الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل ما يخالف الكتاب والسنة فهو باطل
ومن تدبّر هذا1، وغيره، تبيَّن له أنَّ جميع ما ابتدعه المتكلمون، وغيرهم؛ مما يخالف الكتاب والسنة، فإنّه باطل.
المبتدعون المخالفون للكتاب والسنة
ولا ريب أن المؤمن يعلم من حيث الجملة أنّ ما خالف الكتاب والسنة فهو باطل. لكنْ كثيرٌ من الناس لا يعلم ذلك في المسائل المفصلة؛ لا يعرف ما الذي يوافق الكتاب والسنة، وما الذي يخالفه؛ كما قد أصاب [كثيراً] 2 من النّاس في الكتب المصنفة في الكلام؛ في أصول الدين، وفي الرأي والتصوف، وغير ذلك؛ فكثيرٌ منهم قد اتّبع طائفة يظنّ أنّ ما يقولونه هو الحق، وكلّهم على خطأ وضلال.
خطبة الإمام أحمد
ولقد أحسن الإمام أحمد في قوله في خطبته، وإن كانت مأثورة عمن تقدم3: "الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل
1 أي هذه الفروق بين آيات الأنبياء وغيرهم، والتي ذكرها آنفاً في الفصل السابق.
2 في ((م)) ، و ((ط)) : كثير.
3 أخرجه ابن عدي في الكامل 1153، والخطيب البغدادي في كتاب أصحاب الحديث ص 28. وقال الهيثمي: يتقوى الحديث بتعدد طرقه، فيكون جسناً. انظر: إرشاد الساري 14.
وذكر ابن القيم لهذا الحديث عدة طرق، في مفتاح دار السعادة 1206-207.
وأورده التبريزي في مشكاة المصابيح رقم 248، وفيه: عن إبراهيم بن عبد الرحمن العذري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين". رواه البيهقي.
وقد علق الشيخ الألباني على هذا الحديث بأنه مرسل؛ لأن إبراهيم بن عبد الرحمن العذري هذا تابعي مقلّ كما قال الذهبي، وراويه عنه معاذ بن رفاعة ليس بعمدة. لكن الحديث قد روي موصولاً من طريق جماعة من الصحابة، وصحح بعض طرقه الحافظ العلائي في بغية الملتمس (3-4) . وروى الخطيب في شرف أصحاب الحديث (235) عن مهنا بن يحيى قال: سألت أحمد يعني ابن حنبل عن حديث معاذ بن رفاعة عن إبراهيم هذا، فقلت لأحمد: كأنه كلام موضوع؟ فقال: لا، هو صحيح. فقلتُ له: ممن سمعته أنت؟ قال: من غير واحد. قلت: من هم؟ قال: حدثني به مسكين، إلا أنه يقول: معاذ، عن القاسم بن عبد الرحمن. قال أحمد: معاذ بن رفاعة لا بأس به
…
انظر: مشكاة المصابيح 182-83.
وقال الذهبي عن العذري في الميزان: "ما علمته واهياً، أرسل حديث: "يحمل هذا العلم من كلّ خلفٍ عدوله"
…
العلم، يدعون من ضلّ إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يحيون بكتاب الله الموتى، ويُبصّرون بنور الله أهل العمى. فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم من ضال تائه قد هدوه. فما أحسن أثرهم على الناس وأقبح أثر الناس عليهم. ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين الذين عقدوا ألوية البدعة، وأطلقوا عنان الفتنة؛ فهم مختلفون في الكتاب، مخالفون للكتاب، مجمعون على مفارقة الكتاب. يقولون على الله، وفي الله، وفي كتاب الله بغير علم. يتكلمون بالمتشابه من الكلام، ويخدعون جهال الناس بما يشّبهون عليهم. فنعوذ بالله من فتن المضلين"1.
فهؤلاء أهل البدع من أهل الكلام وغيرهم، كما قال: مختلفون في الكتاب، مخالفون للكتاب، متفقون على مفارقة الكتاب.
1 انظر: الرد على الجهمية والزنادقة للإمام أحمد ص 85 تحقيق عبد الرحمن عميرة.
أهل البدع مخالفون للكتاب والسنة
وتصديق ما ذكره: أنّك لا تجد طائفة منهم توافق الكتاب والسنة فيما جعلوه أصول دينهم. بل [لكلّ] 1 طائفة أصول دين لهم؛ فهي أصول دينهم الذي هم عليه، ليس هي أصول الدين الذي بعث الله به رسوله، وأنزل به كتابه.
وما هم عليه من الدين، ليس كله موافقاً للرسول، ولا كله مخالفاً له؛ بل بعضه موافق، وبعضه مخالف؛ بمنزلة أهل الكتاب الذين لبسوا الحق بالباطل؛ كما قال تعالى:{يَا بَنِي إِسرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعمَتِيَ التِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهدِكُمْ وَإِيّاي فَارْهَبُون وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقَاً لِمَا مَعَكُم وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنَاً قَلِيلاً وَإِيَّاي فَاتَّقُون وَلا تَلْبِسُوا الحَقَّ بِالبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُون} 2، وقال تعالى:{يَا أَهْلَ الكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الحَقَّ بِالبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُون} 3.
لكنّ بعض الطوائف أكثر مخالفةً للرسول من بعض، وبعضها أظهر مخالفة. ولكنّ الظهور أمرٌ نسبيّ؛ فمن عرف السنّة ظهرت له مخالفة من خالفها؛ فقد [تظهر] 4 مخالفة بعضهم للسنة لبعض الناس؛ لعلمه بالسنة دون من لا يعلم منها ما يعلمه هو؛ وقد تكون السنة في ذلك معلومة عند جمهور الأمة؛ فتظهر مخالفة من خالفها؛ كما [تظهر] 5 للجمهور مخالفة الرافضة للسنة. وعند الجمهور هم المخالفون للسنة، فيقولون: أنت سني، أو رافضي؟.
1 في ((ط)) : بكل.
2 سورة البقرة، الآيات 40-42.
3 سورة آل عمران، الآية 71.
4 في ((خ)) : يظهر. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .
5 في ((خ)) : يظهر. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .
وكذلك الخوارج: لمّا كانوا أهل سيف وقتال، ظهرت مخالفتهم للجماعة؛ حين كانوا يقاتلون الناس. وأما اليوم فلا يعرفهم أكثر الناس.
وبدع القدرية، والمرجئة، ونحوهم: لا تظهر مخالفتها بظهور هذين.
ظهور الخوارج
ظهور القدرية والمرجئة
وهاتان البدعتان ظهرتا1 لما قتل عثمان [رضي الله عنه] 2؛ في الفتنة؛ في خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب [رضي الله عنه]3. وظهرت [الخوارج] 4 بمفارقة أهل الجماعة، واستحلال دمائهم وأموالهم؛ حتى قاتلهم5 أمير المؤمنين علي بن أبي طالب [رضي الله عنه] 6 في ذلك لأمر النبي صلى الله عليه وسلم 7.
1 وانظر: عرضاً لظهور الفتن، وانتشار البدع، والمذاهب في الإسلام في مجموع الفتاوى لابن تيمية 8228-229،، 28490-491. وفي منهاج السنة النبوية له 1306-309.
2 زيادة من ((ط)) .
3 زيادة من ((ط)) .
4 في ((م)) ، و ((ط)) : الخوارق.
5 انظر: سبب خروج الخوارج، وقتال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه لهم في موقعة النهروان، في البداية والنهاية لابن كثير 7289-321.
6 زيادة من ((ط)) .
7 يُشير رحمه الله إلى قول عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه: "إذا حدّثتكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلأن أخر من السماء أحب إليّ من أن أقول عليه ما لم يقل. وإذا حدّثتكم فيما بيني وبينكم؛ فإنّ الحرب خدعة؛ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " سيخرج في آخر الزمان قومٌ أحداث الأسنان، سفهاء الأحلام، يقولون من خير قول البرية، يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية. فإذا لقيتموهم فاقتلوهم؛ فإنّ في قتلهم أجراً لمن قتلهم عند الله يوم القيامة"..". صحيح البخاري 31321-1322، كتاب المناقب، باب علامة النبوة. وصحيح مسلم 2746-747، كتاب الزكاة، باب التحريض على قتل الخوارج.
الأحاديث في الخوارج
قال الإمام أحمد بن حنبل: صحّ الحديث في الخوارج من عشرة أوجه1.
وهذه2 قد رواها صاحبه مسلم بن الحجاج في صحيحه3، وروى البخاري قطعة منها4.
اتفاق الصحابة على قتال الخوارج
واتفقت الصحابة على قتال الخوارج، حتى إنّ ابن عمر مع امتناعه عن الدخول في فرقة؛ كسعد5، وغيره من السابقين6. ولهذا لم يبايعوا
1 انظر: السنة للخلال 1145. وقال المحقق: إسناده صحيح.
وقال شيخ الإسلام رحمه الله في غير هذا الكتاب: "قال الإمام أحمد: صحّ الحديث في الخوارج من عشرة أوجه. وقد رواها مسلم في صحيحه، وروى البخاري منها ثلاثة أوجه؛ حديث عليّ، وأبي سعيد، وسهل بن حنيف. وفي السنن والمسانيد طرق أُخَر متعددة
…
". مجموع الفتاوى 28512.
2 الأوجه.
3 انظر: صحيح مسلم 2740-746، كتاب الزكاة، باب ذكر الخوارج وصفاتهم، و2746-749 كتاب الزكاة، باب التحريض على قتل الخوارج، و2750، كتاب الزكاة، باب الخوارج شر الخلق والخليقة.
4 انظر: صحيح البخاري 31148، كتاب الخمس، باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يُعطي المؤلفة قلوبهم، 31219، كتاب الأنبياء، باب قول الله تعالى:{وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ} ، 41583، كتاب المغازي، باب بعث علي وخالد رضي الله عنهما إلى اليمن قبل حجة الوداع،، 41927-1928، كتاب فضائل القرآن، باب من راءى بقراءة القرآن، 31321-1322، كتاب المناقب، باب علامات النبوة، 62539، كتاب استتابة المرتدين، باب قتل الخوارج، 62540، كتاب استتابة المرتدين، باب من ترك قتال الخوارج للتألف.
5 ابن أبي وقاص رضي الله عنه.
6 اعتزل كثير من الصحابة الفتنة التي وقعت بعد مقتل عثمان رضي الله عنه، فلم يُقاتلوا لا مع علي، ولا مع معاوية. ومن هؤلاء: سعد بن أبي وقاص، وأسامة بن زيد، وعبد الله بن عمر، ومحمد بن مسلمة، وأبو بكرة، وعمران بن حصين، وأكثر السابقين الأولين. انظر: منهاج السنة النبوية 1541-542.
لأحدٍ إلا في الجماعة1قال2 عند الموت: ما آسى على شيء إلا على أني لم أقاتل الطائفة الباغية مع علي رضي الله عنه3؛ يريد بذلك قتال الخوارج، وإلا فهو لم يبايع؛ لا لعلي، ولا غيره، ولم يبايع معاوية إلا بعد أن اجتمع الناس عليه. فكيف يقاتل إحدى الطائفتين؟ وإنّما أراد المارقة التي قال فيها النبيّ صلى الله عليه وسلم:"تمرُق مارقة على حين فرقةٍ من الناس، يقتلهم أدنى الطائفتين إلى الحق"4. وهذا حدَّث به أبو سعيد5، فلما بلغ ابن عمر قول النبي صلى الله عليه وسلم في الخوارج، وأمره بقتالهم، تحسّر على ترك قتالهم.
الصحابة على ثلاثة أقوال في فتنة الجمل وصفين
فكان قتالهم ثابتاً بالسنة الصحيحة الصريحة، وباتفاق الصحابة؛ بخلاف فتنة الجمل وصفّين6؛ فإنّ أكثر السابقين الأولين كرهوا القتال في هذا، وهذا.
السنة دلت على أن عليا أولى الطائفتين
وكثيرٌ من الصحابة قاتلوا إما من هذا [الجانب] 7، وإما من هذا الجانب؛ فكانت الصحابة في ذلك على ثلاثة أقوال8.
1 انظر: عن الذين اعتزلوا الفتنة؛ كسعد، وابن عمر، فلم يبايعوا لأحدٍ إلا في جماعة: منهاج السنة النبوية 4392-393، و8525-526. والبداية والنهاية 7237.
2 القائل هو عبد الله بن عمر رضي الله عنه.
3 انظر: سير أعلام النبلاء 3231-232.
4 الحديث أخرجه الإمام مسلم في صحيحه 2745-746، كتاب الزكاة، باب ذكر الخوارج وصفاتهم. والإمام أحمد في مسنده 332، 48.
5 الخدري رضي الله عنه.
6 انظر: خبرهما في البداية والنهاية 7241، وما بعدها،، و 264 وما بعدها.
وانظر: كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في المنهاج 8522-528؛ فهو مشابه للكلام الذي ذكره هنا.
7 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) .
8 انظر: منهاج السنة النبوية 1535، 541-542،،4501-502،، 7473. ومجموع الفتاوى 2773.
\لكن الذي دلت عليه السنة الصحيحة أنّ علياً بن أبي طالب [رضي الله عنه] 1 كان أولى بالحق2، وأنّ ترك القتال بالكلية كان خيراً وأولى؛ ففي الصحيحين عن أبي سعيد أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"تمرق مارقة على حين فرقة من الإسلام يقتلهم أولى الطائفتين بالحق"3. وقد ثبت عنه أنّه جعل القاعد فيها خيراً من القائم، والقائم خيراً من الماشي، والماشي خيراً من الساعي4، وأنّه أثنى على من صالح، ولم يُثن على من قاتل؛ ففي البخاري وغيره عن أبي بكرة أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال عن الحسن: "إن ابني هذا سيِّدٌ، وسيصلح الله به بين فئتين من المسلمين"5؛ فأثنى على الحسن في إصلاح الله به بين الفئتين. وفي صحيح مسلم، وبعض نسخ البخاري: أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم [قال] 6 لعمّار: "تقتلك الفئة الباغية"7.
1 زيادة من ((ط)) .
2 انظر: منهاج السنة النبوية 4358. ومجموع الفتاوى 2751.
3 تقدم تخريجه آنفاً.
4 فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ستكون فتن القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي. ومن تشرّف لها تستشرفه، ومن وجد فيها ملجأ فليعذ به". الحديث أخرجه البخاري في صحيحه 31318، كتاب المناقب، باب علامات النبوة. ومسلم في صحيحه 42211-2212، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب نزول الفتن كمواقع القطر.
