المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌فصل في آيات الأنبياء وبراهينهم - النبوات لابن تيمية - جـ ١

[ابن تيمية]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد الأول

- ‌مقدمة

- ‌الباب الأول

- ‌المبحث الأول: مدخل لدراسة موضوع الكتاب وما ألف فيه

- ‌المطلب الأول: حقيقة النبوة

- ‌المطلب الثاني: الحكمة من بعث الرسل

- ‌المطلب الثالث: وظائف الرسل

- ‌المطلب الرابع: أقوال الناس في النبوة:

- ‌المطلب الخامس: الإيمان بالأنبياء من أركان الإيمان:

- ‌المطلب السادس: الإسلام دين جميع الأنبياء:

- ‌المطلب السابع: المعجزات:

- ‌المطلب الثامن: ما أُلِّف في النبوات:

-

- ‌المبحث الثاني: التعريف بالمؤلِّف

- ‌المطلب الأول: حياة المؤلف الشخصية:

- ‌المطلب الثاني: حياة المؤلف العلمية

- ‌المبحث الثالث: دراسة الكتاب

- ‌المطلب الأول: التعريف بالكتاب

- ‌المطلب الثاني: التعريف بالأصل المخطوط

- ‌الباب الثاني: قسم التحقيق

- ‌فصل في معجزات الأنبياء التي هي آياتهم وبراهينهم

- ‌فصل في آيات الأنبياء وبراهينهم

- ‌فصل في أن الرسول لا بُدّ أن يبيّن أصول الدين

- ‌فصل عدل الله وحكمته وتعليل أفعاله

- ‌فصل طريقة الأشاعرة في إثبات المعجزات

- ‌فصل تعريف المعجزة عند الأشاعرة

- ‌فصل قول الأشاعرة في المعجزات

- ‌فصل كلام الباقلاني في المعجزات ومناقشة شيخ الإسلام له

- ‌فصل الفروق بين آيات الأنبياء وغيرها

- ‌فصل ما يخالف الكتاب والسنة فهو باطل

الفصل: ‌فصل في آيات الأنبياء وبراهينهم

‌فصل في آيات الأنبياء وبراهينهم

معنى آيات الأنبياء

[و] 1 هي الأدلة والعلامات المستلزمة لصدقهم.

الدليل مستلزم للمدلول

والدليل لا يكون إلَاّ مستلزما للمدلول عليه مختصاً به، لا يكون مشتركاً بينه وبين غيره؛ فإنّه يلزم من تحقّقه تحقّق المدلول. وإذا [انتفى] 2 المدلول انتفى هو؛ فما يوجد مع وجود الشيء، ومع عدمه، لا يكون دليلاً عليه، بل الدليل ما لا يكون إلَاّ مع وجوده. فما وُجد مع النبوّة تارةً، ومع عدم النبوّة تارةً، لم يكن دليلاً على النبوّة، بل دليلها ما يلزم من وجوده وجودها.

اضطراب الناس في دليل النبوة

وهنا اضطرب الناس، فقيل: دليلُها جنسٌ يختصّ بها، وهو الخارق للعادة. فلا يجوز وجوده لغير نبيّ؛ لا ساحر، ولا كاهن، ولا وليّ3؛ كما

1 ما بين المعقوفتين ليس في ((خ)) ، وهو في ((م)) ، و ((ط)) .

2 في ((خ)) : انتفاء. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

3 الوَلِيّ: بمعنى مفعول في حق المطيع. فيقال: المؤمن ولي الله. المصباح المنير 673.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "والولاية ضدّ العداوة. وأصل الولاية: المحبة، والقرب. وأصل العداوة: البُغض والبُعد. وقد قيل: إنّ الوليّ سُمّي وليّاً من موالاته للطاعات؛ أي متابعته لها. والأول أصحّ.

والوليّ: القريب.... فإذا كان وليّ الله هو الموافق، المتابع له فيما يُحبّه ويرضاه، ويُبغضه ويُسخطه، ويأمر به وينهى عنه، كان المعادي لوليه معادياً له

". الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص 9-10.

ص: 213

يقول ذلك من يقوله من المعتزلة1، [وغيرهم] 2؛ كابن حزم3، وغيره.

قول الأشاعرة

وقيل: بل الدليل هو الخارق للعادة، بشرط الاحتجاج به على النبوّة، والتحدّي بمثله. وهذا منتفٍ في السحر، والكرامة؛ كما يقول ذلك من يقوله من متكلمي أهل الإثبات4؛ كالقاضيَيْن أبي بكر5، وأبي يعلى6، وغيرهما.

البيان: كتاب الباقلاني

وقد بسط القاضي أبو بكر7 الكلام في ذلك، في كتابه المصنّف8 في الفرق بين المعجزات، والكرامات، والحيل، والكهانات، والسحر، والنيرنجيات9.

1 انظر المغني في أبواب التوحيد والعدل للقاضي عبد الجبار 15/189.

2 ما بين المعقوفتين ليس في ((خ)) . وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

3 انظر المحلى لابن حزم 1/36.

4 يعني الأشاعرة.

وانظر قولهم في المعجزة، في: أصول الدين للبغدادي ص 175، 185. والإرشاد للجويني ص 307-315. والمواقف في علم الكلام للإيجي ص 339. وشرح المقاصد للتفتازاني 5/11.

5 الباقلاني. سبقت ترجمته. وانظر كلامه في كتابه البيان ص 19-20، 46-49. وانظر: الإرشاد للجويني ص 312-313. وأصول الدين للبغدادي ص 170-171. والمواقف للإيجي ص 339-340.

6 سبقت ترجمته.

7 الباقلاني.

8 طبع هذا الكتاب أول مرة، ونشره الأب رتشرد يوسف مكارثي اليسوعي عام 1958، في المكتبة الشرقية ببيروت.

9 النِيرَنْج - بالكسر: أخذ كالسحر، وليس به، وإنما هو تشبيه، وتلبيس.

انظر: اللسان 2/376. والقاموس المحيط ص 265.

ص: 214

سبب الغلط عند المعتزلة والأشاعرة في دليل النبوة..

وهؤلاء [وهؤلاء] 1 جعلوا مجرّد كونه خارقاً للعادة هو الوصف المعتبر.

وفرقٌ بين أن يقال: لا بدّ أن يكون خارقاً للعادة، وبين أن يقال: كونه خارقاً للعادة هو المؤثّر؛ فإنّ الأول يجعله شرطاً لا موجباً، والثاني يجعله موجباً.

وفرقٌ بين أن يقال: العلم، والبيان، وقراءة القرآن، لا يكون إلَاّ من حيّ، وبين أن يقال: كونه حيّاً يُوجب أن يكون عالماً قارئاً.

ومن هنا دخل الغلط على هؤلاء.

ليس في الكتاب والسنة لفظ المعجزة وخرق العادة

وليس في الكتاب والسنة تعليق الحكم بهذا الوصف، بل ولا ذكر خرق العادة، ولا لفظ المعجز، وإنّما فيه آيات وبراهين2، وذلك يوجب اختصاصها بالأنبياء.

1 ما بين المعقوفتين ساقطٌ من ((م)) ، و ((ط)) .

2 قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (وهذه الألفاظ إذا سمّيت بها آيات الأنبياء كانت أدلّ على المقصود من لفظ المعجزات. ولهذا لم يكن لفظ (المعجزات) موجوداً في الكتاب والسنة، وإنما فيه لفظ (الآية) ، و (البينة)، و (البرهان) ؛ كما قال تعالى في قصة موسى عليه السلام:{فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ..} . [سورة القصص 32] في العصا، واليد. وقال تعالى في حق محمد صلى الله عليه وسلم:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً} . [سورة النساء، آية 174] .....) .

ثمّ ذكر رحمه الله الآيات القرآنية الدالّة على أنّ الآيات النبوية تُسمّى براهين، ثمّ قال رحمه الله:(وأما لفظ الآيات فكثير في القرآن)

ثمّ استشهد بآيات كثيرة، منها قوله:{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} . [سورة الإسراء، آية 101]

انظر الجواب الصحيح لمن بدّل دين المسيح 5/412-419. وانظر قاعدة في المعجزات والكرامات لشيخ الإسلام رحمه الله ص 7.

ص: 215

شرط المعجزة عند الأشاعرة

وأيضاً: فقالوا في شرطها: أن لا يقدر عليها إلا الله، لا [تكون] 1 مقدورة للملائكة، ولا للجنّ، ولا للإنس؛ بأن يكون جنسها ممّا لا يقدر عليه إلا الله2؛ كإحياء الموتى، وقلب العصا حية.

