المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

شيئاً فشيئاً إلى جهاز إداري تابع للإدارة في أحسن الحالات. وبعد - تاريخ الجزائر المعاصر - جـ ٢

[الزبيري، محمد العربي]

فهرس الكتاب

- ‌الباب الثانيبناء المجتمع الجزائري الجديد وتطويره

- ‌الفصل الأولالخطوات الأولى في التطبيق الميداني لأهداف الثورة

- ‌التوجهات الأساسية:

- ‌ التوجه السياسي:

- ‌ التوجه الاقتصادي والاجتماعي:

- ‌ التوجه الحضاري:

- ‌ موقف الحكومة الفرنسية من الثورة وتطورها:

- ‌ مواجهة الصعوبات الأولى:

- ‌ هجومات العشرين من أغسطس1955

- ‌الفصل الثانيالمجتمع الجزائري الجديدوكيفية تنظيمه

- ‌أ - في مجال السياسة الداخلية:

- ‌ هيئات قيادة الثورة:

- ‌ أولوية السياسي على العسكري:

- ‌ب - في المجال العسكري:

- ‌ج - في مجال الثقافة والاقتصاد:

- ‌خلاصة الفصل:

- ‌الفصل الثالثالتطبيق العملي لأهداف جبهة التحرير الوطنيبعد مؤتمر وادي الصومام

- ‌تقييم أخر لنتائج وادي الصومام:

- ‌الدورة الأولى للمجلس الوطني للثورة الجزائرية:

- ‌من حرب العصابات إلى حرب الواقع:

- ‌التخطيط للعمل السياسي:

- ‌ في اتجاه الأمم المتحدة:

- ‌ في اتجاه المنظمة الأفرو آسيوية:

- ‌ في اتجاه الحلف الأطلسي:

- ‌خلاصة الفصل:

- ‌الباب الثالثالتحولات الفكرية الكبرى

- ‌الفصل الأولالإثراء الثالث لنصوص جبهةالتحرير الوطني

- ‌ الضباط الجزائريون القادمون منالجيش الاستعماري

- ‌مناورات الجنرال ديغول وحق الشعب الجزائريفي تقرير المصير:

- ‌دوافع رضوخ ديغول للتفاوض مع G.P.R.A

- ‌المجلس الوطني للثورة الجزائرية في دورته الثانية:

- ‌الفصل الثانيمن ثورة التحرير إلى الثورةالديمقراطية الشعبية

- ‌الفعل ورد الفعل قبل التفاوض:

- ‌الثورة الجزائرية في مرحلتها الثالثة:

- ‌المفاوضات ووقف إطلاق النار:

- ‌الحزب والمنظمات الجماهيرية:

- ‌الفصل الثالثأوضاع الجزائر غداة استرجاعالسيادة الوطنية

- ‌المنافذ الاستعمارية:

- ‌التسابق إلى السلطة:

- ‌مواجهة الأوضاع الموروثة عن الاستعمار:

- ‌الانزلاق نحو الحكم الفردي:

- ‌قراءة فاحصة لميثاق الجزائر:

- ‌الخاتمة

- ‌الفهرس

الفصل: شيئاً فشيئاً إلى جهاز إداري تابع للإدارة في أحسن الحالات. وبعد

شيئاً فشيئاً إلى جهاز إداري تابع للإدارة في أحسن الحالات.

وبعد اختتام المؤتمر الأول للحزب ودراسة مختلف اللوائح والمقررات الصادرة عنه، يحق لنا القول: إن الأيديولوجية لجبهة التحرير الوطني قد جمدت عملياً غداة استرجاع البلاد سيادتها الوطنية، وأن الجزائر قد انطلقت، في جمع عملية البناء، بأيديولوجية جديدة هي، نظرياً، الأيديولوجية الاشتراكية.

‌الخاتمة

إن الذين تعاملوا ويتعاملون مع تاريخ الثورة الجزائرية، حتى الآن، لم يفعلوا ذلك إلا وكأنهم يؤرخون لحرب تحريرية أو لأحداث دموية، أو لشكل من أشكال الحرب الأهلية التي ليست لها منطلقات أيديولوجية واضحة، بل إن معظم من كتب إلى يومنا هذا، لايقرون بوجود ايديولوجية خاصة بجبهة التحرير الوطني، وأكثر من كل ذلك، فإن ثلة من إطارات الدولة الجزائرية أنفسهم وممن تقلدوا مناصب سياسية عليا يسيرون في هذا الاتجاه ويدعمون هذا الادعاء.