5 رواه البخاري في صحيحه 2962-963، كتاب الصلح، باب قول النبيّ صلى الله عليه وسلم:"إنّ ابني هذا لسيد"، و 31328، كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام.
6 ما بين المعقوفتين ملحق في ((خ)) بين السطرين.
7 رواه الإمام البخاري في صحيحه 31035، كتاب الجهاد، باب مسح الغبار عن الرأس في سبيل الله. والإمام مسلم في صحيحه 42235-2236، كتاب الفتن، باب لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل.
بقاء الطائفة المنصورة إلى يوم القيامة
وفي الصحيحين أيضاً أنّه قال: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى تقوم الساعة"1؛ قال معاذ: وهم بالشام.
وفي صحيح مسلم عنه أنّه قال: "لا يزال أهل المغرب ظاهرين لا يضرهم من خذلهم"2.
أهل المغرب هم أهل الشام
قال أحمد بن حنبل، وغيره: أهل المغرب: أهل الشام3؛ أي أنّها أول المغرب؛ فإن التغريب [والتشريق] 4 أمر نسبيّ؛ فلكل بلد غرب وشرق، وهو صلى الله عليه وسلم تكلّم بمدينته؛ فما تغرب عنها فهو غرب، وما تشرق عنها فهو شرق، وهي5 مسامتة أول الشام من ناحية الفرات؛ كما أنّ مكة مسامتة لحرّان6،
1 انظر: صحيح البخاري 31329، كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام، و 62667، كتاب الاعتصام، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم:"لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، وهم أهل العلم"، و62714، كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى:{إنما قولنا لشيء إذا أردناه} . وانظر: صحيح مسلم 31523-1524، كتاب الإمارة، باب قوله صلى الله عليه وسلم:"لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم".
2 انظر: صحيح مسلم 31525، كتاب الإمارة، باب قوله صلى الله عليه وسلم:"لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم"، ولفظ مسلم:"لا يزال أهل الغرب ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة".
3 انظر: مجموع الفتاوى 2741، 507. وانظر أقوال العلماء في معنى أهل الغرب، في: شرح النووي على مسلم 1368. ومنهاج السنة النبوية 4461-462. وفتح الباري 13308. والمغني لابن قدامة 1320.
4 في ((ط)) : والتشريف.
5 أي المدينة النبوية.
6 قال ياقوت في معجم البلدان: (هي مدينة عظيمة مشهورة من جزيرة أقور، وهي قصبة ديار مضر. بينها وبين الرّها يوم، وبين الرقة يومان) . معجم البلدان 2271.
و [سميساط] 1، ونحوهما2.
قتال صفين من أي الأنواع كان
[وتصويب قتالهم] 3 إن كان بعد الإصلاح، فلم يقع الإصلاح وإن كان عند بغيهم في الاقتتال. وإن لم يكن إصلاح فهؤلاء البغاة لم [يكن] 4 في أصحاب عليّ من يقاتلهم، بل تركوا قتالهم؛ إما عجزاً، وإما تفريطاً؛ فتُرِكَ الإصلاحُ المأمور به.
وعلى هذا قوتلوا ابتداءً قتالاً غير مأمور به، ولما صار قتالهم مأموراً به لم يقاتلوا القتال المأمور به، بل نكل أصحاب علي [رضي الله عنه] 5 عن القتال؛ إمّا عجزاً، وإمّا تفريطاً.
1 في ((خ)) : سميشاط. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .
وسُمَيْسَاط: قال ياقوت في معجم البلدان: (سُمَيْسَاط بضم أوله، وفتح ثانيه، ثم ياء من تحت ساكنة، وسين أخرى، ثم بعد الألف طاء مهملة: مدينة على شاطئ الفرات، في طرف بلاد الروم، على غربي الفرات) . معجم البلدان 3293.
2 وقد قال شيخ الإسلام رحمه الله معلّقاً على حديث: "لا يزال أهل المغرب.. ": (وهذا كما ذكروه؛ فإنّ كلّ بلد له غرب وشرق، والاعتبار في لفظ النبي صلى الله عليه وسلم بغرب مدينته، ومن الفرات هو غرب المدينة؛ فالبيرة ونحوها على سمت المدينة؛ كما أنّ حران والرقة وسميساط ونحوها على سمت مكة. ولهذا يُقال إنّ قبلة هؤلاء أعدل القبل؛ بمعنى أنك تجعل القطب الشمالي خلف ظهرك، فتكون مستقبل الكعبة. فما كان غربي الفرات فهو غربي المدينة إلى آخر الأرض. وأهل الشام أول هؤلاء". منهاج السنة النبوية 757.
وانظر مزيد بيان لهذه المسألة في: مجموع الفتاوى 2741-42، 507-508،، 28532.
3 ما بين المعقوفتين ليس في ((خ)) ، وهو في ((م)) ، و ((ط)) .
4 في ((م)) ، و ((ط)) : تكن.
5 زيادة من ((ط)) .
قتال البغاة
والبغاة المأمور بقتالهم: هم الذين بغوا بعد الاقتتال، وامتنعوا من الإصلاح المأمور به؛ فصاروا بغاة مقاتلين.
والبغاة إذا ابتدءوا [بالقتال] 1 جاز قتالهم بالاتفاق؛ كما يجوز قتال [الغواة] 2 قطّاع الطريق إذا قاتلوا باتفاق الناس. فأمّا الباغي من غير قتال، فليس في النص أنّ الله أمر بقتاله، بل الكفار إنما يُقاتلون بشرط [الحراب] 3؛ كما ذهب إليه جمهور العلماء، وكما دل عليه الكتاب والسنة؛ كما هو مبسوط في موضعه4.
أنواع المرتدين الذين قاتلهم الصديق
والصدّيق قاتل المرتدين الذين ارتدوا عمّا كانوا فيه على عهد الرسول من دينه، وهم أنواع: منهم من آمن بمتنبىء [كذّاب] 5، ومنهم من لم يقرّ ببعض فرائض الإسلام التي أقرّ بها مع الرسول، ومنهم من ترك الإسلام بالكليّة6.
ولهذا تُسمّى هذه وأمثالها من الحروب بين المسلمين فتناً؛ كما سمّاها
1 في ((م)) ، و ((ط)) : القتال.
2 في ((خ)) : الغداة. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .
3 في ((م)) ، و ((ط)) : الجراب. أما في ((خ)) فقد كتب الحراب، ووضع تحت حاء الحراب علامة (ح) إشارة إلى أنها مهملة.
4 انظر: المغني لابن قدامة 12474-483. ومنهاج السنة النبوية 4463، 502. ومجموع الفتاوى 4445، 450، 10374-375، 2741-42، 507-508، 28300-301، 532، 3578-79.
5 في ((خ)) : الكذاب. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .
6 انظر: منهاج السنة النبوية 4494، 501؛ حيث بيّن شيخ الإسلام رحمه الله أنواع المرتدين الذين قاتلهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم. والجواب الصحيح 6474-475.
النبيّ صلى الله عليه وسلم 1. والملاحم: ما كان بين المسلمين والكفار.
وبسط هذا له موضع آخر2.
الكلام في الخوارج
والمقصود هنا: أنّ الخوارج ظهروا في الفتنة، وكفّروا عثمان وعلياً [رضي الله عنهما] 3، ومن والاهما، وباينوا المسلمين في الدار، وسمّوا دارهم دار الهجرة4، وكانوا كما وصفهم النبيّ صلى الله عليه وسلم: يقتلون أهل الإسلام، ويدعون أهل الأوثان، وكانوا أعظم الناس صلاةً وصياماً وقراءةً؛ كما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، وقراءته مع قراءتهم؛ يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية"5.
معنى مروقهم من الدين
ومروقهم منه: خروجهم؛ باستحلالهم دماء المسلمين، وأموالهم؛ فإنّه قد ثبت عنه في الصحيح أنه قال:"المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه"6. وهم بسطوا في المسلمين أيديهم وألسنتهم؛ فخرجوا منه.
1 فعن أسامة بن زيد رضي الله عنه أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم أشرف على أطم من آطام المدينة، ثم قال:"هل ترون ما أرى. إني لأرى مواقع الفتن خلال بيوتكم كمواقع المطر". صحيح مسلم 42211، كتاب الفتن، باب الفتن كمواقع المطر.
وانظر: منهاج السنة النبوية 4450-452؛ فقد ذكر الشيخ رحمه الله عدة أحاديث، فيها إخبار النبيّ صلى الله عليه وسلم بما سيكون من الفتن.
2 انظر: منهاج السنة النبوية 6328-344،، 8232-233.
3 زيادة من ((ط)) .
4 انظر: منهاج السنة النبوية 5243.
5 سبق تخريج هذا الحديث ص 680.
6 رواه البخاري في صحيحه 113، كتاب الإيمان، باب المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده.
لا يكفر الخوارج
ولم يحكم علي [رضي الله عنه] 1، وأئمة الصحابة فيهم بحكمهم في المرتدين، بل جعلوهم مسلمين.
قول سعد في الخوارج
وسعد بن أبي وقاص، وهو أفضل من كان قد بقي بعد علي [رضي الله عنه] 2، وهو من أهل الشورى، واعتزل في الفتنة؛ فلم يقاتل، لا مع علي، ولا مع معاوية. ولكنّه ممن تكلم في الخوارج، وتأوّل فيهم قوله3:{وَمَا يُضِلّ بِهِ إِلاّ الفَاسِقِين الّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ في الأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ} 4.
إحراق علي لمن ادعى فيه الألوهية
وحدث أيضاً طوائف الشيعة الإلهية الغلاة، فرُفع إلى عليّ [رضي الله عنه] 5 منهم طائفة ادّعوا فيه الإلهية، فأمرهم بالرجوع، فأصروا، فأمهلهم ثلاثاً، ثم أمر بأخاديد من نار فخُدّت، وألقاهم فيها؛ فرأى قتلهم بالنار6.
اختلاف ابن عباس مع علي في تحريق الزنادقة
وأما ابن عباس: فقال7: لو كنت أنا لم أحرّقهم بالنار؛ لنهي [رسول
1 زيادة من ((ط)) .
2 زيادة من ((ط)) .
3 انظر: منهاج السنة النبوية 5250. وتفسير ابن كثير 165.
4 سورة البقرة، الآيتان 26-27.
5 زيادة من ((ط)) .
6 انظر: منهاج السنة النبوية 1306-307،، 261-65،، 3459.
وقد قال وقتها:
لما رأيت الأمر أمراً منكراً
…
أججت ناري ودعوت قنبرا
انظر: مجموع الفتاوى 1332-34. وانظر: الفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم 547. وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 8169.
7 انظر قوله في: صحيح البخاري 31098،، 62537. ومنهاج السنة النبوية 1307. وسير أعلام النبلاء 3346.
الله] 1 صلى الله عليه وسلم أن يُعذّب بعذاب الله، ولضربت أعناقهم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"من بدّل دينه فاقتلوه". رواه البخاري2. وأكثر الفقهاء على قول ابن عباس.
ابن السوداء وإفساده في الدين
وروي أنّه بلغه أنّ ابن السوداء3 يسبّ أبا بكر وعمر [رضي الله عنهما] 4، فطلب قتله، فهرب منه5. فإما قتله على السب، أو لأنّه كان متهماً بالزندقة.
1 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) .
2 الحديث رواه البخاري 31098، كتاب الجهاد، باب لا يعذب بعذاب الله، 62537، كتاب استتابة المرتدين، باب حكم المرتد والمرتدة.
3 هو عبد الله بن سبأ، رأس الطائفة السبئية، كانت تقول بألوهية علي. أصله من اليمن، وكان يهودياً من يهود صنعاء، أظهر الإسلام، ورحل إلى الحجاز، فالبصرة، فالكوفة، ودخل دمشق في أيام عثمان بن عفان، فأخرجه أهلها، فانصرف إلى مصر، وجهر ببدعته. ومن مذهبه: رجعة النبي صلى الله عليه وسلم إلى الدنيا، فكان يقول: العجب ممن يزعم أن عيسى يرجع، ويكذب برجوع محمد. ولما بويع علي قام إليه ابن سبأ، فقال له: أنت خلقت الأرض، وبسطت الرزق، فنفاه إلى ساباط المدائن، حيث القرامطة وغلاة الشيعة. عُرف بابن السوداء لسواد أمه. قال ابن حجر: ابن سبأ من غلاة الزنادقة، أحسب أن علياً حرقه بالنار. وقال شيخ الإسلام: إن علياً لما بلغه قول السبئية طلب ابن السوداء الذي بلغه ذلك عنه، وقيل: إنه أراد قتله، فهرب منه إلى أرض قرقيسيا.
والسبئية يزعمون أن علياً لم يمت، وأنه يرجع إلى الدنيا، وكذلك الأموات يرجعون إلى الدنيا بزعمهم
انظر: مقالات الإسلاميين للأشعري 186. والفرق بين الفرق ص 233-236. والملل والنحل 1174. ومنهاج السنة النبوية 123، 30، 308،، 8479. والبداية والنهاية 4174. ولسان الميزان 3289.
4 زيادة من ((ط)) .
5 انظر: منهاج السنة النبوية 111، 308.
وقيل: إنه هو الذي ابتدع بدعة الرافضة، وأنّه كان قصده إفساد دين الإسلام1. وهذا يستحق القتل باتفاق المسلمين.
حكم من سبّ أبابكر وعمر
والذين يسبون أبا بكر وعمر [رضي الله عنهما] 2، فيهم [تزندق] 3؛ كالإسماعيلية، والنصيرية؛ فهؤلاء يستحقون القتل بالإتفاق. وفيهم من يعتقد [نبوّة] 4 النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ كالإمامية؛ فهؤلاء في قتلهم نزاعٌ، وتفصيلٌ مذكورٌ في غير هذا الموضع5.
وتواتر عن علي بن أبي طالب [رضي الله عنه] 6 أنّه قال: "خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر"7.
قدماء الشيعة يفضلون أبا بكر وعمر
وهذا متفقٌ عليه بين قدماء الشيعة، وكلّهم كانوا يفضلون أبا بكر وعمر [رضي الله عنهما] 8، وإنّما كان النزاع في علي وعثمان [رضي الله عنهما] 9 حين صار لهذا شيعة، ولهذا شيعة. وأمّا أبو بكر وعمر [رضي الله عنهما] 10: فلم يكن أحدٌ يتشيّع لهما، بل جميع الأمة كانت متفقة عليهما؛ حتى الخوارج فإنّهم يتولونهما، وإنما يتبرءون من علي وعثمان11 [رضي الله عنهما]12.
