المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌فصل تعريف المعجزة عند الأشاعرة - النبوات لابن تيمية - جـ ١

[ابن تيمية]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد الأول

- ‌مقدمة

- ‌الباب الأول

- ‌المبحث الأول: مدخل لدراسة موضوع الكتاب وما ألف فيه

- ‌المطلب الأول: حقيقة النبوة

- ‌المطلب الثاني: الحكمة من بعث الرسل

- ‌المطلب الثالث: وظائف الرسل

- ‌المطلب الرابع: أقوال الناس في النبوة:

- ‌المطلب الخامس: الإيمان بالأنبياء من أركان الإيمان:

- ‌المطلب السادس: الإسلام دين جميع الأنبياء:

- ‌المطلب السابع: المعجزات:

- ‌المطلب الثامن: ما أُلِّف في النبوات:

-

- ‌المبحث الثاني: التعريف بالمؤلِّف

- ‌المطلب الأول: حياة المؤلف الشخصية:

- ‌المطلب الثاني: حياة المؤلف العلمية

- ‌المبحث الثالث: دراسة الكتاب

- ‌المطلب الأول: التعريف بالكتاب

- ‌المطلب الثاني: التعريف بالأصل المخطوط

- ‌الباب الثاني: قسم التحقيق

- ‌فصل في معجزات الأنبياء التي هي آياتهم وبراهينهم

- ‌فصل في آيات الأنبياء وبراهينهم

- ‌فصل في أن الرسول لا بُدّ أن يبيّن أصول الدين

- ‌فصل عدل الله وحكمته وتعليل أفعاله

- ‌فصل طريقة الأشاعرة في إثبات المعجزات

- ‌فصل تعريف المعجزة عند الأشاعرة

- ‌فصل قول الأشاعرة في المعجزات

- ‌فصل كلام الباقلاني في المعجزات ومناقشة شيخ الإسلام له

- ‌فصل الفروق بين آيات الأنبياء وغيرها

- ‌فصل ما يخالف الكتاب والسنة فهو باطل

الفصل: ‌فصل تعريف المعجزة عند الأشاعرة

‌فصل تعريف المعجزة عند الأشاعرة

والمعتزلة قبلهم1 ظنّوا أنّ مجرّد كون الفعل [خارقاً] 2 للعادة، هو الآية على صدق الرسول، فلا يجوز ظهور خارقٍ إلاّ لنبيٍّ. والتزموا طرداً لهذا: إنكار أن يكون للسحر تأثيرٌ خارجٌ عن العادة؛ مثل أن يموت ويمرض بلا مباشرة شيءٍ. وأنكروا الكهانة، وأن تكون الجن تُخبر ببعض المغيبات، وأنكروا كرامات الأولياء3.

1 أي قبل الأشاعرة.

2 في ((ط)) : خلافاً.

3 وذلك لأنّ من مذهبهم عدم تجويز وقوع الخوارق على يد غير الأنبياء.

يقول القاضي عبد الجبار المعتزلي: "إنّ العادة لا تُخرق إلا عند إرسال الرسل، ولا تخرق لغير هذا الوجه؛ لأنّ خرقها لغير هذا الوجه يكون بمنزلة العبث". المغني في أبواب التوحيد والعدل15/189. وانظر: المصدر نفسه15/241. وشرح الأصول الخمسة ص 568-572. ورسائل العدل والتوحيد ص 237.

وقال عبد القاهر البغدادي عنهم: "وأنكرت القدرية كرامات الأولياء؛ لأنّهم لم يجدوا في أهل بدعتهم ذا كرامة". أصول الدين ص 175.

وانظر أول هذا الكتاب ((النبوات)) ص 148، وما سيأتي لاحقاً ص 1260-1261؛ إذ ذكر المؤلف رحمه الله أنّ الذين أنكروا الكرامات هم المعتزلة، وابن حزم. انظر: المحلى 1/36، وأبو إسحاق الاسفراييني، وأبو محمد بن زيد. وقد ردّ عليهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في ص 148-151. وانظر: شرح الأصفهانية 2/609 وقد أورد السبكي شبه المعتزلة في نفي الكرامات، وردّ عليها. انظر: طبقات الشافعية الكبرى 2/334.

ص: 484

فأتى هؤلاء1، فأثبتوا ما أثبته الفقهاء، وأهل الحديث من السحر، والكهانة، والكرامات.

تعريف المعجزة عند الأشاعرة

لكنْ: قيل لهم: فميزوا بين هذا، وبين المعجزات؟. فقالوا: لا فرق في نفس الجنس. وليس في جنس مقدورات الربّ ما يختصّ بالأنبياء. لكن جنس خرق العادة واحد، فهذا إذا اقترن بدعوى النبوة، وسَلِمَ عن المعارضة عند تحدي الرسول بالمثل، فهو دليلٌ2.

فهي عندهم لم تدلّ؛ [لكونها] 3 في نفسها وجنسها دليلاً4. بل إذا

1 الأشاعرة.

2 انظر: البيان للباقلاني ص 94-95، 96. والإرشاد للجويني ص 319، 328. وأصول الدين للبغدادي ص 174، 175. والمواقف للإيجي ص 370. وشرح المقاصد للتفتازاني 5/11-12.

وانظر كلام شيخ الإسلام رحمه الله، وردّه عليهم في الجواب الصحيح 6/400، 500. وفي هذا الكتاب النبوات ص 1301-1302.

3 في ((ط)) : لكونهم.

4 قال الباقلاني في البيان ص48: "إنّ المعجز ليس بمعجز لجنسه ونفسه، ولا لحدوثها، وإنّما يصير معجزاً للوجوه التي ذكرناها، ومنها التحدي، والاحتجاج) .

ص: 485

استدلّ بها المدّعي للنبوة كانت دليلا1، [وإلاّ2 لم تكن دليلاً] 3. ومن شرط الدليل سلامته عن المعارضة؛ وهي عندهم غاية الفرق. فإذا قال المدعي للنبوة: ائتوا بمثل هذه الآية، فعجزوا؛ كان هذا هو المعجز المختص بالنبيّ، وإلا فيجوز عندهم أن تكون معجزات الرسول من جنس ما للسحرة والكهان4 من الخوارق، إذا استدلّ بها الرسول5.

فالحجة عنده: مجموع الدعوى والخارق، لا الخارق وحده. والاعتبار بالسلامة عن المعارض6.

بل قد لا يشترطون أن يكون خارقاً للعادة، لكن يشترطون أن لا يعارض. وعجز الناس عن المعارضة مع أنه معتاد [لا] 7 خارق للعادة. فالاعتبار عندهم بشيئين: باقترانه بالدعوى، وتحديه لمن دعاهم أن يأتوا [بمثله] 8، فلا يقدرون9.

1 قال الجويني في الإرشاد ص 319: "فإنّ المعجزة لا تدلّ بعينها، وإنّما لتعلّقها بدعوى النبيّ الرسالة) .

2 في ((ط)) : وإلى.

3 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) .

4 قال الجويني في الإرشاد ص 328: "جنس المعجزة يقع من غير دعوى، وإنما الممتنع وقوعه على حسب دعوى الكاذب". وانظر: المصدر نفسه ص 322. والبيان للباقلاني ص 94، 98.

5 تقدّم لشيخ الإسلام رحمه الله في أوّل هذا الكتاب كلامٌ أوضح من هذا الكلام. راجع ص 152-155. وانظر كلامه أيضاً عن الموضوع نفسه في الجواب الصحيح 6/400.

6 انظر: الإرشاد للجويني ص 312.

7 ما بين المعقوفتين ساقط من ((خ)) . وهو في ((م)) ، و ((ط)) .

8 في ((خ)) : بمثلثه. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

9 لاحظ قول السبكي في طبقات الشافعية الكبرى 2/316، 337. وانظر: البيان للباقلاني ص 16-17، 19، 94. والإرشاد للجويني ص 309، 312-313.

ص: 486

قالوا: وخوارق الأنبياء يظهر مثلها على يد الساحر، والكاهن، والصالح، ولا يدل على النبوة؛ لأنه لم يدّعها. قالوا: ولو ادعى النبوة أحدٌ من أهل هذه الخوارق، مع كذبه، لم يكن بُدٌ من أنّ الله يعجزه عنها؛ فلا يخلقها على يده، أو يُقيّض له من يعارضه، فتبطل حجّته1.

مناقشة شيخ الإسلام للأشاعرة في تعريف المعجزة

وإذا قيل لهم: لم قلتم: إنّ الله لا بدّ أن يفعل هذا [أو] 2 هذا؛ وعندكم يجوز عليه كل شيء؟ ولا يجب عليه فعل شيء؟ ولا يجب منه فعل شيء؟

قالوا: لأنّه لو لم يمنعه من ذلك، أو يعارضه بآخر، [لكان] 3 قد أتى بمثل ما يأتي به النبيّ الصادق؛ فتبطل دلالة آيات الأنبياء4.

فإذا قيل لهم: وعلى أصلكم يجوز أنه [يبطل] 5 دلالتها، وعندكم يجوز عليه فعل كل شيء؟ أجابوا بالوجهين المتقدمين: إما لزوم أنه ليس بقادر، أو أنّ الدلالة [معلومة] 6 بالاضطرار، وقد عرف ضعفهما.

1 انظر: البيان للباقلاني ص 94-95، 100.

وقد توسّع شيخ الإسلام رحمه الله في هذه القضيّة، وناقشها في أوّل هذا الكتاب. راجع ص 267-271.

2 في ((م)) ، و ((ط)) : و.

3 في ((خ)) : لكن. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

4 انظر: البيان للباقلاني ص 98، 105-106. والإرشاد للجويني ص 326-327. وأصول الدين للبغدادي ص 173. وشرح المقاصد للتفتازاني 5/182. وأعلام النبوة للماوردي ص 62.

5 في ((خ)) : تبطل. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

6 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) .

ص: 487

ثم هنا يلزمهم شيء آخر؛ وهو أنه: لِمَ قلتم أنّ المعجز الذي يُدَلّ به على صدق الأنبياء، ما ذكرتموه؛ من مجرد كونه خارقاً مع الدعوى وعدم المعارضة1؛ فإن هذا يُقال: إنه باطل من وجوه:

أحدها: أنه إذا كان ما يأتي به النبي يأتي به الساحر والكاهن، لكان أولئك2 يعارَضون، وهذا3 لا يعارَض؛ فالاعتبار إذن بعدم المعارضة. فقولوا: كلّ من ادّعى النبوة، [وقال] 4: معجزتي أن لا يدعيها غيري، فهو صادق. أو: لا يقدر غيري على دعواها، فهو صادق، أو: أفعل أمراً معتاداً؛ من الأكل، والشرب، واللباس، ومعجزتي: أن لا يفعله غيري، أو: لا يقدر غيري على فعله، فهو صادق.

فالتزموا هذا، وقالوا: المنع من المعتاد كإحداث غير المعتاد5. وعلى هذا: فلو قال الرسول: [معجزتي] 6 [أن] 7 أركب الحمار، أو الفرس، أو آكل هذا الطعام، أو ألبس هذا الثوب، أو أعدوَ8 إلى ذلك المكان، وأمثال ذلك. وغيره لا يقدر على ذلك؛ كان هذا آية [دعواه]9.

1 انظر قولهم في: الإرشاد ص 312-313. وفي شرح المقاصد 5/11؛ عند تعريف المعجزة.

2 يعني السحرة، والكهنة.

3 النبيّ.

4 في ((خ)) : وقالوا. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

5 انظر: البيان للباقلاني ص 16-17، 19-20. والإرشاد للجويني ص 308-309.

6 في ((خ)) : معجزة. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

7 في ((م)) ، و ((ط)) : أني.

8 في ((خ)) أعدوا بزيادة الألف.

9 في ((خ)) : ادعوه. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

ص: 488

وهذا لا ضابط له؛ فإنّ ما يعجز عنه قوم دون قوم لا ينضبط. ولكنّ هذا يُفسد قول مَنْ فسّرها بخرق العادة1؛ فإن العادات تختلف.

وقد ذكروا2 هذا، وقالوا: المعجزة عند كل قوم ما كان خرقاً لعادتهم3. وقالوا: يُشترط أن تكون [خارقة] 4 لعادة من دعاهم، وإن كان معتاداً لغيرهم. [وقالوا: إذا] 5 كان المدّعي كذّاباً؛ فإن الله [يُقيّض] 6 له من يعارضه من أهل تلك الصناعة، أو يمنعه من القدرة عليها7.

وهذا وجه ثان يدل على فساد ما أصّلوه8؛ هم، والمعتزلة9.

1 وهم الأشاعرة. انظر من كتبهم: الإرشاد للجويني ص 309. وأصول الدين لعبد القاهر البغدادي ص 170. والمواقف في علم الكلام للإيجي ص 339.

2 يقصد المعتزلة والأشاعرة.

3 انظر: البيان للباقلاني ص45. والإرشاد للجويني ص309. وأصول الدين للبغدادي ص 170. والمواقف في علم الكلام للإيجي ص 339. وشرح الأصول الخمسة ص 571.

4 في ((خ)) رسمت على شكل: خانقة. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

5 ما بين المعقوفتين ملحق في هامش ((خ)) .

6 في ((خ)) : يقتض. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

7 انظر: البيان للباقلاني ص 94-95، 105. وشرح الأصول الخمسة لعبد الجبار ص 570-572.

8 يقصد الأشاعرة.

9 يوضّح رحمه الله أنّ كلاً من الأشاعرة والمعتزلة أصّلوا أصلاً في إثبات النبوة؛ وهو المعجزة؛ فقالوا: "إنّ النبوة لا تثبت إلا بالمعجزة. ثمّ إنّ المعتزلة التزموا لأجل ذلك نفي الكرامات، وحقيقة السحر والكهانة لأجل أن لا يحصل التباس بينها وبين المعجزات. والأشاعرة التزموا لأجل ذلك أنّه لا فرق بين المعجزة والكرامة والسحر إلا دعوى النبوة وعدم المعارضة.

