال الشريعة المقدسة المحمدية الظاهرة العلية على كلّ دين، وأن جمهورهم أوقع الناس في التشكيك في أصول دينهم. ولهذا قلّ أن سمعت أو رأيت معرضاً عن الكتاب والسنة، مقبلاً على مقالاتهم إلا وتزندق، أو صار على غير يقين في دينه واعتقاده. فلما رأيت الأمر على ذلك، بان لي أنه يجب على كلّ من يقدر على دفع شبهتهم وأباطيلهم، وقطع حجتهم وأضاليلهم أن يبذل جهده ليكشف رذائلهم، ويزيّف دلائلهم ذباً عن الملة الحنيفية، والسنة الصحيحة الجليّة. ولا واللهِ ما رأيت فيهم أحداً ممن صنّف في هذا الشأن وادّعى علوّ المقام، إلا وقد
1 لعل المقصود بهم السالمية.
ساعد بمضمون كلامه في هدم قواعد دين الإسلام. وسبب ذلك: إعراضه عن الحقّ الواضح المبين، وعن ما جاءت به الرسل الكرام عن ربّ العالمين، واتباعه طرق الفلسفة في الاصطلاحات التي سموها بزعمهم حكميات وعقليات، وإنما هي جهالات وضلالات، وكونه التزمها معرضاً عن غيرها أصلاً ورأساً، فغلبت عليه حتى غطت على عقله السليم فتخبط حتى خبط فيها عشواء1، ولم يفرّق بين الحق والباطل. وإلا فالله أعظم لطفاً بعباده أن لا يجعل لهم عقلاً يقبل الحق ويثبته، ويبطل الباطل وينفيه. لكن عدم التوفيق، وغلبة الهوى أوقع من أوقع في الضلال. وقد جعل الله تعالى العقل السليم من الشوائب ميزاناً يزن به العبد الواردات فيفرّق به بين ما هو من قبيل الحقّ، وما هو من قبيل الباطل، ولم يبعث الله الرسل إلا إلى ذوي العقل، ولم يقع التكليف إلا مع وجوده. فكيف يقال إنه مخالف لبعض ما جاءت به الرسل الكرام عن الله تعالى. هذا باطلٌ قطعاً، يشهد له كلّ عقل سليم. لكن:{وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُور} ٍ [سورة النور، الآية 40] .قال الشيخ الإمام - قدس الله روحه -: فهذا ونحوه هو الذي أوجب أني صرفت جلّ همي إلى الأصول، وألزمني أن أوردت مقالاتهم، وأجبتُ عنها بما أنعم الله تعالى به من الأجوبة النقلية والعقلية"2.
وهكذا نرى شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى - قد أخذ على عاتقه، وأوجب على نفسه الكتابة في أصول الدين، والردّ على المخالفين.
1 قال محقق ((الأعلام العلية)) في ح (1) : العشواء الناقة التي لا تبصر ليلاً، وهو مثل يضرب للذي لا يتبصر في أموره.
2 الأعلام العلية ص 35-37.
وكأنّه بذلك يُرشد من قدر على دفع شرّ المخالفين، وكشف خطرهم، ومحو شبهاتهم وباطلهم، أنّ هذا الصنيع واجب في حقه كذلك، للذب عن دين رب العالمين، ولنصرة سنة سيد المرسلين.
ولم يقف الأمر عند الكتابة، بل طبّق الشيخ رحمه الله العقيدة عمليّاً، حين كسر عدداً من الأحجار التي كانت تُعبد من دون الله، وقطع أشجاراً كثيرة كان يُصرف لها شيء من العبادة.
وقد تحققت فيه دعوة الإمام النووي لما دعا اللهَ قائلاً: "اللهم أقم لدينك رجلاً يكسر العمود المخلّق1، ويُخرّب القبر الذي في جيروت2"، فكان ذلك على يد شيخ الإسلام - رحمه الله3.
المسألة السادسة: علماء توقعوا الذيوع والانتشار لكتب شيخ الإسلام رحمه الله بعد موته:
مؤلفات شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- كتب الله لها الحفظ والانتشار.
