الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
في ساحة المعركة (1) حتى يكون وقوداً جيداً وكافياً لثورة لن تتوقف حتى تسترجع الجزائر سيادتها.
أما في الخارج، ومن غياهب السجن، فإن السيدين، بن بلة وبوضياف قد عبرا عن تضامنهما مع ابن المهيدي الذي أُلقي عليه القبض يوم 23 فيفري وأعدم في ظروف أحاط بها كثير من الغموض (2).
ويعتبر خروج لجنة التنسيق والتنفيذ تجسيداً للهزيمة التي منيت بها جبهة التحرير الوطني في مدينة العاصمة وذلك على الرغم من كل العمليات العسكرية التي نفذت خلال الأشهر الستة جاءت بعد انعقاد مؤتمر وادي الصومام.
وبمجرد الالتحاق بالعاصمة التونسية اجتمعت لجنة التنسيق والتنفيذ لتقييم المرحلة المقطوعة، لكن السيد بلقاسم كريم الذي كان من المقررين الأساسيين في وادي الصومام أبدى رغبة ملحة في التخلي عن المبادئ الرئيسية، وراح يلوح بضرورة إسناد القيادة للمسؤولين التاريخيين علماً بأنه الوحيد، من بينهم الذي ظل طليقاً وعلى قيد الحياة (3)، كما أنه رفع شعار التصالح مع رفاق الدرب المعتقلين لسد الطريق أمام المركزيين المعتدلين ولتمكين العسكريين من شغل مناصب الحل والربط في أجهزة الثورة.
وإذا كان السيدان دحلب وابن خدة لم يظهرا معارضتهما للأفكار الجديدة التي جاء بها السيد كريم بلقاسم، فإن عبان رمضان قد بذل كل ما في وسعه للتصدي لها، لكن الظروف تغيرت، فلم يعد هو الآمر الناهي، ولم يعد كريم هو ذلك المنبهر أمام شخصيته الفذة، وتبين أن حساباته التي جعلته يختار ابن خدة ودحلب لعضوية اللجنة كانت خاطئة. كل ذلك سوف يكون له بالغ الأثر على مسيرة الثورة وسوف يكون عبان أول من يدفع ثمن سوء التقدير.
الدورة الأولى للمجلس الوطني للثورة الجزائرية:
رغم كل الخلافات التي بدأت تلوح في الآفاق، فإن أعضاء لجنة التنسيق والتنفيذ قد أنهوا اجتماعهم المشار إليه أعلاه بالتصديق على ورقة عمل تضمنت
(1) من شهداء التحرير، ص71 وكذلك المجاهد، العدد 9 الصادر بتاريخ 20/ 8/1957.
(2)
لكن الأكيد هو أنه عذب تعذيباً لم يعرفه أحد ثم أعدم شنقاً. ولقد أورد الكتّاب والمؤرخون روايات متعددة حول الموضوع.
(3)
حربي محمد جبهة التحرير الوطني، ص 215.
تقييماً مفصلاً وموضوعياً للمراحل التي قطعتها الثورة، ومجموعة من الاقتراحات العلمية التي من شأنها أن تكون أساساً لبرنامج العمل المستقبلي الذي سوف يصدر عن الهيئة العليا للثورة في دورتها االرسمية الأولى التي تقرر، بعد استشارات واسعة، عقدها بمدينة القاهرة في الفترة من 20 إلى 27 أوت سنة سبع وخمسين وتسعمئة وألف (1).
ولقد كانت الدورة، بالفعل منعرجاً خطيراً في تاريخ ثورة نوفمبر، وكان من الممكن أن يتحول اللقاء إلى مأساة دموية، لكن الروح الوطنية تغلبت في النهاية، وتوصل المشاركون إلى مجموعة من الحلول الوسطى التي ساعدت على تجاوز الحساسيات الشخصية وأوجدت السبيل لتواصل الكفاح المسلح مع الحفاظ على مظهر القيادة ووحدة التوجه رغم كل ما وقع من مشادات ونزاعات واختلافات تجاوزت حد اللياقة في كثير من الأحيان.
