الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفَصْلُ الثَّاني
فَضْلُ الإجَازَةِ
إنَّ فَضْلَ الرِّوَايةِ لا يَخْفَى لِذِي بَصَرٍ وبَصِيْرةٍ، بَلْ لا أظُنُّ أحَدًا شَمَّ رَائِحَةَ العِلْمِ يُنْكِرُ فَضْلَها، أو يَجْهَلُ أمْرَهَا، فَهِي واللهِ سَلاسِلُ العِلْمِ، ولَوْلاهَا لَقَالَ مَنْ شَاءَ مَا شَاءَ!
فكَانَتْ في الصَّدْرِ الأوَّلِ مَقْرُوْنةً بالعِلْمِ حِلاًّ وتِرْحَالاً، فلا يُذْكَرُ العِلْمُ إلَاّ إذا ذُكِرَتْ، ولا يُعْرَفُ العَالمُ إلَاّ إذَا عَرَفَها، ولا يُمَيَّزُ الحَقُّ مِنَ البَاطِلِ إلَاّ إذَا صَحَّ سَنَدُهَا
…
هَذا يَوْمَ كَانَ العِلْمُ بأهْلِه، وكَانَتْ سُوْقُ الرِّوَايةِ قَائِمَةً، ومَجَالِسُ التَّحْدِيْثِ عَامِرَةً، وكَانَ الرِّجَالُ هُمُ الرِّجَالَ؛ فَعِنْدَهَا كَانَ طَالِبُ العِلْمِ لا يَبْرُزُ بَيْنَ أقْرَانِه إلَاّ بالرِّوَايَةِ، ولا يُمَيَّزُ عَنْ غَيْرِه إلَاّ بالتَّحْدِيْثِ.
نَعَمْ؛ لم يَكُنْ العِلْمُ يَوْمًا إلَاّ بِها وهَكَذا، ولم تَتَزَيَّنْ مَجَالِسُ العِلْمِ يَوْمًا إلَاّ بِها وهَكَذَا؛ حَتَّى إذَا دُوِّنَتِ الأحَادِيْثُ وحُفِظَتْ، وصُنِّفَتِ الكُتُبُ وحُرِّرَتْ، قَامَتْ عِنْدَها الإجَازَاتُ وغَيْرُها لتَأخُذَ طَرَائِقَ شَتَّى في حِفْظِ هَذِه السُّلالَةِ الأثَرِيَّةِ، والطَّرِيْقَةِ السَّلَفِيَّةِ في وَصْلِ أنْسَابِ هَذِه الكُتُبِ، والتَّشَرُّفِ بالانْتِسَابِ إلى رِجَالها ابْتِدَءًا بالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وانْتِهَاءًا بالشَّيْخِ، والحِفَاظِ عَلى خَصَائِصَ هَذِه الأمَّةِ الإسْلامِيَّةِ، وقَدْ كَانَ.
أمَّا اليَوْمَ فَلَمْ تَزَلْ غُبَّارَاتٌ سَلَفِيَّةُ تَحْتَفِظُ بِهذِه الإجَازَاتِ وِرْدًا وصُدُوْرًا، أخْذًا
وعَطَاءً إلَاّ أنَّهُم بَيْنَ غُرْبَةٍ وتَغْرِيْبٍ، واللهُ خَيْرٌ حَافِظًا!
* * *
وقَدْ ذَكَرَ الخَطِيْبُ البَغْدَادِيُّ في «شَرَفِ أصْحَابِ الحَدِيْثِ «(43)، قَوْلَ الحَافِظِ أبي بَكْرٍ مُحَمَّدٍ الأصْبَهانيُّ رحمه الله (309): «بَلَغَنِي أنَّ اللهَ تَعَالى خَصَّ هَذِه الأمُّةَ بثَلاثَةِ أشْيَاءَ، لم يُعْطِها مَنْ قَبْلِهَا: الإسْنَادَ، والأنْسَابَ، والإعْرَابَ» . انْتَهى.
وقَالَ الإمَامُ أبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ رحمه الله (277): «لم يَكُنْ في أمَّةٍ مِنَ الأمَمِ مُنْذُ خَلَقَ اللهُ أدَمَ يَحْفَظُوْنَ آثَارَ نَبِيِّهِم، وأنْسَابَ سَلَفِهِم مِثْلُ هَذِه الأمَّةِ!» .
