الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأصل الثاني: في الحكم وأقسامه:
حد بأنه خطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين.
ونقض
طرده بمثل: (والله خلقكم وما تعلمون)؛ فإنه متعلق بأفعالهم، وليس حكما، فزيد:(بالاقتضاء أو التخيير).
ونقض العكس بكون الشيء دليلا كالدلوك، وسببا كالبيع، وشرطا كالطهارة، وهي أحكام، فزيد:(أو بالوضع)، فأورد ما في (أو) من الترديد.
والأولى: خطاب الشرع بغاية شرعية مختصة به، أي لا تفهم إلا منه، لكونه إنشاء لا خارج له يفهم منه ليخرج مثل (غلبت الروم)؛ لجواز علمه من خارج.
وهو إن كان طلبا لفعل ينتهض تركه في جميع وقته سبا لاستحقاق العقاب فوجوب، وزاد الأشعري:(لفعل غير كف)، ودخل الواجب الموسع.
أو: لفعل ينتهض فعله خاصة للثواب فندب، و (خاصة) يفيد أن الترك لا يترتب عليه شيء.
أو لترك يصير فعله سببا لاستحقاق العقاب فتحريم.
أو لترك يصير تركه خاصة للثواب فكراهة، وإن لم يكن طلبا فإن كان تخييرا فإباحة، وإلا فوضعي.
وقد علم بذلك حدودها.
فصل: الواجب متعلق الوجوب.
فقيل: هو الفعل الذي ينتهض تركه سببا للعقاب، وحد بما يعاقب تاركه، وبما توعد به على تركه وبما يخاف.
وجواز العفو يرد الأول، وصدق إيعاد الله تعالى يرد الثاني، وما يشك في وجوبه الثالث.
والقاضي بما يذم تاركه شرعا بوجه ما.
وقال: (بوجه ما) ليدخل الموسع والكفاية؛ رعاية للعكس، فأدخل بالطرد لورود الناسي والنائم والمسافر؛ فإنه يذم بتقدير انتفائه، كما يذم في الكفاية بتقدير ترك الجميع.
فإن زعم أنه يسقط بذلك قلنا: ويسقط بفعل البعض، فلا حاجة إليه.
تنبيه: وعلى هذا فالفرض والواجب مترادفان، وعندنا متباينان.
فالفرض لغة: التقدير والقطع، والوجوب السقوط والاضطراب.
وفي العرف: الفرض الثابت بمقطوع به، والواجب: بمظنون.
وحكم الفرض اللزوم علما وعملا فيكفر جاحده، ويفس تاركه بغير عذر، وحكم الوجوب: اللزوم عملا فلا يكفر جاحده، ويفسق تاركه إن استخف بسببه لا إن تأول.
واعترض بأن الاختلاف في طرق إثبات الحكم ليكون هذا معلوما وذلك مظنونا لا يوجب اختلاف ما يثبت به؛ ولهذا فإن اختلاف طرق الواجبات في الظهور والخفاء والشدة والضعف لا يوجب اختلاف الواجب من حيث
هو هو، واختلاف طرق النوافل لا يوجب اختلاف حقائقها.
وأجيب: بأن اختلاف الدليل في إثبات العلم والظن اختلاف في ماهية الحكم؛ لتباين المعلوم والمظنون، والاختلاف في الشدة والضعف وطرق النوافل في لواحق الماهية بعد ثبوتها.
فروع:
فمطلق القراءة فرض بالمقطوع (اقرؤوا ما تيسر)، والفاتحة
واجبة بالمظنون (لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب)، (كل صلاة بغير فاتحة الكتاب خداج)، فوجب العمل على إنه إكمال للأول.
وكذا مطلق الركوع بـ (اركعوا)، والتعديل واجب بخبر الواحد، وكذا مطلق الطواف
(وليطوفوا) مع الطهارة، وكذا تأخير المغرب إلى العشاء بمزدلفة واجب، فإن صلى في الطريق أعاد عند أبي حنيفة ومحمد رضي الله عنهما؛ عملا به، فإن أهمل فطلع الفجر لم يعد لخروج وقت العشاء الذي وجب التأخير إليه، فلو وجبت الإعادة بعده لحكم بفساد المغرب بخبر الواحد، والصحة ثابتة بالمقطوع.
وكذلك الحطيم من البيت بخبر الواحد، فوجب الطواف به احتياطا، ولم يصح التوجه إليه وحده لثبوته بالكتاب.
مسألة: الفقهاء في الواجب المخير -كخصال الكفارة- أنه واحد يعينه
فعل المكلف، والجبائي وابنه: أن الكل واجب على التخيير، وآخرون أنه واحد معين عند الله تعالى، ويسقط بفعله أو فعل غيره.
لنا: أن الأمر بواحد من أشياء جائز عقلا، فإنه يصح تكليف المولى عبده بكتابة هذا الكتاب أو ذاك على أن يثيبه على أيهما كتب، ويعاقبه بترك الجميع، والنص دال عليه؛ فإنه لم يرد الكل ولا واحدا بعينه، فتعين المبهم.
أما الأول: فلأن التخيير لو أوجب الجميع لوجب عتق الكل إذا وكله في إعتاق أحد عبديه، والتزويج بالخاطبين إذا وكلته بأحدهما.
وأما الثاني: فلأنه ينافي التخيير.
قالوا: غير المعين مجهول مطلقا، فاستحال التكليف به لاستحالة وقوعه منه، فوجب الكل، أو معين.
قلناك ممنوع؛ فإنه معلوم من حيث هو واجب واحد من ثلاثة، وإن أطلق عليه غير المعين لخصوصية أحد الثلاثة فصح التكليف لإمكان الوقوع.
قالوا: لو لم يجب الكل لوجب واحد، فإن تعين انتفى التخيير، أو وقع بين واجب وغيره، وإن لم يتعين فواحد غير واجب، فإن تغايرا لزم التخيير بين واجب وغيره، أو اتحدا اجتمع الوجوب وعدمه.
قلنا: لازم في التزويج والإعتاق.
والحق أن الواجب غير مخير فيه؛ لإبهامه، والتخيير فيه مجاز عن أفراده، والمخير فيه الأفراد، وليس بواجب، وإذا تعدد متعلق الواجب والمخير فيه تعددا، كما لو حرم واحدا وأوجب واحدا قالوا: يجب الكل، ويسقط بالواحد اعتبارا بفرض الكفاية، قلنا: العقاب بترك واحد من ثلاثة معقول، وقعاب واحد غير معين غير معقول، والإجماع على تأثيم الجميع هناك وتأثيمه بترك الواحد هنا.
قالوا: لو ثبت لوجب كونه معلوما عند الله لاستحالة إيجاب ما ليس بمعلوم.
قلنا: يعلمه حسبما أوجبه، وقد أوجبه غير معين، فيعلمه كذلك.
قالوا: يعلم ما يفعله المكلف، فيوجبه لامتناع إيجاب ما علم عدم وقوعه.
