المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌سلطنة الملك الناصر حسن الثانية على مصر - النجوم الزاهرة فى ملوك مصر والقاهرة - جـ ١٠

[ابن تغري بردي]

فهرس الكتاب

- ‌[الجزء العاشر]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 742]

- ‌ذكر ولاية الملك المنصور أبى بكر ابن الملك الناصر محمد بن قلاوون على مصر

- ‌ذكر ولاية الملك الناصر أحمد على مصر

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 743]

- ‌ذكر ولاية الملك الصالح إسماعيل على مصر

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 744]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 745]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 746]

- ‌ذكر سلطنة الملك الكامل شعبان على مصر

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 747]

- ‌ذكر سلطنة الملك المظفر حاجّى على مصر

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 748]

- ‌ذكر سلطنة الملك الناصر حسن الأولى على مصر

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 749]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 750]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 751]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 752]

- ‌ذكر سلطنة الملك الصالح صالح ابن السلطان الملك الناصر محمد ابن السلطان الملك المنصور قلاوون

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 753]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 754]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 755]

- ‌سلطنة الملك الناصر حسن الثانية على مصر

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 756]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 757]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 758]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 759]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 760]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 761]

- ‌استدراكات

- ‌باب الصفا

- ‌شارع نجم الدين

- ‌العش

- ‌حلوان

الفصل: ‌سلطنة الملك الناصر حسن الثانية على مصر

‌سلطنة الملك الناصر حسن الثانية على مصر

قد تقدّم ذكره فى سلطنته الأولى من هذا الكتاب وذكرنا أيضا سبب خلعه من السلطنة بأخيه الملك الصالح صالح ثم ذكرنا فى ترجمة أخيه الصالح سبب خلع الصالح وإعادة الناصر هذا فلا حاجة لذكر ذلك ثانيا. والمقصود هنا الآن ذكر عود الملك الناصر حسن الى ملكه فنقول: ولمّا قبض على أصحاب الأمير طاز اتّفق صرغتمش مع الأمير شيخون على خلع الملك الصالح من السلطنة وسلطنة الملك الناصر حسن ثانيا وأبرموا ذلك حتى تمّ لهم فقاموا ودخلوا الى القلعة وأرسلوا طلبوا الملك الصالح، فلمّا توجّه اليهم أخذ من الطريق وحبس فى بيت من قلعة الجبل وأرسلوا أشهدوا عليه بأنه خلع نفسه من السلطنة، ثم طلبوا الملك الناصر حسنا من محبسه بالقلعة، وكلّموه فى عوده، وأشرطوا عليه شروطا قبلها. فاخذوه إلى موضع بالقلعة، فيه الخليفة والقضاة، وبايعوه ثانيا بالسلطنة، ولبّسوه تشريف السلطنة وأبّهة الملك، وركب فرس النّوبة ومشت الأمراء بين يديه الى الإيوان، فنزل وجلس على تخت الملك، وقبّلوا الأمراء الأرض بين يديه على العادة، وكان ذلك فى يوم الاثنين ثانى شوّال سنة خمس وخمسين وسبعمائة، ولم يغيّر لقبه بل نعت بالناصر كما كان أوّلا على لقب أبيه، ونودى باسمه بمصر والقاهرة، ودقّت البشائر وتمّ أمره وحالما قلع الملك الناصر خلعة السلطنة عنه، أمر فى الحال بمسك الأمير طاز، فشفع فيه الأمير شيخون لأنه كان أمّنه وهو نزيله، فرسم له السلطان بالتوجّه إلى نيابة حلب، فخرج من يومه وأخذ فى إصلاح أمره، إلى أن سافر يوم الجمعة سادس شوّال وسار حتى وصل حلب، فى الخامس من ذى القعدة، وكانت ولايته لنيابة حلب عوضا عن الأمير أرغون الكاملىّ، وطلب أرغون إلى مصر، فحضر أرغون الى للقاهرة وأقام بها مدّة يسيرة ثم أمسك، وأقام طاز فى نياية حلب، ومعه أخوه كلتاى وجنتمر وكلاهما مقدّمان بها.

