الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[الجزء العاشر]
بسم الله الرّحمن الرّحيم وصلّى الله على سيّدنا محمّد وآله وصحابته والمسلمين الجزء العاشر من كتاب النجوم الزاهرة فى ملوك مصر والقاهرة
[ما وقع من الحوادث سنة 742]
ذكر ولاية الملك المنصور أبى بكر ابن الملك الناصر محمد بن قلاوون على مصر
هو السلطان الملك المنصور سيف الدين أبو بكر ابن السلطان الملك الناصر أبى المعالى محمد ابن السلطان الملك المنصور سيف الدين قلاوون. جلس على تخت الملك بالإيوان «1» من قلعة الجبل بعهد من أبيه إليه صبيحة توفّى والده، وهو يوم الخميس حادى عشرين ذى الحجّة سنة إحدى وأربعين وسبعمائة، ولقّبه الأمراء الأكابر بالملك المنصور على لقب جدّه. والمنصور هذا هو الثالث عشر من ملوك الترك بديار مصر، والأوّل من أولاد الملك الناصر محمد بن قلاوون، واتّفق الأمراء على إقامة الأمير سيف الدين طقزدمر الحموىّ، حمو الملك المنصور هذا فى نيابة السلطنة بديار مصر كونه من أكابر الأمراء، وأيضا صهر السلطان، ويكون الأمير قوصون الناصرىّ مدبّر المملكة، ورأس المشورة، ويشاركه فى الرأى الأمير بشتك الناصرىّ، وتمّ ذلك ورسم بتجهيز التشاريف والخلع إلى نوّاب البلاد الشاميّة على يد الأمير قطلوبغا الفخرىّ، ورسم له بتحليف الأمراء والنوّاب بالبلاد الشاميّة على
العادة. ونودى بالقاهرة ومصر أن يتعامل الناس بالفضّة والذهب بسعر الله تعالى، فسّر الناس بذلك، فإنهم كانوا قد امتنعوا من التعامل بالفضة وألّا تكون معاملتهم إلّا بالذهب. ثم أفرج عن بركة الحبش «1» ، وكان النشو قد أخذها من الأشراف، وصار ينفق فيهم من بيت المال. ثم كتب إلى ولاة الأعمال برفع المظالم وألّا يرمى على بلاد الأجناد شعير ولا تبن.
ثم فى يوم الخميس ثامن عشرين «2» ذى الحجّة أنعم الملك المنصور على عشرة أمراء بإمرة طبلخاناه. ثم جمع القضاة فى يوم السبت سلخه فى جامع «3» القلعة للنظر فى أمر الخليفة الحاكم بامر الله أحمد بن أبى الربيع سليمان وإعادته إلى الخلافة، وحضر معهم الأمير طاجار الدّوادار فاتّفقوا على إعادته لعهد أبيه إليه بالخلافة بمقتضى مكتوب ثابت على قاضى قوص «4» .
ثم فى يوم الاثنين ثانى المحرّم سنة اثنتين وأربعين وسبعمائة خلع السلطان على جميع الأمراء المقدّمين فى الموكب بدار العدل «5» ، وطلع القضاة وجلس الخليفة الحاكم بأمر الله أبو العباس أحمد على الدرجة الثالثة من تخت السلطان، وعليه خلعة خضراء وفوق عمامته طرحة سوداء مرقومة بالذهب، ثم خرج السلطان من باب السرّ «6» على العادة إلى الإيوان فقام له الخليفة والقضاة ومن كان جالسا من الأمراء، وجلس على
الدرجة الأولى دون الخليفة، وقام الخليفة وافتتح الخطبة بقوله عز وجل إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ. وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ
. ثم أوصى الأمراء بالرفق بالرعية وإقامة الحق وتعظيم شعائر الإسلام ونصرة الدين، ثم قال: فوّضت إليك جميع أحكام المسلمين، وقلّدتك ما تقلّدته من أمور الدين.
ثم تلا قوله تعالى: [إِنَّ «1» الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ
] (فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً.
وجلس فجىء فى الحال بخلعة سوداء فألبسها الخليفة السلطان بيده، ثم قلّده سيفا عربيّا، وأخذ القاضى علاء الدين علىّ بن فضل الله كاتب السرّ فى قراءة عهد الخليفة للسلطان حتّى فرغ منه، ثم قدّمه إلى الخليفة فكتب عليه، ثم كتب بعده قضاة القضاة بالشهادة عليه، ثم قدّم السّماط فأكلوا وانقضت الخدمة.
ثم قدم الأمير بيغرا فى يوم الخميس خامس المحرّم من عند الأمير أحمد ابن الملك الناصر محمد بن قلاوون من الكرك وقد حلّفه بمدينة الكرك لأخيه السلطان الملك المنصور هذا، ففرح الناس بذلك.
ثم فى يوم الأحد ثامن المحرّم قبض على الأمير بشتك الناصرىّ، وذلك أنه طلب أن يستقرّ فى نيابة الشام، ودخل على الأمير قوصون وسأله فى ذلك وأعلمه أنّ السلطان كان قبل موته وعده بها وألحّ فى سؤاله، وقوصون يدافعه ويحتّج عليه بأنه قد كتب إلى الأمير ألطنبغا الصالحىّ نائب دمشق تقليدا باستمراره فى نيابة
دمشق على عادته ولا يليق عزله سريعا، فقام عنه بشتك وهو غير راض، فإنه كان قد توهّم من قوصون وخشى منه على نفسه وطلب الخروج من ديار مصر لما كان بينهما قديما من المنافرة، ولأنّ قوصون صار الآن متحكّما فى الدولة، فلمّا خرج بشتك من عند قوصون وهو غير راض سعى بخاصّكيّة السلطان وحمل إليهم مالا كثيرا فى السرّ، وبعث إلى الأمراء الكبار وطلب منهم المساعدة، فما زالوا بالسلطان حتى أنعم عليه بنيابة الشام وطلب الأمير قوصون وأعلمه بذلك فلم يوافقه، وقرّر مع السلطان أنه يحدّث الأمراء فى ذلك ويعدهم بأنه يولّى بشتك إذا قدم الأمير قطلوبغا الفخرىّ من تحليف نائب الشام وبنسخة اليمين، فلمّا دخل الأمراء عرّفهم السلطان طلب بشتك بنيابة الشام فأخذوا فى الثناء عليه والشكر منه، فاستدعاه وطيّب خاطره ووعده بها عند قدوم الفخرىّ، ورسم له بأن يتجهز للسفر، فظن بشتك أن ذلك صحيح، وقام مع الأمراء من الخدمة، وأخذ فى عرض خيوله وبعث لكل من أكابر الأمراء المقدّمين ما بين ثلاثة أرؤس إلى رأسين بالقماش المذهب الفاخر، وبعث معها أيضا الهجن، ثم بعث إلى الأمراء الخاصّكيّة مثل ملكتمر الحجازىّ وألطنبغا الماردانىّ شيئا كثيرا من الذهب والجوهر واللؤلؤ والتحف. وفرّق عدّة من الجوارى فى الأمراء بحيث إنه لم يبق أحد من الأمراء إلا وأرسل إليه. ثم فرّق على مماليكه وأجناده وأخرج ثمانين جارية بعد ما شوّرهنّ بالأقمشة والزراكش وزوجهنّ. وفرّق من شونته على الأمراء اثنى عشر ألف إردب غلة. وزاد بشتك فى العطاء حتى وقع الإنكار عليه واتّهمه السلطان والأمير قوصون بأنه يريد الوثوب على السلطان وعملوا هذا من فعله حجّة [للقبض «1» ] عليه، وكان ما خصّ الأمير قوصون من تفرقة بشتك فى هذه النّوبة حجرين من حجارة معاصير
القصب بما فيهما «1» من القنود «2» والسكر والأعسال والأبقار والغلال والآلات، وخمسمائة فدّان من القصب مزروعة فى أراض ملك له، وغير ذلك، فأدهش الأمراء كثرة عطائه، واستغنى منه جماعة من مماليكه وحواشيه. ولما كثرت القالة فيه بأنّه يريد إفساد الدولة خلا به بعض خواصّه وعرّفه ذلك وأشار عليه بإمساك يده عن العطاء، فقال: هم إذا قبضوا علىّ أخذوا مالى وأنا أحقّ بتفرقته منهم، وإذا سلمت فالمال كثير. هذا وقد قام قوصون فى أمر بشتك المذكور قياما حتّى وافقه السلطان على القبض عليه عند قدوم قطلوبغا الفخرىّ، فأشاع قوصون أنّ بشتك يريد القبض على الفخرىّ إذا حضر فبلغ ذلك بعض خواصّ قطلوبغا، فبعث إليه من تلقّاه وعرّفه بما وقع من تجهيز بشتك وأنّه على عزم من أن يلقاك فى طريقك ويقتلك، فكن على حذر، فأخذ قطلوبغا من الصالحيّة «3» يحترز على نفسه حتّى نزل سرياقوس «4» واتّفق من الأمر العجيب أنّ بشتك خرج إلى حوشه بالرّيدانيّة «5» خارج
القاهرة ليعرض هجنه وجماله فطار الخبر إلى قطلوبغا أنّ بشتك قد خرج إلى الرّيدانيّة فى انتظارك، فاستعدّ قطلوبغا ولبس السلاح من تحت ثيابه وسار حتّى تلقّاه عدّة كثيرة من مماليكه وحواشيه وهو على أهبة الخروج للحرب، وخرج عن الطريق وسلك من تحت الجبل لينجو من بشتك وقد قوى عنده صحّة ما بلغه، وكان عند بشتك علم من قدومه، فلمّا قرب من الموضع الذي فيه بشتك لاحت له غبرة خيل فحدس بشتك أنّه قطلوبغا الفخرى قد قدم، فبعث إليه أحد مماليكه يبلّغه سلامه وأنّه يقف حتّى يأتيه فيجتمع به، فلمّا بلغ الفخرىّ ذلك زاد خوفه من بشتك، فقال له: سلّم على الأمير وقل له: لا يمكن اجتماعه بى قبل أن أقف قدّام السلطان. ثم بعد ذلك اجتمع به وبغيره، فمضى مملوك بشتك وفى ظن قطلوبغا أنّه إذا بلّغه مملوكه الجواب ركب إليه، فأمر قطلوبغا مماليكه بأن يسيروا قليلا قليلا، وساق هو بمفرده مشوارا واحدا إلى القلعة، ودخل إلى السلطان وبلّغه طاعة النوّاب وفرحهم بأيّامه. ثم أخذ يعرّف السلطان والأمير قوصون وسائر الأمراء بما اتّفق له مع بشتك، وأنّه كان يريد معارضته فى طريقه وقتله فأعلمه السلطان وقوصون بما اتّفقا عليه من القبض على بشتك. فلما كان عصر اليوم المذكور، ودخل الأمراء إلى الخدمة على العادة بالقصر وفيهم الأمير بشتك، وأكلوا السّماط تقدّم الأمير قطلوبغا الفخرىّ والأمير طقزدمر إلى بشتك وأخذا سيفه وكتّفاه وقبض معه على أخيه «1» إيوان وعلى طولوتمر ومملوكين من المماليك السلطانيّة كانا يلوذان ببشتك، وقيّدوا جميعا وسفّروا إلى الإسكندريّة فى اللّيل صحبة الأمير أسندمر العمرىّ وقبض على جميع مماليكه ووقعت الحوطة على موجوده ودوره وتتبّعت غلمانه وحواشيه. وأنعم السلطان من إقطاع بشتك
على الأمير قوصون بخصوص «1» الشّرق زيادة على ما بيده، وأخذ السلطان المطريّة «2» ومنية ابن خصيب «3» وشبرا «4» ، وفرّق بقيّة الإقطاع على ملكتمر الحجازىّ وغيره من الأمراء.