قلنا: ممنوع؛ وإلا لما وجب على الكافر ما علم عدم وقوعه.
ولئن سلم منع أن المفعول بخصوصه هو الواجب؛ للقطع بتساوي الخلق في الواجب، وعدم اختلافه بالنسب.
مسألة: الجمهور في الواجب الموسع -كالظهر في وقتها- أن جميعه
وقت للأداء.
والقاضي: أن الواجب الفعل أو العزم، وآخره متعين.
ومن الشافعية من عين أوله للأداء، فإن أخر فقضاء.
ومن الحنفية من عكس، وإذا قدم فنفل يسقط الفرض.
والكرخي: إن بقي بصفة المكلفين فما قدم واجب.
وفخر الإسلام رحمه الله ما نذكره في التقسيم بعد.
قالوا: الأمر أفاد الجميع إذ ليس المراد تطبيق أجزاء الصلاة على أجزاء الوقت، ولا تعيين جزء؛ لانتفاء دلالة اللفظ، فالتخصيص والتخيير تحكم.
ولأنه لو تعين من الموسع جزء فما تقدمه غير صحيح، وما تأخر قضاء، فيلزم العصيان.
القاضي: هو مخير في أول الوقت بين الفعل والعزم، فإذا أتى بأحدهما لم يعص، كخصال الكفارة.
أجيب: بأنه أول الوقت ممتثل؛ لأنه مصل، لا لأنه آت بأحد الأمرين.
وبأنه لو كان العزم بدلا وقد أتى به سقط المبدل، كما في سائر الأبدال.
ووجوب العزم على فعل كل واجب مضيقا أو موسعا من أحكام الإيمان.
وقال المعين للآخر: لو وجب من أوله لعصى بالتأخير؛ لتركه الواجب بغير عذر.
أجيب: بأنه مؤخر لا تارك مطلقاً، وله التأخير والتعجيل.
تقسيم:
العبادة إما غير مؤقتة وتجب على التراخي، خلافا للكرخي، أو مؤقتة ووقتها إما ظرف للمؤدى وشرط للأداء وسبب للوجوب كوقت الصلاة فإنه يفضل عنها
وتفوت بفوته ويمتنع تقديمها وتتبعه في وصفه. أو سبب ومعيار كالصوم فإنه مقدر به وشهود الشهر سبب مطلقا، ولهذا صح صوم المسافر عن الفرض، أو معيار لا سبب كالنذر والكفارة والقضاء، أو له من كل حظ وهو المشكل كوقت الحج فإنه فاضل فأشبه الصلاة، ولا يتصور في العام إلا حجة فأشبه الصوم ووقت الأداء أيضا مشتبه فإنه فرض العمر، وفي تعيين العام الأول خلاف والمؤخر إلى الثاني مؤد إجماعا. أما الأول فلا يمكن إضافة السببية إلى مجموع الوقت، وإلا فالأداء بعده خارج عن الوقت، وفيه تقديم على مجمووع السبب فوجب البعض
ولهذا وجب فرض الوقت على من أسلم أو طهرت وأيامها عشرة آخر جزء وأول الأجزاء موجود لا مزاح له، فكان أولى بالسببية لصحة الأداء لكن لا على التضييق، فليس من ضرورة نفس الوجوب الأداء للحال واعتبر بالثمن والمهر يجبان بالعقد والأداء بالطلب، والمكلف مخير بين التعجيل والتأخير فكان الوجوب بالسبب والأداء بالخطاب وإنما تعين إذا تضيق الوقت، ولهذا لم يكن على من مات قبل التضيق فرضه فإذا فات الجزء الأول ولم يتصل به الأداء انتقلت السببية إلى الثاني وهلم جرا. لأنه لما تضف إلى المجموع كان الجزء المتصل به الأداء أحق فإذا انتهى إلى آخر الوقت خوطب بالأداء واستقرت السببية واعتبر حال ذلك الجزء، فإن كان صحيحا كان الوجوب كاملا كما في الفجر فيفسد باعتراض الطلوع
أو فاسدا كالعصر تنشأ وقت الكراهة كان ناقصا فلم تفسد بالغروب، ولا يلزم ما إذا ابتدأها أول الوقت واعترض الاحمرار فإنها لا تفسد لأن الشرع أباح تعميم الوقت بالأداء، ومن ضرورته الحكم بالصحة لتعذر التحرز، وإذا خلا الوقت عن الأداء أمكنت الإضافة إلى المجموع لانتفاء ضرورة النقل إلى الجزء فيظهر في العصر تقضى وقت الاحمرار لا يصح لوجوبها كاملة سبب كامل فلا تقضى ناقصة. ومن أحكامه اختيار الإيقاع في الأجزاء والتعيين بالفعل كخصال الكفارة، وتأخيره عن الوقت مفوت ولا تنفي شرعية فرض الوقت شرعية غيره لكونه ظرفا.
والنية شرط وتعيينها أيضا لعدم التعيين بمطلق الاسم، ولا يسقط التعيين بالتضييق لأنه يعارض تقصير المكلف. وأما الثاني فحكمة انتفاء شرعية غيره معه ضرورة كونه معيارا فلا يجتمع فيه وصفان. فقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: لو أدى المسافر واجبا عليه أو تنفل فيه لم
يجز لأن رخصة الفطر لا تَجعل غيرَ الفرض مشروعا في وقته، وقال أبو حنيفة: رخصةُ الترك لِحَقِّه تخفيفا، ومن التخفيف صحةُ القضاء فيه، ولأنه غيرُ مطالَب بالأداء الآنَ، فنُزِّل منزلةَ شعبان. والعلة الأولى تمنع النقلَ، والثاني تسوِّغُهما، وهما روايتان، وإطلاقُ النية يُوقِع عن رمضان في الأصح؛ لأن العزيمة والرخصة لا يظهر بها، والمريض يفارق المسافرَ في تعلق رخصة المريض بحقيقة العجز دونه، فيقعُ صومُه عن الفرض مطلقا في الأصح.
تنبيهٌ:
قال زُفَرُ: إذا تعيَّنت المشروعيةُ فما تصور فيه من إمساكٍ فرضٌ؛ لأنه هو المستحَقُّ على المكلف، فلم يحتج إلى تعيين، كهبة النصاب من الفقير.
قلنا: العبادة اختيارية، والقربة قَصْدية، وعدمُ (صحة غيرِ المشروع، لكونه) غيرَ مشروع، لا لاستحقاق المشروع، وهبةُ النصاب مَجازٌ عن الصدقة استحسانًا.
تنبيهٌ:
فقال الشافعي: لما كانت اختياريةً، وجب تعيينُ الرمضانية أيضًا.
قلنا: نعم، إلا أن العبادة متحدة في زمانها، فكان الإطلاقُ تقييدا، والخطأُ في الوصف غيرَ مانع
تنبيهٌ:
ولما وجب التعيينُ قال الشافعي: وجب من أوله؛ لافتقاره إلى النية، والعبادةُ متحدة، فإذا خلا بعضُها فسد، فلم يُفِد اعتراضُها من بعدُ، كما لو تأخَّرتْ عن الزوال، والتبييتُ إيقاعٌ لها قبلها، فصح.