فَقِيْلَ لَهُ: رُبَّما رَوَوْا حَدِيْثًا لا أصْلَ لَه، قَالَ:«عُلماؤهُم يَعْرِفُوْنَ الصَّحِيْحَ مِنَ السَّقِيْمِ» .
وبنَحْوِه قَالَ ابنُ حَزْمٍ رحمه الله وغَيْرُه عَنِ الرِّوَايَةِ واتِّصَالِ السَّنَدِ في «الفِصَلِ في المِلَلِ والنِّحَلِ» (2/ 221): إنَّ اللهَ خَصَّ بِه المُسْلِمِيْنَ دُوْنَ سَائِرِ أهْلِ المِلَلِ كُلِّها، وأبْقَاهُ عِنْدَهُم غَضًّا جَدِيْدًا عَلى قَدِيْمِ الدُّهُوْرِ، يَرْحَلُ في طَلَبِه إلى الآفَاقِ البَعِيْدَةِ مَنْ لا يُحْصِي عَدَدَهُم إلَاّ خَالِقُهُم، ويُوَاظِبُ عَلى تَقْيِيْدِه مَنْ كَانَ النَّاقِلُ قَرِيْبًا مِنْه. انْتَهَى بتَصَرُّفٍ.
* * *
نَعَمْ؛ فَإنَّ الإسْنَادَ سُنَّةٌ طَرَقَهَا السَّلَفُ وتَطَرَّقَها الخَلَفُ، لِذَا تَظَافَرَتْ كَلِماتُ الأئِمَّةِ، وعُلَماءِ الجَرْحِ والتَّعْدِيْلِ، وحَمَلَةِ الآثَارِ النَّبَوِيَّةِ في أهمِيَّةِ الإسْنِادِ ومَكَانَتِه،
وإلَيْكَ بَعْضًا مِنْها:
فَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ في «مُقَدِّمَةِ صَحِيْحَه «عَنْ عَبْدِاللهِ بنِ المُبَارَكِ رحمه الله، قَوْلَهُ: «الإسْنَادُ مِنَ الدِّيْنِ، ولَوْلا الإسْنَادُ لَقَالَ مَنْ شَاءَ مَا شَاء» .
ورَوَى أيْضًا عَنْ ابنِ سِيْرِيْنَ رحمه الله، قَوْلَهُ:«إنَّ هَذا العِلْمَ دِيْنٌ، فانْظُرُوا عَمَّنْ تَأخُذُوْنَ دِيْنَكُم» .
وذَكَرَ القَسْطَلانيُّ في «شَرْحِ المَوَاهِبِ «(5/ 393)، عَنِ الإمَامِ الشَّافِعِيِّ رحمه الله قَوْلَه: «الَّذِي يَطْلُبُ الحَدِيْثَ بِلا سَنَدٍ كحَاطِبِ لَيْلٍ، يَحْمِلُ الحَطَبَ وفِيْه أفْعَى لا يَدْرِي» .
وذَكَرَ السَّخَاويُّ في «فَتْحِ المُغِيْثِ «(2/ 222)، عَنِ الإمَامِ أحْمَدَ بنِ حَنْبَلٍ رحمه الله قَوْلَه: «إنَّها لَوْ بَطَلَتْ ـ الإجَازَةُ ـ لضَاعَ العِلْمُ» .
* * *
واعْلَمْ رَحِمكَ اللهُ أنَّ طَلَبَ العُلُوِّ في السَّنَدِ والرِّوَايةِ سُنَّةٌ مَاضِيَةٌ:
قَالَ الإمَامُ أحْمَدُ بنُ حَنْبَلٍ رحمه الله: «طَلَبُ الإسْنَادِ العَالي، سُنَّةٌ عَمَّنَ سَلَفَ» .
وقَالَ: «طَلَبُ إسْنَادِ العُلُوِّ مِنَ السُّنَّةِ» .
وكَذَا ذَكَرَ الخَطِيْبُ البَغْدَادِيُّ في «الجَامِعِ لأخْلاقِ الرَّاوِي» (1/ 123، 184)، قَوْلَ الإمَامِ مُحَمَّدِ بنِ أسْلَمَ الطُّوْسِيِّ رحمه الله:«قُرْبُ الإسْنَادِ، قُرْبَةٌ إلى اللهِ عز وجل» .
