الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم سبع أذرع وثمانى أصابع. مبلغ الزيادة ثمانى عشرة ذراعا وسبع عشرة إصبعا «1» .
[ما وقع من الحوادث سنة 746]
ذكر سلطنة الملك الكامل شعبان على مصر
السلطان الملك الكامل سيف الدين شعبان ابن السلطان الملك الناصر ناصر الدين محمد ابن السلطان الملك المنصور سيف الدين قلاوون الألفى الصالحى النّجمى.
والكامل هذا هو السابع عشر من ملوك الترك بالديار المصرية والخامس من أولاد الملك الناصر محمد بن قلاوون. جلس على تخت الملك بعد موت أخيه وشقيقه الملك الصالح إسماعيل فى يوم الخميس الرابع «2» من شهر ربيع الآخر سنة ست وأربعين وسبعمائة، ولقّب بالملك الكامل. وفيه يقول الأديب البارع جمال الدين «3» بن نباتة.
رحمه الله تعالى. [مخلّع البسيط]
جبين «4» سلطاننا المرجّى
…
مبارك الطالع البديع
يا بهجة الدهر إذ تبدّى
…
هلال شعبان فى ربيع
وكان سبب سلطنة الملك الكامل هذا أنه لمّا اشتدّ مرض أخيه الملك الصالح إسماعيل دخل عليه زوج أمّه ومدبّر مملكته الأمير أرغون العلائىّ فى عدّة من الأمراء ليعهد الملك الصالح إسماعيل بالملك لأحد من إخوته. وكان أرغون العلائى المذكور غرضه عند شعبان كونه أيضا ربيبه ابن زوجته، فعارضه فى شعبان الأمير آل ملك نائب السلطنة حسب ما ذكرنا طرفا من ذلك فى مرض الملك الصالح المذكور. ثم وقع ما ذكرناه إلى أن اتّفق المماليك والأمراء على توليته، وحضروا إلى باب القلّة «1» واستدعوا شعبان المذكور، وألبسوه أبّهة السلطنة وأركبوه بشعار الملك ومشت الأمراء بخدمته، والجاوشيّة تصيح بين يديه على العادة، حتى قرب من الإيوان لعب الفرس تحته وجفل من صياح الناس، فنزل عنه ومشى خطوات بسرعة إلى أن طلع إلى الإيوان «2» فتفاءل الناس بنزوله عن فرسه أنّه لا يقيم فى السلطنة إلّا يسيرا. ولمّا طلع الى الإيوان وجلس على الكرسىّ وباسوا الأمراء له الأرض وأحضروا المصحف ليحلفوا له، فحلف هو أوّلا أنّه لا يؤذيهم، ثم حلفوا له بعد ذلك على العادة. ودقّت البشائر بسلطنته بمصر والقاهرة، وخطب له من الغد على منابر مصر والقاهرة، وكتب بسلطنته إلى الأقطار.
ثم فى يوم الاثنين ثامن شهر ربيع الآخر المذكور جلس الملك الكامل بدار العدل «3» ، وجدّد له العهد من الخليفة بحضرة القضاة والأمراء، وخلع على الخليفة وعلى القضاة والأمراء، وكتب بطلب الأمير آق سنقر الناصرى من طرابلس وسأل
الأمير قمارى الأستادار أن يستقرّ عوضه فى نيابة طرابلس، فتشفّع قمارى المذكور بأرغون العلائى وملكتمر الحجازىّ فأجيب إلى ذلك؛ ثم تغيّر ذلك وخلع عليه فى يوم الخميس حادى عشرة بنيابة طرابلس فخرج من فوره على البريد. وخلع على الأمير أرقطاى «1» واستقرّ فى نيابة حلب عوضا عن يلبغا اليحياوى، وخرج أيضا على البريد، وكتب يطلب اليحياوى، ثم طلب الأمير آل ملك نائب السلطنة الإعفاء من النيابة وقبل الأرض، وسأل فى نيابة الشام عوضا عن طقزدمر الحموىّ وأن ينتقل طقزدمر إلى مصر فاجيب إلى ذلك، وكتب بعزل طقزدمر عن نيابة الشام وإحضاره الى الديار المصريّة.
وفى يوم السبت ثالث عشرة خلع السلطان الملك الكامل على الأمير الحاج آل ملك نائب السلطنة باستقراره فى نيابة الشام عوضا عن طقزدمر، وأخرج من يومه على البريد، فلم يدخل مدينة غزّة لسرعة توجّهه، وبينما هو سائر إلى دمشق لحقه البريد بتقليده نيابة صفد، وسبب ذلك أنّ أرغون العلائى لمّا قام فى أمر الملك الكامل شعبان هذا وفى سلطنته قال له الحاج آل ملك: بشرط ألّا يلعب بالحمام، فلمّا بلغ ذلك شعبان نقم عليه، فلمّا ولى دمشق استكثرها عليه وحوّله إلى نيابة صفد. ورسم للأمير يلبغا اليحياوى نائب حلب كان، باستقراره فى نيابة الشام.
ثم أخذ السلطان الملك الكامل فى تدبير مملكته والنظر فى أمور الدولة فأنعم بإقطاع أرقطاى على الأمير أرغون «2» شاه، واستقرّ أستادارا عوضا عن قمارى المستقرّ فى نيابة طرابلس. وأخرج السلطان الأمير أحمد شادّ الشرابخاناه هو وإخوته من
أجل أنهم كانوا ممّن قام مع الأمير آل ملك هم وقمارى الأستادار فى منع سلطنة الملك الكامل هذا. ثم خلع السلطان على علم الدين «1» عبد الله بن أحمد بن إبراهيم بن زنبور باستقراره ناظر الخواصّ عوضا عن الموفّق عبد الله «2» بن إبراهيم، وعنى الأمير أرغون العلائى بالموفّق حتّى نزل إلى داره بغير مصادرة.
ثم قدم الأمير آق سنقر الناصرىّ المعزول عن نيابة طرابلس فخلع السلطان عليه، وسأله بنيابة السلطنة بالديار المصرية فامتنع أشدّ امتناع، وحلف أيمانا مغلّظة أنه لا يليها فأعفاه السلطان فى ذلك اليوم.
