المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌قراءة فاحصة لميثاق الجزائر: - تاريخ الجزائر المعاصر - جـ ٢

[الزبيري، محمد العربي]

فهرس الكتاب

- ‌الباب الثانيبناء المجتمع الجزائري الجديد وتطويره

- ‌الفصل الأولالخطوات الأولى في التطبيق الميداني لأهداف الثورة

- ‌التوجهات الأساسية:

- ‌ التوجه السياسي:

- ‌ التوجه الاقتصادي والاجتماعي:

- ‌ التوجه الحضاري:

- ‌ موقف الحكومة الفرنسية من الثورة وتطورها:

- ‌ مواجهة الصعوبات الأولى:

- ‌ هجومات العشرين من أغسطس1955

- ‌الفصل الثانيالمجتمع الجزائري الجديدوكيفية تنظيمه

- ‌أ - في مجال السياسة الداخلية:

- ‌ هيئات قيادة الثورة:

- ‌ أولوية السياسي على العسكري:

- ‌ب - في المجال العسكري:

- ‌ج - في مجال الثقافة والاقتصاد:

- ‌خلاصة الفصل:

- ‌الفصل الثالثالتطبيق العملي لأهداف جبهة التحرير الوطنيبعد مؤتمر وادي الصومام

- ‌تقييم أخر لنتائج وادي الصومام:

- ‌الدورة الأولى للمجلس الوطني للثورة الجزائرية:

- ‌من حرب العصابات إلى حرب الواقع:

- ‌التخطيط للعمل السياسي:

- ‌ في اتجاه الأمم المتحدة:

- ‌ في اتجاه المنظمة الأفرو آسيوية:

- ‌ في اتجاه الحلف الأطلسي:

- ‌خلاصة الفصل:

- ‌الباب الثالثالتحولات الفكرية الكبرى

- ‌الفصل الأولالإثراء الثالث لنصوص جبهةالتحرير الوطني

- ‌ الضباط الجزائريون القادمون منالجيش الاستعماري

- ‌مناورات الجنرال ديغول وحق الشعب الجزائريفي تقرير المصير:

- ‌دوافع رضوخ ديغول للتفاوض مع G.P.R.A

- ‌المجلس الوطني للثورة الجزائرية في دورته الثانية:

- ‌الفصل الثانيمن ثورة التحرير إلى الثورةالديمقراطية الشعبية

- ‌الفعل ورد الفعل قبل التفاوض:

- ‌الثورة الجزائرية في مرحلتها الثالثة:

- ‌المفاوضات ووقف إطلاق النار:

- ‌الحزب والمنظمات الجماهيرية:

- ‌الفصل الثالثأوضاع الجزائر غداة استرجاعالسيادة الوطنية

- ‌المنافذ الاستعمارية:

- ‌التسابق إلى السلطة:

- ‌مواجهة الأوضاع الموروثة عن الاستعمار:

- ‌الانزلاق نحو الحكم الفردي:

- ‌قراءة فاحصة لميثاق الجزائر:

- ‌الخاتمة

- ‌الفهرس

الفصل: ‌قراءة فاحصة لميثاق الجزائر:

المركزية الديمقراطية ويهدف إلى بناء الدولة الاشتراكية في الجزائر، وينتهج سياسة عدم الانحياز ويعمل على تدعيم القضايا العادلة ومساندة حركات الشعوب المناضلة في العالم أجمع.

إن تحويل جبهة التحرير إلى حزب طلائعي في مثل هذه الظروف يُعّد انقلاباً سياسياً لامبرر له، خاصة وأن الحزب لايمكن أن يكون في الحكم بإدارة موروثة عن الاستعمار وإطارات مسيِّرين مكوِّنين وفقاً لبرامج استعمارية وبواسطة مكونين لاعلاقة لهم بالأيديولوجية الثورية، وحتى العناصر التي تكونت في صفوف جبهة التحرير الوطني فإنها، في معظمها كي لانقول في مجملها، ترفض بناء الدولة الاشتراكية لأنها لم تنته بعد من إقامة الدولة الديمقراطية الاجتماعية في إطار المبادئ الإسلامية التي حددها بيان أول نوفمبر كهدف رئيسي.