قلنا: النيةُ للقربة، والعبادة متحدةٌ صحةً وفسادا، ودَوامُها وقِرانُها لأول جزء ساقطٌ للعجز المُبيحِ لجوازِ التقديمِ مع الفصلِ حقيقةً والاتصالِ حُكمًا، والعجزُ المبيحُ للتأخير مع الاتصال قائمٌ؛ فيمن
أفاق، أو قام بعد الصبح، ويومَ الشك، وللأول فضلُ الاستيعاب، وللثاني فضلُ الاتصال؛ فاستويا، والترجيحُ بالوجود أولى من الحال وكان موجودا مع الكل حكما للاتحاد؛ إقامةً للأكثر مقامَ الكل
تنبيهٌ:
ومن هذا: النذرُ المعيَّن؛ فإنه لا يَقبل صفةَ النفلية؛ لاتحاد العبادة، فتصح بمطلق النية، ومع الخطأ في الوصف، ويَتوقف مطلقُ إمساكه عليه، ولو أداه عن قضاء أو كفارةٍ صحَّ؛ لأن تعيينه عملٌ في إعدام النفلية التي هي حقُّه، لا في استعداد الوقت للقضاء والكفارة؛ لأنها حق الشرع
وأما الثالثُ فحكمُه: وجوبُ النية في الأكثر، ويَتوقف الإمساكُ على المشروع في الوقت؛ وهو النفل، فوجبت من أوله، ولم يَتوقف على الواجب؛ لأن التعيين من العبد، والتوقف لِمَا عُيِّن بالشرع، ولا يفوتُ؛ لعدم تعيُّن الوقت
وأما الرابعُ؛ فحكمُه عند
أبي يوسف إيجابُه مُضيَّقا، وعند محمد مُوسَّعا؛ بشرط عدمِ التفويت عن العمر، وأثرُ الخلاف في الإثم، وبنى بعضُهم الخلافَ على أن الأمر للفور عنده؛ خلافا لمحمد، والصحيحُ الاتفاقُ أن الأمرَ لا يُفيده، لكنْ محمد يقول: نسبةُ أوقات الحج كلَّ عام إلى العمر نسبةُ أيامِ قضاءِ رمضانَ، وإنما تتعيَّن أيامُه بالفعل، كذا ههنا، وهو مُؤَدٍّ إجماعا، ولو تعين الأولُ، كان قاضيا، ولَمَا صح فيه النفلُ، وأبو يوسف يَجعل العامَ الأولَ كوقت الظهر لفرضه؛ لتوجُّه الخطاب عند الإمكان، ولا مُزاحِمَ إلا بإدراك عام ثانٍ هو مشكوكٌ فيه، فلا مزاحمةَ، فتعيَّن، وخالَفَ أيامَ القضاء في أن إدراك اليوم الثاني ليس بنادر، فلم يفُتِ التأخيرُ؛ كأنه أدرك كلَّ الأيام، فيتخيَّر، فلم يتعين أولُها، وإنما جاز النفلُ لأن الحكم بالتعيين للاحتياط، فظهر في الإثم، وإنما كان في الثاني مؤديا (لأن تعيين) الأول للشك في إدراكه،
فإذا أُدرِك زال الشكُّ وقام مَقامَ الأول
ومن حُكمِه أن وقته ظرفٌ، فلم يَمنع شرعيةَ غيره فيه، فقلنا: إن التطوع يصحُّ في من لم يؤدِّ الفرضَ؛ خلافا للشافعي، ويصح بمطلقِ النية؛ على أن الحالة معيِّنةٌ للفرضية؛ فإن الظاهر أن لا يتنفل فيه من لم يؤدِّ فرضَه، فإنْ عيَّن النفلَ بطَلت الدلالةُ بالصريح، بخلاف رمضان؛ فإن وقته معيارٌ، ولا مزاحِمَ فيه، فلَغَت نيةُ النفلِ فيه، لا باعتبار المؤدَّى، بل بالنسبة إلى الواجب
تقسيماتٌ:
على أصولنا: الأداء في المؤقت: الإتيانُ بعين الواجب في وقته
الشرعي، وفي غير المؤقت مطلقا، وقضاءُ المؤقت: الإتيانُ بمثل الواجب خارجَ وقته، وغير المؤقت مطلقا، ومن الأداء كاملٌ؛ كصلاة الجماعة، وقاصرٌ؛ كالمنفرد حيث سقط الجهر، وكالمسبوق، ومُشبِهٌ للقضاء؛ كالمؤتم النائم، والمحدثِ يتوضأ ويعود بعد فراغ إمامه؛ فإنهم قالوا -في مسافر اقتدى بمثله في الوقت، فنام حتى فرغ الإمامُ، ثم (سبقه الحدثُ) فدخل مصرَه للوضوء والوقتُ باقٍ-: يَقصُر، ولو تكلم أثم، ولو لم يفرُغ أو كان مسبوقا يُتِم، ولو تكلم لأتم أيضا، والأصلُ أنه
مؤدٍّ؛ باعتبار قيام الوقت، قاضٍ؛ باعتبار فراغ الإمام؛ لأنه كان يقضي ما انعقدت له تحريمتُه بمثله فوجب بالسبب الموجب للأصل، (فما لم يتغير الأصلُ) لم يتغير المثلُ، فإذا لم يفرغ فوجد من المقتدي ما يوجب إكمالَ صلاته تمت بدخول المصر كونه [لكونه] مؤديا في الوقت، وإن وجد بعد فراغه فاعتراضُ الكمال على القضاء لا يغيِّره عن وصف الأداء، كما لو وُجد المغيِّر بعد خروج الوقت، وإذا تكلم بطَل معنى القضاء فعاد إلى الأداء، فتغير بالمغير لقيام الوقت، بخلاف المسبوق؛ لأنه مؤد، فلهذا فإن اللاحِقَ لا يقرأ ولا يسجدُ للسهو، والمسبوق يأتي بهما؛ لأنه قاضٍ ما انعقد له إحرامُ الجماعة
تقسيمٌ:
ومن القضاء ما هو بمِثْلٍ معقولٍ؛ كقضاء الصوم والصلاة بمثلهما مع سقوط شرف الوقت، وغيرِ معقول؛ كالفدية في الصوم وثواب الإنفاق في الحج، فالمثليةُ قائمةٌ نَصًّا {فدية طعام مسكين}
و (دَيْنُ الله أحق أن يقضى) فيقتصر عليه، ولهذا قال أبو حنيفة وأبو يوسف: إذا أدى خمسةً زُيوفا عن جِيادٍ في الزكاة، يجوز؛ لأن الجودة لا مِثلَ لها صورةً ولا معنًى؛ لعدم التقوُّم، فسقطت، وكذا لا يَقضي الوقوفَ ولا الرميَ ولا الأضحية، فإن قيل: أوجبتُم التصدقَ بالعين أو بالقيمة،
قلنا: ثبتت التضحيةُ قربةً بالنص، مع احتمال أن يكون التصدقُ بأحدهما أصلًا؛ لأنه هو المشروع في الأموال، نُقِل إلى التضحية، واحتَمَل العكسَ، وهو الظاهر، فيُصار إليه عند القدرة، وإذا بطَلت تعيَّنت الصدقة احتياطا، لا لأنها مثلٌ، بل أصلٌ من وجه.