ص: 302

ودام الملك الناصر حسن فى الملك إلى أن دخلت سنة ست وخمسين وسبعمائة والخليفة يوم ذاك المعتضد بالله أبو بكر، ونائب السلطنة بمصر الأمير آقتمر عبد الغنى وأتابك العساكر الأمير شيخون العمرىّ، وهو أوّل أتابك سمى بالأمير الكبير، وصارت من بعده الأتابكية وظيفة إلى يومنا هذا، ولبسها بخلعة وإنما كانت العادة فى تلك الأيام من كان قديم هجرة من الأمراء سمّى بالأمير الكبير [من غير «1» خلعة فكان فى عصر واحد جماعة كلّ واحد منهم يسمّى بالأمير الكبير] حتى ولّى شيخون هذا أتابكيّة العساكر- وسمّى بالأمير الكبير- بطلب تلك العادة القديمة وصارت من أجلّ وظائف الأمراء، تمّ ذلك. انتهى.

وكان نائب الشام يوم ذاك أمير علىّ الماردينى، ونائب حلب طاز، وصاحب بغداد وما والاها الشيخ حسن ابن الشيخ حسين سبط أرغون بن أبغا بن هولاكو.

وفى هذه السنة أيضا كملت خانقاة «2» الأمير الكبير شيخون العمرى بالصّليبة والربع «3»

ص: 303

والحمّامان «1» وفرغت هذه العمارة ولم يتشوّش أحد بسبيها، ورتّب فى مشيختها العلّامة أكمل الدين «2» محمد البابرتى «3» الحنفىّ، وأشركه فى النظر.

ودام السلطان حسن فى السلطنة ولم يحرّك ساكنا إلى أن استهلّت سنة ثمان وخمسين وسبعمائة قبض على أربعة من الأمراء وسجنوا بثغر الإسكندرية، وهم:

الأمير قجا السلاح دار، وطقطاى الدّوادار، وقطلوبغا الذهبى، وخليل بن قوصون وخلع على الأمير علم دار باستقراره فى الدوادارية، وخلع على الأمير قشتمر باستقراره حاجبا ووزيرا، وكان القبض على هؤلاء الأمراء بعد أن ضرب الأمير شيخون بالسيف، وحمل إلى داره «4» جريحا ولزم الفراش الى أن مات، حسب ما يأتى ذكره.

ص: 304

وأمر ضرب شيخون كان فى يوم الاثنين من شعبان سنة ثمان وخمسين وسبعمائة، وهو أن السلطان الملك الناصر حسنا جلس فى اليوم المذكور على كرسى الملك بدار العدل «1» للخدمة، والأمراء جلوس فى الخدمة والقضاة والأعيان وجميع أرباب الدولة، وبينما السلطان جالس على كرسى الملك وثب مملوك من المماليك السلطانية يسمّى قطلو خجا السلاح دار على الأمير الكبير شيخون، وضربه بالسيف ثلاث ضربات أصابت وجهه ورأسه وذراعه، فوقع شيخون مغشيّا عليه، وأرجف بموته، وقام السلطان من على الكرسى ودخل الى القصر، ووقعت الهجّة، فلمّا سمعت مماليك شيخون بذلك، طلعوا القلعة راكبين صحبة أمير خليل بن قوصون أحد الأربعة المقبوض عليهم بعد ذلك، فحملوا شيخون على جنويّة «2» وبه رمق، ونزلوا به الى داره، وأحضروا الجرائحية فأصلحوا جراحاته، وبات شيخون تلك الليلة، وأصبح السلطان الملك الناصر حسن نزل لعيادته من الغد، فدخل عليه وحلف له أن الذي وقع لم يكن بخاطره ولا له علم به، وكان الناس ظنوا أن السلطان هو الذي سلّطه على شيخون، فتحقّق الناس براءة السلطان، وطلع السلطان الى القلعة وقد قبض على قطلو خجا المذكور، فرسم السلطان بتسميره فسمّر.