ص: 489

المعجزة عند الأشاعرة دعوى النبوة وعدم المعارضة وليست الآية بجنسها معجزة

الوجه الثالث: أنّ المعارضة بالمثل: أن يأتي بحجةٍ مثلَ حجّة النبيّ. وحجّته عندهم: مجموع دعوى النبوة، والإثبات بالخارق. فيلزم على هذا أن تكون المعارضة بأن يدعي غيره1 النبوة، ويأتي بالخارق.

وعلى هذا فليست معارضة الرسول بأن يأتوا بالقرآن، أو عشر سور، أو سورة. [بل] 2 أن يدعي أحدهم النبوة، ويفعل ذلك3. وهذا خلاف العقل والنقل. ولو قال الرسول لقريش: لا يقدر أحدٌ منكم أن يدّعي النبوة، ويأتي بمثل القرآن وهذا هو الآية. وإلا فمجرّد تلاوة القرآن ليس آية. بل قد يقرأه المتعلّم له، فلا تكون آية؛ لأنّه لم يدّع النبوّة. ولو ادّعاها، لكان الله [ينسيه] 4 إياه، أو يُقيّض له من يعارضه5؛ كما ذكرتم6 لكانت قريش، وسائر [العقلاء] 7 يعلمون أنّ هذا باطلٌ.

الكاذب لابد أن يتناقض

الرابع: أنه إذا كان اعتمادكم على عدم المعارضة، فقولوا ما قاله غيركم؛ وهو: أنّ آية سلامة ما يقوله من التناقض وأنّ كلّ من ادّعى النبوة، وكان كاذباً، فلا بُدّ أن يتناقض، أو يُقيّض الله له من يقول مثل ما قال. وأما السلامة من التناقض من غير دعوى النبوة فليست دليلاً. فهذا خيرٌ من قولكم؛ فإنه قد علم أنّ كلّ ما جاء من عند غير الله، فإنه لا بد أن يختلف

1 في ((ط)) : غيرة.

2 في ((ط)) : مثل.

3 يعني: يأتي بالقرآن، أو عشر سور، أو سورة.

4 في ((خ)) : ينشيه. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

5 انظر: البيان للباقلاني ص 99.

6 الكلام من قوله: "وهذا هو الآية

) إلى هنا جملة اعتراضية. وما سيأتي هو جواب الشرط المتقدّم.

7 في ((م)) ، و ((ط)) : العلماء.

ص: 490

ويتناقض، وما جاء من عِند الله لا يتناقض؛ كما قال تعالى:{وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوْا فِيْهِ اخْتِلافاً كَثِيْرَاً} 1.

وأما دعوى الضرورة2: فمن ادّعى الضرورة في شيءٍ دون شيءٍ مع تماثلهما3، وعدم الفرق بينهما في نفس الأمر، كانت دعواه مردودةً، بل كَذِباً؛ فإنّ وجود العلم الضروري بشيء دون شيء، لا بُدّ أن يكون لفرقٍ؛ إمّا في المعلوم، وإمّا في العالم. وإلاّ فإذا قدر تساوي المعلومات، وتساوي حال العالِم [بها، لم] 4 يعلم بالضرورة أحد المتماثلين دون الآخر.

آيات النبي مختصة بالأنبياء

الخامس: أنه لا بد أن تكون الآية التي للنبيّ أمراً مختصّاً بالأنبياء؛ فإنّ الدليل مستلزمٌ للمدلول عليه. فآية النبي هي دليل صدقه، وعلامة صدقه، وبرهان صدقه، فلا توجد قطّ إلا مستلزمة لصدقه. وقد ادّعوا5 أن آيات صدقهم تكون منفكة عن صدقهم تكون لساحر، وكاهن، ورجل صالح، ولمدعي الإلهية، لكن لا تكون لمن يكذب في دعوى النبوة؛ فجوزوا وجود الدليل مع عدم المدلول عليه6، إلا إذا ادّعى المدلول عليه كاذبٌ.

1 سورة النساء، الآية 82.

2 انظر: الإرشاد للجويني ص 326. ودرء تعارض العقل والنقل 1/90-92، 9/52-53. وشرح الأصفهانية 2/622. والجواب الصحيح 6/398.

3 في ((ط)) : تمثالهما.

4 في ((خ)) : بها، ما لم. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

5 أي الأشاعرة. وانظر دعواهم هذه في: البيان للباقلاني ص 47-48. وأصول الدين للبغدادي ص 170.

6 يعني رحمه الله وجود الخارق مع عدم دعوى النبوة، فصار المعجز عندهم هو الدعوى، والخارق مدلول عليه.

ص: 491

واستدلوا على ذلك بأنّ الساعة تُخرق عندها خوارق، ولا تدلّ على صدق أحدٍ. ولو ادّعى [مدّعٍ] 1 النبوّة مع تلك الخوارق لدلّت2. قالوا: فعُلم أنّ جنس ما هو معجز يوجد بدون صدق النبي. لكن مع دعوى النبوة لا يوجد إلا مع الصدق3.

والآية عندهم: الدعوى، والخارق. والصدق هو: المدلول عليه فلا يكون ذلك كذلك إلا مع هذا4.

وأما وجود الخارق مجرّداً عن الدعوى، فليس بدليل. ولا فرق عندهم بين خارق وخارق، وخارق معتاد عند قوم دون قوم. وليس لهم ضابط في العادات.

ما يفعله الله من الآيات دليل على صدق الرسل..

ولسائل أن يقول: جميع ما يفعله الله من الآيات في العالم، فهو دليل على صدق الأنبياء، ومستلزم له. وإن كانت [الآيات] 5 معتادة لجنس الأنبياء، أو لجنس الصالحين [الذين] 6 يتبعون الأنبياء، فهي مستلزمةٌ لصدق مدّعي النبوة؛ فإنها إذا لم تكن إلا لنبيّ، أو من يتّبعه، لزم أن يكون من أحد القِسْمَيْن. والكاذب في دعوى النبوة ليس واحداً منهما؛ فالتابع للأنبياء الصالح لا يكذب في دعوى النبوة قط، ولا يدّعيها إلا وهو صادق؛ كالأنبياء المتبعين لشرع موسى. فإذا كان آية نبيّ: إحياء الله الموتى، لم

1 في ((م)) ، و ((ط)) : مدعي.

2 أي على صدقه.

3 انظر: البيان للباقلاني ص 94-95. والإرشاد للجويني ص 328.

4 أي لا تكون الدعوى صادقة إلا مع وجود الخارق.

5 في ((خ)) : الأنبياء. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

6 في ((خ)) : الذي. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

ص: 492

يمتنع أن يحيي الله الموتى لنبيّ آخرَ، أو لمن يتبع الأنبياء؛ كما قد أحيى الميت لغير واحد من الأنبياء ومن [اتبعهم] 1، وكان ذلك آيةً على نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم، ونبوّة من قبله، إذ كان إحياء الموتى مختصاً بالأنبياء، وأتباعهم2.

1 في ((خ)) : قبلهم. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

2 ومن الأمثلة: إحياء الله الموتى لعيسى عليه السلام؛ كما قال تعالى حكاية عنه: {وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ} . ِالآية 49 من سورة آل عمران.

قال القرطبي رحمه الله: " قيل: أحيا أربعة أنفس؛ العازر، وكان صديقاً له، وابن العجوز، وابنة العازر، وسام بن نوح. فالله أعلم) . تفسير القرطبي 4/61.

وقال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} . [البقرة، الآية 260] .

وقال تعالى: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} . [البقرة، 72، 73] . وكذلك آية 243 من السورة نفسها، وهي قوله تعالى:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ} .

وقال تعالى: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [سورة البقرة، الآيتان 55-56] .

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في الجواب الصحيح: "أعظم آيات المسيح عليه السلام إحياء الموتى. وهذه الآية قد شاركه فيها غيره من الأنبياء؛ كإلياس، وغيره". الجواب الصحيح 4/17.

وقال أيضاً: "ولا يمتنع أن يأتي نبي بنظير آية نبيّ؛ كما أتى المسيح بإحياء الموتى. وقد وقع إحياء الموتى على يد غيره". الجواب الصحيح 5/434.

وقال الماوردي: "حزقيل وهو الذي أصاب قومه الطاعون، فخرجوا من ديارهم حذر الموت، فأماتهم الله ثمّ أحياهم) . أعلام النبوة للماوردي ص 88.

وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أنّ " صلة بن أشيم مات فرسه وهو في الغزو، فقال: اللهم لا تجعل لمخلوق عليّ منّة. ودعا الله عز وجل، فأحياه له. فلمّا وصل إلى بيته، قال: يا بني خذ سرج الفرس فإنّه عارية. فأخذ سرجه، فمات الفرس". الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص 315.

وهذه القصة أخرجها ابن المبارك في الزهد ص 295، وابن الجوزي في صفة الصفوة 3/217، إلا أنهما ذكرا ذهاب بغلته، وليس موتها.

وثمة قصص أخرى في إحياء الله الموتى لبعض الناس أوردها شيخ الإسلام في درء تعارض العقل والنقل 7/377. والجواب الصحيح 4/17-18.

ص: 493

إهلاك أعداء الرسل دليل على صدقهم

وكذلك ما يفعله الله من الآيات، والعقوبات بمكذّبي الرسل؛ كتغريق فرعون1، وإهلاك قوم عاد بالريح الصرصر2 العاتية3، وإهلاك قوم صالح بالصيحة4، وأمثال ذلك5؛ فإنّ هذا جنس لم يُعذّب به إلاّ من كذّب الرسل. فهو دليلٌ على صدق الرسل.

وقد يميت الله بعض الناس بأنواع معتادة من البأس؛ كالطواعين6، ونحوها. لكن هذا معتاد لغير مكذبي الرسل. أمّا ما عذب الله به مكذّبي الرسل، فمختصٌ بهم.

1 والآيات على ذلك كثيرة؛ منها قوله تعالى: {فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ} [الأنفال، الآية 54] .

2 الريح الصرصر: هي الريح الباردة المحرقة كما تحرق النار، ولها صوت شديد. (انظر البحر المحيط 7/481، 490) .

3 والآيات كثيرة، منها قوله تعالى:{وأمّا عادٌ فأُهلكوا بريحٍ صرصرٍ عاتية} . [الحاقة، الآية 6] .

4 والآيات كثيرة، منها قوله تعالى يحكي عن قوم صالح عليه السلام:{وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ} . [هود، الآية 94] .

5 انظر سورة العنكبوت، الآيات 30-40؛ حيث أخبر الله تعالى فيها عن عقابه لمن كذبوا رسله؛ فقد عذّب الله قوم شعيب بالظلّة، وقوم لوط بالحاصب، وقوم نوح بالغرق.

6 الطاعون: مرض من أنواع الحمى الخبيثة، سريع العدوى، يتولد من الجراثيم المضرّة المتسببة من البقايا الحيوانية المتعفنة. انظر: دائرة معارف القرن العشرين لوجدي 5/737.

ص: 494

ولهذا كان [مختصّاً بهم، وكان] 1 من آيات الله كما قال: {وَآتَيْنَا ثَمُوْدَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلَاّ تَخْوِيْفَاً} 2.

أشراط الساعة من آيات الأنبياء ودليل على صدقهم

وكذلك ما يحدثه من أشراط الساعة3؛ كظهور الدجال، ويأجوج ومأجوج، وظهور الدابة، وطلوع الشمس من مغربها، بل والنفخ في الصور، وغير ذلك؛ هو من آيات الأنبياء؛ [فإنّهم] 4 أخبروا به قبل أن يكون، فكذّبهم المكذّبون، فإذا ظهر بعد [مئين] 5، أو ألوف من السنين، كما أخبروا به كان هذا من آيات صدقهم، ولم يكن هذا [إلا] 6 لنبيّ، أو لمن يخبر عن نبيّ. والخبر عن النبيّ: هو خبر النبيّ. ولهذا كان وجود ما أخبر به الرسول من المستقبلات من آيات نبوّته إذا ظهر المخبَر به كما كان أخبر. [وخبره عمّا مضى آية لمن عرف صدقه] 7 فيما أخبر به إذ كان هذا8. وهذا لا يمكن أن يُخبر به إلا نبيّ، أو من أخذ عن نبيّ.

1 ما بين المعقوفتين لا يوجد في ((م)) ، و ((ط)) .

2 سورة الإسراء، الآية 59.

3 قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الساعة: "إنها لن تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات.."، فذكر الدخان، والدجّال، والدابّة، وطلوع الشمس من مغربها، ويأجوج ومأجوج، وثلاثة خسوف..

الحديث رواه مسلم في صحيحه في كتاب الفتن، باب ما يكون من فتوحات المسلمين قبل الدجّال، رقم 2901.

4 في ((ط)) : فإنها.

5 في ((خ)) : مايين. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

6 في ((خ)) : لا. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

7 ما بين المعقوفتين في ((م)) ، و ((ط)) هكذا: أخبر فيما مضى عرف صدقه. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

8 وقد عقد شيخ الإسلام رحمه الله في كتابه الجواب الصحيح فصلاً عن أخباره صلى الله عليه وسلم بكثيرٍ من الغيوب في الماضي، والحاضر، والمستقبل، ودلالتها على نبوته. انظر الجواب الصحيح 6/80-158.

ص: 495

وهو1 لم يأخذ عن أحدٍ من الأنبياء شيئاً؛ فدلّ على نبوّته. ولهذا يحتج الله له في القرآن بذلك؛ كما قد بسط في غير هذا الموضع2.

الكاهن والفرق بينه وبين النبي

وأخبار الكهان فيها كذبٌ كثيرٌ، والكاهن قد عُرف أنه يكذب كثيراً، مع فجوره؛ قال تعالى:{هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلى كلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يُلْقُوْنَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاْذِبُوْنَ} 3. والكهانة جنسٌ معروف، ومعروفٌ أنّ الكاهن يتلقّى عن الشيطان، ولا بد من كذبهم، وفجورهم. والنبيّ لا يكذب قطّ، ولا يكون [إلا] 4 برّاً تَقِيَّاً. فالفرق بينهما ثابت في نفس صفاتهما، وأفعالهما، وآياتهما؛ لا يقول عاقل إنّ مجرّد ما يفعله الكاهن هو دليلٌ إن اقترن بصادق، وليس بدليلٍ إذا لم يقترن بصادق، وأنّه متى ادّعاه كاذبٌ لم يظهر على يده. وهذا أيضاً باطلٌ.