1 انظر: الملل والنحل للشهرستاني 1174. ومنهاج السنة النبوية 123، 30، 308، 6361، 7511، 8251، 479.
2 زيادة من ((ط)) .
3 في ((خ)) : تزنديق. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .
4 في ((م)) ، و ((ط)) : بنبوة.
5 انظر هذه المسألة بالتفصيل، مع أدلتها، وأقوال العلماء فيها في: الصارم المسلول على شاتم الرسول ص 566-587.
6 زيادة من ((ط)) .
7 انظر: منهاج السنة النبوية 1308،، 2138.
8 من ((ط)) .
9 من ((ط)) .
10 من ((ط)) .
11 انظر: منهاج السنة النبوية 113،، 7369، 472.
12 من ((ط)) .
وروي1 أنّ معاوية قال: لابن عباس: أنتَ على ملة علي، أم عثمان؟ قال: لا على ملة علي، ولا عثمان، أنا على ملّة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
اتفاق شيعة علي وشيعة عثمان على تقديم الشيخين
وكان كل من الشيعيتن يذمّ الآخر بما برأه الله منه؛ فكان بعض شيعة عثمان يتكلمون في عليّ بالباطل، وبعض شيعة عليّ يتكلمون في عثمان بالباطل. والشيعتان مع سائر الأمة متفقة على تقديم أبي بكر وعمر.
قيل لشريك بن عبد الله القاضي2: أنت من شيعة علي، وأنت تفضّل أبا بكر وعمر؟! فقال: كلّ شيعة علي على هذا؛ هو يقول على أعواد هذا المنبر: خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر، ثم عمر. أفكنّا نكذّبه! والله ما كان كذّاباً3.
وقد روى البخاري في صحيحه4 من حديث محمد بن الحنفية، أنّه قال له5: يا أبت من خير الناس بعد رسول الله؟ فقال: يا بني أوما تعرف؟
1 انظر: حلية الأولياء 1329. وسير أعلام النبلاء 3342.
2 هو شريك بن عبد الله بن أبي نمر المدني المحدّث. مات قبل الأربعين ومائة.
انظر: سير أعلام النبلاء 6159. وتهذيب التهذيب 4337.
3 انظر: منهاج السنة 113-14؛ حيث ذكر شيخ الإسلام رحمه الله أنه نقل قول شريك عن عبد الجبار المعتزلي في كتابه تثبيت النبوة. انظر: تثبيت النبوة لعبد الجبار 1549.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وقد روي عن علي من نحو ثمانين وجهاً وأكثر أنه قال على منبر الكوفة: خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر". مجموع الفتاوى 4407.
4 صحيح البخاري 31342، كتاب فضائل أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم، باب قول النبيّ صلى الله عليه وسلم:"لو كنتُ متخذاً خليلاً.. ".
5 أي لعلي رضي الله عنه.
قال: لا. قال: أبو بكر. قال: ثمّ مَنْ؟ قال: ثمّ عمر. وهو مروي من حديث الهمدانيين؛ شيعة علي، عن أبيه.
وروي عن علي أنه قال:
ولو كنتُ بوّاباً على باب جنّة لقلت لهمدان ادخلي بسلام1.
وقد روي عنه2 أنه قال: "لا أوتى بأحد يفضلني على أبي بكر وعمر إلا جلدته حد المفتري".
قتل علي لمن اعتقد إلهيته
وقد ثبت عن علي رضي الله عنه بالأحاديث الثابتة، بل المتواترة أنه قتل الغالية؛ كالذين يعتقدون إلهيته، بعد أن استتابهم ثلاثاً كسائر المرتدين، وأنّه كان يبالغ في عقوبة من يسبّ أبا بكر وعمر، وأنّه كان يقول إنّهما خير هذه الأمة بعد نبيها. وهذا مبسوط في مواضع3.
والمقصود هنا: أن هاتين4 حدثتا في ذلك الوقت5.
1 انظر: منهاج السنة النبوية 6137،، 7511. ومجموع الفتاوى 4407.
2 فضائل الصحابة للإمام أحمد 183. قال المحقق: إسناده ضعيف.
وانظر: منهاج السنة 1308،، 6138،، 7511. ومجموع الفتاوى 4407.
3 انظر: منهاج السنة النبوية 1306-308. ومجموع الفتاوى 4406-407.
4 بدعة الخوارج، وبدعة الروافض.
5 انظر: منهاج السنة النبوية 1306-310؛ فقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله فيه موضوعاً مشابهاً لما ذكر هنا حول نشأة الفرق وتطورها في الإسلام. وانظر: مجموع الفتاوى 1331-40، 48-50.
بدعة القدرية حدثت في آخر عهد الصحابة
ثمّ في آخر عصر الصحابة: حدثت القدرية، وتكلم فيها من بقي من الصحابة؛ كابن عمر1، وابن عباس2 [وواثلة] 3 بن الأسقع، وغيرهم4.
بدعة الإرجاء
وحدثت أيضاً بدعة المرجئة في الإيمان.
والآثار عن الصحابة ثابتةٌ بمخالفتهم، وأنّهم5 قالوا: الإيمان يزيد وينقص6؛ كما ثبت ذلك عن الصحابة؛ كما هو مذكور في موضعه7.
أصول البدع أربعة
بدعة الجهمية حدثت في أواخر الدولة الأموية
وأما الجهمية نفاة الأسماء والصفات: فإنّما حدثوا في أواخر الدولة الأموية8. وكثيٌر من السلف لم يدخلهم في الثنتين وسبعين فرقة؛ منهم: يوسف بن أسباط، وعبد الله بن المبارك؛ قالوا: أصول البدع أربعة: الخوارج، والشيعة، والقدرية، والمرجئة. فقيل لهم: الجهمية؟ فقالوا: ليس هؤلاء من أمة محمد9.
1 وقول ابن عمر رضي الله عنهما مخرّج في صحيح مسلم 136، كتاب الإيمان، باب الإيمان، والإسلام، والإحسان. وفيه قوله رضي الله عنه لمن نقل له مقولة القدرية، وأنهم يقولون إنّ الأمر أنف: "فإذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم، وأنهم براء مني. والذي يحلف به عبد الله بن عمر لو أنّ لأحدهم مثل أحد ذهباً فأنفقه، ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر
…
ثمّ ذكر رضي الله عنه حديث جبريل المشهور في بيان الإسلام، والإيمان، والإحسان.
2 انظر قول ابن عباس في كتاب السنة لعبد الله بن الإمام أحمد 2125-126.
3 في ((م)) ، و ((ط)) : ووائلة.
4 انظر: مجموع الفتاوى 7384-385. ومنهاج السنة النبوية 1309.
5 أي الصحابة رضي الله عنهم.
6 انظر: كتاب الإيمان لابن أبي شيبة 1-46. وكتاب الإيمان لأبي عبيد. وكتاب السنة لعبد الله بن الإمام أحمد.
7 انظر: مجموع الفتاوى 7223-227، 507،، 8450.
8 انظر: منهاج السنة النبوية 1309.
9 سبق تخريجه ص 498.
وانظر: رسالة السجزي ص 216. ورسالة إلى أهل الثغر للأشعري ص 308. والإيمان لابن بطة 1380. ودرء تعارض العقل والنقل 7110. والرد على المنطقيين ص 143.
الجهمية ليسوا من الثنتين وسبعين فرقة
ولهذا تنازع من بعدهم من أصحاب أحمد، وغيرهم: هل هم من الثنتين وسبعين؟ على قولين؛ ذكرهما عن أصحاب أحمد: أبو عبد الله بن حامد1 في كتابه في الأصول2.
الجهمية ينفون الأسماء والصفات
والتحقيق: أنّ التجهّم المحض؛ وهو نفي الأسماء والصفات؛ كما يُحكى عن جهم، والغالية من الملاحدة، ونحوهم ممّن نفى أسماء الله الحسنى كفرٌ، بيِّنٌ، مخالفٌ لما علم بالإضطرار من دين الرسول3.
المعتزلة ينفون الصفات
وأما نفي الصفات، مع إثبات الأسماء؛ كقول المعتزلة4: فهو دون [هذا]5. لكنّه عظيمٌ أيضاً.
1 هو أبو عبد الله الحسن بن حامد بن علي بن مروان البغدادي. قال عنه ابن أبي يعلى: إمام الحنبلية في زمانه، ومدرسهم، ومفتيهم. له المصنفات في العلوم المختلفات، له الجامع في المذهب نحو من أربعمائة جزء، وله شرح الخرقي، وشرح أصول الدين، وأصول الفقه. توفي سنة 403.
انظر: طبقات الحنابلة 2171-177. والبداية والنهاية 11349.
2 لم أقف على هذا الكتاب. وشيخ الإسلام ينقل عنه كثيراً، ويسميه أصول الدين. انظر: درء تعارض العقل والنقل 275. ومجموع الفتاوى 6162، 163) .
3 انظر: الفرق بين الفرق للبغدادي ص211. ومنهاج السنة النبوية 1309-312. والبداية والنهاية 9364. والخطط للمقريزي 2349.
وقد تكلم الشيخ رحمه الله عن تنازع الناس في الجهمية: هل هم من الثنتين والسبعين فرقة، أم لا؟. وقد سبق ذكر هذا النص ص 497.
انظر: شرح الأصفهانية 2239-240. ومجموع الفتاوى 3350، 354.
4 انظر: الفرق بين الفرق ص 20، 114. والملل والنحل 143. والخطط للمقريزي 2345. والبرهان في عقائد أهل الأديان ص 49.
5 في ((ط)) : ذها.
الأشاعرة يثبتون الصفات العقلية
وأما من أثبت الصفات المعلومة بالعقل والسمع، وإنّما نازع في قيام الأمور الاختيارية [به] 1؛ كابن كلاب، ومن اتّبعه2. فهؤلاء ليسوا جهمية، بل وافقوا جهماً في بعض قوله، وإن كانوا خالفوه في بعضه. وهؤلاء من أقرب الطوائف إلى السلف وأهل السنة والحديث.
معتقد السالمية والكرامية
وكذلك السالمية3، والكرامية، ونحو هؤلاء يوافقون في جملة أقوالهم المشهورة؛ فيثبتون الأسماء والصفات، والقضاء والقدر في الجملة ليسوا من الجهمية، والمعتزلة النفاة للصفات. وهم أيضاً يُخالفون الخوارج،
1 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) .
2 ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أنّ نفاة قيام الأفعال الاختيارية بالله نوعان، فقال رحمه الله: "أحدهما وهم الأصل: المعتزلة ونحوهم من الجهمية. فهؤلاء ينفون الصفات مطلقاً، وحجتهم على نفي قيام الأفعال به من جنس حجتهم على نفي قيام الصفات به. وهم يُسوّون في النفي بين هذا وهذا؛ كما صرّحوا بذلك. وليس لهم حجة تختص بنفس قيام الحوادث...... وأما مثبتة الصفات الذين ينفون الأفعال الاختيارية القائمة به؛ كابن كلاب، والأشعري؛ فإنهم فرقوا بين هذين؛ بأنه لو جاز قيام الحوادث به لم يخل منها؛ لأنّ القابل للشيء لا يخلو عنه وعن ضدّه، وما لا يخلو من الحوادث فهو حادث. وبهذا استدلوا على حدوث الأجسام؛ لأنها لا تخلو من الأعراض الحادثة؛ كالحركة، والسكون، والاجتماع، والافتراق
…
". ثمّ أجابهم رحمه الله بثلاثة أجوبة.
انظر: شرح الأصفهانية - ت السعوي - 2441.
وانظر: رسالة السجزي ص 173. ودرء تعارض العقل والنقل 216-18. وجامع الرسائل 27. ومنهاج السنة النبوية 2227-229.
3 السالمية: فرقة من أهل الكلام فيها تصوّف، تنتسب إلى محمد بن سالم، المتوفى سنة 297 ?، وابنه أحمد المتوفى سنة 350 ?. ومن أشهر رجالها: أبو طالب المكي صاحب كتاب قوت القلوب.
انظر: المعتمد في أصول الدين ص390. والفرق بين الفرق ص157-202. ودائرة المعارف الإسلامية 1169. وشذرات الذهب 336.
والشيعة؛ فيقولون بإثبات خلافة الأربعة، وتقديم أبي بكر وعمر، ولا يقولون بخلود أحدٍ من أهل القبلة في النّار.
الكرامية والكلابية وأكثر الأشعرية: مرجئة
لكن الكرامية، والكلابية، وأكثر الأشعرية: مرجئة1، وأقربهم الكلابية؛ يقولون: الإيمان: هو التصديق بالقلب، والقول باللسان، والأعمال ليست منه؛ كما يُحكى هذا عن كثيرٍ من فقهاء الكوفة؛ مثل أبي حنيفة، [وأصحابه]23.
الأشعري وأصحابه يوافقون جهماً في بعض قوله في الإيمان
وأما الأشعريّ4: فالمعروف عنه، وعن أصحابه: أنّهم يُوافقون جهماً في قوله في الإيمان، وأنّه مجرّد تصديق القلب، أو معرفة القلب. لكن قد يظهرون مع ذلك قول أهل الحديث، ويتأولونه، ويقولون بالاستثناء على الموافاة؛ فليسوا موافقين لجهم من كلّ وجه، وإن كانوا أقرب الطوائف إليه في الإيمان، وفي القدر أيضاً5؛ فإنه6 رأس الجبرية؛ يقول: ليس للعبد فعل البتة7.
1 انظر: رسالة السجزي ص217. والخطط للمقريزي 2357. وشرح الأصفهانية - ت السعوي - 2587-588. ومجموع الفتاوى 7509، 543، 550.
2 في ((خ)) : أصعا. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .
3 انظر: الفقه الأكبر بشرح ملا علي القاري ص 126. ومجموع الفتاوى 7195، 297، 507. وشرح الأصفهانية ت السعوي 2585-586.
4 انظر: التمهيد للباقلاني ص 388، 389. وأصول الدين للبغدادي ص 252. والمواقف للإيجي ص 388. ومجموع الفتاوى لشيخ الإسلام 7120، 154.
5 انظر: مجموع الفتاوى 8229، 339-340. والتسعينية ص 255-256.