فالحزب الطلائعي بدون إمكانيات بشرية يظل حبراً على ورق بل يتحول بالتدريج، إلى مجرد جهاز يوظف لخدمة الأغراض الشخصية ولمنع الشرائح الوطنية في المجتمع من التصدي بحزم وجد للقوات المناهضة للثورة.

‌قراءة فاحصة لميثاق الجزائر:

وعندما نعود، اليوم، إلى ميثاق الجزائر، نلاحظ بكل سهولة أنه مليء بالمغالطات التاريخية والتناقضات السياسية والطموحات اللامشروعة، غير أن كل ذلك لايعني أنه خال من بعض التحاليل الصحيحة والمقررات الموضوعية التي تأخذ في الاعتبار الإمكانيات الحقيقية من أجل تغيير الواقع.

فالجزائر بلد إسلامي، هذه حقيقة تضمنتها كل الوثائق الأساسية لجميع الأيديولوجيات الوطنية. لكن الذي يشكل مغالطة تاريخية هو تأكيد ميثاق الجزائر على أن الجماهير الجزائرية كانت عميقة الإيمان وأنها "قاومت بصلابة لتخليص الإسلام من كل الشوائب والخرافات التي شوهته أو خنقته، كما أنها لم تناهض الدجالين الذين كانوا يريدون أن يجعلوا منه مذهباً للخشوع والتوكل، وتسعى لربطه بإرادتها في إنهاء استغلال الإنسان للإنسان"(1) والواقع، أن الذي قام بهذا الدور هم العلماء سواء كأفراد منذ أن وضعت الحرب الامبريالية

(1) جبهة التحرير الوطني، اللجنة المركزية للتوجيه، ميثاق الجزائر، مجموع النصوص المصادق عليها من طرف المؤتمر الأول لحزب جبهة التحرير الوطني 16 - 21 أبريل 1964، الجزائر 1965، ص35.

ص: 220

الأولى أوزارها أو كتنظيم بعد أن تأسست جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في اليوم الخامس من شهر ماي سنة واحد وثلاثين وتسعمائة وألف. ولم يكن ذلك بالأمر الخفي على الذين صاغوا الميثاق، لكنهم كتبوا بعواطفهم فضيعوا على البلاد فرصة ثمينة كان يمكن أن تكون منطلقاً لتحقيق مصالحة وطنية جديدة تعيد الثقة إلى شريحة واسعة من المجتمع الجزائري في تلك الظروف التي كان أحوج ما يكون فيها إلى وحدة وتجاوز الحزازات السياسية.

فالاعتراف بدور العلماء في تخليص الإسلام من الشوائب التي علقت به وفي تحرير الإنسان الجزائري من المعتقدات الفاسدة كان من شأنه أن يقود إلى تقييم الإصلاح الديني في الجزائر وهو إصلاح يختلف كلية عن الإصلاح الديني في المشرق العربي وفي العالم الإسلامي عامة، وبعد التقييم الموضوعي، كان لإيديولوجية جبهة التحرير الوطني أن تخصص مكانة مرموقة للجانب الروحي الذي يستحيل بدونه التوصل إلى تعبئة جماهير الشعب الجزائري. لكن ميثاق الجزائر تعمد عدم الاعتراف بأهمية ذلك الدور، وراح ينسبه، تعسفاً، لغير أصحابه حتى يهمش الإسلام ويمنع الفكر الإسلامي من الانتشار في جميع الأوساط المؤثرة في عمليات البناء والتشييد، وبذلك تعطى الغلبة للنظام الاشتراكي في بناء الدولة (1).