وإذا كانت من أفعال العباد لكنها خارقة للعادة؛ مثل حمل الجبال، والقفز من المشرق إلى المغرب، والكلام المخلوق الذي يقدر على مثله البشر، ففيه لهم قولان:

أحدهما: أنّ ذلك يصح أن يكون معجزة.

والثاني: أن المعجزة إنّما هي إقدار المخلوق على ذلك؛ بأن [يخلق] 3 فيه قدرة [خارجة] 4 عن قدرته المعتادة5.

مناقشة الباقلاني في تعريف المعجزة

وهذا اختيار القاضي أبي بكر6، ومن اتبعه؛ كالقاضي [أبي يعلى]7.

1 في ((خ)) : يكون. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

2 انظر: البيان للباقلاني ص 8، 19، 57.

3 في ((خ)) : خلق. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

4 في ((خ)) : خارقة. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

5 وقال عبد القاهر البغدادي - من الأشاعرة -: "قال أصحابنا: أكثر المعجزات من أفعال الله تعالى لا يقدر على جنسها غيره؛ كإحياء الأموات، وإبراء الأكمه، والأبرص، وقلب العصا حية، وفلق البحر، وإمساك الماء في الهواء، وتشقق القمر، وإنطاق الحصى، وإخراج الماء من بين الأصابع، ونحو ذلك. ومنها ما هو خلق لله اختراعاً وكسباً لصاحب المعجزة؛ كإقداره إنساناً على الطفر إلى السماء، وعلى قطع المسافة البعيدة في الساعة القصيرة، وعلى إطلاق لسان الأعجمي بالعربية، ونحو ذلك، مما لم يجر العادة به". أصول الدين للبغدادي ص 176-177. وانظر: شرح المقاصد للتفتازاني 5/17. والإرشاد للجويني ص 308-309.

6 الباقلاني. انظر: كتابه البيان ص 14-15، 20، 23، 34.

7 ما بين المعقوفتين ساقط من ((خ)) ، وهو في ((م)) ، و ((ط)) .

ص: 216

وظنوا أن هذا يوجب طرد قولهم أنّها لا تكون مقدورة لغير الله، بخلاف القول الأول؛ فإنه تقع فيه شبهة إذ كان الجنس معتادا. وإنّما الخارق هو الكثير الخارج عن العادة.

الفرق بين المعجزة وغيرها عند الأشاعرة

وهذا الفرق الذي ذكره ضعيفٌ، فإنّه إذا كان قادراً على اليسير، فَخَرَقَ العادة في قدرته، حتى جعله قادراً على الكثير، فجنس القدرة معتاد مثل جنس المقدور، وإنّما خُرقت العادة بقدرة خارجة عن العادة؛ كما خرقت بفعل خارج عن القدرة. وعنده أنّ خلقَ القدرة خلقٌ لمقدورها، والقدرة عنده مع الفعل، فلا فرق.

وهذا القول، وهو: أنّ المعجزة لا تكون إلَاّ مقدورة للرب، لا للعباد: قولُ كثيرٍ من أهل الكلام؛ من القدرية1، والمثبتة للقدر، وغيرهم.

دليل الأشاعرة علىامتناع أن تكون هذه الخوارق لغير الله

ثمّ إنّهم لمّا طُولبوا بالدليل على أنّه لا يجوز أن تقدر العباد على مثل: إبراء الأكمه، والأبرص، وإحياء الموتى، ونحو ذلك مما ذكروا أنّه يمتنع أن يكون مقدوراً لغير الله، اعتمدوا في الدلالة على (أنّ القابل للشيء لا يخلو عنه وعن ضده) ، فلو جاز أن يكون العبد قادراً على هذه الأمور، لوجب أن لا يخلو من ذلك ومن ضده؛ وهو العجز، أو القدرة على ضدّ

1 القدرية من الألفاظ المشتركة. فالقدرية النفاة هم الذين ينفون الإرادة عن الله تعالى، ويقولون بأنّ العبد يخلق فعل نفسه. وهذا المعروف من معتقد المعتزلة في القدر.

والقدرية المثبتة الذين يجعلون العبد مجبوراً على أفعاله.

قال شارح الطحاوية: "وسمّوا قدرية لإنكارهم القدر. وكذلك تسمى الجبرية المحتجون بالقدر قدرية أيضاً، والتسمية على الطائفة الأولى أغلب". شرح الطحاوية ص 79.

وقد قسّم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله القدرية إلى ثلاثة أصناف:

1-

القدرية المشركية. 2- والقدرية المجوسية. 3- والقدرية الإبليسيّة.

انظر: مجموع الفتاوى 8/256-261.

ص: 217

ذلك الفعل؛ كما يقولونه في فعل العبد:

المعجزات عند الأشاعرة هي ما تعجز قدرات العباد عنها

إنّه إذا لم يقدر على الفعل، فلا بُدّ أن يكون عاجزاً، أو قادراً على ضدّه.

هذا احتجاج من يقول القدرة مع الفعل1، والقدرة عنده لا تصلح للضدّين؛ كالأشعرية، فيقول: لا يخلو من القدرة، أو العجز، فهذه مقدمة.

والمقدمة الثانية: ونحن لا نحسّ من أنفسنا عجزاً عن إبراء الأكمه، والأبرص، وإحياء الموتى، ونحو هذه الأمور، لكنّا غير قادرين عليها، ولا يجوز أن نقدر عليها. وهؤلاء يقولون: لا يكون الشيء عاجزاً إلَاّ عمّا يصحّ أن يكون قادراً عليه، [بخلاف ما لا يصحّ أن يكون قادراً عليه] 2، فلا يصحّ أن يكون عاجزاً عنه. ولهذا قالوا: لا ينبغي أن تُسمّى هذه معجزات؛ لأنّ ذلك يقتضي أنّ الله أعجز العباد عنها، وإنما يعجز العباد عما يصحّ قدرتهم عليه. هذا3 كلام القاضي أبي بكر، ومن وافقه4.

رد شيخ الإسلام عليهم

وكلا المقدمتين دعوى مجردة لم يقم على واحدة منها حجة. فكيف يجوز أن يكون الفرق بين المعجزة وغيرها مبنيّاً على مثل هذا الكلام الذي

1 هذا قول الأشاعرة. انظر: التمهيد للباقلاني ص 46. والإرشاد للجويني ص 219-220.

ويقصد شيخ الإسلام رحمه الله بهذا الكلام أن يُبيّن أنّهم يقولون: القدرة تكون مع الفعل، لا كما يقوله أهل السنة والجماعة: أنّ القدرة تكون قبل الفعل، ومع الفعل. انظر: درء تعارض العقل والنقل 1/60-62،، 9/241-242. ومجموع الفتاوى 8/129-130، 290-292، 371-376، 10/32، 18/172-173. وشرح الطحاوية ص 45.

2 ما بين المعقوفتين ساقط من ((خ)) ، وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

3 في ((ط)) فقط: وهذا.

4 انظر: البيان للباقلاني ص 8-12.

ص: 218

ينازعه فيه أكثر العقلاء، ولو كان صحيحاً لم يفهم إلا بكلفة، ولا يفهمه إلا قليلٌ من الناس. فكيف إذا كان باطلاً.

والذين آمنوا بالرسل لِمَا رأوه، وسمعوه من الآيات، لم يتكلموا بمثل هذا الفرق، بل ولا خطر بقلوبهم.

متأخروا الأشاعرة حذفوا القيد الذي وضعه المتقدمون

ولهذا لما رأى المتأخرون ضعف هذا الفرق؛ كأبي المعالي1، والرازي2، والآمدي3، وغيرهم حذفوا هذا القيد؛ وهو كون المعجزة مما ينفرد الباري بالقدرة عليها، وقالوا: كلّ حادثٍ، فهو مقدورٌ

1 هو عبد الملك بن عبد الله بن يوسف الجويني الشافعيّ، الملقّب إمام الحرمين. أعلم المتأخرين من أصحاب الشافعي. متفنّن في العلوم من الأصول والفروع. وألّف العقيدة النظامية على عقيدة أهل التفويض. ويعتبر من أعلام الأشاعرة كان مولده سنة 419 ?، وتوفي سنة 478 ?، ودفن بنيسابور.

انظر: البداية والنهاية 12/128. ووفيات الأعيان 3/167. وشذرات الذهب3/358، وموقف ابن تيمية من الأشاعرة: 2/602.

2 هو محمد بن عمر بن الحسن التيمي البكري الرازي، الإمام المفسّر. كان يُحسن الفارسية، وكان واعظاً بارعاً بها وبالعربية أيضاً. له كتاب ((مفاتيح الغيب)) في تفسير القرآن الكريم. وله مؤلفات عديدة. وهو من علماء الأشاعرة، وممن خلطوا الكلام بالفلسفة، وُلد في الريّ سنة 544?، وتوفي في وهران سنة 606 ?.

