الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وعندما قطعت الثورة نصف عام من حياتها، كتب المارشال جوان (1) إلى رئيس الحكومة الفرنسية السيد ايدكارفونر (2) يحرضه على اتخاذ الإجراءات الصارمة. ومن جملة ماجاء في كتابه: إن الوضع في الجزائر خطير جداً، والمعلومات الأخيرة التي وصلتنا تنبئ بأننا نسير نحو انتفاضة معممة تحت لواء الجهاد، وذلك في سائر عمالة قسنطينة (3).
إن هذا التشكي الصادر عن القادة الفرنسيين، العسكريين منهم والسياسيين، إنما يهدف إلى حمل الحكومة الفرنسية على الاستجابة، بدون مناقشة، لكل الطلبات المتعلقة برفع ميزانية الحرب وعدد المقاتلين، وبسن القوانين الجديدة التي من شأنها أن تساعد على خنق الثورة في مهدها.
ومع مرور الزمن، واتساع النشاط الثوري وافقت الحكومة الفرنسية على تطبيق مبدأ المسؤولية الجماعية وإعطاء التعويض المطلق للقادة العسكريين يفسرون ذلك المبدأ كيفما شاؤوا.
كل هذه التدابير التعسفية كان الهدف من اتخاذها الحد من روح المقاومة لدى الجماهير الشعبية وكذلك تسليط أنواع القمع على المناضلين الوطنيين قصد إبعادهم عن جبهة التحرير الوطني، ولكن النهاية كانت عكسية، اعترف بذلك، بعد استرجاع الاستقلال، كل الذين عالجوا تاريخ ثورة نوفمبر العظيمة.
*
مواجهة الصعوبات الأولى:
ولئن كانت جبهة التحرير الوطني قد استفادت في مجال العدد من كل هذه التصرفات الاستعمارية، فإن جيش التحرير الوطني، في الواقع، لم يستفد كثيراً بسبب نقص الأسلحة والذخيرة كما أشرنا إلى ذلك سابقاً، لأجل ذلك، فإن العمليات العسكرية وعمليات التمشيط المكثفة واستعمال العتاد الحربي وآلاف
(1) اذفونتش جوان، مارشال فرنسي من مواليد عنابة سنة 1888. شارك في احتلال المغرب الأقصى، حيث جرح سنة 1915، عين مساعداً للمرشال ليوتي، ألقى عليه القبض على رأس وحداته سنة 1940، أطلق سراحه بطلب من بيتان بعد عام واحد قضاه في الأسر. رئيس أركان الجيش الفرنسي 1944 - 1946. والي عام في المغرب الأقصى 1947 - 1951 ثم مفتش عام للجيش إلىغاية عام 1953. عين على رأس قوات الحلف الأطلسي لوسط أوروبا من 1951 إلى 1956، أعلن سنة 1961، عن مناهضته لسياسة الجنرال ديغول في الجزائر.
(2)
من السياسيين الاشتراكيين في فرنسا، ولد سنة 1908، ترأس الحكومة الفرنسية مرتين سنة 1952 وسنة 1955. اختار في الأخير تدريس القانون بكلية الحقوق في ديجون.
(3)
رسالة تحمل تاريخ: 18 ماي سنة 1955.
الأجناد المجلوبة من فرنسا، كلها، قد شكلت مضايقة رهيبة، وخناقاً على الوحدات الأولى المكونة لجيش التحرير الوطني في الشرق الجزائري، وعلى وجه الخصوص في المنطقة الأولى (1) وجنوب المنطقة الثانية (2).
وكان المسؤولون، في المنطقتين، يدركون جيداً ذلك الوضع القاسي، ويقدرون كل الصعوبات المتمثلة في تفوق العدو، عدداً وعدة، وفي عدم توفر الأسلحة والذخيرة لدى جيش التحرير الوطني، كما أنهم كانوا يعرفون أن الاستمرار على تلك الحالة يسيء إلى الثورة. وعليه صار لابد من إيجاد طريقة تمكن من فك الحصار المضروب على قمم الجبال والأرياف، ومن جعل القرى والمدن تشعر بأنها طرف أساسي في المعركة التي ينبغي أن تنتشر بسرعة وتتسع ليضطرب العدو، فتتمزق وحدته وتتشتت قوته الضاربة، وفكر الشهيد يوسف زيغود (3) ومساعدوه المقربون طويلاً للوصول إلى حل ناجح، صار يسمى منذ ذلك التاريخ "انتفاضة العشرين يوليو سنة 1955.