ثم بدا للسلطان أن يخطب بنت بكتمر الساقى فامتنعت أمّها من إجابته واحتجّت عليه بأنّ ابنتها تحته ولا يجمع بين أختين وأنّه بتقدير أن يفارق أختها، فإنّه أيضا قد شغف باتّفاق العوّادة جارية أخيه الملك الصالح شغفا زائدا، ثم قالت: ومع ذلك فقد ضعف حال المخطوبة من شدّة الحزن، فإنّه أوّل من أعرس عليها آنوك ابن السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون، وكان لها ذلك المهمّ العظيم، ومات آنوك عنها وهى بكر فتزوّجها من بعده أخوه الملك المنصور أبو بكر، فقتل فتزوّجها بعد الملك المنصور أخوه السلطان الملك الصالح إسماعيل ومات عنها أيضا، فحصل لها حزن شديد من كونه تغيّر عليها عدّة أزواج فى هذه المدّة اليسيرة، فلم يلفت الملك الكامل إلى كلامها وطلّق أختها، وأخرج جميع قماشها من عنده فى ليلته، ثم عقد عليها ودخل بها.
ثم أنعم السلطان على ابن طشتمر حمّص أخضر بإمرة مائة وتقدمة ألف بالديار المصريّة، وعلى ابن أصلم بإمرة طبلخاناه.
ثم فى مستهلّ جمادى الأولى خلع السلطان الملك الكامل على جميع الأمراء المقدّمين «1» والطبلخانات، وأنعم على ستين مملوكا بستين قباء بطرز زركش وستين حياصة ذهب، وفرّق الخيول على الأمراء برسم نزول الميدان «2» .
ثم رسم السلطان ان يتوفّر إقطاع النيابة للخاصّ، وخلع على الأمير بيغرا واستقرّ حاجبا كبيرا. ثم نزل السلطان إلى الميدان على العادة، فكان لنزوله يوم مشهود.
وخلع على الشريف عجلان بن رميثة بن أبى نمىّ الحسنىّ «3» باستقراره أمير مكّة. ثم عاد السلطان إلى القلعة «4» .
وفى يوم السبت خامس عشرين جمادى الأولى قدم الأمير طقزدمر من الشام إلى القاهرة مريضا فى محفّة بعد أن خرج الأمير أرغون العلائى وصحبته الأمراء إلى لقائه، فوجدوه غير واع، ودخل عليه الأمراء وقد أشفى على الموت، ولمّا دخل طقزدمر إلى القاهرة على تلك الحالة أخذ أولاده فى تجهيز تقدمة جليلة للسلطان تشتمل على خيول، تحف وجواهر فقبلها السلطان منهم ووعدهم بكلّ خير.
وفيه أنعم السلطان على الأمير أرغون الصالحىّ بتقدمة ألف، ورسم أن يقال له: أرغون الكاملى، ووهب له فى أسبوع ثلثمائة ألف درهم وعشرة آلاف اردبّ من الأهراء؛ ورسم له بدار «5» أحمد شادّ الشّربخاناه، وأن يعمّر له
بجواره من مال السلطان قصر على بركة الفيل «1» ، ويطل على الشارع فعمل له ذلك.
قلت: والبيت المذكور هو الذي كان يسكنه الملك الظاهر جقمق وتسلطن منه، ثم سكنه الملك الأشرف إينال وتسلطن منه وهو تجاه الكبش «2» . انتهى.
وفى يوم الخميس مستهلّ جمادى الآخرة ركب السلطان الملك الكامل لسرحة سرياقوس «3» ومعه عساكره على العادة وأخذ حريمه صحبته، فنصب لهنّ أحسن الخيم فى البساتين.
ثم فى يوم الجمعة قدم أولاد طقزدمر على السلطان بسرياقوس بخبر وفاة أبيهم طقزدمر، فلم يمكّن السلطان الأمراء من العود إلى القاهرة للصلاة عليه، ورسم بإخراجه فأخرج ودفن بخانقاته «4» بالقرافة، وأخذت خيله وجماله وهجنه إلى الإسطبل «5» السلطانىّ.
ثم خلع السلطان على الأمير أرسلان بصل، واستقرّ حاجبا ثانيا مع بيغرا، ورسم له أن يحكم بين الناس، ولم تكن العادة جرت بذلك أن يحكم الحجّاب بين الناس غير حاجب الحجّاب.
قلت: كان الحجّاب يوم ذاك كهيئة رءوس النّوب الصّغار الآن. انتهى.
وخلع على الأمير ملكتمر السّرجوانىّ باستقراره فى نيابة الكرك وأنعم بتقدمته «1» على الأمير طشتمر طلليه وأنعم بطبلخانات «2» طشتمر طلليه على الأمير قبلاى.
ثم قدم على السلطان الخبر بموت أخيه الملك الأشرف كچك ابن الملك الناصر محمد بن قلاوون عن اثنتى عشرة سنة، واتّهم السلطان أنّه بعث من سرياقوس من قتله فى مضجعه على يد أربعة خدّام طواشيّة، فعظم ذلك على الناس قاطبة.
ثم عاد السلطان من سرياقوس إلى القلعة بعد ما تهتّكت المماليك السلطانية من شرب الخمور والإعلان بالفواحش وركبوا فى الليل وقطعوا الطريق على المسافرين واغتصبوا حريم الناس. ثم أخذ السلطان الملك الكامل فى تجديد المظالم والمصادرات.
ثم قدم البريد على السلطان بأنّ الشيخ حسنا صاحب بغداد واقع سلطان شاه وأولاد تمرداش وانتصر الشيخ حسن وحصر سلطان شاه بماردين «3» وأخذ ضياعها.
ثم إن السلطان الملك الكامل بدا له أن ينشئ مدرسته موضع خان «4» الزكاة، ونزل الأمير أرغون العلابى والوزير لنظره، وكان أبوه الملك الناصر محمد قد وقفه فلم يوافق القضاة على حلّه.