6 أي الجهم.
7 انظر: مقالات الإسلاميين للأشعري 1338. والفرق بين الفرق للبغدادي ص 211. والملل والنحل للشهرستاني 187-88.
كسب الأشعري
والأشعريّ يوافقه1 على أنّ العبد ليس بفاعل، ولا له قدرة مؤثرة في الفعل، ولكن يقول: هو كاسب2.
جهم يقول بالجبر
وجهم لا يثبت له شيئاً، لكن هذا الكسب؛ يقول أكثر الناس: إنّه لا يعقل فرقٌ بين الفعل الذي نفاه، والكسب الذي أثبته. وقالوا: عجائب الكلام ثلاثة: [طفرة] 3 النظّام، وأحوال أبي هاشم، وكسب الأشعري. وأنشدوا4:
عجائب الكلام
ممّا يُقال ولا حقيقة عنده
…
معقولة تدنو إلى الأفهام
الكسب5 عند الأشعري والحال6 عنـ
…
د [البهشمي] 7 و [طفرة] 8 النظام
1 أي يوافق جهماً.
2 سبق أن أوضحت معنى الكسب ص 558-559.
3 في ((خ)) : ظفرة. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .
4 انظر: منهاج السنة 1459، 2297. وشرح الأصفهانية - ت السعوي - 1149-150. ودرء تعارض العقل والنقل 3444، 8320. وكتاب الصفدية 1151-154.
5 سبق التعريف بالكسب: ص 461-462.
6 الحال في اللغة: نهاية الماضي، وبداية المستقبل. التعريفات للجرجاني ص 110.
والأحوال عند من يثبتها: لا موجودة، ولا معدومة، ولا هي أشياء، ولا هي مخلوقة، ولا غير مخلوقة.
واشتهر بها أبو هاشم بن الجبائي، وأتباعه البهشمية.
انظر: الإرشاد للجويني ص 80. والفرق بين الفرق ص 184، 195-196. والفصل في الملل والأهواء والنحل 549. ونهاية الإقدام ص 131-132.
7 في ((خ)) : النهشمي. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .
8 في ((خ)) : ظفرة. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .
والطفرة اشتهر بها النظام من المعتزلة. ومعناها عنده: أنّ الجسم قد يكون في مكان، ثم يصير منه إلى المكان الثالث، أو العاشر من غير مرور بالأمكنة المتوسطة بينه وبين العاشر، ومن غير أن يصير معدوماً في الأول، ومعاداً في العاشر.
انظر: مقالات الإسلاميين 219. والفرق بين الفرق ص 140. والفصل لابن حزم 564-65. والملل والنحل للشهرستاني 170-71.
قول الكرامية في الإيمان لم يسبقوا إليه
وأمّا الكرامية: فلهم في الإيمان قولٌ ما سبقهم إليه أحدٌ؛ قالوا: هو الإقرار باللسان، وإن لم يعتقد بقلبه. وقالوا: المنافق هو مؤمن، ولكنّه مخلّدٌ في النّار. وبعض الناس [يحكي] 1 عنهم: أن المنافق في الجنّة. وهذا غلطٌ عليهم، بل هم يجعلونه مؤمناً، مع كونه مخلّداً في النّار؛ فينازَعون في الاسم، لا في الحكم.
منشأ الغلط في أقوال أهل البدع في الإيمان
وقد بسط القول2 على منشأ الغلط؛ حيث ظنّوا [أنّ الإيمان] 3 لا يكون إلا شيئاً متماثلاً عند جميع الناس؛ إذا ذهب بعضه، ذهب سائره.
قول الخوارج والمعتزلة في الإيمان
ثم قالت الخوارج والمعتزلة4: وهو أداء الواجبات، واجتناب المحرمات؛ فاسم المؤمن مثل اسم البرّ، والتقي؛ وهو المستحق للثواب، فإذا ترك بعض [ذلك] 5 زال عنه اسم الإيمان والإسلام.
ثم قالت الخوارج: ومن لم يستحق هذا ولا هذا فهو كافرٌ. وقالت المعتزلة: بل ينزل منزلة بين المنزلتين؛ فنسمّيه فاسقاً، لا مسلماً، ولا كافراً، ونقول: إنّه مخلّد في النار. وهذا هو الذي امتازت به المعتزلة، وإلا فسائر بدعهم قد قالها غيرهم؛ فهم وافقوا الخوارج في حكمه، ونازعوهم، ونازعوا غيرهم في الاسم.
1 في ((م)) ، و ((ط)) : يحكى.
2 انظر: منهاج السنة النبوية 3462. ومجموع الفتاوى 7140-141، 404، 509، 511، 514-517. وشرح الأصفهانية - ت السعوي - 2586-587.
3 ما بين المعقوفتين مكرّر في ((خ)) .
4 انظر: مجموع الفتاوى 7222-223، 242، 257، 510، و1348. وشرح الأصفهانية - ت السعوي - 2574، 586-587.
5 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) .
قول الجهمية والمرجئة في الإيمان
وقالت الجهمية والمرجئة1: بل الأعمال ليست من الإيمان، لكنّه شيئان، أو ثلاثة يتفق فيها جميع الناس: التصديق بالقلب، والقول باللسان، أو المحبة، والخضوع مع ذلك.
وقالت الجهمية والأشعرية والكرامية2: بل ليس إلا شيئاً واحداً يتماثل فيه الناس.
أصل غلط أهل البدع في الإيمان ظنهم أن الناس يتماثلون فيه
وهؤلاء الطوائف أصل غلطهم3: ظنّهم أن الإيمان يتماثل فيه الناس، وأنّه إذا ذهب بعضه، ذهب كلّه. وكلا الأمرين غلطٌ؛ فإن الناس لا يتماثلون؛ لا فيما وجب منه، ولا فيما يقع منهم، بل الإيمان الذي وجب على بعض الناس قد لا يكون مثل الذي يجب على غيره؛ كما كان [الإيمان بمكة لم يكن الواجب منه كالواجب بالمدينة، ولا كان في آخر الأمر كما كان] 4 في أوله.
ولا يجب على أهل الضعف والعجز من الإيمان، ما يجب على أهل القوة والقدرة في العقول والأبدان5.
بل أهل العلم بالقرآن، والسنّة، ومعاني ذلك يجب عليهم من تفصيل الإيمان ما لا يجب على من لم يعرف ما عرفوا. وأهل الجهاد يجب عليهم من الإيمان في تفصيل الجهاد ما لا يجب على غيرهم. وكذلك ولاة الأمر،
1 انظر: مجموع الفتاوى 7141، 143، 154، 508، 509. وشرح الأصفهانية - ت السعوي - 2574-575.
2 انظر: مجموع الفتاوى 7508-509، 582.
3 وقد استوفى الشيخ رحمه الله الردّ عليهم، وتبيين غلطهم. انظر: مجموع الفتاوى 7511-513.
4 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) .
5 انظر: مجموع الفتاوى 7519. وشرح الأصفهانية - ت السعوي - 2577-578.
وأهل الأموال يجب على كلٍّ؛ من معرفة ما أمر الله به، ونهى عنه، وأخبر به ما لا يجب على غيره. والإقرار بذلك من الإيمان.
ومعلوم أنه وإن كان الناس كلّهم يشتركون في الإقرار بالخالق، وتصديق الرسول جملة، فالتفصيل لا يحصل بالجملة. ومن عرف ذلك مفصلاً، لم يكن ما أُمر به ووجب عليه، مثل من لم يعرف ذلك.
الناس غير متماثلين في فعل المأمور
وأيضاً: فليس الناس متماثلين في فعل ما أُمروا به؛ من اليقين، والمعرفة، والتوحيد، وحب الله، وخشية الله، والتوكل على الله، والصبر لحكم الله، وغير ذلك مما هو من إيمان القلوب، ولا [من] 1 لوازم ذلك [التي] 2 تظهر على الأبدان. وإذا قُدِّر أنَّ بعض ذلك زال، لم يزل سائره. بل يزيد الإيمان تارة وينقص تارة؛ كما ثبت ذلك عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ مثل عمر بن حبيب الخطمي، وغيره؛ أنهم قالوا: الإيمان يزيد وينقص3؛ كما قد بسط في غير هذا الموضع4.
مخالفة أهل البدع لأصول دين الرسول صلى الله عليه وسلم
إذ المقصود هنا: أنّ طوائف أهل البدع من أهل الكلام وغيرهم ليس فيهم من يوافق الرسول في أصول دينه لا فيما اشتركوا فيه ولا فيما انفرد به بعضهم. فإنهم وإن اشتركوا في مقالات فليس إجماعهم حجة، ولا هم معصومون من الاجتماع على خطأ.
1 في ((م)) ، و ((ط)) : في.
2 في ((ط)) : الشيء.
3 انظر: طبقات ابن سعد 4381. والمصنف لابن أبي شيبة 1113. والإيمان له ص 7. والسنة لعبد الله بن الإمام أحمد 1315. والشريعة للآجريّ ص 112. وطبقات الحنابلة لابن أبي يعلى 1307. وشرح اعتقاد أهل السنّة للالكائي 577، 721.
4 انظر: مجموع الفتاوى 7223-227.
وقد زعم طائفة1 أنّ إجماع المتكلمين في المسائل الكلامية كإجماع الفقهاء. وهذا غلط، بل السلف قد استفاض عنهم ذم المتكلمين، وذمّ أهل الكلام مطلقاً2.
اشتراك أهل البدع في دليل الأعراض
ونفس ما اشتركوا فيه؛ من إثبات الصانع بطريقة الأعراض، وأنها لازمة للجسم أو متعاقبة عليه، فلا يخلو منها، وما لم يخل من الحوادث فهو حادث لامتناع حوادث لا أول لها، وأن الله يمتنع أن يقال إنه لم يزل متكلما بمشيئته بعد أن لم يكن بلا حدوث حادث، وما يتبع هذا هو أصل مبتدع في الإسلام؛ أول ما عرف أنه قاله الجهم بن صفوان مقدّم
1 من هؤلاء الرازي.
2 تقدمت الإشارة إلى ذلك ص 320-324.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن طرق أهل الكلام المبتدعة المذمومة: (ولم تكن هذه الطرق شرعية بل بدعية؛ لأن معرفة الله ورسوله لا تتوقف على هذه المسائل، ولأن كثيراً من النظار اعتقدوا أن هذا من أصول الدين وقواعد الإيمان، فتكلموا في ذلك بالكلام الذي ذمه السلف والأئمة.
وهؤلاء هم الجهمية من المعتزلة ومن اتبعهم، وأصل كلامهم أنهم قالوا: لا يعرف صدق الرسول حتى يعرف إثبات الصانع، ولا يعرف إثبات الصانع حتى يعرف حدوث العالم، ولا يعلم حدوث العالم إلا بما به يعلم حدوث الأجسام، ثم استدلوا على حدوث الأجسام بطرق، أحدها: أنه لا يخلو عن الحوادث، وما لم يخل عن الحوادث فهو حادث
…
) . شرح الأصفهانية 1264. وانظر: المصدر نفسه 2328-331.
وقال الإمام البربهاري: (واعلم أنها لم تكن زندقة ولا كفر ولا شكوك ولا بدعة ولا ضلالة ولا حيرة في الدين إلا من الكلام وأهل الكلام والجدل والمراء والخصومة والعجب) . شرح السنة ص 48.
وانظر: ذم السلف لأهل الكلام في: شرح الأصفهانية 2318. ودرء تعارض العقل والنقل 1232.
الجهمية1، وأبو الهذيل العلاف مقدّم المعتزلة2.
اللوازم التي التزمها أصحاب الدليل
ولهذا طرداه3؛ فقالا بامتناع الحوادث في المستقبل، وقال الجهم بفناء الجنة والنار. وقال أبو الهذيل بانقطاع حركاتهما؛ كما قد بسط فروع هذا الأصل الذي اشتركوا فيه4.
الجهمية والمعتزلة نفوا لأجله الصفات وقالوا بخلق القرآن
ثم افترقوا بعد ذلك في فروعه؛ فأئمتهم كانوا يقولون كلام الله؛ القرآن وغيره مخلوقٌ، وكذلك سائر ما يوصف به الرب ليس له صفة قامت به؛ لأن ذلك عرض عندهم لا يقوم إلا بجسم، والجسم حادث5؛ فقالوا: القرآن وغيره من كلام الله مخلوقٌ، وكذلك سائر ما يوصف به الربّ6.
1 انظر: رسالة إلى أهل الثغر لأبي الحسن الأشعريّ ص 185. والفرقان بين الحق والباطل لابن تيمية ص 96. ومجموع الفتاوى له 13147. وشرح الأصفهانية 2328-330، 340.
2 انظر: شرح الأصول الخمسة لعبد الجبار ص 95. وأبو الهذيل العلاف لعلي مصطفى الغرابي ص 52. وعلم الكلام للدكتور أحمد محمود صبحي 1339 القسم الخاصّ بالمعتزلة. ومذاهب الإسلاميين لعبد الرحمن بدوي الجزء الأول الخاص بالمعتزلة والأشاعرة ص 397.
3 أي طردا أصلهما: امتناع حوادث لا أول لها.
4 انظر: من كتب ابن تيمية: شرح حديث النزول ص 162. ومجموع الفتاوى 3304-305. ودرء تعارض العقل والنقل 139. والفتاوى المصرية 1135. ومنهاج السنة النبوية 1157.
5 انظر: الانتصار والردّ على ابن الراوندي للخياط ص 111، 170-171. وشرح الأصول الخمسة لعبد الجبار ص 200-201. ومنهاج السنة النبوية لابن تيمية 3361. ودرء تعارض العقل والنقل له 211. والإرادة والأمر له - ضمن مجموعة الرسائل الكبرى - 1383-384.
6 انظر: الكشّاف للزمخشري 288،، 3411. والمغني في أبواب العدل والتوحيد لعبد الجبار 784، 94. وشرح الأصول الخمسة له ص 528. والمحيط بالتكليف له ص 32، 107، 155، 316، 331، 333. ومتشابه القرآن له 1545. ومقالات الإسلاميين للأشعري 1244-245. والفرق بين الفرق للبغدادي ص 114. والتبصير في الدين للاسفراييني ص 64. والمنية والأمل لابن المرتضى المعتزلي ص 6. والملل والنحل للشهرستاني ص 44. واعتقادات فرق المسلمين والمشركين للرازي ص 33. وانظر: من كتب ابن تيمية: تفسير سورة الإخلاص ص 151-152. ومنهاج السنة النبوية 2107. ومجموع الفتاوى 12315-316.