انظر: وفيات الأعيان 4/2488. وشذرات الذهب 5/21. والأعلام 7/203، وموقف شيخ الإسلام ابن تيمية من الأشاعرة: 2/662.

3 هو أبو الحسن علي بن أبي علي بن محمد بن سلم التغلبي. الفقيه الأصولي، الملقب سيف الدين. كان حنبلياً، ثمّ صار شافعياً. ويعتبر من علماء الأشاعرة، وممن خلطوا الكلام بالفلسفة، له نحو من عشرين مؤلفاً. قال عنه ابن كثير: كان حسن الأخلاق، سليم الصدر، كثير البكاء، تكلموا فيه بأشياء، الله أعلم بصحتها، والذي يغلب على الظنّ أنّه ليس لغالبها صحة. وُلد سنة 551?، ومات سنة 631 ?.

انظر: وفيات الأعيان 3/293. والبداية والنهاية 13/140. وشذرات الذهب 5/144. ومعجم المؤلفين 7/155، وموقف شيخ الإسلام من الأشاعرة: 2/679.

ص: 219

للربّ1، وأفعال العباد هي أيضاً مقدورة للرب، وهو خالقها، والعبد ليس خالقاً لفعله؛ فالاعتبار بكونها خارقة للعادة قد استدلّ بها على النبوّة، وتحدّى بمثلها، فلم يمكن أحداً معارضة هذه القيود الثلاثة، وحذفوا ذلك القيد.

كلام الباقلاني في الفرق بين المعجز والسحر

وزعم القاضي أبو بكر أنّ ما يُستدلّ به على أنّ المعجزات يمتنع دخولها تحت قدر العباد لا يصحّ على أصول القدرية. وبَسَطَ القول في ذلك بكلام يصح بعضه دون بعض؛ كعادته في أمثال ذلك2، ثمّ جعل هذا الفرق: هو الفرق بين المعجزات، وبين السحر، والحيل؛ فقال: وأمّا على قولنا إن المعجز لا يكون إلا من مقدورات القديم، ومّما يستحيل دخوله، ودخول مثله تحت قدر العباد، فإذا كان كذلك، استحال أن يفعل أحدٌ من الخلق شيئاً من معجزات الرسل، أو ما هو من جنسها؛ لأنّ المحتال إنّما يحتال ويفعل ما يصح دخوله تحت قدرته، دون ما يستحيل كونه مقدورا له3.

قال: "وأمّا4 القائلون بأنّه يجوز5 أن يكون في6 معجزات الرسل ما يدخل جنسه تحت قُدَرِ العباد، وإن لم يقدروا على كثيره، وما يخرق العادة منه، فإنّهم7 يقولون: قد علمنا أنه لا حيلة ولا شيء من8 السحر يمكن

1 انظر: الإرشاد للجويني ص 319، 322.

2 انظر: البيان للباقلاني ص 66-70.

3 انظر: البيان للباقلاني ص 72-73.

4 في البيان: فأما.

5 في البيان: قد يجوز.

6 في البيان: من.

7 في البيان: فإنهم أيضاً.

8 في البيان: في.

ص: 220

أن يتوصل به الساحر، والمشعبذ1 إلى فعل الصعود في2 السماء، [والطَفَرِ] 3 من المشرق إلى المغرب4. [وقَفْزُ] 5 الفراسخ الكثيرة، والمشي على الماء، وحمل الجبال الراسيات: هذا6 أمرٌ لا يتم بحيلة محتال ولا [سحر] 7 ساحر8"9.

وتكلّم على إبطال قول من قال: إنّ السحر لا يكون إلا تخييلاً، لا حقيقة له، وذكر أقوال العلماء [والآثار عن الصحابة بأنّ السّاحر يُقتل بسحره10،

1 الشعبذة، والشعوذة: اللعب بخفة. يرى الإنسان منه الشيء بغير ما عليه أصله في رأي العين؛ أي يرى ما ليس له حقيقة. والمشعبذ هو المشعوذ.

انظر: لسان العرب 3/495. والمصباح المنير1/314. والقاموس المحيط ص 427.

2 في البيان: إلى.

3 في ((م)) ، و ((ط)) : ولا قفز.

والطفر: هو القفز، والوثوب في ارتفاع. وعُرف بين المتكلمين: النظرية التي تُخالف العقل، والتي اشتهر بها النظّام، فيُقال: طفرة النظام. انظر القاموس المحيط ص 5.

وسيأتي معنى الطفرة عند النظام.

4 في البيان: من الشرق إلى الغرب.

5 في ((م)) ، و ((ط)) : ولا طفر.

6 في البيان: هذا زعموا.

7 ما بين المعقوفتين ليس في ((خ)) ، وهو في ((م)) ، و ((ط)) .

8 في البيان: لا يتمّ بحيلة ساحر ولا محتال.

9 البيان للباقلاني ص 73.

10 ومن آثار الصحابة الدالّة على قتل الساحر:

1- قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه قبل موته بسنة: ((اقتلوا كلّ ساحر)) . قال الراوي: فقتلنا في يوم واحدٍ ثلاث سواحر.

أخرجه أبو داود 3/431-432، وقال عنه الشيخ سليمان بن عبد الله آل الشيخ: إسناده حسن. انظر تيسير العزيز الحميد ص 391-392.

2-

وما رواه الإمام مالك من أنّ حفصة زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم قتلت جارية لها سحرتها، وقد كانت دبرتها، فأمرت بها فقتلت. موطأ مالك 2/871.

3-

وما رواه البخاري في تاريخه الكبير: "كان عند الوليد رجل يلعب، فذبح إنساناً وأبان رأسه، فجاء جندب الأزدي فقتله". التاريخ الكبير للبخاري، القسم الثاني من الجزء الأول، ص 222.

وانظر: هذه الآثار في أضواء البيان 4/461.

ص: 221

وقولٌ] 1 أنّه يُقتل حدّاً عند أكثرهم، وقصاصاً عند بعضهم2. [ثمّ قال3

1 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) .

2 انظر: البيان للباقلاني ص 74-87.

وقد اتفق الأئمة الأربعة على قتل الساحر كفراً إذا تضمّن سحره الكفر.

أما إن قتل بسحره إنساناً، ولم يكن سحره متضمناً الكفر، فإنه يُقتل عند مالك، والشافعيّ، وأحمد رحمهم الله. أما أبو حنيفة رحمه الله فقال:"لا يُقتل حتى يتكرّر منه ذلك، أو يقرّ بذلك في حقّ شخص معيّن".

وإذا قتل، فإنه يقتل حداً عندهم، إلا الشافعيّ، فإنّه قال: يُقتل والحالة هذه قصاصاً.

أما هل يقتل الساحر بمجرد فعله السحر، واستعماله، فقال مالك، وأبو حنيفة، ورواية عن أحمد: يقتل.

وقال الشافعيّ: "الساحر إذا كان يعمل في سحره، ما يبلغ به الكفر، يُقتل. فإذا عمل عملاً دون الكفر لم نر عليه قتلاً". وهو رواية عن أحمد.

انظر: المغني 12/302. وفتح الباري 10/247. وتيسير العزيز الحميد ص 391. وتفسير القرآن العظيم 1/147. وشرح النووي على صحيح مسلم 14/176. وتفسير القرطبي 2/23. وأضواء البيان 4/456-457.

3 أي الباقلاني. قال هذا في البيان ص 93.

ص: 222

[ثم قال1:

فصل القول في الفصل بين المعجز والسحر] 2.

وهو لم يفرق بين الجنسين، بل يجوز أن يكون ما هو معجزةٌ للرسول يظهر على يد الساحر. لكن قال: الفرق: هو (تحدّي الرسول3 بالإتيان بمثله، وتقريع مخالفه، بتعذر [مثله] 4 عليه، فمتى وجد الذي5 ينفرد الله بالقدرة عليه6، من غير تحدٍّ منه7، واحتجاج لنبوته بظهوره، لم يكن معجزاً. وإذا كان8 كذلك، خرج السحر عن أن يكون معجزاً ومشبهاً لآيات الأنبياء9، [و] 10 كان11 ما يظهر عند فعل الساحر، من جنس

1 أي: الباقلاني. قال هذا في البيان ص 93.

2 ما بين المعقوفتين في ((ط)) فقط هكذا: (باب القول في الفصل بين المعجز والسحر. ثمّ قال) . وهو مخالف لما في ((خ)) ، و ((م)) .

3 في البيان: عليه السلام.

4 في ((خ)) : مثلثه. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

5 في البيان: وجد الشيء الذي.

6 في البيان زيادة: على حدّ العادة.

7 في البيان: على غير تحدي نبيّ به.

8 في البيان: كان ذلك.

9 في البيان: الرسل.

10 في ((خ)) : ولو. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

11 في البيان: وإن كان.