ثم وسّط فى اليوم المذكور، بعد أن سأل السلطان قطلوخجا السلاح دار المذكور عن سبب ضرب شيخون بالسيف، فقال: طلبت منه خبزا فمنعنى منه وأعطاه لغيرى. ولزم شيخون الفراش من جراحه الى أن مات فى ذى القعدة من السنة، وبموته خفّ عن السلطان أشياء كثيرة، فإنه كان ثقيل الوطأة على السلطان الى الغاية، بحيث إن السلطان كان لا يفعل شيئا حتى يشاوره حقيرها وجليلها، فلما مات التفت السلطان حسن الى إنشاء مماليكه، فأمّر منهم جماعة كثيرة على ما سيأتى ذكره.

ص: 305

ثم أخذ السلطان حسن فى شراء دار ألطنبغا الماردانى ويلبغا اليحياوى بالرّميلة وهدمهما وأضاف اليهما عدّة دور وإسطبلات أخر، وشرع فى بناية مدرسته «1» المعروفة به تجاه قلعة الجبل، التى لم يبن فى الإسلام نظيرها، ولا حكاها معمار فى حسن عملها، وذلك فى سنة ثمان وخمسين المذكورة.

ولما شرع فى عمارتها جعل عليها مشدّين ومهندسين واجتهد فى عملها. وأما مصروفها وما اجتمع بها من الصّنّاع والمعلّمين فكثير جدا لا يدخل تحت حصر، وقيل: إن إيوانها يعادل إيوان كسرى فى الطول.

قلت: وفى الجملة إنها أحسن ما بنى فى الدنيا شرقا وغربا فى معناها بلا مدافعة.

وفى هذه السنة وقع أمر عجيب، قال ابن كثير فى تاريخه:«وفى هذه السنة «2» حملت جارية من عتقاء الأمير الهيدبانى «3» قريبا من تسعين يوما، ثم شرعت تطرح ما فى بطنها، فوضعت قريبا من أربعين ولدا، منهم أربع عشرة بنتا. وقد تشكل الجميع، وتميّز الذكر من الأنثى، فسبحان القادر على كل شىء.

قلت: وابن كثير ثقة حجّة فيما يرويه وينقله. انتهى.

ص: 306

ولما مات شيخون انفرد صرغتمش بتدبير المملكة، وعظم أمره واستطال فى الدولة، وأخذ وأعطى وزادت حرمته وأثرى وكثرت أمواله، الى أن قبض عليه الملك الناصر حسن حسب ما يأتى ذكره فى محلّه، إن شاء الله تعالى.

ثم إنّ السلطان قبض على الأمير طاز نائب حلب، فى أوائل سنة ثمان وخمسين المذكورة بسفارة صرغتمش، وقيّده وحمله إلى الإسكندرية فحبسه بها، وولّى عوضه فى نيابة حلب الأمير منجك اليوسفىّ الوزير، نقل إليها من نيابة طرابلس.

ثم عزل السلطان عزّ الدين بن جماعة «1» عن قضاء الشافعية بديار مصر، وولّى عوضه بهاء الدين «2» بن عقيل، فأقام ابن عقيل فى القضاء ثمانين يوما وعزل، وأعيد ابن جماعة ثم نقل السلطان منجك اليوسفىّ المذكور من نيابة حلب إلى الشام عوضا عن أمير على الماردينى، ونقل الماردينى إلى نيابة حلب، كلّ ذلك فى سنة ثمان وخمسين وسبعمائة المقدّم ذكرها، وخلع السلطان على تاج الدين بن ريشة واستقرّ فى الوزارة ثم نفى السلطان جماعة من الأمراء، منها الأمير چرچى الإدريسىّ، وأنعم بإقطاعه وهو إمرة مائة وتقدمة ألف بديار مصر على مملوكه يلبغا العمرى صاحب الكبش «3» وهو الذي قتل أستاذه الملك الناصر حسنا المذكور، حسب ما يأتى ذكره فى وقته من هذا الكتاب فى هذه الترجمة، ثم خلع عليه وجعله أمير مجلس عوضا عن الأمير تنكز بغا الماردينى. ثم فى يوم الخميس العشرين من شهر رمضان سنة

