الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثالثا:
مناقشة أدلة الفريقين:
وقد نوقشت أدلة الفريقين بمناقشات كثيرة أذكر أهمها:
1 -
إن قول المجيزين بأن الأصل في المعاملات الإباحة مسلم ولكن لا بد من التحري والتدقيق حتى نعرف هل هذه المعاملة حلال أم حرام؟
إن تحري الحلال مطلوب لطلبه وتحري الحرام مطلوب أيضا لاجتنابه ومن فضل الإسلام علينا أنه علمنا أن نفكر في كل شيء هل هو حلال أم حرام؟ فلا نقول هو حلال حتى نتأكد ولا حرام حتى نتيقن .. إذ لا نحكم على الشيء قبل التمكن من معرفته (1).
إن اعتراض المانعين على دليل المجيزين بأن الأصل في المعاملات الإباحة لا يضعف الاستدلال بهذا الأصل الذي حرره العلماء المحققون ولا شك أنه لا بد من دراسة كل مسألة دراسة مستفيضة قبل إصدار حكم عليها هل هي باقية على البراءة الأصلية أم أن هنالك أدلة تنقلها عن ذلك وتخرجها من دائرة الإباحة إلى دائرة التحريم.
2 -
لا ريب أن إستدلال المجيزين بعموم النصوص الدالة على حل جميع أنواع البيع وأن بيع المرابحة للآمر بالشراء يدخل ضمن ذلك إستدلال وجيه ويمكن الإعتماد عليه في الحكم على المعاملة بالجواز لما يلي:
أ- إن العمومات المذكورة تفيد حل جميع أنواع البيوع لأن هذه النصوص عامة والعام يشمل حكمه جميع أفراده إلا أن
(1) بيع المرابحة د. رفيق المصري مجلة الأمة القطرية عدد 61 نقلاً عن بيع المرابحة للقرضاوي ص101.
يخصص فإن خصص بقي ما لم يدخله التخصيص على أصل الإباحة. وبيع المرابحة للآمر بالشراء يدخل في هذا العموم.
ب- إن قول المانعين بأن بيع المرابحة للآمر بالشراء من بيوع العينة المحرمة لا يعتبر تخصيصاً لعموم قوله تعالى (وأحل الله البيع وحرم الربا) لأن جعل المرابحة من بيوع العينة اجتهاد من قائله اعتمد فيه على سد ذريعة الفساد وهذا الاجتهاد ظني والآية القرآنية قطعية والظني لا يخصص القطعي كما أن الاجتهاد لا يعد من مخصصات العام.
ويؤيد ذلك ما قاله ابن حزم (وكل ما حرم علينا فقد فصل باسمه قال تعالى {وقد فصل لكم ما حرم عليكم} فكل ما لم يفصل لنا تحريمه فهو حلال بنص القرآن) ويؤيده أيضا ما قاله ابن الهمام (ولا يخفى أنه لا يحتاج إلى دليل خاص لجوازها - المرابحة - بعد الدليل المثبت لجواز البيع قطعا).
وما قاله الامام الشافعي: فأصل البيوع كلها مباح إذا كانت برضا المتبايعين الجائزي الأمر - التصرف - فيما تبايعاه إلا ما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وما كان في معنى ما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم محرم بإذنه وما فارق ذلك أبحناه بما وصفنا من إباحة البيع في كتاب الله تعالى) فهذه الأقوال وإن ذكرها الفقهاء في معرض الإستدلال على مشروعية المرابحة البسيطة التي كانت معروفة عندهم إلا انه يمكن الإستدلال بها على مشروعية المرابحة للآمر بالشراء لأن تلك أصل لهذه (1).
(1) بيع المرابحة أحمد ملحم ص 154 - 155 بتصرف.