ص: 225

بعض معجزات الرسل، وما يفعله الله1 عند تحديهم به.

غير أنّ الساحر إذا احتج بالسحر، وادعى به النبوة، أبطله الله بوجهين) 2:

أحدهما: أن ينسيه عمل السحر، أو لا يفعل عند سحره شيئاً في المسحور؛ من موتٍ، أو سقم، أو بغض، ولم يخلق فيه الصعود إلى جهة العلو، والقدرة على الدخول في بقرة. فإذا منعه هذه الأسباب بطل السحر3.

والثاني: [أنّ الساحر] 4 تمكن معارضته؛ فإن أبواب السحر معلومة عند السحرة. فإذا تحدى ساحر بشيء يفعل عند سحره، لم يلبث أن يجد خلقاً من السحرة يفعلون مثل فعله، ويعارضونه بأدقّ وأبلغ ممّا أورده5

"والرسول6 إذا ظهر عليه مثل ذلك، وادعاه آية له، قال لهم: هذا آيتي وحجتي، ودليل ذلك: أنّكم لا تقدرون على مثله، ولا يفعله الله7 في وقتي هذا، ومع تحدّيّ8 ومطالبتي بمثله عند سحر ساحر، وفعل كاهن.

1 في البيان: تعالى.

2 البيان للباقلاني ص 94.

3 انظر: البيان للباقلاني ص 94-95.

4 ما بين المعقوفتين ملحق في ((خ)) بين السطرين.

5 انظر: البيان للباقلاني ص 95.

6 في البيان: عليه السلام.

7 في البيان: سبحانه.

8 قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "والتحدي هو أن يحدوهم؛ أي يدعوهم، فيبعثهم إلى أن يُعارضوه، فيُقال فيه: حداني على هذا الأمر؛ أي بعثني عليه. ومنه سمّي حادي العيس؛ لأنه بحداه يبعثها على السير.

وقد يُريد بعض الناس بالتحدي دعوى النبوة، ولكنه أصله الأول. قال تعالى في سورة الطور:{فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} ". [سورة الطور، الآيتان 34-35]

) . الجواب الصحيح 5/422-423.

ص: 226

وقد كان1 يظهر من سحرتكم وكهانكم، وهي آية لا تظهر2 اليوم على أحد من الخلق، وإن دقّ سحره، وعظم في الكهانة3 علمه. فإذا ظهر ذلك عليه، وامتنع ظهور مثله على يد ساحرٍ أو كاهن، مع أنّه قد كان يظهر4 من قبل، صار هذا5 [خرقاً] 6 عادة البشر، وعادة السحرة والكهنة7 خاصّة" 8.

قال: ولم يبعد أن يقال: هذه الآية أعظم من غيرها، وأنّ لها فضل مزية9. ذكر هذا بعد أن قال: فإن قال قائل: فإذا أجزتم أن يكون من عمل السحر ما يفعل الله عنده سقم الصحيح وموته، ويفعل عنده بغض المحب وحب المبغض، وبغض الوطن والردّ إليه من السفر، وضيق الصدر والعجز عن الوطء بالربط والشدّ الذي [يعمله] 10 السحرة، والصعود في جهة العلو على خيط أو بعض [الآلة]11. [فما] 12 الفصل بين هذا، وبين معجزات الرسل؟ وكيف ينفصل - مع ذلك - المعجزات من السحر؟ ويمكن

1 في البيان: كان مثل هذا.

2 في البيان: وآيتي أنه لا يظهر اليوم.

3 في البيان: في النهاية.

4 في البيان: يظهر ذلك.

5 في البيان: ذلك.

6 كذا في البيان للباقلاني. وهي في جميع النسخ: خرقٌ.

7 في البيان: عادة الكهنة والسحرة - تقديم وتأخير.

8 البيان للباقلاني ص 95-96.

9 انظر: البيان للباقلاني ص 95-96.

10 في ((م)) ، و ((ط)) : يعلمه.

11 في ((م)) ، و ((ط)) : الآلات.

12 في ((م)) ، و ((ط)) : في.

ص: 227

الفرق بين النبي والساحر؟؛ أوليس لو قال نبي مبعوث: إنّي أصعد على هذا الخيط نحو السماء، وأدخل جوف هذه البقرة وأخرج، وإني أفعل فعلاً أفرّق به بين المرء وزوجه، وأفعل فعلاً أقتل به هذا الحي وأسقم هذا الصحيح. فهل كان يكون ذلك لو ظهر على يده آية ودليلاً على صدقه؟ [فما] 1 الفصل إذاً بين السحر والمعجز2.

كلام الباقلاني في الفرق بين المعجزة والسحر هو عمدة الأشاعرة

ثم قال في الجواب: يُقال له: جواب هذا قريبٌ، وذلك أنّا قد بيّنا في صدر هذا الكتاب3 أنّ من حق [المعجز أن] 4 لا يكون معجزاً، حتى يكون واقعاً من فعل الله على وجه خرق عادة البشر، مع تحدي الرسول بالإتيان

إلى آخر ما كتب5.

قلت: هذا عمدة القوم، ولهذا طعن الناس في طريقهم، وشنع عليهم ابن حزم6 وغيره.

مناقشة شيخ الإسلام لكلام الباقلاني في الفرق بين المعجزة والسحر

وذلك أن هذا الكلام مستدرك من وجوه:

أحدها: أنّه إذا جوز أن يكون ما ينفرد الرب بالقدرة عليه على قوله: يأتي به النبيّ تارة، والساحر تارة، ولا فرق بينهما إلا دعوى النبوّة، والاستدلال به، والتحدي بالمثل، فلا حاجة إلى كونه مما انفرد الباري

1 في ((م)) ، و ((ط)) : وما.

2 انظر: البيان للباقلاني ص 93-94.

3 يشير الباقلاني إلى أول كتابه ((البيان)) .

4 في ((م)) ، و ((ط)) : المعجزات.

5 انظر: البيان للباقلاني ص 94.

6 انظر بعض كتب ابن حزم؛ مثل: كتاب الدرة فيما يجب اعتقاده ص 195-197. والأصول والفروع 2/132-134. وكتاب الفصل في الملل والأهواء والنحل 5/2-9. والمحلى 1/36.

ص: 228

بالقدرة عليه، لا سيما وقد ظهر ضعف الفرق بين ما يمتنع قدرة العباد عليه، وما لا يمتنع. ولهذا أعرض المتأخرون عن هذا القيد1.

لا تكون المعجزة عند الأشاعرة إلا إذا استدل بها واقترن بها دعوى نبوة..

والوجه الثاني: وبه تنكشف حقيقة طريقهم أنه على هذا لم [تتميز] 2 المعجزات بوصف تختص به، وإنما امتازت باقترانها [بدعوى] 3 النبوة. وهذا حقيقة قولهم، وقد صرّحوا به4.

فالدليل والبرهان إن استدلّ به كان دليلاً، وإن لم يستدلّ به لم يكن دليلاً، وإن اقترنت به الدعوى، كان دليلاً، وإن لم تقترن به الدعوى، لم يكن دليلا عندهم. ولهذا لم يجعلوا دلالة المعجز دلالة عقلية، بل دلالة وضعية5؛ كدلالة الألفاظ بالاصطلاح.

1 قال شيخ الإسلام - فيما سبق من هذا الكتاب -: "ولهذا لما رأى المتأخرون ضعف هذا الفرق؛ كأبي المعالي، والرازي، والآمدي، وغيرهم، حذفوا هذا القيد، وهو كون المعجزة مما ينفرد الباري بالقدرة عليها. وقالوا: كلّ حادث فهو مقدور للربّ، وأفعال العباد هي أيضاً مقدورة للرب". انظر ص 194.

2 في ((خ)) : يتميز. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

3 في ((م)) ، و ((ط)) : بدعوة.

4 انظر: شرح المقاصد ص 11. والمواقف للإيجي ص 339. والإرشاد للجويني ص 307-315. وأصول الدين للبغدادي ص 170-171.

5 الدلالة اللفظية الوضعية: هي كون اللفظ بحيث متى أُطلق، أو تُخيّل، فُهم منه معناه للعلم بوضعه. وهي المنقسمة إلى المطابقة، والتضمن، والالتزام. لأنّ اللفظ الدالّ بالوضع يدلّ على تمام ما وضع له بالمطابقة، وعلى جزئه بالتضمّن، وعلى ما يلازمه في الذهن بالالتزام؛ كالإنسان؛ فإنّه يدلّ على تمام الحيوان الناطق بالمطابقة، وعلى جزئه بالتضمّن، وعلى قابل العلم بالالتزام.

انظر: التعريفات للجرجاني ص 140. وانظر: الإرشاد للمفيد ص 324.