ص: 307

تسع وخمسين وسبعمائة، أمسك السلطان الأمير صرغتمش الناصرىّ، بعد ما أقعد له قواعد مع الأمير طيبغا الطويل ويلبغا العمرى وغيرهما، وأمسك معه جماعة من الأمراء، وهم طشتمر القاسمى حاجب الحجاب، وطيبغا الماجارى وأزدمر وقمارى وأرغون الطّرخانى وآقجبا الحموىّ، وجماعة أخر من أمراء الطبلخانات والعشرات، وكان سبب مسكه أنّ صرغتمش كان قد عظم أمره بعد موت شيخون، واستبدّ بأمور الدولة وتدبير الملك، فلما تمّ له ذلك، ندب الملك الناصر حسنا لمسك طاز ووغّر خاطره عليه، حتى كان من أمره ما كان، فلمّا صفا له الوقت بغير منازع، لم يقنع بذلك، حتى رام الوثوب على الملك الناصر حسن ومسكه واستقلاله بالملك، فبلغ الناصر ذلك فاتّفق مع جماعة من الأمراء على مسكه عند دخوله على السلطان فى خلوة، فلمّا كان وقت دخوله وقفوا له فى مكان رتّبهم السلطان فيه، فلما دخل صرغتمش احتاطوا به وقبضوا عليه، ثم خرجوا لمن عيّن لهم من الأمراء المقدّم ذكرهم، فقبضوا عليهم أيضا فى الحال، وحبسوا الجميع بقلعة الجبل، فلما بلغ مماليك صرغتمش وحواشيه من المماليك، ركبوا بالسلاح وطلعوا الى الرميلة، فنزل إليهم المماليك السلطانية من القلعة، وقاتلوهم من بكرة النهار الى العصر عدّة وجوه، إلى أن كانت الكسرة على مماليك صرغتمش. وأخذتهم السيوف السلطانية، ونهبت دار صرغتمش عند بئر الوطاويط «1» ، ونهبت دكاكين الصليبة، ومسك من الأعجام صوفية المدرسة «2» الصّرغتمشية جماعة لأنهم ساعدوا الصّرغتمشية وأحموهم عند

ص: 308

كسرتهم؛ وما أذّن المغرب حتى سكن الأمر وزالت الفتنة، ونودى بالأمان والبيع والشراء.

وأصبح الملك الناصر حسن فى بكرة يوم الثلاثاء وهو سلطان مصر بلا منازع، وصفا له الوقت، وأخذ وأعطى، وقرّب من اختار وأبعد من أبعد، وخلع على الأمير ألجاى اليوسفىّ واستقرّ به حاجب الحجاب عوضا عن طشتمر القاسمىّ، وخلع على جماعة أخر بعدّة وظائف، ثم أخذ فى ترقية مماليكه والإنعام عليهم. وأعيان مماليكه: يلبغا العمرىّ وطيبغا الطويل وجماعة من أولاد الأمراء.

وكان يميل لإنشاء أولاد «1» الناس وترقّيهم الى الرتب السنية، لا لحبّه لهم، بل كان يقول: هؤلاء مأمونو العاقبة، وهم فى طىّ علمى، وحيث وجّهتهم إليه توجّهوا، ومتى

ص: 309

أحببت عزلهم أمكننى ذلك بسهولة، وفيهم أيضا رفق بالرعية ومعرفة بالأحكام، حتى إنه كان فى أيامه منهم عدّة كثيرة، منهم أمراء مقدّمون، يأتى ذكر أسمائهم فى آخر ترجمته، إن شاء الله تعالى.

ثمّ أخرج السلطان صرغتمش ورفقته فى القيود الى الإسكندرية، فسجن صرغتمش بها إلى أن مات فى ذى الحجة من السنة، على ما سيأتى ذكر صرغتمش فى الوفيات من حوادث سنين الملك الناصر حسن.