ولقد أخطأ ميثاق الجزائر في تقديره، لأن تحييد العلماء وتهميش دورهم في إطار منظم، قد جعلهم يجنحون، شيئاً فشيئاً، إلى العمل السري دفاعاً عن العقيدة وحماية لها من الاعتداءات التي تريد محاصرتها في المسجد وإبقائها مقصورة على العلاقة بين الإنسان وربه كما هو الأمر بالنسبة للديانات الأخرى، ووفاء لأرواح الشهداء الذين ضحوا بأنفسهم من أجل إقامة الدولة الديمقراطية الاجتماعية في إطار المبادئ الإسلامية (2).

والمغالطة التاريخية الثانية تتمثل بأن الكفاح من أجل انتصار المبادئ الديمقراطية قد تغلغل في أوساط الجماهير الشعبية وحفز عملها وحدد سلوكها وآفاقها (3). وفي الحقيقة، فإن اندلاع الثورة من نوفمبر إنما كان من أجل

(1) عباس (فرحات) الاستقلال المصادر، ص124، يقول السيد عباس: إنني، فيما يخصني، آمل أن تتخلى الجزائر عن النهج الاشتراكي حتى تتمكن من أن تستعيد شخصيتها وتبني من جديد وحدتها الروحية والاقتصادية والاجتماعية. وسوف يكون ذلك أفضل الحلول لأنه يتلاءم مع مفهومها للمغرب الواحد كما وضعت معالمه ندوتا طنجة وتونس سنة 1958.

(2)

انظر الملحق رقم 8.

(3)

جبهة التحرير الوطني، اللجنة المركزية للتوجيه، ميثاق الجزائر، ص36.

ص: 221

التحرير الوطني الذي يشمل تحرير الإنسان وهو أكثر قيمة من انتصار المبادئ الديمقراطية التي أراد ميثاق الجزائر أن يجعلها منطلقاً أساسياً لبناء الدولة الاشتراكية.

إن جبهة التحرير الوطني لم تقرر الكفاح من أجل انتصار المبادئ الديمقراطية ولكنها أعلنت عن ميلاد حركة جهادية دعت إليها جماهير الشعب من أجل استرجاع السيادة الوطنية المغتصبة، وعلى هذا الأساس يجب على الدارس أن يتوقف عند الملاحظات التالية:

1 -

إن جماهير الشعب التي وجه إليها النداء لم تتجاوب معه في اللحظات الأولى، بل كان لابد من مرور وقت يتفاوت من حيث الطول بين منطقة وأخرى وحسب وعي الفئات الاجتماعية المختلفة (1). وهناك شرائح واسعة من الشعب الجزائري قد ظلت موالية للنظام الاستعماري وتتعامل معه بكل ثقة إلى أن تأكد من عجزه عن حمايتها ولاحظت أنه اعترف لجبهة

التحرير الوطني بحق تقرير المصير على أساس الاستقلال الوطني. إن هذه الشرائح الواسعة جزء من الجماهير الشعبية ولايمكن أن نقول أن المبادئ الديمقراطية قد تغلغلت إلى أوساطها أثناء فترة الكفاح المسلح وإلا أصبح الاستعمار هو داعية الحرية والديمقراطية.

2 -

إن الكفاح من أجل انتصار المبادئ الديمقراطية لايكون إلا بعد استرجاع الاستقلال الوطني ولذلك فإن جبهة التحرير الوطني لم تجعله من أهدافها الرئيسية أثناء فترة الكفاح المسلح خاصة وأن متطلبات الحرب كثيراً ماتتناقض مع الممارسة الديمقراطية.

3 -

لقد كانت السيادة الوطنية المغتصبة مبنية على مجموعة من الثوابت أهمها الإسلام ولغة القرآن.