فجاء بعدهم؛ مثل ابن كلاب، وابن كرّام، والأشعريّ، وغيرهم مَنْ شاركهم في أصل قولهم1، لكن قالوا بثبوت الصفات لله، وأنّها قديمة2.
قول الأشعري الصفات لا تسمى أعراضاً
لكن منهم3 من قال: لا تُسمّى أعراضاً؛ لأنّ العرض لا يبقى زمانين، وصفات الرب باقية؛ كما يقوله الأشعري وغيره4.
1 في امتناع حوادث لا أول لها.
2 انظر: الفتاوى المصرية لابن تيمية 6442-443. ومجموع الفتاوى 636. ودرء تعارض العقل والنقل 26-12،، 5245-246،، 7147-148. ومنهاج السنة النبوية 1312. والفرقان بين الحق والباطل ص 86، 100.
3 وهم الأشاعرة. وقد نقل الإيجي والرازي اتفاقهم على ذلك. انظر: المواقف في علم الكلام للإيجي ص 101. ومحصّل أفكار المتقدمين والمتأخرين للرازي ص 265.
4 وانظر: من كتب الأشاعرة: اللمع لأبي الحسن الأشعريّ ص 22-23. والتمهيد للباقلاني ص 38. والإنصاف له ص 27-28. وأصول الدين للبغدادي ص 50-52. والشامل في أصول الدين للجويني ص 167.
ومنهم1 من قال: تُسمّى أعراضاً، وهي قديمة، وليس كلّ عرضٍ حادثاً؛ كابن كرّام، وغيره2.
قول ابن كلاب في كلام الله
ثمّ افترقوا في القرآن3، وغيره من كلام الله؛ فقال ابن كلاب ومن اتبعه:[هو] 4 صفة من الصفات، قديمةٌ كسائر الصفات5. ثم قال: ولا يجوز أن يكون صوتاً؛ لأنه لا يبقى، ولا معاني متعددة؛ فإنها إن كان لها عدد مقدّر فليس قدر بأولى من قدر، وإن كانت غير متناهية، لزم ثبوت معان في آن واحد لا نهاية لها. وهذا ممتنع6. فقال: إنّه معنى واحد، هو معنى آية الكرسي، وآية الدَّيْن، والتوارة، والإنجيل7.
وقال جمهور العقلاء: إنّ تصوّر هذا القول تصوراً تاماً يُوجب العلم بفساده.
1 وهم المشبّهة؛ كالكرامية، ونحوهم.
2 انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية 636. والفرقان بين الحق والباطل له ص 100.
3 وأقوالهم الفاسدة في القرآن الكريم ناجمة عن أصلهم الجهميّ الفاسد: (ما لا يخلو من الحوادث فهو حادث) ، وقولهم بامتناع حوادث لا أول لها.
وقد أشار إلى ذلك شيخ الإسلام رحمه الله في درء تعارض العقل والنقل 1306؛ فقال بعد أن ذكر مذاهب المبتدعة؛ من معطلة ومشبهة في صفات الله تعالى، واستنادهم فيها إلى دليل الأعراض وحدوث الأجسام:"وعن هذه الحجة ونحوها نشأ القول بأنّ القرآن مخلوق، وأنّ الله تعالى لا يُرى في الآخرة، وأنّه ليس فوق العرش، ونحو ذلك من مقالات الجهميّة النفاة؛ لأنّ القرآن كلام، وهو صفة من الصفات، والصفات عندهم لا تقوم به. وأيضاً فالكلام يستلزم فعل المتكلّم، وعندهم لا يجوز قيام فعل به....".
4 في ((ط)) : فهو.
5 انظر: شرح حديث النزول لابن تيمية ص 169-170. ودرء تعارض العقل والنقل له 218.
6 انظر: ما نقله عنه أبو الحسن الأشعري في مقالات الإسلاميين 2257-258.
7 وانظر: الكيلانية لابن تيمية ضمن مجموع الفتاوى 12376. والفتاوى المصرية له 515.
قول السالمية في كلام الله
وقال طائفة1: بل كلامه قديم العين، وهو حروفٌ، أو حروفٌ وأصواتٌ قديمةٌ أزليّةٌ، مع أنّها مترتّبة في نفسها، وأنّ تلك الحروف والأصوات باقيةٌ أزلاً وأبداً2.
وجمهور العقلاء يقولون إنّ فساد هذا معلومٌ بالضرورة.
وهاتان الطائفتان3 [تقولان] 4 إنّه لا يتكلم بمشيئته وقدرته.
قول الهشامية والكرامية في كلام الله
وقال آخرون؛ كالهشاميّة والكراميّة: بل هو متكلم بمشيئته وقدرته، وكلامه قائم بذاته، ولا يمتنع قيام الحوادث به، لكن يمتنع أن يكون لم يزل متكلماً؛ فإنّ ذلك يستلزم وجود حوادث لا أوّل لها وهو ممتنع5.
فهذه الأربعة في القرآن وكلام الله هي أقوال المشركين في امتناع دوام كون الرب فعّالاً بمشيئته، أو متكلّماً بمشيئته.
1 وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله (في مجموع الفتاوى 12166) أنّ هذا القول: "قول طوائف من أهل الكلام والحديث؛ من السالمية، وغيرهم؛ يقولون: إنّ كلام الله حروف وأصوات قديمة أزليّة، ولها مع ذلك معان تقوم بذات المتكلّم. وهؤلاء يوافقون الأشعرية والكلابية في أنّ تكليم الله لعباده ليس إلا مجرّد خلق إدراك للمتكلم، ليس هو أمراً منفصلاً عن المستمع".
وانظر: زيادة إيضاح من كلام شيخ الإسلام لهذا القول في شرح الأصفهانية 2331، 333، 338، 341. وانظر: ما سبق ص 317.
2 انظر: شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العزّ 1173.
وقد ذكر شارح الطحاوية تسعة أقوال للناس في صفة الكلام؛ فراجعها في 1172 وما بعدها.
3 الكلابيّة الذين يُنكرون أن يكون حرفاً وصوتاً. والسالمية التي تزعم أنّ كلام الله حروف وأصوات باقية أزلاً وأبداً.
4 في ((خ)) : يقولان. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .
5 انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية 6524. والفرقان بين الحق والباطل له ص 100. وقاعدة نافعة في صفة الكلام له - ضمن مجموعة الرسائل المنيرية - 275. ورسالة في العقل والروح له - ضمن مجموعة الرسائل المنيرية - 232-33.
قول أئمة السنة والحديث في كلام الله تعالى
وأمّا أئمة السنة والحديث؛ كعبد الله بن المبارك، وأحمد بن حنبل1، وغيرهما2؛ فقالوا: لم يزل الربّ متكلماً إذا شاء وكيف شاء؛ [فذكروا] 3 أنّه يتكلم بمشيئته وقدرته، وأنّه لم يزل كذلك4.
المتكلمون مخالفون للكتاب والسنة
وهذا يناقض الأصل5 الذي اشترك فيه المتكلمون؛ من الجهميّة، والمعتزلة، ومن تلقى عنهم؛ فلا هم موافقون للكتاب والسنة وكلام السلف؛ لا فيما اتفقوا عليه، ولا فيما تنازعوا فيه، ولهذا يوجد في عامّة أصول الدين لكل منهم قول، وليس في أقوالهم ما يوافق الكتاب والسنة؛ كأقوالهم في كلام الله، وأقوالهم في إرادته ومشيئته، وفي علمه، وفي قدرته، وفي غير ذلك من صفاته6. وإن كان بعضهم أقرب إلى السنة والسلف من بعض.
1 انظر: كلام الإمام أحمد بن حنبل في الرد على الجهمية والزنادقة له ص131. ونقله عنه العلامة ابن القيم في اجتماع الجيوش الإسلامية ص 213. وانظر: أيضاً: كتاب المحنة لحنبل بن إسحاق ص 45، 68.
2 وانظر كتاب السنة لعبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل ص 21-42؛ حيث ذكر نقولاً كثيرة عن أئمة أهل السنّة والحديث في كلام الله عز وجل.
3 في ((ط)) فقط: فكذروا.
4 انظر تفصيل معتقدهم في صفة الكلام في كتب ابن تيمية الآتية: الإيمان ص 162. ودرء تعارض العقل والنقل 2329،، 10222. والاستقامة 1311. ومجموع الفتاوى6533. والتسعينيّة ص131-138، 176-188. 236-238. وشرح الأصفهانية 1200-201، 2341.
5 وهو امتناع حوادث لا أول لها. وما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث.
6 ومن يُقلّب كتب المعتزلة، والأشاعرة، والماتريدية، يجد البون الشاسع والفرق الكبير بين أقوال متبعي هذه المذاهب في قضيّة استندوا فيها جميعاً إلى أصل جهميّ واحد، وانطلقوا من منطلق واحد؛ فبنوا عليه أقوالهم التي ينطح بعضها بعضاً، وينقض أوّلها آخرها.
المتكلمون في مسألة القرآن لا يعرفون قول أهل السنة
ولكن قد شاع ذلك بين أهل العلم والدين منهم؛ فكثيرٌ من أهل العلم والدين المنتسبين إلى السنّة والجماعة من قد يوافقهم على بعض أقوالهم في مسألة القرآن، أو غيرها؛ إذ كان لا يعرف إلا ذلك القول، أو ما هو أبعد عن السنة منه؛ إذ كانوا في كتبهم لا يحكون غير ذلك؛ إذ كانوا لا يعرفون السنّة، وأقوال الصحابة، وما دلّ عليه الكتاب والسنة. لا يعرفون [إلاّ قولهم] 1، وقول من يخالفهم من أهل الكلام، ويظنّون أنّه ليس للأمة إلا هذان القولان، أو الثلاثة.
المتكلمون يعتمدون على القياس العقلي وعلى الإجماع
وهم يعتمدون في السمعيات على ما يظنّونه من الإجماع، وليس لهم معرفة بالكتاب والسنّة، بل يعتمدون على القياس العقلي2؛ الذي هو أصل كلامهم، وعلى الإجماع.
1 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) .
2 وهو القياس الذي يستعمله أهل الكلام في حقّ الله تعالى. وهو نوعان: "قياس شمول منطقيّ تستوي أفراده في الحكم، وقياس تمثيل يستوي فيه الأصل والفرع. وكلا النوعين لا يُستعملان في حقّ الله تعالى؛ فإنّه سبحانه لا مِثل له، وإنّما يُستعمل في حقّه من هذا وهذا قياس الأولى؛ مثل أن يُقال: كلّ نقصٍ يُنزّه عنه مخلوق من المخلوقات، فالخالق تعالى أولى بتنزيهه عنه، وكلّ كمال مطلق ثبت لموجود من الموجودات، فالخالق تعالى أولى بثبوت الكمال المطلق الذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه..". درء تعارض العقل والنقل 7362.
وانظر: من كتب ابن تيمية: المصدر نفسه 129-30، 6181، 7154، 322-327، 362-364. ومجموع الفتاوى 3297، 302، 321،، 5201، 250، 919-20، 12344، 347-350، 356، 16357، 358، 360، 446. ومنهاج السنة النبوية 1371، 417. والرسالة التدمرية ص 50، 151. وكتاب الصفدية 225، 27. والرد على المنطقيين ص 115-116، 118، 119، 120-123. ونقض تلبيس الجهمية - مخطوط - ق 225. وشرح الأصفهانية 2342، 344.
إجماع المتكلمين إنما هو على ما ابتدعه رأس من رؤوسهم
وأصل كلامهم العقلي باطل، والإجماع الذي يظنونه إنما هو إجماعهم، وإجماع نظرائهم من أهل الكلام، ليس هو إجماع أمة محمد، ولا علمائها.
والله تعالى إنّما جعل العصمة للمؤمنين [من] 1 أمة محمد؛ فهم الذين لا يجتمعون على ضلالة ولا خطأ؛ كما ذكر على ذلك الدلائل الكثيرة2. وكلّ ما اجتمعوا عليه فهو مأثور عن الرسول؛ فإنّ الرسول بيَّن الدين كلّه، وهم [معصومون] 3 أن يُخطئوا كلّهم، ويضلّوا عمّا جاء به محمد. بل هم يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر؛ فلا يبقى معروفٌ إلا أمروا به، ولا منكر إلا نهوا عنه.
وهم أمّة وسط، عدل، خيار، شهداء الله في الأرض؛ فلا يشهدون إلا بحقّ؛ فإجماعهم هو على علم موروث عن الرسول، جاء من عند الله، وذلك لا يكون إلا حقّاً.
وأمّا من كان إجماعهم على ما ابتدعه رأس من رؤوسهم4؛ فيجوز أن يكون إجماعهم خطأ؛ إذ ليسوا هم المؤمنين، ولا أمة محمد، وإنما هم فرقة منهم.
1 ما بين المعقوفتين ليس في ((خ)) ، وهو في ((م)) ، و ((ط)) .
2 من الأدلة على الإجماع من القرآن الكريم: قوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} . [النساء 115] . وكذلك قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} . [البقرة 143] .
وانظر: كلام شيخ الإسلام رحمه الله عن الإجماع في: مجموع الفتاوى 19173-202، 2010-11، 247-248.
3 في ((ط)) : معصومن.
4 وهم فرق المبتدعة يُجمعون على ما ابتدعه جهم بن صفوان الراسبي.
وإذا قيل: المعتبر من أمة محمد بعلمائها. قيل: إذا اتفقت علماؤها على شيء، فالباقون يُسلمون لهم ما اتفقوا عليه، لا يُنازعونهم فيه؛ فصار هذا إجماعاً من المؤمنين. ومن نازعهم بعلم فهذا لا يثبت الإجماع دونه كائناً من كان. أمّا من ليس من أهل العلم فيما تكلموا فيه، فذاك وجوده كعدمه.