3 -
إن اعتراض المانعين باحتجاج المجيزين لاجازة بيع المرابحة للآمر بالشراء أن فيه تيسيرا على الناس بقولهم: إن التيسير يحسنه كل أحد وكذلك التشديد يحسنه كل أحد فلا غرض للباحث الأمين في أحد منهما فالتيسير يلغي الشريعة فلا تبقى منها الا الراية أو الشعار والتشديد يمنع تطبيقها انما الفقه الرصين في الضبط والدقة وفي إصدار الحكم باليقين أو بالترجيح أو بالشك تحليلا أو تحريما حسب قوة الأدلة وضعفها وحسب نعومة الفقيه أو إغضائه والباحث الدقيق ليست عنده عدة جاهزة للتيسير إذا أراد وعدة أخرى للتعسير كما أنه لا يرضى بأي رأي يعثر عليه لفقيه قد يكون معناه مراداً لصاحبه أو متوهماً لقارئه نعم لا بأس أن تختار رأي فقيه ما ولو كان رأيه مخالفاً لرأي الجمهور لكن لا لمجرد الرغبة في التيسير أو التعسير ولا بد من مواجهة أدلة الجمهور ومن أن تظهر قدرتك على الدفاع عن الرأي الذي اخترت فهذا يباعدنا عن مخاطر التلفيق المطلق بلا قيود) (1).
إن كلام المانعين غير مسلم لأن التيسير موافق لاتجاه الشريعة وخصوصاً في المعاملات التي قرر المحققون من العلماء أن الأصل فيها الأذن إلا ما جاء نص صريح بمنعه فيوقف عنده فمن يسر فهو في خط الشريعة واتجاه سيرها وهو ممتثل للتوجيه النبوي الكريم "يسروا ولا تعسروا" وأنه إذا وجد رأيان في المسألة الواحدة أحدهما أحوط والآخر أيسر فإننا نؤثر
(1) بيع المرابحة د. رفيق المصري مجلة الأمة القطرية عدد 61 نقلاً عن بيع المرابحة للقرضاوي ص 100.
أن نفتي الناس بالأيسر ودليل ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما (1).
وبيع المرابحة للآمر بالشراء عند القائلين بجوازه يعتمد على إجتهادات لأهل العلم وأدلتهم وجيهة وقوية ويترتب على القول بالجواز مصلحة ظاهرة وهذا من التيسير المشروع الذي تؤيده الأدلة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
4 -
إن قول المانعين بأن هذه المعاملة داخلة في بيع العينة غير مسلم لأن العينة التي ورد النهي عنها هي: أن يبيع شيئا إلى غيره بثمن معين (مئة وعشرين دينارا مثلا). إلى اجل (سنة مثلا) ويسلمه إلى المشتري ثم يشتريه قبل قبض الثمن بثمن أقل من ذلك القدر (مئة مثلا) يدفعه نقداً فالنتيجة أنه سلمه مئة ليتسلمها عند الأجل مئة وعشرين (2)"ومن المؤكد أن صورة المعاملة التي سميت "بيع المرابحة" والتي تجريها المصارف الإسلامية والتي أفتت فيها هيئات الرقابة الشرعية بالجواز - ليست من هذه الصورة الممنوعة في شيء. إذ من الواضح أن العميل الذي يجيء إلى المصرف طالباً شراء سلعة معينة يريد هذه السلعة بالفعل، كالطبيب الذي يريد أجهزة لمستشفاه، أو صاحب المصنع الذي يريد ماكينات لمصنعه وغير هذا وذاك حتى إنهم ليحددون مواصفات السلعة (بالكتالوج) ويحددون مصادر صنعها أو بيعها .. فالسلعة مطلوب شراؤها لهم بيقين. والمصرف يشتريها بالفعل، ويساوم عليها، وقد يشتريها بثمن أقل
(1) بيع المرابحة للقرضاوي ص 115/ 116.
(2)
بيع المرابحة للقرضاوي ص 45.
مما طلبه العميل ورضي به، كما حدث هذا بالفعل، ثم يبيعها للعميل الذي طلب الشراء ووعد به، كما يفعل أي تاجر، فإن التاجر يشتري ليبيع لغيره، وقد يشتري سلعاً معينة بناء على طلب بعض عملائه.
وإذن يكون إدعاء أن هذا النوع من البيع هو من العينة التي شرحها إبن القيم رحمه الله والتي لا يقصد فيها بيع ولا شراء،،إدعاء مرفوضاً ولا دليل عليه من الواقع (1).
