الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تقييم أخر لنتائج وادي الصومام:
لقد كان مؤتمر وادي الصومام انتصاراً للثورة الجزائرية في نظر العديد من المحللين السياسيين الوطنيين على وجه الخصوص. لكن بعض المسؤولين الجزائريين في الخارج اعتبروا إفقاده نوعاً من الخيانة التي ستكون عواقبها وخيمة على مصير الكفاح المسلح في الجزائر. فضابط المخابرات المصري فتحي الديب أورد في كتابه "عبد الناصر وثورة الجزائر"(1) أن السيد أحمد بن بلة أكد" أن المؤتمر شكل نقطة تحول خطيرة في مسيرة الثورة للأسباب التالية:
أ- إن اعتراض الولايات الشرقية والغربية التي تغيبت عن المؤتمر لن يتوقف عن حد الاعتراض على القرارات، بل ينتظر أن يتطور إلى صدام في إطار من محاولات التصفية بين القيادات في نطاق صراع داخلي.
ب- أن الولايات المجاورة للحدود ستقوم بحجب السلاح عن الولايات الداخلية لإرغامها على التراجع عن قرارات المؤتمر. وقد وصلته رسائل تفيد بذلك.
ج- احتمال انتقال صورة الصراع الداخلي المتوقعة إلى الخارج بعد خروج المجموعة الموالية لعبان رمضان، الأمر الذي سيزعزع ثقة الرأي العام العربي والعالمي في الصورة المشرفة التي أمكن تحقيقها لثورة الجزائر.
د- بدء مرحلة الصراع بين السياسيين والعسكريين وما تحمله من آثار ضارة بالمسيرة الثورية خاصة بعد انتشار نغمة، سياسي وعسكري، في أوساط جيش التحرير الوطني (2).
(1) كناب ضخم مكون من 736ص من الشكل الكبير، صدر عن دار المستقبل العربي، القاهرة. سنة 1984 أَلفَّهُ السيد فتحي الديب الذي كان مكلفاً من قبل الرئيس عبد الناصر بمتابعة تطورات الثورة الجزائرية يشتمل الكتاب على كثير من المعلومات الثمينة لكنه يتضمن كذلك كثيراً من الأخبار المدسوسة والمعلومات المزيفة لسبب أو لآخر.
(2)
عبد الناصر وثورة الجزائر، ص:248.
ليس من السهل على الدارس المحقق أن يأخذ كتابة السيد فتحي الديب على أنها حقيقة تاريخية مسلم بها كتلك التي يرويها الثقاة الذين يتولون بأنفسهم إخضاع المعلومات إلى المقاييس والمعايير المعروفة لجمهور المؤرخين.
وعلى الرغم من أن "عبد الناصر والثورة الجزائرية" صدر عن دار المستقبل العربي سنة 1984 ونشر أيضاً مترجماً إلى اللغة الفرنسية، وأن السيد بن بلة لم يعارض، قولاً أو كتابة، ما جاء في الكتاب من المعلومات منسوبة إليه حول المؤتمر، فإننا نعتبر أن الفصل الرابع عشر كله مغلوط ولا يمكن اعتماده في تقييم نتائج أشغال وادي الصومام.
إن حكمنا بهذه القسوة على هذا الفصل مستخلص خاصة من النقطة العاشرة التي توهم القارئ الخالي الذهن بأن مرحلة الصراع الداخلي والتصفية الجسدية المذكورين من بين الأسباب التي اعتمد عليها السيد أحمد بن بلة لإصدار حكمه الآنف الذكر قد بدأت فعلاً وأن "أول ضحاياها هو المناضل القائد البطل مصطفى بن بو لعيد .. ولحق به المناضل الجسور والوطني المخلص يوسف زيغود قائد ولاية شمال قسنطينة الذي صاحبت ظروف وقوعه في كمين أعده الفرنسيون له بعد خروجه من مخبئه علامات استفهام تشير بإصبع الاتهام بالخيانة والغدر إلى مساعديه في القيادة إبراهيم مزهودي وعلى كافي"(1).
إن هذين الخبرين لا أساس لهما من الصحة: أولاً لأن الشهيد مصطفى بن بولعيد لم يكن من المعارضين لقرارات مؤتمر وادي الصومام لسبب واضح وبسيط يتمثل في كونه استشهد قبل انعقاد المؤتمر بحوالي خمسة أشهر. أما يوسف زيغود فإن استشهاده كان في نهاية الأسبوع الأخير من شهر سبتمبر في حين أن الذيب يذكر أنه تلقى الخبرين في نهاية الأسبوع الثاني من شهر سبتمبر سنة 1956. وبالإضافة إلى ذلك فإن السيدين على كافي وإبراهيم مزهودي كانا من أكثر القادة ارتباطاً بالشهيد، بل إن مزهودي، عندما وقع الاستشهاد، كان قد وصل إلى الحدود التونسية في إطار تنفيذ مقررات المؤتمر.
وإن الرجوع إلى المصادر الحية واستنطاق الوثائق المتوفرة للباحثين يدلان، بما لامجال للشك فيه، على أن جل المعارضين لنتائج المؤتمر لم يفعلوا ذلك من منطلقات أيديولوجية لكنهم كانوا، فقط، مدفوعين بأغراض شخصية بعضها يتعلق بالجري وراء السلطة وبعضها الآخر ناتج عن الانحياز لأشخاص دون التمعن في الموضوع.
(1) نفس المصدر، ص249.
هكذا نرى أن السيد بن بلة يجعل في مقدمة مأخذه على المؤتمر أنه لم يجمع سوى قادة الولايات الرابعة والثالثة والثانية مؤكداً أن باقي القادة قد تخلفوا عن الحضور وهم ممثلو وهران والأوراس وسوق أهراس والصحراء والخارج (1).
إن هذا المأخذ مرفوض في أساسه لأن المنطقة الخامسة أي الغرب الجزائري كانت ممثلة في شخص قائدها الأول الشهيد العربي بن مهيدي الذي ترأس المؤتمر. أما المنطقة الأولى فإن عدم حضورها يرجع فقط لكون ضباطها السامين لم يتفقوا على تعيين خليفة الشهيد مصطفى بن بولعيد.
وفيما يخص سوق أهراس والصحراء فإنهما لم تكونا من ضمن المناطق الخمس التي تأسست وانطلقت في الكفاح ليلة الفاتح من نوفمبر سنة 1954.
ودائماً حسب السيد فتحي الديب (2)، فإن بن بلة يرفض نتائج مؤتمر وادي الصومام لأن السياسيين هم الذين سيطروا على أشغاله دون العسكريين الذين تنقصهم الخبرة في مجال المناورات من جهة، ولأن عبان اختار بالفعل الدكتور محمد الأمين دباغين لتمثيل الثورة الجزائرية بالقاهرة وللتحقيق مع أعضاء المندوبية حول تقصيرهم في أداء مهمتهم المتمثلة خاصة في تزويد الداخل بما يحتاج إليه من سلاح وذخيرة من جهة أخرى.