ثم إن السلطان عزل الأمير منجك اليوسفى عن نيابة دمشق فى سنة ستين وسبعمائة، وطلبه الى الديار المصرية، فلما وصل منجك الى غزّة بلغه أن السلطان يريد القبض عليه، فتسحّب ولم يوقف له على خبر، وعظم ذلك على السلطان وأكثر من الفحص عليه، وعاقب بسببه خلائق فلم يفده ذلك.

ثم خلع السلطان على الأمير علىّ الماردينىّ نائب حلب، بإعادته إلى نيابة دمشق كما كان أوّلا، واستقرّ بكتمر المؤمنىّ فى نيابة حلب عوضا عن علىّ الماردينى، فلم تطل مدّته بحلب وعزل عنها بعد أشهر بالأمير أسندمر الزينى، أخى يلبغا اليحياوىّ نائب الشام كان.

ثم خلع السلطان على فخر الدين بن قروينة باستقراره فى نظر الجيش والخاص معا، ثم ظهر الأمير منجك اليوسفىّ من اختفائه فى بيت بالشّرف الأعلى بدمشق، فى سنة إحدى وستين وسبعمائة، بعد أن اختفى به نحو السنة، فأخذ وأحضر الى القاهرة، فلمّا مثل بين يدى السلطان وعليه بشت عسلى «1» وعلى رأسه مئزر صفح

ص: 310

عنه لكونه لم يخرج من بلاده، ورسم له بإمرة طبلخاناة بدمشق، وأن يكون طرخانا «1» يقيم حيث شاء، وكتب له بذلك توقيع شريف.

ثم فى هذه السنة وقع الوباء بالديار المصرية، الى أوائل سنة اثنتين وستين وسبعمائة، ومات فى هذا الوباء جماعة كثيرة من الأعيان وغيرهم، وأكثرهم كان لا يتجاوز مرضه أربعة أيام الى خمسة، ومن جاوز ذلك يطول مرضه، وهذا الوباء يقال له: الوباء الوسطىّ (أعنى بين وباءين) .

وفى هذه الأيام عظم يلبغا العمرى فى الدولة حتى صار هو المشار اليه، وثقلت وطأته على أستاذه الملك الناصر حسن، مع تمكّن الملك الناصر فى ملكه، وكان يلبغا العمرى وطيبغا الطويل وتمان تمرهم أعظم أمرائه وخاصّكيّته من مماليكه.

فلمّا أن استهلت سنة اثنتين وستين وسبعمائة بلغ الملك الناصر أنّ يلبغا ينكر عليه من كونه يعطى الى النساء الإقطاعات الهائلة، وكونه يختص بالطواشية ويحكّمهم فى المملكة وأشياء غير ذلك، وصارت الخاصكيّة ينقلون للسلطان عن يلبغا أمورا قبيحة فى حقّه فى مثل هذا المعنى وأشباهه، فتكلّم الملك الناصر حسن مع خواصّه بما معناه: إنه قبض على أكابر أمرائه من مماليك أبيه، حتى استبدّ بالأمر من غير منازع، وأنشأ مماليكه مثل يلبغا المذكور وغيره، حتى يسلم من معارض، فصار يلبغا يعترض عليه فيما يفعله، فعظم عليه ذلك وندم على ترقيه، وأخذ يترقّب وقتا يمسك يلبغا فيه.