وها نحن الآن في القرن الخامس عشر الهجري، وقد مضى على وفاة شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى - نحو سبعة قرون، ولا زالت - بفضل الله وتوفيقه -
1 قال ابن كثير رحمه الله: (وفي هذا الشهر بعينه راح الشيخ تقي الدين ابن تيمية إلى المسجد النارنج وأمر أصحابه ومعهم حجارون يقطع صخرة كانت بنهر قلوط تزار وينذر لها فقطعها وأراح المسلمين منها ومن الشرك بها، فأزاح عن المسلمين شبهة كان شرها عظيماً. وبهذا وأمثاله حسدوه وأبرزوا له العداوة) . البداية والنهاية 14/36.
2 قال ابن كثير رحمه الله: (وهو باب شرقي جامع دمشق لم ير باب أوسع ولا أعلى منه.. من عجائب الدنيا، وقد ذكرته العرب في أشعارها، وهو منسوب إلى ملك يقال له جيروت بن سعد. كان بناؤه قبل الخليل عليه السلام . البداية والنهاية 14/253.
3 انظر: أوراق مجموعة من حياة شيخ الإسلام رحمه الله ص 70-71.
مؤلفاته منتشرة، كثيرة مشتهرة، تنير الدرب للراغب في الهداية، وتوضّح السبيل للباحث عن الحقيقة.
ولقد أوضح شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى - في كتبه معتقدَ السلف، وطريقهم، ومنهجهم، بأقوى حجة، وأوضح برهان. فجزاه الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء.
ولقد كان تلاميذ الشيخ رحمه الله يتواصون فيما بينهم بالعناية بما كتب الشيخ، والنسخ عنه، والمحافظة عليه.
فها هو ذا أحد تلاميذه، وهو الإمام أحمد بن مرّي الحنبلي يُرسل رسالة إلى تلاميذ شيخ الإسلام بعد موته، ويوصيهم بنسخ تآليفه من مسوداته، والاحتفاظ بها، ويبشرهم بالعاقبة الحسنة، ويُمّنيهم بأنّ هذه الكتب ستنتشر يوماً ما، ويذيع صيتها، فيقول رحمه الله:"فإن يسر الله تعالى وأعان على هذه الأمور العظيمة صارت إن شاء الله مؤلفات شيخنا ذخيرة صالحة للإسلام وأهله، وخزانة عظيمة لمن يؤلف منها وينقل، وينصر الطريقة السلفية على قواعدها، ويستخرج ويختصر إلى آخر الدهر إن شاء الله تعالى. قال صلى الله عليه وسلم: "لا يزال الله يغرس في هذا الدين غرساً يستعملهم فيه بطاعة الله)) 1، وقال:"لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى تقوم الساعة"2. والله سبحانه وتعالى يقول في كتابه: {وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [النحل، 8] . وكما انتفع الشيخ بكلام الأئمة قبله، فكذلك ينتفع بكلامه من بعده - إن شاء الله تعالى. فاتبعوا
1 رواه الإمام أحمد في المسند 4/200. وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة
5/2442، وفي صحيح الجامع 6/231.
2 تقدم تخريجه ص 11.
أمر الله، واقصدوا رضى الله بجمع كل ما تقدرون عليه من أنواع المؤلفات الكبار، وأشتات المسائل الصغار، ومن نسخ الفتاوى المتفرقة، وسائر كلامه الذي قد مُلئ - ولله الحمد - من الفوائد، والفرائد، والشوارد. فأيقظوا الهمم، وبذلوا الأموال الكثيرة في تحصيل هذا المطلب العظيم الذي لا نظير له. فهذا هو الذي يلزمنا من حيث الأسباب والتمام على رب الأرباب، ومسبب الأسباب، وفاتح الأبواب، الذي يقيم دينه، وينصر كتابه، وسنة نبيه على الدوام، ويثبت من يؤهله لذلك من أنواع الخاص والعام. وكلٌّ مجزي في القيامة بعمله، وما ربّك بظلام للعبيد.