إن هذين السببين مختلفان فقط وليس ثمة في الواقع ما يعمها، لأن عبان رمضان نفسه لم يكن محترفاً سياسياً بل كان، كغيره، مناضلاً يؤمن بضرورة انتهاج الكفاح المسلح استرجاع السيادة الوطنية، وقبل أن ينخرط في حزب الشعب الجزائري الذي تقلد في صفوفه مسؤوليات هامة، كان جندياً في الجيش الفرنسي على غرار بن بلة ذاته.
أما الدكتور محمد الأمين دباغين، فإن أعضاء مندوبية الخارج هم الذين طالبوا بإرساله إلى القاهرة ليكون عليهم رئيساً (3). وليس ذلك بالشيء الغريب إذا
(1) نفس المصدر، ص245.
(2)
نفس المصدر، ص247.
(3)
حدثني الدكتور دباغين نفسه عن الموضوع وتوقف طويلاً عند الكلام عن الرسائل التي كانت تأتي من القاهرة من نهاية عام 1953 والتي تسببت في إلقاء القبض عليه، لأن السلطات الفرنسية التي كانت تراقب المراسلات عرفت رغم استعمال الرموز أن الشخص المطلوب لقيادة المندوبية هو دباغين. ودعماً لهذا القول يذكر السيد فرحات عباس في "تشريح حزب" ص:180 أنه عندما وصل
علمنا أن النواة الأولى التي قررت الدخول في مرحلة الكفاح المسلح كانت قد لجأت إليه ليقود الثورة بعد أن رفض ذلك الشرف مصالي الحاج لأسباب ليس هذا محل التعرض إليها. فالدكتور، إذن، لم يعين من طرف عبان الذي اقتصر دوره على تبليغه رسائل المندوبية. وحتى عندما وصل مصر، فإنه رفض ممارسة المسؤولية المسندة إليه دون قرار رسمي يوافق عليه الجميع وقد صدر ذلك القرار بالفعل عن مؤتمر وادي الصومام، ويبدو أن بعضهم تقبل ذلك بكثير من التردد والحذر.
ولقد كان هناك نوع آخر من التردد لكنه، هذه المرة، خاص بقرار أساسي اتخذه المؤتمر ويتعلق بفتح أبواب قيادة جبهة التحرير الوطني إلى عدد من السياسيين الذين لم يتكونوا في صفوف حزب الشعب الجزائري وما تفرع عنه من تنظيمات سرية أو علنية على حد سواء. إن هذا القرار قد أثار أثناء أشغال المؤتمر معارضة عدد من المسؤولين الذين وصفوه بالانحراف الذي يعرض الثورة إلى خطر الموت لأنه يقضي على وحدة التصور ووحدة التفكير الضروريين للاستمرارية الثورية، لكن مبدأ المركزية الديمقراطية حسم الموقف كما سبق أن أشرنا إلى ذلك.
هكذا، إذن، يمكن القول أن نتائج مؤتمر وادي الصومام قد استقبلت، ظاهرياً، بارتياح كبير من طرف المسؤولين في جميع المستويات، لكنها، في الواقع تسببت في ميلاد صراع داخلي على السلطة كان يمكن أن يغذى وينتشر لو لم يحدث اختطاف الطائرة التي كانت تنقل القادة الأربعة من المغرب إلى تونس في اليوم الثاني والعشرين من شهر أكتوبر سنة ست وخمسين وتسعمائة وألف.
ولقد كانت لجنة التنسيق والتنفيذ تتوقع حدوث بعض التصدع في الصف، لأجل ذلك تقرر إيفاد السادة عمار بن عودة وعمار واعمران وإبراهيم مزهودي إلى تونس قصد شرح النتائج التي توصل إليها المؤتمر، وإيجاد الحلول اللازمة للمشاكل العديدة التي تعترض سبيل تزويد الداخل بالأسلحة والذخيرة.
ومن الجدير بالذكر أن هؤلاء الأخوة لاقوا صعوبات كثيرة وهم يؤدون هذه المهمة الصعبة. ومن جملة الصعوبات التي اعترضت سبيلهم فإن السيد فتحي الديب قد أشار إلى تمرد ما يسمى بقيادة مناطق جيش التحرير الوطني الذين
إلى القاهرة وذلك قبل انعقاد المؤتمر، كان الدكتور دباغين على رأس المندوبية وكان تنظيمه محكماً".
اجتمعوا "في مكان ما"(1) وقرروا عدم الاعتراف بقرارات مؤتمر وادي الصومام لأنهم لم يشاركوا في وضعها، وأجمعوا على ضرورة إبعاد موقدي المؤتمر باعتبار أن وجودهم في تونس يشكل مصدراً للقلاقل ويتسبب في تعطيل عملية التسليح (2).
وعلى الرغم من أن السيد فتحي الديب قد نشر ضمن ملحقات كتابه وثيقة تحمل توقيعات عدد من مسؤولي جيش التحرير الوطني في أقصى شرق الجزائر لتدعيم زعمه وإعطائه نوعاً من المصداقية، إلا أن فحص الوثيقة المذكورة يبين بوضوح تام أن هناك خلطاً كبيراً في المصطلحات ترتب عليه ذلك الغموض الذي استند عليه الكاتب لإصدار حكمه. فمحضر الاجتماع المنعقد، فعلاً، بتاريخ الخامس عشر من شهر ديسمبر سنة ست وخمسين وتسعمائة وألف يذكر أن الموقعين عليه قرروا، بادئ ذي بدء، عدم الاعتراف بقرارات وادي الصومام لكن المحضر لم يذكر أن الجهات التي يمثلونها لا يمكن أن تكون مناطق لأنها في مجملها تابعة لمنطقتين اثنتين هما: الشمال القسنطيني والأوراس.
وعندما يرجع الدارس إلى شخصية الموقعين على الوثيقة، فإنه يتأكد من أنهم لم يكونوا مؤهلين لتقييم نتائج المؤتمر خارج هياكلهم النظامية، ولقد كان عليهم إبداء كل آرائهم في إطار اجتماعات الولاية (3) التي ينتمون إليها. أما خارج ذاك، فإنهم إنما يكونون قد شقوا عصى الطاعة ويطبق عليهم النظام الداخلي لجيش التحرير الوطني.
وحينما يطرح الدارس كل هذه التعليقات النظرية جانباً، ويعود إلى ميدان، يجد، بكل موضوعية، أن مؤتمر وادي الصومام أثرى بالفعل أيديولوجية جبهة التحرير الوطني، وزود الثورة بالأدوات التي كانت تنقصها لمواصلة المسيرة ولتوفير أسباب استمرارية الكفاح المسلح والنضال السياسي من أجل استرجاع الاستقلال الوطني.