ومنه قضاءٌ يُشبِه الأداءَ؛ كمن أدرك إمامَه في العيد راكعا، يكبِّرُ وإن كان موضعُه
قد فات بلا مثل، واقتضى القياسُ السقوطَ، إلا أن للركوع شَبَهًا بالقيام، فكأنه مُدرِكُ مكانِه، فيثبت احتياطا، ولهذا تُحسَب تكبيرةُ الركوع منها، وليست في حال محض القيام، وكقضاء السورة الفائتة من الأُولَيين في الأُخرَيَين؛ لكون الصلاةِ محلَّ القراءة احتياطا، بخلاف الفاتحة؛ لأن شرعيتها في الأخريَين احتياطا، فلم يُمكن صرفُها إلى ما عليه، ولم يمكن اعتبارُ تصحيح الأداء؛ لأنه مشروعٌ أداءً فيتكرر، والسورةُ لا تجبُ قضاءً؛ لأنه لا سورة في الأُخريَين ليَصرِفَهما إلى ما عليه، وإنما وجبت تتميما لمعنى الأداء، فاقترفا
تقسيمُها في حقوق العباد:
أما الأداءُ الكامل فكرَدِّ المغصوب، وأما القاصرُ فكرَدِّ العبد المشغولِ عنده بالجناية، وكأداءِ الزَّيف في الدَّين إذا لم يَعلم القابضُ، أداءً بأصله دون
وصفه، فلو هلَكتْ بطَل حقُّه عند أبي حنيفة ومحمد؛ نظرًا إلى استيفاء حقه بالأصالة، ولا مثلَ للوصف صورةً ولا معنى؛ فسقط، وإن كان أبو يوسف استحسن ردَّ مثلِ المقبوض وطلبَ الجياد؛ إحياءً لحقه.
وأما المُشْبِهُ للقضاء فكمَنْ تُزوَّج على أبيها، وهو عبدٌ، فاستُحق؛ وجَبت قيمتُه، فلو لم يَقضِ بها حتى ملَك الزوجُ الأبَ، سلَّمه إليها؛ لأنه عينُ حقِّها، وهو في معنى القضاء؛ لأنه تبدَّلَ المِلكُ تبدُّلَ العينِ حُكما، فهو عينُ الحق ومثلُه حُكما، ولهذا وجب التسليمُ اعتبارا للعينية، ولم يُحكم بالعتق إلا بعد التسليم أو الحكمِ به لها اعتبارا للمثلية، وكذا لو اعتقه أو كاتَبَه أو باعه قبل التسليم صحَّ اعتبارا للمثلية وعليه القيمةُ، ولو حُكم بالقيمة قبله ثم ملَكه الزوجُ، لا يعود حقُّها فيه
وأما القضاءُ بمِثْل معقول، فمنه كاملٌ كالمِثْل صورةً ومعنًى؛ كضمان العدوان وبدلِ القرض تحقيقا للجَبْر، وقاصرٌ كالقيمة فيما له مثلٌ منقطع، عُدل إليها لفَوات المِثل الصُّوري، وعلى هذا: مَن قُطِع ثم قُتِل يُخيَّر وليُّه عند أبي حنيفة اعتبارًا للمِثْل الكامل والقاصر، وقالا: يَقتُله فقط؛ لأنه مُحقِّق جهة القطع، فآلت الجنايةُ إليه.
قلنا: قد يكون علةً قائمة (في الإهلاك) ماحيةً أثرَ القطع، فيتخير، ولهذا فإن أبا حنيفة يوجب القيمةَ في انقطاع المثل يومَ القضاء؛ لأن وجوده محتمل، فالقضاء القاصر غيرُ مشروع إلا بالحكم لينقطع به الاحتمالُ،
ولهذا لم تُضمن المنافعُ؛ لأن العين لا تُماثِلُها صورةً ولا معنى؛ لعدم التقوُّم؛ لعدم البقاء، فيعدم الإحرازُ لكونها أعراضا، إلا أن يُقصد بالعقد فتُحرز حكما شرعيا، لقيام العين مَقامَ المنفعة، وضمانُ العقد واجبٌ بالتراضي، وضمانُ العدوان (وأن) يعتمد أوصافَ العين، ولا يمكن، فافترقا
وأما القضاء بمِثْلٍ غيرِ معقول؛ فكَغَيرِ المال يُضمَن به، كالنفس تُضمن بالمال، ولا مماثلةَ بين المالك والمملوك، ولهذا لم تُشرع الديةُ مع احتمال القصاص؛ لأنه مِثْلٌ مطلقا، وهذا عند تعذُّره حفظا للدم عن الهَدَر، ولو شَهِد بالطلاق أو الردَّة أو القتلِ لم يَضمَن مِلكَ النكاح؛ لعدم التقوُّم، (وإنما قُوم في النكاح تعظيما لخَطَره، والخطرُ للمملوك لا للمِلك، حتي صح إبطالُه بغير شهود ولا وليٍّ) ، فلا يلزم الشهادةُ بالطلاق قبل الدخول إذا رجَع عنها حيث يوجب ضمانَ نصف المهر؛ لأنه لم يجب قيمة البضع، ألا ترى أنه لم يجب مهرُ المثل كاملا، لكن المسمى لا يستحق تسليمه عند سقوط تسليم البضع، فلما أوجبوا تسليمَ النصف مع فَوات تسليم البضع، كان قصرا ليده عن المال، فأشبَهَ الغصبَ
وأما القضاءُ المُشْبِهُ للأداء؛
فكرجُلٍ تزوج على عبدٍ غيرِ معين، فأدى القيمة أُجبِرت على قَبولها، والقيمةُ قضاءٌ يُصار إليه للعجز عن الأصل، إلا أنه مجهول من وجه فيَعجِز عن تسليمه، فقلنا: إن أدَّى الأصل صَحَّ، وإن مال إلى العجز وجبت، ولمَّا لم يتعين الأصلُ إلا بالقيمة للجهالة كان التقويمُ أصلا من وجه، فزاحمت المسمى، بخلاف المعين؛ لعدم التوقف على التقويم، فكانت قضاء، فلم يُعتبر عند القدرة
تنبيهٌ:
القدرةُ -التي هي شرط التكليف- سابقةٌ، وهي نوعان: مُمكِّنة من الأداء، فلا تشترط للبقاء، فلا يسقط الواجبُ بالموت، ولا الحجُّ والفطرة بهلاك الزاد والراحلة والمال،
وقد قال زفرُ والشافعيُّ: إذا أسلم أو بلغ أو طهُرت الحائضُ، ولم يبق من الوقت ما يسعُ الأداءَ؛ لا تجب عليهم، وإن استحسنَّا نحن الوجوبَ لانعقاد السبب، وتقدر القدرة للإمكان الذاتي، والانتقالُ إلى القضاء للعجز الحالي.