فلمّا أصبحوا يوم الاثنين تاسع المحرّم حملت حواصل بشتك، وهى «5» من الذهب العين مائتا ألف دينار مصريّة. ومن اللؤلؤ والجواهر والحوائص الذهب والكلفتاه الزّركش شىء كثير جدّا، هذا بعد أن فرّق غالب موجوده حسب ما تقدّم ذكره على الأمراء والمماليك. ثم أخرج السلطان الأمير أحمد شادّ الشّر بخاناه منفيّا إلى طرابلس لميله مع بشتك.
وفى يوم الخميس أنعم السلطان على أخويه: شعبان ورمضان كلّ واحد بإمرة.
وفيه قبض السلطان على الأمير ناصر الدين محمد ابن الأمير بكتمر الحاجب لشىء أوجب ذلك. وفى يوم الاثنين ثالث عشرين المحرّم خلع السلطان الملك المنصور أبو بكر على الأمير طقزدمر الحموىّ بنيابة السلطنة بالديار المصريّة، وكان رشّح لها قبل تاريخه، فلبس الخلعة وجلس فى دست النيابة وحكم وصرّف الأمور. وفى يوم الاثنين سلخه قبض السلطان على الأمير آقبغا عبد الواحد وعلى أولاده، وخلع على الأمير طقتمر «1» الأحمدىّ واستقرّ أستادارا عوضا عن آقبغا المذكور، ورسم للأمير طيبغا المجدىّ والى القاهرة بإيقاع الحوطة على موجود آقبغا، وسلّم ولده الكبير إلى المقدّم إبراهيم بن صابر. وأصبح يوم الثلاثاء أوّل صفر فتحدّث الأمراء أن ينزل فى ترسيم «2» المجدىّ ليتصرّف فى أمره، فنزل فى صحبة المجدىّ وأخذ فى بيع موجوده، وكان السلطان قد حلف قديما أنّه متى تسلطن قبض عليه وصادره وضربه بالمقارع لأمور صدرت منه فى حقّه أيام والده الملك الناصر. فكان ممّا أبيع لآقبغا عبد الواحد سراويل لزوجته بمائتى ألف درهم فضّة وقبقاب وخفّ وسرموجة «3» بخمسة وسبعين ألف درهم، وثار به جماعة كثيرة من الناس ممن كان ظلمهم فى أيام تحكّمه وطلبوا حقوقهم منه وشكوه، فأقسم السلطان لئن لم يرضهم ليسمرنّه على جمل ويشهّره بالقاهرة ففرّق فيهم مائتى ألف درهم حتى سكتوا، وكادت العامة تقتله لولا المجدىّ لسوء سيرته وكثرة ظلمه أيّام ولايته. وفى يوم الأربعاء تاسع صفر قبض السلطان
على المقدّم إبراهيم بن صابر وسلّمه لمحمد بن شمس [الدين «1» ] المقدّم وأحيط بأمواله، فوجد له نحو سبعين حجرة «2» فى الجشار «3» ومائة وعشرين بقرة فى الزرايب ومائتى كبش وجوقتين كلاب سلوقيّة «4» وعدّة طيور جوارح مع البازداريّة «5» . ووجد له من الغلال وغيرها شىء كثير.
ثم قدم الخبر على السلطان من الأمير طشتمر حمّص أخضر الساقى نائب حلب بخروج ابن دلغادر عن الطاعة وموافقته لأرتنا متملّك الروم على المسير لأخذ حلب، وأنّه قد جمع بأبلستين «6» جمعا كثيرا، وسأل طشتمر أن ينجده بعسكر من مصر، فتشوّش السلطان لذلك وعوّق الجواب. وفيه رسم السلطان بضرب آقبغا عبد الواحد بالمقارع فلم يمكّنه الأمير قوصون من ذلك فآشتدّ حنق السلطان وأطلق لسانه بحضرة خاصّكيّته فى حقّ قوصون وغيره، وفى ذلك اليوم عقد السلطان نكاحه على جاريتين من المولّدات اللّاتى فى بيت السلطان، وكتب القاضى علاء الدين بن فضل الله كاتب السرّ صداقهما، فخلع عليه السلطان وأعطاه عشرة آلاف درهم، ورسم السلطان لجمال الكفاة ناظر الخاصّ أن يجهّزهما بمائة ألف دينار، فشرع جمال الكفاة فى عمل الجهاز، وبينما هو فى ذلك ركب الأمير قوصون على السلطان بجماعة من الأمراء فى يوم السبت تاسع عشر صفر وخلعوه من الملك فى يوم الأحد عشرينه، وأخرج هو وإخوته إلى قوص «7» صحبة الأمير بهادر بن «8» جركتمر.
وكان سبب خلع الملك المنصور هذا أنّ المنصور كان قرّب الأمير يلبغا اليحياوىّ وشغف به شغفا كثيرا، ونادم الأمير ملكتمر الحجازىّ واختصّ به وبالأمير طاجار الدّوادار وبالأمير قطليجا الحموى وجماعة من الخاصّكيّة، وعكف على اللهو وشرب الخمر وسماع الملاهى فشقّ ذلك على الأمير قوصون وغيره لأنّه لم يعهد من ملك قبله شرب خمر فيما روى، فحملوا الأمير طقزدمر النائب على محادثته فى ذلك وكفّه عنه فزاده لومه إغراء وأفحش فى التّجاهر باللهو، حتى تكلّم به كلّ أحد من الأمراء والأجناد والعامّة، فصار فى الليل يطلب الغلمان لإحضار المغانى، فغلب عليه السّكر فى بعض الليالى فصاح من الشّباك على الأمير أيدغمش أمير آخور:
هات لى قطقط «1» ، فقال أيدغمش: ياخوند، ما عندى فرس بهذا الاسم، فتكلّم بذلك السّلاخوريّة «2» والركابيّة «3» وتداولته الألسنة.
قلت: وأظن قطقط كانت امرأة مغنّية. والله أعلم.
فلمّا زاد أمره طلب الأمير قوصون طاجار الدّوادار والشّهابىّ شادّ العمائر، وعنّفهما ووبّخهما وقال لهما: سلطان مصر يليق به أن يعمل مقامات ويحضر إليه البغايا والمغانى! أهكذا كان يفعل والده؟ وعرّفهم أن الأمراء قد بلغهم ذلك وتشوّش خواطرهم، فدخلوا وعرّفوا السلطان كلامه، وزادوا فى القول، فأخذ جلساء الملك المنصور فى الوقيعة فى قوصون والتحدث فى القبض عليه وعلى الأمير
قطلوبغا الفخرىّ والأمير بيبرس الأحمدىّ والأمير طقزدمر النائب، فنمّ عليهم الأمير يلبغا اليحياوىّ لقوصون، وكان قد استماله قوصون بكثرة العطاء فيمن استمال من المماليك السلطانيّة. وعرّفه أن الاتّفاق قد تقرّر على القبض عليه فى يوم الجمعة وقت الصلاة، فانقطع قوصون عن الصلاة وأظهر أنّ برجله وجعا، وبعث فى ليلة السبت يعرّف بيبرس الأحمدىّ بالخبر ويحثّه على الركوب معه، وطلب المماليك السلطانيّة وواعدهم على الركوب وملأهم بكثرة المواعيد، ثمّ بعث إلى الأمير الحاج آل ملك والأمير چنكلى بن البابا وهؤلاء أكابر الأمراء فلم يطلع الفجر حتّى ركب الأمير قوصون من باب سرّ «1» القلعة بمماليكه ومماليك السلطان وسار نحو الصحراء «2» ، وبعث مماليكه فى طلب الأمراء فأتاه جركتمر وبهادر وبرسبغا وقطلوبغا الفخرىّ والأحمدىّ وأخذوا آقبغا عبد الواحد من ترسيم طيبغا المجدىّ، فسار معه المجدىّ أيضا، ووقفوا بأجمعهم عند قبّة «3» النصر ودقّت طبلخاناتهم، فلم يبق أحد من الأمراء حتّى أتى قوصون، هذا والسلطان وندماؤه وخاصّكيّته فى غفلة لهوهم وغيبة سكرهم إلى أن دخل عليهم أرباب الوظائف، وأيقظوهم من نومهم وعرّفوهم مادهوا به، فبعث السلطان طاجار الدوادار إلى الأمير طقزدمر النائب يسأله عن الخبر ويستدعيه، فوجد عنده چنكلى بن البابا والوزير وعدّة من الأمراء المقيمين بالقلعة، فامتنع طقزدمر من الدخول على السلطان، وقال: أنا مع الأمراء حتّى أنظر ما عاقبة هذا الأمر، ثم قال لطاجار: أنت وغيرك سبب هذا، حتى أفسدتم السلطان «4» بفسادكم ولعبكم، قل للسلطان يجمع مماليكه ومماليك أبيه حوله، فرجع طاجار وبلّغ السلطان ذلك، فخرج السلطان إلى الإيوان وطلب المماليك، فصارت
كلّ طائفة تخرج على أنّها تدخل إليه فتخرج إلى باب القلّة «1» حتى صاروا نحو الأربعمائة مملوك، وساروا يدا واحدة من باب القلّة إلى باب القلعة «2» ، فوجدوه مغلقا فرجعوا إلى النائب طقزدمر بعد ما أخرقوا بوالى باب القلعة وأنكروا عليه وعلى من عنده من الأمراء (أعنى عن الأمير طقزدمر)، فقال لهم طقزدمر:
السلطان ابن أستاذكم جالس على كرسىّ الملك وأنتم تطلبون غيره. فقالوا: ما لنا ابن أستاذ، وما لنا أستاذ إلّا قوصون، ابن أستاذنا مشغول عنا لا يعرفنا ومضوا إلى باب القرافة «3» وهدموا منه جانبا وخرجوا فإذا خيول بعضهم واقفة فركب بعضهم وأردف عدّة منهم ومشى باقيهم إلى قبّة النصر ففرح بهم قوصون والأمراء وأركبوهم الخيول وأعطوهم الأسلحة وأوقفوهم بين أصحابهم، ثم أرسل قوصون الأمير مسعود [بن «4» خطير] الحاجب إلى السلطان يطلب منه ملكتمر الحجازىّ ويلبغا اليحياوىّ، وهما من أمراء الألوف الخاصّكيّة وطاجار الدّوادار وغيرهم، ويعرّفه أنه أستاذه وأستاذ جميع الأمراء وابن أستاذهم وأنهم على طاعته وإنما يريدون هؤلاء لما صدر منهم من الفساد ورمى الفتن، فطلع الأمير مسعود فوجد السلطان بالإيوان من القلعة، وهم حوله فى طائفة من المماليك فقبّل الأرض وبلّغه الرسالة، فقال السلطان: لا كيد ولا كرامة لهم. وما أسّير مماليكى ومماليك أبى لهم، وقد كذبوا فيما نقلوا عنهم ومهما قدروا عليه يفعلوه، فما هو إلّا أن خرج عنه الأمير مسعود حتى اقتضى رأيه بأن يركب بمن معه وينزل من القلعة ويطلب