وقبل أن نسترسل في الحديث عن العشرين من يوليو، ينبغي أن نقول إن تركيز فرنسا على المنطقتين الأولى والثانية لم يكن يعني أن الثورة قد خبت نيرانها في المناطق الأخرى من البلاد. لكن المنطقة الأولى كان لها وضع خاص يتمثل فيما يلي:
1 -
لقد كانت، قبل نوفمبر سنة 1954، مأوى لمناضلي ومسؤولي المنظمة الخاصة الملاحقين من طرف السلطات الاستعمارية وبالتالي ميداناً للتدريبات العسكرية ومخزناً للأسلحة والذخائر التي تحصلت عليها مختلف أجهزة حركة الانتصار للحريات الديمقراطية من جميع الجهات وبجميع الوسائل.
2 -
إن مسؤولها الأول، الشهيد مصطفى بن بولعيد. كان معروفاً كمسؤول
(1) هي منطقة الأوراس التي ستصبح بعد مؤتمر الصومام هي للولاية الأولى.
(2)
هي التي ستصبح فيما بعد نواة القاعدة الشرقية.
(3)
من مواليد عام 1921 في القرية التي تحمل اسمه حالياً بولاية سكيكدة، نال الشهادة الابتدائية ثم اشتغل حداد وهو لم يبلغ بعد سن الرشد، انضم إلى صفوف حزب الشعب الجزائري سنة 1942، وعندما أنشئت المنظمة الخاصة صار واحد من قادتها البارزين، شارك في اجتماع الاثنين والعشرين خلف ديدوش مراد في قيادتها الأولى يوم 18/ 05/1955 ثناء، قام بدور أساسي في التحضير لمؤتمر وادي الصومام في توفير الشروط اللازمة لإنجاحه، استشهد أثناء معركة قرب بلدة سيدي مزغيش (ولاية سكيكدة حالياً)، يوم 23/ 09/1956 بينما كان في طريقه إلى الأوراس في مهمة كلفه بها المؤتمر الأول لجبهة التحرير الوطني.
في الأوساط السياسية، إذ كان، عشية الثورة، عضواً في اللجنة المركزية لحركة الانتصار للحريات الديمقراطية، ومن ثم، فإنه كان يحظى بثقة معظم المناضلين بما في ذلك أعضاء المنظمة الخاصة للمتواجدين هناك.
وبالإضافة إلى شهرته السياسية، فإن مصطفى كان ثرياً ومن رجال الأعمال الناجحين، استطاع أن يوظف رؤوس أمواله في خدمة الجماهير الشعبية التي منحته، بالمقابل، حبها وثقتها.
هذان السببان، خاصة، قد ساعدا على انطلاق الأعمال الثورية بسرعة فائقة، ومكنا المسؤولين عن جبهة وجيش التحرير الوطني من العمل بحرية في أوساط الأهالي من سكان المدن والأرياف.
وإذا كانت المنطقة الثانية لم تعطِ قائداً له نفس وضع إمكانيات الشهيد ابن بولعيد، فإنها كانت تشتمل على عدد كبير من أعضاء المنظمة الخاصة (1) ومن مناضلي حركة الانتصار للحريات الديمقراطية المحنكين والمؤيدين للإسراع بالدخول في مرحلة الكفاح المسلح، لأجل ذلك فإن عملية الهيكلية وتنصيب الخلايا وتجنيد المجاهدين الأوائل لم تعترضها صعوبات كثيرة، الأمر الذي ساعد على إنجاز نسبة كبيرة من البرنامج الذي وضعته القيادة العليا بالنسبة للأشهر الأولى من الثورة.
فهذه الأوضاع الخاصة التي كانت للمنطقتين هي التي جعلت الثورة تكون فيهما قوية ومنتشرة، وفي نفس الوقت جعلت السلطات الاستعمارية تخصص معظم إمكانياتها المادية والعسكرية والسياسية لمحاربة جبهة التحرير الوطني هناك.