ص: 229

وهذا مستدرك من وجوه:

رد شيخ الإسلام عليهم من تسعة وجوه..

منها: أنّ كون آيات الأنبياء مساوية في الحدّ1 والحقيقة [لسحر] 2 السحرة، أمرٌ معلوم الفساد بالاضطرار من دين الرسل.

الثاني: أنّ هذا من أعظم القدح في الأنبياء، [إذ] 3 كانت آياتهم من جنس سحر السحرة، وكهانة الكهان.

الثالث: أنّه على هذا التقدير لا [يبقى] 4 دلالة؛ فإنّ الدليل ما يستلزم المدلول، ويختصّ به. فإذا كان مشتركاً بينه وبين غيره، لم يبق دليلاً. فهؤلاء قدحوا في آيات الأنبياء، ولم يذكروا دليلاً على صدقهم.

الرابع: أنه على هذا التقدير يمكن الساحر دعوى النبوة. وقوله: أنه عند ذلك يسلبه الله القدرة على السحر، أو يأتي بمن يعارضه5: دعوى مجردة؛ فإنّ المنازع يقول: [لا نسلم] 6 أنه إذا ادعى النبوة فلا بدّ أن يفعل الله ذلك، لا سيما على أصله؛ وهو: أنّ الله يجوز أن يفعل كل مقدور7، وهذا مقدور للرب فيجوز أن يفعله. وادعى أن ما يخرق العادة من الأمور

1 الحدّ: قول دالّ على ماهية الشيء. التعريفات ص 112.

2 في ((م)) ، و ((ط)) : بسحر.

3 في ((م)) ، و ((ط)) : إذا.

4 في ((م)) ، و ((ط)) : تبقى.

5 انظر البيان للباقلاني ص 94-95.

6 في ((خ)) : يسلم. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

7 انظر: البيان للباقلاني ص81-82، 88-90. والتمهيد للباقلاني ص 317-322، 385-386. والإرشاد للجويني ص 319، 322، 326. والاقتصاد للغزالي ص 116-118. وقواعد العقائد له ص 61. والمواقف للإيجي ص 328-331.

ص: 230

الطبيعية، والطلسمات1، هي كالسحر.

فقال: ولأجل ذلك لم تلتبس آيات الرسل بما يظهر من جذب حجر المغناطيس2، وما يوجد ويكون عند كتب الطلسمات3. قال: وذلك أنّه لو ابتدأ نبيّ بإظهار حجر المغناطيس، لوجب أن يكون ذلك آية له. ولو أنّ أحداً أخذ هذا الحجر، وخرج إلى بعض البلاد، وادّعى أنّه آية له عند من لم يره، ولم يسمع به، لوجب أن ينقضه الله عليه بوجهين.

أحدهما: أن يؤثر دواعي خلق من البشر إلى حمل جنس تلك الحجارة إلى ذلك البلد. وكذلك سبيل الزناد الذي يقدح النار، وتعرفه العرب4. وكذلك سبيل الطلسمات التي يقال أنها تنفي الذباب، والبقّ، والحيّات5.

1 الطلسم: لفظ يوناني. وهو في علم السحر خطوط وأعداد يزعم كاتبها أنه يربط بها روحانيات الكواكب العلوية بالطبائع السفلية، لجلب محبوب، أو دفع أذى.

انظر المعجم الوسيط / مادة طلسم 2/568.

2 حجر المغناطيس: هو حجر له خاصيّة جذب الحديد ومعادن أخرى؛ كالكوبالت، والكروم، والنيكل. وهذا الجسم يوجد بكثرة في بلاد السويد، والنورفيج، وأواسط تركيا. وإذا عُلّق المغناطيس تعليقاً حُرّاً فإنّه يأخذ اتجاهاً ثابتاً دائماً نحو الشمال.

انظر: الموسوعة العربية الميسرة 1726. ودائرة معارف القرن العشرين 9/282.

3 انظر البيان للباقلاني ص 70.

4 الزند: العود الذي يقدح به النار، وهو الأعلى. والزندة: السفلى، فيها ثقب، وهي الأنثى. فإذا اجتمعا قيل زندان، ولم يقل زندتان. انظر: الصحاح 2/481. والقاموس 364. والمصباح المنير 256.

5 قال ابن حزم رحمه الله: "وأما السحر فإنه ضروب، منه ما هو من قبل الكواكب؛ كالطابع المنقوش فيه صورة عقرب في وقت كون القمر في العقرب، فينفع إمساكه من لدغة العقرب. ومن هذا الباب كانت الطلسمات، وليست إحالة طبيعة، ولا قلب عين، ولكنها قوى ركبها الله عز وجل مدافعة لقوى أخر؛ كدفع الحرّ للبرد، ودفع البرد للحرّ؛ وكقتل القمر للدابة الدبرة إذا لاقى الدبرة ضوءه إذا كانت دبرتها مكشوفة للقمر. ولا يمكن دفع الطلسمات لأننا قد شاهدنا بأنفسنا آثارها ظاهرة إلى الآن من قرى لا تدخلها جرادة، ولا يقع فيه برد

". إلى أن قال: "ومنه ما يكون بالخاصة؛ كالحجر الجاذب للحديد، وما أشبه ذلك. ومنه ما يكون لطف يد..". الفصل في الملل والأهواء والنحل 5/4.

ص: 231

والوجه الآخر: أن لا يفعل الله عند ذلك ما كان يفعله من قبل1، فيقال: هذه دعوى مجردة.

ومما يوضح ذلك:

الباقلاني جعل حجر المغناطيس والطلسمات من جنس معجزات الأنبياء.. والرد عليه

الوجه الخامس: وهو أن جعل قدح الزناد، وجذب حجر المغناطيس، والطلسمات من جنس معجزات الأنبياء، وأنه لو بعث نبيّ ابتداء، وجعل ذلك آية له، جاز ذلك: غلطٌ عظيمٌ، وعدم علم بقدر معجزات الأنبياء وآياتهم. وهذا إنما أتاهم حيث جعلوا جنس الخارق هو الآية2؛ كما فعلت المعتزلة. وأولئك3 كذبوا بوجود ذلك لغير الأنبياء، وهؤلاء4 ما أمكنهم تكذيب ذلك؛ لدلالة الشرع، والأخبار المتواترة، والعيان على وجود حوادث [من هذا النوع] 5، فجعلوا [الفرق] 6 افتراق الدعوى، والاستدلال، والتحدي [دون الخارق]7. ومعلومٌ أن ما ليس بدليل

1 انظر البيان للباقلاني ص 98-100.

وقال بعد ذلك: "فلو ادّعى بعضها مدّع لوفّر الله سبحانه دواعي خلق من عباده العالمين بها على معارضة ذلك الرجل، وإظهار مثل قوله".

2 أي أنهم حصروا المعجزة في الخارق.

3 يقصد المعتزلة. انظر المغني في أبواب التوحيد والعدل 15/189.

4 يقصد الأشاعرة. انظر الإرشاد للجويني ص 319.

5 ما بين المعقوفتين ليس في ((خ)) ، وهو في ((م)) ، و ((ط)) .

6 في ((خ)) : الفراق. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

7 في ((خ)) : والخارق. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

ص: 232

لا يصير دليلاً بدعوى المستدلّ أنّه دليل.

الذين ادعوا النبوة ظهرت لهم خوارق ولم يعارضهم أحد

وقد بسط الكلام في ذلك، وجوز أن [تظهر] 1 المعجزات على يد كاذب2، إذا خلق الله مثلها على يد من يعارضه؛ فعمدته سلامتها من المعارضة بالمثل، مع أن المثل عنده موجود، وآيات الأنبياء لها أمثال كثيرة لغير الأنبياء، لكن يقول3 إنّ من ادّعى الإتيان؛ فإما أن لا يظهرها الله على يديه، وإما أن [يُقيّض] 4 من يعارضه بمثلها. هذا عمدة القوم، وليس فرقاً حقيقياً بين النبيّ والساحر، وإنّما هو مجرّد دعوى.

وهذا يظهر ب الوجه السادس: وهو أنّ من الناس من ادّعى النبوة5، وكان كاذباً، وظهرت على يده بعض هذه الخوارق، فلم يُمنع منها، ولم يعارضه أحدٌ، بل عُرف أنّ هذا الذي أتى به ليس من آيات الأنبياء، وعُرف كذبه بطرق متعددة؛ كما في قصة الأسود العنسي، ومسيلمة الكذاب، [والحارث] 6 الدمشقي، وبابا الرومي، وغير هؤلاء7 ممّن ادعى النبوة. فقولهم: إنّ الكذاب لا يأتي بمثل هذا الجنس، ليس كما ادعوه8.