النائب طقزدمر ومن عنده من الأمراء والمماليك ويدقّ كوساته، فتوجه إلى الشّباك وأمر أيدغمش أمير آخور أن يشدّ الخيل للحرب، فأخبره أنه لم يبق فى الإسطبل غلام ولا سايس ولا سلاخورىّ «1» يشدّ فرسا واحدا، فبعث إلى النائب يستدعيه فامتنع عليه، وبعث الأمير قوصون بلك الجمدار وبرسبغا إلى طقزدمر النائب يعلماه «2» بأنه متى لم يحضر الغرماء إليه وإلا زحف على القلعة وأخذهم غصبا، فبعث طقزدمر إلى السلطان يشير عليه بإرسالهم، فعلم السلطان أنّ النائب وأمير آخور قد خذلاه، فقام ودخل على أمّه فلم يجد الغرماء بدّا من الإذعان، وخرجوا إلى النائب، وهم الأمير ملكتمر الحجازىّ وألطنبغا الماردانىّ ويلبغا اليحياوىّ، وهؤلاء مقدمو الألوف، وأحد خواصّ الملك الناصر محمد بن قلاوون- رحمه الله وطاجار الدّوادار والشهابىّ شادّ العمائر وبكلمش الماردينىّ وقطليجا الحموىّ، فبعثهم طقزدمر النائب إلى قوصون صحبة بلك الجمدار وبرسبغا، فلمّا رآهم قوصون صاح فى الحاجب أن يرجّلهم عن خيولهم من بعيد فأنزلوا إنزالا قبيحا وأخذوا حتى أوقفوا بين يدى قوصون، فعنّفهم ووبّخهم وأمر بهم فقيّدوا وعملت الزناجير «3» فى رقابهم، والخشب فى أيديهم ثم تركهم فى خيم ضربت لهم عند قبّة النصر. واستدعى طقزدمر النائب والأمير چنكلى بن البابا والوزير والأمراء المقيمين بالقلعة والأمير أيدغمش أمير آخور فنزلوا اليه واتّفقوا على خلع الملك المنصور وإخراجه، فتوجّه الأمير برسبغا فى جماعة إلى القلعة وأخرج الملك المنصور وإخوته وهم سبعة نفر، ومع كلّ منهم مملوك صغير وخادم وفرس وبقجة قماش، وأركبهم إلى شاطئ النيل وأنزلهم فى حرّاقة «4» وسار بهم إلى قوص،
ولم يترك بالقلعة من أولاد الملك الناصر محمد بن قلاون إلّا كچك، ثم سلّم قوصون الأمراء المقيّدين إلى والى القاهرة، فمضى بهم إلى خزانة «1» شمائل وسجنهم بها إلا يلبغا اليحياوىّ، فإنّه أفرج عنه، وكان يوما عظيما بالديار المصريّة من إخراج أولاد السلطان الملك الناصر على هذه الصورة، وحبس هؤلاء الأمراء الملوك فى خزانة شمائل وتهتّك حرم السلطان على إخراج أولاد الناصر، وكثر البكاء والعويل بالقاهرة، فكان هذا اليوم من أشنع الأيام. وبات قوصون ومن معه ليلة الأحد بخيامهم فى قبّة النصر خارج القاهرة، وركبوا بكرة يوم الأحد العشرين من صفر إلى قلعة الجبل واتّفقوا على إقامة كچك ابن الملك الناصر محمد فى السلطنة، فاقيم وجلس على كرسىّ الملك حسب ما يأتى ذكره فى أوّل ترجمته. وخلع الملك المنصور فى يوم السبت تاسع عشر صفر من سنة اثنتين وأربعين وسبعمائة، فكانت مدّة ملكه على مصر تسعة وخمسين يوما، ومن حين قلّده الخليفة [ثمانية «2» و] أربعين يوما، لأنّه لمّا تسلطن كان الخليفة [الحاكم «3» بأمر الله أحمد بن أبى الربيع سليمان] المستكفى لم يتمّ أمره فى الخلافة، ثم انتظم أمره بعد ذلك فبايع الملك المنصور حسب ما ذكرناه، وخلع الملك المنصور أبو بكر من السلطنة وسلم القلعة بغير قتال مع كثرة من كان معه من خواصّ أمراء أبيه ومماليكه، خذلان من الله تعالى!
وفى خلعه من السلطنة وإخراجه إلى قوص مع إخوته عبرة لمن اعتبر، فإن والده الملك الناصر محمد بن قلاوون كان أخرج الخليفة أبا الربيع سليمان المستكفى بأولاده وحواشيه إلى قوص منفيّا مرسّما عليه فقوصص الملك الناصر عن قريب فى ذرّيته بمثل ذلك، وأخرج أولاده أعزّ مماليكه وزوج ابنته، وهو قوصون الناصرىّ، فتوجّه الملك المنصور مع إخوته إلى قوص وصحبته بهادر «1» بن جركتمر مثل الترسيم عليه وعلى إخوته، وأقام بها نحو الشهرين، ودسّ عليه قوصون عبد المؤمن متولىّ قوص فقتله وحمل رأسه إلى قوصون سرّا فى أواخر شهر ربيع الآخر من سنة اثنتين وأربعين وسبعمائة، وكتموا ذلك عن الناس. فلمّا أمسك قوصون تحقّق الناس ذلك، وجاء من حاقق بهادر أنّه غرّق طاجار الدوادار واستحسّ على قتل المنصور، فطلب عبد المؤمن وقرّر فاعترف فسمّره السلطان الملك الناصر أحمد ابن الملك الناصر محمد بن قلاوون، وقد تسلطن بعد أخيه كچك آخذا بدم أخيه الملك المنصور هذا.
وكان الملك المنصور سلطانا كريما شابا حمل اليه مال بشتك ومال آقبغا عبد الواحد ومال برسبغا فوهب ذلك جميعه إلى الخاصّكيّة الأمراء من مماليك والده مثل ملكتمر الحجازىّ وألطنبغا الماردانىّ ويلبغا اليحياوىّ وطاجار الدّوادار، وهؤلاء كانوا عظماء أمراء الألوف من الخاصّكيّة وأعيان مماليك الملك الناصر محمد ابن قلاوون وأصهاره وأحبّهم وأحبّوه، فالتهى بهم عن قوصون وقوى بهم بأسه، فخاف قوصون عاقبة أمره وتقرّب خشداشيته إليه فدبّر عليه وعليهم حتّى تمّ له ذلك، وكانت الناس تباشرت بيمن سلطنته، فإنه لمّا تسلص انفعلت الأمور على أحسن
ما يكون ولم يقع بين الناس خلاف ولا وقع سيف حتّى خالف قوصون، فرموه بأمور وقبائح ودواهى، وادّعوا أنّه كان ينزل هو والمذكورون من مماليك أبيه إلى بحر النيل ويركب معهم فى المراكب وأشياء من ذلك، الله أعلم بصحّتها. ولم يكن مسك بشتك بخاطره ولا عن أمره إلّا مراعاة لخاطر قوصون لما كان بينهما من أيام أستاذهما الملك الناصر محمد من المنافرة. وكان الملك المنصور شابّا حلو الوجه، فيه سمرة وهيف قوام، وكان تقدير عمره ما حول العشرين سنة، وكان أفحل الإخوة وأشجعهم. زوّجه أبوه بنت الأمير سيف الدين طقزدمر الحموىّ.
قال الشيخ صلاح الدين الصّفدىّ فى تاريخه: وعمل الناس عزاءه ودار جواره «1» فى الليل بالدّرارك «2» فى شوارع القاهرة أيّاما، وأبكين الناس وتأسّفوا عليه لأنّه خذل، وعمل عليه وأخذ بغتة، وقتل غضّا طريّا، ولو استمرّ لجاء منه ملك عظيم، كان فى عزمه ألّا يغيّر قاعدة من قواعد جدّه الملك المنصور قلاوون، ويبطل ما كان أحدثه أبوه من إقطاعات العربان وإنعاماتهم، وغير ذلك. انتهى كلام الصلاح الصّفدىّ باختصار.
وأمّا أمر بشتك وحبسه فإنه كان من أجلّ مماليك الملك الناصر محمد بن قلاوون، وكان ثقل عليه فى أواخر أمره، فإنه لمّا مات بكتمر الساقى ورثه فى جميع أمواله «3» ، فى داره وإسطبله. وتزوّج بامرأته أمّ أحمد بن بكتمر الساقى واشترى جاريته
خوبى «1» بستة آلاف دينار، وكان معها من القماش ما قيمته عشرة آلاف دينار، وأخذ ابن بكتمر عنده. وكانت الشرقية «2» تحمى لبكتمر الساقى فحماها هو بعده، فعظم ذلك على قوصون ولم يسعه إلّا السّكات لميل السلطان إليه. وكان مع هذه الرياسة الضخمة غير عفيف الذّيل عن المليح والقبيح، وبالغ فى ذلك وأفرط حتّى فى نساء الفلّاحين وغيرهم. وكان سبب قربه من أستاذه الملك الناصر أنّ الملك الناصر قال يوما فى مبدأ أمره لمجد»
الدين السّلّامىّ: أريد أن أشترى لى مملوكا يشبه بو سعيد ابن خربندا ملك التّتار، فقال مجد الدين: دع ذلك، فهذا بشتك يشبهه لا فرق بينهما فحظى عنده لذلك. ولمّا ندبه السلطان لمسك تنكز وتوجّه إلى الشام للحوطة على مال تنكز، ورأى أمر مشق طمع فى نيابتها ولم يجسر يفاتح السلطان فى ذلك، وبقى فى نفسه منها حزازة، فلمّا مرض السلطان وأشرف على الموت ألبس بشتك مماليكه، فإنّه كان بلغه عن قوصون أنّه ألبس مماليكه، ثم انتظم الأمر على أن السلطان جعل ابنه أبا بكر ولىّ عهده، وقد قدّمنا ذكر ذلك كلّه مفصّلا فى أواخر ترجمة الملك الناصر. فلمّا وقع ذلك قال بشتك: لا أوافق على سلطنة أبى بكر، ما أريد إلّا سيّدى أحمد الذي بالكرك. فلمّا مات السلطان وسجّى قام قوصون إلى الشّباك وطلب بشتك وقال له: يا أمير تعال، أنا ما يجيء منّى سلطان، لأنّى كنت أبيع
الطّسما «1» والكشاتوين «2» فى البلاد وأنت اشتريت منّى، وأهل البلاد يعرفون ذلك منّى، وأنت ما يجيء منك سلطان، لأنّك كنت تبيع البوزا «3» ، وأنا اشتريت ذلك منك، وأهل البلاد يعرفون ذلك كلّه، فما يكون سلطانا من عرف ببيع الطسما والبرغالى «4» ، ولا من عرف ببيع البوزا، وهذا أستاذنا هو الذي أوصى لمن هو أخبر به من أولاده، وهذا فى ذمّته وما يسعنا إلّا امتثال أمره حيّا وميّتا، وأنا ما أخالفك إن أردت أحمد أو غيره، ولو أردت أن تعمل كلّ يوم سلطانا ما خالفتك؛ فقال بشتك:
كلّ هذا صحيح، والأمر أمرك، وأحضرا المصحف وحلف كلّ للآخر وتعانقا، ثم قاما إلى رجلى السلطان فقبّلاهما وبكيا، ووضعا ابن السلطان على كرسىّ الملك. وقد تقدم ذكر ذلك كلّه، وتمّ الأمر بينهما على ذلك، حتى بدا لبشتك أن يلى نيابة الشام فعاكسه قوصون فثارت الكمائن والضغائن القديمة بينهما حتى وقع ما حكيناه، وأمسك بشتك واعتقل بالإسكندريّة إلى أن قتل فى محبسه بالإسكندرية بعد أيام فى سلطنة الملك الأشرف كچك ابن الملك النّاصر محمد بن قلاوون فى شهر ربيع الآخر من سنة اثنتين وأربعين المذكورة، حسب ما يأتى ذكره. وبشتك هذا أوّل من أمسك من أمراء الدولة الناصريّة. وكان كريما مهابا، كان يذبح فى سماطه فى كل يوم خمسين رأسا من الغنم وفرهما لا بدّ منه، خارجا عن الدجاج والإوز والحلوى. انتهى ترجمة الملك المنصور أبى بكر بن محمد بن قلاوون. رحمه الله تعالى.
