الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفَصْلُ الأوَّلُ
مَعْنَى الإجَازَةِ
الإجِازَةُ هِي إحْدَى طُرُقِ التَّحَمُّلِ والرِّوَايَةِ عِنْدَ المُحَدِّثِيْنَ مِنْ أهْلِ العِلْمِ، لِذَا تَنَوَّعَتْ في مَعْنَاهَا وأدَائِها باعْتِبَارَاتٍ لا تُخْرِجُهَا عَنْ مَعْنَى تَحَمُّلِ العِلْمِ عَنِ الشُّيُوْخِ في الجُمْلَةِ.
فأمَّا الإجَازَةُ في اللُّغَةِ، وعَنْدَ أهْلِ الحَدِيْثِ: فَهِي الإذْنُ والإبَاحَةُ، وتَأتي بمَعْنَى الخَبَرِ.
واصْطِلاحًا: هِي إذْنُ المُحَدِّثِ للطَّالِبِ أنْ يَرْوِيَ عَنْهُ كِتَابًا مِنْ كُتُبِ الحَدِيْثِ أو غَيْرِهَا، مِنْ غَيْرِ أنْ يَسْمَعَ مِنْه أو يَقْرَأ عَلَيْه، وهَذا أصْلُ مَعْنَاهَا عِنْدَ الاطْلاقِ!
وهَذا أوْسَعُها مَعْنىً واسْتِخْدَامًا عِنْدَ عَامَّةِ المُحَدِّثِيْنَ مِنْ أهْلِ العِلْمِ، فَهِي: إذنٌ في الرِّوَايَةِ لَفْظًا أو كِتَابَةً، تُفِيْدُ الإخْبَارَ الإجْمَاليَّ عُرْفًا.
وتَأتي الإجَازَةُ أيْضًا بمَعَانٍ أخْرَى بشَرْطِ التَّقْيِيْدِ، مِنْهَا:
ـ إجَازَةُ الشَّيْخِ الطَّالِبَ بَعْدَ السَماعِ من الشَّيْخِ مُبَاشَرَةً، أو مِنْ غَيْرِه، وهُوَ مَا يُسَمَّى عِنْدَ المُحَدِّثِيْنَ: سَماعًا.
ـ إجَازَةُ الشَّيْخِ الطَّالِبَ بَعْدَ قِرَاءةِ الطَّالِبِ عَلى الشَّيْخِ، وهُوَ مَا يُسَمَّى: عَرْضًا.
ـ إجَازَةُ الشَّيْخِ الطَّالِبَ مَعَ مُنَاوَلَةِ الشَّيْخِ الكِتَابَ للطَّالِبِ.
ولَفْظُه أنْ يَقُوْلَ: أجَزْتُكَ أو أجَزْتُ لَكَ أنْ تَرْوِيَ عَنِّي هَذا الكِتَابَ، أو هَذَا الثَّبْتَ، سَواءٌ كَانَ مِنْ تَألِيْفِه أو مِنْ غَيْرِه ممَّا لَهُ فِيْهِ سَنَدٌ صَحِيْحٌ، فَيَرْوِي الطَّالِبُ عَنْه ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ أنْ يَسْمَعَهُ مِنْهُ أو يَقْرَأهُ عَلَيْه بمَعْنَاهَا العَامِ.
فإنْ سَمِعَه مِنْه، أو قَرَأهُ عَلَيْه فَدَرَجَةُ كَمالٍ وفَضْلٍ لا شَرْطٍ كَما يَدَّعِيْه بَعْضُهُم!
وعَلَيْه فالإجَازَةُ: رِوَايَةٌ قَبْلَ أنْ تَكُوْنَ دِرَايَةً، كَما هُو صَنِيْعُ وتَصَرُّفُ جَماهِيْرِ السَّلَفِ والخَلَفِ مِنْ أهْلِ الحَدِيْثِ وغَيْرِهِم.