وإذا كان يقبل من المؤرخين والمفكرين والسياسيين أن ينكروا على جبهة التحرير الوطني كونها حركة سياسية أصيلة تمتلك مشروع مجتمع متكامل، مغاير، تماماً لصورة المجتمع الذي أقامته فرنسا الاستعمارية، فإن ذلك مرفوض من الجزائريين الذين يفترض فيهم أن يكونوا أكثر إدراكاً لحقيقة مايجري في بلادهم وأقرب إلى فهم غيرهم خاصة إذا كان هؤلاء ينطلقون من موقع المدافع عن المصلحة العليا لوطنهم.

فالمثقفون الفرنسيون وفي مقدمتهم المؤرخون يعرفون في قرارة أنفسهم، إن الحركة الوطنية الجزائرية قبل سنة أربع وخمسين وتسعمائة وألف، كانت تنطلق من أيديولوجيات متقاربة جداً وأنها جميعاً تتناقض مع الواقع الاستعماري، لكن مصلحة فرنسا لاتمكن في العمل على بلورة ذلك التقارب حتى لاتتشكل الوحدة التي تقود إلى تعبئة الجماهير الشعبية من أجل استرجاع السيادة الوطنية، ولذلك، فإنهم كانوا، بكتاباتهم المتنوعة، يهدفون، بدلاً من البلورة، إلغاء ذلك التقارب بإبراز الاختلاف الصارخ الذي يميز الوسائل المعتمدة من طرف كل تشكيلة سياسية وطنية لتقويض أركان الاستعمار، وبالتركيز على توسيع الهوة بين التيارات السياسية الوطنية العاملة على الساحة الجزائرية، لايثنيهم شيء عن العمل من أجل تحقيق ذلك، ونظراً لسيطرتهم على مختلف الكليات التي تستقبل الإطارات الجزائرية في مرحلة ما بعد التدرج

ص: 228

الجامعي، فإنهم قد ضموا استمرارية فكرهم بواسطة الأقلام الوطنية.

ولقد شاهدنا، في الربع الأخير من هذا القرن، تقاسم الأدوار بين العسكريين والسياسيين الفرنسيين، الذين جردوا أقلامهم لتقديم تاريخ فترة الكفاح المسلح في شكل مذكرات وشهادات حية تحاول تجريد الحركة الجهادية في الجزائر من كل مقوماتها، وبين المؤرخين الذين أصبحوا يوظفون تلامذتهم الجزائريين لتقرير آرائهم التي لاتختلف في جوهرها عن آراء العسكريين والسياسيين المذكورين آنفاً.

هكذا وقع غزو المكتبات الجزائرية بمطبوعات تتفق في معظمها على أن ماوقع في الجزائر ابتداء من ليلة الفاتح من نوفمبر سنة أربع وخمسين وتسعمائة وألف لم يكن ثورة بل مجرد حرب تحريرية استهدفت الحصول على الاستقلال الوطني (1). وإذا كان هذا التعبير يبدو بريئاً، في ظاهره، فإنه، في الواقع، يتجاوب مع أهداف المدرسة الاستعمارية التي ترمي إلى إجهاض الثورة التحريرية من جهة وإلى تبرير الغزو الاستعماري من جهة ثانية. وبالفعل. ورغم مقاومة بعض الأقلام الوطنية، فإن التعبير المذكور قد أصبح هو السائد سواء في معظم الأبحاث العلمية أو حتى في أغلبية الوثائق الرسمية، وأكثر من ذلك، فإن استرجاع الاستقلال الوطني، وهو التعبير الصحيح (2)، لم يتحقق، في منظور تلك الكتابات، بفضل ماقدمه الشعب الجزائي من تضحيات جسام في إطار حركة جهادية شاملة قادتها جبهة التحرير الوطني، لكنه جاء نتيجة حتمية تاريخية وبفضل تفهم الجنرال ديغول، ومن ناحية أخرى، فإن "العروبة والإسلام لا دخل لهما في تحرير الجزائر"، ومن هذا المنطلق فإن الدولة الجزائرية التي تقام بعد "الحصول" على الاستقلال يجب أن تكون لائكية ومتوجهة نحو الغرب المسيحي عبر حضارة البحر الأبيض المتوسط.