ومُيَسِّرةٌ تُغيِّر صفةَ الواجب إلى السهولة؛ كالزكاة الواجبة جزأً من المال بشرط النماء الميسر، فاشتُرطت (للبقاء؛ لبقاء) تلك الصفة للمشروعية، فتسقط بالهلاك،
وإلا انقلبت غُرما مناقضا لليسر، بخلاف الاستهلاك للتعدي، وكصحة التكفير بالصوم للإعسار بعد الحنث؛ لقيام اليسر بالتخيير، واعتبار العدم الحالي لقوله:{فمن لم يجد} ؛ إذ لو قَصَد علمَ الوجدان في العمر بطَل الصومُ، ولهذا ساوى الهلاكَ فيه الاستهلاكُ؛ لعدم تعين المال والوقت فلم يكن متعديا، والمال في الزكاة متعين، وكبطلانها بالدين؛ لمنافاة اليسر.
فإن نُقِض بالكفارة،
أُجيبَ: بالفرق؛ على قولِ أن الزكاة للإغناء، فاشتُرط كمالُ السببية وهو الغنى، والدَّين ينافيه، والكفارة زاجرة لا مغنية، ولهذا تأدَّت بالعتق والصوم، فكفى أصلُ المال مع اليسر لتحصيل الثواب المقابلِ للجناية
مسألةٌ:
ما لا يتم الواجبُ إلا به؛ إن كان مشروطا به لم يجب تحصيلُ الشرط، أو مطلقا
والوقوعُ مشروطٌ به وهو مقدورٌ للمكلف؛ فواجبٌ، وغيرُ الشرط: كترك الأضداد في الواجب، وفعلِ الضد في المحرم، وغسلِ جزء من الرأس غيرِ واجب، والأكثرُ على الوجوب، وقيل: لا يجب فيهما.
واستُدل على الأول: لو لم يجب كان مباحا، والمشروطُ واجبا مع عدمه، وفيه تكليفُ ما لا يُطاق.
ورُدَّ: بأن المشروط إذا كان مطلقا والشرط مباحا لم يلزم الوجوبُ حالَ (عدمه، بل حالَ) عدم وجوبه، على أن التكليف به حالَ عدم الشرط؛ إن كان محالا فالتكليفُ به مشروط بوجوده، وكلُّ ما وجوبُه مشروطٌ بشرط لم يجب تحصيلُ الشرط، وأيضا لو لم يجب الشرطُ لم يكن شرطا، وعلى الثاني: لو وجب لزِم تعقُّل المُوجِب له، وليس العقلَ ولا الشرعَ لعدمه، ولامتنع التصريحُ بغيره، ولكان مقدورا ومُثابا عليه ومعاقَبا بتركه، ولارتفع المباحُ، ولوجبت النيةُ.
قالوا: لو لم يجب لصح الفعلُ دونه، وإلا لزِم تكليفُ المحال بتقدير عدمه، ولما وجب التوصلُ إلى الواجب.
قلنا: إن أُريدَ بالوجوب والصحة ما لا بُد منه فمُسلَّمٌ، وإن أريد أنه مأمور به فممنوعٌ، وأين دليلُه؟ وإن سُلم أن التوسُّل واجبٌ ففي الأسباب المستلزمةِ لمسبَّباتها، لا لنفس الأمر بالفعل، بخلاف الشروط الحسية والعقلية، وفيه نظر؛ لِاطِّراده من حيثُ توقفُ المشروط على الشرط
فصلٌ:
المحظورُ: الممنوعُ.
(وفي) الشرع: ما يَنتهِض فعلُه سببا للذم شرعا بوجهٍ ما من حيثُ هو فعلٌ له، والأول فصلٌ عن باقي الإحكام، والثاني عن المخيَّر، والثالث عن المباح المستلزِمِ فعلُه تركَ واجب؛ فإنَّ ذمَّه من جهة ترك الواجب
مسألةٌ:
الاتفاقُ على استحالة اتصاف فعلٍ بالحظر والوجوب من جهة واحدة، إلا من جَوَّز تكليفَ المحال، والخلافُ في النوع الواحد؛ هل يوصف بهما؟ كالسجود لله تعالى
والصنمِ، وفي الفعل الواحد لاختلاف الجهة؛ كوجوب الصلاة في الدار المغصوبة من جهة كونِها صلاةً، وحرمتِها من جهة المعصية، فأجازه أكثرُ الفقهاء، وخالف في الأولى بعضُ المعتزلة، وفي الثانية الجبائيُّ وابنُه والظاهريةُ والحنابلة والزيدية، ولا تجب عندهم ولا تصح، ولا يسقط بها الفرضُ ولا عندها، والقاضي يوافقُهم ويُسقطه عندها (لا بها).
قالوا: السجودُ نوعٌ واحد مأمورٌ به لله تعالى، فلا يكونُ منهيا عنه للصنم من حيث هو سجودٌ، والنهيُ قصدُ تعظيمه.
قلنا: تغايَرَا بالشخصية، فلم يستلزم وجوبُ أحدهما وجوبَ الآخر ولا حرمتُه حرمتَه، وإن أردتم
مطلقَ السجود فممنوعٌ، بل المأمورُ به: المقيدُ بقصد تعظيم الله، ولهذا قال:{لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله} ، والمنهيُّ عنه هنا هو المأمورُ به.
وقالوا في الثانية: الوجوبُ والحظرُ متعلِّقان بفعل المكلف، وما وُجد منه أفعالٌ محرمةٌ عليه عاصٍ بها، فاستحال وصفُها بالطاعة.
قلنا: سوَّغه تغايُرُ الجهتين، فالمحكومُ عليه بالوجوب: الهيئةُ الاجتماعية من ذات الفعل وإحدى صفتيه، وبالحرمة: مجموعُ الذات والصفةِ الأخرى، قالوا: متلازمان ههنا، والواجب متوقف على الحرام، وما لا يتم الواجبُ إلا به فهو واجب، فالحرام واجب، ولأن الحركة والسكون داخلان في مفهوم الصلاة، وشَغْل الحيز داخل في مفهومي الحركة والسكون الداخلين في مفهومها، فشغل الحيز داخلٌ في مفهومها؛ لأنه جزؤها، فالشَّغلُ حرام، فالصلاةُ التي جزؤها حرامٌ ليست واجبة؛ لأن وجوبها إن استلزم وجوبَ أجزائها وجب الجزءُ الحرامُ، وإلا كان الواجبُ بعضَ أجزاء الصلاة لا نفسها، لتغايُرِ الكل والجزء.