ويتمثل الإثراء خاصة في إعطاء جبهة التحرير الوطني نفسها مفهوماً آخر إذا لم تبق ذلك التنظيم الذي يعمل على لم شمل نزعات سياسية مختلفة نتجت
(1) عبد الناصر ثورة الجزائر، ص673.
(2)
نفس المصدر. ص: 674.
(3)
فالولاية هي التسمية الجديدة التي خصصها المؤتمر للمنطقة السابقة. وبذلك أصبحت الجزائر مقسمة إلى ست ولايات مقسمة إلى عدد من المناطق وكل منطقة إلى مجموعة من النواحي وكل ناحية ألى أقسام.
عن الأزمات الداخلية التي مر بها نجم شمال إفريقيا ومن بعده حزب الشعب
الجزائري ثم حركة الانتصار للحريات الديمقراطية، وعن الصراعات التي وقعت بين المشرفين على الجناح السياسي والمسؤولين عن المنظمة الخاصة من جهة وبين دعاة الشرعية السياسية وأنصار الكفاح المسلح من جهة ثانية. بل تحولت إلى حركة مفتوحة أبوابها ليس فقط لمناضلين صهرتهم أيديولوجية واحدة ولكن لمواطنين وإطارات ومناضلين ظلوا حتى ذلك التاريخ متمسكين بأيديولوجية مختلفة وقرروا تجميد تمسكهم ذلك للالتحاق بالمسار الثوري دون أن يقدموا الدليل على أن التحاقهم نهائي وبدون رجعة (1).
وإذا كان ذلك الالتحاق الذي سمح به مؤتمر وادي الصومام قد جاء نتيجة نوع من التنازل عن واحد من الشروط الأساسية الواردة في نداء الفاتح من نوفمبر، ويتمثل في إعلان الملتحق عن تخليه النهائي عن أيديولوجيته، فإنه، في واقع الأمر، قد حقق انتصاراً لجبهة التحرير الوطني التي استطاعت، تفضل ذلك، أن تضم إلى صفوفها عدداً كبيراً من الإطارات السياسية والثقافية التي ستؤدي دوراً لا يستهان به خلال ما تبقى من سنوات الكفاح المسلح، وقد كان من الممكن أن يكون انتصاراً أكبر، لو لم تتعرض البلاد إلى أزمة صائفة اثنين وستين تسعمائة وألف التي فتحت شهية المحترفين السياسيين على حساب المصلحة الوطنية.
ومجرد انتهاء أشغال المؤتمر، رجعت لجنة التنسيق والتنفيذ إلى العاصمة وتوجه العقيد يوسف زيغود إلى الأوراس مكلفاً بالإشراف على عملية إنهاء الخلافات القائمة بين مختلف القيادات المحلية، وتعيين القائد الموحد الذي يكون أهلاً لخلافة الشهيد مصطفى بن بوالعيد، غير أن هذه المهمة الصعبة والنبيلة في ذات الوقت لم يكتب لها النجاح على يد قائد الولاية الثانية الذي استشهد قبل حتى أن يخرج من ولايته (2).
إن هذه المهمة قد أسالت كثيراً من الحبر وحاول العديد من المؤرخين إعطائها تأويلاً غير الذي وجدت من أجله. فزيغود يوسف كان مشهوراً بقدرته على التنظيم وكانت له خبرة واسعة بالعمل العسكري بالإضافة إلى معرفته بإطارات الولاية الأولى الذين كانوا يكنون له كل الاحترام نظراً للعلاقات
(1) أين طوبال (الخضر)"من أهداف مؤتمر وادي الصومام" محاضرة ألقاها في إطار النشاط الثقافي الذي نظمه اتحاد الكتاب الجزائريين بقاعة الكابري في العاصمة يوم 20/ 8/1982.
(2)
المنظمة الوطنية للمجاهدين، من شهداء ثورة التحرير، مطبعة جريدة الوحدة بدون تاريخ ص،50.
النضالية والودية التي كان يقيمها مع قائدهم بلا منازع الشهيد مصطفى بن بوالعيد.
ومن الممكن أن زيغود كان ينجح في توحيد مختلف الفرق المتنازعة على السلطة في الأوراس، ولو تم ذلك لربحت الثورة وقتاً ثميناً واستفادت من طاقات وطنية ضاعت بلا سبب يذكر.
وشكل استشهاد زيغود أول امتحان اجتازته القيادة العليا بنجاح حيث تم تعويضه بسرعة وبدون أي مشكل (1) واستمرت لجنة التنفيذ والتنسيق تواصل تطبيق الأيديولوجية التي صادق عليها المؤتمر.
ففي المجال العسكري، تكيف جيش التحرير الوطني بسرعة فائقة مع التنظيم الجديد، وبدا يعمل طبقاً للقوانين المختلفة المشار إليها في محلها، وينطبق هذا القول حتى على المناطق التي أبدت تحفظها وعبرت عنه بممارسات وصلت إلى حد استعمال العنف.
وكان لتمركز لجنة التنسيق والتنفيذ في عاصمة البلاد أثر بالغ الأهمية على معنويات القوات الجزائرية المقاتلة داخل المدن وفي الجبال والأرياف عامة. فوحدة القيادة وتواجدها في ميادين المعركة زاد المجاهدين حماساً، وقرب المواطنين أكثر من صفوف جبهة التحرير الوطني.
(1) لقد كان يوسف زيغود من قدماء المنظمة الخاصة والمناضلين البارزين في حركة الانتصار للحريات الديمقراطية تولى قيادة المنظمة الثانية على إثر استشهاد مراد ديدوش يوم 18 ك2 سنة 1955. يعتبر واحداً من المنظرين العسكريين الأساسيين في ثورة نوفمبر التي أعطاها دفعاً كبيراً بفضل الهجوم الشامل الذي نظمه ابتداء من يوم 20 أغسطس سنة 1955 على مراكز العدو بكامل تراباً لشمال القسنطيني. بدأ الدعوة إلى عقد مؤتمر وطني للثورة الجزائرية منذ أول عهده بقيادة المنظمة الثانية واقترح أن تجري أشغاله في ناحيتها الغربية، ويذكر المقربون إليه أنه كان متشدداً في عملية اختيار القيادة العليا للثورة إذ رفض أن تفتح أبوابها للمتنشبعين بغير إيديولوجية الحركة الوطنية المتمثلة في النجم ومن بعده حزب الشعب ثم حركة الانتصار والمنظمة الخاصة.
في أثناء مؤتمر وادي الصومام عين الشهيد يوسف زيغود عضواً بلجنة التنسيق والتنفيذ ثم كلف بالمهمة التي كان من المفروض أن تقودها إلى الولاية الأولى. وعلى أثر استشهاده تمَّ تعويضه للسيد سعد دحلب.