أما في المناطق الأخرى، فقد اهتمت القيادة، في الأشهر الأولى بتنظيم حملة شرح واسعة في أوساط مناضلي حركة الانتصار للحريات الديمقراطية الذين كانوا، في معظمهم، موالين للسيد مصالي في خلافه مع اللجنة المركزية؛ وفي نفس الأثناء كانت هيكلة جبهة التحرير الوطني تجري على جميع المستويات في حين كان التجنيد يتم ببطء نتيجة عدم وجود الأسلحة الكافية.
(1) عندما وقع اجتماع الاثنين والعشرين كان حوالي نصف المشاركين من تلك التي ستصبح المنطقة الثانية وهم: زيغود يوسف، ابن طوبال، ابن عودة، ناجي بوصوف، عبد مالك، مشاطئ، حباشي، بيطاط وبوضياف.
ولم تبدأ العمليات العسكرية في تلك المنطقة إلا في ربيع عام 1955. وكانت في شكل كمائن تنصب أساساً للحصول على الأسلحة، وبالإضافة إلى ذلك كانت نشاطات جيش التحرير الوطني توجه لإعدام أعوان الشرطة وحراس الغابات، و"القياد" وغيرهم من دعائم السلطات الاستعمارية، وكلما أعدم خائن استفاد مجاهد من سلاحه.
وإلى جانب هذه العمليات العسكرية البسيطة، كان على جيش التحرير الوطني في المنطقة الثالثة، أن يجابه المجموعات المسلحة التابعة للحركة الوطنية الجزائرية.
أما المنطقة الرابعة، فإنها كانت أسوأ حظاً، لأن السلطات الاستعمارية التي كانت تتابع تحركات مناضلي حركة الانتصار للحريات الديمقراطية قد تمكنت، في خلال الشهر الأول، من إلقاء القبض على أغلبية العناصر الذين بدأوا مع السيد بيطاط بما في ذلك نوابه في العاصمة. وبيطاط نفسه سيقع أسيراً في منتصف شهر فبراير 1955.
ونتيجة لذلك النجاح الذي حققته مصالح الأمن الفرنسية، فإن المنطقة الرابعة كادت تختنق بعد حوالي سبعين يوماً فقط من اندلاع الثورة ويعود الفضل في بقائها وانتعاشها إلى ابن المهيدي والعقيد واعمران (1)، الذي تمكن، رغم كل العراقيل، من إعادة تنظيم الهياكل ثم ساعدته الظروف على اختيار الرجال الأكفاء الذين عرفوا كيف يندمجون بسرعة وكيف يسيطرون على الأوضاع بعد أن كادت تفلت من جبهة التحرير الوطني لفائدة العدو.
ومن جملة الإطارات البارزة تجدر الإشارة إلى عبان رمضان (2) الذي خرج من السجن في النصف من شهر فبراير، ووضع نفسه تحت تصرف جبهة التحرير الوطني. مع العلم أنه من مسؤولي حركة الانتصار للحريات
(1) من مواليد 10/ 01/1919 لجأ إلى الحياة السرية منذ سنة 1945. نائب السيد كريم بلقاسم في المنطقة الثالثة ثم قاد المنطقة الرابعة بعد أن ألقي القبض على السيد بيطاط، عين نائباً عسكرياً للسيد الأمين دباغين ثم قائداً أعلى للقوات المسلحة يوم 25 مارس 1957.
(2)
خبا نجمه مع نهاية عام 1958. يعيش حالياً من التجارة.
من مواليد 1920 بالأربعاء نايث ايراثن (ولاية تيزي وزو) ألقي عليه القبض عندما اكتشف أمر المنظمة الخاصة التي كان واحداً من أبرز قادتها. خرج من السجن في نهاية فبرايرعام 1955. تولى تنسيق قيادة منطقة الجزائر. قام بدور أساسي في عقد وإنجاح مؤتمر واد الصومام. اغتاله رفاقه بلقاسم كريم ولخضر بن طوبال وعبد الحفيظ بوصوف يوم 27/ 12/1957. ثم أعلنوا على أعمدة المجاهد الذي كان يشرف عليه أنه استشهد في ميدان الشرف في شهر افريل سنة 1958.