قلنا: الاتفاقُ على أن العبد إذا أُمِر بخياطة ثوب، ونُهي عنه في موضع مخصوصٍ، فجَمَع كان طائعا عاصيا، للجهتين، وما قدر واردٌ، والجوابُ واحدٌ.
واستُدل: لو لم يصح لما سقط التكليفُ، قال القاضي: وقد سقط بالإجماع، فيحمل أن الفرض ساقطٌ عندها (لا بها)؛ جمعا بين دليله والإجماع.
والحقُّ نفيُ الإجماع؛ لمخالفة
أحمد، والفرقُ بين مسألتنا والخروجِ يؤيد (استحالةَ تعلقِ) الأمر والنهيِ به معا.
وقولُ أبي هاشم: إنه عاصٍ به وبالإقامة، مستلزمٌ لتكليف المحال، والقولُ باستصحاب المعصية بعيدٌ؛ لعدم النهي عنه، والقولُ بالجهتين غيرُ ممكن؛ لاستحالة امتثال الخروج وعدمِه معا
فصلٌ:
المندوبُ: هو "المطلوبُ فعلُه شرعا من غير ذمٍّ على تركه مطلقا"، والأولُ فصلٌ عن الحرام والمكروهِ والمباحِ والأحكامِ الثابتة بخطاب الوضع، ونفيُ الذم عن المخيَّر والموسعِ في أول الوقت
مسألةٌ:
وهو مأمورٌ به عند الكرخي والجَصَّاص مجازا،
والقاضي وجمعٍ من الشافعية حقيقةً، لنا: صحةُ نفيِ الأمرِ عنه دليلُ المجازيَّةِ؛ فيقال: صلاةُ الضحى ليس بمأمور بها، والعصرُ مأمورٌ به.
قالوا: طاعةٌ، وليس لذاته،
وإلا لذُمَّ بتقدير النهي عنه، ولا لكونه مُرادا، (ولا) لصفة مشتركةٍ بينه وبين غيره من الحوادث، وإلا لعَمَّت كلَّ حادث ومُرادٍ، ولا لأنه مُثابٌ عليه، وإلا لم يكن طاعةً بتقديرِ عدمه، ولا لكونه موعودا به؛ إذ لو ورد لوجب، فتعين أنه طاعةٌ لامثتال الأمر.
قلنا: بل لكونه مُقتضًى ومطلوبا ممن له ذلك، ولو كان لكونه مأمورا كان تركُه معصية، على أن قولَه:(لولا أن أشُقَّ على أمتي لأمرتُهم بالسِّواك)، وقولَ بَرِيرةَ: تأمرني؟ فقال: (لا، بل أنا شافعٌ) دليلُ عدمِ الأمرِ حقيقةً
مسألةٌ:
الأكثرون أنه غيرُ تكليفي، ونازَعَهم أبو إسحاق.
والنزاعُ لفظيٌّ؛ فإنه إن عني به: ما أُمر به أو أُثيب عليه؛ فتكليفيٌّ، أو ما طُلب جزما فليس
فصلٌ:
المكروهُ لغةً: من الكرهة والشدة والكرب. وفي الشرع: يُطلق على الحرام،
وقولُ محمد: كلُّ مكروه حرامٌ، فحَدُّه حَدُّه، وعن أبي حنيفة وأبي يوسف: هو إلى الحرام أقربُ.
ويُطلق على: ترك ما ترجَّحت مصلحتُه؛ كترك المندوب وإن لم يكن منهيًّا، فيُحد بـ: تركِ الأَوْلى، وعلى: ما نُهي عنه تنزيهًا؛ كالصلاة في الوقت المكروه، فيُحد بـ: النهي الذي لا ذَمَّ على فعله، والخلافُ في كونه تكليفًا كالمندوب
فصلٌ:
المباحُ: ما خُيِّر بين فعله وتركِه شرعا.
ونُقِض بخصالِ الكفارة، والأداءِ في أول الوقت مع العزم، والفعلُ واجبٌ.
وقيل: ما استوى جانباه في عدم الثوابِ والعقابِ.
ونُقِض بأفعال الله تعالى؛ فإنها لا تُوصف بالإباحة.
والأقربُ: ما دَلَّ الدليلُ السمعي على خطاب الشارع فيه بالتخيير بين الفعل والتركِ من غيرِ بدلٍ، والأولُ فصلٌ عن فعل الله تعالى، والثاني عن الواجبِ الموسَّع والمخيَّرِ
مسألةٌ:
الاتفاقُ أن الإباحة حكمٌ شرعي، وبعضُ المعتزلة: أنه لا معنى لها إلا نفيُ الحرج عن الفعل والترك؛ وهو قبلَ الشرع ومستمرٌّ بعده، فليس شرعيًّا.
قلنا: لا ننكر أن انتفاءَ الحَرَج عنهما ليس بإباحةٍ شرعية، وإنما الشرعيةُ خطابُ الشارع بالتخيير، وليس ثابتا قبلَ الشرع، فليس ما نَفَيتُموه ما أثبَتْناه
مسألةٌ:
المباحُ غيرُ مأمور به.
والكعبيُّ: لا مباحَ، بل ما يُفرضُ مباحا فهو واجبٌ مأمورٌ به.
لنا:
أن الأمر طلبٌ، وأقلُّه ترجيحُ الفعل، والمباحُ لا ترجيحَ فيه، والإجماعُ على أنه قسمٌ من الأحكام.
قال: كلُّ مباحٍ تَرْكُ حرامٍ، وتركُه واجبٌ
ولا يتمُّ إلا بأحدِ أضداده، وما لا يتم الواجبُ إلا به واجبٌ، وكونُه من الأحكام ملحوظٌ فيه ذاتُ الفعل دون تعلقِ الأمر به، بسبب توقفِ ترك الحرام عليه، وحينئذ لا يكونُ مأمورا به؛ جمعا بين الأدلة.
وأُجيبَ:
بأن المباح ليس تركَ الحرام، بل شيءٌ يُتركُ به، مع إمكان تركه بغيره، فلم يَلزم وجوبُه. فأجاب:
مع تسليمِ أن الترك لا يتمُّ إلا بأحدِ أضداده، وأن ما توقَّف عليه الواجبُ واجبٌ، لا يُمكن منعُ كونِ هذا الضد واجبا، غايتُه أنه غيرُ معين، فإذا اختاره المكلفُ تعيَّن ووجَب، ولا مَخلصَ إلا بأنَّ ما لا يتم الواجبُ إلا به -من عقلي أو عاديٍّ- فليس بواجب كما مرَّ، والتزم أيضا: لو كان كذلك لكان المحرمُ إذا تُرك به محرمٌ واجبا، والواجبُ إذا تُرك به واجبٌ حراما، فأجاب بأن لا مانعَ من اتصاف الفعل بهما لاختلاف الجهة، كما مرَّ
مسألةٌ:
الحقُّ أن المباحَ ليس داخلا في مُسمَّى الواجب؛ لأن المباح: ما خُيِّر فيه بين الفعل والتركِ، وهو مُبايِن للواجب.