وإذا كان بعض المؤرخين يهملون عن قصد أو غير قصد، تعيين العقيد يوسف زيغوت كعضو أساسي في لجنة التنسيق والتنفيذ، فإن الدارسين الجديين الذين أعطيت إمكانية الإطلاع على وثائق الثورة الجزائرية لا يترددون في إدراج اسمه ضمن التشكيلية الأولى. وعلى سبيل المثال يمكن الرجوع إلى كتاب السيد فيليب تريبيي Philippe Tripier " تشريح لحرب الجزائر" ص:121.
علماً بأن الكتاب صدر في باريس سنة 1972 ويشتمل على 680ص من القطع الكبير.
وبمجرد العودة إلى العاصمة، شرعت القيادة العليا في الإعداد لتطبيق قرار المؤتمر المتعلق بدعم العمل الفدائي وتعميمه حتى يتمكن سكان المدن من القيام بواجبهم الوطني في إطار الكفاح المسلح الذي أصبح حقيقة ملموسة في كافة أرياف البلاد.
وتضاعف العمل الفدائي ابتداء من شهر سبتمبر سنة ست وخمسين من العمليات الجريئة التي استهدفت تفجير أشهر النوادي والمقاهي التي يرتادها الفرنسيون العسكريون والمدنيون على حد سواء (1). وخارج العاصمة يمكن الإشارة إلى ما اصطلح على تسميته بعملية "العصفور الأزرق (2) التي مكنت الثورة من الاستحواذ، دفعة واحدة على خمسين وثلاثمائة قطعة من أحسن أنواع السلع واستفادة من عدد ماثل من الجنود المناضلين الذين عملت القوات الاستعمارية على تدريبهم عسكرياً في ظرف قصير وملائم للغاية.
وفي نفس الفترة، عرفت كبريات المدن، خاصة في الولايات الأولى والثانية والثالثة، نشاطاً فدائياً كبيراً بقصد تطهير صفوف الشعب من الخونة، ونشر جو الثقة في أوساط المواطنين الذين أرهقهم العنف الاستعماري الذي بلغ قمته في تطبيق ما يسمى بالمسؤولية الجماعية. هذا من جهة، ومن جهة ثانية كان العمل الفدائي يهدف إلى تفكيك شبكات العدو الاستعلامية، وضرب مصالحه الحيوية المتمثلة سواء في المحلات العمومية أو في المؤسسات الاقتصادية التي يستغلها غلاة الكولون. ومن حين لآخر، كان الفدائيون يوجهون رصاصهم
(1) نشرت جريدة "لومند" الفرنسية في عددها الصادر بتاريخ 28/ 29 نوفمبر سنة 1971 مقالاً كتبته الآنسة جارمان تبون التي كانت عضواً بديوان جاك سوستيل سنتي 1955 - 1956 تعلق فيه على كتاب الجنرال ماسي: "معركة الجزائر الحقيقية" ومن جملة ما ورد في المقال أن السلطات الاستعمارية هي التي بدأت بتفجير الأهداف المدنية أقدمت يوم 10/ 8/1956 على تلغيم المبنى الكائن برقم 3 نهج طيبة انتقاماً من الشهيد عاشور الذي كان واحداً من قادة العمل الفدائي في العاصمة".
(2)
بدأت هذه العملية في شكل مؤامرة خطط لها السيد جاك سوستيل قصد اختراق صفوف جيش التحرير الوطني وتفجير الثورة من الداخل. تتمثل العملية في قيام المصالح الاستعمارية في العاصمة بالاتصال بأشخاص جزائريين يسكنون مدينة العزازقة الكائنة بولاية تيزيوزو حالياً، فعرضت عليهم تكوين أفواج من المسلحين الذين تسند إليهم مهمة تخريبية واسعة النطاق. لكن الأشخاص المعنيين اتصلوا بقيادة جبهة التحرير الوطني التي أمرتهم بقبول العرض. وشرع على الفور في تكوين الأفواج من المناضلين المخلصين. وبسرعة فائقة بلغ عددهم 350 دربهم الجيش الفرنسي وزودهم بأحدث أنواع الأسلحة. بعد ذلك جاءت الأوامر، فالتحقوا جميعاً بصفوف جيش التحرير الوطني.
وقنابلهم لضباط الأمن الفرنسيين وقادة الأقسام الإدارية المختصة (1) والقواد والآغوات والباشوات (2) الذين لم يستجيبوا لنداءات الثورة وتعليماتها الداعية إياهم إلى الاستقالة والانضمام إلى التنظيم المدني لجبهة التحرير الوطني.
ولئن كان من الصعب، اليوم، تقديم إحصاء دقيق لكل العمليات الفدائية التي تم تنفيذها في الفترة الفاصلة ما بين مؤتمر وادي الصومام والدورة التي عقدها المجلس الوطني للثورة الجزائرية بالقاهرة ابتداءاً من يوم عشرين آب سنة سبع وخمسين وتسعمائة وألف (3)، فإن الرجوع إلى الجرائد الاستعمارية التي كانت تصدر في ذلك الوقت يمكننا من تقديم نظرة إجمالية عن الموضوع (4). ولقد حاولنا حصر عدد العمليات بالنسبة لمدينة قسنطينة وحدها، فوجدنا معدلها يزيد عن خمس في كل يوم بالنسبة للفترة المذكورة أعلاه.
وإلى جانب تكثيف العمل الفدائي، قامت مختلف الولايات بإعادة هيكلة نفسها طبقاً لمقررات وادي الصومام وكما سبقت الإشارة إلى ذلك في الفصل الثاني. وبمجرد أن فرغت من تكوين اللجان النظامية وتنصيبها قصد تكليفها بالإشراف على شؤون المواطنين الإدارية والتعليمية ولأجل توعية الجماهير وإنقاذها من براثن العدو الذي بدأ يزرع "الأقسام الإدارية المختصة"(5) في
(1) هذه المصالح من اختراع السيد جاك سوستيل الذي اعتبرها عنصراً أساسياً في مشروع الإصلاحات التي جاء بها معتقداً أنها كافية لخنق الثورة في المهد. ومن مهام المصالح الإدارية المختصة تسيير شؤون المواطنين والعمل على تقديم المعونة للمعوزين وتنظيم الحركة التعليمية في الأرياف خاصة، لكن المهمة الرئيسية لتلك المصالح تبقى هي الاستعلامات وتوظيفها لدعم العمليات العسكرية التي يقوم بها الجيش الاستعماري. ولقد أسند تسيير المصالح الإدارية المختصة إلى ضباط من الجيش متعلمين يشاركون إجبارياً في مهمات خاصة.
(2)
لأن عدداً كبيراً منهم قد أدركه الوعي بسرعة وأبدى استعداداً للنشاط في صفوف جبهة التحرير الوطني.