كثير من الكذابين أتوا بخوارق وادعوا النبوة ولم يعارضوا

ويظهر بالوجه السادس: وهو أنّه قد ادّعى جماعةٌ من الكذّابينَ النبوّة، وأتوا بخوارق من جنس خوراق الكُهّان والسحرة، ولم يعارضهم أحدٌ في ذلك المكان والزمان، وكانوا [كاذبين] 5؛ فبطل قولهم إنّ الكذّاب إذا أتى بمثل خوارق السحرة والكهان، فلا بد أن يمنعه الله ذلك الخارق، أو يُقَيِّض له من يعارضه6.

1 أي النبيّ.

2 تقدّم كلام شيخ الإسلام رحمه الله عن ذلك في أوّل هذا الكتاب. راجع ص 166-171.

3 سورة الشعراء، الآيات 221-223.

4 ما بين المعقوفتين ساقط من ((خ)) . وهو في ((م)) ، و ((ط)) .

5 في ((ط)) : كذابين.

6 انظر: البيان للباقلاني ص 94-95.

ص: 496

وهذا كالأسود العنسيّ1 الذي ادّعى النبوّة باليمن في حياة النبيّ صلى الله عليه وسلم، واستولى على اليمن، وكان معه [شيطانان] 2؛ سُحَيْق، ومُحَيْق. وكان يخبر بأشياء غائبة من جنس أخبار الكهان، وما عارضه أحدٌ. وعُرف كذبه بوجوه متعدّدة، وظهر من كذبه، وفجوره؛ ما ذكره الله بقوله:{هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلى كلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} 3.

وكذلك مسيلمة الكذاب4.

وكذلك الحارث الدمشقي5، ومكحول الحلبي6، وبابا الرومي7،

1 سبق التعريف به، وذكر بعض أخباره ص 192. وانظر بعض أخباره الأخرى في: البداية والنهاية لابن كثير 6/347.

2 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) . وهي في ((م)) ، و ((ط)) : شيطان بالإفراد.

3 سورة الشعراء، الآيتان 221-222.

4 سبق التعريف به ص 192.

5 هو الحارث بن سعيد. من أهل دمشق. متنبئ كذّاب، وله أتباع يُعرفون بالحارثية. كان مولى لأحد القرشيّين. يُحكى أنّه كان في أول أمره متعبّداً زاهداً، فأغواه إبليس، فادعى النبوة، فلبّس على الناس بما يُظهر لهم من الأوهام والضلالات. من ذلك أنه كان يأتي إلى رخامة في المسجد، فينقرها بيده، فتسبّح. وكان يُري الناس رجالاً على خيل، ويقول: هذه الملائكة. وكان يُطعم الناس فاكهة الصيف في الشتاء، وفاكهة الشتاء في الصيف

إلى غير ذلك من تلبيساته. فتبعه خلقٌ كثير فُتنوا به. وقد طلبه عبد الملك بن مروان، فاختفى في بيت المقدس، فلم يزل يطلبه، حتى قبض عليه، فقتله، وصلبه، وذلك سنة 69 ?.

انظر: ميزان الاعتدال للذهبي 1/434. ولسان الميزان لابن حجر 2/151. وتلبيس إبليس لابن الجوزي ص 379. والأعلام للزركلي 2 /154.

6 مكحول الحلبي لم أقف على ترجمته.

وشيخ الإسلام رحمه الله يذكر في بعض كتبه جماعة من المتنبئين، ويذكر منهم السهروردي الحلبي المقتول. انظر مثلاً شرح الأصفهانية 1/286، لكن هذا الحلبي ليس اسمه مكحول.

7 ذكر شيخ الإسلام رحمه الله هذا المتنبئ الكذّاب في كثير من كتبه؛ مثل: الجواب الصحيح 2/34. وشرح الأصفهانية 1/287. والفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص 179-180؛ حيث ذكره فيه باسم باباه الرومي.

وقد تقدّم تفصيل القول فيه سابقاً، انظر ص 192 من هذا الكتاب.

ص: 497

لعنة الله عليهم، وغير هؤلاء؛ كانت معهم شياطين كما هي مع السحرة والكهان.

آيات الأنبياء ليس من شرطها التحدي بها

السابع: أن آيات الأنبياء ليس من شرطها استدلال النبيّ بها، ولا تحدّيه بالإتيان بمثلها، بل هي دليلٌ على نبوته، وإن خلت عن هذين القَيْدَيْن.

وهذا كإخبار من تقدّم بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم؛ فإنّه دليلٌ على صدقه، وإن كان هو لم يعلم بما أخبروا به، ولا يستدلّ به.

آيات الأنبياء قد تكون لحاجة المسلمين

وأيضاً: فما كان يُظهره الله على يديه من الآيات؛ مثل تكثير الطعام والشراب مرّات؛ كنبع الماء من بين أصابعه غير مرة، وتكثير الطعام القليل حتى كفى أضعافَ أضعافِ من كان محتاجاً إليه، وغير ذلك؛ [كلها] 1 من دلائل النبوة2، ولم يكن يُظهرها للاستدلال بها، ولا يتحدى بمثلها، بل لحاجة المسلمين إليها3.

1 في ((م)) ، و ((ط)) : كله.

2 وانظر هذه المعجزات في صحيح البخاري، كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام 3/1308-1330.وفي صحيح مسلم، كتاب الفضائل، باب في معجزات النبي صلى الله عليه وسلم 4/1783-1786.

وقد جمع ابن كثير رحمه الله كثيراً من آيات الرسول صلى الله عليه وسلم. ومن ذلك آيات تكثير الطعام والشراب. انظر البداية والنهاية 7/96-131.

3 وقال شيخ الإسلام رحمه الله في موضع آخر: "وتكثير الطعام والشراب مرات كثيرة؛ كما أشبع في الخندق العسكر من قدر الطعام وهو لم ينقص؛ في حديث أم سليم المشهور. وروى العسكر في غزوة خيبر من مزادة ماء، ولم تنقص. وملأ أوعية العسكر عام تبوك من طعام قليل، ولم ينقص، وهم نحو ثلاثين ألفاً. ونبع الماء من بين أصابعه مرات متعددة حتى كفى الناس الذين كانوا معه؛ كما كانوا في غزوة الحديبية نحو ألف وأربعمائة، أو خمسمائة". الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص 295-297.

وقال رحمه الله في موضع آخر: "وتكثير الماء في عين تبوك، وعين الحديبية، ونبع الماء من بين أصابعه غير مرة، ومزادة المرأة. وأما المركبات: فتكثيره للطعام غير مرة في قصة الخندق؛ من حديث جابر، وحديث أبي طلحة. وفي أسفاره. وجراب أبي هريرة. ونخل جابر بن عبد الله. وحديث جابر وابن الزبير في انقلاع النخل له، وعوده إلى مكانه، وسقياه لغير واحد من الأرض؛ كعين أبي قتادة

" قاعدة في المعجزات والكرامات ص 16-17.

وقال رحمه الله أيضاً: "وأما هذه الآيات: فنقلها أكثر ممن نقل مواقيت الصلاة من جهة الأخبار المعينة، وذلك أنّ آيات الرسول كان كثير منها يكون بمشهد من الخلق عظيم، فيُشاهدون تلك الآيات كما شاهد أهل الحديبية وهم ألف وخمسمائة نبعَ الماء من بين أصابعه، وظهور الماء الكثير من بئر الحديبية لما نزحوها ولم يتركوا فيها قطرة، فكثر حتى روى العسكر. وكما شاهد العسكر في غزوة ذات الرقاع الماء اليسير لما صبه جابر في الجفنة، وامتلأت، وملأ منها جميع العسكر. وكما شاهد الجيش في رجوعهم من غزوة خيبر المزادتين مع المرأة، وقد ملؤوا كل وعاء معهم، وشربوا، وهي ملأى كما هي. وكما شاهد أهل خيبر وهم ألف وخمسمائة الطعام الذي كان كربضة الشاة، فأشبع الجيش كلهم. وكما شاهد الجيش العظيم، وهو نحو ثلاثين ألفاً في تبوك العين لما كانت قليلة الماء، فكثر ماؤها حتى كفاهم، وشاهدوا الطعام الذي جمعوه على نطع، فأخذوا منه حتى كفاهم. وكما شاهد أهل الخندق وهم أكثر من ألف كثرة الطعام في بيت جابر بعد أن كان صاعاً من شعير، وعناقاً، فأكلوا كلهم بعد الجوع حتى شبعوا وفضلت فضلة. وكما شاهد الثمانون نفساً كثرة الطعام لما أكلوا في بيت أبي طلحة. وكما شاهد الثلاثمائة كثرة الماء لما توضؤوا من قدح، والماء ينبع من بين أصابعه، حتى كفاهم للوضوء. وكذلك وليمة زينب، كانوا ثلاثمائة، فأكلوا من طعام في تور من حجارة وهو باق، فظنّ أنس أنه أزيد مما كان، وكانوا يتداولون قصعة من غدوة إلى الليل، يقوم عشرة، ويقعد عشرة؛ كما في حديث سمرة بن جندب. وأهل الصفة لما شربوا كلهم من اللبن القليل، وكفاهم، وفضل، وكانوا ينقلون ذلك بينهم، وهو مشهور ينقله بعض من شاهده إلى من غاب عنه....". الجواب الصحيح 6/324-326.

ص: 498

آية إبراهيم كانت بعد نبوته

وكذلك إلقاء الخليل في النار، إنّما كان بعد نبوته، ودعائه لهم إلى التوحيد1.

آيات الأنبياء أدلة وبراهين سواء استدلوا بها أو لم

الثامن: إنّ الدليل الدالّ على المدلول عليه، ليس من شرط دلالته استدلال أحدٍ به، بل ما كان النظر الصحيح فيه موصلاً إلى علمٍ، فهو دليل، وإن لم يستدلّ به أحدٌ؛ فالآيات أدلةٌ وبراهين تدلّ سواءٌ استدلّ به النبيّ، أو لم يستدلّ. وما لا يدلّ إذا لم يُستدلّ به لا يدلّ إذا استدلّ به، ولا ينقلب ما ليس بدليلٍ دليلاً إذا استدلّ به [مدّعٍ] 2 لدلالته.

آيات الأنبياء لا تكون إلا خارقة للعادة ولا يقدر أحد على معارضتها

التاسع: أن يُقال: آياتُ الأنبياء لا تكون إلا خارقة للعادة، ولا تكون مما يقدر [أحدٌ] 3 على معارضتها. فاختصاصها بالنبيّ، وسلامتها عن المعارضة شرطٌ فيها، بل وفي كلّ [دليل] 4؛ فإنه لا يكون دليلاً حتى يكون مختصّاً [بالمدلول] 5 عليه، ولا يكون مختصّاً إلا إذا سلم عن

1 يدلّ على ذلك قول الله تعالى يحكي عن الخليل عليه السلام: {قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ} . سورة الأنبياء، الآيات 66-69.

2 في ((خ)) : مدعي. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

3 في ((خ)) : أحدا. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

4 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) .

5 في ((خ)) : مدل. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

ص: 500

المعارضة1، فلم يُوجد مع عدم المدلول عليه مثله. وإلا إذا وُجد [هو أو مثله] 2 بدون المدلول، لم يكن مختصّاً؛ فلا يكون دليلاً. لكن كما أنّه لا يكفي مجرّد كونه خارقاً لعادة أولئك القوم دون غيرهم، فلا يكفي أيضاً عدم معارضة أولئك القوم، بل لا بدّ أن يكون ممّا لم يعتده غير الأنبياء؛ فيكون خارقاً لعادة غير الأنبياء. فمتى عُرف أنّه يُوجد لغير الأنبياء بطلت دلالته، ومتى عارض غير النبيِّ النبيَّ بمثل ما أتى به، بطل الاختصاص.

كرامات الأولياء من دلائل النبوة

وما ذكره المعتزلة، وغيرهم؛ كابن حزم: من أنّ آيات الأنبياء مختصةٌ بهم كلامٌ صحيحٌ3. لكنّ كرامات الأولياء هي من دلائل النبوة؛ فإنّها لا تُوجد إلا لمن اتّبع النبيَّ الصادقَ4، فصار وجودها كوجود ما أخبر به

1 أي أنّ استلزام الدليل بالمدلول عليه، والسلامة من المعارضة شرط في كل دليل.

2 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) .

3 قال القاضي عبد الجبار في شروط المعجزة عند المعتزلة: "واعلم أنّ من حق المعجز أن يكون واقعاً من الله تعالى حقيقة، أو تقديراً، وأن يكون مما تنتقض به العادة المختصة بمن أظهر المعجز فيه، وأن يتعذر على العباد فعل مثله في جنسه، أو صفته، وأن يكون مختصاً بمن يدعي النبوة على طريقة التصديق له. فما اختص بعده بالصفات وصفناه بأنّه معجز من جهة الاصطلاح". المغني في أبواب العدل والتوحيد للقاضي عبد الجبار 15/199.

أما ابن حزم فقال: ".. وأنّ المعجزات لا يأتي بها أحد إلا الأنبياء عليهم السلام..". المحلى لابن حزم 1/36. وانظر أعلام النبوة للماوردي ص 62.

4 وقد أوضح شيخ الإسلام رحمه الله أنّ كرامات الأولياء لا تصل إلى آيات الأنبياء الكبرى، ولا يأتون بمثلها؛ كالناقة، والعصا، وخلق الطير من الطين، والقرآن، ونصر الأنبياء، وإهلاك المكذبين؛ فإنه لا تحصل لهم هذه الآيات..