ومِنْ جِيَادِ مَا هُنا مَا ذَكَرَه ابنُ الصَّلاحِ في «عُلُومِ الحَدِيْثِ» (439)، أنَّه قِيْلَ ليَحْيَ بنِ مَعِيْنٍ رحمه الله في مَرَضِه الَّذِي مَاتَ فِيْه: مَا تَشْتَهِي؟ قَالَ: «بَيْتٌ خَالٍ، وسَنَدٌ عَالٍ» .
قَالَ ابنُ تَيْمِيَّةَ رحمه الله في «مِنْهَاجِ السُّنَّةِ» (7/ 37): «والإسْنَادُ مِنْ خَصَائِصِ هَذِه الأمَّةِ، وهُو مِنْ خَصَائِصِ الإسْلامِ، ثُمَّ هُو في الإسْلامِ مِنْ خَصَائِصِ أهْلِ السُّنَّةِ.
والرَّافِضَةُ أقَلُّ عِنَايَةً بِه، إذْ لا يُصَدِّقُوْنَ إلَاّ بِما يُوَافِقُ هَوَاهُم، وعَلامَةُ كَذِبِه عِنْدَهُم، أنَّه يُخَالِفُ هَوَاهُم» انْتَهى.
فَمِنْ عَلامَاتِ أهَلِ السُّنَّةِ: حُبُّهم للحَدِيْثِ والأثَرِ: رِوَايَةً ودِرَايَةً، قَوْلاً وعَمَلاً، وهَلِ الإيْمانُ إلَاّ قَوْلٌ وعَمَلٌ، يَزِيْدُ ويَنْقُصُ؟!
وكَذَا حِفْظُهُم لَه: تَألِيْفُا وتَصْنِيْفًا، إجَازَةً ووِجَادَةً
…
ولَوْلا حِفْظُ اللهِ عز وجل للحَدِيْثِ بأهْلِه ورِجَالِه، لَدُرِسَ الدِّيْنُ بَعْدَ جِدَّةٍ، وتَقَوَّضَتْ أرْكَانُه بَعْدَ شِدَّةٍ!
وأمِّا أهْلُ البِدَعِ والأهْوَاءِ، فَلا شَيءَ مِمَّا ذُكِرَ هُنا؛ اللَّهُمَّ هَوَىً مُتَّبَعٌ، وتَقْلِيْدٌ مُبْتَدَعٌ!
* * *
قُلْتُ: ولَو لم يَكُنْ في فَضْلِ الإسْنَادِ إلَاّ انْتِظَامُ الرَّاوِي في سِلْسِلَةٍ سَلِسَةٍ مَعَ اسْمِ المُصْطَفَى صلى الله عليه وسلم؛ لَكَفَى بِذَلِكَ شَرَفًا وفَضْلاً ونُبْلاً!
ومَا أجْمَلَ مَا قَالَهُ أبُو حَاتِمٍ البُسْتِيُّ رحمه الله في كِتَابِه «المَجْرُوْحِيْنَ» (1/ 89) عِنْدَ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «لا تَزَالُ طَائِفَةٌ
…
ولَيْسَ في هَذِه الأمَّةِ طَائِفَةٌ أكْثَرَ صَلاةً عَلى رَسُوْلِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ هَذِه الطَّائِفَةِ؛ فَهُم عَلى وُجُوْهِهِم في هَذِه الدُّنْيا يَهِيْمُوْنَ، وبتَعْلِيْمِ السُّنَنِ فِيْها يَنْعَمُوْنَ، وعَلى حُسْنِ الاسْتِقَامَةِ يَدُوْرُوْنَ، ولأهْلِ الزَّيْغِ والآرَاء يَقْمَعُوْنَ، وعَلى السَّدَادِ في السُّنَّةِ يَمُوْتُوْنَ، وعَلى الخَيْرَاتِ في العُقْبَى يُقَدِّمُوْنَ، أولَئِكَ حِزْبُ اللهِ ألا إنَّ حَزْبَ اللهِ هُمُ المُفْلِحُوْنَ» انْتَهَى.
ومِنْ نُكَاتِ هَذَا العِلْمِ مَا ذَكَرَهُ السَّخَاويُّ في «فَتْحِ المُغِيْثِ «(2/ 400)، عنْ أبي الحَسَنِ ابنِ النِّعْمَةِ رحمه الله (567): لم يَزَلْ مَشَايُخُنَا في قَدِيْمِ الزَّمَانِ يَسْتَعْمِلُوْنَ هَذِه الإجَازَاتِ، ويَرَوْنَها مِنْ أنْفَسِ الطَّلَبَاتِ، ويَعْتَقِدُوْنَها رَأسَ مَالِ الطَّالِبِ، ويَرَوْنَ مَنْ عُدِمَها المَغْلُوْبَ لا الغَالِبَ
…
» انْتَهَى.