(3)
انظر الملحق رقم 10.
(4)
انظر جريدتي لا دباش قسنطينة (la depêches de contantine ler trimestre 1957) وصدى الجزائر نفس الفترة.
(5)
كان جاك سوستيل الذي عين والياً عاماً للجزائر من طرف الرئيس مانديس فرانس بتاريخ 25/ 1/1955، يعتقد أن الإصلاح في المجالات الإدارية والاقتصادية والاجتماعية وحده كاف لجعل الجزائريين ينفضون من حول جبهة التحرير الوطني، ولذلك وضع مخططاً شاملاً يسمى باسمه ضمنه فتح أبواب التوظيف للأهالي وإفادة الفلاحين الجزائريين من القروض على غرار الفلاحين الأوربيين ومحاولة التفاوض مع جهات مختلفة تمثل تشكيلات سياسية متعددة كان يظن أنها تستطيع وقف إطلاق النار، ولكن الأهم من كل ذلك هو إنشاء ما يسمى بالمصالح الإدارية المختصة التي أراد أن يجعل منها همزة وصل السلطتين المدنية والعسكرية، أسند لها مهمة الإشراف على شؤون
المناطق الريفية و"المصالح الإدارية العمرانية"(1) في المدن.
ولقد كان المؤتمرون الذين قرروا تأسيس المجالس الشعبية يعلمون علم اليقين أن التنظيم الشعبي هو القاعدة الأساسية التي يرتكز عليها العمل الفدائي، ويتوقف عليها نجاح العمليات العسكرية ذلك أن المجالس هي التي تتولى تحسيس الجماهير بأهمية الكفاح المسلح وبضرورة الإسهام فيه مباشرة أو بطريقة غير مباشرة (2). فالفدائيون والمجاهدون يمكن تجنيدهم بكل سهولة، لكن وجودهم حتى بأعداد كثيرة لا يكون له معنى إلا إذا وجدت القاعدة التي تراقب العدو وتجمع أخباره والتي تحضر المؤن وتعد مراكز الراحة والانطلاق والتي تشرف على جمع الاشتراكات والتبرعات وشراء ما يحتاج إليه الجيش من معدات ومستلزمات مختلفة.
وإن عودة سريعة إلى ذلك الوقت، وبالذات طريقة تأسيس المجالس الشعبية، تكفي للتدليل على أن الثورة كانت تتبع الأسلوب الديمقراطي لتعيين المسؤولين عن تلك المجالس. فالمسؤولون على المستوى الأعلى كانوا يستشيرون أكبر عدد ممكن من أبناء القرية قبل اختيار رئيس المجلس والأعضاء الأربعة الذين يساعدونه. وعندما تكون الظروف الأمنية مواتية، فإن السكان الراشدين هم الذين يدعون للانتخاب بكل حرية. وعلى الرغم من أن وثيقة وادي الصومام لم تتعرض بالتفصيل للمجالس الشعبية، فإن المشروع على مستوى الولاية، قد وضع نوعاً من القانون الداخلي الذي حددت بمقتضاه مهام كل واحد من الأعضاء المكونين للمجلس.
فالرئيس مسؤول عن التنسيق ومكلف بتنفيذ التعليمات والتوجيهات وبتنشيط الهياكل النظامية ومراقبتها، وكذلك السهر على تطبيق القرارات التي يتخذها
الجزائريين خاصة في القرى والأرياف، ومسؤولية استعمال كل الوسائل من أجل ربح ثقة المواطنين والأهالي وجعلهم يقبلون التعاون مع الجيش الاستعماري ضد جبهة التحرير الوطني.
قاد كل واحد من هذه المصالح ضابط برتبة ملازم أم نقيب يختار من بين المثقفين الضالعين في علم النفس. وعندما يكون غير عارف باللغة العربية واللهجات المحلية بعين له مترجم. ولقد قامت هذه المصالح بتأدية دور خطير، وفي كثير من الأحيان شكلت تهديداً جدياً على حسن سير الثورة. ومن الجدير بالذكر أن آثار النشاط التخريبي الذي أنجزته تلك المصالح ما تزال قائمة إلى أيامنا هذه وتتجلى خاصة في مظاهر الاستلاب ومناهضة الثورة.
(1)
تقوم هذه المصالح في المدن بنفس الدور المناط بالمصالح الإدارية المختصة، ولكن أعمالها ظلت محدودة نظراً لنوعية السكان الذين تتعامل معهم.
(2)
نعني بالطريقة غير مباشرة، هنا، ما يعبر عنه بأضعف الإيمان وهو التعاطف مع الثورة مع فقدان الشجاعة الضرورية لدخول الميدان.
المجلس نفسه، وبالإضافة إلى ذلك، فإنه يرأس الاجتماعات ويراقب أعمال الشرطة. أما مسؤول المال فيستقبل كل المدخولات التي يضع بشأنها تقريراً شهرياً. ويتولى تسديد نفقات الهياكل النظامية وصرف المنح لعائلات الشهداء والمجاهدين. وبينما يقوم مسؤول الدعاية والأخبار بتنظيم مراكز البريد وجمع المعلومات وتبليغها في شكل تقارير منتظمة إلى القيادة، فإن مسؤول الأمن يشرف مباشرة على رجال الشرطة ويحدد الأماكن الملائمة لتمركز الجيش، كما أنه يضبط المسالك والطرقات التي يتبعها الأفراد والجماعات والقوافل. وأما مسؤول التموين فتنحصر مهمته في الجمع والتخزين والتوزيع، ولديه يجد المسؤولون الجرد الشامل لممتلكات الثورة من الحبوب والمواد الغذائية والثروة الحيوانية.
وتعتمد المجالس الشعبية في تأدية مهامها على مسؤولي المشاتي (1) والمداشر (2) الذين تسند إليهم صلاحيات واسعة في ميادين التنظيم والمراقبة وإعداد المأوى والمأكل وتسجيل الحالة المدنية وغيرها من الأعمال الضرورية لضمان التسيير الحسن وإبقاء الجماهير الشعبية في حالة اليقظة الدائمة والاستعداد المستمر.