وفى مستهلّ شعبان عمل السلطان مهمّه على بنت الأمير طقزدمر الحموى سبعة أيام. وفى مستهلّ شوّال رسم السلطان للأمير أرغون الكامليّ بزيارة القدس وأنعم عليه بمائة ألف درهم، وكتب إلى نوّاب الشام بالركوب لخدمته، وحمل التقادم وتجهير الإقامات له فى المنازل إلى حين عوده؛ ورسم له أن ينادى بمدينة بلبيس «1» وأعمالها أنّه من قال عنه: أرغون الصغير شنق، وألّا يقال له إلّا أرغون الكاملى، فشهر النّداء بذلك فى الأعمال.
وفى هذه الأيام كثر لعب الناس بالحمام وكثر جرى السّعاة، وتزايد شلّاق «2» الزّعر وتسلّط عبيد الطواشيّة على الناس، وصاروا كلّ يوم يقفون للضراب فتسفك بينهم دماء كثيرة. ونهبت الحوانيت بالصّليبة «3» خارج القاهرة، وإذا ركب إليهم الوالى لا يعبئون به، وإن قبض على أحد منهم أخذ من يده سريعا، فاشتد قلق الناس من ذلك.
ثم اخترع السلطان شيئا لم يسبق إليه، وهو أنّه أعرس السلطان بعض الطواشيّة ببعض سراريه بعد عقده عليها، وعمل له السلطان مهمّا حضره جميع جوارى بيت السلطان، وجليت العروس على الطواشى، ونثر السلطان عليها وقت
الجلاء الذهب بيده، فكانت هذه الحادثة من أشنع ما يكون، وعظم ذلك على سائر أعيان الدولة.
وفى ذى الحجّة كثرت الإشاعة «1» باتفاق الأمير آل ملك نائب صفد مع الأمير يلبغا اليحياوى نائب الشام لورود بعض مماليك آل ملك هاربا منه كونه شرب الخمر وأشاع هذا الخبر فرسم السلطان بإخراج منجك «2» اليوسفى السلاح دار على البريد لكشف الخبر فلمّا توجه منجك إلى الشام حلف له نائب الشام أنه برىء ممّا قيل عنه، وأنعم على منجك بألفى دينار سوى الخيل والقماش.
ثم نودى بالقاهرة بألّا يعارض أحد من لعّاب الحمام وأرباب الملاعيب والسعاة، فتزايد الفساد وشنع الأمر، كلّ ذلك لمحبّة السلطان فى هذه الأمور.
ثم ندب السلطان الأمير طقتمر الصالحىّ للتوجّه إلى الشام على البريد ليوقّع الحوطة على جميع أرباب المعاملات، وأصحاب الرّزق «3» والرواتب بالبلاد الشامية من الفرات إلى غزّة وألّا يصرف لأحد منهم شيئا وأن يستخرج منهم ومن الأوقاف وأرباب الجوامك ألف ألف درهم برسم سفر السلطان إلى الحجاز، ويشترى بذلك الجمال ونحوها، فكثر الدعاء على السلطان من أجل ذلك، وتغيّرت الخواطر.
وفى هذه الأيام كتب بإحضار الأمير آل ملك نائب صفد إلى القاهرة ليستقرّ على إقطاع الأمير چنكلى بن البابا بعد موته وتوجّه لإحضاره الأمير منجك السلاح دار.
ثم فى يوم السبت تاسع عشرين ذى الحجة أمسك أينبك أخو قمارى ثم عفى عنه من يومه. ثم كتب باستقرار الأمير أراق «1» الفتّاح نائب غزّة فى نيابة صفد بعد عزل آل ملك. وأمّا الأمير منجك فإنّه وصل إلى صفد فى أوّل المحرم من سنة سبع وأربعين وسبعمائة، واستدعى آل ملك فخرج معه إلى غزّة، فقبض عليه بها فى اليوم المذكور، وقيل بل فى سادس عشرين ذى الحجة من سنة ست وأربعين. انتهى.
ثم فى أول المحرّم المذكور قدم إلى جهة القاهرة الأمير ملكتمر السّرجوانىّ من نيابة الكرك فمات بمسجد التّبن «2» خارج القاهرة ودفن بتربته «3» . ثم قدم إلى القاهرة الأمير أحمد بن آل ملك فقبض عليه وسجن من ساعته. وخلع السلطان على الأمير أسندمر العمرىّ باستقراره فى نيابة طرابلس عوضا عن الأمير قمارى.
وفى يوم الاثنين سادس المحرّم قدم الأمير آل ملك والأمير قمارى نائب طرابلس مقيّدين إلى قليوب «4» وركبا النيل إلى الإسكندريّة فاعتقلا بها. وكان الأمير طقتمر الصّلاحىّ قبض على قمارى لمّا توجّه للحوطه على أملاك الشام، وقيّده وبعثه على البريد. ثم ندب السلطان الأمير مغلطاى الأستادار لإيقاع الحوطة على موجود آل ملك، وندب الطواشى مقبلا التّقوىّ لإيقاع الحوطة على موجود قمارى نائب طرابلس، وألزم مباشريهما بحمل جميع أموالهما، فوجد لآل ملك قريب ثلاثين
ألف إردب غلّة، وألزم مولده بمائة ألف درهم، وأخذ لزوجته خبيّة فيها أشياء جليلة، وأخذ أيضا لزوجة قمارى صندوقا فيه مال جليل.
ثم خلع «1» السلطان على الأمير أرسلان «2» بصل الحاجب الثانى فى نيابة حماة عوضا عن أرقّطاى وكتب بقدوم أرقطاى، فقدم أرقطاى إلى القاهرة فأنعم عليه السلطان بإقطاع چنكلى بن البابا بعد وفاته، واستقرّ رأس الميمنة مكان چنكلى. ثم خلع السلطان على زوح أمّه الأمير أرغون العلائى واستقرّ فى نظر البيمارستان «3» المنصورىّ عوضا عن الأمير چنكلى بن البابا فنزل إليه أرغون العلائى وأصلح أموره، وأنشأ بجوار باب البيمارستان المذكور سبيل «4» ماء ومكتب سبيل لقراءة الأيتام، ووقف عليه وقفا.