وقد عُلم أن الإمام أحمد بن حنبل كان ينهى في حال حياته عن كتابة كلامه ليجمع القلوب على المادة الأصلية العظمى، ولما توفي استدرك أصحابه ذلك الأمر الكبير، فنقلوا علمه، وبيّنوا مقاصده، وشهروا فوائده، فانتصرت طريقته، واقتفيت آثاره، لأجل ذلك الوجود هو على هذه الصفة قديماً وحديثاً. فلا تيأسوا من قبول القلوب القريبة والبعيدة لكلام شيخنا، فإنه ولله الحمد مقبول طوعاً وكرهاً. وأين غايات قبول القلوب السليمة لكلماته، وتتبع الهمم النافذة لمباحثه وترجيحاته. ووالله إن شاء الله ليقيمنّ الله - سبحانه - لنصر هذا الكلام ونشره وتدوينه وتفهمه، واستخراج مقاصده، واستحسان عجائبه وغرائبه رجالاً هم إلى الآن في أصلاب آبائهم. وهذه سنة الحياة الجارية في عباده وبلاده. والذي وقع من هذه الأمور في الكون لا يحصى عدده غير الله - تعالى. ومن المعلوم أن البخاري مع جلالة قدره أُخرج طريداً ثم مات بعد ذلك غريباً، وعوضه الله - سبحانه - عن ذلك بما لا خطر في باله، ولا مرّ في خياله؛ من عكوف الهمم على كتابه، وشدة احتفالها به، وترجيحها له على جميع كتب السنن، وذلك لكمال صحته،
وعظمة قدره، وحسن ترتيبه وجمعه، وجميل نية مؤلفه، وغير ذلك من الأسباب.
ونحن نرجو أن يكون لمؤلفات شيخنا أبي العباس من هذه الوراثة الصالحة نصيب كثير - إن شاء الله تعالى؛ لأنه كان بنى جملة أموره على الكتاب والسنة ونصوص أئمة سلف الأمة، وكان يقصد تحرير الصحة بكل جهده، ويدفع الباطل بكل ما يقدر عليه، لا يهاب مخالفة أحد من الناس في نصر هذه الطريقة، وتبيين هذه الحقيقة، وتسهيل العبارات، وجمع أشتات المتفرقات، والنطق في مضايق الأبواب، بحقائق فصل الخطاب، ما ليس لأكثر المصنفين في أبواب مسائل أصول الدين وغيرها من مسائل المحققين؛ لأنه كان يجعل النقل الصحيح أصله وعمدته في جميع ما يبني عليه، ثم يعتضد بالعقليات الصحيحة التي توافق ذلك وبغيرها ويجتهد على دفع كلّ ما يُعارض ذلك من شبهة المعقولات، ويلتزم حلّ كل شبهة كلامية وفلسفية"1.
وهذا عالمٌ آخر يُنادي بنسخ تآليف شيخ الإسلام من المسودات، والمحافظة عليها، ويبشر بأنها طريقٌ لإعادة مجد الإسلام، فيقول: (شجّعوا ابن القيم ينقل لكم ما كتبه شيخ الإسلام ابن تيمية؛ لأنه لا يعرف أحد أن يقرأ خطه سواه، وهو أعلم تلاميذه بكتبه وآثاره. واعلموا أنه سيصير لهذه الآثار شأن عظيم، وسبب لإعادة مجد الإسلام، وستكون مرجعاً في المستقبل لمعرفة الإسلام الصحيح"2.
1 قطعة من مكتوب الشيخ الإمام أحمد بن مري - تحقيق محمد إبراهيم الشيباني - ص 16-18.
2 المصدر نفسه.
وهذا الحافظ ابن حجر رحمه الله يُثني على شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ويُشير إلى بقاء تصانيفه، وانتقال تواليفه إلى الأجيال القادمة، فيقول: (وتلقيبه بشيخ الإسلام باق إلى الآن على الألسنة الزكية، وسيستمر غداً ما كان بالأمس، ولا ينكر ذلك إلا من جهل مقداره، وتجنب الإنصاف"1.
وقال الواسطي في رسالة إلى تلاميذ شيخ الإسلام رحمه الله يوصيهم بالشيخ وبعلمه، فيقول: (فاشكروا الله الذي أقام لكم في رأس السبعمائة من الهجرة من بيَّن لكم أعلام دينكم، وهداكم الله به وإيانا إلى نهج شريعته، وبيَّن لكم بهذا النور المحمدي ضلالات العباد وانحرافاتهم، فصرتم تعرفون الزائغ من المستقيم، والصحيح من السقيم، وأرجو أن تكونوا أنتم الطائفة المنصورة الذين لا يضرّهم من خذلهم ولا من خالفهم"2.