ذكر ولاية الملك الأشرف علاء الدين كچك «1» على مصر
هو السلطان الملك الأشرف علاء الدين كچك ابن السلطان الملك الناصر، ناصر ناصر الدين أبى المعالى محمد ابن السلطان الملك المنصور سيف الدين قلاوون الألفىّ الصالحىّ النّجمىّ. جلس على تخت الملك باتّفاق الأمراء بعد خلع أخيه أبى بكر ابن الملك الناصر محمد فى يوم الاثنين حادى عشرين صفر سنة اثنتين وأربعين وسبعمائة، وركب بشعار السلطنة ولقّب بالملك الأشرف ولم يكمل له من العمر خمس سنين، وقيل كان عمره دون سبع سنين. وأمّه أمّ ولد تسمّى أردو تركيّة الجنس وهو السلطان الرابع عشر من ملوك الترك بديار مصر، والثانى من أولاد الملك الناصر محمد ابن قلاوون. ولمّا تمّ أمره فى السلطنة جلس الأمراء واشتوروا فيمن يقيموه «2» فى نيابة السلطنة فرشّح الأمير أيدغمش أمير آخور فامتنع أيدغمش من ذلك فوقع الاتفاق على الأمير قوصون الناصرىّ فأجاب وشرط على الأمراء أن يقيم على حاله فى الأشرفية «3» من القلعة ولا يخرج منها إلى دار النيابة «4» خارج باب القلّة من القلعة، فأجابوه الأمراء
إلى ذلك، فاستقرّ من يومه فى النيابة، وتصرّف فى أمور المملكة، والسلطان آلة فى السلطنة، فقال فى ذلك بعض شعراء العصر:
سلطاننا اليوم طفل والأكابر فى
…
خلف وبينهم الشيطان قد نزغا
فكيف يطمع من تغشيه «1» مظلمة
…
أن يبلغ السّؤل والسلطان ما بلغا
ثم اتّفقت الأمراء على إخراج الأمير ألطنبغا الماردانىّ من الحبس فأخرج من يومه. وفى ليلة الأربعاء ثالث عشرين صفر أخرج الأمير قطلوبغا الحموىّ وطاجار الدّوادار وملكتمر الحجازىّ والشّهابىّ شادّ العمائر من حبس خزانة شمائل بالقاهرة، وحملوا إلى ثغر الإسكندريّة فسجنوا بها. وتوجّه الأمير بلك الجمدار على البريد إلى حلب لتحليف النائب طشتمر الساقى المعروف بحمّص أخضر والأمراء، وتوجّه الأمير بيغر إلى دمشق بمثل ذلك إلى نائبها الأمير ألطنبغا الصالحىّ، وتوجّه الأمير جركتمر بن بهادر إلى طرابلس وحماة لتحليف نوّابها والأمراء، وكتب إلى الأعمال بإعفاء الجند عن المغارم. ثم ركب الأمير قوصون فى يوم الخميس رابع عشرينه فى دست النيابة، وترجّل له الأمراء ومشوا فى خدمته، وأخذ وأعطى وأنفق على
الأمراء لكلّ أمير مائة ومقدّم ألف: ألف دينار، ولكلّ أمير طبلخاناه خمسمائة دينار؛ ولكلّ أمير عشرة مائتى دينار، ولكلّ مقدّم حلقة خمسين دينارا، ولكلّ جندى خمسة عشر دينارا.
ثم فى يوم [السبت «1» ] سادس عشرينه سمّر قوصون ولىّ الدولة أبا الفرج ابن خطير صهر النّشو، وكان قد توصّل إلى الملك المنصور بسفارة أستاذه ملكتمر الحجازىّ، ووقع منه أمور حقدها عليه قوصون لوقتها، ولمّا سمّر أشهر على جمل بمصر والقاهرة وقد أشعلت الشموع بالحوانيت والشوارع ودقّت الطبول وفرح الناس بتشهيره فرحا زائدا لأنّه كان ممّن بقى من حواشى النّشو وأصهاره، وفيه يقول الأديب جمال الدين إبراهيم «2» المعمار:
قد أخلف النّشو صهر سوء
…
قبيح فعل كما تروه
أراد للشرّ فتح باب
…
فأغلقوه وسمّروه
ولمّا كان يوم الخميس مستهلّ شهر ربيع الأوّل من سنة اثنتين وأربعين وسبعمائة أنعم قوصون على أحد وعشرين مملوكا من المماليك السلطانية بإمريات: منهم ستة طبلخاناه والبقيّة عشرات. وفى رابع عشر شهر ربيع الأوّل توجّه الأمير طوغان لإحضار الشهابىّ أحمد ابن السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون من الكرك محتفظا به لينفى إلى أسوان «3» . وسبب ذلك أنّه ورد كتاب ملكتمر السّرجوانى نائب الكرك يتضمن أنّ أحمد المذكور خرج عن طوعه وكثر شغفه بشباب أهل الكرك وانهماكه فى معاقرة الخمر، وأنّه يخاف على نفسه منه أن يوافق الكركيين على قتله وطلب الإعفاء
من نيابة الكرك. ثمّ فى يوم السبت سابع «1» عشر شهر ربيع الأوّل المذكور خلع على الأمير طقزدمر الحموىّ نائب السلطنة بديار مصر بنيابة حماة عوضا عن الملك الأفضل ابن الملك المؤيّد الأيّوبى، وأنعم على الملك الأفضل بتقدمة ألف بدمشق، وأنعم على الأمير آقبغا عبد الواحد بإمرة بدمشق، ورسم لسفره [إليها «2» ] . وفى يوم الخميس ثانى عشرينه جلس السلطان الملك الأشرف كچك على تخت الملك وخلع على جميع الأمراء وأرباب الدولة بدار العدل. وقبّل الأمراء الأرض بين يديه ثم تقدّموا إليه على قدر مراتبهم وقبّلوا يده فكان عدّة الخلع فى هذا اليوم ألفا ومائتى خلعة.
ثم فى تاسع عشرينه ورد كتاب الشهابىّ أحمد ابن الملك الناصر محمد من الكرك بأنه لا يحضر إلى القاهرة حتى يأتيه أكابر الأمراء إلى الكرك ويحلّفهم، ثم يحضر إخوته من بلاد الصعيد إلى قلعة الكرك، ويحضر بعد ذلك، وينتصب سلطانا فأجيب بأنه لم يطلب إلّا لشكوى النائب منه، وجهّزت له هدّية سنّية، وأنّه يحضر حتى تعمل المصلحة، فلم يكن بعد أيّام إلّا وحضر الأمير ملكتمر السّرجوانىّ نائب الكرك إلى القاهرة فى يوم الخميس رابع عشر ربيع الآخر، وأخبر الأمير قوصون وغيره بامتناع الشهابىّ أحمد من الحضور، وأنّه أقام على الخلاف، فاجتمع الأمراء بالقصر فى يوم الجمعة خامس عشرة للمشورة فى أمر أحمد المذكور، حتّى تقرّر الأمر على تجريد العساكر لأخذه.
ثم فى يوم السبت سادس عشره ابتدأت الفتنة بين الأمير قوصون وبين المماليك السلطانية، وذلك أنّ قوصون أرسل يطلب من مقدّم المماليك مملوكا
من طبقة الزّمرّذيّة «1» جميل الصورة، فمنعه خشداشيته أن يخرج من عندهم، فتلطّف بهم المقدّم حتّى أخذه ومضى به إلى قوصون فبات عنده، ثم طلب من الغد نحو أربعة مماليك أخر أو خمسة، منهم شيخون «2» وصرغتمش وأيتمش عبد الغنى، فامتنع خشداشيتهم من ذلك، وقام منهم نحو المائة مملوك، وقالوا: نحن مماليك السلطان، ما نحن مماليك قوصون، وأخرجوا الطواشى المقدّم من عندهم على أقبح وجه، فمضى المقدّم إلى قوصون وعرّفه الحال، فأخرج إليهم قوصون الأمير برسبغا الحاجب وشاورشى دواداره فى عدّة من مماليكه ليأتوه بهم، فإذا بالمماليك قد تعصّبوا مع كبارهم وخرجوا على حميّة يريدون الأمير بيبرس الأحمدىّ، فإذا به راكب، فمضوا إلى بيت «3» الأمير چنكلى بن البابا فلقوه فى طريقهم؛ فقالوا له:
نحن مماليك السلطان مشترى ماله، فكيف نترك ابن أستاذنا ونخدم غيره، من هو مملوك مثلنا فينال غرضه منّا ويفضحنا بين الناس وجهروا له بالكلام الفاحش، فتلطّف بهم چنكلى فلم يرجعوا عما هم عليه فحنق منهم، وقال: أنتم الظالمون بالأمس ولمّا خرجتم قلت لكم: طقزدمر نائب السلطنة: ارجعوا إلى خدمة
[ابن «1» ] أستاذكم قلتم: ما لنا ابن أستاذ غير قوصون، والآن تشكوا منه! فاعتذروا له ومضوا به؛ وقد حضر الأحمدىّ فاجتمعوا به، وتوجّهوا إلى منكلى بغا الفخرىّ فإذا قد وافاه برسبغا من عند قوصون، فأرادوا أن يوقعوا به فكفّهم الفخرىّ عنه، هذا وقوصون قد بلغه خبرهم، فأراد أن يخرج ويجمع الأمراء فما زال به من عنده حتّى سكن إلى بكرة النهار، فكانت تلك الليلة ليلة مهولة.