ثم خلع السلطان على الأمير نجم الدين محمود [بن علىّ «1» ] بن شروين وزير بغداد وأعيد إلى الوزارة بالديار المصريّة، وكان لها مدّة شاغرة، وخلع على علم الدين عبد الله ابن زنبور واستقرّ ناظر الدولة عوضا عن ابن مراجل «2» .
وفى هذه الأيام انتهت عمارة قصر «3» الأمير أرغون الكامليّ بالجسر الأعظم تجاه الكبش «4» ، بعد أن صرف عليه مالا عظيما، وأخذ فيه من بركة «5» الفيل نحو العشرين ذراعا، فلمّا عزم أرغون إلى النزول إليه مرض فقلق السلطان لمرضه وبعث إليه بفرس وثلاثين ألف درهم يصدّق بها عنه. وأفرج عن أهل السجون، وركب السلطان لعيادته بالميدان «6» .
ثم اهتمّ السلطان بسفره إلى الحجاز وأخذ فى تجهيز أحواله. وفى يوم الجمعة رابع عشر صفر ولد للسلطان ولد ذكر من بنت الأمير بكتمر الساقى.
ثم فى يوم السبت ثانى عشرين صفر أفرج السلطان عن الأمير أحمد بن آل ملك وعن أخى قمارى وأمرهما بلزوم بيتهما.
وفى أوّل شهر ربيع الأوّل توجّه السلطان إلى سرياقوس وأحضر الأوباش فلعبوا قدّامه باللّبخة «1» وهى عصىّ كبار، حدث اللعب بها فى هذه الأيام، ولمّا لعبوا بها بين يديه قتل رجل رفيقه، فخلع السلطان على بعضهم وأنعم على كبيرهم بخبز فى الحلقة، واستمرّ السلطان يلعب بالكرة فى كلّ يوم وأعرض عن تدبير الأمور، فتمرّدت المماليك وأخذوا حرم الناس وقطعوا الطريق وفسدت عدّة من الجوارى، وكثرت الفتن حتّى بلغ السلطان فلم يعبأ بما قيل له، بل قال: خلّوا كلّ أحد يعمل ما يريد. فلمّا فحش الأمر قام الأمير أرغون العلائى فيه مع السلطان حتّى عاد إلى القلعة وقد تظاهر الناس بكلّ قبيح ونصبوا أخصاصا بالجزيرة «2» الوسطانيّة وجزيرة
بولاق سمّوها حليمة «1» ، بلغ مصروف كلّ حصّ منها من ألفين إلى ثلاثة آلاف درهم، وكان هذا المبلغ يوم ذاك بحقّ ملك هائل. وعمل فى الأخصاص الرّخام والدّهان البديع، وزرع حوله المقاثئ والرياحين وأقام بالأخصاص المذكورة معظم الناس من الباعة والتّجّار وغيرهم، وكشفوا سترا لحياء، وما كفّوا فى التهتّك فى حليمة والطمية»
وتنافسوا فى أرضها، حتّى كان كلّ قصبة قياس تؤجّر بعشرين درهما،
فبلغ أجرة الفدّان الواحد ثمانية آلاف درهم، فأقاموا على ذلك ستة أشهر، حتى زاد الماء وغرقت الجزيرة، وقبل مجىء الماء بقليل قام الأمير أرعون العلائى فى هدمها قياما عظيما، وحرق الأخصاص على حين غفلة وضرب جماعة وشهّرهم فتلف بها مال عظيم جدا.
وفى هذه الأيام قلّ ماء النيل حتى صار ما بين المقياس «1» ومصر يخاض، وصار من بولاق «2» إلى منشأة «3» المهرانىّ طريقا يمشى فيه، ومن بولاق الى جزيرة «4» الفيل وإلى المنية «5» طريقا واحدا. وبعد الماء على السقّايين وصاروا يأخذون الماء من تجاه قرية منبابة «6» ، وبلغت راوية الماء إلى درهمين بعد ما كانت بنصف درهم وربع درهم. فشكا الناس ذلك إلى أرغون العلائى فبلّغ السلطان غلاء الماء بالمدينة وانكشاف ما تحت بيوت البحر، فركب السلطان ومعه الأمراء وكثير من أرباب الهندسة، حتّى كشف ذلك، فوجدوا الوقت فيه قد فات لزيادة النيل، واقتضى
الرأى أن ينقل التراب والشقاف من مطابخ السّكّر بمدينة مصر وترمى من برّ الجيزة إلى المقياس «1» حتى يصير جسرا «2» يعمل عليه العمل، حتى يدفع الماء إلى الجهة التى يحسر عنها، فنقلت الأتربة فى المراكب وألقيت هناك إلى أن بقى جسرا ظاهرا وتراجع الماء قليلا إلى برّ مصر، فلما قويت الزيادة علا الماء على هذا الجسر وأخذه ومحا أثره.
وفى هذه الأيام لعب السلطان الكرة مع الأمراء فى الميدان من القلعة فاصطدم الأمير يلبغا «1» الصالحى مع آخر سقطا معا عن فرسيهما إلى الأرض، ووقع فرس يلبغا على صدره فانقطع نخاعه ومات لوقته فأنعم السلطان بإقطاعه على قطلوبغا الكركىّ.
ثم فى هذه الأيام اشتدّت المطالبة على أهل النواحى بالجمال والشعير والأعدال والأخراج لسبب سفر السلطان إلى الحجاز وكثرت مغارمهم إلى الولاة وشكا أرباب الإقطاعات ضررهم للسلطان فلم يلتفت لهم، فقام فى ذلك الأمير أرغون شاه الأستادار مع الأمير أرغون العلائى فى التحدّث مع السلطان فى إبطال حركة السفر فلم يصغ لقولهم، وكتب باستعجال العربان بالجمال واستحثاث طقتمر الصّلاحىّ فيما هو فيه بصدد السفر.