ومع مر الأيام فإن الإشراف على شؤون المواطنين والعمل على تنظيم حياتهم في جميع مجالاتها قد أدى بقيادات الثورة إلى اصطدام بالواقع المعيشي الذي تراكمت مساوئه بفعل الوجود الاستعماري الذي كان يهدف بالدرجة الأولى إلى زرع الشقاق في أوساط الجماهير وإغراقها في بحور المشاكل الزائفة التي تنغص حياة المواطن وتمنعه من الاهتمام بالقضايا الحقيقية والتي هي قضايا التحرير والتحرر والرقي والتقدم. ومع اندلاع الثورة، وحدت الجماهير الشعبية نفسها في مواجهة وضع جديد يعنيها مباشرة ويمس جميع الميادين الاقتصادية والسياسية والثقافية والاجتماعية. وإذا كان هذا الوضع الجديد قد أحدث تغييراً
(1) المشتى هي مجموعة من الديار المبنية بناءاً خفيفاً حتى تكون قابلة للتعدين بسهولة. ويبدو أن الاسم مأخوذ من الشتاء لأن هذا الفصل يلزم الناس بالبقاء في مكان واحد على خلاف الفصول الأخرى التي يتميز كل منها بنشاط خاص يتطلب كثيراً من الحركة والتنقل. ومن الجدير بالذكر أن التسمية أصبحت متداولة وهي مستعملة في اللغة الفرنسية. ومما زادها شهرة ارتباطها بإنسان كرومانيون الذي اكتشفت آثاره سنة 1912 بمشتى العربي الكائنة على مقربة من مدينة قسنطينة. ومن الجدير بالذكر أن نظام المشاتي هذا خاص بشمال إفريقيا.
(2)
جمع دشرة وهي مجموعة من المنازل المبنية بالطوب أو بالحجر على خلاف منازل المشتى التي هي في أغلبها من الديس وأغصان الشجر التي تُغطى بالطين وأحياناً ببراز البقر. وتبنى المداشر عادة حول المزارع الكبرى ومنابع المياه.
جذرياً يعمل جاهداً، على إبقائها لأنها تضمن ديمومة تبعية أغلبية الشعب الجزائري وقبولها السيطرة الاستعمارية باعتبارها الحتمية التي لا مرد لها سوى القدرة الإلهية، فإن العلاقات الإنسانية الجديدة التي أوجدها والمسؤوليات المختلفة التي صاحبته منذ ظهوره ثم راحت تكبر وتتسع وترسخه وتطوره، كل ذلك قد دفع قيادة الثورة إلى أن تدرج مسألة تنظيم القضاء ضمن الأولويات التي تحظى بالعناية الكبرى.
ولأجل ذلك، فإن الثورة التي كانت تهدف، قبل كل شيء، إلى تحرير الإنسان (1) قد عملت، منذ الساعات الأولى، على إنشاء لجان للصلح أو كانت لها مهمة البث في القضايا العالقة بين الناس، وحل المشاكل التي من شأنها أن تعرقل عملية بناء المجتمع الجديد المزمع بناؤه بعد تقويض أركان الاستعمار.
وعلى إثر أشغال مؤتمر وادي الصومام، استبدلت لجان الصلح بلجان العدل التي أصبح من صلاحياتها النظر في كل المنازعات الشخصية والمدنية والجزئية المنشورة بين الأطراف الجزائرية أمام العدالة الاستعمارية التي لم تخف اندهاشها الكبير أمام الإحجام المفاجئ للمتخاصمين (2).
وعلى الرغم من أن وثيقة وادي الصومام قد أهملت التركيز على البعد الإسلامي لثورة نوفمبر، فإن قيادات الولايات قد حرصت كل الحرص على أن تكون الشريعة الإسلامية هي المصدر الأساسي لكل الأحكام التي تصدر باسم الشعب الجزائري. (3)
وعندما كانت لجنة العدل تسند إلى مناضل أمي، فإنه يلجأ إلى المتفقهين في الدين يستشيرهم قبل الفصل في القضايا المنشورة أمامه.
أما عن الاختصاص المحلي، فإن لكل واحدة من هيئات الثورة لجنتها للعدل التي تنظر في قضايا المواطنين التابعين لها. وتتشكل كل لجنة من رئيس
(1) لقد أشرنا في مناسبات عديدة وفي كتابنا "الغزو الثقافي في الجزائر من 1962 إلى 1982" إلى أن تحرير الإنسان مرتبط أشد الارتباط بتحرير الأرض، وإن تحرير الإثنين يشكل حجر الزاوية بالنسبة لأيديولوجية الثورة الجزائرية.
(2)
انظر سجلات كتابات الضبط لدى مختلف محاكم الصلح للتأكد من أن الجزائريين استجابوا استجابة مطلقة لأوامر جبهة التحرير الوطني المتعلقة بمقاطعة القضاء الفرنسي ونشر قضاياهم أمام لجان العدل.
(3)
من الجدير بالذكر أن أحكام لجان العدل لا تقبل الإستئناف. ومع ذلك فإن تقصيات قمنا بها عبر عدد من نواحي البلاد قد أثبتت لنا أن المتخاصمين على كثرتهم لم يطعنوا في تلك الأحكام، بل أن الذين اتصلنا بهم لم يخفوا رضاهم سواء كان الحكم لهم أو عليهم.
وأربعة أعضاء يشترك جميعهم في دراسة الموضوع المعروض عليهم وفي المداولة حوله، وعندما يتعذر الإجماع يلجأ إلى بعض الشخصيات التي لها إلمام بالقضية فيطلب رأيها على سبيل الاستشارة والتوضيحات الإضافية.
وإذا كان الأمر يتعلق بجريمة أو بقضية أحد أطرافها من مناضلي جبهة التحرير الوطني أو أعضاء جيش التحرير الوطني، فإن لجنة العدل تتخلى عن الموضوع (1) وتحوله إلى هيئات قضائية أخرى تسمى المحكمة الثورية. وفي جميع الحالات، فإن تنفيذ الأحكام يخضع لإجراءات مضبوطة ضمن القانون الداخلي لجيش التحرير الوطني.
وبالموازاة مع العمل على تنظيم القواعد الشعبية ووضع أسس النظام القضائي، كانت قيادات الثورة في مستوى الولايات تولي أهمية خاصة بإقامة المنشآت الصحية عبر مختلف أنحاء الوطن وتبذل جهوداً جبارة لتقديم أدنى ما يمكن من التعليم لأبناء الريف الجزائري ولتنظيم حملات محو الأمية بالنسبة للكبار.
أما في مجال الصحة، فإنها لم تكتف بإعداد مراكز الاستشفاء (المستشفيات) والتخطيط لمواقعها حتى تكون قادرة على تلبية حاجات جيش التحرير الوطني والمواطنين المقيمين بالمناطق المحررة على وجه الخصوص (2) بل إنها زودت المراكز المذكورة بقانون داخلي موحد يحدد شروط القبول فيها ويضبط المقاييس التي يجب أن تتوفر في هيأة المشرفين عليها من أطباء وممرضين وكيفية جلب الأدوية اللازمة وما ينبغي القيام به لضمان أمنها في جميع الحالات.
ولقد أدت مراكز الاستشفاء دوراً كبيراً، وليس في معالجة المرضى والجرحى فحسب ولكن كذلك في تكوين الممرضات والممرضين الذين كانوا
(1) يستخلص من ذلك النظام الداخلي أن الأحكام تنفذ من طرف الهيأة العليا مباشرة باستثناء الحكم بالإعدام الذي لا بد من الرجوع فيه إلى محكمة الولاية.