* * *
وأخِيْرًا، فَهَذِه جُمَلٌ نَذْكُرُ فِيْها فَوَائِدَ الإجَازَةِ عَلى اخْتِصَارٍ:
ـ مِنْها: أنَّ فِيْها مَا ذَكَرَهُ أبُو بَكْرٍ ابنُ خَيْرٍ الإشْبِيْليُّ رحمه الله في مُقَدِّمَةِ «فِهْرِسَتِه» (15 - 16): «واعْلَمُوا رَحِمَكُمُ اللهُ، أنَّ الإجَازَةَ أمْرٌ ضَرُوْرِيٌّ في الرِّوَايَةِ، بِها تَتِمُّ وتَكْمُلُ، وإلَاّ كَانَتْ نَاقِصَةً لا مَحَالَةً.
أخْبَرَنا أبُو مُحَمَّدٍ ابنِ عَتَّابٍ عَنْ أبِيْه أبي عَبْدِ اللهِ ـ وكَانَ مِنْ أهْلِ التَّيَقُّظِ والتَّحَرُّزِ والتَّحَفُّظِ في الرِّوَايَة ـ أنَّه قَالَ: لا غِنَى لطَالِبِ الحَدِيْثِ عَنِ الإجَازَةِ: سَمِعَ مَنْ يَحْمِلُهُ عَنِ المُحَدِّثِ، أو عَرَضَهُ عَلَيْه، أو سَمِعَه بِعَرْضِ غَيْرِه عَلَيْه، لِجَوَازِ الغَفْلَةِ والسِّنَةِ والإسْقَاطِ والتَّصْحِيْفِ والتَّبْدِيْلِ عَلَيْهِما، أو عَلى أحَدِهِما.
فإنْ كَانَ المُحَدِّثُ هُوَ القَارِئ بلَفْظِه، فَجَائِزَ السَّهْوِ عَلى المُسْتَمِعِ، وذِهَابَ مَا يَقْرَأ عَلَيْه، وإنْ كَانَ غَيْرَه، فَجَائِزٌ أنْ يَسْهُوَ الَّذِي يَقْرَأ عَلَيْه، فَإذَا أُضِيْفَتِ الإجَازَةُ إلى السَّماعِ أو العَرْضِ احْتَوَتِ الإجَازَةُ عَلى جَمِيْعِ مَا تَقَعْ فِيْه غَائِلَةٌ مِنْ هَذِه الغَوَائِلِ. هَذَا مَعْنَى كَلامِ الشَّيْخِ دُوْنَ لَفْظِه» أهـ.
ـ ومِنْها: اسْتِعْجَالُ الرِّوَايَةِ عِنْدَ الضَّرُوْرَاتِ.
ـ ومِنْها: الاسْتِكْثَارُ مِنْ المَرْوِيِّ؛ حَتَّى لا يَكَادُ أنْ يَشُذَّ حَدِيْثٌ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، إلَاّ وقَدْ حَصَّلَه الطَّالِبُ ورَوَاهُ.
وهَذَا مَا ذَكَرَهُ أيْضًا ابنُ خَيْرٍ الإشْبِيْليُّ ص (16/ 17): «واعْلَمُوا وَفَّقَكُم اللهُ، أنَّ في الإجَازَةِ فَائِدَتَيْنِ: إحْدَاهُما: اسْتِعْجَالُ الرِّوَايَةِ عِنْدَ الضَّرُوْرَاتِ.
والثَّانِيَةُ: الاسْتِكْثَارُ مِنَ المَرْوِيِّ؛ حَتَّى لا يَكَادُ أنْ يَشُذَّ عَمَّنْ اسْتَكْثَرَ مِنَ المَرْوِيَّاتِ حَدِيْثٌ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، إلَاّ وَقَدِ احْتَوَتْ رِوَايَتُه عَلَيْه، فَيَتَخَلَّصَ بِذَلِكَ مِنَ الحَرَجِ في حِكَايَةِ كَلامِهِ مِنْ غَيْرِ رِوَايَةٍ.