يقول رحمه الله في هذا الكتاب: "وأما آيات الأنبياء التي بها تثبت نبوتهم، وبها وجب على الناس الإيمان بهم: فهي أمرٌ يخصّ الأنبياء، لا يكون للأولياء، ولا لغيرهم". النبوات ص 1035.

ويقول رحمه الله أيضاً: "وأما كرامات الصالحين فهي من آيات الأنبياء كما تقدم. ولكن ليست من آياتهم الكبرى، ولا يتوقف إثبات النبوة عليها". النبوات ص 1035.

ص: 501

النبيُّ من الغيب. وأمّا ما يأتي به السحرة، والكهّان من العجائب؛ فتلك جنسٌ معتادٌ لغير الأنبياء وأتباعهم، بل [لجنسٍ معروفين] 1 بالكذب، والفجور؛ فهو خارقٌ بالنسبة إلى غير أهله. وكلّ صناعةٍ فهي خارقةٌ عند غير أهلها، ولا تكون آية.

وآيات الأنبياء هي خارقةٌ لغير الأنبياء، وإن كانت [معتادة للأنبياء]2.

آيات الأنبياء خارجة عن مقدور الثقلين

العاشر: إنّ آيات الأنبياء خارجةٌ عن مقدور من أُرسل الأنبياء إليه؛ وهم الجنّ والإنس؛ فلا تقدر الإنس3 والجن أن يأتوا بمثل معجز الأنبياء؛ كما قال تعالى: {قُلْ لَئِن اجْتَمَعَتِ الإنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا القُرْآنِ لا يَأْتُوْنَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَاْنَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيْرَاً} 4. وأما الملائكة فلا تضر قدرتهم على مثل ذلك؛ فإنّ الملائكة إنما تنزل على الأنبياء لا تنزل على السحرة، والكُهّان؛ كما أن الشياطين لا [تتنزل] 5 على الأنبياء.

الملائكة تنزل على الأنبياء والشياطين تنزل على الكذابين

والملائكة لا تكذب على الله، فإذا كانت الآيات من أفعال الملائكة؛ مثل إخبارهم للنبي عن الله بالغيب، ومثل نصرهم له على عدوه، وإهلاكهم له6 نصراً وهلاكاً خارجين عن العادة؛ كما فعلته الملائكة يوم بدر وغيره7، وكما فعلت

1 في ((م)) ، و ((ط)) : الجنس معروف.

2 في ((خ)) : معتادة لغير الأنبياء. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

3 في ((ط)) : لإنس.

4 سورة الإسراء، الآية 88.

5 في ((م)) ، و ((ط)) : تنزّل.

6 أي لعدوّه.

7 قال شيخ الإسلام رحمه الله عن يوم بدر، يوم حنين: "أنهما غزاتان بينهما نحو ست سنين؛ كانت بدر في السنة الثانية من الهجرة، وكانت حنين في السنة الثامنة بعد فتح مكة، وأنّ بدراً مكان بين مكة والمدينة؛ شامي مكة، ويماني المدينة. وحنين واد قريب من الطائف شرقي مكة. وإنما قرن بينهما في الاسم لأنّ الله أنزل فيهما الملائكة، وأيّد بهما نبيّه والمؤمنين، حتى غلبوا عدوّهم، مع قوة العدو في بدر، ومع

هزيمة أكثر المسلمين أولاً بحنين. وامتنّ الله بذلك في كتابه في قوله: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [سورة آل عمران، الآية 123] . وفي قوله: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا..} . [سورة التوبة، الآيتان 25-26] .) . الجواب الصحيح 6/336.

ص: 502

بقوم لوط1، وكما فعلت بمريم والمسيح2، ونحو ذلك؛ وكإتيانهم لسليمان بعرش بلقيس؛ فقد روي أنّ الملائكة جاءته به وهي أقدر من الجنّ3،لم يكن هذا خارجاً عمّا اعتاده الأنبياء، بل هذا ليس لغير الأنبياء، فلا يقول إن غير الأنبياء اعتادوه فنُقضت عادتهم، بل هذا لم يعتده إلا

1 قال تعالى: {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ..} الآيات. [سورة هود، الآيات 77-81] . وقال تعالى: {وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ} . [سورة القمر، الآية 37] .

2 قال تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِيّاً

} إلى قوله: {قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيّاً} . سورة مريم، الآيات 16-19.

3 قال تعالى: {قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ..} . سورة النمل، الآية 40.

والأقوال في الذي عنده علم من الكتاب، وأحضر عرش بلقيس كثيرة، تصل إلى ثمانية أقوال. ومن أشهرها أنه سليمان عليه السلام. وقيل ملك من الملائكة أيّد الله به نبيّه سليمان. وقيل هو جبريل عليه السلام؛ قاله النخعي، وروي عن ابن عباس. وعلم الكتاب على هذا: علمه بكتب الله المنزلة، أو بما في اللوح المحفوظ. وقال أكثر المفسرين: هو آصف بن برخيا ابن خالة سليمان، وكان صدّيقاً يعلم اسم الله الأعظم الذي إذا دُعي به أجاب، وإذا سُئل به أعطى) .

انظر: تفسير البغوي 3/420. وتفسير القرطبي 13/136.

ص: 503

الأنبياء، وهو مناقض لجنس عادات الآدميين؛ بمعنى أنه لا يوجد فيما اعتاده بنو آدم في جميع الأصناف غير الأنبياء؛ كما اعتادوا العجائب من السحر، والكهانة، والصناعات العجيبة، وما يستعينون عليه بالجن والإنس والقوى الطبيعية؛ مثل الطلاسم1 [وغيرها؛ فكل هذا معتاد معروف لغير الأنبياء. وهؤلاء جعلوا الطلاسم] 2 من جنس المعجزات، وقالوا3: لو أتى بها نبي لكانت [آية له] 4، وإذا أتى بها من لم يدّع النبوة جاز، وإن ادّعاها كاذب سلبه الله علمها، أو قيّض له من يعارضه. وهذا قول قبيح؛ فإنّه لو جعل شيء من معجزات الأنبياء وآياتهم من جنس ما يأتي به ساحر، أو كاهن، أو مطلسم، أو5 مخدوم من الجن لاستوى الجنسان، ولم يكن فرق بين الأنبياء وبين هؤلاء، ولم يتميّز بذلك النبيّ من غيره. وهذا مما عظم غلط هؤلاء فيه فلم يعرفوا خصائص النبيّ، وخصائص آياته.

الفلاسفة جعلوا للنبوة ثلاث خصائص

كما أنّ المتفلسفة أبعد [منهم] 6 عن الإيمان؛ فجعلوا للنبوة ثلاث

1 الطلسم: لفظ يوناني. وقد سبق معناه في ص 388.

وقد اشتغل المصريون القدماء، والبابليون، والكلدانيون، والسريانيون بعلم الطلاسم، واشتغل به في المشرق جابر بن حيان، وبعده مسلمة بن أحمد المجريطي في الأندلس. انظر: دائرة المعارف لوجدي 5/770.

2 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) .

3 المقصود بهم الأشاعرة. انظر كلام الباقلاني في هذه المسألة في كتابه: البيان ص 98-100.

4 في ((خ)) : له آية. إلا أنّ الناسخ جعل فوق الكلمتين حرف ((م)) للدلالة على التقديم والتأخير، فصار الصواب ما هو مثبت في ((م)) ، و ((ط)) .

5 في ((ط)) : احو.

6 ما بين المعقوفتين ملحق في ((خ)) بين السطرين.

ص: 504

خصائص: حصول [العلم] 1 بلا تعلّم2، وقوّة نفسه المؤثرة في هيولي العالم، وتخيّل السمع والبصر3. وهذه الثلاثة توجد لكثير من عوام الناس.

1 في ((خ)) : التعلم. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

2 قال ابن سينا في كتاب النجاة فصل في طرق اكتساب النفس الناطقة للعلوم: "واعلم أنّ التعلّم سواء حصل من غير المتعلم، أو حصل من نفس المتعلم؛ فإنّ من المتعلمين من يكون أقرب إلى التصوّر؛ لأنّ استعداده الذي قبل الاستعداد الذي ذكرناه أقوى. فإن كان ذلك الإنسان مستعداً للاستكمال فيما بينه وبين نفسه سُمّي هذا الاستعداد القوي حدساً. وهذا الاستعداد قد يشتدّ في بعض الناس، حتى لا يحتاج في أن يتصل بالعقل الفعّال إلى كبير شيء، وإلى تخريج وتعليم، بل يكون شديد الاستعداد لذلك، كأن الاستعداد الثاني حاصل له، بل كأنه يعرف كل شيء من نفسه. وهذه الدرجة أعلى درجات هذا الاستعداد، ويجب أن تُسمّى هذه الحال من الفعل الهيولاني عقلاً قدسياً، وهو من جنس العقل بالملكة، إلا أنه رفيع جداً، ليس مما يشترك فيه الناس كلهم. ولا يبعد أن تفيض هذه الأفعال المنسوبة إلى الروح القدسي لقوتها واستعلائها فيضاناً على المتخيلة أيضاً، فتحاكيها المتخيلة أيضاً بأمثلة محسوسة ومسموعة من الكلام على النحو الذي سلفت الإشارة إليه

إلى أن قال: وهذا ضرب من النبوة، بل أعلى قوى النبوة. والأولى أن تُسمّى هذه القوة قوة قدسية. وهي أعلى مراتب القوى الإنسانية". النجاة لابن سينا ص 166-168.

3 انظر: كتاب الشفاء لابن سينا في قسم النفس منه ص 244-246. والإشارات والتنبيهات له 2/368-370، 413، 853-903 تحقيق سليمان دنيا. وآراء أهل المدينة الفاضلة للفارابي ص 89.

ولقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله خصائص النبوة عند الفلاسفة في مواضع شتى من كتبه؛ انظر مثلاً: درء تعارض العقل والنقل 1/179، و5/355، و9/44، و10/204-205. ومنهاج السنة النبوية 2/413، و8/24. وكتاب الصفدية 1/5-7. والرد على المنطقيين. وشرح الأصفهانية 2/503. والرسالة العرشية ص 11. والفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص204. ومجموع الفتاوى 11/229. وبغية المرتاد ص 384. والجواب الصحيح 6/24، 47.

ص: 505

ولم يفرقوا1 بين النبيّ والساحر إلا بأنّ هذا برّ، وهذا فاجر. والقاضي أبو بكر2 وأمثاله يجعلون هذا الفرق سمعيا3.

والفرق الذي لا بُدّ منه عندهم: الاستدلال بها، والتحدي بالمثل4.

وكلّ من هؤلاء5، وهؤلاء6 أدخلوا مع الأنبياء من ليس [بنبيّ] 7، ولم يعرفوا خصائص الأنبياء، ولا خصائص آياتهم؛ فلزمهم جعل من ليس

1 أي المتفلسفة. وانظر ردّ شيخ الإسلام على مقولتهم هذه في: كتاب الصفدية 1/135، 147. والجواب الصحيح 6/400-401، 496، 500؛ حيث ردّ عليهم شيخ الإسلام رحمه الله من وجهين.

وقد قال عنهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وجعلوا ما للأنبياء وغير الأنبياء من المعجزات والكرامات وما للسحرة من العجائب، هو من قوى النفس. لكن الفرق بينهما أنّ ذلك قصده الخير، وهذا قصده الشرّ. وهذا المذهب من أفسد مذاهب العقلاء...... فإنه مبنيّ على إنكار الملائكة، وإنكار الجنّ، وعلى أنّ الله لا يعلم الجزئيات، ولا يخلق بمشيئته وقدرته، ولا يقدر على تغيير العالم. ثمّ إنّ هؤلاء لا يقرّون من المعجزات إلا بما جرى على هذا الأصل وأمكن أن يُقال فيه هذا؛ مثل نزول المطر، وتسخير السباع، وإمراض الغير، وقتله، ونحو ذلك. وأما قلب العصا حية، وإحياء الموتى، وإخراج الناقة من الهضبة، وانشقاق القمر، وأمثال ذلك، فلا يقرّون به

". الجواب الصحيح 6/24-25.

2 الباقلاني.

3 انظر: البيان للباقلاني ص 38-41. وانظر: منهاج السنة النبوية 2/415. والجواب الصحيح 6/400-401.

4 انظر: البيان للباقلاني ص 46-47، 94.

5 الأشاعرة.

6 المتفلسفة.

7 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) .

ص: 506

بنبي نبيّاً، أو جعل النبيّ ليس بنبيّ؛ إذ كان ما ذكروه في النبوة مشتركا بين الأنبياء وغيرهم.

فمن [ظنّ] 1 أنه يكون لغير الأنبياء، قدح في الأنبياء أن [يكون] 2 هذا هو دليلهم بوجود مثل ما جاءوا به لغير النبي. ومن ظنّ أنّه لا يكون إلا لنبيّ، إذا رأى من فعله من متنبئ كاذب، وساحر، وكاهن ظنّ أنّه نبيّ.

والإيمان بالنبوة أصل [النجاة] 3 والسعادة. فمن لم يحقق هذا الباب اضطرب عليه باب الهدى والضلال، والإيمان والكفر، ولم يميّز بين الخطأ والصواب.

ولما كان الذين اتبعوا هؤلاء وهؤلاء من المتأخرين4؛ مثل أبي حامد5، والرازي، والآمدي، وأمثالهم: هذا، ونحوه مبلغ علمهم بالنبوّة، لم يكن لها في قلوبهم من العظمة ما يجب لها؛ فلا يستدلّون بها على الأمور العلمية الخبرية؛ وهي خاصّة النبيّ؛ وهو الإخبار عن الغيب، والإنباء به؛ فلا يستدلّون بكلام الله ورسوله على الإنباء بالغيب التي يُقطع بها، بل عمدتهم ما يدعونه من العقليات المتناقضة.

1 في ((خ)) : علم ظنّ. ولعلّ الصواب حذف كلمة (علم) بدليل السياق. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

2 ما بين المعقوفتين ليس في ((خ)) ، وهو في ((م)) ، و ((ط)) .