ثم أوقع السلطان الحوطة على أموال الطّواشى عرفات وأخرج عرفات إلى الشام منفيّا. ثم قصد السلطان أخذ أموال الطواشى كافور الهندىّ، فشفعت فيه خوند طغاى زوجة الملك الناصر محمد بن قلاوون؛ وكان كافور المذكور من خواصّ خدّام الملك الناصر محمد بن قلاوون فأخرج كافور إلى القدس، وكافور المذكور هو صاحب التّربة «2» بقرافة مصر، ثم نفى السلطان أيضا ياقوتا الكبير الخادم، وكافورا المحرم «3» وسرورا الدّمامينىّ، ثم نفى دينارا الصوّاف ومختصّا الخطائى.
ثم فى أوّل شهر ربيع الآخر مات ولد السلطان من بنت «4» بكتمر الساقى وولد له من اتّفاق العوّادة حظيّة أخيه ولد سمّاه شاهنشاه وسرّ به سرورا عظيما زائدا، وعمل
مهمّا عظيما مدة سبعة أيام. ثم مات أخوه يوسف ابن الملك الناصر محمد بن قلاوون واتّهم السلطان أيضا بقتله.
ثم قدم طقتمر الصلاحىّ من الشام بالقماش المستعمل برسم الحجاز. ثم قدم كتاب يلبغا اليحياوىّ نائب الشام يتضمّن خراب بلاد الشام مما أنفق «1» بها من أخذ الأموال وانقطاع الجالب إليها، والرأى تأخير سفر السلطان إلى الحجاز الشريف فى هذه السنة، فقام الأمير أرغون العلائى وملكتمر الحجازىّ فى تصويب رأى نائب الشام وذكرا للسلطان أيضا ما حدث ببلاد مصر من نفاق العربان وضرر الزروع وكثرة مغارم البلاد، وما زالا به حتى رجع عن سفر الحجاز فى هذه السنة، وكتب إلى نائب الشام بقبول رأيه، وكتب للأعمال باسترجاع ما قبضته العرب من كراء الأحمال وغير ذلك، فلم يوافق هذا غرض نساء السلطان ووالدته، وأخذت فى تقوية عزمه على السفر للحجاز حتى مال اليهم «2» ، وكتب لنائب الشام وحلب وغيرها أنّه لا بدّ من سفر السلطان إلى الحجاز فى هذه السنة، وأمرهم بحمل ما يحتاج اليه، ووقع الاهتمام، وتجدّد الطّلب على الناس وغلاء الأسعار، وتوقّفت الأحوال وقلّ الواصل من كل شىء. وأخذ الأمراء فى أهبة السفر صحبة السلطان إلى الحجاز، وقلقوا لذلك، وسألوا أرغون العلائى وملكتمر الحجازىّ فى الكلام مع السلطان فى إبطال السفر ومعرفته «3» رقّة حالهم من حين تجاريدهم إلى الكرك فى نوبة الملك الناصر أحمد، فكلّما السلطان فى ذلك فاشتدّ غضبه وأطلق لسانه، فما زالا به حتى سكن غضبه. ورسم من الغد لجميع الأمراء بالسفر، ومن عجز عن السفر يقيم
بالقاهرة، فاشتدّ الأمر على الناس بمصر والشام من كثرة السّخر، وكثر دعاؤهم على السلطان، وتنكّرت قلوب الأمراء، وكثرت الإشاعة بتنكّر السلطان على نائب الشام، وأنّه يريد مسكه حتّى بلغه ذلك، فاحترز على نفسه، وبلغه قتل يوسف ابن السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون، وقوّة عزم السلطان على سفر الحجاز موافقة لأغراض نسائه، فجمع أمراء دمشق، وحلّفهم على القيام معه، وبرز إلى ظاهر دمشق فى نصف جمادى الأولى وأقام هناك وحضر إليه الأمير طرنطاى البشمقدار نائب حمص والأمير أراق الفتّاح نائب صفد والأمير أسندمر نائب حماة والأمير بيدمر البدرى نائب طرابلس، فاجتمعوا جميعا بظاهر دمشق مع عسكر دمشق لخلع الملك الكامل شعبان هذا، وظاهروا بالخروج عن طاعته، وكتب الأمير يلبغا اليحياوى نائب الشام إلى السلطان: بأنى أحد الأوصياء عليك، وأنّ مما قاله السلطان السعيد الشهيد، رحمه الله تعالى، (يعنى عن الملك الناصر) لى وللأمراء فى وصيّته: إذا أقمتم أحدا من أولادى ولم ترضوا بسيرته جرّوا برجله وأخرجوه وأقيموا غيره أحدا «1» ، وأنت أفسدت المملكة وأفقرت الأمراء والأجناد، وقتلت أخاك وقبضت على أكابر أمراء السلطان واشتغلت عن الملك والتهيت بالنساء وشرب الخمر، وصرت تبيع أخباز الأجناد بالفضّة، وذكر له أمورا فاحشة عملها، فقدم كتابه إلى القاهرة فى يوم الجمعة «2» العشرين من جمادى الأولى فلما قرأه السلطان تغيّر تغيّرا كبيرا، وأوقف أرغون العلائى عليه بمفرده، فقال له أرغون العلائى: والله لقد كنت أحسب هذا! وقلت لك فلم تسمع قولى، وأشار عليه بكتمان هذا، وكتب الجواب يتضمّن التلطّف فى القول: وأخرج الأمير منجك اليوسفى على البريد
إليه فى ثانى عشرينه، ليرجعه عما عزم عليه، ويكشف أحوال الأمراء. وكتب السلطان إلى أعمال مصر بإبطال السلطان سفر الحجاز فكثرت القالة بين الناس بخروج نائب الشام عن الطاعة، حتى بلغ ذلك الأمراء والمماليك، فأشار أرغون العلائى على السلطان بإعلام الأمراء الخبر، فطلبوا إلى القلعة، وأخذ رأيهم فوقع الاتفاق على خروج العسكر إلى الشام مع الأمير أرقطاى، ومعه من الأمراء «1» [منكلى بغا] الفخرى أمير جاندار وآق سنقر الناصرىّ وطيبغا المجدىّ وأرغون الكاملى وأمير علىّ ابن طغريل الطّوغانىّ وابن طقزدمر وابن طشتمر وأربعون أمير طبلخاناه، وأربعون أمير عشرة وأربعون مقدّم حلقة، وحملت النفقة إليهم لكلّ مقدّم ألف ألف دينار، ما عدا ثلاثة مقدّمين، لكل مقدّم ثلاثة آلاف دينار. وكتب بإحضار الأجناد من البلاد، فقدم كتاب منجك من الغور «2» بموافقة نوّاب «3» الشام إلى نائب الشام، وأن التجريدة إليه لا تفيد، فإنّه يقول: إن أمراء مصر معه.