5 -
إن قول المانعين بأن هذه المعاملة تقع ضمن بيع ما لا يملك أو بيع ما ليس عندك قول فيه نظر، لأن المصارف الإسلامية التي تتعامل ببيع المرابحة للآمر بالشراء لا تقع في النهي الوارد عن بيع ما ليس عند الإنسان لأنها غالباً تعتمد نموذجين أحدهما للمواعدة والآخر للمرابحة فهي توقع مع العميل على نموذج المواعدة أولاً وبعد ذلك يقوم المصرف بشراء السلعة الموصوفة ثم بيعها للعميل ويوقع مع العميل النموذج الثاني وهو عقد بيع المرابحة وفق الشروط المتفق عليها في المواعدة (2) والمواعدة الحاصلة بين المصرف وطالب الشراء ليست بيعاً ولا شراء وإنما مجرد وعد لازم للطرفين.
6 -
إن الإدعاء بأن بيع المرابحة للآمر بالشراء ما هو إلا حيلة للإقراض بالربا وقولهم إن القصد من العميلة كلها هو الربا والحصول على النقود، التي كان يحصل عليها العميل من البنك الربوي فالنتيجة واحدة وإن تغيرت الصورة والعنوان. فإنها ليست من البيع والشراء في شيء.
(1) بيع المرابحة للقرضاوي ص 46 - 47.
(2)
بيع المرابحة أحمد ملحم ص 196.
فإن المشتري الحقيقي ما لجأ إلى المصرف إلا من أجل المال، والمصرف لم يشتر هذه السلعة الا بقصد أن يبيعها بأجل إلى المشتري، وليس له قصد في شرائها.
ونقول: إن هذا الكلام ليس صحيحا في تصوير الواقع. فالمصرف يشتري حقيقة ولكنه يشتري ليبيع لغيره، كما يفعل أي تاجر وليس من ضرورة الشراء الحلال أن يشتري المرء للإنتفاع أو القنية أو الاستهلاك الشخصي، والعميل الذي طلب من المصرف الإسلامي ان يشتري له السلعة يريد شراءها حقيقة لا صورة ولا حيلة، كالطبيب الذي ذكرنا أنه يريد شراء اجهزة، ولجوء مثله إلى المصرف الإسلامي ليشتري له السلعة المقصودة له أمر منطقي، لأن مهمة المصرف أن يقدم الخدمة والمساعدة للمتعاملين معه. ومن ذلك أن يشتري لهم السلعة بما يملك من ماله وبيعها لهم بربح مقبول، نقداً أو لأجل، وأخذ الربح المعتاد على السلعة لا يجعلها حراماً، وبيعها إلى المشتري بأجل لا يجعلها أيضا حراماً. المهم أن هنا قصداً إلى بيع وشراء حقيقيين، لا صوريين، وليس المقصود الاحتيال لأخذ النقود بالربا.
والقول بأن هذه العملية هي نفس ما يجري في البنوك الربوية وإنما تغيرت الصورة فقط، قول غير صحيح، فالواقع أن الصورة والحقيقة تغيرتا كلتاهما فقد تحولت من استقراض بالربا إلى بيع وشراء وما أبعد الفرق بين الاثنين! وقد حاول اليهود قديما أن يستغلوا المشابهة بين البيع والربا ليصلوا منها إلى إباحة الربا فرد الله تعالى عليهم رداً حاسماً بقوله {ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا} .
على أن تغيير الصورة أحياناً يكون مهماً جداً، وإن كانت نتيجة الأمرين واحدة في الظاهر فلو قال رجل لآخر أمام ملأ من الناس خذ هذا المبلغ واسمح لي أن آخذ ابنتك لأزني بها، فقبل، وقبلت البنت لكان كل منهما مرتكبا منكراً من اشنع المنكرات. ولو أنه قال له: زوجنيها وخذ هذا المبلغ مهرا لها، فقبل وقبلت لكان كل من الثلاثة محسناً والنتيجة في الظاهر واحدة ولكن يترتب على مجرد كلمة "زواج" من الحقوق والمسئوليات شيء كثير.
وكذلك كلمة "البيع" إذا دخلت بين المتعاملين، فإنه يترتب عليها بأن يكون هلاك البيع إذا هلك على ضمان البائع، حتى يقبضه المشتري، وان يتحمل تبعة الرد بالعيب إذا ظهر فيه عيب وكذلك إذا كان غائبا واشتراه على الصفة فجاء على غير المواصفات المطلوبة.