فلدحض كل هذه المزاعم الزائفة، شرعنا في إنجاز هذه الدراسة التي قادتنا بالتدريج إلى تسليط الأضواء على العديد من المواضع الغامضة وإلى الخروج للقراء بمجموعة من الاستنتاجات التي لاتثبت وجود مشروع مجتمع خاص

(1) TRIPPER (PHILIPPE) AUTOPSIEDE LA GUERRE D'ALGERIE. P.54 et suivantes.

(2)

إن استعمال: الحصول على الاستقلال يثبت الموقف الاستعماري القائل: إن فرنسا في الجزائر لم تعتد على دولة قائمة بذاتها ولكنها جاءت لإنقاذ مجموعة من القبائل كانت تعاني من سيطرة الاحتلال التركي. والاستعمار الفرنسي هو الذي ساعد على تكوين الأمة الجزائرية من مجموعة من العناصر أهمها: العرب والبربر والأوربيون واليهود.

ص: 229

بجبهة التحرير الوطني فحسب ولكنها تكشف، أيضاً، عن وجود مؤامرة كبرى شرع في تنفيذها منذ ماقبل وقف إطلاق النار قصد إجهاض الثورة وإفراغها من محتواها الحقيقي، وفيما يلي نوجز أهم هذه الاستنتاجات:

1 -

أن جبهة التحرير الوطني بنت شرعية لنجم شمال أفريقيا (1)، ولم تكن أيديولوجيتها، عشية بدء الكفاح المسلح سوى نفس أيديولوجية النجم التي راجعتها وآثرتها مؤتمرات حزب الشعب الجزائري وحركة الانتصار للحريات الديمقراطية.

ولقد كانت هذه الأيديولوجية، منذ صياغتها الأولى، بينة، واضحة المعالم تنطلق من واقع الشعب الجزائري فتضبطه بدقة ثم تحدد سبل تغييره وتضع الخطوط العريضة للمجتمع الجديد المزمع بناؤه بعد التخلص من الهيمنة الأجنبية.

أما واقع الشعب الجزائري المشار إليه فتميزه أوضاع الظلم والتعسف والاستبداد والاستغلال المفروضة على الجماهير الشعبية بواسطة قوانين وأوامر لاتخضع لأي منطق (2)، بل همها فقط خدمة مصلحة غلاة المعمرين الذين يجمعون بين أيديهم الأراضي الخصبة والأموال الطائلة والسلطة المطلقة، ويتميز ذلك الواقع، أيضاً، بوجود أصناف من الجزائريين فطموا على حب الاستعمار، وتشبع جزء منهم بأفكاره فصاروا يطالبون بالمساواة الموهومة مع الأوربيين تارة أخرى، ولإبقاء هذه الأصناف تعيش على الأوهام وتجري وراء الأحلام، كانت السلطات الاستعمارية تصدر من حين لآخر قانوناً إصلاحياً يبقى حبراً على ورق بسبب معارضة الكولون له.

وزيادة على كل ماتقدم، فإن واقع الشعب الجزائري يعني كذلك أمية أكثر من 90% من السكان، وتجهيلاً منظماً من أجل فصل المجتمع الجزائري عن أسسه التاريخية ومنطلقاته الحضارية، وبطالة فعلية بالنسبة للأغلبية الساحقة من المواطنات والمواطنين، واغتصاباً متواصلاً لملكية الأعراش والأفراد.

وإذا كان هذا هو الواقع، فإن سبل تغييره تمر حتماً بضرورة العمل على تقويض أركان الاستعمار الذي يؤبد حالة التبعية ويسد طريق التطور والتقدم في وجه الشعب الجزائري، وفي هذا المجال، فإن توجه نجم شمال أفريقيا واضح للغاية إذ تدعو إلى استعمال جميع الوسائل الممكنة للقضاء على النظام

(1) الملحق رقم3.

(2)

انظر الباب الثالث، حيث تفاصيل الأسس التاريخية لجبهة التحرير الوطني.