* * *
وقَدْ تَوَسَّعَ أهْلُ العِلْمِ في الإجَازَةِ لفظًا ومَعْنىً، للْحِفَاظِ عَلى الإسْنَادِ واتِّصَالِهِ، وتَسَلْسُلِ رِجَالِهِ، والانْتِسَابِ لكُتُبِ السُّنَّةِ وغَيْرِهَا، فَكَانَتْ مِعْيَارًا لِذَلِكَ، وعُنْوَانًا عَلى الطَّبَقَاتِ واللُّقِيِّ والمُعَاصَرَةِ في غَيْرِهَا مِنْ تَحَاسِيْنِ الرِّوَايَةِ، وأفَانِيْنِ الإجَازَةِ.
ثُمَّ الإجَازَةُ تَارَةً تَكُوْنُ بلَفْظِ المُجِيْزِ بَعْدَ السَّؤالِ فِيْهَا مِنْ المُجَازِ لَه، أو غَيْرِه، أو مُبْتَدِئًا بِها.
وتَارَةً تَكُوْنُ بخَطِّ المُجِيْزِ عَلى اسْتِدْعَاءٍ، كَما جَرَتِ العَادَةُ، أو بِدُوْنِ اسْتِدْعَاءٍ، قَاله السَّخَاوِيُّ وغَيْرُه.
أمَّا اسْتِدْعَاءُ الإجَازَةِ عَنْ طَرِيْقِ سُؤالِ الغَيْرِ، فَقَدْ ذَهَبَ إلَيْه أئِمَّةٌ أعْلامٌ، وحُفَّاظٌ كِبَارٌ مِنْهُم أبو طَاهرٍ السِّلَفِيُّ وغَيْرُه، ولَيْسَ هَذا مَحلَّ ذِكْرِهِم.
* * *
وأرْكَانُ الإجَازَةِ أرْبَعَةٌ: المُجِيْزُ، والمُجَازُ لَهُ، والمُجَازُ بِهِ، ولَفْظُ الإجَازَةِ.
ولِكُلِّ رُكْنِ مِنْهَا: بَابُه وآدَابُه، لَيْسَ هَذا مَحلَّ بَسْطِها، فانْظُرْهَا في مَبْسُوطَاتِ عُلُوْمِ الحَدِيْثِ، وتَصَارِيْفِ المُجِيْزِيْنَ مِنْ أهْلِ العِلْمِ؟!
فَأمَّا المُجَازُ، فلَه شُرُوْطٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْها في الجُمْلَةِ، مِنْها:
ـ أنْ يَكُوْنَ مُسْلِمًا، غَيْرَ مُتَظَاهِرٍ بالفِسْقِ والسَّخَفِ.
ـ أنْ يَكُوْنَ حَاذِقًا عَارِفًا بمَعْنَى الإجَازَةِ: لَفْظًا وضَبْطًا، وتَعْيِينًا وتَنْوِيْعًا.
أي: عَالمًا بأنَّ مَا أخَذَه عَنْ شَيْخِه؛ كَانَ بطَرِيْقِ الإجَازَةِ، وعَالمًا بضَبْطِ الكِتَابِ الَّذِي أُجِيْزَ فِيْه، فَلا زِيَادَةَ فِيْه ولا نُقْصَانَ؛ ليَسْلَمَ مِنَ التَّصْحِيْفِ والتَّحْرِيْفِ، وذَلِكَ بعَرْضِ نُسْخَتِه عَلى نُسْخَةِ شَيْخِه أو غَيْرِه تَأكِيْدًا لضَبْطِ الكِتَابِ، وهَذا مَا عَلَيْه أهْلُ العِلْمِ قَبْلَ نَتَاجِ المَطَابِعِ اليَوْمَ.
أمَّا اليَوْمَ؛ فَما تُخْرِجُه المَطَابِعُ العِلْمِيَّةُ الموْثُوْقَةُ: لهُوَ كَافٍ في ضَبْطِ الكِتَابِ وتَعْيِينِه، وعَلى هَذا عَمَلُ المُسْلِمِيْنَ اليَوْمَ.
وكَذا يَكُوْنُ عَالمًا بتَعْيِينِ واسْمِ الكِتَابِ الَّذِي أُجِيْزَ فِيْه، فَلا يَخْلِطَ بَيْنَ كِتَابٍ وآخَرَ!