ثم قدم كتاب نائب الشام ثانيا، وفيه خطّ الأمير مسعود بن خطير وأمير علىّ بن قراسنقر وقلاوون وحسام الدين البشمقدار يتضمّن أنّك لا تصلح للملك، وإنما أخذته
بالغلبة من غير رضا الأمراء- ثم عدّد ما فعله- ونحن «1» ما بقينا نصغى لك وأنت ما تصغى لنا، والمصلحة أن تعزل نفسك من الملك ليتولّى غيرك، فلمّا سمع السلطان ذلك استدعى الأمراء وحلفهم على طاعته ثم أمرهم بالسفر فخرجوا من الغد وخرج طلب «2» منكلى بغا وبعده أرغون الكاملىّ، فعند ما وصل طلب أرغون إلى تحت القلعة خرجت ريح شديدة ألقت شاليش «3» أرغون الكاملىّ على الأرض، فصاحت العامّة: راحت عليكم يا كامليّة وتطيّروا بأنّهم غير منصورين. ثم أخذ الأمراء المجرّدون فى الخروج شيئا بعد شىء. وقدم حلاوة «4» الأوجاقى يخبر بأنّ منجك ساعة وصوله إلى دمشق قبض عليه الأمير يلبغا نائب الشام وسجنه بقلعة دمشق، فبعث السلطان بالطواشى سرور الزّبنىّ لإحضار أخوى «5» السلطان، وهما أمير حاجّ وأمير حسين فاعتذرا بوعكهما وبعثت أمهاتهما إلى العلائىّ والحجازىّ تسألانهما فى التلطّف مع السلطان فى أمرهما، وبلّغت العلائىّ بعض جوارى زوجته أمّ السلطان بأنها سمعت السلطان وقد سكر وكشف رأسه وهو يقول: «يا إلهى أعطيتنى الملك وملّكتنى آل ملك
وقمارى، وبقى من أعدائى أرغون العلائى وملكتمر الحجازى فمكّنّى منهما حتى أبلغ غرضى منهما» ، فأقلق أرغون العلائى هذا الكلام. ثم دخل على السلطان فى خلوة فإذا هو متغيّر الوجه مفكّر، فبدره بأن قال له: من جاءك من جهة إخوتى، أنت والحجازى؟ فعرّفه أن النساء دخلن عليهما [وطلبن «1» ] أن يكون السلطان طيّب الخاطر عليهما ويؤمّنهما، فإنّهما خائفان، فرد عليه السلطان جوابا جافيا، ووضع يده فى السيف ليضربه به، فقام أرغون عنه لينجو بنفسه، وعرّف الحجازىّ ما جرى له مع السلطان وشكا من فساد السلطنة، فتوحّش خاطرهما، وانقطع أرغون العلائى عن الخدمة وتعلّل، وأخذت الماليك أيضا فى التنكّر على السلطان، وكاتب بعضهم نائب الشام، واتّفقوا بأجمعهم، حتى اشتهر أمرهم، وتحدّث به العامّة وألحّ السلطان فى طلب أخويه «2» ، وبعث قطلوبغا الكركىّ «3» فى جماعة حتى هجموا عليهما ليلا، فقامت النساء ومنعنهم «4» منهما «5» فهمّ أن يقوم بنفسه حتى يأخذهما «6» ، فجىء بهما إليه وقت الظهر من يوم السبت تاسع عشرين جمادى الأولى فأدخلهما إلى موضع ووكّل بهما، وقام العزاء فى الدور السلطانى عليهما، واجتمعت جوارى الملك الناصر محمد بن قلاوون وأولاده، فلما سمع المماليك صياحهنّ هموا بالثورة والركوب للحرب وتعبّوا.
فلمّا كان يوم الاثنين مستهلّ جمادى الآخرة خرج طلب أرقطاى مقدّم العساكر المجرّدين إلى الشام حتّى وصل إلى باب زويلة «7» ووقف هو مع الأمراء
فى الموكب تحت القلعة، وإذا بالناس قد اضطربوا، ونزل الحجازى سائقا يريد إسطبله «1» ، وسبب ذلك أنّ السلطان الملك الكامل جلس بالإيوان على العادة، وقد ثبّت مع ثقاته القبض على الحجازى وأرغون شاه إذا دخلا، وكانا جالسين ينتظران الإذن على العادة، فخرج طغيتمر الدوّادار فى الإذن لهما فأشار لهما بعينه أن اذهبا، وكانا قد بلغهما أنّ السلطان قد تنكّر عليهما، فقاما من فورهما ونزلا إلى إسطبلهما ولبسا بمماليكهما وحواشيهما وركبا وتوجّها إلى قبّة النصر، وبعث لحجازىّ يستدعى آق سنقر من سرياقوس، فما تضحّى النهار حتى اجتمعت أطلاب الأمراء بقبّة النصر، فطلب السلطان عند ذلك أرغون العلائى واستشاره فيما يعمل، فأشار عليه بأن يركب بنفسه إليهم، فركب السلطان بمماليكه وخاصّكيّته ومعه زوج أمّه الأمير