ص: 311

واتّفق بعد ذلك أن السلطان حسنا خرج الى الصيد ببرّ الجيزة بالقرب من الهرمين «1» ، وخرجت معه غالب أمرائه يلبغا وغيره على العادة، فلمّا كان يوم الثلاثاء ثامن «2» جمادى الأولى من سنة اثنتين وستين المذكورة، أراد السلطان القبض على يلبغا لما بلغه عن يلبغا أنه يريد الركوب عليه هناك، فصبر السلطان حسن حتى دخل الليل، فركب ببعض خاصّكيّته من غير استعداد ولا اكتراث بيلبغا، وسار يريد يكبس على يلبغا بمخيّمه فنمّ بعض خاصّكيّة السلطان بذلك الى يلبغا، فاستعدّ يلبغا بمماليكه وحاشيته لقتاله، وطلب خشداشيته وواعدهم بالإمريات والإقطاعات، وخوّفهم عاقبة أستاذهم الملك الناصر حسن المذكور، حتى وافقه كثير منهم، كلّ ذلك والملك الناصر فى غفلة استخفافا بمملوكه يلبغا المذكور، حتى قارب السلطان خيمة يلبغا، خرج اليه يلبغا بمن معه وقاتله، فلم يثبت السلطان لقلّة من كان معه من مماليكه، وانكسر وهرب وعدّى النيل وطلع الى قلعة الجبل فى الليل، هى ليلة الأربعاء «3» التاسع من جمادى الأولى من سنة اثنتين وستين المذكورة، وتبعه يلبغا ومن معه يريد القلعة، فاعترضه ابن المحسنى أحد أمراء الألوف بمماليكه، ومعه الأمير قشتمر المنصورى، وواقعا يلبغا ببولاق وقعة هائلة، انكسر فيها يلبغا مرتين، وابن المحسنىّ يتقدّم عليه، كلّ ذلك وابن المحسنىّ ليس له علم من السلطان أين ذهب، بل بلغه أنه توجه إلى جهة القلعة، فأخذ فى قتال يلبغا وتعويقه عن المسير إلى جهة القلعة، واشتدّ القتال بين يلبغا وابن المحسنىّ حتى أردف يلبغا الأمير ألجاى اليوسفىّ حاجب الحجّاب وغيره، فانكسر عند ذلك ابن المحسنى وقشتمر،

ص: 312

وقيل: إنّ يلبغا لمّا رأى شدّة ابن المحسنى فى القتال دسّ عليه من رجّعه عن قتاله وأوعده بأوعاد كثيرة، منها أنه لا يغير عليه ما هو فيه فى شىء من الأشياء خوفا «1» من طلوع النهار قبل أن يدرك القلعة، وأخذ السلطان الملك الناصر حسن، لأنّ الناصر كان طلع إلى قلعة الجبل فى الليل، ولم يشعر به أحد من أمرائه ومماليكه وخواصّه، وصاروا فى حيرة من عدم معرفتهم أين توجّه السلطان، حتى يكونوا معه على قتال يلبغا، وعلم يلبغا أنه متى تعوّق فى قتال ابن المحسنى إلى أن يطلع النهار، أتت العساكر الملك الناصر من كل فجّ، وذهبت روحه، فلما ولّى ابن المحسنى عنه انتهز يلبغا الفرصة بمن معه وحرّك فرسه وصحبته من وافقه إلى جهة القلعة، حتى وصل إليها فى الليل. والله أعلم.

وأمّا أمر السلطان حسن، فإنه لمّا انكسر من مملوكه يلبغا وتوجّه إلى قلعة الجبل، حتى وصل إليها فى الليل، ألبس مماليكه المقيمين بالقلعة، فلم يجد لهم خيلا لأنّ الخيول كانت فى الربيع، وبينما هو فى ذلك طرقه يلبغا قبل أن يطلع النهار وتجتمع العساكر عليه، فلم يجد الملك الناصر قوّة للقائه، فلبس هو وأيدمر الدوادارى زى الأعراب ليتوجّها إلى الشام ونزلا من القلعة وقت التسبيح، فلقيهما بعض المماليك فأنكروا عليهما وأمسكوهما فى الحال، وأحضروهما إلى بيت الأمير شرف الدين [موسى «2» ] بن الأزكشى أستادار العالية، فحملهما فى الوقت إلى يلبغا حال طلوع يلبغا إلى القلعة، فقتلهما يلبغا فى الحال قبل طلوع الشمس.