ص: 230

الاستعماري، ويرى أن الكفاح المسلح يأتي في مقدمة هذه الوسائل، لأن التاريخ القريب أثبت أن غلاة المعمرين لايفهمون سوى لغة العنف لكن الكفاح المسلح وحده لايكفي، ولذلك يجب أن يكون مشفوعاً بعمليات واسعة النطاق لتوعية الجماهير الشعبية بحقيقة الواقع المفروض عليها ولتكوينها سياسياً بحيث تسهل تعبئتها في الوقت المناسب ففي هذا الإطار، تجدر الإشارة إلى فتح المدارس الحرة لاستقبال ماأمكن من أبناء المواطنين قصد تعليمهم مبادئ اللغة العربية والتاريخ والجغرافيا ومن أجل غرس الروح الوطنية في نفوسهم (1)، وإلى تكوين فروع الكشافة الإسلامية في مختلف أنحاء الوطن وإنشاء الجمعيات الخيرية لمواساة الفقراء والمساكين ولتكوين قنوات مفتوحة في اتجاه الجماهير الشعبية الواسعة، أما أكبر إنجاز فيبقى هو تأسيس المنظمة الخاصة التي أسندت لها مهمة تكوين المناضلين الشباب تكويناً عسكرياً وأيديولوجياً استعداداً لخوض المعركة الحاسمة.

وعلى إثر استرجاع الاستقلال الوطني وإجلاء قوات الاحتلال، فإن الجزائر تشكل حكومة ثورية وتنشئ جيشاً وطنياً مباشرة بعد انتخاب المجلس التأسيسي بواسطة الاقتراع العام، وفي الجزائر المستقلة تكون اللغة العربية هي اللغة

الرسمية وتستعيد الدولة جميع البنوك والمناجم والسكك الحديدية والموانئ والمصالح العمومية التي كانت مغتصبة من طرف الغزاة، كما أنها تصادر الملكيات الكبيرة التي استحوذ عليها الإقطاعيون والمعمرون والجمعيات المالية، وتوزعها على الفلاحين الصغار مع احترام الملكية الصغيرة، والمتوسطة واسترجاع الأراضي والغابات التي استولت عليها الدولة الفرنسية، وفي مجال آخر، يكون التعليم مجانياً وإجبارياً وعربياً في جميع المراحل، وتعترف الدولة الجزائرية لمواطنيها بالحقوق النقابية وتكوين التنظيمات العمالية وتنظيم الإضرابات وتسن القوانين الاجتماعية، وتقدم المساعدات الفورية للفلاحين وذلك في شكل قروض معفاة من دفع الفوائد تخصص لشراء الآلات والبذور والأسمدة ولتنظيم الري وتحسين المواصلات إلى غير ما تحتاج إليه الزراعة العصرية لأن الجزائر بلد زراعي بالدرجة الأولى.

وخلاصة القول، فإن مشروع المجتمع الذي وضعه نجم شمال أفريقيا والذي جاءت جبهة التحرير الوطني لتجسيده على أرض الواقع، يحمل في طياته دعوة إلى العمل من أجل القضاء على واقع يثقل كاهل الشعب الجزائري

(1) انظر الفصل الثالث من الباب الأول.

ص: 231

وذلك دون التوقف عندما يسمى بالقواعد الأخلاقية أو الشرعية الوسائل أو عند أية حقيقة غير حقيقة العمل، وإلى استرجاع الاستقلال الوطني ليس كحادث متوقع ومرغوب فيه وكاف ولكن كحادث أكيد وضروري يندرج في إطار تسلسل تاريخي من أجل إنجاز ثورة شاملة تؤدي إلى تغيير الجزائر تغييراً جذرياً في هياكلها وهيآتها وفي ثرواتها الطبيعية والبشرية، وتستهدف تحرير الأرض وتحرير الإنسان باعتبار العمليتين متكاملتين ولايمكن لإحداهما أن تتم بدون الأخرى.

2 -

إن أيديولوجية الحركة المصالية تلتقي في خطوطها العريضة مع باقي الأيديولوجيات الوطنية التي كانت سائدة في الجزائر قبل سنة أربع وخمسين وتسع مائة وألف، لكنها تختلف معها حول مجموعة من النقاط الجوهرية التي يأتي في مقدمتها الكفاح المسلح كوسيلة لابد منها لاسترجاع السيادة الوطنية.