أرغون العلانى المذكور وتمر الموساوىّ وعدّة أخر من الأمراء، والقلوب متغيّرة، ودقّت الكوسات حربيا، ودارت النقباء على أجناد الحلقة والمماليك ليركبوا فركب بعضهم وتخاذل بعضهم؛ وسار السلطان فى جمع كبير من العامّة وهو يسألهم الدعاء فأسمعوه مالا يليق، ودعوا عليه، وسار فى نحو ألف فارس لا غير حتى قابل ملكتمر الحجازىّ وأصحابه من الأمراء والمماليك، فعند المواجهة انسلّ عن السلطان أصحابه، وبقى فى أربعمائة فارس، فبرز له آق سنقر، وساق حتى قارب السلطان وتحدّث معه وأشار عليه بأن ينخلع من السلطنة فأجابه إلى ذلك وبكى، فتركه آق سنقر وعاد إلى الأمراء وعرّفهم بأنه أجاب أن يخلع نفسه، فلم يرض أرغون شاه، وبدر ومعه الأمير قرابغا والأمير صمغار والأمير بزلار والأمير غرلو فى أصحابهم حتى وصلوا إلى السلطان وسيّروا إلى «1» أرغون العلائى ليأتيهم ليأخذوه إلى عند الأمراء فلم يوافق العلائى على ذلك، فهجموا عليه ومزّقوا من كان معه من مماليكه وأصحابه. ثم ضرب واحد منهم أرغون العلائى بدبّوس حتى أرماه عن فرسه إلى الأرض، فضربه الأمير بيبغا أروس «2» بسيف قطع خدّه، فانهزم عند ذلك عسكر السلطان، وفرّ الملك الكامل شعبان إلى القلعة واختفى عند امه روجة الأمير أرغون العلائى، فسار الأمراء إلى القلعة فى جمع هائل وأخرجوا أمير حاج وأمير حسين من سجنهما، وقبّلوا يد أمير حاجّ وخاطبوه بالسلطنة. ثم طلبوا الملك الكامل شعبان من عند أمّه فلم يجدوه فحرّضوا فى طلبه حتى وجدوه مختفيا بين الأزيار، وقد اتّسخت ثيابه من وسخ الأزيار، فأخرجوه بهيئته إلى الرّحبة ثم أدخلوه إلى الدهيشة «3» فقيّدوه وسجنوه حيث كان أخواه «4» مسجونين ووكّل به قرابغا القاسمىّ والأمير صمغار.
ومن غريب الاتفاق أنه كان عمل طعاما لأخويه: أمير حاجّ وحسين حتى يكون غداءهما فى السجن، وعمل سماط السلطان على العادة فوقعت الضّجة، وقد مدّ السّماط، فركب السلطان من غير أكل، فلمّا انهزم وقبض عليه، وأقيم بدله أخوه أمير حاج مدّ السّماط [بعينه «1» له] فأكل منه، وأدخل بطعامه وطعام أخيه أمير حسين إلى الملك الكامل فأكله فى السجن. واستمرّ الملك الكامل المذكور فى السجن إلى يوم الأربعاء ثالث جمادى الآخرة سنة سبع وأربعين وسبعمائة قتل وقت الظهر ودفن «2» عند أخيه يوسف ليلة الخميس، فكانت مدّة سلطنته على مصر سنة واحدة وثمانية وخمسين يوما؛ وقال الصّفدىّ: سنة وسبعة عشر يوما «3» .
وكان من أشرّ الملوك ظلما وعسفا وفسقا. وفى أيامه- مع قصر مدّته- خربت بلاد كثيرة لشغفه باللهو وعكوفه على معاقرة الخمور، وسمع الأغانى وبيع الإقطاعات بالبذل «4» ، وكذلك الولايات، حتى إنّ الإقطاع كان يخرج عن صاحبه وهو حىّ بمال لآخر، فإذا وقف من خرج إقطاعه قيل له نعوّض عليك قد أخرجناه لفلان الفلانى. وكان مع هذا كله سفّاكا للدماء، ولو طالت يده لأتلف خلائق كثيرة، وكان سيئ التدبير، يمكّن النساء والطواشيّة من التصرّف فى المملكة والتهتّك
فى النّزه والصيد ولعب الكرة بالهيئات الجميلة وركوب الخيول المسوّمة، مع عدم الاحتشام من غير حجاب من الأمير آخورية والغلمان، ويعجبه ذلك من تهتّكهنّ على الرجال، فشغف لذلك جماعة كثيرة من الجند بحرمه بما يفعلن من ركوب الخيول وغيرها. وكان حريمه إذا نزلن إلى نزهة بلغت الجرّة الخمر إلى ثلاثين «1» درهما، وهذا كلّه مع شرهه وشره حواشيه ونسائه إلى ما فى أيدى الناس من البساتين والرّزق والدواليب ونحوها، فأخذت أمّه معصرة وزير بغداد ومنظرته على بركة الفيل، وأشياء غير ذلك. وحدث فى أيامه أخذ خراج الرّزق وزيادة القانون ونقص الأجائر، وأعيدت فى أيامه ضمان أرباب الملاعيب وعدّة مكوس، وكان يحب لعب الحمام، فلما تسلطن تغالى فى ذلك وقرّب من يكون من أرباب هذا الشأن، ومع هذا الظلم والطمع لم يوجد له من المال سوى مبلغ ثمانين ألف دينار وخمسمائة ألف درهم، إلا أنه كان مهابا شجاعا سيوسا متفقّدا لأحوال مملكته، لا يشغله لهوه عن الجلوس فى المواكب والحكم بين الناس. ولما أمسك وقتل قال فيه الصفدى:
بيت قلاوون سعاداته
…
فى عاجل كانت وفى آجل «2» [السريع]
حلّ على أملاكه للرّدى
…
دين قد استوفاه بالكامل
*** السنة الأولى من سلطنة الملك الكامل شعبان على مصر وهى سنة ستّ وأربعين وسبعمائة، على أن أخاه الملك الصالح إسماعيل حكم منها إلى رابع
شهر ربيع الآخر، ثم حكم الملك الكامل هذا فى باقيها وفى أشهر من سنة سبع كما سيأتى ذكره.
فيها (أعنى سنة ست وأربعين) توفّى السلطان الملك الصالح إسماعيل ابن الملك الناصر محمد بن قلاوون حسب ما تقدّم ذكره فى ترجمته. وفيها أيضا توفّى السلطان الملك الأشرف كچك ابن الملك الناصر محمد بن قلاوون بعد خلعه من السلطنة بسنين، وقد تقدّم ذكر سلطنته أيضا ووفاته فى ترجمته.