وأن الكفاح من أجل استرجاعها يعني بالدرجة الأولى السعي بجميع الوسائل لإعادة تأهيل تلك الثوابت التي عملت السلطات الاستعمارية على تشويهها أو إلغائها تماماً كما كان الأمر للغة العربية، وبدلاً من أن يهتم ميثاق الجزائر بدين الجزائريين ولغتهم باعتبارهما أفضل وسيلة لتكوين الإنسان، فإنه انطلق من النظرة الماركسية للديانات السماوية وراح يخطط لتهميش الإسلام، ولعزل اللغة العربية عن ميادين الإدارة والعلم والتكنولوجيا.

(1) عباس (فرحات) الاستقلال المصادر، ص31، وما بعدها.

ص: 222

4 -

إن ميثاق الجزائر لم يزد عن تقليد الحلول النظرية التي أوجدتها الثورة الروسية لمشاكل المجتمع السوفياتي. ولو أن المشرفين على الصياغة لم يكونوا متشبعين بالفكر الماركسي دون غيره، لانطلقوا، في تحليلاتهم، من الفكر السياسي الإسلامي ومن الواقع الجديد الذي أحدثته الثورة في الجزائر ثم أوجدوا نظاماً للحكم مستقلاً ومتطابقاً مع المنطلقات الأيديولوجية لجبهة التحرير الوطني.

أما المغالطة التاريخية الثالثة فتتعلق بمجموعة من التفسيرات للمراحل التي قطعتها ثورة نوفمبر منذ اندلاعها. وهذه التفسيرات تبدأ من برنامج طرابلس الذي أشار إلى أن وعي الجماهير قد جعل الثورة تتحول من ديمقراطية اجتماعية إلى ديمقراطية شعبية وأن هذه الأخيرة عبارة عن تشييد واع للبلاد في إطار المبادئ الاشتراكية (1).

إن برنامج طرابلس، إذن جعل المبادئ الاشتراكية تحل محل المبادئ الإسلامية، ولقد فعل ذلك خلسة ولم يطلب رأي الجماهير الشعبية التي ما كانت لتوافق لو استشيرت. ثم جاء ميثاق الجزائر ليؤكد أن "الكفاح من أجل تدعيم الاستقلال والكفاح من أجل انتصار الخيار الاشتراكي لا انفصام بينهما، والفصل بينهما يعد تذويباً للدور القيادي لجماهير العمال والفلاحين (2).

فبهذه الكيفية تجاهل ميثاق الجزائر المكانة التي مافتئ الإسلام يحتلها في مسيرة الجزائر التاريخية، وكذلك الدور الحاسم الذي أداه في تشكيل الشخصية الوطنية أولاً، وصيانتها ضد محاولات المسخ والتشويه ثانياً، وتمكينها في نهاية المطاف من أن تتحرك من جديد لتقويض الأركان الاستعمارية وتؤكد الهوية الوطنية وتطلق العنان لثورة أصيلة إسلامية الروح عربية اللسان وإنسانية المسعى.

إن الربط بين الكفاح من أجل تدعيم الاستقلال والكفاح من أجل انتصار التيار الاشتراكي عمل نظري ينطلق من دوغمائية عميقة ولا يأخذ في الاعتبار بعدين أساسيين لابد منهما لكل حركة تريد أن تصل إلى مداها دون انحراف ولاجمود، وهما بعد الاستمرارية وبعد التجديد والإبداع.

وإذا كانت الاستمرارية تعني المحافظة على خيوط التواصل التي ظلت تنظم مسيرة الشعب الجزائري، فإن التجديد والإبداع يعطيان للمسؤول والمناضل قدرة التحلي بالمرونة اللازمة لتكييف عملية الانتقال من المجال النظري إلى

(1) النصوص الأساسية لجبهة التحرير الوطني 1954 - 1962، ص71.

(2)

ميثاق الجزائر، ص36.

ص: 223

دائرة الفعل حسب الظروف والإمكانيات التي تتحكم في تشكيل الواقع.