ثمّ طلب الأمير قوصون چنكلى والأحمدىّ والفخرىّ وبقيّة الأمراء إليه، وأغراهم بالمماليك السلطانيّة وخوّفهم عاقبة أمرهم من استخفافهم بالأمراء، فبعثوا بالأمير مسعود الحاجب إليهم ليحضرهم فإذا جمعهم قد كثف وكثر، فلم يلتفتوا إليه فعاد فخرج إليهم ألطنبغا الماردانىّ وقطلوبغا الفخرىّ وهما أكبر الأمراء الخاصّكيّة من خشداشيتهم، وما زالا بهم حتّى أخذا من وقع عليه الطلب، ودخلوا بهم إلى قوصون، فقبّلوا يده فقام لهم وقبّل رأسهم وطيّب خواطرهم ووعدهم بكلّ خير وانصرفوا، وفى ذهن قوصون أنّه قد حصل الصلح، وذلك فى يوم السبت. فلمّا كان [ليلة «2» ] الاثنين وقت الغروب تحالف المماليك الناصريّة على قتل قوصون وبعثوا إلى من بالقاهرة منهم، فبات قوصون- وقد بلغه ذلك- على حذر، وركب يوم الاثنين ثامن عشر ربيع الآخر الموكب مع الأمراء تحت القلعة، وطلب أيدغمش أمير آخور، وأخذ قوصون يلوم الأمراء فى إقامته فى نيابة السلطنة، وهم يترضّوه ويعدوه بالقيام معه، فأدركه الأمير بيبرس الأحمدىّ وأعلمه بأنّ المماليك السلطانيّة قد اتفقوا على قتله، فمضى بهم (أعنى الأمراء) إلى جهة قبّة النصر فآرتجّت القلعة وقفلت أبوابها، ولبست
المماليك السلطانيّة السلاح بالقلعة وكسرو الزّردخاناه «1» السلطانيّة، هذا وقد امتلأت الرّميلة «2» بالعامّة، وصاحوا يا ناصريّة! نحن معكم، فأجابوهم من القلعة، فأشاروا لهم بالتوجّه إلى بيت «3» قوصون فتوجّهوا نحوه وكسروا بابه وهجموا عليه، وكسروا من كان يرمى عليهم من أعلى البيت، وبلغ ذلك قوصون، فعاد بمن كان معه، وأوقعوا بالعامّة
حتّى وصلوا إلى سور القلعة فرماهم المماليك من أعلى القلعة بالنّشّاب وأحموا العامّة، فقتل فى المعركة الأمير محمود صهر الأمير چنكلى بن البابا بسهم نشّاب من القلعة، وقتل معه آخر، ووصلوا حاشية قوصون إلى إسطبل «1» قوصون، فقد بدأ النهب فيه، فقتلوا من العامّة جماعة كثيرة وقبضوا على جماعة، فلم تطق المماليك السلطانيّة مقاومة الأمراء فكفّوا عن القتال وفتحوا باب القلعة لهم، فطلع إليهم الأمير برسبغا الحاجب وأنزل ثمانية من أعيان المماليك السلطانيّة إلى قوصون. وقد وقف قوصون بجانب زاوية «2» تقىّ الدين رجب تحت القلعة، فوسط قوصون منهم واحدا اسمه صربغا، فإنّه الذي فتح خزائن السلاح وألبس المماليك، وأمر به قوصون فعلّق على باب زويلة، وأراد أن يوسّط البقيّة فشفع فيهم الأمراء، فحبسوا بخزانة شمائل مقيّدين. ثم رسم
قوصون بتسمير عدّة من العوامّ فسمّر منهم تسعة على باب زويلة، ثم أمر بالركوب على العامّة وقبضهم ففرّوا حتّى إنهم لم يقدروا منهم على حرفوش «1» واحد، ثم طلع قوصون إلى القلعة قريب العصر، ومدّ للأمراء سماطا فأكلوا وبقيت الأطلاب «2» والأجناد واقفة تحت القلعة إلى آخر النهار، فكان ذلك اليوم من الأيام المشهودة، وكان جملة من قتل فيه من الفئتين ثمانية وخمسين رجلا وانصرف الناس.
ثم فى ليلة الثلاثاء طلع الأمير برسبغا الحاجب إلى طباق «3» المماليك بالقلعة ومعه عدّة من المماليك وقبضوا على مائة مملوك منهم وعملوا فى الحديد وحبسوا بخزانة شمائل، فمنهم من قتل ومنهم من نفى من مصر. ثم فى يوم الثلاثاء تاسع عشر ربيع الآخر سمّر قوصون تسعة من العوام. ثم فى يوم الأربعاء عشرينه سمّر قوصون أيضا ثلاثة من الطواشيّة فى عدّة من الحرافيش على باب زويلة، وسبب ذلك أنّ قوصون لما نزل من القلعة ومضى إلى قبّة النصر وقابلته المماليك السلطانيّة أخذت الطواشيّة فى الصياح على نسائه وأفحشوا فى سبّهنّ، واستمر الطواشيّة فى التسمير حتى مات أحدهم وشفع فى الاثنين. ثم عرض قوصون مماليك الأطباق، وأنعم على مائتين منهم بإقطاعات كبيرة، وعيّن جماعة منهم بإمريات. ثم أكثر قوصون من الإحسان إليهم وبينما قوصون فى ذلك قدم عليه كتب نائب الشام وأمراء الشام.
وفيها كتب أحمد ابن السلطان الملك الناصر لهم مختومة لم تفكّ ففتحها قوصون فإذا فيها لنائب الشام أنه كاتب لنائب حلب الأمير طشتمر الساقى حمص أخضر وغيره
وأنهم اتفقوا معه وأكثر من الشكوى من قوصون، فأوقف قوصون الأمراء عليها وما زال بهم حتى وافقوه على تجريد العسكر إلى الكرك.
وفى هذه الأيام ظهرت المماليك التى كانت الفتنة بسببهم عند خشداشيّتهم، فسلّم صرغتمش إلى الأمير ألطنبغا الماردانىّ، وسلّم أيتمش إلى الأمير أيدغمش أمير آخور، وسلّم شيخون إلى الأمير أرنبغا السّلاح دار، وهؤلاء الأمراء الثلاثة ناصريّة.
ثم أشيع بالقاهرة أنّ أحمد ابن الملك الناصر قد تحرّك من الكرك فى طلب المجىء إلى الديار المصريّة، فكثر الاضطراب ووقع الشروع فى تجهيز العساكر صحبة الأمير قطلوبغا الفخرىّ، واستحلفه قوصون، وبعث إليه بعشرة آلاف دينار، وعيّن معه أيضا الأمير قمارى أخا بكتمر الساقى ومعهما أربعة وعشرون أميرا، ما بين طبلخانات وعشرات، وأنفق على الجميع. ثم بعث قوصون إلى قطلوبغا الفخرىّ بخمسة آلاف دينار أخرى عند سفره وركب لوداعه صحبة الأمراء، حتى نزل بالرّيدانيّة «1» فى يوم الثلاثاء «2» خامس عشرين ربيع الآخر، وكلّ ذلك فى سنة اثنتين وأربعين وسبعمائة.
هذا والأمراء لم يكن منهم أحد راضيا بسفر هذه التجريدة، بل أشار الأمير الحاج آل ملك والأمير چنكلى بن البابا على قوصون بأنه لا يحرّك ساكنا فلم يقبل قوصون، وكانا أشارا عليه بأنّه يكتب إلى أحمد بن الناصر يعتبه على مكاتبته لنائب الشام وغيره، فكتب إليه بذلك فأجاب بأنّ طوغان أسمعه كلاما فاحشا وأغلظ عليه فى القول فحمله الحنق على مكاتبة نائب الشام، وأنّ قوصون والده بعد والده ونحو ذلك، فلم يقنع قوصون ذلك، وجهّز العساكر لأخذه، وبعد خروج العساكر ركب الأمير قوصون فى يوم الثلاثاء ثالث جمادى الأولى إلى سرياقوس وصحبته الأمراء على عادتهم [توجه
السلطان «1» ثم عاد] . وبعد مدّة يسيره ظهر للأمير قوصون مخالفة الأمير طشتمر الساقىّ نائب حلب المعروف بحمّص أخضر، وسبب مخالفته أنّه شقّ عليه إخراج أولاد استاذه الملك الناصر إلى الصعيد، وأيضا تجهيز العساكر لقتال أحمد ابن الملك الناصر بالكرك، وكان قد بعث إليه أيضا أحمد ابن الملك الناصر يشكو من قوصون، وأنه يريد القبض عليه ويطلب منه النّصرة عليه، فكتب طشتمر إلى أمراء الديار المصريّة وإلى قوصون بالعتب، فقبض على قاصده بقطيا «2» وسجن، وكتب قوصون إلى الأمير ألطنبغا الصالحىّ نائب الشام بأن الأمير طشتمر حمّص أخضر نائب حلب شرع يتكلم فى إقامة الفتنة وأنه لا يصغى إلى قوله، وبعث إليه بأشياء كثيرة من الهدايا والتحف فأجاب ألطنبغا نائب الشام بالسمع والطاعة والشكر والثناء.
ولما تمّ لقوصون ذلك وقع بينه وبين الأمير أيدغمش أمير آخور، وكادت الفتنة تقوم بينهما وأغلظ أيدغمش لقوصون فى الكلام، وسببه أن بعض مماليك أمير على بن أيدغمش وشى إليه بأنّ قوصون قرر مع برسبغا الحاجب أن يبيت بالقاهرة ويركب فى عدّة من مماليك قوصون ويكبس على أيدغمش، فأخذ أيدغمش فى الاحتراز، وامتنع من طلوع القلعة أياما بحجة أنه متوعّك، وكان ذلك بعد أن تصالحا بعد تفاوضهما بمدّة يسيرة، وصار أيدغمش إذا سيّر قوصون النائب بالرّميلة «3»
فى أيام المواكب يغلق أيدغمش باب الإسطبل السلطانى، ويوقف طائفة من الأوجاقية عليه، فاشتهر الخبر بين الناس وكثرت الفالة، وبلغ قوصون تغير خاطر أيدغمش عليه، فخلف للأمراء أنه ما يعرف لتغيره سببا، فما زالت الأمراء بآيدغمش حتى طلع القلعة، وعرّف قوصون بحضرة الأمراء ما بلغه، فخلف قوصون على المصحف أن هذا لم يقع منه، ولا عنده منه خبر وتصالحا. وبعث إليه أيدغمش بعد نزوله إلى الإسطبل الناقل إليه فردّه قوصون إليه ولم يعاقبه.
ثم قدم الخبر بوفاة الأمير بشتك الناصرىّ المقدم ذكره بمحبسه بثغر الإسكندريّة، فاتّهم قوصون بقتله، وكان الأمير قوصون قد أنشأ قاعة لجلوسه مع الأمراء من داخل باب القلّة «1» ، وفتح فيها شبّاكا يطلّ على الدّركاه، وجلس فيه مع الأمراء، ومدّ سماطا بالقاعة المذكورة وزاد فى سماطه من الحلوى والدّجاج والإوزّ ونحو ذلك، وأكثر من الخلع والإنعامات، وصار يجلس مع الأمراء بالقاعة المذكورة، فلمّا قدم الخبر بموت بشتك تغيّر خاطر جماعة كثيرة من الأمراء وغيرهم لموته، فما زال بهم قوصون حتّى صالحهم وحلف لهم.
ثم قدم الخبر من عبد المؤمن والى قوص بأن الملك المنصور أبا بكر وجد فى نفسه تغيّرا، وفى جسده توعّكا لزم الفراش منه أياما ومات، واتّهم قوصون أيضا بأنّه أمر عبد المؤمن بقتله، فتغيّر لذلك خاطر الأمراء والمماليك الناصرية قاطبة وهم يوم ذاك عساكر الإسلام ومن سواهم فقليل.