وتوفّى الأمير سيف الدين طقزدمر بن عبد الله الحموىّ الناصرىّ الساقى بالقاهرة فى مستهل جمادى الآخرة، وكان أصله من مماليك الملك المؤيّد عماد الدين إسماعيل الأيّوبىّ صاحب حماة، ثم انتقل إلى ملك الملك الناصر محمد بن قلاوون وحظى عنده وجعله ساقيا، ثم رقّاه حتى صار أمير مائة ومقدّم ألف بالديار المصرية، ثم جعله أمير مجلس وزوّجه بإحدى بناته، وصار من عظماء أمرائه الى أن مات.
و [لمّا «1» ] تسلطن ابنه الملك المنصور أبو بكر استقرّ طقزدمر هذا نائب السلطنة بديار مصر، ووقع له أمور حكيناها فى تراجم السلاطين من بنى الملك الناصر محمد بن قلاوون إلى أن أخرج إلى نيابة حماة. ثم نقل إلى نيابة حلب، ثم إلى نيابة الشام، ثم طلب إلى القاهرة فى سلطنة الملك الكامل هذا فحضر اليها مريضا فى محفّة ومات بعد أيام حسب ما تقدّم. وكان من أجلّ الأمراء «2» وأحسنهم سيرة. كان عاقلا ديّنا سيوسا، عارفا، وهو صاحب الخانقاه «3» بالقرافة والقنطرة «4» خارج القاهرة على الخليج وغير ذلك مما هو مشهور به.
وتوفّى القاضى بدر الدين محمد ابن القاضى محيى الدين [يحيى «1» ] بن فضل الله العمرى الدّمشّقى، كاتب سرّ دمشق فى سادس عشرين شهر رجب بدمشق. وكان كاتبا فاضلا من بيت فضل ورياسة، وقد تقدّم ذكر جماعة من آبائه وأقاربه، ويأتى ذكر جماعة أخر من أقاربه فى محلهم من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.
وتوفّى الأمير ركن الدين بيبرس بن عبد الله الأحمدىّ المنصورىّ أمير جاندار فى يوم الثلاثاء ثالث «2» عشر المحرّم، وهو فى عشر الثمانين. وكان أصله من مماليك الملك المنصور قلاوون، وأحد أعيان أمراء الديار المصرية، وهو الذي قوّى عزم قوصون على سلطنة الملك المنصور أبى بكر، وكان جار كسىّ الجنس، تنقّل إلى أن صار من أعيان الأمراء بمصر، ثم ولى نيابة صفد وطرابلس، ثم قدم القاهرة وتولّى أمير جاندار. وكان كريما شجاعا ديّنا قوىّ النفس، لم يركب قطّ إلّا فحلا، ولم يركب حجرة «3» ولا إكديشا فى عمره. وكان له ثروة كبيرة، وطالت أيّامه فى السعادة، وخلّف أملاكا كثيرة، أذهب غالبها جماعة من أوباش ذرّيته بالاستبدال والبيع إلى يومنا هذا.
وتوفّى الأمير بدر الدين چنكلى [بن محمد بن البابا بن چنكلى «4» ] بن خليل ابن عبد الله المعروف بابن البابا العجلىّ أتابك العساكر بالديار المصريّة فى عصر يوم الاثنين سابع [عشر «5» ] ذى الحجّة. وكان أصله من بلاد الروم، طلبه الملك الأشرف خليل بن قلاوون وكتب له منشورا بالإقطاع الذي عيّنه إليه فلم يتّفق حضوره إلّا فى أيّام الملك الناصر محمد بن قلاوون فى سنة أربع وسبعمائة فأمّره وأكرمه،
ولا زال يرقّيه حتى صار يجلس ثانى آقوش نائب الكرك. ثم بعد آقوش جلس چنكلى هذا رأس الميمنة.
قال الشيخ صلاح الدين: وهو من الحشمة والدّين والوقار وعفّة الفرج فى المحلّ الأقصى، ولم يزل معظّما من حين ورد إلى أن مات. وكان ركنا من أركان المسلمين ينفع العلماء والصلحاء والفقراء بماله وجاهه، وكان يتفقّه، ويحفظ ربع العبادات. ويقال: إنّ نسبه يتّصل بإبراهيم بن أدهم رضى الله عنه، قال: وقلت فيه ولم أكتب به إليه:
[السريع]
لا تنس لى يا قاتلى فى الهوى
…
حشاشة من حرقى تنسلى
لا ترس لى ألقى به فى الهوى
…
سهام عينيك متى ترسلى
لا تخت لى يشرف قدرى به
…
إلّا إذا ما كنت بى تختلى
لا چنك «1» لى تضرب أوتاره
…
إلّا ثنا يملى على چنكلى
وتوفّى رميثة «2» واسمه منجد بن أبى نمىّ محمد بن أبى سعد حسن بن على بن قتادة ابن أبى غرير إدريس بن مطاعن بن عبد الكريم بن عيسى بن حسين بن سليمان بن علىّ ابن عبد الله بن محمد بن موسى بن عبد الله المحض بن موسى [بن عبد الله «3» ] بن الحسن «4» ابن الحسن بن علىّ بن أبى طالب الحسنىّ المكىّ أمير مكة بها فى يوم الجمعة ثامن ذى القعدة.
وتوفّى الشيخ الإمام فخر الدين أحمد بن الحسين الجاربردى «1» شارح «البيضاوىّ «2» » .
وتوفّى الشيخ الإمام العلّامة تاج الدين أبو الحسن على بن عبد الله [ابن أبى «3» الحسن] ابن أبى بكر الأردبيلىّ الشافعى، مدرّس مدرسة «4» الأمير حسام الدّين طرنطاى المنصورى بالقاهرة. كان فقيها عالما بارعا أفتى ودرّس سنين.
وتوفّى الشيخ المقرئ تقىّ الدين محمد «1» [بن محمد بن على] بن همام ابن راجى الشافعى إمام جامع «2» الصالح خارج باب زويلة ومصنّف «كتاب
سلاح المؤمن «1» » . رحمه الله.
- أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وست عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة ثمانى عشرة ذراعا وخمس عشرة إصبعا.