الديمقراطية: قاد ولاية بجاية ثم ولاية عنابة إلى غاية سنة 1950 عندما ألقي عليه القبض وحكم عليه بالحبس لمدة خمس سنوات.
وبسرعة كبيرة، وبفضل تكوينه السياسي والإيديولوجي ومستواه الثقافي، استطاع أن يحتل الصدارة أمام مسؤول العقيد واعمران، وحتى أمام قائد المنطقة الثالثة كريم بلقاسم الذي كان يأتي إلى العاصمة يأخذ رأيه حول القضايا السياسية.
وأول عمل قام به السيد عبان رمضان هو صياغة بيان مطول يحمل تاريخ فاتح من ابريل سنة 1955 وموجه إلى الشعب الجزائري، جاء فيه على الخصوص:
"إن السلطات العسكرية الفرنسية تبذل كل مافي وسعها لإخفاء الحقيقة، فمثلاً، عندما تنصب قواتنا كميناً لسيارة مصفحة، ويصيب سائقها الهلع فيلقي بمركوبه إلى حيث لا رجعة، فإن الصحافة الاستعمارية تكتب عن حادث تنسب سببه إلى الجليد".
"أيها الشعب الجزائري، بعدأن حققت نجاحات كثيرة، لا ينبغي أن يخفى عليك بأن المهمة الباقية مهمة جبارة. لأجل ذلك، فإن جيش التحرير الوطني يدعوك لتساعده وتمد له يد المعونة في جميع الميادين
…
إن النصر مرهون بما يقدمه كل الجزائريين من مساهمة إلى جانب قواتنا المحاربة والعازمة على مواصلة المعركة إلى أن تنتصر القضية الجزائرية".
"أيها الجزائريون، تعالوا جميعاً لتعزيز صفوف جبهة التحرير الوطني. وتخلصوا من التردد، واتركوا الصمت .. وسعوا دائرة نشاطكم كل يوم أكثر حتى تتمكنوا من إرضاء ضمائركم ومن تسديد الدين الذي عليكم لبلدكم (1) ".
وقد استعمل عبان رمضان كل الإمكانيات المتوفرة لديه لسحب المنشور وتوزيعه على أكبر عدد ممكن من المواطنين. وفي نفس الوقت ضاعف اتصالاته بالشخصيات الجزائرية مركزاً على قادة التشكيلات السياسية.
وإذا كانت مجهودات المستشار السياسي للمنطقة الرابعة لم تسفر عن نتيجة تذكر في مجال التفاوض مع ممثلي الحزب الشيوعي والاتحاد الديمقراطي
(1) Jeanson (Cet F) I'Algerie hors la loi ، le seuil 1955 .، p 310
انظر كذلك للاطلاع على منشور كامل:
tract du FL N Manduze (Andre) Numero special du 15 juin 1955. ش Conscience maghrebine
وجمعية العلماء، فإن عملية التعبئة والتنظيم في أوساط مناضلي حركة الانتصار المحلولة قد قطعت خطوة عملاقة بعد يوم 13 مايو سنة 1955 الذي أطلق فيه سراح أعضاء اللجنة المركزية الذين التحق معظمهم بجبهة التحرير الوطني في داخل البلاد وفي خارجها على حد سواء، ومن أبرز أولئك الأعضاء السيد ابن يوسف بن خدة (1) الذي سيلعب دوراً حاسماً في معركة الجزائر وعلى رأس الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية فيما بعد.
*لكن التنظيم وحده لا يكفي ولا يكون ناجحاً إلا إذا توافر السلاح والمال، ولئن كان واعمران قد استطاع أن يحل المشكل الأخير بفضل حملة الاكتتاب التي نظمها في أوساط الصناعة والتجارة خاصة، فإن عبان، لمعالجة المشكل الأول، قد أرسل مبعوثاً إلى جنيف عن طريق باريس، ولم تسفر العملية عن أية إيجابية إذا استثنينا تأكيد قيادة المنظمة من ضرورة الاعتماد على النفس.
وبالفعل، لقد شرع في تكوين فرقتين مسلحتين، تتحرك إحداهما داخل حي بلكور وتكون تحت إشراف الشهيد ذبيح الشريف، وتتحرك الثانية في حي القصبة فتكون تحت إشراف السيد ياسف سعدي. ويتولى التوجيه السياسي مسؤول جهوي يأخذ تعليماته مباشرة من الشهيد عبان الذي يعمل بتنسيق مع العقيد واعمران، السيد بلقاسم كريم.