ثم قدم الخبر على قوصون بنزول العسكر الذي صحبة الأمير قطلوبغا الفخرىّ على مدينة الكرك وقد امتنعت منه واستعدّ أهلها للقتال، وكان الوقت شتاء فأقام العسكر نحو عشرين يوما فى شدّة من البرد والأمطار والثلوج وموت الدواب، وتسلط أهل الكرك عليهم بالسب واللّعن والتّوبيخ وشنّوا الغارات عليهم وصاروا يقطعون قربهم ورواياهم؛ هذا وقوصون يمد الفخرىّ بالأموال ويحضّه على لزوم الحصار.
ثم قدم الخبر من دمشق بأن تمر الموسوىّ قدم من حلب واستمال جماعة من الأمراء إلى طشتمر الساقى حمّص أخضر نائب حلب، فكتب قوصون بالقبض عليه. ثم حمل قوصون تشريفا إلى نائب حلب المذكور فلم يرض نائب حلب بالتشريف وردّه، وكتب إلى قوصون يعتبه على إخراج أولاد أستاذه إلى الصعيد، فأجابه قوصون بأعذار غير مقبولة.
ثم قدم الخبر على قوصون أيضا من شطّى أمير العرب بأنّ قطلوبغا الفخرى قد خامر على قوصون، وحلف لأحمد بن الناصر هو ومن معه من الأمراء وأنّهم أقاموا أحمد سلطانا ولقّبوه بالملك الناصر؛ وذلك بمكاتبة الأمير طشتمر الساقى نائب حلب له يعتبه على موافقة قوصون وقد فعل بأولاد أستاذه ما فعل، ويعزم عليه أنّه يدخل فى طاعة أحمد، ويقوم بنصرته، فصادف ذلك من الفخرى ضجره من الإقامة على حصار الكرك وشدّة البرد وعظم الغلاء، فجمع من معه وكتب إلى أحمد يخاطبه بالسلطنة وقرّر الصلح معه، وكتب لنائب حلب بذلك فأعاد جوابه بالشكر، وأعلمه بأن الأمير طقزدمر نائب حماة وأمراء دمشق قد وافقوه على القيام بنصرة أحمد. وكان الأمير ألطنبغا الصالحىّ نائب الشام قد أحسّ بشىء من هذا فاحترس على الطّرقات، حتّى ظفر بقاصد طشتمر نائب حلب على طريق بعلبك ومعه كتب فأخذها منه، وبعث بها إلى قوصون، فقدمت ثانى يوم ورود كتاب شطّى بمخابرة
الفخرى، فإذا فيها:«الملكى الناصرىّ» فاضطرب قوصون وجمع الأمراء وعرّفهم ما وقع وأوقفهم على الكتب، وذكر لهم أنّه وصل منه إلى قطلوبغا الفخرى فى هذه السّفرة مبلغ أربعين ألف دينار سوى الخيل والقماش والتّحف. ورسم بإيقاع الحوطة على دور الأمراء المجرّدين مع الفخرى إلى الكرك، فما زال به الأمراء حتى كفّ عن ذلك.
وألزم مباشريهم بحمل ما وصل إليهم وبجميع حواصلهم، وصار قوصون فى أمر مريج مما بلغه، وكتب إلى الأمير ألطنبغا الصالحى نائب الشام بخروجه لقتال طشتمر الساقى حمّص أخضر نائب حلب، ومعه نائب حمص ونائب صفد ونائب طرابلس، وكتب إليهم قوصون بالسمع والطاعة إلى طاعة نائب الشام، وحمل إليهم النفقات؛ فلما بلغ ألطنبغا الصالحى نائب الشام ذلك تجهّز وخرج من دمشق بعساكرها فى جمادى الآخرة فتلقّاه الأمير أرقطاى نائب طرابلس على حمص وصار من جملة عساكره، وأخبره بكتاب نائب حلب إليه يدعوه لموافقته وأنه ابى عليه. ثم بعث ألطنبغا نائب الشام إلى الأمير طقزدمر نائب جماة من استماله وحلّفه على طاعة الملك الأشرف كچك. ولما بلغ طشتمر حمص أخضر مجىء ألطنبغا نائب الشام إليه أرسل استدعى ابن دلغادر فقدم عليه فاتّفق معه على المسير إلى أبلستين، وسار به ومعه ما خفّ من أمواله وأخذ أولاده ومماليكه فأدركه عسكر حلب، وقد وصل إليهم كتاب نائب الشام بالاحتراس عليه ومنعه من الخروج من حلب، فقاتلوه عدّة وجوه فلم ينالوا منه غرضا، وقتل من الفريقين خمسة نفر وعادوا وأكثرهم جرحى. فلما وصل طشتمر إلى أبلستين كتب إلى أرتنا يستأذنه فى العبور إلى الروم فبعث إليه أرتنا بقاضيه وعدّة من ألزامه، وجهّز له الإقامات، فمضى طشتمر إلى قيصريّة «1» ، وقد توجّه أرتنا لمحاربة ابن دمرداش بعد أن رتب لطشتمر كلّ يوم ألفى درهم.
وأما ألطنبغا الصالحىّ نائب الشام فإنّه قدم إلى حلب وكتب إلى قوصون يعلمه بتسحّب طشتمر نائب حلب إلى جهة الروم، وأنّه استولى على مدينة حلب، فقدم كتابه على قوصون فى يوم الأربعاء ثانى شهر رجب. ثم فى يوم الاثنين سابع رجب فرّق الأمير قوصون إقطاعات الأمراء المجرّدين مع قطلوبغا الفخرى الخارجين عن طاعة قوصون؛ وعدّتهم اثنان وثلاثون أميرا، منهم أمراء طبلخانات ستة عشر، وأمراء عشرات ستة عشر، وأميران مقدمان: الفخرى وقمارى.
ثم فى يوم الثلاثاء تاسع عشرين رجب قدم الأمير الشيخ على بن دلنجى القازانىّ أحد أمراء العشرات المجردين، وأخبر بمسير قطلوبغا الفخرىّ من الكرك إلى دمشق، وأنّه يريد مواقعته مع ألطنبغا الصالحى نائب الشام، وكان من خبره أنّ الأمير ألطنبغا لما دخل حلب أخذ موجود طشتمر حمص أخضر وباعه، وبينما هو فى ذلك بلغه دخول قطلوبغا الفخرى بمن معه إلى دمشق، وأنّه دعا للناصر أحمد، وقد وافقه آق سنقر السّلّارى نائب غزة وأصلم نائب صفد ومن تأخر من أمراء دمشق بها، مثل سنجر الجمقدار وتمر الساقى وأن آق سنقر نائب غزة وقف لحفظ الطرقات حتى لا يصل أحد من مصر إلى ألطنبغا الصالحى، وأن قطلوبغا أخذ فى تحصيل الأموال من دمشق للنفقة على الأمراء والجند، وأن الأمير طقزدمر نائب حماة قدم عليه فى غد دخوله، وركب الفخرى وتلقّاه وقوى بهم واستخدم جندا كثيرة ونادى بدمشق من أراد الإقطاع والنفقة فليحضر، وأخذ مالا كثيرا من التجّار، وأكره قاضى القضاة تقي الدين بن السبكى حتى أخذ مال الأيتام وأخذ أجر الأملاك والأوقاف لثلاث سنين فجمع مالا عظيما، وأتته جماعات من الأجناد والتّركمان، وكتب أوراقا من ديوان الجيش بأسماء الأجناد البطالين، وأنعم على البطّالين بالخيل والقماش والسلاح، وحلّف الجميع للسلطان الملك الناصر أحمد بن الناصر محمد بن
قلاوون، وعمل برسمه العصائب السلطانيّة والسناجق الخليفتية والكنابيش والسروج والغاشية والقبّة والطّير وسائر أبّهة السلطنة، وكتب إلى الملك الناصر أحمد يعرّفه بذلك فأجابه الناصر بالشكر والثناء، فلما سمع قوصون ذلك جمع الأمراء للمشورة فاتّفق الرأى على تجريد أمراء إلى غزة فتوجه برسبغا الحاجب وأمير محمود الحاجب وعلاء الدين علىّ بن طغريل فى جماعة.
ثم كتب قوصون إلى ألطنبغا نائب الشام على يد أطلمش الكريمىّ بأن يسير من حلب إلى قتال الفخرى بدمشق، فتوجّه أطلمش الكريمى من البريّة لانقطاع الطريق حتّى وصل إلى حلب، وعرّف ألطنبغا الخبر، فخرج ألطنبغا بمن معه من العساكر وسار حتى قدم حمص، وقد خرج الفخرى من دمشق ونزل على خان لاچين وأمسك المضيق، وأقام الجبليّة والعشير على الجبلين ووقف هو بالعسكر فى وسط الطريق.
وأما ألطنبغا فإنّه جلّف من معه من العساكر وسار من حمص يريد الفخرى حتى قرب منه. وعدد الجمعين نحو ثلاثة عشر ألف فارس، فتمهّل ألطنبغا كراهية لسفك الدماء، وأرسل إلى الفخرى رسلا، ودام على ذلك ثلاثة أيام فلم يتمّ بينهما أمر، وبعث قطلوبغا الفخرى إلى جماعة من أصحاب ألطنبغا يعدهم [ويستميلهم «1» ] حتى وافقوه. فلمّا تعبت الرسل بينهم ومات «2» العسكر من شدّة البرد بعث ألطنبغا فى الليل جماعة من أصحابه ليهجموا على الفحرى من ورائه، ويلقاهم هو من قدّامه، وركب من الغد، فمال كلّ أمير بمن معه من أصحابه إلى جهة الفخرى، وصاروا من جملته، فلم يبق معه سوى أرقطاى نائب طرابلس وأسنبغا بن [بكتمر «3» البوبكرى]
وأيدمر المرقبىّ من أمراء دمشق فانهزموا على طريق صفد إلى جهة غزة، والقوم فى أثرهم بعد أن كانت بينهم وقعة هائلة؛ انهزم فيها ألطنبغا نائب الشام.
ثم التفت الفخرى إلى جهة دمشق وترك السير حلف ألطنبغا حتّى دخل دمشق مؤيّدا منصورا، وكتب فى الحال مع البريد إلى الأمير طشتمر الساقى حمّص أخضر نائب حلب يعرّفه بنصرته ويدعوه إلى الحضور من بلاد الروم، وأنّه فى انتظاره بدمشق. ثم حلف الفخرى ومن معه للملك الناصر أحمد وأمر الخطباء فدعوا له على منابر دمشق وضرب السّكّة باسمه.
وأمّا ألطنبغا الصالحى نائب دمشق فإنّه وصل إلى غزّة بمن معه فتلقّاهم الأمير برسبغا الحاجب ورفقته، وكتب ألطنبغا إلى قوصون بما وقع فلمّا بلغ قوصون الخبر قامت قيامته وقبض «1» على أحمد شادّ الشرابخاناه وعلى قرطاى أستادار الفخرى.