ومغالطة تاريخية رابعة وتتمثل في اعتبار أن البؤس المدقع الذي كانت تعيش فيه الأغلبية الساحقة من الفلاحين والعمال كافة لجعل هذه الأخيرة "تناضل من أجل تحويل المجتمع تحويلاً جذرياً"(1) في اتجاه البناء الاشتراكي. ولو كان هذا الادعاء صحيحاً لما انتظرت الجزائر سنة أربع وخمسين لإشعال فتيل الثورة ولما لاقت في فترتها الأولى تلك الصعوبات الكبيرة في جعل جماهير الشعب تقبل فكرة التغيير وتساهم بأشكال مختلفة في الكفاح المسلح.

ويزعم ميثاق الجزائر، أيضاً، أن التسيير الذاتي الذي لجأت إليه الثورة الجزائرية في العام الأول بعد استرجاع الاستقلال هو تعبير عن إرادة الفئات الكادحة في البلاد في الصعود إلى المسرح السياسي الاقتصادي وفي أن تتشكل كقوة قيادية. وهذا التعبير يدل، مرة أخرى، على أن الذين تولوا صياغة ميثاق

الجزائر لم يكونوا يعرفون الواقع الجزائري، لأن التسيير الذاتي في الواقع لم يكن نتيجة تخطيط مدروس، ولكنه فرض على السلطات الجزائرية الفتية بسبب رحيل الجالية الأوربية التي كانت تمتلك وسائل الانتاج وفي مقدمتها المساحات الشاسعة من الأراضي الخصبة، ولكي لاتبقى تلك الوسائل مهملة، وحتى تتم عمليات الحرث والبذر في خريف تلك السنة والتي أعطيت الإشارة الخضراء إلى الفلاحين والعمال فانتظموا في لجان للتسيير الذاتي ثم جاءت قرارات مارس ثلاث وستين وتسعمائة وألف لتجعل من المبادرة إجراءات رسمية (2).

إن لجان التسيير الذاتي لم تكن، كما توهم المنظرون الماركسيون، استمرارية للثورة ولا واحدة من الخاصيات الرئيسية للانفتاح نحو الاشتراكية، لكنها كانت حتمية وكانت من البداية مبنية على أسس غير سليمة لأن تركيبتها البشرية لم تكن لتساعد على تحويله إلى أداة ثورية، ذلك أن أعضاء لجان التسيير لم يكونوا سوى نفس العمال والفلاحين الذي ظلوا في معظمهم أوفياء للكلون الذين كانوا يستغلون الجزائر، إذا كانت جبهة التحرير الوطني، لم تتمكن، طيلة سنوات الكفاح المسلح، من فصلهم نهائياً عن مستغليهم ومؤيدي السيطرة الأجنبية في بلادهم، فإن من المستحيل على قرارات مارس المرتجلة أن تحولهم إلى قوة قيادية.

وإلى جانب هذه المغالطات التاريخية وغيرها هناك التناقضات السياسية

(1) المصدر نفسه، ص40.

(2)

Benamrane (Djillai) Agriculture et debeloppement en Algerie، SNED، Alger 1980 - 101 et suivantes.

ص: 224

التي لم تتفطن إليها لجنة صياغة ميثاق الجزائر والتي سوف تكون هي أساس جزء من الانحرافات التي وقعت فيه أيديولوجية جبهة التحرير الوطني والتي شكلت بالتدريج، واحداً من العراقيل الرئيسية التي منعت الثورة من التقدم في انتظار إجهاضها. ومن جملة هذه التناقضات ما يلي:

1 -

إن ميثاق الجزائر، عندما يتحدث عن بنية المجتمع واتجاهه، يذكر أن "نواة برجوازية أكثر أهمية قد تشكلت في نهاية مائة وثلاثين سنة من الاستعمار، من كبار التجار وبالأخص من كبار ومتوسطي ملاك الأراضي، ولم تكن الفئات البرجوازية بمعناها الحقيقي تتجاوز 2.5% من عدد السكان العاملين (1) ويرى أن هذه البرجوازية كانت مؤثرة في الميدان الاقتصادي" وكان لها نفوذ أيديولوجي وثقافي وسياسي في أوساط العمال والفلاحين (2).