غير أن التنظيم العسكري، في العاصمة، لم يعرف أي نجاح يذكر في هذه السنة الأولى من الثورة، وذلك بسبب سيطرة المخابرات الاستعمارية وعدم وجود الإمكانيات المادية التي تسمح بالعمل الفوري.
وعلى العكس من ذلك، فإن التنظيم السياسي قد عرف تطوراً ملموساً: فأنشئ العديد من الخلايا، وتكاثرت المنشورات الداعية إلى عدم التعامل مع الإدارة الاستعمارية:"لأن غضب الثورة سينصب بلا شفقة ولا رحمة على كل مخالف للتعليمات" وتضاعفت الاتصالات مع قادة التشكيلات السياسية المقيمين بالعاصمة ومع معظم الجزائريين المنتخبين الذين قدم
(1) من مواليد عام 1920 بالبرواقية ولاية المدية حالياً. عضو اللجنة المركزية لحركة الإنتصارات للحريات الديمقراطية. ألقي عليه القبض في الأيام الأولى من شهر نوفمبر أطلق سراحه يوم 13 ماي 1955، ومباشرة التحق بصفوف جبهة التحرير الوطني إلى جانب عبان رمضان، شارك في معركة الجزائر وعين عضوا في لجنة التنسيق والتنفيذ سنة 1956 ثم وزيراً للشؤون الإجتماعية في أول الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية. ترأس الحكومة الالثة ابتداء من شهر أوت سنة 1961، رفض الدخول في صراع دموي مع المكتب السياسي بعد الإستقلال، فانسحب من الميدان ولجأ إلى الحياة المدنية، يشرف على صيدلية بحيدرة في ضواحي العاصمة.
عدد كبير منهم استقالته.
وبالنسبة للمنطقة الخامسة، فإن الأمر كان مغايراً تماماً، ذلك أن عمليات ليلة الفاتح من نوفمبر لم تكن ناجحة في معظمها، وتمكنت القوات الاستعمارية من إلحاق خسائر فادحة بتلك المجموعات الأولى من المجاهدين الذين كان يقودهم الشهيد العربي بن المهيدي. ومن جملة القتلى الأول من الثورة: الشهيد ابن عبد المالك رمضان النائب الأول لقائد المنطقة.
ولقد تأثر الشهيد ابن المهيدي بتلك النتائج السلبية التي عرفتها منطقته فحاول الاتصال بالعاصمة، تارة وبالمغرب الأقصى تارةأخرى، يبحث عن الأسلحة وعن أحسن الوسائل التي تمكنه من تجاوز المحنة.
وإذا كان مشكل الأسلحة سيظل قائماً طوال تلك السنة الأولى من الثورة تقريباً، فإن ابن المهيدي قد وجد في السيد عبد الحفيظ بو الصوف (1) نائباً توفرت فيه كل الشروط المطلوبة في القائد الناجح، لقد كان ذكياً متعلماً ومثقفاً، كما أنه كان رهيف الحس يتمتع بمقدرة كبيرة على فهم الآخرين وعلى ربط العلاقات الإنسانية اللازمة خاصة في مثل تلك الظروف.
ومن الجدير بالذكر، أن بوصوف استطاع، بفضل حركته وبفضل المجهودات الجبارة التي كان يبذلها في جميع الأوقات وبكل المناسبات، أن يعيد تنظيم المنطقة، ويوفر لها الوسائل والإمكانيات المادية والبشرية التي ستسمح لها بالانطلاقة من جديد بمناسبة العيد الأول لميلاد الثورة.