ثم قدم على قوصون كتاب الفخرى يعتبه على إخراج أولاد أستاذه إلى قوص وقتل الملك المنصور أبى بكر، وأنّ الاتفاق وقع على سلطنة الملك الناصر أحمد، ويشير عليه بأن يختار بلدا يقيم بها حتى يسأل له السلطان الملك الناصر أحمد فى تقليده نيابتها، فقام قوصون وقعد لمّا سمع ذلك، وجمع الأمراء فوقع الاتفاق على تجهيز التّقادم للأمراء بغزة، فجهز قوصون لكل من ألطنبغا نائب الشام وأرقطاى نائب طرابلس ثلاثين بذلة قماش وثلاثين قباء مسنجبة بطرازات زركش ومائتى خف ومائتى كلفتاه وكسوة لجميع مماليكهما وغلمانهما وحواشيهما، وجهز لكل من الأمراء الذين معهما ثلاث بذلات وأقبية بسنجاب وكسوة لمماليكهم وحواشيهم، وأخذ قوصون فى الإنعام على المماليك السلطانيّة، وأخرج ثلثمائة ألف دينار من الذخيرة لتجهيز أمره، حتى
يخرّج بالعساكر إلى الشام، وأخرج أربعمائة قرقل «1» وعدة زرديّات وخوذ وغيرها.
وأنعم على جماعة من المماليك السلطانية بإمريات، وغير إقطاعات جماعة منهم.
ثم كتب قوصون إلى الأمراء بمسيرهم من غزّة إلى جهة القاهرة، وهيّأ لهم الإقامات والخيول، وبعث إليهم بالحلاوات والفواكه وسائر ما يليق بهم.
وبينما قوصون فى ذلك إذ ركب الأمراء عليه فى ليلة الثلاثاء تاسع عشرين رجب وقت العشاء الآخرة، وسبب ركوبهم عليه تنكّر قلوب الأكابر عليه لأمور بدت منه، منها: قتل الأمير بشتك الناصرىّ بغير ذنب، وهو أعزّ خشداشيته، ولم يكفه ذلك حتّى قتل الملك المنصور أبا بكر وهو ابن أستاذه، وكان يكفيه الخلع من الملك.
ومنها قوّة الوحشة بينه وبين الأمير أيدغمش الناصرىّ أمير آخور وهو أكبر خشداشيته، فأخذ أيدغمش يدبّر عليه. وغيّر خواطر جماعة كثيرة عليه، إلى أن كان من انتصار قطلوبغا الفخرى على ألطنبغا الصالحى نائب الشام، وكان قوصون قد احتفل لقدوم ألطنبغا نائب الشام ومن معه احتفالا زائدا، وفتح ذخيرة السلطان وأكثر من النفقات والإنعامات حتى بلغت إنعاماته على الأمراء والخاصّكيّة ستمائة ألف دينار، فشاع بأنه يريد يتسلطن فخاف أيدغمش وغيره من تحكّمه فى السلطنة، وحرّض الأمراء الخاصّكيّة حتى وافقه الأمير علاء الدين ألطنبغا الماردانىّ والأمير يلبغا اليحياوىّ فى عدّة من المماليك السلطانيّة، وجمع كثير من أكابر الأمراء، منهم: الأمير الحاجّ آل ملك والأمير بدر الدين چنكلى بن البابا واتفقوا الجميع أنهم يسيروا جميعا إلى الكرك عند قدوم ألطنبغا نائب الشام وخروجهم إلى لقائه.
فلما كان يوم الاثنين «1» ركب الأمير قوصون فى الموكب تحت القلعة على العادة وطلب الأمير تلجك «2» ابن أخته وأخرجه إلى لقاء الأمير ألطنبغا الصالحىّ نائب الشام، وقد ورد الخبر بنزوله على بلبيس «3» ليأتى به سريعا، فوافاه ومن معه إلى بلبيس، فسأله فى القدوم إلى القاهرة بسرعة، فلم يوافقه على السرعة وقصد أن يكون حضوره فى يوم الخميس أوّل شعبان، وبات «4» ليلة الثلاثاء على بلبيس وركب من الغد ونزل سرياقوس، فبلغه ركوب الأمراء على قوصون، وأنه محصور بالقلعة، فركب بمن معه الى بركة «5» الحاج، وإذا بطلب قوصون وسنجقه قد وافوه فى نحو مائة مملوك، وأعلموه أنّ فى نصف الليل ركبت الأمراء واحتاطت بإسطبل قوصون، ثم حصروه فى قلعة الجبل، فخرجوا هم على حميّة حتى وصلوا إليهم؛ هذا ما كان من أمر ألطنبغا نائب الشام.
وأمّا أمر قوصون فإنّه لما بعث تلجك ليأتيه «6» بالأمير ألطنبغا نائب الشام سريعا تحقّق أيدغمش وأصحابه أنّ قوصون فهم عنهم ما دبّروه فتواعد الأمير أيدغمش مع من وافقه على أن يركبوا فى الليل إلى الكرك، فجهّز كلّ منهم حاله، حتى كان ثلث الليل فتح الأمراء باب السور من قلعة الجبل ونزلوا إلى الأمير أيدغمش بالإسطبل
السلطانىّ، ثم مضى كلّ واحد إلى إسطبله فلم ينتصف الليل إلا وعامة الأمراء بأطلابهم فى سوق الخيل تحت القلعة، وهم: الأمير ألطنبغا الماردانىّ ويلبغا اليحياوىّ وبهادر الدّمرداشى والحاج آل ملك والجاولى وقمارى الحسنىّ «1» أمير شكار وأرنبغا وآق سنقر السّلّارىّ، وبعثوا إلى إسطبلات الأمراء مثل چنكلى بن [محمد بن «2» ] البابا وبيبرس الأحمدى وطرغاى «3» وقياتمر «4» والوزير ولبست مماليكهم وأخرجت أطلابهم، ثم خرج إليهم الأمير أيدغمش بمماليكه ومن عنده من الأوجاقيّة، ووقفوا جميعا ينتظرون نزول قوصون إليهم فأحسّ قوصون بهم وقد انتبه فطلب الأمراء المقيمين بالقلعة فأتاه منهم اثنا عشر أميرا، منهم چنكلى بن البابا وقياتمر والوزير، ولبست مماليك قوصون التى كانت عنده بالقلعة وسألته أن ينزل ويدرك إسطبله ويجتمع بمن فيه من مماليكه، وكانوا سبعمائة مملوك، وكان قوصون يغترّ بهم ويقول: إيش أبالى بالأمراء وغيرهم، عندى سبعمائة مملوك ألقى بهم كلّ من فى الأرض، فلم يوافقهم قوصون على النزول لما سبق فى القدم. وأقام قوصون بالقلعة إلى أن طلع النهار، فلمّا لم يظهر له حركة طمع أيدغمش فيه، وأمر الأوجاقية أن تطلع إلى الطبلخاناه «5» السلطانية
وأخرج لهم الكوسات «1» ، فذقّوا حربيّا. ثم نادى أيدغمش. معاشر أجناد الحلقة ومماليك السلطان والأجناد [و] البطّالين يحضروا، ومن ليس له فرس وليس له سلاح يحضر ويأخذ له الفرس والسلاح ويركب معنا، ويقاتل قوصون، فأتاه جماعة كثيرة من أجناد الحلقة والمماليك ما بين لابس سلاح وراكب وبين ماش وعلى حمار. وأقبلت العامّة كالجراد المنتشر لما فى نفوسهم من قوصون، فنادى لهم أيدغمش يا كسابة «2» :
عليكم بإسطبل قوصون انهبوه فأحاطوا به ومماليك قوصون من أعلاه ترميهم بالنشاب حتى أتلفوا منهم عدّة كثيرة، فركب مماليك يلبغا اليحياوىّ من أعلى بيت «3» يلبغا.
والبيت المذكور هو الآن موضع مدرسة السلطان حسن. وكان بيت يلبغا يشرف على بيت قوصون، فلمّا طلعوا مماليك يلبغا اليحياوى تسلّطوا على مماليك قوصون
ورموا عليهم بالنّشّاب مساعدة للعوام، وخرجوا منهم جماعة كثيرة وحالوا بينهم وبين العامة، فهجمت العامّة عند ذلك إسطبل قوصون ونهبوا زردخاناته وحواصله وأمواله وكسروا باب قصره بالفئوس بعد مكابدة شديدة وطلعوا إلى القصر ونهبوا ما فيه، وقوصون ينظر ذلك من شباك القلعة ويقول: يا مسلمين! ما تحفظون هذا المال، إما أن يكون لى أو يكون للسلطان، فقال أيدغمش: هذا شكرانه للناس، والذي عندك فوق من الجوهر والتّحف يكفى السلطان. وصار قوصون كلّما همّ للركوب بمماليكه كسّروا عليه الخاصكيّة وقالوا له: ياخوند غدا نركب ونقتل هؤلاء، وصاروا يهوّنوا عليه أمر أيدغمش وأصحابه لباطن كان لهم مع أيدغمش، حتى كان من أمره ما كان.
ولمّا هجمت العامة بيت قوصون خرجوا مماليكه منه على حميّة وشقّوا القاهرة وتوجّهوا إلى عند الأمير ألطنبغا الصالحى نائب السام، فبعث أيدغمش فى أثرهم إلى ألطنبغا نائب الشام ومن معه بالسلام عليهم، وأن يمنعوا مماليك قوصون من الاختلاط بهم، فإنّ الأمير يلبغا اليحياوى والأمير آق سنقر قادمان فى جمع كبير لأخذ مماليك قوصون وحواشيه. فأمر ألطنبغا نائب الشام مماليك قوصون وتلجك وبرسبغا الحاجب أن يكونوا على حدة، ولبسوا الجميع وأخذ الأمير برسبغا مماليك قوصون وجماعته إلى جهة الجبل، فلقيهم الأمير يلبغا اليحياوى بمن معه على بعد، وكان ذلك بعد ما امسك قوصون، فسار خلفهم إلى قرب إطفيح «1» . وقيل فى أمر مماليك قوصون غير ذلك على ما سنذكره بعد القبض على قوصون.
وأمّا قوصون فإنه بقى واقفا بشبّاك القلعة والعامّة تنهب فى بيته فلم يمض إلا ساعات من النهار حتى نهب جميع ما فى إسطبله، وقوصون يضرب يدا على يد
ويقول: يا أمراء! هذا تصرف جيّد، ينهب هذا المال جميعه، وكان أيدغمش قصد بذلك أن يقطع قلب قوصون. ثم بعث قوصون إلى أيدغمش يقول. إنّ هذا المال عظيم وينفع المسلمين والسلطان، فكيف تفعل هذا وتنادى بنهبه؟ فردّ جوابه:
نحن قصدنا أنت ولو راح هذا المال وأضعافه، هذا كلّه والقلعة مغلّقة الأبواب، وجماعة قوصون يرمون من الأشرفيّة «1» بالنّشّاب إلى أن قرب العصر، والعامّة تجمع نشّابهم وتعطيه لمن هو من جهة أيدغمش. فلما رأى قوصون أمره فى إدبار سلّم نفسه، ودخل عليه الأمير بلك الجمدار وملكتمر السّرجوانى يأمراه «2» أن يقيم فى موضع حتى يحضر ابن أستاذه من الكرك فيتصرّف فيه كما يختار، فلم يجد بدّا من الإذعان، وأخذ يوصى الأمير چنكلى بن البابا وأمير مسعود حاجب الحجّاب على أولاده، فأخذ وقيّد ومضوا به إلى البرج «3» الذي كان بشتك فيه، ورسم عليه جماعة من الأمراء.
وكان الذي تولّى مسكه وحبسه چنكلى بن البابا وأمير مسعود الحاجب وأرنبغا أمير جاندار.