3 في ((خ)) : التجارة. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

4 أي خلطوا بين الفلسفة والأشعرية، أو ما يُسميهم شيخ الإسلام رحمه الله متفلسفة الأشعرية. انظر: درء تعارض العقل والنقل 3/339.

وانظر كلام شيخ الإسلام رحمه الله عن الغزالي، والرازي، والشهرستاني، والآمدي، وتأثرهم بالفلاسفة، وكتب ابن سينا سيما في النبوات في: مجموع الفتاوى 4/99، 5/560. وشرح الأصفهانية 1/272.

5 الغزالي.

ص: 507

ولهذا يقرون بالحيرة في آخر عمرهم؛ كما قال الرازي:

نهاية إقدام العقول عقال

وأكثر سعي العالمين ضلال

وأرواحنا في وحشة من جسومنا

وحاصل دنيانا أذى ووبال

ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا

سوى أن جمعنا فيه قيل وقال

لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي [عليلا] 1، ولا تروي غليلا، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن، أقرأ في الإثبات:{إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} 2، {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 3. وأقرأ في النفي:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} {وَلا يُحِيْطُونَ بِهِ عِلْمَاً} 5. ومن جرّب مثل تجربتي، عرف مثل معرفتي6.

آيات الأنبياء مختصة بهم..

الوجه الحادي عشر: إنّ آيات الأنبياء مما يعلم العقلاء أنها مختصة بهم، ليست مما تكون لغيرهم؛ فيعلمون أنّ الله لم يخلق مثلها لغير الأنبياء. وسواء في آياتهم التي كانت في حياة قومهم، وآياتهم التي فرّق الله بها بين أتباعهم وبين مكذّبيهم؛ بنجاة هؤلاء، وهلاك هؤلاء، ليست من جنس ما يوجد في العادات المختلفة لغيرهم7؛

1 في ((ط)) : غليلاً.

2 سورة فاطر، الآية 10.

3 سورة طه، الآية 5.

4 سورة الشورى، الآية 11.

5 سورة طه، الآية 110.

6 تقدّم إيراده مراراً في هذا الكتاب. انظر على سبيل المثال ص 332.

7 وقد عقد المؤلف رحمه الله فصلاً في كتابه ((الجواب الصحيح)) 6/387، وذكر فيه كثيراً من الشواهد والآيات للأنبياء الدالّة على إهلاك الله لمكذّبيهم، ونصره للمؤمنين بهم، وأنها من أعلام نبوتهم، ودلائل صدقهم.

ص: 508

وذلك: مثل تغريق الله لجميع أهل [الأرض] 1 إلا لنوح، ومن ركب معه في السفينة؛ فهذا لم يكن قط في العالم نظيره2.

إنجاء الله الرسل ومن معهم وإهلاك مكذبيهم من آياتهم

وكذلك: إهلاك قوم عاد إِرَمَ3 ذات العماد التي لم يُخلق مثلها في البلاد، مع كثرتهم، وقوتهم، وعظم عماراتهم التي لم يُخلق مثلها في البلاد، ثم أهلكوا بريح صرصر عاتية مسخرة سبع ليال وثمانية أيام حسوماً؛ حتى صاروا كلّهم كأنّهم أعجاز نخل خاوية4. ونجا هود ومن اتّبعه؛ فهذا لم يوجد نظيره في العالم.

وكذلك: قوم صالح؛ أصحاب مدائن، ومساكن في السهل والجبل، وبساتين؛ أُهلكوا كلّهم بصيحةٍ واحدةٍ5؛ فهذا لم يوجد نظيره في العالم.

1 ما بين المعقوفتين ملحق في ((خ)) بين السطرين.

2 قال تعالى: {وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَاباً أَلِيماً} . [سورة الفرقان، الآية 37] .

وقال تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ..} . [سورة هود، الآية 40-43] .

3 قال قتادة، والسدي: إنّ إرم بيت مملكة عاد. قال ابن كثير: وهذا قول حسن جيد. تفسير ابن كثير 8/417.

4 قال تعالى: {وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ} . [سورة الحاقة، الآيات 6-8] .

5 قال تعالى: {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} . [سورة الأعراف، الآية 74] .

وقال تعالى عنهم: {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} . [سورة النمل، الآية 52] .

ص: 509

وكذلك: قوم لوط؛ أصحاب مدائن متعددة، رُفعت إلى السماء، ثُمّ قُلبت بهم، وأُتْبعوا بحجارة من السماء، تتّبع شاذهم1، ونجا لوط وأهله، إلا امرأته أصابها ما أصابهم؛ فهذا لم يوجد نظيره في العالم.

وكذلك: قوم فرعون وموسى جمعان عظيمان، ينفرق لهم البحر كل فِرق كالطّود العظيم؛ فيسلك هؤلاء، ويخرجون سالمين؛ فإذا سلك الآخرون انطبق عليهم الماء2؛ فهذا لم يوجد نظيره في العالم.

فهذه آيات تعرف العقلاء عموماً أنّها ليست من جنس ما يموت به بنو آدم. وقد يحصل لبعض الناس طاعون، ولبعضهم جدب، ونحو ذلك. وهذا مما اعتاده الناس؛ وهو من آيات الله من وجه آخر، بل كل حادث من آيات [الله] 3 تعالى.

ولكنّ هذه الآيات ليست من جنس ما اعتيد.

الكعبة لها خاصية ليست لغيرها

وكذلك الكعبة فإنّها بيتٌ من حجارةٍ بوادٍ غيِر ذي زرع4، ليس عندها أحدٌ يحفظها من عدو، ولا عندها بساتين وأمور يرغب الناس فيها؛ فليس عندها رغبة ولا رهبة. ومع هذا فقد حفظها بالهيبة والعظمة؛ فكل من يأتيها يأتيها خاضعاً، ذليلاً، متواضعاً في غاية التواضع. وجعل فيها من الرغبة ما

ص: 510

يأتيها الناس من أقطار الأرض محبةً، وشوقاً، من غير باعثٍ دنيوي. وهي على هذه الحال من ألوف من السنين؛ وهذا مما لا يُعرف في العالم لبُنيةٍ غيرها. والملوك يبنون القصور العظيمة فتبقى مدة، ثم تهدم، لا يرغب أحدٌ في [بنائها] 1، ولا يرهبون من خرابها.

وكذلك ما بني للعبادات قد [يتغيّر] 2 حاله على طول الزمان، وقد يستولي العدو عليه؛ كما استولى [على] 3 بيت المقدس.

والكعبة لها خاصية ليست لغيرها.

وهذا مما حيّر الفلاسفة ونحوهم؛ فإنهم يظنون أنّ المؤثر في هذا العالم هو حركات الفلك، وأنّ ما بُني وبقي فقد بُني بطالع [سعيد] 4؛ فحاروا في طالع الكعبة، إذ لم يجدوا في الأشكال الفلكيّة ما يوجب مثل هذه السعادة، [والعزة] 5، والعظمة، والدوام، والقهر، والغلبة6.

وكذلك ما [فعله] 7 الله بأصحاب الفيل لما قصدوا تخريبها8؛ قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيْل وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرَاً أَبَابِيل تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيل فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ

1 في ((خ)) : ابنائها.

2 في ((م)) ، و ((ط)) : تتغيّر.

3 في ((ط)) : عليه.

4 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) .

5 في ((م)) ، و ((ط)) : الفرح.

6 انظر: كتاب الصفدية 1/220. والرد على المنطقيين ص 502. والجواب الصحيح 5/264-265.

7 في ((م)) ، و ((ط)) : فعل.

8 أي الكعبة المشرفة.

ص: 511

مَأْكُول} 1؛ قصدها جيشٌ عظيمٌ، ومعهم الفيل، فهرب أهلها منهم، فبرك الفيل، وامتنع من المسير إلى جهتها، وإذا وجّهوه إلى غير جهتها توجّه. ثم جاءهم من البحر طيرٌ أبابيل؛ أي جماعات في تفرقة؛ فوجاً بعد فوج، رموا عليهم حصى هلكوا به كلهم. فهذا [ممّا] 2 لم يوجد نظيره في العالم3.

الدليل يستلزم المدلول

فآيات الأنبياء هي أدلة وبراهين على صدقهم. والدليل يجب أن يكون مختصاً بالمدلول عليه، لا يوجد مع عدمه، لا [يتحقق] 4 الدليل إلا مع تحقق المدلول؛ كما أنّ الحادث لا بد له من محدِث؛ فيمتنع وجود حادث بلا محدِث، ولا يكون المحدِث إلاّ قادراً؛ فيمتنع وجود الأحداث من غير قادر، والفعل لا يكون إلا من عالمٍ ونحو ذلك؛ فكذلك ما دل على صدق النبيّ، يمتنع وجوده إلا مع كون النبيّ صادقاً.

الأشاعرة لم يجعلوا المعجزة تدل دلالة عقلية ولا تدل بجنسها

ولم يجعلوا آيات الأنبياء تدلّ دلالةً عقليةً مستلزمةً للمدلول5، ولا [تدل] 6 [بجنسها] 7 ونفسها8، بل قال بعضهم9: قد تدلّ، وقد

1 سورة الفيل كلها (1-5) .

2 ما بين المعقوفتين ملحق في ((خ)) بين السطرين.

3 انظر كلام شيخ الإسلام حول هذا الموضوع بالتفصيل في: الجواب الصحيح 6/55-57؛ حيث عدّ ذلك آية من آيات النبوة.

4 في ((خ)) : بتحقيق. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

5 انظر: الإرشاد للجويني ص 324. والعقيدة النظامية له ص 68. وشرح المواقف للجرجاني 3/181-182.

6 في ((خ)) : يدلّ. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

7 في ((خ)) : لجنسها. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

8 انظر: البيان للباقلاني ص 48. والإرشاد للجويني ص 328.

9 ومنهم القاضي عبد الجبار من المعتزلة. انظر: المغني في أبواب التوحيد والعدل 15/161، 168، 172-173.

ص: 512

لا تدلّ. وقال آخرون: تدلّ مع الدعوى، ولا تدلّ مع عدم الدعوى1. وهذا يبطل كونها دليلاً2.

وآخرون3 أرادوا تحقيق ذلك، فقالوا: تدل [دلالة] 4 وضعيّة من جنس دلالة اللفظ على مراد المتكلم؛ تدل أن قصد الدلالة، ولا تدلّ بدون ذلك؛ فهي تدلّ مع الوضع دون غيره5.

رد شيخ الإسلام عليهم

فيقال لهم: وما يدلّ على قصد المتكلّم، هو أيضاً دليلٌ مطّرد، يمتنع وجوده بدون المدلول، ودلالته تعلم بالعقل؛ فجميع الأدلة تعلم بالعقل دلالتها على المدلول؛ فإنّ ذلك اللفظ إنّما يدلّ إذا عُلم أنّ المتكلّم أراد به هذا المعنى. وهذا قد يُعلم ضرورة، وقد يُعلم نظراً؛ فقد يُعلم قصد المتكلم بالضرورة؛ كما يُعلم أحوال الإنسان بالضرورة؛ فيفرّق بين حمرة الخجل، وصفرة الوجل، وبين حمرة المحموم، وصفرة المريض بالضرورة6. وقد يُعلم نظراً واستدلالاً؛ كما يُعلم أنّ عادته إذا قال كذا: أن يريد كذا، وأنّه لا ينقض عادته إلاّ إذا بيّن ما يدلّ على انتقاضها؛ فيُعلم هذا، كما يُعلم سائر العاديات؛ مثل طلوع الشمس كلّ يوم، والهلال كل شهر، وارتفاع الشمس في الصيف، وانخفاضها في الشتاء.

1 انظر: البيان للباقلاني ص 94. والإرشاد للجويني ص 319، 324.

2 انظر ردّ شيخ الإسلام رحمه الله على هذه المقولة في الجواب الصحيح 6/380.

3 انظر: الإرشاد للجويني ص 324، 325. والاقتصاد في الاعتقاد للغزالي ص 170.

4 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) .

5 وهذه مقولة الأشعرية. وقد سبق ردّ شيخ الإسلام رحمه الله عليها من عدة وجوه في هذا الكتاب. وقد عقد رحمه الله فصلاً عن هذا الموضوع، وحقق الكلام فيه، وسيأتي ص 268-271.

6 انظر: شرح الأصفهانية 2/622.

ص: 513

سنة الله في الفرق بين الأنبياء وبين مكذبيهم

ومن هذا سنة الله في الفرق بين الأنبياء وأتباعهم، وبين مكذّبهم؛ قال تعالى:{قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا في الأرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَان عَاقِبَةُ المُكَذِّبِين} 1، وقال تعالى:{فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاّ سُنَّةَ الأوَّلِيْنَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيْلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَحْوِيْلاً} 2، وقال تعالى:{أَفَلَمْ يَسِيْرُوا في الأرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكنْ تَعْمَى القُلُوبُ الَّتِيْ في الصُّدُور} 3، وقال تعالى:{وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشَاً فَنَقَّبُوا في الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيْص إِنَّ في ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيد} 4.

فإنّ هذه العجائب والآيات التي للأنبياء، تارةً تُعلم بمجرّد الأخبار المتواترة، وإن لم نشاهد شيئاً من آثارها، وتارةً نُشَاهد بالعيان آثارها الدالّة على ما حدث؛ كما قال تعالى:{وَعَادَاً [وَثَمُودَ] 5 وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ} 6، وقال تعالى:{فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَة بِمَا ظَلَمُوا} 7، وقال تعالى:{وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ [مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ] 8} 9، وقال تعالى: {إِنَّ في ذَلِكَ لآيَاتٍ للمُتَوَسِّمِينَ وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيم إِنَّ في ذَلِكَ

1 سورة آل عمران، الآية 137.

2 سورة فاطر، الآية 43.

3 سورة الحج، الآية 46.

4 سورة ق، الآيتان 36، 37.

5 في ((خ)) : وثمودا.

6 سورة العنكبوت، الآية 38.

7 سورة النمل، الآية 52.

8 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) .