كما أنه إذا تأخر في توفية الثمن في الأجل المحدد لعذر مقبول، لم تفرض عليه أية زيادة كما يفعل البنك الربوي، بل يمهل حتى يوسر، كما قال تعالى {وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة} . وإن تأخر لغير عذر، فهو حينئذ ظالم يستحق العقوبة كما في حديث "مطل الغني ظلم" وحديث "لي الواجد يحل عرضه وعقوبته"، فمن حق المصرف الإسلامي أن يطالبه بالتعويض عن الضرر الفعلي قل أو كثر عملاً بالقاعدة الشرعية التي عبر عنها حديث "لا ضرر ولا ضرار" وأخذ منها الفقهاء: أن الضرر يزال.
وهذا يخالف ما تفعله البنوك الربوية، لأنها تأخذ المبلغ المقترض والفائدة الربوية المقررة على كل حال: من المعسر
والموسر، سواء حدث ضرر أم لم يحدث. سواء كان الضرر قليلاً أم كثيرا، بل تأخذه سواء تسلم السلعة المقترض لها المال أم لم يتسلمها، سلمت أو هلكت، فالبنك الربوي لا علاقة له بالسلعة بحال.
فكيف يقال: إن ما يجري في المصارف الإسلامية هو عين ما يجري في البنوك الربوية؟ الحق أن تغيير صورة المعاملة غيّر من طبيعتها، وإن توهم من توهم أن النتيجة في كلتا الحالين واحدة. ومن المفيد هنا أن أذكر في تغيير الشكل والصورة حديث أبي سعيد وأبي هريرة المشهور في بيع التمر بمثله، وهو لا يخفى على المعترضين.
عن أبي سعيد وأبي هريرة "ان رسول الله صلى الله عليه وسلم، استعمل رجلاً على خيبر فجاءه بتمر جنيب فقال: أكلُّ تمر خيبر هكذا: قال: لا والله يا رسول الله إنا لنأخذ الصاع من هذا بصاعين، والصاعين بالثلاث، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فلا تفعل. بع الجمع بالدراهم، ثم ابتع بالدراهم جنيبا" رواه البخاري ومسلم.
فبين لهم النبي صلى الله عليه وسلم أن من كان عنده تمر رديء وأراد تحصيل الجيد من التمر فعليه أن يبيع ردئيه بنقد ثم يشتري به الجيد.
والنتيجة من البيع الأول والثاني واحدة، وهي الحصول على التمر الجيد بدل الرديء ولكن الصورتين مختلفتان. ففي الأولى باع الشيء بجنسه متفاضلاً، وهذا منهي عنه لما قد يحدث فيه من غبن. وفي الثانية بيع للشيء بقيمته نقداً، ثم يشتري به، وهذا أقرب إلى العدل في تقدير السلعة وثمنها. ولهذا أجيزت
الصورة الثانية ومنعت الأولى والشاهد أن تغيير الصورة قد يؤدي إلى تغيير الحكم، وإن لم تتغير النتيجة (1).
7 -
وأما قول المانعين بأن الإلزام بالوعد غير صحيح شرعاً بل الوفاء بالوعد مستحب وبناء على ذلك لا يصح بيع المرابحة للآمر بالشراء مع لزوم الوعد للعميل وللمصرف.
فالجواب على ذلك بأن المسألة وهي الوفاء بالوعد من المسائل الخلافية التي تعددت فيها أنظار الفقهاء والمسألة اجتهادية وقد أخذ المجيزون بالقول بوجوب الوفاء بالوعد وهو قول صحيح وله أدلته وحججه المعتمدة ولا غبار في ذلك وهذا القول تشهد له ظواهر النصوص الشرعية من كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام وبه قال طائفة من الصحابة والتابعين.
وقد ترجم الامام البخاري في صحيحه (باب من أمر بإنجاز الوعد). وذكر فيه أن الحسن البصري أمر بذلك وقضى سعيد بن الاشوع به وكان قاضيا للكوفة أبان أمارة خالد القسري على العراق. ونقله عن الصحابي سمرة بن جندب وذكر الامام البخاري أربعة أحاديث في الباب. ونقل الحافظ في الفتح عن ابن عبد البر وابن العربي ان عمر بن عبد العزيز كان يرى لزوم الوعد (2).
(1) بيع المرابحة د. القرضاوي ص 27 - 31.
(2)
انظر صحيح البخاري مع الفتح 6/ 217 - 218.