المجتهدون الذين يعتبر بقولهم
وقول من قال: الاعتبار بالمجتهدين دون غيرهم، وأنّه لا يُعتبر بخلاف أهل الحديث، أو أهل الأصول، ونحوهم: كلامٌ لا حقيقة له؛ فإنّ المجتهدين إنْ أُريد بهم من له قدرة على معرفة جميع الأحكام بأدلّتها، فليس في الأمة من هو كذلك، بل أفضل الأمة كان يتعلم ممن هو دونه شيئاً من السنّة ليس عنده. وإن عنى به من يقدر على معرفة الاستدلال على الأحكام في الجملة، فهذا موجودٌ في كثيرٍ من أهل الحديث، والأصول، والكلام. وإن كان بعض الفقهاء أمهر منهم بكثير من الفروع، أو بأدلتها الخاصّة، أو بنقل الأقوال فيها؛ فقد يكون أمهر منه في معرفة أعيان الأدلة؛ كالأحاديث، والفرق بين صحيحها وضعيفها، ودلالات الألفاظ عليها، والتمييز بين ما هو دليل شرعيّ، وما ليس بدليل.
وبالجملة: العصمة إنّما هي للمؤمنين لأمة محمد، لا لبعضهم. لكن إذا اتفق علماؤهم على شيء، فسائرهم موافقون للعلماء. وإذا تنازعوا ولو كان المنازع واحداً، وجب ردّ ما تنازعوا فيه إلى الله والرسول.
وما أحد شذّ بقول فاسد عن الجمهور، إلا وفي الكتاب والسنة ما يُبيِّن فساد قوله، وإن كان القائل كثيراً؛ كقول [سعيد] 1 في أن المطلقة ثلاثاً تباح بالعقد2.
1 في ((خ)) : سعد. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . وهو سعيد بن المسيب رحمه الله.
2 انظر: قوله في المغني لابن قدامة 10548-549.
من شذ بقول فاسد عن الجمهور ففي الكتاب والسنة ما يبين فساد قولهم
فحديث عائشة في الصحيحين يدل على خلافه1، مع دلالة القرآن أيضاً2. وكذلك غيره.
القول الذي يدل عليه الكتاب والسنة غير شاذ وإن كان القائل به واحداً
وأما القول الذي يدلّ عليه الكتاب والسنة، فلا يكون شاذّاً وإن كان القائل به أقل من القائل بذاك القول، فلا عبرة بكثرة القائل باتفاق الناس.
ولهذا كان السلف؛ من الصحابة، والتابعين لهم بإحسان يردّون على من أخطأ بالكتاب والسنة، لا يحتجون بالإجماع إلا علامة.
العلامات والدلائل التي يبين بها المرسل الرسول
وقد يبعث معه نشّابه3، أو سيفه، أو شيئاً من السلاح المختص به، أو يُركِبَه دابّته المختصة به، ونحو ذلك مما يعلم الناس أنّه قصد به تخصيصه، وإن
كانت تلك الأفعال [تفعل] 4 مع أمثاله، وقد يُفعل لغير الرسول ممن
1 فعن عروة بن الزبير أنّ عائشة أخبرته أنّ امرأة رفاعة القرظي جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله! إنّ رفاعة طلقني فبتّ طلاقي. وإنّي نكحت بعده إلى عبد الرحمن بن الزبير القرظي، وإنما معه مثل الهدبة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لعلّك تُريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا، حتى يذوق عسيلتك وتذوقي عسيلته" الحديث.
رواه البخاري في صحيحه 52014، كتاب الطلاق، باب من أجاز طلاق الثلاث. ومسلم في صحيحه 21055، كتاب النكاح، باب لا تحلّ المطلقة ثلاثاً لمطلقها، حتى تنكح زوجاً غيره، ويطأها، ثم يفارقها وتنقضي عدتها.
وموضع الشاهد: قول امرأة رفاعة: فبتّ طلاقي: أي طلّقها ثلاثاً. وقد أجاز النبيّ صلى الله عليه وسلم هذا الطلاق، ولكنّه لم يردّها إلى زوجها الأوّل الذي طلقها ثلاثاً بمجرّد العقد على زوجٍ غيره، بل اشترط أن يطأها زوجها الجديد، فتذوق عسيلته، ويذوق عسيلتها.
2 قال تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ}
…
إلى قوله {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا..} . [البقرة، 229-231] .
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ..} . [الطلاق، 1] .
3 النُّشَّاب: النَّبل. واحدته نُشّابة. ويُطلق كذلك على السهام.
انظر: لسان العرب 1757. وتهذيب اللغة 11379-380.
4 في ((خ)) ، و ((م)) ، و ((ط)) : يفعل. ولعل الصواب ما أثبته.
يقصد إكرامه وتشريفه، لكن هي خارقة لعادته؛ بمعنى أنه لم يعتد أن يفعل ذلك مع عموم الناس، ولا يفعله إلا مع من ميّزه بولاية، أو رسالة، أو وكالة. والولاية والوكالة [تتضمن] 1 الرسالة. فكلّ من هؤلاء هو في معنى رسوله إلى من ولاّه؛ إني قد ولّيته، وإلى من أرسله بأني أرسلته. فهذه عادة معروفة في العلامات، والدلائل التي يبيِّن بها المرسِل أنّ هذا رسولي
وجنس خرق العادة لا يستلزم الإكرام، بل [يَخْرِق] 2 عادته بالإهانة تارة، وبالإكرام أخرى؛ فقد يخرج ويركب في وقت لم تجر عادته به، بل لعقوبة قومٍ.
وآيات الربّ - تعالى - قد [تكون] 3 تخويفاً لعباده؛ كما قال: {وَمَا نُرْسِلُ [بِالآيَاتِ] 4 إِلَاّ تَخْوِيفَا} 5، وقد يُهلك بها؛ كما أهلك أمماً مكذبين، وإذا قصّ قصصهم قال:{إنّ في ذلك لآيات} 6، وكان إهلاكهم خرقاً للعادة
1 في ((خ)) : يتضمن. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .
2 في ((م)) ، و ((ط)) : تُخرق.
3 في ((خ)) : يكون. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .
4 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) .
5 سورة الإسراء، الآية 59.
6 وهذا كثيرٌ في القرآن الكريم. ومن أمثلة ذلك:
1-
قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} . [سورة يونس، الآية 67] ، [سورة الروم، الآية 23] .
2-
وقوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} . [سورة الرعد، الآية 3] ، [سورة الروم، الآية 10] ، [سورة الزمر، الآية 42] .
3-
وقوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} . [سورة الرعد، الآية 4] ، [سورة الروم، الآية 24] .
4-
وقوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} . [سورة إبراهيم، الآية 5] ، [سورة سبأ، الآية 19] .
5-
وقوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهَى} . [سورة طه، الآية 54، 128] .
6-
وقوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيات وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ} . [سورة المؤمنون، الآية 30] .
7-
وقوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} . [سورة الزمر، الآية 52] ، [سورة الروم، الآية 37] .
8-
وقوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْعَالِمِينَ} . [سورة الروم، الآية 22] .
9-
وقوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ} . [سورة السجدة، الآية 26] .
دلّ بها على أنّه عاقبهم بذنوبهم، وتكذيبهم للرسل، وأنّ ما فعلوه من الذنوب مما يُنهى عنه، ويُعاقب فاعله بمثل تلك العقوبة.
فهذه خرق عادات لإهانة قوم وعقوبتهم لما فعلوه من الذنوب [تجري] 1 مجرى قوله: عاقبتهم لأنّهم كذبوا رسولي وعصوه.
ولهذا يقول سبحانه كلّما قصّ قصة من كذّب رسله، وعقوبته إياهم؛ يقول:{فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُر وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القُرْآنَ للذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِر} 2؛ كما يقول في موضع آخر: {إِنَّ في ذَلكَ لآيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ} 3، و {إِنَّ في ذَلك لآيَة وَمَا كَان أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} 4، و {تَرَكْنَا فِيهَا آيَة للَّذِينَ يَخَافُونَ العَذَابَ الألِيم} 5.
وإذا كانت تلك العلامات مما جرت عادته أنه يفعلها مع من أرسله، ويُهلك بها من كذّب رسله، كانت أبلغ في الدلالة، وكانت معتادة في هذا النوع.
1 في ((خ)) : يجري. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .
2 سورة القمر، الآيات 16-17، 21-22.
3 سورة المؤمنون، الآية 30.
4 سورة الشعراء، الآية 8.
5 سورة الذاريات، الآية 27.
تقسيم الباقلاني للعادات إلى عامة وخاصة
وهؤلاء1 تكلّموا بلفظ لم يحققوا معناه؛ وهو لفظة خرق العادة، وقالوا: العادات تنقسم إلى عامّة، وخاصّة؛ فمنها ما يشترك فيه جميع الناس، في جميع الأعصار؛ كالأكل، والشرب، واتقاء الحر والبرد. والخاصّ منها ما يكون كعادة للملائكة فقط، أو للجنّ فقط، أو للإنس دون غيرهم2.
قالوا: ولهذا صحّ أن يكون لكلّ قبيلٍ منهم ضرب من التحدّي، وخرق لما هو عادة لهم دون غيرهم، وحجّة عليهم دون ما سواهم3.
ومنها ما يكون عادة لبعض البشر؛ نحو اعتياد بعضهم صناعة، أو تجارة، أو رياضة في ركوب الخيل، والعمل بالسلاح4. لكن هذه كلّها مقدورات للبشر.
قالوا: وآية الرسل لا تكون مقدورة لمخلوق، بل لا تكون إلا مما ينفرد الله بالقدرة عليه5.
فإذا قالوا هذا، ظنّ الظانّ أنّهم اشترطوا أمراً عظيماً.
قول الأشاعرة: المعجز: الإقدار على الفعل لا نفس الفعل
ولم يشترطوا شيئا؛ فإنهم قالوا6 في جنس الأفعال التي لا [يقدر] 7 النّاس إلَاّ على اليسير منها؛ كحمل الجبال، ونقلها: إنّ المعجزة هنا إقدارهم على الفعل، لا نفس الفعل. ورجّحوا هذا على قول من يقول: نفس الفعل آية؛ لأنّ جنس الفعل مقدورٌ.
1 يعني الأشاعرة.
2 انظر: البيان للباقلاني ص 52-53.
3 انظر: البيان للباقلاني ص 53.
4 انظر: البيان للباقلاني ص 54.
5 انظر: البيان للباقلاني ص 54.
6 انظر: البيان للباقلاني ص 61، 72.
7 في ((م)) ، و ((ط)) : تقدر.
نقد شرطهم
وليس هذا بفرق طائل؛ فإنّه لا فرق بين تخصيصهم بالفعل، أو بالقدرة عليه. فإذا كان إقدارهم على الكثير الذي لم تجر به العادة معجزة، كان نفس الكثير الذي لم تجر به العادة معجزة.
الأشاعرة أثبتوا للعبد قدرة غير مؤثرة
وهؤلاء عندهم أنّ قدرة العباد لا تؤثّر في وجود شيء، ولا يكون مقدورها إلا في محلها1؛ فهم في الحقيقة لم يثبتوا قدرة؛ فكل ما في الوجود هو مقدور لله عندهم.
الجويني والرازي تركا هذا الشرط في المعجزة
ولهذا عدل أبو المعالي، ومن اتبعه؛ كالرازي عن هذا الفرق2، فلم يشترطوا أن يكون ممّا ينفرد الرب بالقدرة عليه؛ إذ كانت جميع الحوادث عندهم كذلك. وقالوا3: إنّ ما يحصل على يد الساحر، والكاهن، وعامل الطلسمات، وعند الطبيعة الغريبة، هو ممّا ينفرد الرب بالقدرة عليه، ويكون آية للنبيّ.
وهذا معتاد لغير الأنبياء، فلم يبق لقولهم خرقٌ [للعادة] 4 معنى معقول.
قول الباقلاني: خرق العادة يكون لجميع الذين تحداهم الرسول
بل قالوا - واللفظ للقاضي أبي بكر5: الواجب على هذا الأصل أن يكون خرق العادة الذي يفعله الله مما يخرق جميع القبيل الذين تحدّاهم الرسول بمثله، ويحتجّ به على نبوته؛ فإن أرسل ملكاً إلى الملائكة، أظهر
1 انظر: الملل والنحل للشهرستاني 197.
ويُشير بذلك إلى ما عُرف ب (كسب الأشعري) . وقد تقدم بيان معناه ص 558، 697.
2 يقصد ما تقدم ص 251-254 من هذا الكتاب.
3 انظر: البيان للباقلاني ص 91. والإرشاد ص 319.
4 في ((خ)) : العادة. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .
5 الباقلاني.
على يده ما هو خرق لعادتهم؛ وإن أرسل بشراً، أرسله بما يخرق عادة البشر؛ وإن أرسل جنيّاً، أظهر على يديه ما هو خارق لعادة الجن1.
مناقشة الأشاعرة في شروطهم التي اشترطوها للمعجزة
فيُقال: السّحر، والكهانة معتادٌ للبشر. وأنتم تقولون2: يجوز أن يكون ما يأتي به الساحر، والكاهن [آية] 3، بشرط أن لا يمكن معارضته. فلم يبق لكونه خارقاً للعادة معنى يعقل عندكم.
لهذا قال محققوهم4: [إنّه] 5 لا يُشترط في الآيات أن تكون خارقة للعادة؛ كما قد حكينا لفظهم في غير هذا الموضع؛ كما تقدم6، وإنّما الشرط: أنها لا تعارض، وأن تقترن بدعوى النبوة7؛ هذان الشرطان هما المعتبران. وقد بيّنا في غير موضع أنّ كلاً من الشرطين باطلٌ.
والأول: يقتضي أن يكون المدلول عليه جزءاً من الدليل.
وآيات النبوة أنواع متعددة؛ منها ما يكون قبل وجوده؛ ومنها ما يكون بعد موته؛ ومنها ما يكون في غيبته8.
والمقصود هنا كان: هو الكلام على المثال الذي ذكروه، وأنّ ما ضرب من الأمثلة على الوجه الصحيح، فإنّه - ولله الحمد - يدلّ على صدق الرسول، وعلى فساد أصولهم.
1 انظر: البيان للباقلاني ص 55.
2 انظر: البيان للباقلاني ص 94، 95. والإرشاد للجويني ص 327-328.
3 رسمت في ((خ)) : انه. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .
4 انظر: البيان للباقلاني ص 47-48. والإرشاد للجويني ص 309.
5 ما بين المعقوفتين ملحق في ((خ)) بين السطرين.
6 تقدم هذا في ص 659-660 من هذا الكتاب.
7 انظر: البيان للباقلاني ص 47-48، 194. والإرشاد للجويني ص 320-321.
8 انظر: الجواب الصحيح 6380.