3 -

إن الحزب الشيوعي الجزائري لم يكن حركة وطنية، بل تنظيماً تابعاً للحزب الشيوعي الفرنسي وحريصاً على تطبيق تعاليم الذين تدعو الأممية الشيوعية إلى عدم الانضمام إلى الحركات الثورية في المستعمرات. وعلى هذا الأساس، ظل محافظاً على كيانه المستقل ورافضاً الذوبان في جبهة التحرير الوطني حتى كان وقف إطلاق النار.

ومما لاشك فيه أن ثمة عوامل كثيرة منعت الحزب الشيوعي الجزائري من أن

يصبح تشكيلة سياسية وطنية وفي مقدمتها سيطرة العنصر الأوروبي على الهيئات القيادية ثم أيديولوجيته التي ترفض الاعتراف بثورية الفلاحين الجزائريين وتؤمن باستحالة تحرير الجزائر قبل انتصار البروليتاريا في فرنسا.

إن هذه الحقيقة لم تمنع بعض الشيوعيين الجزائريين من، الالتحاق فرادى بصفوف جبهة التحرير الوطني، قد جاء في وثيقة وادي الصومام أن ذلك الالتحاق لم يكن بريئاً في غالب الأحيان، إذ كانت القيادة الوطنية تهدف إلى توظيف أولئك العناصر في فترة ما بعد استرجاع الاستقلال الوطني، ولقد تبين، بعد اتفاقيات أيفيان، أن تحليل مؤتمري وادي الصومام كان صحيحاً، لأن الشيوعيين الذين شاركوا في الثورة سرعان ما انفصلوا عن جبهة التحرير الوطني وراحوا يعملون مع رفاقهم على التآمر ضدها مما جعل الرئيس أحمد بن بلة يصرح قائلاً "إننا لانريد اتخاذ إجراءات المنع ضد الحزب الشيوعي الجزائري لكننا نرى أن نشاطه يتناقض مع مصلحة البلاد ولايعتمد إلا على الديماغوجية" إننا لانعترف للشيوعيين بحق التقييم لأنهم لم يقوموا بشيء يذكر

ص: 232

في سبيل تحريرنا" (1).

وعلى الرغم من عدم المشاركة الفعلية في ثورة التحرير، فإن الحزب الشيوعي الجزائري قد تمكن، بواسطة مجموعة من إطاراته المندسين في صفوف جبهة التحرير الوطني في الخارج، من العبث بالنصوص الأساسية وجعل الانحراف الأيديولوجي يصبح حقيقة ملموسة ابتداء من الدورة الثانية للمجلس الوطني للثورة الجزائرية (2).

4 -

إن مؤتمر وادي الصومام لم يكن انحراف كما يدعي البعض، بل كان منعطفاً حاسماً في تاريخ الثورة. وقد تمكن بحكمة وذكاء كبيرين من إثراء أيديولوجية جبهة التحرير الوطني انطلاقاً من تقييم واقعي للمرحلة المقطوعة منذ أول نوفمبر عام أربعة وخمسين وتسعمائة وألف، واعتماداً على الإمكانيات الوطنية بالدرجة الأولى. وكانت أهم عناصر الإثراء هي:

أ-إقرار مبادئ القيادة الجماعية وأولوية الداخل على الخارج والسياسي على العسكري.

ب-تزويد الثورة بهيآت قيادية عليا وموحدة.

جـ-فتح المجال أمام الإطارات المتشبعة بأيديولوجيات وطنية أخرى غير أيديولوجية جبهة التحرير الوطني لتولي مسؤوليات قيادية على جميع المستويات، وذلك حتى يحال بينها وبين السلطات الاستعمارية التي قد تلجأ إلى توظيفها ضد الثورة. ولكي يتحقق الإجماع الوطني حول مبدأ الكفاح المسلح من أجل استرجاع السيادة الوطنية المغتصبة.

د-توحيد النظام العسكري بالنسبة لجميع الولايات.

هـ-وضع الخطوط العريضة لهيكلة جميع شرائح المجتمع الجزائري قصد ضمان مشاركتها الفعلية في العمل الثوري بجميع أنواعه وعلى كافة مستوياته.

و-ضبط السياسة الخارجية للثورة.

ز-تأكيد شروط التفاوض مع العدو، وهي نفس الشروط المنصوص عليها في بيان أول نوفمبر مع توضيحات بالنسبة لتعيين المفاوضين الذين

(1) BUY (francoid) LA REPUBLIIQUE ALGERIENNE DEMOCRATIOQUE ET POPULAIRE DIFFUSION LA LIBRAIRIE FRANCAISE. PARIS 1965.P 50 ET SUIVANTES.