ولبَعْضِهِم شُرُوْطٌ؛ لَكِنْ جُمْلَةُ القَوْلِ في هَذا مَا ذَهَبَ إلَيْه الإمَامُ ابنُ سَيَّدِ النَّاسِ رحمه الله (734): فَأقَلُّ مَرَاتِبِ المُجِيْزِ أنْ يَكُوْنَ عَالمًا بمَعْنَى الإجَازَةِ العِلْمَ الإجْمَالي مِنْ أنَّه رَوَى شَيْئًا، وأنَّ مَعْنَى إجَازَتِه لغَيْرِه إذْنُه لِذَلِكَ الغَيْرِ في رِوَايَةِ الشَّيءِ عَنْهُ بطَرِيْقِ الإجَازَةِ المَعْهُوْدَةِ مِنَ أهْلِ هَذا الشَّأنِ، لا العِلْمَ التَّفْصِيلي بِما رَوَى وبِما يَتَعَلَّقُ بأحْكَامِ الإجَازَةِ.
وهَذَا العِلْمُ الإجْماليُّ حَاصِلٌ فِيْمَنْ رَأيْنَاهُ مِنْ عَوَامِ الرُّوَاةِ، فإنِ انْحَطَّ رَاوٍ في الفَهْمِ عَنْ هَذِه الدَّرَجَةِ ـ ولا إخَالُ أحَدًا يَنْحَطُّ عَنْ إدْرَاكِ هَذَا إذَا عُرِفَ بِه ـ فَلا أحْسِبُه أهْلاً لأنْ يُتَحَمَّلَ عَنْه بإجَازَةٍ ولا سَماعٍ.
وقَالَ أيْضًا: وهَذا الَّذِي أشْرَتُ إلَيْه مِنَ التَّوَسُّعِ في الإجَازَةِ هُو طَرِيْقُ الجَمْهُوْرِ. انْتَهَى.
وأقَرَّه السَّخَاوِيُّ رحمه الله (902)، في كِتَابِه «فَتْحِ المُغِيْثِ «(2/ 459)، بقَوْلِه: «ومَا عَدَاهُ مِنَ التَّشَدُّدِ، فَهُو مُنَافٍ لما جُوِّزَتِ الإجَازَةُ لَه مِنْ بَقَاءِ السِّلْسِلَةِ
…
» انْتَهَى.
قُلْتُ: والحَالَةُ هَذِه إذَا كَانَ مَا ذَكَرَهُ ابنُ سَيَّدِ النَّاسِ وغَيْرُه في شَرْطِ المُجِيْزِ مِنَ التَّوَسُّعِ؛ كَانَ شَرْطُ المُجَازِ لَه مِنْ بَابِ أوْلى، واللهُ أعْلَمُ.
نَعَم؛ هُنَاكَ فَرْقًا ذَكَرَه بَعْضُ أهْلِ العِلْمِ فِيْما إذَا كَانَتِ الإجَازَةُ لأجْلِ أنْ يَعْمَلَ بِها المُجَازُ لَه، أو لأجْل رِوَايَتِه لها.
فَما كَانَ مِنْها للعَمَلِ فَشَدَّدَ فِيْها أهْلُ العِلْمِ، بمَعْنَى: أنْ يَكُوْنَ مِنْ أهْلِ العِلْمِ، وصَاحِبَ فَهْمٍ باللِّسَانِ وغَيْرِه، أمَّا إذَا كَانَتْ لأجْلِ الرِّوَايَة وهُو الغَالِبُ، فَما ذَكَرْنَا مِنَ التَّوَسُّعِ والتَّرْخِيْصٍ والتَّيْسِيْرِ، واللهُ أعْلَمُ.
* * *
وقَدْ كَانَ كَثِيْرٌ مِنَ المُحَدِّثِيْنَ وأهْلِ الإجَازَاتِ يَسْتَعْمِلُوْنَ ألْفَاظًا في مَعْنَى الإجَازَةِ، مِثْلُ: المَشْيَخَةِ، والمُعْجَمِ، والبَرْنَامَجِ، والفِهْرِسِ.
ـ فَالمَشْيَخَةُ: تُطْلَقُ عَلى الجُزْءِ الَّذِي يَجْمَعُ فِيْه المُحَدِّثُ أسْماءَ شُيُوْخِه، ومَرْويَّاتِه عَنْهُم بُدُوْنِ تَرْتِيْبٍ.