وقيل: داخلٌ؛ لأن المباح ما لا حرجَ في فعله، وهو متحققٌ في الواجب، وما زاد به الواجب فَصْلٌ.
قلنا: ما به الاشتراكُ ليس تمامَ حقيقةِ المباح.
والنزاعُ لفظي؛ فإن عُني بالمباح ما أُذِن في فعله مطلقًا، فجنسٌ للواجب والمباحِ بالمعنى الأخصِّ والمندوبِ، وإن أُريد ما أُذن فيه ولم يُذم على تركه، فليس بجنسٍ قطعًا
تنبيهٌ:
وعلى هذا: فإذا نُسخ الوجوبُ هل يبقى الجوازُ؟
فنفاه أصحابُنا، وأثبته الشافعيُّ، وظهَرت الفائدةُ فيمن حلَف على يمينٍ فرأى غيرَها خيرًا منها؛ فليكفِّرْ عن يمينه ثم ليأتِ الذي هو خيرٌ، فإن الوجوب سابقا منسوخٌ بالإجماع، فبقي الجوازُ عنده، ولم يبقَ عندنا.
قال: لأن مِن ضرورةِ الوجوبِ الجوازُ، ولا عكسَ في الانتفاء.
قلنا: الماهيتان متغايرتان، فلو سُلم فما هو جزءُ الوجوب
مُنتَفٍ بانتفائه؛ لاستحالة بقاء حصةِ النوع من الجنس بعد عدمِ النوع، ولا وجودَ للأعمِّ إلا مُشخَّصًا، (فالحقُّ أن) الباقيَ ليس هو جزءَ الوجوب قطعا، بل هو حكمٌ شرعيٌّ يَثبُت بدليل منفصلٍ، كما في جوازِ صومِ عاشوراء بعد انتساخ الوجوبِ؛ فإنه ثابتٌ؛ لصلاحية كلِّ يومٍ لصوم النفلِ من قبلُ
مسألةٌ:
الحقُّ أنه ليس بتكليف، والنزاعُ فيه (مع أبي إسحاق) لفظيٌّ؛ فإن معناه وجوبُ اعتقاد الإباحة، والوجوبُ تكليفٌ، وعندنا: الفعل فيه كلفةٌ ومشقة، ولا تكليفَ مع التخيير
فصلٌ:
الأحكامُ الثابتةُ بخطاب الوضع أصنافٌ:
الأول: الحكمُ على الوصف بالسببية،
والسببُ: ما يُتوصل به إلى مقصودٍ ما.
وفي الشرع: كلُّ وصفٍ ظاهرٍ منضبطٍ دلَّ السمعُ على كونه مُعرِّفا لإثبات حكمٍ شرعي؛ كجَعْل الدُّلوكِ سببا للصلاة.
ولله تعالى في كل واقعةٍ عُرِف حكمُها بالسبب حُكمان:
نفسُ الحكم، والسببيةُ المحكومُ بها على الوصف المعرِّف له.
وفائدةُ نَصْب الأسباب تعريفُ الأحكام بعد انقطاعِ الوحي؛ لعُسر الوقوف في كل واقعةٍ على الخطاب.
والمُوجِب هو اللهُ.
والسببُ أمارةٌ، لا مُوجبٌ لذاته؛ وإلا لكان مُوجِبا قبلَ الشرع.
والخطابُ عندنا للأداء والوجوبِ بالسبب، فهو جَبْري، والأداءُ اختياريٌّ، كما تجبُ الصلاةُ على النائم والمجنونِ والمُغمَى عليه، إذا انقطع الجنونُ والإغماءُ دون يوم وليلةٍ، وكما يجب العُشرُ والفِطرةُ على الصبي عندنا،
والزكاةُ عند الشافعي؛ نظرا إلى انعقاد السبب، (ولا خطابَ)
فإن قيل: لو كانت السببيةُ حكما لافتقرت إلى سببٍ معرِّف، ويدور أو يَتسلسل، ثم إن كان الوصفُ معرِّفا بنفسه لزِم ذلك قبلَ الشرع، أو بصفةٍ فالكلامُ فيه عائد، والدَّورُ أو التسلسلُ لازمٌ.
ثم الطريق إلى معرفة كونِ الوصفِ سببا هو ما استَلزَم من الحكمة الداعيةِ مِن جلب مصلحةٍ أو دفع مفسدةٍ، وهو ممتنعٌ؛ لإمكان تعريفِ الحكمِ بنفسِ الحِكمة الداعيةِ مِن دون الوصفِ.
ولأنها إن كانت قديمةً لزِم قِدَمُ معرفةِ السببية، أو حادثةً احتاجت إلى مُعرِّف آخرَ؛ لخفائها، ويعودُ التقسيمُ.
قلنا: منقطعٌ بأن معرفة السببيةِ بالخطاب أو الحكمةِ الملازمةِ للوصف مع اقتران الحُكم بها في صورة، والحكمةُ المعرِّفةُ ليست بمطلقِ حكمةٍ، بل المضبوطةُ بالوصف المقترنةُ بالحكم، وإلا يمتنعُ تعريفُ الحكم بها؛ لخفائها واضطرابِها واختلافِها بالأشخاص والأحوالِ والأزمان، ثم إذا كانت مضبوطةً بالوصف فهي معروفةٌ بنفسها، ولا يَلزم من تقدُّمِها على الشرع كونُها معرِّفة للسببية؛ لتوقفِ ذلك على اعتبارها في الشرع
تنبيهٌ:
سببُ وجوب الإيمان العقلُ؛ على القول بأنه مُوجِب بنفسه، ومعناه أن الله مُوجِبٌ والعقل مُعرِّف، وعليه فخرُ الإسلام، وعلى هذا فالإسلامُ واجبٌ على مَن لم تبلُغْه الدعوةُ، وعلى الصبي العاقلِ قبل الشرع، والأداءُ منه بعدَ انعقاد السبب.
ونفسُ الخطاب؛ على القول بأن العقل غيرُ مُوجِب، فعلى هذا لا يجبُ قبلَه، وبعدَه بالعقل بجَعْلِ الشرع.
وسببُ وجوبِ الصلاة وقتُها، وأمارةُ السببية النسبةُ؛ باللام {لدلوك الشمس} ، والإضافة
كصلاة الظهر؛ الدالَّينِ على الاختصاص، والتكرُّرِ بتكرره، وفسادِ الأداء قبله، والصحةِ في أوله، مع تأخُّر اللزوم كما مرَّ.