(2)

لمزيد من التفاصيل حول الموضوع، انظر الفصلين الثاني والثالث من الباب الثالث.

ص: 233

لا يمكن أن يكونوا من غير جبهة التحرير الوطني الممثل الوحيد الشرعي للشعب الجزائري، وبالنسبة لوحدة التراب الوطني التي تحتفظ بالحدود المسطورة عشية اندلاع الثورة بما في ذلك الصحراء.

5 -

إن الحكومة الفرنسية المتتالية قد حاولت، بجميع الوسائل، إرغام جبهة التحرير الوطني على تعديل مواقفها الأساسية لكنها لم تفلح. وبهذا الصدد تجدر الإشارة إلى مساعي قيمولي وإدكارفور وأخيراً الجنرال ديغول.

6 -

إن جزءاً هاماً من أيديولوجية جبهة التحرير الوطني قد تجسد على أرض الواقع خلال فترة الكفاح المسلح ويتمثل ذلك في الانقلاب الجذري الذي حصل في ذهنية المواطنين والمواطنات وفي التمكن من توعية الجماهير الشعبية وتعبئتها من أجل تحقيق الأهداف المسطورة في النصوص الأساسية للثورة.

7 -

إن جبهة التحرير الوطني قد تمكنت من تزويد الشعب الجزائري بمؤسسات قارة وهياكل اقتصادية ثابتة وإدارة وطنية وتسيرها مجالس شعبية منتخبة ديمقراطياً كما أنها أنشأت مجالس القضاء والصحة والتعليم بالطريقة التي تضمن الثورة لكن اتفاقيات إيفيان حملت في طياتها بذور الإجهاض لكل ذلك.

8 -

إن الانحرافات الأيديولوجية قد ظهرت عندما أعطيت لمجموعة من المثقفين المعروفين بنزعتهم الماركسية فرصة التجمع بتونس في إطار أسرة تحرير اللسان المركزي لجبهة التحرير الوطني،، فراحوا يفلسفون الثورة انطلاقاً من

مشاربهم الفكرية والثقافية غير آبهين بواقع الشعب العربي المسلم في الجزائر.

وإذا كانت تلك الانحرافات قد ظهرت بكيفية محتشمة سنة ستين وتسعمائة وألف من خلال النصوص التي صادق عليها المجلس الوطني للثورة الجزائرية خلال الدورة التي دامت أشغالها في طرابلس من يوم 16/ 12/1959 إلى يوم 18/ 1/1960، فإنها تجذرت بواسطة برنامج طرابلس الذي أعلن على الورق انتقال الثورة الجزائرية من ديمقراطية اجتماعية في إطار المبادئ العربية الإسلامية إلى ديمقراطية شعبية لاتكون متناقضة مع المبادئ الإسلامية.

9 -

إن برنامج طرابلس قد حافظ على كثير من الخطوط العريضة لأيديولوجية جبهة التحرير الوطني، لكنه وضع إلى جانبها مفاهيم ومصطلحات جديدة منقولة عن الأيديولوجية الماركسية ولا علاقة لها بحقيقة الثورة وواقعها

ص: 234

في الجزائر. ولقد أدى ذلك بالتدريج لجعل الجماهير الشعبية تتخلى شيئاً فشيئاً عن التزاماتها تجاه جبهة التحرير الوطني إذ لم تعد تجد نفسها في مشروع المجتمع المعبر عنه بواسطة البرنامج المذكور.

10 -

إن انتقال الثورة الجزائرية من ديمقراطية اجتماعية في إطار المبادئ العربية الإسلامية إلى ديمقراطية شعبية اشتراكية لم يحصل إلا على الورق ولم يأخذ في الاعتبار ضرورة أولوية الجماهير الشعبية الواسعة واشتراكها في اتخاذ القرار حتى تشعر بمسوؤليتها على الإسهام بفعالية في تطبيقه.

11 -

إن ميثاق الجزائر، بدلاً من أن يضع حداً للانحراف، فإنه عمل على تعميقه بواسطة ما أضافه من مغالطات تاريخية وفكرية وانطلاقه، في إثراء برنامج طرابلس من تقييم سطحي للواقع الجزائري غداة استرجاع الاستقلال الوطني، ومن اعتماد دراسات نظرية لاعلاقة لها بطموحات الشعب العربي المسلم في الجزائر.