9 سورة الصافات، الآيتان 137-138.

ص: 514

لآيَة للمُؤْمِنِينَ وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ [وَإِنَّهُمَا] 1 لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ} 2؛ أي لبطريق موضح، [متبيِّن] 3 لمن مرّ به آثارَهم.

وهذه الأخبار كانت منتشرة متواترة في العالم، وقد علم النّاس أنّها آيات للأنبياء، وعقوبة لمكذبيهم، ولهذا كانوا يذكرونها عند نظائرها للاعتبار؛ كما قال مؤمن آل فرعون:{يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ [عَلَيْكُمْ] 4 مِثْلَ يَوْمِ الأَحْزَابِ مِثْلَ دَأْبِ قوْمِ نوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْمَاً لِلْعِبَادِ} 5، وقال شعيب:{وَيَا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلَ مَا أَصَاب قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ} 6.

القرآن الكريم معجزة الرسول صلى الله عليه وسلم الخالدة.

والقرآن [آيته] 7 باقية على طول الزمان، من حين جاء به الرسول تُتْلى آيات التحدّي به. ويُتلى قوله:{فَليَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} 8، و {فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ} 9، و {بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ [اللهِ] 10} 11، ويُتلى قوله:{قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالجِنّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا القُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرَاً} 12.

1 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) .

2 سورة الحجر، الآيات 75-79.

3 في ((خ)) : وتبين. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

4 ما بين المعقوفتين ساقط من ((خ)) .

5 سورة غافر، الآيتان 30-31.

6 سورة هود، الآية 89.

7 في ((خ)) : آية. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

8 سورة الطور، الآية 34.

9 سورة هود، الآية 13.

10 ما بين المعقوفتين ملحق في ((خ)) بين السطرين.

11 سورة يونس، الآية 38.

12 سورة الإسراء، الآية 88.

ص: 515

فنفس إخبار الرسول بهذا في أول الأمر، وقطعه بذلك، مع علمه بكثرة الخلق، دليلٌ على أنّه كان خارقاً يعجز الثقلين عن [معارضته]1. وهذا لا يكون لغير الأنبياء.

ثمّ مع طول الزمان، قد سمعه الموافق، والمخالف، والعرب، والعجم. وليس في الأمم [من] 2 أظهر كتاباً يقرأه الناس، وقال إنّه مثله. وهذا يعرفه كلّ أحدٍ.

وما من كلام تكلم به الناس وإن كان في أعلى طبقات الكلام لفظاً ومعنىً، إلا وقد قال الناس نظيره، وما يشبهه ويقاربه؛ سواء كان شعراً، أو خطابةً، أو كلاماً في العلوم، [والحِكَمِ] 3 والاستدلال، والوعظ، والرسائل، وغير ذلك. وما وجد من ذلك شيء، إلَاّ ووجد ما يشبهه ويقاربه.

والقرآن ممّا يعلم الناس؛ عربهم، وعجمهم أنّه لم يُوجد له نظيرٌ، مع حرص العرب، وغير العرب على معارضته؛ فلفظه آية، ونظمه آية، وإخباره بالغيوب آية، وأمره ونهيه آية، ووعده ووعيده آية، وجلالته وعظمته وسلطانه على القلوب آية4. وإذا ترجم بغير العربي5 كانت

1 في ((خ)) : معارضة. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

2 في ((خ)) : ممن. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

3 في ((م)) ، و ((ط)) : الحكمة.

4 انظر: أعلام النبوة للماوردي ص 99-121. وإعجاز القرآن للباقلاني ص 83-102؛ فقد ذكر وجوهاً عدّة لإعجاز القرآن.

5 قال شيخ الإسلام رحمه الله: "القرآن يجوز ترجمة معانيه لمن لا يعرف العربية باتفاق العلماء". الجواب الصحيح 2/55.

وقال أيضاً عن ألفاظ القرآن: "ولكن يجوز تفسيرها باللسان العربي، وترجمتها بغير العربيّ) . الجواب الصحيح 3/20.

والشيخ رحمه الله يقصد ترجمة معاني وتفسير القرآن إلى لغة أخرى.

ولا يُراد بالترجمة ها هنا الترجمة الحرفية لألفاظ القرآن، فهذه لا خلاف في أنّها محرّمة، تؤدّي إلى تحريف القرآن. انظر: مناهل العرفان في علوم القرآن للزرقاني 2/27. والبرهان في علوم القرآن للزركشي 1/464.

ص: 516

معانيه آية. كلّ ذلك لا يوجد له نظيرٌ في العالم1.

وإذا قيل إنّ التوراة، والإنجيل، والزبور، لم يُوجد لها نظيرٌ أيضاً2، لم يضرّنا ذلك؛ فإنّا قلنا: إنّ آيات الأنبياء لا تكون لغيرهم، وإن كانت لجنس الأنبياء؛ كالإخبار بغيب الله؛ فهذه آية يشتركون فيها، وكذلك إحياء الموتى قد كان آية [لغير] 3 واحدٍ من الأنبياء غير المسيح؛ كما كان ذلك لموسى4، وغيره5.

1 انظر: الجواب الصحيح 5/405-411؛ إذ عقد الشيخ رحمه الله فيه فصلاً في بيان إعجاز القرآن الكريم. وكذا المصدر نفسه 5/433-434؛ وهو شرح وتوضيح لما أجمله الشيخ رحمه الله هنا.

وانظر أيضاً: البيان للباقلاني ص 31. والتمهيد له ص 167، 158. وإعجاز القرآن له ص 83-99. والإرشاد للجويني ص 349-353. وتفسير القرطبي 1/52-54؛ فقد ذكر عشرة أوجه لإعجاز القرآن الكريم. وأعلام النبوة للماوردي ص 99-122.

2 يرى الباقلاني أنّ الإعجاز خاص بالقرآن الكريم دون الكتب الأخرى، ولذلك نجده يقول:"إنّا لم نجد أهل التوراة والإنجيل ادّعوا الإعجاز لكتابهم، ولا ادّعى لهم المسلمون. فعُلِم أنّ الإعجاز ممّا يختصّ به القرآن..". إعجاز القرآن للباقلاني ص 81.

3 في ((ط)) : فغير.

4 ووجه إحياء الموتى لموسى عليه السلام ما قاله تعالى: {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [البقرة، الآية 73] . وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله تفصيلاً لإحياء الله الموتى على يد موسى عليه السلام في الجواب الصحيح 4/17-18.

5 قال شيخ الإسلام رحمه الله: "فإنّ أعظم آيات المسيح عليه السلام إحياء الموتى. وهذه الآية قد شاركه فيها غيره من الأنبياء؛ كإلياس وغيره". الجواب الصحيح 4/17.

وانظر: الجواب الصحيح 5/434-435؛ فهو كالشرح لهذا الكلام.

ص: 517

جنس الأنبياء مميزون عن غيرهم بالآيات

وليس المقصود هنا ذكر تفضيل بعض الأنبياء على بعض، بل المقصود أنّ جنس الأنبياء متميزون عن غيرهم بالآيات، والدلائل [الدالّة] 1 على صدقهم، التي يعلم العقلاء إنّها لم توجد لغيرهم؛ [فيعلمون أنّها ليست لغيرهم] 2؛ لا عادةً، ولا خرق عادة، بل إذا عبّر عنها بأنّها خرق عادة، وبأنّها من العجائب، فالأمر العجيب هو الخارج عن نظائره. وخارق العادة ما خرج عن الأمر المعتاد؛ [فالمراد بذلك أنّها خارجة عن الأمر المعتاد لغير الأنبياء] 3، وأنّها من العجائب الخارجة عن النظائر، فلا يُوجد نظيرها [لغير الأنبياء. وإذا وجد نظيرها] 4؛ سواء كان أعظم منها، أو دونها لنبيّ؛ فذلك توكيد لها أنّها من خصائص الأنبياء؛ [فإنّ الأنبياء يصدق5 بعضهم بعضاً، فآية كلّ نبيّ آية لجميع6 الأنبياء] 7؛ كما أنّ آيات أتباعهم آيات لهم أيضاً. وهذا أيضاً من آيات الأنبياء، وهو تصديق بعضهم لبعض؛ فلا يُوجد من أصحاب الخوارق العجيبة التي تكون لغير الأنبياء؛ كالسحرة، والكهنة، وأهل الطبائع، والصناعات إلاّ من يخالف بعضهم بعضاً [فيما يدعو] 8 إليه ويأمر به، ويُعادي بعضهم بعضاً. وكذلك أتباعهم إذا كانوا من أهل الاستقامة؛ فما أتى به الأول من الآيات، فهو دليلٌ على نبوّته،

1 في ((خ)) : الدلالة. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

2 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) .

3 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) .

4 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) .

5 في ((خ)) : تصدق. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

6 في ((خ)) : الجميع. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

7 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) .

8 في ((خ)) : في ما يدعوا. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

ص: 518

ونبوّة من يُبشّر به1، وما أتى به الثاني فهو دليلٌ على نبوّته ونبوة من يُصدّقه ممّن تقدّم2؛ فما أتى به موسى، والمسيح، وغيرهما من الآيات، فهي آيات لنبوّة محمدٍ لإخبارهم بنبوّته، فكان هذا الخبر ممّا دلّت آياتهم على صدقه.

وما أتى به محمد من الآيات، فهو دليلٌ على إثبات جنس الأنبياء مطلقاً، وعلى نبوّة كلّ من سُمِّيَ في القرآن، خصوصاً [إذا] 3 كان هذا ممّا أخبر به محمد صلى الله عليه وسلم عن الله، ودلّت آياته على صدقه فيما يخبر به عن الله. وحينئذٍ فإذا قُدِّر أنّ التوراة، أو الإنجيل، أو الزبور معجزٌ لما فيه من العلوم والإخبار عن الغيوب، والأمر والنهي، ونحو ذلك، لم يُنازع في ذلك، بل هذا دليل على نبوّتهم صلوات الله عليهم، وعلى نبوّة من أخبروا بنبوّته.

ومن قال: إنها ليست بمعجزة4. فإن أراد ليست معجزة من جهة اللفظ والنظم؛ كالقرآن، فهذا ممكن. وهذا يرجع إلى أهل اللغة العبرانية.

هل الكتب السابقة معجزة، أم لا؟

وأما كون التوراة معجزة من حيث المعاني لما فيها من الإخبار عن الغيوب، أو الأمر والنهي. فهذا لا ريب فيه. وممّا يدلّ على أنّ كتب الأنبياء معجزة: أنّ فيها الإخبار بنبوّة محمدصلى الله عليه وسلم قبل أن يُبعث بمدة طويلة. وهذا لا يُمكن علمه بدون إعلام الله لهم. وهذا بخلاف من أخبر

1 كما قال المسيح عليه السلام: {وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} . [الصف،6] .

2 ومن أمثلة ذلك تصديق المسيح عليه السلام بموسى عليه السلام؛ كما حكى الله ذلك عنه بقوله: {وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ} . [آل عمران، 50] .

3 في ((خ)) : إذ. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

4 قد أورد هذه المسألة الباقلاني بصيغة السؤال والجواب.

انظر: إعجاز القرآن للباقلاني ص 79. والتمهيد له ص180. وتفسير القرطبي 1/ 52. وإعلام النبوة للماوردي ص 111-112. والشفا للقاضي عياض 1/390.

ص: 519

بنبوّته من الكهّان والهواتف؛ فإنّ هذا إنّما كان عند قرب مبعثه لمّا ظهرت دلائل ذلك، واستَرَقَتْه الجنّ من الملائكة، فتحدثت به، وسمعته الجنّ من أتباع الأنبياء.

فالنبيّ الثاني إذا كان قد أخبر بما هو موجود في كتاب النبيّ الأول، وقد وصل إليه من جهته، لم يكن آية له؛ فإنّ العلماء يشاركونه في هذا.

وأما إذا أخبر بقدرٍ زائدٍ لم يوجد في خبر الأول، أو كان ممّن لم يصل إليه خبر نبيّ غيره، كان ذلك آية له؛ كما يوجد في نبوّة أشعيا، وداود، وغيرهما من صفات النبيّ ما لا يوجد مثله في توراة موسى1.

فهذه الكتب معجزة لما فيها من أخبار الغيب الذي لا يعلمه إلا نبيّ، وكذلك فيها من الأمر والنهي، والوعد والوعيد، ما لا يأتي به إلا نبيّ، أو تابع نبيّ. وما أتى أتباع الأنبياء من جهة كونهم أتباعاً لهم، مثل أمرهم بما أمروا به، ونهيهم عما نهوا عنه، ووعدهم بما وعدوا به، ووعيدهم بما [يُوعدون] 2 به؛ فإنه من خصائص الأنبياء.

1 لفظ التوراة. يُوضّح شيخ الإسلام رحمه الله أنّ له معنيين يُراد به جنس الكتب التي يُقرّ بها أهل الكتاب، فيدخل في ذلك الزبور، ونبوّة أشعيا، وسائر النبوات غير الإنجيل. وقد يُراد بها نفس الكتب المتقدمة كلّها. فكلّها تُسمّى توراة. انظر الجواب الصحيح 5/157-158.

أما إذا قُيّدت بلفظ توراة موسى. فالمقصود التوراة المكتوبة التي أُنزلت على موسى؛ كما قال تعالى: {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْء..} . [الأعراف، 145] .

يقول شيخ الإسلام رحمه الله: "والزبور تابعٌ لشرع التوراة، وكذلك الإنجيل فرعٌ على التوراة، لم ينزل كتاب مستقلّ إلا التوراة والقرآن..". الجواب الصحيح 5/351.

2 في ((خ)) : يوعدوا. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

ص: 520

مدعي النبوة لا يأمر بما تأمر به الأنبياء ولا ينهى عما نهوا عنه

والكذّاب المدّعي للنبوة لا يأمر بجميع ما أمرت به الأنبياء، وينهى عن كلّ ما نهوا عنه؛ فإنّ ذلك يُفسد مقصوده، وهو كاذبٌ، فاجرٌ، شيطانٌ من أعظم شياطين الإنس، والذي يُعينه على ذلك من أعظم [شياطين] 1 الجنّ.