طريق الضرورة لإثبات النبوة
ولكن هم ضربوا مثالاً، إذا اعتبر على الوجه الصحيح كان حجةً - ولله الحمد - على صدق النبيّ، وعلى فساد ما ذكروه في المعجزات حيث قالوا1: هي الفعل الخارق للعادة، المقترن بدعوى النبوة والاستدلال به، وتحدّي النبيّ من دعاهم أن يأتوا بمثله. وشَرَطَ بعضهم2 أن يكون مما ينفرد الرب بالقدرة عليه.
تعريف المعجزة عند الأشاعرة وشروطها
وهذه الأربعة هي التي شَرَطَ القاضي أبو بكر3، ومن سلك مسلكه؛ كابن اللبان4، وابن شاذان5، والقاضي أبي يعلى6، وغيرهم7: أن يكون ممّا ينفرد الرب بالقدرة عليه على أحد القولين، أو منه ومن الجنس الآخر، إذا وقع على وجه يخرق العادة، وطريق متعذر على غيرهم مثله - على القول الآخر. قالوا وهذا لفظ [القاضي] 8 أبي بكر.
1 انظر: البيان للباقلاني ص 16، 94. وأصول الدين للبغدادي ص 170-171. والمواقف للإيجي ص 339-340. والمقاصد مع شرحها للتفتازاني 511. وانظر: الجواب الصحيح 6497.
2 انظر: البيان للباقلاني ص 45.
3 انظر: البيان للباقلاني ص 45.
4 هو عليّ بن محمد بن نصر الدينوري، أبو الحسن، ابن اللبّان. إمام، محدّث، حافظ. توفي سنة ثمانٍ وستين وأربع مائة. انظر: سير أعلام النبلاء 18369-370.
5 هو الحسن بن أبي بكر؛ أحمد بن إبراهيم بن الحسن بن محمد بن شاذان. أبو علي البغدادي البزّاز الأصوليّ. إمام، فاضل، مسند العراق. توفي في آخر يوم من سنة 425 ?، ودفن في أول يوم من سنة 426 ?.
انظر: سير أعلام النبلاء 17415-418. وشذرات الذهب 3228-229.
6 سبقت ترجمته.
7 وانظر: أيضاً في أقوال هؤلاء في إثبات النبوة: الجواب الصحيح 6397-398.
8 ما بين المعقوفتين مكرّر في ((خ)) .
والثاني: أن يكون ذلك الشيء الذي يظهر على أيديهم مما يخرق العادة، وينقضها. ومتى لم يكن كذلك، لم يكن معجزاً.
والثالث: أن يكون غير النبي ممنوعاً من إظهار ذلك على يده، على الوجه الذي ظهر عليه، ودعا إلى معارضته، مع كونه خارقاً للعادة.
والرابع: أن يكون واقعاً مفعولاً عند تحدي الرسول بمثله، وادعائه آيةً لنبوّته، وتقريعه بالعجز عنه من خالفه وكذّبه.
قالوا: فهذه هي الشرائط، والأوصاف التي تختص بها المعجزات1.
مناقشة شيخ الإسلام للأشاعرة في الشروط التي اشترطوها في المعجزة
فيقال لهم:
الشرط الأول قد عرف أنّه لا حقيقة له، ولهذا [أعرض] 2 عنه أكثرهم3.
والثاني أيضاً لا حقيقة له؛ فإنهم لم يميزوا ما يخرق العادة ممّا لا يخرقها. ولهذا ذهب من ذهب من محققيهم إلى إلغاء هذا الشرط؛ فهم لا يعتبرون خرق عادة جميع البشر، بل ما اعتاده السحرة، والكهان، وأهل الطلاسم عندهم، يجوز أن يكون آية إذا لم يُعارض4. وما اعتاده أهل صناعة، أو علم، أو شجاعة ليس هو عندهم آية، وإن لم يعارض.
فالأمور العجيبة التي خص الله بالإقدار عليها بعض الناس، لم يجعلوها خرق عادة. والأمور المحرمة، أو هي كفرٌ؛ كالسحر، والكهانة، والطلسمات: جعلوها خرق عادة، وجعلوها آية، بشرط أن لا يعارض. وهو الشرط الثالث، وهو في الحقيقة خاصة المعجزة عندهم.
1 انظر: البيان للباقلاني ص 45-46.
2 في ((ط)) : أعراض.
3 كما مرّ معنا في ص 226-227، 640-641 من هذا الكتاب؛ من أمثال الجويني، والرازي.
4 انظر: البيان للباقلاني ص 94-96. والإرشاد للجويني ص 327-328.
لكن كون غير الرسول ممنوعاً منه: إن اعتبروا [أنه] 1 ممنوع مطلقا؛ فهذا لا يعلم. وإن اعتبروا أنه ممنوع من المرسل اليهم؛ فهذا لا يكفي، بل يمكن كلّ ساحر، وكاهن أن يدّعي النبوّة، ويقول إنني كذا.
قالوا2: لو فعل هذا، لكان الله يمنعه فِعْلَ ذلك، أو يقيّض له من يعارضه.
قلنا: من أين لكم ذلك؟ ومن أين يعلم الناس ذلك؟ ويعلمون أن كل كاذب فلا بُدّ أن يُمنع من فعل الأمر الذي اعتاده هو وغيره قبل ذلك؟ أو أن يعارض؟
والواقع خلاف ذلك؛ فما أكثر من ادّعى النبوّة، أو الاستغناء عن الأنبياء، وأنّ طريقه فوق طريق الأنبياء، وأنّ الربّ يُخاطبه بلا رسالة، وأتى بخوارق من جنس ما تأتي السحرة، والكهّان، ولم يكن في من دعاه من يعارضه3.
وأما الرابع: وهو أن يكون عند تحدي الرسول فيه، يحترزون عن الكرامات4. وهو شرطٌ باطلٌ.
1 في ((خ)) : لأنّه. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .
2 انظر: البيان للباقلاني ص 94، 95، 100.
3 كمسيلمة الكذّاب، والأسود العنسيّ، والحارث الكذّاب، والحلاّج، وغيرهم. لم يكن عندهم مَنْ يُعارضهم.
وسيتناول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله هذا الموضوع بشيءٍ من الإيضاح والشرح.
انظر: ص 950-954 من هذا الكتاب. وانظر: الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص 168-169، 321-332. والجواب الصحيح 6500.
4 وانظر الفرق بين المعجزات والكرامات عند الأشاعرة، في: البيان للباقلاني ص48. والإرشاد للجويني ص317، 319-320، 322-323. وأصول الدين للبغدادي ص 174.
تعريف الدليل
آيات الأنبياء وإن لم يتحدوا بها فهي دلائل على النبوة
بل آيات الأنبياء آيات، وإن لم ينطقوا بالتحدي بالمثل. وهي دلائل على النبوّة، وصدق المخبِر بها. والدليل مغايرٌ للمدلول عليه، ليس المدلول عليه جزءاً من الدليل. لكن إذا قالوا: الدليل هو دعاء الرسول، لزمه أن يريهم آية، وخلق تلك الآية عقب سؤاله. وإن كان ذلك قد يخلقه بغير سؤاله لحكمة أخرى. فهذا متوجّه؛ فالدليل هو مجموع طلب العلامة، مع فعل ما جعله علامة؛ كما أنّ العباد إذا دعوا الله فأجابهم، كان ما فعله إجابةً لدعائهم، ودليلاً على أنّ الله سمع دعاءهم، وأجابهم؛ كما أنّهم إذا استسقوه فسقاهم، واستنصروه فنصرهم، وإن كان قد يفعل ذلك بلا دعاء، [فلا يكون هناك دليلٌ على إجابة دعاء. فهو دليلٌ على إجابة الدعاء] 1 إذا وقع عقب الدعاء، ولا يكون دليلاً إذا وقع على غير هذا الوجه.
وكذلك الرسول: إذا قال لمرسله: أعطني علامة. فأعطاه ما شرّفه به، كان دليلاً على رسالته، وإن كان قد يفعل ذلك لحكمة أخرى. لكن فعل ذلك عقب سؤاله، آية لنبوته هو الذي يختص به.
وكذلك إذا علم أنه فعله إكراماً له، مع دعواه النبوة، علم أنّه قد أكرمه بما يكرم به الصادقين عليه، فعلم أنّه صادق؛ لأنّ ما فعله به مختص بالصادقين الأبرار، دون الكاذبين عليه الفجّار.
كرامات الأولياء من آيات الأنبياء
وعلى هذا فكرامات الأولياء هي من آيات الأنبياء2؛ فإنها مختصة بمن شهد لهم بالرسالة، وكلّ ما استلزم صدق الشهادة بنبوتهم، فهو دليلٌ على صدق هذه الشهادة؛ سواءٌ كان الشاهد بنبوّتهم المخبِر بها هم، أو
1 ما بين المعقوفتين ساقطٌ من ((ط)) .
2 انظر: دقائق التفسير لشيخ الإسلام رحمه الله 1159. وانظر: تفسير القرطبي 13137. ودلائل النبوة لابن كثير ضمن البداية والنهاية 6161.
غيرهم. بل غيرهم إذا أخبر بنبوتهم، وأظهر الله على يديه ما يدلّ على صدق هذا الخبر، كان أبلغ في الدلالة على صدقهم من أن يظهر على أيديهم.
ليس من شرط دلائل النبوة اقترانها بدعوى النبوة أو التحدي بها
فقد تبيّن أنّه ليس من شرط دلائل النبوة؛ [لا اقترانه] 1 بدعوى النبوة، ولا الاحتجاج به، ولا التحدي بالمثل2، ولا تقريع من يخالفه. بل كلّ هذه الأمور قد تقع في بعض الآيات، لكن لا يجب أنّ ما لا يقع معه لا يكون آية، بل هذا إبطالٌ لأكثر آيات الأنبياء؛ [لخلوها] 3 عن هذا الشرط4.
1 في ((م)) ، و ((ط)) : لاقترانه.
2 كما يقوله أهل الكلام من المعتزلة والأشاعرة.
انظر: المغني لعبد الجبار الهمداني 15199، 215. وشرح الأصول الخمسة له ص 569-571. والبيان للباقلاني ص 45-46. والمواقف للإيجي ص 339-340.
3 في ((خ)) : خلوها. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .
4 المتكلّمون جعلوا التحدّي شرطاً من شروط المعجزة.
وقد ردّ عليهم شيخ الإسلام رحمه الله اشتراطهم لهذا الشرط؛ فقال: "وآيات النبوة وبراهينها تكون في حياة الرسول، وقبل مولده، وبعد مماته، لا تختصّ بحياته، فضلاً عن أن تختصّ بحال دعوى النبوة، أو حال التحدّي؛ كما ظنّه بعض أهل الكلام". انظر: الجواب الصحيح 6380، 408، 496.
وقد ردّ ابن حزم أيضاً على من اشترط هذا الشرط؛ فقال: "ومن ادّعى أنّ إحالة الطبيعة لا تكون آية إلا حتى يتحدى فيها النبيّ صلى الله عليه وسلم النّاس، فقد كذب، وادّعى ما لا دليل عليه أصلاً؛ لا من عقل، ولا من نص قرآن ولا سنّة. وما كان هكذا، فهو باطلٌ، ويجب من هذا أنّ حنين الجذع، وإطعام النفر الكثير من الطعام اليسير حتى شبعوا، وهم مئون من صاع شعير، ونبعان الماء من بين أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإرواء ألف وأربعمائة من قدح صغير تضيق سعته عن الشبر، ليس شيء من ذلك آية له عليه السلام؛ لأنّه عليه السلام لم يتحدّ بشيء من ذلك أحداً". المحلى لابن حزم 136. وانظر: الفصل في الملل والأهواء والنحل له 52، 6.
الدليل ما يستلزم وجود المدلول
ثمّ هو شرطٌ بلا حجة؛ فإنّ الدليل على المدلول عليه، هو ما استلزم وجوده. وهذا لا يكون إلا عند عدم المعارض المساوي، أو الراجح. وما كان كذلك، فهو دليلٌ؛ سواءٌ قال المستدلّ به: ائتوا بمثله، وأنتم لا تقدرون على الإتيان بمثله، وقرعهم وعجزهم. أو لم يقل ذلك.
فهو إذا كان في نفسه مما لا يقدرون على الإتيان بمثله؛ سواءٌ ذكر المستدلّ [هذا] 1، أو لم يذكره؛ لا بذكره يصير دليلاً، ولا بعدم ذكره تنتفي دلالته.
وهؤلاء قالوا: لا يكون دليلا [إلا] 2 [إذا] 3 ذكره المستدل. وهذا باطلٌ.
وكذلك الدليل، هو دليلٌ؛ سواءٌ استدلّ به مستدلّ، أو لم يستدلّ. وهؤلاء قالوا: لا يكون دليل النبوة دليلاً، إلا إذا استدلّ به النبيّ حين ادّعى النبوة؛ فجعل نفس دعواه، واستدلاله، والمطالبة بالمعارضة، وتقريعهم بالعجز عنها؛ كلها جزءاً من الدليل.
وهذا غلطٌ عظيمٌ. بل السكوت عن هذه الأمور أبلغ في الدلالة، والنطق بها لا يُقوِّي الدليل. والله تعالى لم يقُل:{فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ [مِثْلِهِ] 4} 5، إلَاّ حين قالوا: افتراه؛ لم يجعل هذا القول شرطاً في الدليل، بل نفس عجزهم عن المعارضة هو من تمام الدليل.
1 ما بين المعقوفتين ملحق في ((خ)) بين السطرين ،
2 ما بين المعقوفتين ملحق في ((خ)) بين السطرين.
3 ما بين المعقوفتين مكرّر في ((خ)) .
4 في ((خ)) : بمثله.
5 سورة الطور، الآية 34.
الأشاعرة يجعلون الفرق بين جنس المعجزات والكرامات وخوارق السحرة: ادعاء النبوة وإلا فالجنس واحد
[وهم] 1 إنّما شرطوا ذلك؛ لأنّ كرامات الأولياء عندهم؛ متى اقترن بها دعوى النبوّة، كانت آية للنبوة2؛ وجنس السحر، والكهانة؛ متى اقترن به دعوى النبوة، كان دليلاً على النبوّة عندهم، لكن قالوا: الساحر، والكاهن لو ادّعى النبوّة، لكان [يُمنع] 3 من ذلك، أو يُعارض بمثله4. وأمّا الصالح: فلا يدّعي.
فكان أصلهم: أنّ ما يأتي به النبيّ، والساحر، والكاهن، والولي: من جنسٍ واحد، لا يتميّز بعضه عن بعضٍ بوصف5، لكن خاصّة النبيّ: اقتران الدعوى، والاستدلال، والتحدي بالمثل بما يأتي به.