فَقَدْ سَمِعْتُ الخُطَبَاء عَلى المنَابِرِ، وأعْيَانَ النَّاسِ في المَشَاهِدِ والمَحَاضِرِ، يَذْكُرُوْنَ أقْوَالَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، ولا رِوَايَةَ عِنْدَهُم لهَا!
وقَدِ اتَّفَقَ العُلَماءُ رحمهم الله عَلى أنَّه لا يَصِحُّ لمُسْلِمٍ أنْ يَقُوْلَ: قَالَ رَسُوْلَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَذَا؛ حَتَّى يَكُوْنَ عِنْدَه ذَلِكَ القَوْلُ مَرْوِيًّا، ولَوْ عَلى وُجُوْهِ الرِّوَايَاتِ، لِقَوْلِ رَسُوْلِ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«مَنْ كَذَبَ عَليَّ مُتَعَمِّدًا، فَلْيَتَبَوَّأ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» (1)، وفي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ:«مَنْ كَذَبَ عَليَّ «مُطْلَقًا دُوْنَ تَقْيِيْدٍ» .
ـ ومنها: حِفْظُهَا لجَمِيْعِ مُصَنَّفَاتِ أهْلِ الإسْلامِ، وذَلِكَ بدَوَامِ أسَانِيْدِها، واتِّصَالِ رِجَالِها؛ لانْقِطَاعِ اتِّصَالِ السَّمَاعِ بالمُؤلِّفِ، مَعَ قِدَمِ الدَّهْرِ.
وهَذا مَا قَالَه الحَافِظُ أبُو طَاهِرٍ السِّلَفِيُّ رحمه الله في «الوَجِيْزِ في ذِكْرِ المُجَازِ والوَجِيْزِ» (54 - 55): «ولا يُتَصَوَّرُ أنْ يَبْقَى كُلُّ مُصَنَّفٍ قَدْ صُنِّفَ كَبِيْرٌ، ومُؤلِّفٍ كَذَلِكَ صَغِيْرٌ عَلى وَجْهِ السَّماعِ المُتَّصِلِ عَلى قَدِيْمِ الدَّهْرِ المُنْفَصِلِ، ولا يَنْقَطِعُ مِنْه شَيءٌ بِمَوْتِ
(1) أخْرَجَهُ البُخَارِيُّ (110)، ومُسْلِمٌ (3).
الرُّوَاةِ، وفَقْدِ الحُفَّاظِ الوُعَاةِ، فَيُحْتَاجُ عِنْدَ وُجُوْدِ ذَلِكَ، بَعْدَ اسْتِعْمالِ سَبَبٍ فِيْه بَقَاءُ التَّألِيْفِ، ويَقْضِي بدَوَامِهِ، ولا يُؤدِّي بَعْدُ إلى انْعِدَامِه.
فَالوُصُوْلُ إذَنْ إلى رِوَايَتِه بالإجَازَةِ، فِيْه نَفْعٌ عَظِيْمٌ، ورِفْدٌ جَسِيْمٌ، إذِ المَقْصُوْدُ بِه إحْكَامُ السُّنَنِ المَرْوِيَّةِ في الأحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، وإحْيَاءُ الآثَارِ عَلى أتَمِّ الإيْثَارِ، سَوَاءٌ كَانَ بالسَّماعِ أو القِرَاءَةِ أو المُنَاوَلَةِ والإجَازَةِ».أهـ
ـ ومِنْهَا: حِفْظُها لأسْماءِ الكُتُبِ، ونِسْبَتِها لمؤلِّفِيْها.
ـ ومِنْهَا: أنَّها مِيْزَانُ ومِعْيَارُ قَبُوْلِ الرِّوَايَةِ ورَدِّها؛ ولَوْلاهَا: لَقَالَ مَنْ شَاءَ مَا شَاءَ، كَما قِيْلَ.
ـ ومِنْهَا: أنَّ الإجَازَةَ تُعْتَبْرُ أنْسَابًا للكُتُبِ، كَما قِيْلَ.
ـ ومِنْها: الرِّفْقُ بطَالِبِ العِلْمِ ممَّنْ لا يَسْتَطِيْعُ السَّفَرَ والرِّحْلَةَ، إلى كُلِّ بَلَدٍ.