فالقرار المتعلق ببعث الثورة الاشتراكية في الجزائر والذي صادق عليه المؤتمر الأول لحزب جبهة التحرير الوطني المنعقد في فترة مابين السادس عشر والواحد والعشرين من شهر أبريل سنة أربع وستين وتسعمائة وألف لم يكن متوقعاً من طرف المناضلين ولامنتظراً من قبل الجماهير الشعبية الواسعة، لقد كان، فقط، استجابة لرغبة بعض المثقفين المتشبعين بالفكر الماركسي والبعيدين كل البعد عن واقع الشعب.

12 -

إن ترسيخ الانحراف الأيديولوجي قد ترتب عليه تجميد القواعد المناضلة وتحييد الجماهير الشعبية. ولقد كان على القيادة السياسية لجبهة التحرير الوطني

أن تعتمد قبل كل شيء، إلى تكوين الإطارات والمناضلين فكرياً وثقافياً ثم تسند إليهم مهمة رفع مستوى الوعي لدى الإنسان الجزائري قصد إعداده للدخول إلى مرحلة جديدة من مراحل البناء ذلك أن المواطن لايعرف نوع وطبيعة البناء المطلوب منه المساهمة في تشييده فإنه يكون عاجزاً عن القيام بدوره وغير مهتم بما يجري من تغيير حوله.

13 -

إن عدم التصدي للانحراف الأيديولوجي وعدم التفطن إلى ضرورة تزويد إطارات جبهة التحرير الوطني ومناضليها بالتكوين الفكري والسياسي اللازم لتأدية مهامهم في ميادين التوجيه والتخطيط والرقابة والتوعية هما اللذان أديا بالتدريج إلى تهميش الجماهير الشعبية وإلى إجهاض ثورة نوفمبر بواسطة الأحداث التي وقعت في اليوم الخامس من شهر أكتوبر سنة ثمان وثمانين

ص: 235

وتسعمائة وألف.

14 -

على الرغم من انعقاد المؤتمر الأول للحزب وانتخاب اللجنة المركزية والمكتب السياسي، والمصادقة على القانون الأساسي والداخلي، وعلى كثير من المقررات واللوائح القيمة: وعلى الرغم كذلك، من إيجاد برنامج عمل دقيق وواسع، وتسليط كثير من الأضواء على بعض المفاهيم الغامضة، ومحاولة وضع سلّم إجمالي لتوضيح العلاقات بين مختلف هيئات الدولة وأجهزتها، رغم كل ذلك فإن الوضع لم يتغير، إطلاقاً، بل إن انفضاض المؤتمر كان منطلقاً جديداً لمزيد من التناقضات والمشاكل الوطنية التي ترجع في أساسها إلى مجموعة من الأسباب التي يمكن تلخيصها كالآتي:

أ-إن التشكيلة البشرية للهيئات المنبثقة عن المؤتمر لم تكن قادرة على التغيير، فكرياً خاصة، عن مطامح الجماهير الشعبية، بالإضافة إلى كونها، رغم كل ماوقع، لم تتخلص من تناقضات الماضي وسلبياته التي كانت من الأسباب الرئيسية التي فجرت الأزمة السياسية التي عرفتها البلاد بعد الاستقلال مباشرة.

فالتشكيلة على هذا الأساس، تحملت مسؤولية قيادة الثورة قبل أن تتمكن من حلّ مشاكلها الخاصة، التي لها صلة متينة بالقضايا الوطنية، وزيادة على هذا الداء العضال فإن الأمين العام للحزب كان ضعيفاً جداً أمام جاذبية الزعامة والحكم الفردي، لأجل ذلك، وبمجرد أن تم تنصيب الهيئات المنتخبة، راح يدير المبادئ ويتعسف في تصرفاته مع المؤسسات والإطارات، فاتحاً المجال من جديد لأشباح الخوف وعدم

الاستقرار ومستحوذاً على صلاحيات الحزب والدولة من القاعدة إلى القمة، الأمر الذي انتهى، بدون إطالة ومن جديد إلى تكريس سياسة الارتجال في جميع الميادين، وإلى تمييع نتائج المؤتمر وإيجاد كافة المبررات للتغيير بجميع الوسائل.