(1) نظراً إلى أن المورخين والصحافيين، في ذلك الوقت لم يولوا اهتماماً كبيراً بتلك الدورة التي عقدها المجلس الوطني للثورة الجزائرية ونظراً إلى أن أعضاء المجلس المذكور لم يهتموا، في الستينات أو حتى في السبعينات بكتابة مذكراتهم، فإن الاختلافات قد جاءت فيما يتعلق بتاريخ بدء الأشغال وكذلك المدة التي استغرقتها. وعلى سبيل المثال:
- يذكر السيد فيليب تريبي في كتابه: تشريح لحرب الجزائر الصفحة 198 أن المجلس الوطني للثورة الجزائرية اجتمع بالقاهرة في دورة سرية يوم 23 أوت سنة 1957.
- أما السيد إدوارد باهر الصحافي الإنكليزي الذي صدر كتابه: "مأساة الجزائر" سنة 1961، فإنه تحاشى تقديم تاريخ محدد واكتفى في الصفحى 127 بالقول أن الدورة انعقدت في سنة 1957.
- وأما السيد جاك ديمشان "تاريخ جبهة التحرير الوطني" الذي صدر في بارس سنة 1962، فإنه ذكر في الصفحة 265 من كتابه "إن الدورة انعقدت في شهر أوت" وبعد ذلك بفقرتين أشار إلى أنها يوم اختتمت يوم 27 من نفس الشهر.
- ويذكر السيد فتحي الديب في كتابه: "عبد الناصر وثورة الجزائر" الصفحة 355، "المؤتمر انعقد في أول سبتمبر سنة 1957. أما نحن فإننا استقينا معلوماتنا مباشرة من السيدين عبد الحفيظ بو الصوف والأخضر بن طوبال وقد وجدنا تأييداً لهذه المعلومات في بعض الكتب التي عالجت تاريخ الكفاح المسلح في الجزائر وفي مقدمتها: "حرب الجزائر لصاحبه العقيد يبارلو كويي Pierre le Goyet رئيس مصلحة الأرشيف المعاصر لدى رئاسة الحكومة الفرنسية إلى غاية عام 1957 وهو عضو لجنة تاريخ الحرب العالمية الثانية ولجنة التاريخ العسكري المقارن.
أما السيد فرحات عباس لا يذكر تاريخ ابتداء الأشغال لكنه يؤكد في كتابه "تشريح الحرب ص210 أنه كان في بيونس آرس عندما استدعيَّ إلى القاهرة 17 آوت، وفي الصفحة 212 يضيف قائلاً: "وفي يوم 24 أوت، وبعد اجتماعات عديدة مع العقداء، وافقنا على أن نكون أعضاء بلجنة التنسيق والتنفيذ التي أصبحت يوم 28 من نفس الشهر، أي غداة اختتام المؤتمر مكونة كالآتي: العقيد كريم، العقيد واعمران، العقيد محمد شريف، العقيد بو الصوف، العقيد ابن طوبال، عبان، دباغين، مهري وعباس ونسي المؤلف أن يضيف أسماء المعتقلين وهم: أحمد بن بلة، محمد خيضر، حسين آيت أحمد، محمد بوضياف ورابح بيطاط.
وإذا كان المجلس الوطني قد اختار بعد نقاش عدم تأييد السيد كريم بالنسبة لطرحه المتعلق بضرورة إسناد مسؤولية الثورة لأقدم العناصر القيادية، وفضل مواصلة السير طبقاً لأسلوب العمل الذي دشنه السيد عبان أثناء مؤتمر وادي الصومام عندما فتح أبواب المسؤولية إطارات متشبعة بإيديولوجية غير التي وضعها نجم شمال إفريقيا، فإنه قد أبدى كثيراً من المرونة عندما تعلق الأمر بمراجعة مبدأي أولوية الداخل على الخارج والسياسي على العسكري.