إن هذا الكلام يتناقض في جوهره مع ماورد في الباب الخاص بالأسس الإيديولوجية للثورة الجزائرية والذي جاء فيه "إن الكفاح من أجل انتصار المبادئ الديمقراطية قد تغلغل بين الجماهير وحفز عملها وحدد سلوكها وآفاقها ومن خلال المقاومة المسلحة ضد الامبريالية الفرنسية أصبحت الجماهير واعية بقوتها وقدرتها على حل مشاكلها بنفسها (3). فإذا كان الأمر قد وصل فعلاً إلى هذا الحد، فإن تأثير البرجوازية غير ذي بال خاصة وأن التحليل يتعلق بفترة زمنية واحدة هي نهاية النظام الاستعماري.

2 -

إن ميثاق الجزائر يؤكد على ضرورة إبراز الديمقراطية الاشتراكية بواسطة الإدارة الفعالة التي تراقبها الجماهير، وفي نفس الوقت يعترف أن الدولة الجزائرية "احتفظت بالهياكل الإدارية التي أقامها الاستعمار من أجل تأطير اقتصاد ليبرالي تترك فيه الوظيفة الاقتصادية لمالكي وسائل الإنتاج والمقاولين ومثقفي المهن الحرة (4).

وإذا كان ميثاق الجزائر يعترف للبرجوازية، على ضآلة نسبتها، بتأثيرها البالغ أيديولوجياً وسياسياً وثقافياً في أوساط الجماهير الشعبية، فكيف يمكن التصديق بأن هذه الأخيرة سوف تتمكن من مراقبة الإدارة التي أنشئت في أساسها لتكوين أداة مناهضة للسياسة الاشتراكية.

(1) نفس المصدر، ص38.

(2)

نفس المصدر، ص39.

(3)

نفس المصدر، ص36.

(4)

نفس المصدر، ص39.

ص: 225

3 -

يرى ميثاق الجزائر أن إبراز الديمقراطية الاشتراكية يكون، كذلك "بواسطة هيئات شعبية حميمية تسيّر بلديات ديمقراطية (1). لكن هذه الهيئات الشعبية مدعوة، لتأدية دورها، إلى استعمال البيروقراطية الإدارية التي تشكل أكبر حكر على التكور الاشتراكي والديمقراطي للثورة (2) وذلك بوصفها قوة اجتماعية سهر الاستعمار على تكوينها لتأييد سيطرته وللقيام بدور اقتصادي يتلاءم فقط مع مصالحه.

4 -

يؤكد ميثاق الجزائر أن "الجماهير الكادحة في المدن والأرياف قادرة على قهر الصعوبات الناشئة على مقاومة وتخريب القوى المناهضة للاشتراكية (3). ومما لاشك فيه أن هذا التأكيد يعبر عن مدى الوعي الذي تتحلى به تلك الجماهير لتكون في مستوى المهمة المسطورة لها. لكن الميثاق يذكر في نفس الصفحة "أن الكفاح من أجل انتصار الاشتراكية لايجري بطريقة منسجمة وأن

التناقضات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية ناجمة عن المستوى المنخفض للقوى الإنتاجية وتأخر الوعي الاجتماعي للعمال والتشويهات البيروقراطية لجهاز الدولة وضعف تمركز النقابات والحزب (4). فكيف يمكن للجماهير الكادحة أن تقهر الصعوبات وهي تعاني من تأخر الوعي الاجتماعي ومن التشويهات البيروقراطية التي يقوم بها جهاز الدولة.