ب-إن المعارضة، رغم مشاركتها فعلياً في المؤتمر، ورغم كل ماقامت به من مناورات على جميع الأصعدة، وعندما لم تحرز على ما كانت تتأمله من مكاسب في جميع الميادين، وعوضاً عن أن تخضع لمبدأ المركزية الديمقراطية الذي يخضع الأقلية لرأي الأغلبية، فتتخلى عن النزاع لتناضل داخل الأطر الشرعية التي حدّدها المؤتمر، بدلاً من كل ذلك، فإنها لم تلق السلاح وستظل المعارك المتقطعة تهدّد بنشوب الحرب

ص: 236

الأهلية إلى نهاية عام 1964م حيث تمكن الجيش الوطني الشعبي من السيطرة على المناطق المشوّشة.

ج-إن تمكين بعض الماركسيين من الاستيلاء على مناصب حساسة في الحزب وفي الدولة لم يكن من شأنه أن يحدث الثقة والاطمئنان في نفوس مناضلي حزب جبهة التحرير الوطني الذين بدأوا يتذمرون من الوضع وينادون بالتغيير منذ الساعات الأولى التي تلت اختتام أشغال المؤتمر.

د- إن المنظمات الجماهيرية، على الرغم من التغيير، لم تتحول نهائياً، إلى هيئات تستجب فقط للخاصيات المميزة لكل فئة من السكان، ولضرورة مضاعفة إمكانيات حركة الحزب في عمله الهادف لتعبئة الجماهير من أجل إنجاح الثورة الاشتراكية في الجزائر.

فبدلاً من ذلك، استمرت تلك المنظمات في اعتبار نفسها كياناً سياسياً يمكن أن يستقل بذاته، ومن حين لآخر، صارت تقوم كثيراً ما تخدم أغراض المعارضة، مساهمة بذلك في عملية كبح إدارة المناضلين في التصدي لكل التناقضات المشار إليها أعلاه.

هـ-تعرض العديد من الشخصيات السياسية إلى أنواع من الظلم والاضطهاد، ابتداء من المضايقات والملاحقات وانتهاءً بالوضع تحت الرقابة الجبرية والسجن أو النفي إلى الصحراء، وتدهور الحالة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، الأمر الذي أدى إلى تكاثر البطالة وانتشار الفوضى والفساد في جميع المجالات، وانعدام الأمن والاستقرار.

وخلاصة القول، فإن أيديولوجية جبهة التحرير الوطني قد أثريت مرات عديدة خلال الفترة التي حددناها لهذه الدراسة لكنها، تعرضت إلى مجموعة من الاعتداءات التي قادت إلى انحرافها بالتدريج وإلى تجميدها الفعلي من طرف المؤتمر الأول للحزب الذي انعقد بالجزائر في الفترة مابين 16 و 21 أبريل سنة 1964م، وكما لايخفى على أحد، ليس هناك مثل التجميد خنقاً للإبداع وإجهاضاً للتجربة وإفراغاً للنصوص من مضامينها الإيجابية.

وعلى الرغم من كل ذلك، وبعد كل الوقت الذي قضيناه مع النصوص الأساسية لجبهة التحرير الوطني، ونؤكد أن المشروع الذي وضعته ثم أثرته هذه الأخيرة مازال صالحاً لتحقيق المستقبل الأفضل بالنسبة للجزائر، وأن الأهداف

ص: 237

الرئيسية المسطورة فيه لم تتحقق بعد رغم مرور أكثر من ثلاثين سنة على استرجاع الاستقلال الوطني. وبالفعل، فإن الثورة الجزائرية قد استهدفت "محو النظام الاستعماري في الجزائر" بواسطة تحرير الأرض وتحرير الإنسان. ولأن الإنسان الجزائري لم يتحرر بعد، ولأن الأرض في الجزائر مازالت تشكو آثار العدوان الاستعماري عليها، فإننا نعتبر أن نظام الاستعمار الجديد قد وظف عناصره في مجالات التربية والإعلام والثقافة من أجل تكوين إنسان جزائري تابع وعاجز عن الارتقاء إلى مستوى أيديولوجية جبهة التحرير الوطني التي أدار لها ظهره في أول فرصة أتيحت له، وكان ذلك بمناسبة أحداث الخامس من شهر أكتوبر سنة ثمان وثمانين وتسعمائة وألف

•••

ص: 238