وسببُ الزكاة مِلكُ النصاب للنسبة، ولهذا جاز التعجيلُ، غيرَ أن الغِنى لا يتمُّ دون الاستنماء في زمانٍ، فأُقيم الحولُ مُقامَ حقيقةِ النَّماء، وكان المالُ الواحدُ -سببُ تكرُّر (النماء بتكرُّر) الأحوال- متكررًا حكما، وسببُ الصوم أيامُ رمضان، ومتى كان الوقتُ سببا كان ظرفا صالحا للأداء، فخرج الليلُ؛ (لعدم الصلاحية) ولأنه منسوبٌ إليه ومتكرِّر به، ولهذا وجب على صبىٍّ بلَغَ وكافرٍ أسلَمَ في بعضه؛ لأن كلَّ يوم سببُ صومه، وسببُ الفِطرةِ على كل مسلمٍ: غِنَى الرأس ومن يَمُونه بالنص (أدُّوا عمن تمونون، أدوا عن كل حر وعبد)، وكذلك يُضاعَف الوجوبُ بالرؤوس، والوقتُ
شرطُه والنسبةُ إليه مجازية
وسببُ الحج البيتُ؛ للنسبة، والوقتُ شرطُ الأداء؛ لعدم التكرر بتكرره، وكذلك الاستطاعةُ بالمال؛ لصحَّة الأداء من الفقير، ولا يصلُح المالُ سببا لعبادةٍ بدنيةٍ.
وسببُ العشر الأرضُ الناميةُ حقيقةً بالخارج، وفيه معنى المُؤْنة والعبادة، ويتكررُ بتكرر الخارج تقديرًا، ولم يجُزِ التعجيلُ قبل الخارج لأنه بمعنى السبب لوصف العبادة، فلو عُجِّل خرَج معنى المُؤنة والعبادة، وكذلك سببُ الخراج، والنماءُ معتبرٌ فيه تقديرًا بالتمكُّن من الزراعة، فهو مُؤنةٌ باعتبار الأصل، عقوبةٌ باعتبار الوصف، وسببُ الطَّهارة الصلاةُ، وهي شرطُها، فلم يجب قصدا، بل عند إرادة الصلاة، والحدثُ شرطٌ لا سبب؛ لزواله بها، وأسبابُ الحدود ما تُنسَب إليه؛ مِن زنًا وسرقةٍ وقتلٍ،
وسببُ الكفارة ما تُنسب إليه، ويكون دائرا بين الحظر والإباحة، كالفطر وقتلِ الخطأ والصيد واليمين، لا قتل العمد والغموس
الثاني: الحكمُ على الوصف بالمانعيَّة؛ فمنه مانعُ الحُكمِ؛ وهو: كلُّ وصف وجوديٍّ ظاهرٍ منضبِطٍ مستلزِمٍ لحِكمةٍ مُقتضاها نقيضُ حكمِ السبب مع بقاء حِكمةِ السبب؛ كالأبوة في القصاصِ مع قتل العمد.
ومنه مانعُ السبب؛ وهو: كلُّ وصف يُخل وجودُه بحكمة السبب؛ كالدَّين في الزكاة مع مِلكِ النصاب
الثالثُ: الحكمُ بالشرطية، فما كان عدمُه مُخِلًّا بحِكمةِ السببِ
فهو شرطُ السبب؛ كالقدرة على التسليم في باب البيع.
وما كان عدمُه مستلزِما لعدم السببِ فهو شرطُ الحُكم؛ كعدم الطهارة في الصَّلاة مع الإتيان بمُسمَّى الصلاة
الرابعُ: الحكمُ بالصحة، ففي العبادات عند المتكلم: موافقةُ الأمر، وعند الفقيه: سقوطُ القضاء بالفعل.
وفى المعاملات: ترتُّب ثمرةِ العقدِ عليه
الخامسُ: الحكمُ بالبطلان، والباطلُ: ما لم يُشرَع بأصله ولا وصفِه،
والفاسدُ عند الشافعي مرادفٌ له، وعندنا مغايرٌ للباطل والصحيح
السادسُ: الرخصةُ؛ وهي: ما شُرع لِعُذر مع المُحرِّم، فمنها كاملةٌ؛ وهي:
ما استُبِيحَ (لعذر) مع المحرِّم، وحكمُه كالمُكرَه على الكفر بالقتل؛ فإن العزيمة في الصبر؛ لقيام الحرمة، والعذرُ أن حق العبد يفوتُ به صورةً ومعنًى، وحقُّ الله باقٍ معنًى؛ لوجود التصديق، وصورةً من وجه؛ لعدم وجوب التكرار، لكن فيه هتك حق الله ظاهرًا، فكان له تقديمُ حقِّه، والصبرُ أولى لكونه جهادًا، وكذلك الأمرُ بالمعروف رُخص تركُه خوفَ القتل، والإقدامُ جهادٌ؛ باعتبار تفرُّق الفَسَقة، بخلافِ غازٍ يُقدِم ويَعلم أنه يُقتَل من غير نكايةٍ في العدو؛ لكونه مضيِّعًا نفسَه، وكذلك المُكرَهُ على إتلاف مالِ الغيرِ، وعلى الفطر، والجنايةِ في الإحرام.
ومنها قاصرةٌ: وهي: ما استُبِيح مع المحرِّم وتَراخَى حكمُه؛ كفطر المسافر في رمضان، والعزيمةُ أَولى؛ لكمال السببية
ومثلُ (ورَخَّص في السَّلَم) مجازٌ؛ فإن الأصلَ أن يكون المبيعُ عينًا، وقد سقط في السَّلم أصلا
تخفيفا.
وكذلك مَن أُكره على الخمر أو الميتةِ أو اضطُر إليهما؛ لسقوط الحرمة وتأثُّمه بالصبر؛ لأن الحرمة لصيانة عقله ونفسه، فإذا فات ما لأجله حُرم لم يَستقم صيانةُ البعض لفَوات الكل، وكان بالصبر مُضيِّعًا نفسَه.
وكذلك القَصْر عندنا؛ لتسميتِها صدقةً في النص، والصدقةُ بما لا يَحتمِلُ التمليكَ إسقاطٌ،
ولأن الرخصة تيسيرٌ، وهو متعينٌ فيه.
ولأن التخييرَ للترفُّق، وأنه يَستدعي جهتَيْ يُسر؛ كفطر المسافر؛ خفيفٌ من وجه لمشاركة الصوَّام، وغيرُ خفيف للمشقة الناجزة، وجهةُ اليسر ههنا متحدةٌ، فكانت إسقاطا.
ولا يَلزم خيارُ المأذون له في الجمعة بينها وبين الظهر، ولا خيارُ مَن حلَف إن دخل الدار أن يصومَ سنةً، فدخَل وهو مُعسرٌ، بين صومها وصومِ الكفارة؛ لاختلاف ما فيه الخيارُ، فاستقام طلبُ الترفُّق.
ونظيرُ مسألتنا: المُدبَّر يَجني، يَلزَمُه الأقلُّ مِن الأرشِ والقيمةِ، بخلاف العبد؛ حيث يُخيَّر مَوْلاه بين الدَّفْعِ والفداءِ، والفرقُ الاتحادُ والاختلافُ