الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أن يتحركوا في إطار ذلك الحزب، والمطالبة بالتعددية الحزبية جزء من عقلية البرجوازية الليبرالية".
الانزلاق نحو الحكم الفردي:
إن القيادة الجماعية مبدأ في التسيير يحتل مكانة رئيسية في أيديولوجية الحركة الوطنية، ولقد أدى عدم احترامه والتهاون في تطبيقه إلى تمرد اللجنة المركزية لحركة الانتصار والحريات الديمقراطية على زعيم الحركة السيد مصالي الحاج وإلى انقسام جبهة التحرير الوطني.
وإذا كانت جبهة التحرير الوطني قد أحرزت على مجموعة الانتصارات قادت بالتدريج إلى تحقيق الأهداف المسطورة في بيان أول نوفمبر، فلأن القيادة المختلفة قد وقعت في أزمة ووجدت نفسها مضطرة لأن تقدم تضحيات جساماً من أجل تجاوزها (1). إن الزعماء الخمسة لم يستفيدوا من هذه التجربة، ربما لبقائهم مدة طويلة في المعتقل بعيداً عن ممارسة المسؤولية على أرض الواقع وتحت تأثير الإشهار الإعلامي الغربي الذي لم يتأخر عن استعمال شتى الوسائل لتغذية روح الانقسام بينهم. وفي تلك الصائفة من سنة اثنين وستين وتسعمائة وألف، ضاعفت وسائل الإعلام المذكورة حملاتها المسمومة التي قادت شيئاً فشيئاً، إلى توسيع الهوة بين الأشقاء الذين أصبح كل واحد منهم يبحث عن أنصار يستعين بهم ضد الآخرين حتى ولو كان أولئك الأنصار من بين أعداء الأمس وطلقاء اليوم.
فالتخلي عن مبدأ القيادة الجماعية هو الذي دفع ابن بلة إلى العمل من أجل الانفراد بالمكتب السياسي، وجعل محمد بوضياف يؤسس حزب الثورة الاشتراكية وآيت أحمد يتزعم واحداً من أخطر التمردات المسلحة في الجزائر، وحتم على فرحات عباس الاستقالة من رئاسة المجلس الوطني التأسيسي وأخطر من كل ذلك شتت أفضل الطاقات الحية في البلاد والمتمثلة في إطارات وجنود جيش التحرير الوطني الذين لم يغادروا ولاياتهم طيلة فترة الكفاح المسلح معبرين بذلك عن إخلاصهم للوطن وتفانيهم في الدفاع عنه.
لأجل كل ذلك، فإن انتصار الحكومة برئاسة السيد بن بلة، كان في الواقع،
(1) إن عودة سريعة إلى سائر الأزمات التي عرفتها جبهة التحرير الوطني خلال فترة الكفاح المسلح تدل بما لا يدع المجال للشك على أن التخلي عن مبدأ القيادة الجماعية هو الأساس في جميع الخلافات مهما كان شأنها.
هزيمة بالنسبة لجبهة التحرير الوطني وللجزائر بصفة عامة، وتتمثل هذه الهزيمة، بالإضافة إلى ماذكرنا أعلاه، في تمكين الإطارات المتشبعة بالفكر الماركسي والبعيدة كل البعد عن واقع الشعب، من اختراق الصفوف والارتقاء إلى مناصب الحل والربط في سائر قطاعات الدولة الجزائرية الفتية، ومع تمكن تلك الإطارات ظهرت قوات سياسية جديدة لاعلاقة لها بأيديولوجية الثورة وهي نفس القوات التي سوف تستولي بالتدريج على زمام السلطة في البلاد.
وهناك وجه آخر للهزيمة التي منيت بها جبهة التحرير الوطني ويتمثل في فتح الأبواب واسعة للانقلابات العسكرية التي سوف تتواصل في جزائر ما بعد إجهاض الثورة. وفي الحقيقة، فإن الإطاحة بالحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية لايوجد له اسم آخر غير الانقلاب العسكري، لأن القيادة العليا الشرعية التي هي المجلس الوطني للثورة الجزائرية لم يسمح لها بالاجتماع للنظر في شأنها قانونياً.