وأمّا الأمير ألطنبغا الصالحىّ نائب الشام ومن معه فإن برسبغا وتلجك والقوصونيّة لمّا فارقوا ألطنبغا المذكور سار ألطنبغا وأرقطاى والأمراء يريدون
القاهرة، وأشار ألطنبغا نائب الشام على أرقطاى نائب طرابلس أن يرد برسبغا وتلجك والقوصونية ويقاتل بهم أيدغمش، فإنّه ينضم إليه جميع حواشى قوصون ويأخذوا أيدغمش ويحرجوا قوصون ويقيموه كبيرا لهم أو يخرجوه إلى حيث يختار، ويقيموا سلطانا أو ينتظروا أحمد فلم يوافقه أرقطاى على ذلك لعفّته عن سفك الدماء. فلمّا أعبا ألطنبغا أمره سارا «1» نحو القاهرة حتى وافيا أيدغمش وهو واقف تحت القلعة بأصحابه فأقبل أيدغمش عليهما وعانقهما وأمرهما أن يطلعا إلى القلعة فطلعا.
ثم أرسل أيدغمش الأمير قازان والأمير آق سنقر خلف برسبغا وتلجك ومن معهما.
وجلس أيدغمش مع ثقمانه من الأمراء وقرّر معهم تسفير قوصون فى الليل إلى الإسكندريّة، والقبض على ألطنبغا الصالحى نائب الشام وعلى أرقطاى نائب طرابلس ومن يلوذ بهما من الغد، فكان كذلك وقبض عليهم، وتسفير الأمير بيبرس الأحمدىّ والأمير چنكلى بن البابا لإحضار السلطان الملك الناصر أحمد من الكرك.
ثم أخرج بالأمير قوصون من سجنه بقلعة الجبل فى ليلة الخميس مع مائة فارس حتّى أوصلوه إلى النيل وركب البحر ومضى به إلى الإسكندرية فسجن بها على ما سيأتى ذكره.
وأمّا ما نهب لقوصون فى هذه الحركة فشىء كثير، فإنه كان فى حواصله من الذهب النّقد أربعمائة ألف دينار عين فى أكياس، ومن الحوائص الذهب والكلفتات الزركش والأوانى فشىء لا ينحصر، وثلاثة أكياس أطلس فيها فصوص وجواهر مثمّنة بما ينيف على مائة الف دينار، ومائة وثمانون زوج بسط، منها ما طوله أربعون ذراعا وثلاثون ذراعا، كلّها من عمل الروم وآمد وشيراز، وستة عشر زوجا
من عمل الشريف «1» بمصر. وأربعة أزواج بسط حرير لا يقوم عليها لحسنها، فانحطّ سعر الذهب من كثرة ما نهب لقوصون، حتّى صرف بأحد عشر درهما الدينار ممّا صار وكثر فى أيدى الناس بعد ما كان الدينار بعشرين درهما، ولأنّ أيدغمش نادى بعد ذلك بالقاهرة ومصر أنّ من أحضر من العامة ذهبا لتاجر أو صيرفى أو متعيّش يقبض عليه ويحضر به إلى أيدغمش، فكان من معه منهم ذهب «2» يأخذ فيه ما يدفع إليه من غير توقّف، فرخص سعر الذهب لذلك، وكثرت مرافعات الناس بعضهم لبعض فيما نهب، فجمع أيدغمش شيئا كثيرا من ذلك، فإن العامة يوم نهب إسطبل قوصون أخذوا من قصره حتّى سقوفه وأبوابه ورخامه وتركوه خرابا ثم مضوا إلى خانقاته «3» بباب القرافة فمنعهم صوفيتها من النهب فما زالت العامّة تقاتلهم حتّى فتحوها، ونهبوا جميع ما فيها حتى سلبوا الرجال والنساء ثيابهم، فلم يدعوا لأحد شيئا، وقطعوا بسطها وكسروا رخامها وأخربوا بركتها، وأخذوا الشبابيك وخشب السقوف والمصاحف وشعّثوا الجدر، ثم مضوا إلى بيوت مماليك قوصون وهم فى حشد «4» عظيم فنهبوها وخرّبوها وما حولها، وتتبعوا حواشى قوصون بالقاهرة والحكورة وبولاق والزّريبة «5» وبركة «6» قرموط وباعت العامة السقوف والأوانى بأخسّ
الأثمان وصارت العامة إذا أرادوا نهب أحد قالوا: هذا قوصونىّ!. فيذهب فى الحال جميع ماله، وزادت الأوباش فى ذلك حتى خرجوا عن الحدّ وشمل الخوف كلّ أحد، فقام الأمراء على أيدغمش وأنكروا عليه تمكين العامّة من النهب، فأمر لسبعة من الأمراء، فنزلوا إلى القاهرة، والعامّة مجتمعة على باب الصالحيّة «1» فى نهب بيت «2» القاضى الغورىّ الحنفىّ، فقبضوا على عدّة منهم وضربوهم بالمقارع وشهّروهم فآنكفّوا عن نهب الناس. انتهى.
وأمّا أصل قوصون واتصاله بالملك الناصر محمد بن قلاوون حتى صار ساقيه أعظم مماليكه هو وبكتمر الساقى، لأن قوصون كان ممن حضر إلى الديار المصريّة من بلاد التّرك صحبة [خوند «3» ] بنت أزبك خان التى تزوجها الملك الناصر محمد بن قلاوون وهو غير مملوك، فلمّا كان فى بعض الأيام طلع قوصون إلى القلعة فى خدمة بعض التّجار فرآه السلطان الملك الناصر فأعجبه، فقال للتاجر: لأىّ شىء ما تبيعنى هذا المملوك؟ فقال التاجر: هذا ما هو مملوك، فقال الملك الناصر: لا بدّ أن أشتريه، ووزن ثمنه مبلغ ثمانية آلاف درهم، وجهّز الثمن إلى أخيه صوصون إلى البلاد «4» .
ثم أنشأه الملك الناصر وجعله ساقيا، ثم رقّاه حتى جعله أمير مائة ومقدّم ألف، وعظم
عند الملك الناصر وحظى عنده وزوّجه بابنته وهى ثانية بنت زوّجها الملك الناصر لمماليكه فى سنة سبع «1» وعشرين وسبعماية، وكان له عرس حفل، احتفل به الملك الناصر، وحمل الأمراء التقادم إليه فكان جملة التقادم خمسين ألف دينار. ولما كان يقع بينه وبين بكتمر الساقى منافسة يقول قوصون: أنا ما تنقّلت من الإسطبلات إلى الطّباق، بل اشترانى السلطان وجعلنى خاصّكيّا مقرّبا عنده دفعة واحدة، فكان الملك الناصر يتنوّع فى الإنعام على قوصون حتى قيل إنه دفع إليه مرة مفتاح ذردخانات الأمير بكتمر الساقى بعد موته، وقيمتها ستمائة ألف دينار، قاله الشيخ صلاح الدين الصفدىّ فى «تاريخه» . ثم تزايد أمر قوصون حتى وقع له ما حكيناه. واستمرّ قوصون بسجن الإسكندرية هو وألطنبغا الصالحى نائب الشام وغيرهما حتى حضر الملك الناصر أحمد من الكرك وجلس على كرسى الملك بقلعة الجبل حسب ما يأتى ذكره، اتّفق آراء الأمراء على قتل قوصون فجهّزوا لقتله شهاب الدين أحمد بن صبح إلى الإسكندريّة فتوجّه إليها وخنق قوصون وألطنبغا نائب الشام وغيرهما فى شوّال سنة اثنتين وأربعين، وقيل فى ذى القعدة على ما يأتى بيان ذلك فى وقته.
وخلّف قوصون عدّة أولاد من بنت أستاذه الملك الناصر محمد بن قلاوون.
وكان أميرا جليلا كريما خيّرا شجاعا، وكان يعطى العطايا الهائلة، وكان إذا ركب للصيد فى أيام أستاذه يركب فى خدمته ثلث عسكر مصر، وكان يركب قدّامه بالقاهرة مائة نقيب، وكان أخوه صوصون أمير مائة ومقدّم ألف بالديار المصرية، وقيل أمير طلبخاناه. وكان وقع بين قوصون وبين تنكز نائب الشام، فلمّا قبض على تنكز وحمل إلى القاهرة ما عامله قوصون إلا بكل خير. ولما أمسك قوصون وقتل قال فيه الصلاح الصفدى:
قوصون قد كانت له رتبة
…
تسمو على بدر السما الزاهر
فحطّه فى القيد أيدغمش
…
من شاهق عال على الطائر
ولم يجد من ذلّه حاجبا «1»
…
فأين عين الملك الناصر
صار عجيبا أمره كلّه
…
فى أوّل الأمر وفى الآخر
وقال فى قوصون وفى واقعته عدّة من الشعراء من الشعر والبلاليق «2» والأزجال، وعملت الحلوانيّة مثاله فى حلاوة العلاليق «3» ، فقال فى ذلك جمال الدين إبراهيم «4» الأديب المعمار:
شخص قوصون رأينا
…
فى العلاليق مسمّر
فعجبنا منه لمّا
…
جاء فى التسمير سكر
ولبعض عوامّ مصر قصيدة «كان وكان» أوّلها:
من الكرك جانا الناصر
…
وجب معه أسد الغابه
ووقعتك يأمير قوصون
…
ما كانت الّا كدّابه
وأشياء غير ذلك، وقد خرجنا عن المقصود ولنرجع إلى ذكر أيدغمش وما فعله بمصر.
وأما أيدغمش فإنه استمرّ مدبّر الديار المصريّة وقام بأمر السلطان الملك الناصر أحمد بن محمد بن قلاوون وجمع الأمراء وخلع الملك الأشرف علاء الدين كچك ابن الملك الناصر محمد بن قلاوون من الملك فى يوم الخميس أوّل شعبان من سنة
اثنتين وأربعين وسبعمائة، فكانت مدّة سلطنته على مصر خمسة أشهر وعشرة أيام، ولم يكن له فيها من السلطنة إلّا مجرّد الاسم، فقط وليس له من الأمر شىء، وذلك لصغر سنّه، وكان المتصرّف فى المملكة فى سلطنته الأمير قوصون. وكانت إذا حضرت العلامة أعطى قوصون الأشرف كچك فى يده قلما، وجاء الفقيه الذي يقرئه القرآن فيكتب العلامة والقلم فى يد الأشرف كچك، واستمر الأشرف كچك بعد خلعه من السلطنة فى الدور السلطانية تحت كنف والدته وهو ووالدته فى ذلّ وصغار وهوان مع من تسلطن من إخوته، لا سيّما مع أمّ الملك الصالح إسماعيل، فكانت فى كلّ قليل إذا توعّك ولدها الملك الصالح إسماعيل، وكان كثير الضعف تتّهم المذكورة أنها تتعمّد له بالسّحر وتأخذ جواريها وحواشيها وتعاقبهم، وأخذت منها جملة مستكثرة فدامت على هذا مدّة سلطنة الملك الصالح، حتى نزل مرّة إلى سرحة سرياقوس وبعث دسّ عليه أربعة خدّام طواشيّة فقتلوه على فراشه فى سنة ست وأربعين وسبعمائة، وله من العمر اثنتا عشرة سنة، وعظم مصابه على والدته، بل على الناس قاطبة. رحمه الله تعالى.