1 في ((خ)) : يظهر. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

2 انظر: البيان للباقلاني ص47-48، 91، 94. والإرشاد للجويني ص319، 328.

3 انظر: البيان للباقلاني ص 94-97.

4 في ((ط)) فقط: يقبض.

5 مثل مسيلمة الكذاب.

6 في ((م)) ، و ((ط)) : والحارس.

7 وكلّ هؤلاء سبق التعريف بهم.

8 قال شيخ الإسلام في معرض الردّ عليهم في الجواب الصحيح: "أنت تُجوّز انتقاض العادة، وليس لانتقاضها عندك سبب تختصّ به، ولا حكمة انتقضت لأجلها، بل لا فرق عندك بين انتقاضها للأنبياء والأولياء والسحرة وغير ذلك. ولهذا قلتم: ليس بين معجزات الأنبياء، وبين كرامات الأولياء والسحرة فرق، إلا مجرّد اقتران دعوى النبوة والتحدي بالمعارضة، مع عدم المعارضة، مع أن التحدي بالمعارضة قد يقع من المشرك، بل ومن الساحر، فلم يثبتوا فرقاً يعود إلى جنس الخوارق المفعولة، ولا إلى قصد الفاعل والخالق، ولا قدرته، ولا حكمته". الجواب الصحيح 6/401.

ص: 233

الباقلاني منع من ظهور الخارق على يد الكذاب

الوجه السابع: أنه إنما أوجب أن لا يظهر الله الخوارق على يد الكذاب؛ لأنّ ذلك يُفضي إلى عجز الربّ. وهذه عمدة الأشعري في أظهر قولَيْه1، وهي المشهورة عند قدمائهم2، وهي التي سلكها القاضي أبو يعلى، ونحوه.

قال القاضي أبو بكر: فإن قال قائلٌ من القدرية3: [فلم] 4 لا يجوز أن يظهر المعجزات على يد مدّعي النبوّة ليُلبّس بذلك على العباد، ويضل به عن الدين، وأنتم تجوّزون خلقه الكفر في قلوب الكفار، وإضلالهم. [فما] 5 الفصل بين إضلالهم بهذا، وبين إضلالهم بإظهار المعجزات على يد الكاذبين؟

قال: فيُقال لمن سأل عن هذا من القدرية: الفصل بين الأمرين ظاهرٌ معلومٌ، وقد نصّ القرآن والأخبار بأنه يضلّ ويهدي6، ويختم على القلوب، والأسماع، والأبصار7.

1 انظر: المواقف في علم الكلام للإيجي ص 342.

2 انظر: الإرشاد للجويني ص 327. وانظر أيضاً الجواب الصحيح 6/397، 398.

3 انظر: شرح الأصول الخمسة لعبد الجبار ص 564، 571.

وذكر الجويني اعتراض المعتزلة هذا عليهم في الإرشاد ص 326.

4 في ((ط)) فقط: لم.

5 في ((م)) ، و ((ط)) : في.

6 قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ} . سورة الرعد، آية 27.

7 قال تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} . سورة البقرة، الآية 7.

ص: 234

فأما مطالبتهم بالفرق بين إضلال العباد بهذه الضروب1 من الأفعال، وبين إضلالهم بإظهار المعجزات على أيدي الكذابين؟ فجوابه: أنّا لم نحل إضلالهم بهذا الضرب لأنه إضلال عن الدين، أو لقبحه من الله لو وقع، أو لاستحقاقه الذمّ عليه - تعالى عن ذلك، أو لكونه ظالماً لهم بالتكليف مع هذا الفعل. كلّ ذلك باطلٌ محالٌ من تمويههم، وإنما أحلناه لأنه يُوجب عجز القديم عن تمييز الصادق من الكاذب.

وتعريفنا الفرق بين النبي والمتنبي من جهة الدليل؛ إذ لا دليل [بقول] 2 كلّ أحدٍ أثبت النبوة على نبوة الرسل وصدقهم، إلا [ظهوراً لأعلام] 3 المعجزة على أيديهم، أو خبرُ من ظهرت المعجزة على يده عن نبوّة آخرَ مُرسَلٍ. فهذا إجماع لا خلاف فيه؛ فلو أظهر الله على يد المتنبي الكاذب ذلك، لبطلت دلائل النبوة، وخرجت المعجزات عن كونها دلالة على صدق الرسول، ولوجب لذلك عجز القديم عن الدلالة على صدقهم.

ولمّا لم يجز عجزه، وارتفاع قدرته عن بعض المقدورات، لم يجز لذلك ظهور المعجزات على أيدي الكذابين، بخلاف خلق الكفر في قلوب الكافرين4.

متأخروا الأشاعرة سلكوا طريق الضرورة في معرفة صدق النبي

قلت: هذا عمدة القوم. والمتأخرون عرفوا ضعف هذا، فلم يسلكوه؛ كأبي المعالي5، والرازي، وغيرهما. بل سلكوا الجواب الآخر: وهو أنّ

1 الضرب: المثل. وضرب المثل: هو ذكر شيء أثره يظهر في غيره.

(انظر: القاموس المحيط ص 138. ومفردات ألفاظ القرآن ص 506) .

2 في ((م)) ، و ((ط)) : في قول.

3 في ((م)) ، و ((ط)) : ظهور أعلام.

4 هذا الكلام لا يوجد في القسم المطبوع من البيان. وهو ناقص من آخره.

5 انظر: الإرشاد للجويني ص 312، 325.

ص: 235

العلم بالصدق عند المعجز يحصل ضرورة، فهو علم ضروري1. [وبيّن] 2 ضعف هذا الجواب، مع أنه يُحتجّ به، وقال: فهذا هذا من وجوه:

أحدها: أن يقال: إن كان الأمر كما زعمتم، فإنما يلزم العجز إذا كان خلق الدليل الدالّ على صدقهم جنسه لا يدلّ، بل جنسه يقع مع عدم النبوّة، ولم يبق عندكم جنسٌ من الأدلة [يختصّ] 3 النبوة.

فلِمَ قلتم: إنّ تصديقهم والحال هذه ممكن؟

ولا ينفعكم هنا الاستدلال بالإجماع ونحوه من الأدلة السمعية؛ لأنّ كلامكم مع منكري النبوات. فيجب أن [تقيموا] 4 عليهم كون المعجزات دليلاً على صدق النبي.

وأما من أقر بنبوّتهم بطريقٍ غير طريقكم، فإنّه لا يحتاج إلى كلامكم. فإذا قال لكم منكروا النبوّة: لا نسلّم إمكان طريق يدل على صدقهم، لم يكن معكم ما يدلّ على ذلك.

وقد أورد هذا السؤال، وأجاب عنه: بأنّه يمكنه تصديقهم بالقول، والمعجزات تقوم مقام التصديق بالقول، بل التصديق بالفعل أوكد. وضرب المثل بمدّعي الوكالة، إذا قال: قُمْ، أو اقعد، ففعل ذلك عند استشهاد وكيله؛ فإنّ العقلاء كلّهم يعلمون أنّه أقام تلك الأفعال مقام القول.

قلت: وهذا يعود إلى الاحتجاج بالطريقة الثانية؛ وهي العلم بالتصديق ضرورة، فلا حاجة إلى طريقة المعجزات.

1 انظر: الإرشاد للجويني ص 312، 336.

2 في ((خ)) : وبيان. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

3 في ((م)) ، و ((ط)) : يخصّ.

4 في ((خ)) : يقيموا. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

ص: 236

الثاني: أنّه يُمكن أن يخلق علماً ضرورياً بصدقهم. وقد سلّم القاضي أبو بكر1 ذلك، لكن قال: إذا اضطررنا إلى العلم بصدق مدّعي النبوة، وأنّه أرسله إلينا، كان في ضمن هذا العلم اضطراره لنا إلى العلم بذاته، وإلى أنه قد أرسل مدعي النبوة. وإذا علمنا ذلك اضطراراً، لم يكن للتكليف بالعلم بصدقه وجهاً، وخرجنا بذلك عن أن نكون مكلفين [للعلم] 2 بالدين. وهذا كلامٌ يؤدي إلى خروجنا عن حدّ المحنة والتكليف.

فيُقال له: إذا حصل العلم الضروريّ بوجود الخالق [وبصدق] 3 رسوله، كان التكليف بالإقرار بالصانع، وعبادته وحده لا شريك له، وبتصديق رسله، وطاعة أمره. وهذا هو الذي أَمَرَتْ به الرسل؛ أَمَرَتْ الخلق أن يعبدوا الله وحده، وأن يُطيعوا رسله، ولم يأمروا جميع الخلق بأن يكتسبوا علماً نظرياً بوجود الخالق، وصدق رسله. لكن من جحد الحق أمروه بالإقرار به، وأقاموا الحجة عليه، وبيّنوا معاندته، وأنّه جاحدٌ للحقّ الذي يعرفه. وكذلك الرسول كانوا يعلمون أنّه صادق ويكذبونه. فليُتدبّر هذا الموضع؛ فإنه موضعٌ عظيم.