ـ فَإذا رَتَّبَ أسْمَاءَهُم عَلى حُرُوْفِ المُعْجَمِ: فَهُوَ المُعْجَمُ.
لِذَا كَثُرَ اسْتِعْمالُ وإطْلاقُ المَعَاجِمِ عَلى المَشْيَخَاتِ!
ـ والفِهْرِسُ: هُوَ الكِتَابُ الَّذِي يَجْمَعُ فِيْه المُحَدِّثُ شُيُوْخَه، وأسَانِيْدَهُم، وكَذَا مَرْوِيَّاتِه عَنْهُم، ومَا يَتَعَلَّقَ بِذَلِكَ، كَأنَّه أخَذَ عَنِ الحُجَّةِ؛ لأنَّ أسَانِيْدَهُ وشُيُوْخَه حُجَّةٌ لَهُ، وقَدَ ذَكَرَهُ كَثِيْرٌ مِنَ المُحَدِّثِيْنَ.
ـ وأهْلُ الأنْدَلُسِ يَسْتَعْمِلُوْنَ البَرْنَامِجَ: بمَعْنَى الفِهْرِسَةِ.
ـ والثَّبَتُ (بالفَتْحِ): هُوَ مَا يُثْبِتُ فِيْهِ المُحَدِّثُ مَسْمُوْعَاتِه، مَعَ أسْماءِ المُشَارِكِيْنَ لَه فِيْه، لأنَّه كالحُجَّةِ عِنْدَ الشَّخْصِ لسَماعِه، وسَماعِ غَيْرِه.
فَأهْلُ المَشْرِقِ يَقُوْلُوْنَ إلى الآنَ: الثَّبَتَ، وأهْلُ المَغْرِبِ إلى الآنَ يُسَمُّوْنَه: الفِهْرِسَةَ، وكُلٌّ جَائِزٌ.
* * *
لأجْلِ هَذَا وغَيْرِه أُلِّفَتْ لأجْلِهَا الأثْبَاتُ الكَثِيْرَةُ، مَا بَيْنَ مَبْسُوْطٍ ومُخْتَصَرٍ، بَلْ مِنْهُم مَنِ اكْتَفى بوُرِيْقَاتٍ مُعْتَصَرَةٍ تَأخُذُ بمَجَامِعِ أكْثَرِ أسَانِيْدِ الكُتُبِ والأثْبَاتِ.
وقَلَّما رَأيْتُ رَجُلاً فَاضِلاً إلَاّ ولَهُ ثَبَتٌ، أو إجَازَةٌ، أو فِهْرِسٌ، أو مُعْجمٌ، أو مَشْيَخَةٌ، ولَوْ تَتَبَّعْتُ مَنْ ألَّفَ في ذَلِكَ؛ لخَرَجْتُ بكِتَابي هَذا عَنْ مَقْصَدِ الاخْتِصَارِ، ومَنْ أرَادَهُ فلْيَنْظُرْ كِتَابَ «المَجْمَعِ المُؤسِّسِ للمُعْجَمِ المُفَهْرَسِ» ، و «المُعْجَمِ المُفَهْرَسِ» كِلاهُما للحَافِطِ ابنِ حَجَرٍ العَسْقَلانيِّ (852)، وكِتَابَ «فِهْرِسِ الفَهَارِسِ والأثْبَاتِ» لعَبْدِ الحيِّ الكتَّانيِّ (1382)، ومِنْ آخِرِها كِتَابُ «مُعْجَمِ المَعَاجِمِ والمَشْيَخَاتِ» لشَيْخِنا المُسْنِدِ يُوْسُفَ المَرْعَشْليِّ، وَهُوَ مِنْ أجْمَعِها وأنْفَعِها، بَلْهَ أجْمَعُهَا.
والحَالَةُ هَذِه كَانَ مِنْ عَجَبٍ؛ تَغَافُلُ بَعْضِ عُلَماءِ زَمَانِنا عَنْ هَذِه الجَادَّةِ المَطْرُوْقَةِ سَلَفًا وخَلفًا، فَلا إجَازَاتٍ يَطْلُبُوْنَ، ولا أثْبَاتٍ يَرْغَبُوْنَ، واللهُ الهَادِي إلى سَوَاءِ السَّبِيْلِ!