وهَذا مَا قَالَه الحَافِظُ أبُو طَاهِرٍ السِّلَفِيُّ رحمه الله في «الوَجِيْزِ «(57): «ومِنْ مَنَافِعِ الإجَازَةِ أيْضًا: أنْ لَيْسَ كُلُّ طَالِبٍ، وبَاغٍ للعِلْمِ ورَاغِبٍ، يَقْدِرُ عَلى سَفَرٍ ورِحْلَةٍ، وبالخُصُوْصِ إذَا كَانَ مَرْفُوْعًا إلى عِلَّةٍ أو قِلَّةٍ، أو يَكُوْنَ الشَّيْخُ الَّذِي يَرْحَلُ إلَيْه بَعِيْدًا، وفي الوُصُوْلِ إلَيْه، يَلْقَى تَعَبًا شَدِيْدًا، فالكِتَابَةُ حِيْنَئِذٍ أرْفَقُ، وفي حَقِّهِ أوْفَقُ، ويُعَدُّ ذَلِكَ مِنْ أنْهَجِ السَّنَنِ، وأبْهَجِ السُّنَنِ، فَيَكْتُبُ مَنْ بِأقْصَى المَغْرِبِ إلى مَنْ بأقْصَى المَشْرِقِ، فيَأذَنُ لَه في رِوَايَةِ مَا يَصِحُّ لَدِيْه مِنْ حَدِيْثِه عَنْه، ويَكُوْنُ
ذَلِكَ المَرْوِيُّ حُجَّةً، كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم.
فَقَدْ صَحَّ عَنْه صلى الله عليه وسلم أنَّه كَتَبَ إلى كِسْرَى وقَيْصَرَ وغَيْرِهما، مَعَ رُسُلِهِ، فَمَنْ أقْبَلَ عَلَيْهِم وقَبِلْ مِنْهُم، فَهُو حُجَّةٌ لَه، ومَنْ لم يَقْبَلْ ولم يَعْمَلْ فَحُجَّةٌ عَلَيْه» انْتَهَى.
ـ ومِنْهَا: كُوْنُها مَصَادِرَ لتَرَاجِمِ الشُّيُوْخِ، والتَّعْرُّفِ عَلى سِيَرِهِم ومَسْمُوْعَاتِهم، وخَاصَّةً صَاحِبَ المَشْيَخَةِ نَفْسَه؛ لاسِيَّما في اتِّصَالِ أسَانِيْدِ صَاحِبِ المَشْيَخَةِ بكُتُبٍ مُعَيَّنَةٍ.
ـ ومِنْهَا: أنَّ فِيْها رَبْطًا بَيْنَ الطَّالِبِ والشَّيْخِ؛ حَيْثُ كَانَتْ الرِّحْلَةُ مِنْ أجْلِها في طَلَبِ الحَدِيْثِ، وقَطْعِ الفَيَافي والقِفَارِ، وإيْثَارِ لِقَاء الشُّيُوْخِ، والعُلُوِّ والسَّماعِ، عَلى الدَّعَةِ والرَّاحَةِ.
ـ ومِنْهَا فَوَائِدُ غَيْرُ مَا ذُكِرَ؛ قَدْ ذَكَرَهَا أهْلُ العِلْمِ اسْتِقْلالاً أو تِبَاعًا تَجِدُهَا في مَضَانِّها لاسِيَّما كُتُبُ عُلُوْمِ الحَدِيْثِ، والمَعَاجِمِ، والمَشْيَخَاتِ، والإجَازَاتِ وغَيْرِهَا.
* * *
ومَهْما يَكُنْ مِنْ فَائِدَةٍ ذُكِرَتْ هُنَا أو نُسِيَتْ، أو ظَهَرَتْ أو خَفِيَتْ؛ فَهِي في مجمُوْعِها تُدَنْدِنُ حَوْلَ أمْرَيْنِ، بَلْهَ في فَلَكِهِما تَدُوْرُ، فَقَمِنٌ بطَالِبِ الإجَازَاتِ أنْ يجْعَلَهُما نَصْبَ عَيْنَيْه، وهُما:
أوَّلاً: أنَّ الإجَازَاتِ تَسرُّ، ولا تَغرُّ!
ثَانِيًا: أنَّها تَزِيْدُ في العِلْمِ والأعْمالِ، لا التَّعَالمِ والإهمَالِ!
فإنْ شِئْتَ؛ يا رَعَاكَ اللهُ، فَقُلْ: إذَا لم تُوْرِثِ الإجَازَاتُ صَاحِبَهَا نِيَّةً خَالِصَةً، وأعْمالاً صَالحَةً، فَهِي حُجَّةٌ عَلَيْه لا لَه، عَوْذًا باللهِ، فَتَأمَّلْ!