5 -

إن ميثاق الجزائر يجعل في مرتبة واحدة الحزب والحكم الثوري في الجزائر، وإذا كان الحزب معرفاً بواسطة نظامه الداخلي وقانونه الأساسي ومن خلال مشروع المجتمع الذي يعمل على تجسيده على أرض الواقع، فإن الميثاق اكتفى بالنسبة للحكم الثوري بقوله: "إنه المدافع عن مصالح الفئات الكادحة المشكلة لقواعده الاجتماعية، ولذلك فهو لابد أن يصطدم بالفئات ذات الامتيازات التي تضم من جهة، أولئك الذين يملكون وسائل الإنتاج ومن جهة ثانية البرجوازية البيروقراطية (5).

فإذا كانت الفئات الكادحة هي القواعد الاجتماعية للحكم الثوري، فما هي القواعد الاجتماعية لحزب جبهة التحرير الوطني الذي تنص المادة الثانية من نظامه الداخلي على أنه "يستمد قوته من الجماهير الفلاحية، والجماهير العاملة

(1) نفس المصدر، ص41.

(2)

نفس المصدر

(3)

نفس المصدر، ص42.

(4)

نفس المصدر، ص43.

(5)

نفس المصدر، ص41.

ص: 226

ومن المادة الثانية من نظامه الداخلي على قائد الشعب في المعركة من أجل الاستقلال التام والاشتراكية والديمقراطية ومن أجل السلم الذي هو مربوط بمقتضيات تحرير الشعوب (1).

وبالإضافة إلى هذه المغالطات التاريخية والتناقضات السياسية، فإن ميثاق الجزائر قد عبر عن طموحات غير مشروعة لأنها طموحات لجنة صياغته لاغير. ولأنه يدعو، لتحقيقها إلى اعتماد أداة لم يوفق في تعريفها بالوضوح اللازم.

أما عن الطموحات اللامشروعة فإن الميثاق يذكر أن الشعب الجزائري "وجد نفسه، قبيل الاستقلال وبعد حرب تحريرية طويلة، مدعواً إلى اختيار النظام الأنسب لخصائصه من أجل تنظيم حياته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. وبما أن ثورتنا كانت، منذ ميلادها، ديمقراطية وشعبية بأوسع معاني الكلمة، فإن الجماهير الكادحة قد فتحت الطريق الموصلة إلى بناء مجتمع قائم على المبادئ

الاشتراكية (2). فإن هذا المؤتمر الأول للحزب "يجب أن يكون أول نوفمبر جديد، أول نوفمبر الاشتراكية (3).

كل هذه التنصيصات غير صحيحة، لأن الشعب لم يشترك في عملية اختيار النظام الأنسب لتنظيم حياته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، ولأن إقرار الثورة الاشتراكية لم ينطلق من تحليل معمق للواقع الذي كان عليه الشعب الجزائري، ولا من تقييم موضوعي لمختلف المراحل التي قطعتها ثورة أول نوفمبر.

وأما عن الأداة التي لابد منها لانتصار الثورة الاشتراكية في الجزائر، فإن ميثاق الجزائر يحصرها في حزب جبهة التحرير الوطني الذي ينبغي أن يكون طلائعياً ومن تركيبة اجتماعية قوامها الفلاحون والعمال والمثقفون الثوريون.

وإذا كان هناك اختلاف في التسمية بين الحزب في برنامج طرابلس وفي ميثاق الجزائر، إذ الأول جماهيري والثاني طلائعي، فإن التركيبة الاجتماعية لم تتغير وفي ذلك أكبر دليل على عدم جدية المنظرين، وسوف نرى أن عدم الحسم في مثل هذه الموضوعات الهامة هو الذي سيمنع حزب جبهة التحرير الوطني من تأدية دوره على الوجه الأكمل وهو الذي سيؤدي به إلى التحول

(1) نفس المصدر، ص121.

(2)

نفس المصدر، ص14.

(3)

نفس المصدر، ص171.

ص: 227