(2)
في الحقيقة أن مراكز الاستشفاء كانت مفتوحة لجميع المواطنين الذين كانوا يجدون فيها حسن الاستقبال والمعاملة، وكانت تقدم لهم علاجاً أَفضل من ذلك الذي يخصص لأمثالهم في مستشفيات العدو، ويبدو أن هذا الأخير كان يقدر ذلك، وعليه فإنه أمر المصالح الإدارية المختصة التي سبقت الإشارة إليها بالتركيز على جانب المداواة لربح ثقة الجماهير الشعبية في الأرياف.
يختارون من بين الشباب المتعلم قليلاً (1)، وعلى الرغم من قلة الأدوية والعتاد الطبي، نظراً للمراقبة الشديدة التي تفرضها سلطات الاستعمار على الصيدليات والمستشفيات التي تشغل جزائريين، فإن المراكز الصحية التابعة لجيش التحرير الوطني كانت تستقبل، للمداواة العاجلة والضرورية، أعداداً كبيرة من المواطنين العاديين.
وأما في ميدان التعليم، فإن جيش التحرير الوطني قد نظم بنجاح حملات واسعة النطاق لمحو الأمية في صفوفه (2) قبل أن يشرع في تأسيس المدارس اللازمة لتعليم أبناء الريف، وتمكينهم من الدخول إلى عالم القراءة والكتابة. وكلما كانت الفرصة مواتية كان الأطفال، في سن المراهقة خاصة، يهجرون إلى الحدود الشرقية والغربية حيث الدراسة منتظمة تحت إشراف جبهة التحرير الوطني (3).
وإلى جانب كل هذه الأعمال الموجهة إلى تغيير صورة المجتمع الجزائري تغييراً جذرياً، وإلى إرساء قواعد الكفاح المسلح وتزويده بالأرضية الصلبة التي تضمن له النجاح، فإن النشاط العسكري والسياسي قد تضاعف بكيفية لم يعد الاستعمار قادراً على إخفاء نتائجها سواء في داخل الوطن أو في خارجه.
فبالنسبة إلى الخارج، استطاعت جبهة التحرير الوطني أن تفرض القضية الجزائرية على الساحة الدولية، خاصة بعد أن احتضنها مؤتمر باندونغ (4) وتعهد السيد شوان لاي بوقوف الصين إلى جانبها حتى يتحقق لها النصر.
وفيما يتعلق بالداخل، فإن جيش التحرير الوطني قد ارتفعت أعداده من حوالي 400 مناضل مسلح ليلة الفاتح من نوفمبر إلى حوالي 23000 مجاهد ما بين مسبل وجندي غداة مؤتمر وادي الصومام.
(1) أن عدداً كبيراً من الممرضين خاصة قد اجتازوا الحدود الشرقية والغربية، وبعد أن علموا في المستشفيات التونسية والمغربية أرسلوا إلى بلدان المعسكر الاشتراكي حيث تعلموا لغاتها والتحقوا بمعاهد الطب هناك وتمكنوا بفضل إرادتهم القوية من التخصص في مختلف فنون الطب.
(2)
يجب الأخذ في الاعتبار كون أعضاء جيش التحرير كانوا من أبناء الريف حيث كانت الأمية تزيد عن 95 ولقد استطاعت حملات محو الأمية المتتالية أن تحقق الأهداف المحددة لها، إذ نقصت هذه النسبة إلى أقل من 10% عند وقف إطلاق النار. 1962.
(3)
تجدر الإشارة إلى أن أغلبية تلاميذ تلك المدارس قد أرسلوا إلى مختلف أقطار الوطن العربي، وبلدان المعسكر الاشتراكي فأتموا دراستهم، وبعد وقف إطلاق النار عادوا ............
(4)
المجاهد، العدد الخاص، ص69.
كما أن الأسلحة التي كان أغلبها من بنادق الصيد وبقايا الحرب الإمبريالية الثانية، قد أصبحت تتضمن أكثر من ثلاثة آلاف قطعة حربية وأكثر من عشرة آلاف بندقية صيد. وصارت ميزانية الثورة قريبة من مليار فرنك قديم بينما كانت عشية نوفمبر لا تكاد تذكر.
وعلى الرغم من أن الثورة قد تلقت ضربتين قاسيتين في شهر أكتوبر سنة ست وخمسين وتسعمائة وألف، تتمثل الأولى في تمكن الجيش الاستعماري من الاستيلاء على الباخرة "أتوس س (1) المقلة لحوالي مائة طن من الأسلحة والذخيرة الحربية كانت في طريقها إلى منطقة الناظور الغربية، وتتعلق الثانية بإجبار طائرة الخطوط الملكية المغربية على النزول بمطار الجزائر وعلى متنها أربعة من أعضاء القيادة التساعية التي تحملت مسؤولية تفجير الثورة، فإن العدو قد تزعزع من أعماقه نتيجة التغيير الكمي والنوعي الذي أدخل على طرائق القتال في مدينة الجزائر وضواحيها وفي سائر كبريات مدن البلاد وقراها.
وقد عبرت القيادة المدنية الفرنسية عن عجزها في مواجهة نشاط جبهة التحرير الوطني في المجالين السياسي والعسكري عندما أقدم السيد روبير لاكوست في اليوم السابع من شهر ك2 سنة سبع وخمسين وتسعمائة وألف على استدعاء الجنرال صالان وماسي وأسند لهما مهمة "إعادة الأمن والاستقرار إلى العاصمة"(2).
وواجهت قيادة جبهة التحرير الوطني في العاصمة دخول المظليين بقوة إلى المعركة بتنظيم عدد كبير من العمليات الفدائية وبإضراب شامل انطلق في نهاية الأسبوع الرابع من نفس الشهر (3).
(1) كانت الباخرة لصاحبها البريطاني سان بريلفز وقد اشتراها السيد أحمد بن بله باسم إبراهيم النيال السوداني الجنسية يوم 21/ 7/1956، وأبحرت من الإسكندرية ليلة الرابع من شهر أكتوبر محملة بأنواع كثيرة من الأسلحة والذخيرة إلا أنها احتجزت من طرف البحرية الاستعمارية يوم 16 من نفس الشهر. لكن السيد عباس في كتابه "تشريح الثورة ص:184، يرى أن مسؤول فرع شمال إفريقيا بالمخابرات المصرية: السيد فتحي الديب هو الذي سلم الباخرة إلى الفرنسيين عن طريق سفارة فرنسا بالقاهرة.
(2)
هؤلاء القادة هم: أحمد بن بله، محمد خيضر، محمد بوضياف وحسين آيت أحمد، أما عملية القرصنة فقد تمت بموافقة السيد ماكس لوجين Max Lejeunne نائب كاتب الدولة للدفاع الوطني الفرنسي.