وقال أحمد بن طرخان الملكاوي (ت 803 ?) عن شيخ الإسلام رحمه الله: (فوالله إنّ الشيخ تقي الدين شيخ الإسلام لو دَرَوْا ما يقول لرجعوا إلى محبته وولائه"، وقال: (كلّ صاحب بدعة ومن ينتصر له لو ظهروا لا بدّ من خمودهم وتلاشي أمرهم. وهذا الشيخ تقي الدين ابن تيمية كلّما تقدّمت أيامه تظهر كراماته، ويكثر محبّوه وأصحابه"3.
فتأمّل - يا رعاك الله - كلام هؤلاء الأئمة، وانظر بإمعان وإنصاف فيه، فتجد أنّها كانت فراسة صادقة، وحدساً صادقاً، وظنّاً صائباً، وبُعدَ نظرٍ في العواقب.
1 تقريظ الحافظ ابن حجر على الرد الوافر - تحقيق محمد إبراهيم الشيباني، ص 12.
2 التذكرة والاعتبار والانتصار للأبرار في الثناء على شيخ الإسلام والوصاية به ص 24.
3 الرد الوافر لابن ناصر الدين الدمشقي ص 141.
فقد توقعوا أن يكتب الله لمؤلفات إمام الأئمة القبول، وأن ينتشر علمه في العرض والطول، وأن تحتاجه الأمة في حاضرها جيلاً إثر جيل، وأن يكون سبباً في رجعة الأجيال إلى المعتقد الأصيل.
وقد صدقت توقعاتهم، فها نحن - بحمد الله - نحياها؛ فما دعوة الشيخ الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب إلا ثمرة من غرس شيخ الإسلام، خرجت شجرة طيبة في جزيرة العرب، وطاب غراسها، فآتت أكلها بإذن ربها، وتأسست دولة الإسلام على أصلها الثابت، وانتشر خيرها في الأرجاء، وعمّ في الربوع الرخاء، وانتشر العلم القائم على النور السلفي، وأُنشئت المؤسسات الصادرة عن هذا الينبوع الصافي.
وما دور جامعتنا المباركة - الجامعة الإسلامية - عنّا ببعيد، فقد قامت على ذلك المنهج السلفي، واحتضنت أبناء العالم الإسلامي، وغذتهم بلبان العقيدة الصحيحة، فجزى الله القائمين عليها خير الجزاء.
المسألة السابعة: الأيام الأخيرة لشيخ الإسلام، ووفاته:
كان شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى - عالماً عاملاً، نشر الدعوة بكلّ جدّ ونشاط، حتى جاء عام 718 ?، فمنعه السلطان فيه من الفتوى في مسألة الحلف بالطلاق بالتكفير، ثم عقد لهذا الغرض مجالس في سنة 719?، وحبس في سجن القلعة فترة، وانتهى الأمر بمنعه - بسبب فتواه - من الفتيا مطلقاً.
ثم دبّر له أعداؤه مكيدة أخرى؛ إذ وشوا به للسلطان، وقالوا له: إنه يفتي بمنع السفر إلى قبور الأنبياء والصالحين، وأوهموا السلطان أنّ في ذلك تنقصاً للأنبياء والمرسلين، وتنقصهم كفر.
وأفتى بذلك طائفة من أهل الأهواء؛ وهم ثمانية عشر نفساً، يرأسهم
القاضي الأخنائي المالكي، وأفتى قضاة مصر الأربعة بحبسه، فحبس بقلعة دمشق سنتين وأشهراً.
وقد بقي رحمه الله في القلعة يكتب العلم، ويُصنّفه، ويُرسل إلى أصحابه الرسائل1.
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: (وفي يوم الاثنين تاسع جمادى الآخرة من عام 728?، أُخّر ما كان عند الشيخ تقي الدين بن تيمية من الكتب والأوراق والدواة والقلم، ومنع من الكتابة والمطالعة، وحملت كتبه في مستهل رجب إلى خزانة الكتب بالعادلية الكبيرة
…
وكان سبب ذلك أنه أجاب لما كان ردّ عليه التقي ابن الأخنائي المالكي في مسألة الزيارة، فردّ عليه الشيخ تقي الدين واستجهله، وأعلمه أنه قليل البضاعة في العلم، فطلع الأخنائي إلى السلطان وشكاه، فرسم السلطان عند ذلك بإخراج ما عنده من ذلك"2.