وهؤلاء لا يُتصوّر أن يأمروا بما أمرت به الأنبياء، وينهوا عمّا نهوا عنه؛ لأنّ ذلك يناقض مقصودهم، بل وإن أمروا بالبعض في ابتداء الأمر، [مَنْ] 2 يخدعونه، ويربطونه، فلا بُدَّ أن يناقضوا، [فيأمروا] 3 [بما] 4 نهت عنه الأنبياء، ولا يُوجبوا ما أمرت به الأنبياء؛ كما جرى مثل ذلك لمن ادعى النبوّة من الكذّابين، ولمن أظهر موافقة الأنبياء، وهو في الباطن من المنافقين؛ كالملاحدة الباطنية5 الذين يُظهرون الإسلام والتشيّع ابتداءً، ثمّ إنّهم يستحلّون الشرك، والفواحش، والظلم، ويُسقطون الصلاة، والصيام، وغير ذلك ممّا جاءت به الشريعة. فمن أظهر خلاف ما أبطن، وكان مطاعاً في النّاس، فلا بُدّ أن يظهر من باطنه ما يُناقض ما أظهره.

1 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) .

2 في ((خ)) : ولمن. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

3 في ((خ)) : فيأمرا. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

4 ما بين المعقوفتين ملحق في ((خ)) بين السطرين.

5 قال عنهم شيخ الإسلام رحمه الله: "لا يعتقدون وجوب الصلوات الخمس، ولا الزكاة، ولا صيام شهر رمضان، ولا حجّ البيت العتيق، ولا تحريم ما حرّم الله ورسوله من الخمر، والميسر، والزنا، وغير ذلك. ويزعمون أنّ هذه النصوص لها تأويل وباطن غير الظاهر المعلوم للمسلمين. فالصلاة عندهم معرفة أسرارهم، والصيام كتمان أسرارهم، والحج زيارة شيوخهم، وأمثال ذلك. وقد يقولون: إنّ هذه الفرائض تسقط عن الخاصّة دون العامّة. وأما النصوص التي في المعاد، وفي أسماء الله وصفاته، وملائكته، فدعواهم فيها أوسع وأكثر". كتاب الصفدية 1/5.

ص: 521

فكيف بمن ادّعى النبوّة، وأظهر أنّه صادق على الله، وهو في الباطن كاذب على الله. بل من أظهر خلاف ما أبطن من آحاد الناس، يظهر حاله لمن خبره في مدّة؛ فإنّ الجسد مطيعٌ للقلب، والقلب هو الملك المدبّر له؛ كما قال [النبيّ] 1 صلى الله عليه وسلم:"ألا إنّ في الجسد مضغة إذا صلحت، [صلح] 2 لها سائر الجسد، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد، ألا وهي القلب "3.

فإذا كان القلب كاذباً على الله، فاجراً، كان ذلك أعظم الفساد، فلا بد أن يظهر الفساد على الجوارح، وذلك الفساد يُناقض حال الصادق على الله. وقد [بسط] 4 هذا في غير هذا الموضع5.

آيات الأنبياء كثيرة ومتنوعة

[وذلك] 6 أنّ آيات الأنبياء الدالّة على صدقهم كثيرةٌ متنوعةٌ7، وأنّ النبيّ الصادق خير الناس، والكاذب على الله شرّ النّاس8، وبينهما من

1 ما بين المعقوفتين ليس في ((م)) ، و ((ط)) .

2 في ((ط)) : صاح.

3 رواه البخاري في صحيحه1/28-29، كتاب الإيمان، باب فضل من استبرأ لدينه. ومسلم في صحيحه 3/1219-1220، كتاب المساقاة، باب أخذ الحلال، وترك الشبهات.

4 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) .

5 بسط الشيخ رحمه الله الكلام على هذا في كتابَيْه الإيمان الكبير، والأوسط، وهما ضمن مجموع الفتاوى، الجزء السابع. وانظر منه على سبيل المثال لا الحصر الصفحات التالية: 7/50، 362-365، 555. وانظر الجواب الصحيح 6/487.

6 في ((م)) : وذكر. وفي ((ط)) : ذكر.

7 ذكر شيخ الإسلام رحمه الله أنّ معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم تزيد على ألف معجزة.

انظر: الجواب الصحيح 1/399.

8 انظر: الجواب الصحيح 5/356-357.

ص: 522

الفروق ما لا يُحصيه إلا الله، فكيف يشتبه هذا بهذا. بل لهذا من دلائل صدقه، ولهذا من دلائل كذبه ما لا يمكن إحصاؤه. وكلّ من خصّ دليل الصدق بشيء معين فقط، غلط. بل آيات الأنبياء هي من آيات الله الدالّة على أمره ونهيه، ووعده ووعيده.

وآيات الله كثيرة متنوعة؛ كآيات وجوده، ووحدانيته، وعلمه، وقدرته، وحكمته، ورحمته سبحانه وتعالى. والقرآن مملوءٌ من تفصيل آياته، وتصريفها، وضرب الأمثال في ذلك، وهو يسميها آيات وبراهين1. وقد ذكرنا الفرق بين الآيات، والمقاييس الكلية التي لا تدلّ [إلا] 2 على أمرٍ كليّ في غير هذا الموضع3.

ما يأتي به السحرة والكهان فهو من مقدور الإنس والجن

الوجه الثاني عشر: إنّ ما يأتي به الساحر، والكاهن، وأهل الطبائع، والصناعات، والحيل، وكل من ليس من أتباع الأنبياء، لا يكون إلا من مقدور الإنس والجن؛ فما يقدر عليه الإنس من ذلك هو وأنواعه، والحيل فيه كثير. وما يقدر عليه الجن هو من جنس مقدور الإنس، وإنّما يختلفون في الطريق؛ فإن الساحر قد يقدر على أن يقتل إنساناً بالسّحر، أو يمرضه، أو يُفسد عقله، أو حسّه، وحركته، وكلامه؛ بحيث لا يُجامع، أو لا يمشي، أو لا يتكلم ونحو ذلك. وهذا كلّه ممّا يقدر الإنس على مثله، لكن بطرق أخرى. والجنّ يطيرون في الهواء، وعلى الماء، ويحملون الأجسام

1 انظر: الجواب الصحيح 5/412-417. وقاعدة في المعجزات والكرامات.

2 في ((ط)) : إلاى.

3 انظر: الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح 5/139-141، 477-483. ومجموع الفتاوى 1/47-50.

ص: 523

الثقيلة؛ كما قال العفريت1 لسليمان: {أَنَا آتِيْكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ} 2.

جنس مقدور الجن

وهذا الجنس يكون لمن هو دون الإنس والجنّ من الحيوان؛ كالطيور، والحيتان. والإنس يقدر على جنسه، ولهذا لم يكن هذا الجنس آية لنبيّ لوجوده لغير الأنبياء. فكثيرٌ من الناس تحمله الجنّ، بل شياطين الجنّ، وتطير به في الهواء، وتذهب به إلى مكان بعيد؛ كما كان العفريت يحمل عرش بلقيس من اليمن، إلى مكان بعيد.

خوارق أولياء الشيطان

ونحن نعرف من هؤلاء عدداً كثيراً، وليسوا صالحين، بل فيهم كفّارٌ، ومنافقون، وفُسّاق، وجُهّال، لا يعرفون الشريعة3، والشياطين تحملهم، وتطير بهم من مكان إلى مكان، وتحملهم إلى عرفات؛ فيشهدون عرفات من غير إحرام، ولا تلبية، ولا طواف بالبيت. وهذا الفعل حرام. والجُهّال يحسبون أنّه من كرامات الصالحين، فتفعله الجن بمن يحب ذلك مكراً به، وخديعةً، أو خدمةً لمن يستخدمهم من هؤلاء الجهّال بالشريعة، وإن كان له زهد وعبادة. وكذلك الجنّ كثيراً ما يأتون الناس بما يأخذونه من أموال الناس؛ من طعام، وشراب، ونفقة، وماء، وغير ذلك؛ وهو من جنس ما يسرقه الإنسي ويأتي به إلى الإنسي، لكنّ الجنّ تأتي بالطعام والشراب في مكان العدم.

1 العفريت من الجنّ: القوي المارد. انظر: تفسير القرطبي 13/135.

2 سورة النمل، الآية 39.

3 ذكر شيخ الإسلام رحمه الله بعض القصص والوقائع عن أحوال مدّعي الولاية.

انظر: الجواب الصحيح 2/318-327، 331-332، 338-343،، 3/347-351. والفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص 168، 169، 175، 326-331، 338، 341، 351-356، 365-369. وجامع الرسائل 1/192-196. ومجموع الفتاوى 17/456-460.

ص: 524

آيات الأنبياء لا يقدر على مثلها الجن والإنس

ولهذا لم يكن مثل هذا آية لنبيّ، وإنما كان النبي صلى الله عليه وسلم يضع يده في الماء، فينبع الماء من بين أصابعه1. وهذا لا يقدر عليه؛ لا إنس، ولا جنّ. وكذلك الطعام القليل يصير كثيراً2، وهذا لا يقدر عليه؛ لا الجنّ، ولا الإنس. ولم يأت [النبيّ] 3 [صلى الله عليه وسلم] 4 قطّ بطعامٍ من الغيب، ولا شرابٍ5، وإنما كان هذا قد يحصل لبعض أصحابه؛ كما أتى خبيب بن عدي6 وهو أسير بمكة بقطف من عنب7. وهذا الجنس ليس من خصائص الأنبياء. ومريم عليها السلام لم تكن نبيّة، وكانت تؤتى [بطعام8. فإنّ هذا قد يكون

1 سبقت الإشارة إلى ذلك ص 165.

2 سبقت الإشارة إلى ذلك ص 165، 601-603.

3 ما بين المعقوفتين كتب في ((خ)) مرتين.

4 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) .

5 ولشيخ الإسلام رحمه الله زيادة إيضاح لهذا الموضوع. انظر: الجواب الصحيح 6/403-404.

6 خبيب بن عدي بن مالك بن عامر الأوسيّ الأنصاري. شهد بدراً، واستشهد في عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم حين أخذه المشركون أسيراً في مكة، فقتله بنو الحارث. وكان خبيب قد قتل الحارث بن عامر في بدر. وقصة أسره وقتله في الصحيحين عن أبي هريرة. وفيه أنه عند مقتله صلى ركعتين. انظر: صحيح البخاري 4 /1499، كتاب المغازي، باب غزوة الرجيع. ومسند الإمام أحمد 2/310، 4/139، 5/287.

وقال أبياتاً، منها:

ولست أُبالي حين أُقتل مسلماً على أيّ جنبٍ كان في الله مصرعي

انظر: أسد الغابة لابن الأثير 2/103. والإصابة لابن حجر 2/262.

7 انظر: صحيح البخاري، كتاب الجهاد، باب هل يستأسر الرجل. رقم الحديث 2880.

8 قال تعالى يحكي عن مريم عليها السلام: {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} . [سورة آل عمران، الآية 37] .

ص: 525

من حلالٍ، فيكون كرامة؛ يأتي] 1 به إمّا مَلَك، وإمّا جنّي مسلم. وقد يكون حراماً. فليس كلّ ما كان من آيات الأنبياء يكون كرامةً للصالحين.

ليس كل ما كان من آيات الأنبياء يكون كرامة للصالحين

وهؤلاء2 يُسوّون بين هذا وهذا، ويقولون: الفرق هو دعوى النبوة والتحدي بالمثل3. وهذا غلط فإن آيات الأنبياء [عليهم السلام] 4 التي دلّت على نبوّتهم، هي أعلى ممّا يشتركون فيه، هم وأتباعهم؛ مثل الإتيان بالقرآن؛ ومثل الإخبار بأحوال الأنبياء المتقدمين، وأممهم، والإخبار بما يكون يوم القيامة، وأشراط الساعة؛ ومثل إخراج الناقة من الأرض5؛ ومثل قلب العصا حية6، وشقّ البحر7؛ ومثل أن [يخلق] 8 من الطين

1 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) .

2 أي الأشاعرة.

3 انظر: البيان للباقلاني ص 47، 48. والإرشاد للجويني ص 312، 324.

4 زيادة من ((ط)) .

5 قال تعالى: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} . [سورة الأعراف، الآية 73] .

وانظر تفسير ابن كثير 2/218؛ حيث تكلّم عن معجزة صالح عليه السلام؛ وهي إخراج هذه الناقة من صخرة ملساء صمّاء، انفلقت، وخرجت منها ناقة عشراء.

6 وهذه من معجزات موسى عليه السلام. قال تعالى: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى} . [سورة طه، الآيات 17-20] .

7 وهذه من معجزات موسى عليه السلام. قال تعالى يمتنّ على قوم موسى عليه السلام: {وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} . [سورة البقرة، الآية 50] .

8 في ((خ)) : خلق. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

ص: 526

كهيئة الطير، فينفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله1. وتسخير الجنّ لسليمان2 لم يكن مثله لغيره.

لكن من الجن المؤمنين من يعاون المؤمنين، ومن الجن الفساق، والكفار من يعاون الفساق؛ كما يُعاون الإنس بعضهم بعضاً3. فأمّا طاعة مثل طاعة سليمان، فهذا لم يكن لغير سليمان [عليه السلام] 4.

رسولنا صلى الله عليه وسلم أعطي أفضل مما أعطي سليمان صلى الله عليه وسلم

ومحمد صلى الله عليه وسلم أُعطي أفضل ممّا أُعطي سليمان [عليه السلام] 5؛ فإنّه أُرسل إلى الجنّ، وأُمروا أن يؤمنوا به، ويطيعوه6؛ فهو يدعوهم إلى عبادة الله، وطاعته، لا يأمرهم بخدمته، وقضاء حوائجه؛ كما كان سليمان يأمرهم، ولا يقهرهم باليد؛ كما كان سليمان يقهرهم، بل [يفعل] 7 فيهم كما [يفعل] 8 في الإنس، فيجاهدهم الجن والمؤمنون، ويقيمون الحدود على منافقيهم، فيتصرف فيهم تصرّف العبد الرسول، لا تصرّف النبي

1 وهذه من معجزات عيسى عليه السلام. قال الله تعالى حاكياً عن المسيح عليه السلام: {أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} . [سورة آل عمران، الآية 49] .