(3)
عندما أمر بالإضراب العام، قال الشهيد ابن المهيدي: "أن نجاحه سيبين بما لا يدع أي مجال للشك أن الشعب الجزائري يساند جبهة التحرير الوطني ممثله الشرعي والوحيد، وسيعطي حجة للمندوبين الجزائريين في الأمم المتحدة لإقناع الديبلوماسيات المترددة، من لقاء أجريته مع رئيس ابن يوسف بن خدة في بيته يوم 16/ 6/1986، وكان ذلك بحضور السيد محمد الصالح بوسلامة.
إن مختلف المصادر التي بين أيدينا اليوم تركز على العمل الفدائي الذي عرفته العاصمة ولا تعير إلا اهتماماً متواضعاً للعمليات التي أنجزها الفدائي في باقي مدن الجزائر وقراها وذلك على الرغم من أن تلك العمليات كانت في كثير من الأحيان تكاد تكون خيالية. فالإعلام العالمي، عندما لا يكون منحازاً، فإنه يستقي معلوماته من وسائل الإعلام الفرنسي وهذه الأخيرة موجهة للتقليل من أهمية التزايد الذي عرفه الكفاح المسلح مباشرة بعد مؤتمر الصومام ولتعميم الواقع الذي من شأنه أن يظهر للرأي العام العالمي أن قيادات الثورة تبذل جهوداً مكثفة لتطبيق مقررات المؤتمر المذكور. أما الأجهزة الإعلامية التي كانت في حوزة الثورة، فإنها، رغم كل المحاولات، لم ترق إلى المستوى الذي يجعلها قادرة على الاستجابة للحاجة، وحتى الإعلام العربي الذي كان متعاطفاً مع الثورة بالضرورة، فإنه لم يكن من حيث الإمكانيات المادية والتقنية، قادراً على تأدية الدور الذي يسمح بتقديم العمل الثوري في صورته الحقيقية التي يعمل العدو على إخفائها بكل ما أوتي من قوة (1).
وسيظل إضراب الأسبوع، كما اصطلح على تسميته، مادة غزيرة للمؤرخين السياسيين وللمسؤولين الجزائريين الذين عايشوا الحدث أو شاركوا في الإعداد له من قريب أو من بعيد.
أما الشهيد العربي بن المهيدي وأنصاره فموقفهم لا غبار عليه. فالإضراب، بالنسبة إليهم، امتحان عسير مطلوب منه تحقيق نتيجتين إيجابيتين مقابل تضحيات جسام لا يمكن تقييمها مسبقاً. فالنتيجة الأولى تتكتل في توسيع الهوة بين جماهير الشعب الجزائري، وقوى الاحتلال الفرنسي وفي هز النفوس المترددة والمتشككة وجعلها تقتنع بأن التضامن الوطني هو الضمان الوحيد لتوفير الشروط اللازمة للقضاء على النظام الاستعماري واسترجاع السيادة الوطنية، وتكمن النتيجة الثانية في تنبيه الرأي العام العالمي إلى أن شعار الجزائر الفرنسية خرافة لم يعد لها وجود بفعل إجماع الجزائريين على طاعة أوامر جبهة التحرير الوطني.
(1) ولسد هذا في تاريخ ثورة فإن منظمة المجاهدين تقيم دورياً سنوات ندوات جبهوية وأخرى وطنية، تحاول، من خلالها، إقامة جرد واف بقدر الإمكان لمختلف العمليات العسكرية والفدائية دون إهمال جانب التنظيم السياسي والاجتماعي والثقافي والقضائي للثورة. غير أن هذا الجهد، رغم ضخامته ورغم قيمته العلمية، سيظل ضائعاً ما لم تتحد الأقلام المختصة الى تحويله إلى تاريخ ما أحوج الأجيال الصاعدة إليه.
ويرى كبار العسكريين الفرنسيين أن تنظيم الإضراب وتمديده لمدة أسبوع كان خطأ ارتكبته لجنة التنسيق التنفيذية، إذ أن إغلاق المحلات التجارية وبقاء السكان في منازلهم سهل على المصالح الاستعمارية المختصة مهمتها فيما يتعلق بمراقبة تحركات المشبوهين، أعطاها فرصة التدخل السريع للمطاردة ولتطويق الأماكن التي تمركزت فيها القيادات السياسية واللجان الشعبية ومجموعات الفدائيين.
ويلح بعض المسؤولين ممن لم يكونوا محبذين للإضراب على أن نظرتهم كانت الصائبة، لأن الكلفة، في حسابهم، كانت أكثر بكثير من الأهداف التي تحققت ومهما اختلفت وجهات النظر وتعددت الأحكام، فإننا نرى *فيما يخصنا، وانطلاقاً من تحليلنا لكل المعطيات والنتائج، أن إضراب الأسبوع كان شبيهاً في أكثر من قطعة بانتفاضة الشمال القسنطيني التي وقعت في اليوم العشرين من شهر آب سنة خمس وخمسين وتسعمائة وألف، ومن ثم وعلى غرار العشرين أوت فهو عملية ناجحة رغم كل ما ترتب عنها من نتائج سلبية ورغم كل ما كلفته من أثمان باهظة في جميع الميادين.
لكن الاعتراف بالنجاح لا يمنع أبداً من القول: "إن الإضراب هو الذي أدى إلى استشهاد العربي بن المهيدي وإلى خروج لجنة التنسيق والتنفيذ من التراب الوطني وبذلك وضعت نفسها أمام امتحان عسير يتعلق بممارسة مبدأ أولوية الداخل على الخارج خاصة.
لقد كانت قيادة مؤتمر وادي الصومام، عندما أبرزت المبدأ المذكور، تهدف إلى استعماله قصد إبعاد مندوبية الخارج عن السلطة وجعلها مجرد مصلحة من جملة مصالح أخرى كثيرة وذلك على الرغم من أن المبدأ في حد ذاته مصيب لأن القيادة الحقيقية للثورة إنما هي تلك التي تكون على اتصال دائم بالقوات المقاتلة، ومن الصعب جداً أن تخضع إلى خارج الولايات، تقود كفاحاً يحتاج إلى أوامر يومية تتوقف نجاعتها على مدى معرفة الميدان معطياته. لكن عبان رمضان الذي لم يكن يخفي عليه ذلك أراد توظيف المنطق والفعالية لتحقيق شيء في نفسه يمكن أن نسميه اليوم حب المسؤولية أو حسابات الماضي.
فالشهيد العربي بن المهيدي، من بين أعضاء لجنة التنسيق والتنفيذ، هو الوحيد الذي ظل وفياً للمبادئ التي صادق عليها المؤتمر عندما رفض الخروج وصرح في آخر اجتماع عقدته اللجنة بتاريخ 15/ 2/1957 أنه "يفضل الموت