وقد حدّث ابن عبد الهادي عن حال شيخ الإسلام بعد إخراج ما عنده من الكتب، ومنعه من المطالعة والكتابة، فقال: (وأقبل الشيخ بعد إخراجها على العبادة والتلاوة والتذكر والتهجد حتى أتاه اليقين، وختم القرآن مدّة إقامته بالقلعة ثمانين أو إحدى وثمانين ختمة، انتهى في آخر ختمة إلى آخر:{اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ} .... وكانت مدة مرضه بضعة وعشرين يوماً. وأكثر الناس ما علموا بمرضه، فلم يفجأ الخلق إلا نعيه"3.
1 انظر: شيخ الإسلام وجهوده في الحديث 1/38-39.
2 البداية والنهاية 4/140. وانظر: العقود الدرية ص 363.
3 العقود الدرية ص 368.
قال البزار رحمه الله عن آخر أيامه، ووفاته: (ثم إن الشيخ رضي الله عنه بقي إلى ليلة الاثنين والعشرين من ذي القعدة الحرام، وتوفي إلى رحمة الله تعالى ورضوانه في بكرة ذلك اليوم، وذلك في سنة ثمان وعشرين وسبع مائة، وهو على حاله مجاهداً في ذات الله، صابراً، محتسباً، لم يجبن، ولم يهلع، ولم يضعف، ولم يتتعتع، بل كان رضي الله عنه إلى حين وفاته مشتغلاً بالله عن جميع ما سواه. قالوا: فما هو إلا أن سمع الناس بموته، فلم يبق في دمشق من يستطيع المجيء للصلاة عليه وأراده إلا حضر لذلك، وتفرغ له، حتى غلقت الأسواق بدمشق، وعطلت معايشها حينئذ، وحصل للناس بمصابه أمر شغلهم عن غالب أمورهم وأسبابهم، وخرج الأمراء والرؤساء والعلماء والفقهاء والأتراك والأجناد والرجال والنساء والصبيان من الخواص والعوام.
قالوا: ولم يتخلف أحد من غالب الناس فيما أعلم، إلا ثلاثة أنفس كانوا قد اشتهروا بمعاندته، فاختفوا من الناس خوفاً على أنفسهم، بحيث غلب على ظنهم أنهم متى خرجوا رجمهم الناس فأهلكوهم"1.
وقد صُلي على شيخ الإسلام رحمه الله صلاة الغائب في غالب أمصار المسلمين، فما من مصر وصلهم خبر موته، إلا وصلوا عليه صلاة الغائب2.
وقد ذكر الحافظ ابن كثير أنّه صُلّي عليه في المدينة النبوية في يوم الجمعة آخر شهر ربيع الآخر من سنة 729?؛ أي بعد قرابة خمسة أشهر من وفاته - رحمه الله3.
1 الأعلام العلية ص 84-85.
2 انظر: الأعلام العلية للبزار ص 87.
3 انظر: البداية والنهاية 14/149.
وهكذا عاش شيخ الإسلام رحمه الله سبعةً وستين عاماً حافلة بالجهاد، والنصح للعباد.
وقد ذهب من كاد له وحسده، ونسي الناس من مكر به ورصد له، وبقي علم الشيخ رحمه الله وبقيت آثاره، وستستمرّ - إن شاء الله - يُنهل من معينها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
رحم الله شيخ الإسلام رحمة واسعة، وجزاه أحسن الجزاء عمّا ترك للمسلمين من علوم نافعة، وأجزل له المثوبة يوم الدين، ونفعنا بعلمه، ووفقنا لسلوك منهج المتقين.
ورحم الله القائل فيه:
فالله يوسعه برّاً ويشكر ما
…
أبدى لنا معشر القرآن والسنن1.
والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبيّنا محمد وآله وصحبه أجمعين.
1 انظر: مقدمة منهاج السنة النبوية 1/58.