وعلى الرغم من أن المنطقة الخامسة قد قضت كل تلك السنة الأولى في التأهب والاستعداد، فإن السلطات الاستعمارية لم تسرح، وظلت تتابع، عن كثب تحركات المناضلين لعلها تتمكن من القضاء على الحركة قبل ميلادها. وفي هذا الإطار، أراد الوالي العام: السيد جاك سوستيل أن يفرض على مدينتي مغنية
(1) يعتبر من القادة الأساسيين للثورة الجزائرية، تكون خاصة في إطار المنطقة الخاصة التي كان يحتل مكانة مرموقة في صفوفها واحد من الاثنين والعشرين سبر دائرة سكيكدة للحزب سنتي 1952 - 1953، ثم عين على رأس دائرة تلمسان، عندما اندلعت الثورة عين نائباً أول للشهيد العربي بن مهيدي الذي خلفه سنة 1956 على رأس الولاية الخامسة التي قادها إلى غاية 1958، تولى مسؤولية تسليح الثورة وتنظيم المخابرات التي بلغت، في عهده، أعلى المستويات، هو الذي وفر لهواري بومدين شروط ارتقاء سلم المسؤوليات قبل أن يتركه على رأس الولاية الخامسة. انعزل عن السياسة بعد وقف اطلاق النار ومات بسكتة قلبية .....
وسبدو نفس حالة الطوارئ التي كانت مفروضة على الشرق الجزائري (1).ولتنظيم العمال الجزائريين في فرنسا، وإشراكهم في الكفاح المسلح، اتجه السيد محمد بوضياف إلى زوريخ حيث استدعى السيد مراد تربوش (2) وزوده بالتعليمات اللازمة لبعث جبهة التحرير الوطني بفرنسا في مرحلة أولى وبأوربا في مرحلة ثانية.
ولقد كانت المهمة صعبة ومعقدة، خاصة وأن مصالي الحاج كان يسيطر، كلية، على كافة المناطق هناك، وأن مناضلي، حركة الانتصار للحريات الديمقراطية في فرنسا كانوا يقدسون الزعيم ولا يرضون بغيره بديلاً، كما أنهم أخبروا في تلك الأيام الأولى من نوفمبر بأن القيادة العليا للحزب هي التي أشعلت فتيل الثورة، ومن ثم لا يمكن أن يصدقوا ماقد يأتي به تربوش حتى لو كان من المسؤولين الموثوق بهم.
وعلى الرغم من كل الصعوبات، استطاع القائد الأول لفدرالية جبهة التحرير الوطني في فرنسا أن يجند مجموعة أولى من خمسة أشخاص، كان كل منهم مسؤولاً عن واحدة من قسمات حركة الانتصار للحريات الديمقراطية، وأمرهم بالبدء، في تكوين الخلايا التي ينبغي أن يزيد عدد أعضائها عن الخمسة مناضلين، كما أمرهم بنسخ نداء الفاتح من نوفمبر وتعميمه وماكاد يحل شهر مايو سنة 1955 حتى صارت جبهة التحرير الوطني تضم في صفوفها حوالي مائتي مناضل كلهم مستعدون للشروع في العمل الفدائي، لكن الحركة الوطنية الجزائرية كانت وماتزال متواجدة في معظم النواحي، لذلك قرر السيد محمد بوضياف الاستمرار في عملية الهيكلة. وحتى هذه الأخيرة، فإنها سوف تتعثر لأن مصالح الأمن الفرنسية ستلقي القبض على تربوش وبعض أعضاء اللجنة العاملين معه. تم ذلك يوم 26 ماي من نفس السنة.
وفي القاهرة، فإن المندوبية، المكونة في بداية الأمر، من ثلاثة أشخاص (3)
(1) انظر البرقية التي تحمل رقم 00686 والتي وجهها سوستيل إلى القائد الأعلى للجيوش الفرنسية العاملة في الجزائر لقد جاء في تلك البرقية، أؤكد موافقتي على تمديد حالة الطوارئ إلىكافة عمالة قسنطية، وكذلك إضافة البلدتين المختلطتين في غنية وسبدو وبعمالة وهران على الحدود المغربية:
انظر: SOUSTELLE (J) Aimée et souffrante Algérie . Paris 1956، p 98.
(2)
إذا ما استثنينا السيد محمد بوضياف، فإن مراد تربوش هو أول مسؤول لاتحادية جبهة التحرير الوطني في فرنسا، ظل يقودها أكثر من عام كامل، ويعود الفضل إليه في إرساء قواعدها، وتوفير الشروط الموضوعية لتطورها.
(3)
محمد خيضر، حسين آيت أحمد، وأحمد بن بلة.