وكان عمر السلطان حسن يوم قتل نيّفا على ثلاثين سنة تخمينا، وكانت مدّة ملكه فى سلطنته هذه الثانية ستّ سنين وسبعة أشهر [وسبعة «3» أيام] وكان قتله وذهاب

ص: 313

ملكه على يد أقرب الناس إليه من مماليكه وخواصّه، وهم: يلبغا العمرى وطيبغا الطويل وتمان تمر وغيرهم وهم من مشترواته، اشتراهم ورباهم وخوّلهم فى النعم ورقاهم إلى أعلى المراتب، خوفا من أكابر الأمراء من مماليك أبيه، فكان ذهاب روحه على أيديهم، وكانوا عليه أشدّ من تلك الأمراء، فإنّ أولئك لما خلعوه من السلطنة بأخيه الملك الصالح، حبسوه بالدور من القلعة مكرما مبجّلا، وأجروا عليه الرواتب السنيّة، إلى أن أعادوه إلى ملكه ثانيا، وهم مثل شيخون وصرغتمش وقبلاى النائب وغيرهم، فصار يتذكّر ما قاساه منهم فى خلعه من السلطنة وتحكّمهم عليه، فأخذ فى التدبير عليهم حتى قبض على جماعة كثيرة منهم وأبادهم. ثم رأى أنه ينشئ مماليكه ليكونوا له حزبا وعضدا، فكانوا بعكس ما أمّله منهم، ووثبوا عليه، وكبيرهم يلبغا المقدّم ذكره، وعندما قبضوا عليه لم يمهلوه ساعة واحدة، وعندما وقع نظرهم عليه قتلوه من غير مشاورة بعضهم لبعض، موافاة لحقوق تربيته لهم وإحسانه إليهم، فكان بين فعل مماليك أبيه به وبين فعل مماليكه له فرق كبير، ولله در القائل:

معاداة العاقل، ولا مصاحبة الجاهل.

قلت: لا جرم أنّ الله تعالى عز وجل عامل يلبغا المذكور من مماليكه بجنس ما فعله مع أستاذه، ووثبوا عليه وقتلوه أشرّ قتلة، على ما سيأتى ذكره إن شاء الله تعالى.

واستولى يلبغا العمرى الخاصكىّ على القلعة والخزائن والسلاح والخيول والجمال، وعلى جميع ما خلفه أستاذه الملك الناصر حسن، وأقام فى المملكة بعده ابن أخيه الملك المنصور محمد ابن الملك المظفّر حاجّى ابن الملك الناصر محمد بن قلاوون كما سيأتى ذكره بعد حوادث سنين الملك الناصر حسن، كما هى عادة هذا الكتاب.

ص: 314

وكان الملك الناصر حسن سلطانا شجاعا مقداما كريما عاقلا حازما مدبّرا سيوسا، ذا شهامة وصرامة وهيبة ووقار، عالى الهمة كثير الصدقات والبرّ، ومما يدلّ على علوّ همته مدرسته «1» التى أنشأها بالرميلة تجاه قلعة الجبل فى مدّة يسيرة، مع قصر مدّته فى السلطنة والحجر عليه فى تصرفه فى سنين من سلطنته الثانية أيضا، وكان صفته للطول أقرب، أشقر وبوجهه نمش، مع كيس وحلاوة، وكان متجملا فى ملبسه ومركبه ومماليكه وبركه، اصطنع مرّة خيمة عظيمة، فلمّا نجّزت ضربت له بالحوش السلطانى من قلعة الجبل، فلم ير مثلها فى الكبر والحسن، وفيها يقول الشيخ شهاب الدين أحمد بن أبى حجلة التّلمسانىّ المغربى. رحمه الله تعالى:

[الطويل]

حوت خيمة السلطان كلّ عجيبة

فأمسيت منها باهتا أتعجّب

لسانى بالتقصير فيها مقصّر

وإن كان فى أطنابها بات يطنب

وكان السلطان الملك الناصر حسن مغرما بالنساء والخدّام، واقتنى فى سلطنته من الخدّام ما لم يقتنه غيره من ملوك التّرك قبله، وكان إذا سافر يستصحب النساء معه فى سفره لكونه ما كان له ميل للشّباب كعادة الملوك من قبله، كان يعفّ عن ذلك، وفى محبته إلى النساء وواقعته مع يلبغا يقول «2» بعض أصحاب يلبغا فيه شعرا:

[الكامل]

ص: 315

لمّا أتى للعاديات وزلزلت

حفظ النساء وما قرا للواقعه

فلأجل ذاك الملك أضحى لم يكن

وأتى القتال وفصّلت بالقارعه

لو عامل الرحمن فاز بكهفه

وبنصره فى عصره فى السابعه

من كانت القينات من أحزابه

عطعط به الدّخان «1» نار لامعه

تبت يدا من لا يخاف من الدعا

فى الليل إذ يغشى يقع فى النازعه

وخلّف السلطان الملك الناصر حسن، تغمّده الله برحمته، من الأولاد الذكور عشرة: وهم أحمد وقاسم وعلىّ وإسكندر وشعبان وإسماعيل ويحيى وموسى ويوسف ومحمد، وستّا من البنات، وخلّف من الأموال والقماش والذهب العين والسلاح والخيول وغيرها شيئا كثيرا. استولى يلبغا على الجميع، وتصرّف فيه حسب ما أراده.

وكان السلطان حسن محبا للرعية، وفيه لين جانب، حمدت سائر خصاله، لم يعب عليه فى ملكه سوى ترقّيه لمماليكه فى أسرع وقت، فإنه كان كريما بارّا بإخوته وأهله، يميل الى فعل الخير والصدقات، وله مآثر بمكة المشرّفة، واسمه مكتوب فى الجانب الشرقىّ من الحرم، وعمل فى زمنه باب الكعبة الذي هو بابها الآن «2» ، وكسا الكعبة الكسوة التى هى الى الآن فى باطن البيت العتيق، وكان كثير البرّ لأهل مكة والمدينة، الى أن كانت الواقعة لعسكره بمكة فى أواخر سنة إحدى وستين وسبعمائة التى كان مقدّم عسكرها «3» الأمير قندس وابن قراسنقر وحصل لهم الكسرة والنهب والقتل من أهل مكة واخراجهما من مكة على أقبح وجه،

ص: 316

غضب بعد ذلك على أهل مكة وأمر بتجهيز عسكر كبير الى الحجاز للانتقام من أهل مكة، وعزم على أنه ينزعها من أيدى الأشراف الى الأبد، وكاد «1» يتمّ له ذلك بسهولة وسرعة، وبينما هو فى ذلك وقع بينه وبين مملوكه يلبغا وكان من أمره ما كان.

وكان السلطان حسن يميل الى تقدمة أولاد الناس الى «2» المناصب والولايات حتى إنه كان غالب نوّاب القلاع بالبلاد الشامية فى زمانه أولاد ناس، ولهذا لم يخرج عليه منذ سلطنته بالبلاد الشامية خارجىّ، وكان فى أيامه من أولاد الناس ثمانية من مقدّمى الألوف بالديار المصرية. ثم أنعم على ولديه بتقدمتى ألف فصارت الجملة عشرة، فأما الثمانية فهم: الأمير عمر بن أرغون النائب وأسنبغا بن الأبى بكرى ومحمد ابن طوغاى ومحمد بن بهادر رأس نوبة ومحمد بن المحسنىّ الذي قاتل يلبغا وموسى بن أرقطاى وأحمد بن آل ملك وشرف الدين موسى بن الأزكشى الأستادار، فهؤلاء من مقدّمى الألوف. وأما الطبلخانات والعشرات فكثير، وكان بالبلاد الشامية جماعة أخر فكان ابن القشتمرى نائب حلب وأمير علىّ الماردينىّ نائب الشام وابن صبيح «3» نائب صفد وأمّا من كان منهم من المقدّمين. والطبلخانات نوّاب القلاع فكثير. وقيل:

إن سبب تغيير خاطر يلبغا من أستاذه الملك الناصر حسن- على ما قيل- إنه لما عمل ابن مولاهم «4» البليقة «5» التى أوّلها:

ص: 317