هكذا، إذن، فإن الحكومة المنبثقة عن المجلس الوطني التأسيسي المنتخب في اليوم العشرين من شهر سبتمبر سنة اثنين وستين وتسعمائة وألف، لايمكن أن نقول عنها أنها حكومة جبهة التحرير الوطني ولايمكن أن تحظى بتأييد المناضلين الحقيقيين الذين يرفضون الصراعات والانقسامات من أجل السلطة. ولأنها لم تكن حكومة جبهة التحرير الوطني، فإنها وضعت برنامج طرابلس على الرفوف وأدارت الظهر لنصوص الثورة الأساسية ثم راحت ترتجل البرامج المتناقضة وتقضي جل الوقت في سد الثغرات ومغازلة المشاكل العويصة التي تكمن حلولها في وحدة الصف وفي الالتزام بأيديولوجية أثبتت، على الميدان، نجاعتها وجدواها.
ومن سوء حظ الجزائر أن هذه الحكومة هي التي استطاعت أن تستولي على السلطة بعد أن ألغت كل من حاول معارضة سياستها. ولم يكن الإلغاء مقصوراً على الشخصيات والتشكيلات السياسية، بل تعداها إلى المنظمات الوطنية التي صيغت، بمختلف الوسائل، من جميع العناصر التي أبدت بطريقة أو بأخرى، مناهضتها لسلوكيات ابن بلة وتصرفاته.
ومن جديد، أقيمت المحتشدات في الجنوب الجزائري لاستقبال المخلصين من أبناء الشعب، وفتحت السجون أبوابها لإيواء المئات من المناضلات والمناضلين، وعادت عمليات القمع والتعذيب ضد الوطنيين بواسطة نفس الجلادين الذين كانوا يعملون في إطار الأجهزة الاستعمارية. ولم يكن ذلك
غريباً، لأن الحكومة الجزائرية أسندت مهمة تكوين ضباط شرطتها لقيادة الشرطة الفرنسية كما أنها في اليوم السادس والعشرين من شهر سبتمبر، أي مباشرة بعد تشكيلها، طلبت من الجنرال الفرنسي قائد الجندرمة أن يسرح جميع الضباط وصف الضباط الجزائريين ليشكلوا النواة الأولى لسلك الدرك الوطني في الجزائر، ثم التمست منه اتخاذ الإجراءات اللازمة لتكوين أعداد كبيرة من الدرك الجزائريين.
وإذا أضفنا إلى تنظيم الشرطة وتكوين ضباطها وإنشاء سلك الدرك الوطني من أوله إلى آخره، واستقدام مجموعة من الضباط السامين في الجيش الفرنسي لاستكمال تكوين ضباط الجيش الوطني الشعبي ومباركة الرئيس أحمد بن بلة لكل ذلك، أصبح جلياً أن الجزائر قد تخلت نهائياً عن خطها الثوري الذي يدعو إلى ضرورة قطع جميع العلاقات مع المستعمر السابق (1)، وصارت تطبق سياسة الاستعمار الجديد التي ترمي إلى إسناد المناصب الأساسية في الدولة إلى إطارات كونتهم المدرسة الاستعمارية من أجل الحفاظ على مصلحة فرنسا.
ففي هذه الأجواء المشحونة بالضغائن والأحقاد والمليئة بالتناقضات ومختلف أنواع اللامعقول، والمتميزة بالفوضى وانعدام الأمن والاستقرار، أعطت الإشارة الخضراء لتكوين اللجنة الوطنية لتحضير المؤتمر الأول لجهة التحرير الوطني، وأطلقت نفس الأيادي الماركسية تعبث من جديد بالنصوص الأساسية للثورة.
ومرة أخرى تكونت لجنة صياغة مشروع المجتمع تحت إشراف أهم العناصر الماركسية التي كانت هي أساس الانحرافات الأيديولوجية الأولى. ورغم مقاومة العناصر الوطنية، صادق المؤتمر الذي أنهى أشغاله في اليوم الواحد والعشرين من شهر أبريل سنة أَربع وستين وتسعمائة وألف على ميثاق الجزائر الذي اعتبر تعميقاً لبرنامج طرابلس ومرجعاً أيديولوجياً وحيداً للثورة الجزائرية.
إن المؤتمرين الذين دامت أشغالهم ستة أيام قد حللوا أوضاع البلاد التاريخية والسياسية والاقتصادية والثقافية، ثم صادقوا على عدد من المقررات: تحويل جبهة التحرير الوطني إلى حزب طلائعي في الحكم يسير وفقاً لمبدأ
(1) ليس هذا رأي الدكتور بوريلا أستاذ القانون بكلية حقوق الجزائر الذي شارك يوم 24/ 01/1963 في ملتقى تصنيع شمال أفريقيا وأكد على ضرورة تعامل البلد المستقل حديثاً مع البلد المستعمر سابقاً لأنه الوحيد الذي يفهمه جيداً انظر: الجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية، ص79.