2 قال تعالى: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ} إلى قوله {وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ} . [سورة الأنبياء، الآيتان 81-82] .

3 وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله أحوال الجنّ مع الإنس. انظر: الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص 364) .

4 زيادة من ((ط)) .

5 زيادة من ((ط)) .

6 قال تعالى حكاية عن الجنّ: {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} . [سورة الأحقاف: 31-32] .

7 في ((خ)) : يفعله. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

8 في ((خ)) : يفعله. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

ص: 527

الملِك1؛ كما كان سليمان يتصرف فيهم.

أنواع استخدام الجن.

والصالحون من أمته، المتّبعون له يتّبعونه فيما كان يأمر به الإنس والجنّ. وآخرون دون هؤلاء قد يستخدمون بعض الجنّ في مباحات؛ كما قد يستخدمون بعض الإنس. وقد يكون ذلك مما ينقص دينهم، لا سيما إن كان بسببٍ غير مباح. وآخرون شرّ من هؤلاء يستخدمون الجنّ في أمور محرمة؛ من الظلم، والفواحش، فيقتلون نفوساً بغير حق، ويُعينونهم على ما يطلبونه من الفاحشة، كما يُحضرون لهم امرأة أو صبياً، أو يجذبونه إليه. وآخرون يستخدمونهم في الكفر. فهذه الأمور ليست من كرامات الصالحين2.

سبب كرامات الأولياء..

فإنّ كرامات الصالحين هو ما كان سببه الإيمان، والتقوى، لا ما كان سببه الكفر، والفسوق، والعصيان.

وأيضاً فالصالحون سابقوهم، لا يستخدمونهم إلا في طاعة الله ورسوله. ومن هو دون هؤلاء لا يستخدمهم إلا في مباح. وأمّا استخدامهم في المحرمات فهو حرام، وإن كانوا إنّما خدموه لطاعته لله؛ كما لو خدم الإنس رجلاً صالحاً لطاعته لله، ثم استخدمهم فيما لا يجوز. فهذا بمنزلة من أنعم عليه بطاعته نعمة، [فصرفها] 3 إلى معصية الله، فهو آثمٌ بذلك.

1 وانظر كلام شيخ الإسلام رحمه الله في: الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص 104-105، في أنّ العبد الرسول أفضل من النبي الملك.

وانظر ما سبق في هذا الكتاب ص 161.

2 وقد أفاض شيخ الإسلام رحمه الله في كتبه في الكلام حول هذا الموضوع، وبيَّن أن كثيراً من الناس يعتقد الولاية في هؤلاء، ويعتقد في خوارقهم أنها كرامات، مع أنهم من أولياء الشيطان.

انظر: مجموع الفتاوى 1/82-85، 168-178،، 17/456-460. والفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص 83، 124، 168-169، 226، 321-369. والجواب الصحيح 2/315-325،، 3/347-349.

3 في ((خ)) : صرفها. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

ص: 528

وكثيرٌ من هؤلاء يسلب تلك النعمة، ثم قد يسلب الطاعة؛ فيصير فاسقاً. ومنهم من يرتدّ عن دين الإسلام.

فطاعة الجنّ للإنسان ليست أعظم من طاعة الإنس، بل الإنس أجلّ، وأعظم، وأفضل، وطاعتهم أنفع.

وإذا كان المطاع من الإنس قد يطاع في طاعة الله، فيكون محموداً مثاباً، وقد يُطاع في معصية الله، فيكون مذموماً آثماً1. فكذلك المطاع من الجنّ الذي يُطيعه الناس.

والمطاع من الإنس قد يكون مطاعاً لصلاحه، ودينه. وقد يكون مطاعاً لملكه، وقوته. وقد يكون مطاعاً [لنفعه] 2 لمن يخدمه بالمعاوضة. فكذلك المطاع من الجن؛ قد يُطاع لصلاحه ودينه، وقد يُطاع لقوّة وملكٍ محمودٍ أو مذمومٍ. ثمّ المَلِك إذا سار بالعدل حُمِد، وإن سار بالظلم، فعاقبته مذمومة، وقد يهلكه أعوانه؛ فكذلك المطاع من الجن، إذا ظلمهم، أو ظلم الإنس بهم، أو بغيرهم، كانت عاقبته مذمومة. وقد [تقتله] 3 الجنّ، أو تُسلّط عليه من الإنس من يقتله. وكلّ هذا واقعٌ نعرف من ذلك من الوقائع ما يطول وصفه، كما [نعرف] 4 من ذلك من وقائع الإنس ما يطول وصفه5. وليس آيات الأنبياء في شيءٍ من هذا الجنس.

1 سوف يفصل الشيخ رحمه الله في أقسام طاعة الجن للإنس في ص 1228 من هذا الكتاب.

2 في ((خ)) : بنفعه. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

3 في ((خ)) : يقتله. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

4 في ((خ)) : يعرف. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

5 تقدمت الإشارة إلى بعض كتب شيخ الإسلام رحمه الله التي أشار فيها إلى بعض هذه الوقائع. انظر: ص 632 من هذا الكتاب. وسيأتي مزيد بيان لهذا الموضوع في آخر الكتاب ص 1222-1224، 1242، 1290-1292.

ص: 529

سبب الإسراء والمقصد منه

ونبيّنا صلى الله عليه وسلم لمّا أُسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، إنما أُسري به ليرى من آيات ربه الكبرى. وهذا هو الذي كان من خصائصه: أنّ مسراه كان هذا؛ كما قال تعالى: {أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ المُنْتَهَى عِنْدَهَا جَنَّة المَأْوَى} 1، وقال تعالى:{وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَاّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ} 2؛ قال ابن عباس: هي رؤيا عين3 أُريها رسول الله

1 سورة النجم، الآيات 11-15.

2 سورة الإسراء، الآية 60.

3 قال شيخ الإسلام رحمه الله: "وفي الصحيحين عن ابن عباس في قوله: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ} قال: هي رؤيا عين، أريها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به، وهذه رؤيا الآيات لأنه أخبر النسا بما رآه بعينه ليلة المعراج، فكان ذلك فتنة لهم حيث صدقه قوم وكذبه قوم، ولم يخبرهم بأنه رآى ربه بعينه في شيء من أحاديث المعراج الثابتة ذكر ذلك، ولو كان قد وقع ذلك لذكره كما ذكر ما دونه) . الفتاوى 6/510.

وأما مسألة رؤية الله جل وعلا فقال القاضي عياض رحمه الله: "وأما وجوبه لنبينا صلى الله عليه وسلم والقول بأنه رآه بعينه، فليس فيه قاطع أيضاً، ولا نصّ؛ إذ المعوّل فيه على آيتي (النجم) ، والتنازع فيهما مأثور، والاحتمال لهما ممكن، ولا أثر قاطع متواتر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بذلك". الشفاء للقاضي عياض 1/265.

ولشيخ الإسلام رحمه الله جمع بين الأقوال في رؤية الرسول صلى الله عليه وسلم لربه:

قال رحمه الله: "وأما الرؤية: فالذي ثبت في الصحيح عن ابن عباس أنّه قال: "رأى محمد ربه بفؤاده مرتين" وعائشة أنكرت الرؤية. فمن الناس من جمع بينهما، فقال: عائشة أنكرت رؤية العين، وابن عباس أثبت رؤية الفؤاد. والألفاظ الثابتة عن ابن عباس هي مطلقة، ومقيدة بالفؤاد؛ تارة يقول: رأى محمد ربّه. وتارة يقول: رآه محمد. ولم يثبت عن ابن عباس لفظ صريح بأنه رآه بعينه. وكذلك الإمام أحمد تارة يطلق الرؤية، وتارة يقول رآه بفؤاده. ولم يقل أحدٌ إنه سمع أحمد يقول رآه بعينه. لكنّ طائفة من أصحابه سمعوا بعض كلامه المطلق، ففهموا منه رؤية العين؛ كما سمع بعض الناس مطلق كلام ابن عباس، ففهم منه رؤية العين. وليس في الأدلة ما يقتضي أنه رآه بعينه، ولا ثبت ذلك عن أحد من الصحابة، ولا في الكتاب والسنة ما يدلّ على ذلك. بل النصوص الصحيحة على نفيه أدلّ؛ كما في صحيح مسلم عن أبي ذر قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل رأيتَ ربَّك؟ فقال: "نور أنى أراه ". مجموع الفتاوى 6/509-510.

وانظر أيضاً: زاد المعاد 3/37. وشرح الطحاوية 1/323.

ص: 530

صلى الله عليه وسلم ليلة أُسري به1. فهذا الذي كان من خصائصه، ومن أعلام نبوّته.

وأمّا مجرّد قطع تلك المسافة، فهذا يكون لمن [يحمله] 2 الجنّ. وقد قال العفريت لسليمان:{أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ} 3. وحمل [العرش من] 4 القصر من اليمن إلى الشام أبلغ من ذلك5. و {قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} 6؛ فهذا أبلغ من قطع المسافة التي بين المسجدين في ليلة.

ومحمد صلى الله عليه وسلم أفضل من الذي عنده علمٌ من الكتاب، ومن سليمان؛ فكان الذي خصّه الله به أفضل من ذلك؛ وهو أنه أسرى به في ليلةٍ ليُرِيَه من آياته؛ فالخاصّة أن الإسراء كان ليريه من آياته الكبرى؛ كما {رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ المُنْتَهَى عِنْدَهَا جَنَّة المَأْوَى إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى مَا زَاغَ البَصَرُ وَمَا طَغَى} 7

1 رواه البخاري في صحيحه 4/1748، كتاب التفسير، باب قوله تعالى:{وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} .

2 في ((م)) ، و ((ط)) : تحمله.

3 سورة النمل، الآية 39.

4 ما بين المعقوفتين ليس في ((خ)) ، وهو في ((م)) ، و ((ط)) .

5 تفسير ابن كثير 3/364.

6 سورة النمل، الآية 40.

7 سورة النجم، الآيات 13-17.

ص: 531

فهذا ما حصل مثله؛ لا لسليمان، ولا لغيره. والجنّ وإن قدروا على حمل بعض الناس في الهواء، فلا يقدرون على إصعاده إلى السماء، و [إراءته] 1 آيات ربه الكبرى؛ فكان ما آتاه الله [محمداً] 2 خارجاً عن قدرة الجنّ والإنس، وإنّما كان الذي صحبه في معراجه جبريل الذي اصطفاه الله لرسالته، و {اللهُ يَصْطَفِي مِنَ المَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النّاسِ} 3.

وكان المقصود من الإسراء أن يريه ما رآه من آياته الكبرى، ثم يخبر به النّاس، فلمّا أخبر به كذَّب به من كذّب من المشركين، وصدّق به الصدّيقُ وأمثاله4 من المؤمنين، فكان ذلك ابتلاءً ومحنةً للنّاس؛ كما قال:{وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَاّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ} 5؛ أي محنة وابتلاء للناس؛ ليتميّز المؤمن عن الكافر، وكان فيما أخبرهم به أنّه رأى الجنَّة والنَّار، وهذا ممّا يُخوّفهم به؛ قال تعالى:{وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَاّ طُغْيَانَاً كَبِيرَاً} 6.

والرسول لما أخبرهم بما رآه كذّبوه في نفس الإسراء، وأنكروا أن يكون أُسري به إلى المسجد الأقصى، فلما سألوه عن صفته، فوصفه لهم، وقد

علموا أنّه لم يره قبل ذلك، وصدّقه من رآه منهم، كان ذلك دليلاً

1 في ((خ)) رسمت: اراه. ولعلها إراءه، والله أعلم. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

2 في ((خ)) : محمد. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

3 سورة الحج، الآية 75.

4 انظر: صحيح البخاري 4/1743-1744، كتاب التفسير، باب قوله:{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} . وصحيح مسلم 1/156، كتاب الإيمان، باب ذكر المسيح بن مريم والمسيح الدجّال. ومسند الإمام أحمد 1/309.

5 سورة الإسراء، الآية 60.

6 سورة الإسراء، الآية 60.

ص: 532

على صدقه في المسرى، فلم يُمكنهم مع ذلك تكذيبه فيما لم يروه، وأخبر الله تعالى بالمسرى إلى المسجد الأقصى؛ لأنهم قد علموا صدقه في ذلك، بما أخبرهم به من علاماته، فلا يمكنهم تكذيبه في ذلك.

وذكر أنّه رأى من آيات ربه الكبرى، ولم يُعيّن [ما] 1 رآه؛ [وهو] 2 جبريل الذي رآه في صورته التي خُلِق عليها مرتين3؛ لأنّ رؤية جبريل هي من تمام نبوته، وممّا يُبيّن أنّ الذي أتاه بالقرآن مَلَكٌ، لا شيطان؛

كما قال في سورة: "إذا الشمس كورت": {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي العَرْشِ مَكِينٍ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِين} ، [ثم قال] 4:{وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُون وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ المُبِين وَمَا هُوَ عَلَى الغَيْبِ [بِضَنِين] 5 وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ إِنْ هُوَ إِلَاّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} 6.

1 في ((خ)) : مما. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

2 ما بين المعقوفتين ليس في ((خ)) ، وهو في ((م)) ، و ((ط)) .

3 انظر: صحيح البخاري 4/1840-1841، كتاب التفسير، باب في تفسير سورة "النجم". وصحيح مسلم 1/158-159، كتاب الإيمان، باب في ذكر سدرة المنتهى. وفي باب معنى قول الله عز وجل:{وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} .

4 ما بين المعقوفتين ملحق في ((خ)) بين السطرين.

5 في ((خ)) رسمت: بطنين.

6 سورة التكوير، الآيات 19-27.

ص: 533