فلم يجعلوا لآيات الأنبياء خاصّة تتميّز بها عن السحر، والكهانة، وعمّا يكون لآحاد المؤمنين، ولم يجعلوا للنبيّ مزيّة على عموم المؤمنين، ولا على السحرة، والكهّان من جهة الآيات التي يدل [الله] 6 بها العباد على صدقه.
رد شيخ الإسلام عليهم
وهذا افتراءٌ عظيمٌ؛ على الأنبياء، وعلى آياتهم، وتسويةٌ بين أفضل الخلق، وشرار الخلق.
الساحر والكاهن لا يأتي إلا بالفجور
بل تسويةٌ بين [ما يدلّ] 7 على النبوّة، وما يدلّ على نقيضها؛ فإنّ ما يأتي به السحرة، والكهّان، لا يكون إلَاّ لكذّابٍ، فاجرٍ، عدوٍّ لله؛ فهو مناقض للنبوة.
1 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) .
2 انظر: البيان للباقلاني ص 48. والإرشاد للجويني ص 319-321.
3 في ((م)) ، و ((ط)) : يمتنع.
4 انظر: البيان للباقلاني ص 94، 95، 100.
5 انظر: البيان للباقلاني ص 91، 96. والإرشاد للجويني ص 327-328.
6 ما بين المعقوفتين ملحق في ((خ)) بين السطرين.
7 ما بين المعقوفتين ملحق في ((خ)) بين السطرين.
من الفروق بين آيات الأنبياء وبين خوارق السحرة والكهان
فلم يفرقوا بين ما يدلّ على النبوّة وعلى نقيضها، وبين ما لا يدلّ عليها، ولا على نقيضها؛ فإنّ آيات الأنبياء تدلّ على النبوة، وعجائب السحرة، والكهّان تدلّ على نقيض النبوّة؛ وإنّ صاحبها ليس ببرّ، ولا عدلٍ، ولا وليٍّ لله، فضلاً عن أن يكون نبيّاً.
بل يمتنع أن يكون الساحر، والكاهن نبيّاً، بل هو من أعداء الله.
والأنبياء أفضل خلق الله، وإيمان المؤمنين، وصلاحهم لا يناقض النبوة، ولا يستلزمها.
الأشاعرة سووا بين الأجناس الثلاثة
فهؤلاء1 سوّوا بين الأجناس الثلاثة؛ فكانوا بمنزلة من سوّى بين عبادة [الرحمن] 2، وعبادة الشيطان والأوثان؛ فإنّ الكهّان، والسحرة يأمرون بالشرك، وعبادة الأوثان، وما فيه طاعة للشيطان. [والأنبياء] 3 لا يأمرون إلا بعبادة الله وحده، وينهون عن عبادة ما سوى الله وطاعة الشياطين.
النبي عند الأشاعرة
فسوّى هؤلاء بين هذا وهذا، ولم يبق الفرق إلا مجرّد تلفّظ المدّعي بأني نبيّ. فإن تلفّظ به، كان نبيّاً، وإن لم يتلفّظ به، لم يكن نبيا.
فالكذّاب المتنبي إذا أتى بما يأتي الساحر، والكاهن، وقال: أنا نبيّ، كان نبيّاً.
وقولهم: إنّه إذا فعل ذلك مُنِع منه، وعورض4: دعوى مجردة؛ فهي لا تُقبل لو لم يعلم بطلانها. فكيف، وقد علم بطلانها، وأنّ كثيراً ادّعوا ذلك، ولم يعارضهم ممّن دعوه أحد، ولا مُنعوا من ذلك.
1 يعني الأشاعرة. انظر: الجواب الصحيح 6400، 500.
2 في ((ط)) : احرحمن.
3 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) .
4 انظر: البيان للباقلاني ص 94، 95، 100.
فلزم على قول هؤلاء: التسوية بين النبيّ الصادق، والمتنبي الكاذب.
ولم يُفرّق هؤلاء2 بين هؤلاء3 وهؤلاء4، ولا بين آيات هؤلاء، وآيات هؤلاء.
وقال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورَاً وَهُدَىً للنَّاسِ [تَجْعَلُونَهُ] 5 قَرَاطِيسَ [تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ] 6 كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ في خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ القُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِطُونَ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبَاً أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ الله وَلَوْ تَرَى [إذ] 7 الظَّالِمُونَ في غَمَرَاتِ المَوْتِ وَالمَلائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ اليَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الهُونِ بِمَا كُنْتُم تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ
1 سورة الزمر، الآيتان 32-33.
2 الأشاعرة.
3 الأنبياء عليهم السلام.
4 السحرة والكهان.
5 في ((خ)) : يجعلونه.
6 في ((خ)) : يبدونها ويخفونها.
7 ما بين المعقوفتين ساقطٌ من ((ط)) .
ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمْ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ [أنّهم] 1 فِيكُمْ شُرَكَاءَ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} 2.
فنسأل الله العظيم: أن يهدينا إلى [صراطه] 3 المستقيم؛ صراط الذين أنعم عليهم؛ من [النبيين] 4، والصديقين، والشهداء، والصالحين؛ الذين عبدوه وحده، لا شريك له، وآمنوا بما أرسل به رسله، وبما جاءوا به من الآيات، وفرق بين الحق والباطل، والهدى والضلال، والغيّ والرشاد، وطريق أولياء الله المتقين، وأعداء الله الضالّين، والمغضوب [عليهم] 5؛ فكان ممّن صدَّق الرسل فيما أخبروا به، وأطاعهم فيما أمروا به. ولا حول ولا قوة إلا بالله.
من أصول الأشاعرة
وهؤلاء6 يُجوّزون أن يأمر الله بكلّ شيء، وأن ينهى عن كلّ شيء؛ فلا يبقى عندهم فرق بين النبيّ الصادق، والمتنبي الكاذب؛ لا من جهة نفسه؛ فإنهم لا يشترطون فيه إلَاّ مجرّد كونه في الباطن مقرّاً بالصانع7. وهذا موجودٌ في عامّة الخلق؛ ولا من جهة [آياته؛ ولا من جهة] 8
1 في ((ط)) : إنهم.
2 سورة الأنعام، الآيات 91-94.
3 في ((م)) ، و ((ط)) : صراط.
4 في ((ط)) : افنبين.
5 ما بين المعقوفتين ملحق في ((خ)) بين السطرين.
6 يعني الأشاعرة.
7 بل لا مانع عند الجهمية أن يكون النبيّ من أجهل الخلق، يقول شيخ الإسلام رحمه الله:"الجهمية تثبت نبوة لا تستلزم فضل صاحبها ولا كماله ولا اختصاصه قط بشيء من صفات الكمال، بل يجوز أن يُجعل من هو من أجهل الناس نبيّاً..". منهاج السنة النبوية 5436.
8 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) .
ما يأمر به1.
والفلاسفة من هذا الوجه أجود قولاً في الأنبياء؛ فإنّهم يشترطون في النبيّ اختصاصه بالعلم من غير تعلم، وبالقدرة على التأثير الغريب، والتخييل. ويُفرّق بين الساحر، والنبيّ: بأنّ النبيّ يقصد العدل، ويأمر به؛ بخلاف الساحر2.
الغزالي عدل إلى طريق الفلاسفة في النبوة
ولهذا عدل الغزالي في النبوة عن طريق أولئك المتكلمين، إلى طريق الفلاسفة؛ فاستدلّ بما يفعله، ويأمر به، على نبوته3.
وهي طريق صحيحة، لكن إنّما أثبتَ بها نبوةّ مثل نبوةّ الفلاسفة4.
1 ولشيخ الإسلام رحمه الله كلام طيّب عن النبوّة عند الأشاعرة. فمن ذلك قوله رحمه الله عنهم: "فهؤلاء يُجوّزون بعثة كلّ مكلّف، والنبوة عندهم مجرد إعلامه بما أوحاه إليه، والرسالة مجرّد أمره بتبليغ ما أوحاه إليه. وليست النبوة عندهم صفة ثبوتية، ولا مستلزمة لصفة يختصّ بها، بل هي من الصفات الإضافية؛ كما يقولون مثل ذلك في الأحكام الشرعية.... إلخ". منهاج السنة النبوية 2414. وانظر: الجواب الصحيح 6496، 500-504. وكتاب الصفدية 1148-149، 225.
وانظر: موقفهم من عصمة الأنبياء في المصدر نفسه 2414-415.
2 انظر: كتاب الصفدية 1143.
3 انظر: المنقذ من الضلال للغزالي ص 145-150. ومعارج القدس له ص 151، 164؛ فإنه يجعل للنبوة ثلاثة خواص. وتهافت الفلاسفة له ص 192-194.
وانظر: ما نقله عنه شيخ الإسلام ابن تيمية في شرح الأصفهانية - ت السعوي - 2519-522، 533. وما نقله - شيخ الإسلام - أيضاً عن المازري من أن كلام الغزالي يؤثر في الإيمان بالنبوة فينقص قدرها، انظر: الصفدية 1211.
4 وقد علّق شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله على كلام الغزالي، وبيَّن مشابهة قوله لقول الفلاسفة في حقيقة النبوّة. انظر: شرح الأصفهانية - ت السعوي - 2542- 543 والصفدية 16 ودرء تعارض العقل والنقل 132. والرد على المنطقيين ص510. وانظر: كلام الغزالي في النبوة في طبقات الشافعية للسبكي 4110-114.
مقارنة بين الأشاعرة والفلاسفة في النبوات
وأولئك1 خيرٌ من الفلاسفة؛ من جهة أنّهم لما أقرّوا بنبوّة محمدٍ، صدّقوه فيما أخبر به من أمور الأنبياء، وغيرهم، وكان عندهم معصوماً من الكذب فيما يبلغه عن الله؛ فانتفعوا بالشرع، والسمعيات. وبها صار فيهم من الإسلام ما تميّزوا به على أولئك2؛ فإن أولئك لا ينتفعون بأخبار الأنبياء؛ إذ كانوا عندهم يُخاطبون الجمهور بالتخييل؛ فهم يكذبون عندهم للمصلحة3.
1 يعني الأشاعرة.
2 يعني الفلاسفة.
3 ولشيخ الإسلام رحمه الله كلام طيّب يشرح فيه النبوة عند الفلاسفة، يقول فيه:"وأما المتفلسفة القائلون بقدم العالم، وصدوره عن علة موجبة - مع إنكارهم أنّ الله تعالى يفعل بقدرته ومشيئته، وأنّه يعلم الجزئيات - فالنبوة عندهم فيضٌ يفيض على الإنسان بحسب استعداده، وهي مكتسبة عندهم. ومن كان متميزاً - في قوته العلمية؛ بحيث يستغني عن التعليم، وشُكّل في نفسه خطاب يسمعه كما يسمع النائم، وشخص يخاطبه كما يُخاطَب النائم؛ وفي العملية بحيث يؤثر في العنصريات تأثيراً غريباً - كان نبيّاً عندهم. وهم لا يُثبتون مَلَكَاً مُفضَّلاً يأتي بالوحي من الله تعالى، ولا ملائكة، بل ولا جِنّاً يخرق الله بهم العادات للأنبياء، إلا قوى النفس. وقول هؤلاء وإن كان شراً من أقوال اليهود والنصارى، وهو أبعد الأقوال عمّا جاءت به الرسل، فقد وقع فيه كثيرٌ من المتأخرين الذين لم يُشرق عليهم نور النبوة؛ من المدّعين للنظر العقليّ، والكشف الخيالي الصوفي. وإن كان غاية هؤلاء الأقيسة الفاسدة، والشكّ، وغاية هؤلاء الخيالات الفاسدة والشطح". منهاج السنة النبوية 2415-416.
وانظر: كلاماً مشابهاً لهذا الكلام لشيخ الإسلام في شرح الأصفهانية - ت السعوي - 2502-507. وكتاب الصفدية 25-7.
ولكنْ آخرون1 سلكوا مسلك التأويل، وقالوا: إنّهم لا يكذبون. ولكن أسرفوا فيه.
من أسباب ظهور الفلاسفة على المتكلمين
ففي الجملة: ظهور الفلاسفة، والملاحدة، والباطنية على هؤلاء تارةً، ومقاومتهم لهم تارةً: لا بُدّ له من أسباب في حكمة الرب، وعدله.
ومن أعظم أسبابه: تفريط أولئك2 وجهلهم بما جاء به الأنبياء؛ فالنبوّة التي ينتسبون إلى نصرها، لم يعرفوها، ولم يعرفوا دليلها، ولا قدروها قدرها.
وهذا يظهر من جهات متعددة. ولا حول ولا قوة إلا بالله.
1 استوفى شيخ الإسلام رحمه الله ذكر مذاهب هؤلاء والرد عليهم، وذكر أن المبتدعة لهم طريقتان في نصوص الأنبياء: أولاً طريقة التبديل، وأهلها صنفان: 1- أهل الوهم والتخييل؛ كابن سينا، وابن عربي، والفارابي، والسهروردي، وابن رشد الحفيد، وابن سبعين، وهو قول المتفلسفة والباطنية كالملاحدة الإسماعيلية، وإخوان الصفا، وملاحدة الصوفية. 2- أهل التحريف والتأويل، وهم المقصودون هنا، وهي طريقة المتكلمين من المعتزلة والكلابية والسالمية والكرامية والشيعة وغيرهم. أما الطريقة الثانية: فهي طريقة التجهيل.
انظر: درء تعارض العقل والنقل 18-20. وكتاب الصفدية 1202، 203، 209، 237، 244، 265، 276، 288، 289. وشرح الأصفهانية 2502-508. والرد على المنطقيين ص 469. ومجموع الفتاوى 467.
2 يعني الأشاعرة، ومن نحا منحاهم من أصحاب دليل الأعراض وحدوث الأجسام.
وقد فصّل شيخ الإسلام رحمه الله هذا الموضع، وزاده بسطاً وإيضاحاً في كتابه القيم شرح الأصفهانية 2329-335.
وانظر: في الكلام على النبوة عند الأشاعرة: منهاج السنة النبوية 2414، 5436-437. وكتاب الصفدية1225-226، 228-229. والكلام عن عصمة الأنبياء عندهم في منهاج السنة 2414-415.
وقد مرت معنا مقارنة بين موقف الأشاعرة من النبوة، وموقف الفلاسفة منها في ص 609-612 من هذا الكتاب.