حكمة الله تمنع ظهور المعجزات على يد الكذاب

الوجه الثالث: أن يقال: نحن نُسلّم أنّ المعجزات تدلّ على الصدق، وأنّه لا يجوز إظهارها على يد الكاذب، لكن هو4 لأنّ الله [ميّزه] 5 عن ذلك، وأنّ حكمته تمنع ذلك، ولا يجوز عليه كلّ فعل ممكن، وأنتم مع

1 الباقلاني.

2 في ((م)) ، و ((ط)) : بالعلم.

3 في ((خ)) : وتصدق. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

4 كذا في ((خ)) ، و ((م)) ، و ((ط)) .

5 في ((م)) ، و ((ط)) : منزه.

ص: 237

تجويزكم عليه كلّ ممكن1، يلزمكم تجويز خلق المعجزة على يد الكاذب، فما علم بالعقل والإجماع من امتناع ظهورها على يد الكاذب يدل على فساد أصلكم.

الرد على من قال لا دليل على صدق الأنبياء إلا المعجزات

الوجه الرابع: أن يقال: لِمَ قلتم أنّه لا دليل على صدقهم إلا المعجزات2، وما ذكرتم من الإجماع على ذلك لا يصحّ الاستدلال به لوجهين:

أحدهما: أنه لا إجماع في ذلك، بل كثيٌر من الطوائف يقولون: إنّ صدقهم بغير المعجزات.

الثاني: إنّه لا يصحّ الاحتجاج بالإجماع في ذلك؛ فإنّ الإجماع إنّما يثبت بعد ثبوت النبوة، والمقدمات التي يُعلم بها النبوة لا يُحتج عليها بالإجماع، وقولكم: لا دليل سوى المعجز: مقدمة ممنوعة.

وذُكر عن الأشعري أنّه ذَكَرَ جواباً آخر، فقال: وأيضاً فإنّ قول القائل: ما أنكرتم من جواز إظهار المعجزات على أيدي الكذابين: قولٌ متناقضٌ، والله على كل شيء قدير. ولكن ما طالب السائل بإجازته محالٌ، لا تصحّ القدرة عليه، ولا العجز عنه؛ لأنّه بمنزلة كونه أظهر المعجزات على أيديهم؛ فإنّه أوجب أنهم صادقون؛ لأنّ المعجز دليلٌ على الصدق، ومتضمنٌ له.

وقوله: مع ذلك أنهم كاذبون: نقضٌ لقوله: أنهم صادقون قد ظهرت المعجزات على أيديهم. فوجب إحالة هذه المطالبة، وصار هذا بمثابة قول

1 انظر: البيان للباقلاني ص81-82، 88-90. والإرشاد للجويني ص319، 322، 326. وانظر ما سبق في هذا الكتاب ص 152-153،155، 268، 272-275.

2 انظر: البيان للباقلاني ص 38. والإرشاد للجويني ص 331.

ص: 238

من قال: ما أنكرتم من صحة1 ظهور الأفعال المحكمة الدالّة على علم فاعلها، والمتضمّنة لذلك من جهة الدليل، من الجاهل بها في أنّه قولٌ باطلٌ متناقضٌ، فيجب إذا كان الأمر كذلك استحالة ظهور المعجزات على يد الكاذبين، واستحالة ثبوت قدرة قادر عليه. وكيف يصح على هذا الجواب أن يقال: ما أنكرتم [وزعمتم أنّه] 2 من فعل المحال الذي لا يصحّ حدوثه، وتناول القدرة له [هو من قبيل الجائز] 3 قياساً على صحّة خلق الكفر، وضروب الضلال التي يصحّ حدوثها، وتناول القدرة لها.

من أصول الأشاعرة تجويزهم على الله فعل كل ممكن وعدم تنزيهه عن شيء.. ويلزمهم على ذلك خلق المعجزة على يد الكذاب

قلت: هذا كلامٌ صحيحٌ إذا عُلم أنّها دليل الصدق، يستحيل وجوده بدون الصدق، والممتنع غير مقدور، فيمتنع أن يظهر على أيدي الكاذبين ما يدل على صدقهم. لكن المطالب يقول: كيف يستقيم على أصلكم [أن يكون] 4 ذلك [دليل] 5 الصدق، وهو أمرٌ حادثٌ مقدور، وكلّ مقدور يصح عندكم أن يفعله الله، ولو كان فيه من الفساد ما كان؛ فإنّه عندكم لا ينزه عن فعل ممكن، ولا يقبح منه فعل؛ فحينئذ إذا خلق على يد الكاذب مثل هذه الخوارق، لم يكن ممتنعاً على أصلكم، وهي لا تدلّ على الصدق البتة على أصلكم، ويلزمكم إذا لم يكن دليل إلهي، ألَاّ يكون في المقدور دليلٌ على صدق مدعي النبوّة، فيلزم أنّ الربّ سبحانه لا يصدق أحداً ادّعى النبوّة6.

1 كذا في ((خ)) ، و ((م)) ، و ((ط)) .

2 ما بين المعقوفتين ليس في ((خ)) ، وهو في ((م)) ، و ((ط)) .

3 ما بين المعقوفتين ليس في ((خ)) ، وهو من ((م)) ، و ((ط)) .

4 في ((خ)) : لكن أن يكون. - بزيادة: لكن -. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

5 ما بين المعقوفتين ليس في ((خ)) ، وهو في ((م)) ، و ((ط)) .

6 انظر: الجواب الصحيح 6/393-401. وشرح الأصفهانية 2/621-624. وانظر أيضاً شرح الأصول الخمسة لعبد الجبار المعتزلي ص 571-572.

ص: 239

وإذا قلتم: هذا ممكنٌ، بل واقعٌ، ونحن نعلم صدق الصادق إذا ظهرت هذه الأعلام على يده ضرورةً1. قيل: فهذا يُوجب أنّ الربّ لا يجوز عليه إظهارها على يد كاذب. وهذا فعلٌ من الأفعال هو قادر عليه، وهو سبحانه لا يفعله، بل هو منزّه عنه. فأنتم بين أمرين: إن قلتم: لا يمكنه خلقها على يد الكاذب وكان ظهورها ممتنعاً، فقد قلتم: أنّه لا يقدر على إحداث حادثٍ قد فعل مثله، وهذا تصريحٌ بعجزه. وأنتم قلتم: فليست [بدليل، فلا] 2 يلزم عجزه، فصارت دلالتها مستلزمةً لعجزه على أصلكم. وإن قلتم: يقدر، لكنّه لا يفعل، فهذا حقٌ، وهو ينقض أصلكم.

وحقيقة الأمر: أنّ نفس ما يدلّ على صدق [الصادق] 3 بمجموعه، امتنع أن يحصل للكاذب، وحصوله له ممتنعٌ غير مقدور.

الله قادر على خلق الخوارق على يد الكذاب ولا يفعل لحكمة

وأمّا خلق مثل تلك الخارقة على يد الكاذب، فهو ممكنٌ، والله سبحانه وتعالى قادر عليه، لكنه لا يفعله لحكمته4؛ كما أنّه سبحانه يمتنع عليه أن يكذب، أو يظلم.

الأشاعرة ينفون حكمة الله تعالى

والمعجزُ تصديقٌ، وتصديق الكاذب هو منزهٌ عنه، والدالّ على الصدق قَصْدُ الربّ تصديق الصادق. وهذا القصد يمتنع حصوله للكاذب؛ فيمتنع جعل من ليس برسولٍ رسولاً، وجعل الكاذبِ صادقاً، ويمتنع من الرب

2 ما بين المعقوفتين رسم في ((خ)) هكذا: بدل ليلا. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

3 ما بين المعقوفتين ملحق في هامش ((خ)) .

4 قال ابن حزم رحمه الله: "والله تعالى قادر على إظهار الآيات على أيدي الكذابين المدّعين للنبوّة، لكنّه تعالى لا يفعل، كما لا يفعل ما لا يُريد أن يفعله من سائر ما هو قادر عليه". الفصل في الملل والأهواء والنحل 5/2.

ص: 240

قصد المحال، وهو غير مقدور، وهو إذا صدّق الصادق بفعله علم بالاضطرار والدليل أنّه صدّقه، وهذا العلم يمتنع حصوله للكاذب. واستشهادكم بالعلم: هو من هذا الباب؛ فأنتم تقولون إنّ الربّ لا يخلق شيئاً لشيءٍ1. وحينئذٍ: فلا يكون قاصداً لما في المخلوقات من الإحكام،

1 وهي مسألة الحكمة وتعليل أفعال الله التي نفاها الأشاعرة. انظر: الإرشاد للجويني ص 268. ونهاية الإقدام للشهرستاني ص 297. والمواقف في علم الكلام للإيجي ص 331-332. ومحصّل أفكار المتقدمين والمتأخرين للرازي ص 205. وغاية المرام للآمدي ص 224.

وقد ناقشهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في نفيهم تعليل الله، وتجويزهم على الله كلّ فعل، وردّ عليهم، فقال رحمه الله: "حيث قيل لهم: على أصلكم: لا يفعل الله شيئاً لأجل شيء، وحينئذٍ فلم يأت بالآيات الخارقة للعادة لأجل تصديق الرسول، ولا عاقب هؤلاء لتكذيبهم له، ولا أنجى هؤلاء ونصرهم لإيمانهم به، إذ كان لا يفعل شيئاً عندكم

وإذا جوّزتم على الربّ كلّ فعل، جاز أن يظهر الخوارق على يد الكاذب. ويُقال لهم أيضاً: أنتم لا تعلمون ما يفعل الربّ إلا بعادة، أو خبر الأنبياء، فقبل العلم بصدق النبيّ لا يعلم شيء بخبره. والعادة إنما تكون فيما يتكرر؛ كطلوع الشمس، ونزول المطر، ونحو ذلك. والإتيان بالخارق للتصديق ليس معتاداً.....".. إلى أن قال رحمه الله عنهم: "ويُجوّزون عليه فعل كلّ شيء ممكن، لا يُنزّهونه عن فعل سيئ الأفعال، وليس عندهم قبيحاً وظُلماً إلا ما كان ممتنعاً؛ مثل جعل الشيء موجوداً معدوماً، وجعل الجسم من مكانين. ولهذا ذكر ذلك مخالفوهم حجة إبطال مذهبهم، وقالوا: قولهم يقدح في العلوم الضرورية، ويسدّ باب العلم بصدق الرسل. قالوا: إذا جوّزتم أن يفعل كلّ شيء، فجوّزوا أن يكون الجبال انقلبت ياقوتاً، والبحار لبناً، ونحو ذلك ممّا يُعلم بالضرورة بطلانه. وجوّزوا أن يخلق المعجزات على يدي الكذابين

". الجواب الصحيح6/394-395.

وناقش رحمه الله حجج الرازي على نفي الحكمة في أفعال العباد، وردّ عليها، وفنّدها في شرح الأصفهانية 2/357-379. وستأتي هذه المسألة ص 499-503 من هذا الكتاب.

ص: 241

فلا يكون الإحكام دالا على العلم على أصلكم؛ فإنّ الإحكام: إنّما هو جعل الشيء محصّلاً للمطلوب؛ بحيث يجعل لأجل ذلك المطلوب. وهذا عندهم لا يجوز؛ فإثباته علمه، وتصديق رسله مشروطٌ بأن يفعل شيئاً لشيءٍ. وهذا عندكم لا يجوز، فلهذا يُقال: إنّكم متناقضون، والله سبحانه وتعالى أعلم.

حقيقة المعجزة على قول الأشاعرة

الوجه الثامن: أنّ حقيقة الأمر على قول هؤلاء الذين جعلوا المعجزة: الخارق، مع التحدي: أنّ المعجز في الحقيقة ليس إلا منع الناس من المعارضة بالمثل؛ سواءٌ كان المعجز في نفسه خارقاً، أو غير خارق1. وكثيرٌ [ممّا] 2 يأتي به [الساحر] 3 والكاهن أمرٌ معتادٌ لهم.

وهم يجوّزون أن يكون آيةً للنبيّ. وإذا كان آيةً، منع الله الساحر والكاهن من مثل ما كان يفعل، أو قيّض له من يعارضه.

وقالوا: هذا أبلغ؛ فإنه منع المعتاد. وكذلك عندهم [أحد] 4 نَوْعَي المعجزات [منعهم] 5 من الأفعال المعتادة. وهو مأخذ من يقول بالصرفة6.

1 انظر: البيان للباقلاني ص 16-20، 72-73. والإرشاد للجويني ص 328-331.

2 في ((ط)) فقط: ما.

3 في ((ط)) فقط: ساحر.

4 في ((م)) ، و ((ط)) : إحدى.

5 في ((ط)) فقط: فيهم.

6 الصرفة: هي أنّ الله تعالى صرف الخلق عن الإتيان بمثل القرآن الكريم. وهو قولٌ قال به بعض أهل الكلام؛ كالرازي، وغيره. والصواب أنّ القرآن بنفسه معجز.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "ومن أضعف الأقوال: قول من يقول من أهل الكلام إنّه معجز بصرف الدواعي مع تمام الموجب لها، أو بسلب القدرة التامة، أو بسلبهم القدرة المعتادة في مثله سلباً عاماً، مثل قوله تعالى لزكريا:{آيَتُكَ أَلا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيّاً} [سورة مريم، الآية 10] . وهو أنّ الله صرف قلوب الأمم عن معارضته، مع قيام المقتضي التامّ؛ فإنّ هذا يُقال على سبيل التقدير والتنزيل.... وإلا فالصواب المقطوع به: أنّ الخلق كلّهم عاجزون عن معارضته، لا يقدرون على ذلك، ولا يقدر محمد صلى الله عليه وسلم نفسه من تلقاء نفسه على أن يبدل سورة من القرآن، بل يظهر الفرق بين القرآن وبين سائر كلامه لكلّ من له أدنى تدبّر؛ كما قد أخبر الله به في قوله:{قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} . [سورة الإسراء، الآية 88]

) . الجواب الصحيح 5/429-431.

وانظر: المصدر نفسه 5/420-431. والمغني في أبواب التوحيد والعدل لعبد الجبار 16/264. وشرح الأصول الخمسة له ص 587-590. ومقالات الإسلاميين للأشعري 1/296. وأعلام النبوة للماوردي ص 221-222. وإعجاز القرآن للباقلاني ص 77-79. والمواقف في علم الكلام للإيجي ص 352. ومناهل العرفان للزرقاني ص 310-315.

ص: 242

وإذا كان كذلك، جاز أن يكون كلّ أمرٍ؛ كالأكل، والشرب، والقيام، والقعود معجزةً إذا منعهم أن يفعلوا كفعله، وحينئذٍ: فلا معنى لكونها خارقاً، ولا لاختصاص الربّ بالقدرة عليها، بل الاعتبار بمجرّد عدم المعارضة. وهم يُقرّون بخلاف ذلك، والله أعلم.

الوجه التاسع: أنّه إذا كانت المعجزة هي مجموع دعوى الرسالة، مع التحدي، فلا حاجة إلى كونه خارقاً؛ كما تقدم1، ويجب إذا تحدّى بالمثل أن يقول: فليأت بمثل القرآن من يدّعي النبوّة؛ فإنّ هذا هو المعجز عندهم، وإلَاّ القرآن مجرّداً ليس بمعجز؛ فلا يُطلب مثل القرآن إلَاّ ممّن يدّعي النبوّة2؛ كما في الساحر والكاهن إذا ادّعى النبوة سلبه الله ذلك، أو

1 انظر: ص.201 من هذا الكتاب

2 قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "..أنّ مسيلمة ادّعى النبوّة، واتبعه قومه على ذلك..... أنه كان له مخاريق، وأنّه ظهر كذبه من وجوه متعددة، وأنّ أبا بكر الصديق والصحابة قاتلوه على كذبه في دعوى النبوة، وقاتلوا قومه على ردّتهم عن الإسلام، واتباعهم نبيّاً كاذباً، لم يُقاتلوهم على كونهم لم يُؤدّوا الزكاة لأبي بكر. وكذلك الأسود العنسيّ الذي ادّعى النبوّة في حياة النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقتل في حياته؛ كلّ منهما عُرف كذبه بتكذيب النبيّ الصادق والمصدوق لهما، وممّا ظهر من دلائل كذبهما؛ مثل الأخبار الكاذبة التي تناقض النبوّة، ومثل الإيمان بقرآن مختلف يعلم من سمعه أنه لم يتكلم الله به، وإنما هو تصنيف الآدميين؛ كما قال أبو بكر الصديق لهم لما تابوا من الردّة وعادوا إلى الإسلام: أسمعوني قرآن مسيلمة. فلما أسمعوه إياه قال: ويحكم أين يُذهب بعقولكم! إنّ هذا كلام لم يخرج....) . الجواب الصحيح 6/476.

ص: 243

قيّض له من يعارضه. وإذا لم يدّع النبوّة جاز أن يظهر على يده مثل ما يظهر على يد النبيّ. فكذلك يلزمهم مثل هذا في القرآن، وسائر المعجزات. والله أعلم.

ص: 244