هكذا، قرر المجلس الوطني وتوسيع نفسه بحيث انتقل عدد أعضائه من أربعة وثلاثين إلى أربعة وخمسين، وقرر كذلك رفع عدد أعضاء لجنة التنسيق والتنفيذ إلى أربعة عشر. وفي الحالتين لم يبق التعيين مقصوراً على العناصر الملتزمة في صفوف حزب الشعب الجزائري وما تفرع عنه بعد الحرب الإمبريالية الثانية. وعلى سبيل المثال، تجدر الإشارة إلى لجنة التنسيق تضمنت السيدين فرحات عباس ومحمود شريف (1) وهما من الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري.
إن الانفتاح على العناصر القيادية الوافدة من الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري ومن جمعية العلماء المسلمين الجزائريين كان إجراء طبيعياً ومنطقياً في ذات الوقت رغم أنه كان مرفوضاً بدرجات متفاوتة من معظم إطارات حركة الانتصار للحريات الديمقراطية.
أما الصفة الطبيعية للإجراء فمتأتية من كون جبهة التحرير الوطني حركة سياسية مسلحة تهدف أساساً إلى تقويض أركان الاستعمار الفرنسي في الجزائر، ولذلك فهي في حاجة إلى جميع الطاقات الحية بدون استثناء، وليس من المعقول أبداً أن توصد أبواب النضال بجميع أنواعه في وجه المتطوعين له. ولو لم تفعل لتركت *مفتوحة لأبواب المناورات الدنيئة للسلطات الاستعمارية التي كانت تستطيع توظيف الأبواب المغلقة لإنشاء حركات تتناحر فيما بينها وتسهل مهمة العدو الرامية إلى خنق أنفاس الثورة.
(1) من مواليد سنة 1914 بضواحي مدينة تبسة. تخرج من مدرسة تكوين الضباط في فرنسا وشارك في الحرب العالمية الثانية كواحد من الضباط الشباب الفرنسي الذي استقال منه على إثر مجازر ماي سنة 1945 وهو برتبة نقيب. وفي سنة 1946في صفوف الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري وأصبح ملاحقاً من طرف الإدارة الاستعمارية. التحق بصفوف جيش التحرير الوطني في نهاية عام 1955 وتسلق سلم المسؤوليات إلى أن أصبح قائد للولاية الأولى ثم عضواً بلجنة التنسيق والتنفيذ قبل أن يعين وزيراً للتسليح والتموين. لم يؤدي أي دور سياسي أو غيره بعد استرجاع الاستقلال.
وأما منطقية الإجراء فمتأتية من كون الإيديولوجية كلها كانت ترمي إلى تغيير وضع المجتمع الجزائري في اتجاه الأفضل. فالاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري كان يهدف إلى تحقيق المساواة في المواطنة بين الفرنسيين والجزائريين معتقداً أن النضال السياسي وحده يكفي للوصول إلى تلك الغاية، ومع مر السنين ثبت لقيادات الحزب والمناضلين الواعين أن الكولون لن يسمحوا للإنسان الجزائري بالانعتاق من عبودية الاستعمار وما يترتب عليها من أنواع الاستغلال والعسف والاضطهاد، لأجل ذلك فإنهم غيروا قناعتهم وصاروا يؤمنون بتمايز الشعب الجزائري وبضرورة إقامة دولته ((المتعاونة مع فرنسا لاالتابعة لها أو المنفصلة عنها. وبالمؤازرة مع تغيير القناعات ظهرت محاولات متعددة لتطوير مشروع المجتمع وتغيير أسلوب النضال، وتواصلت إلى أن وجد الاتحاد نفسه مندمجاً في جبهة التحرير الوطني سنة ست وخمسين وتسعمائة وألف.
إذن، وانطلاقاً مما سبق، يجب التأكيد على أن تغييراً نوعياً قد تجسد على الميدان خلال تلك الدورة الأولى التي عقدها المجلس الوطني للثورة الجزائرية مستهدفاً المنطلقات الأيديولوجية بحيث لم يعد يشترط الانتماء العضوي لحزب الشعب الجزائري والتشبع المطلق بأيديولوجيته للتمكن من ممارسة المهام القيادية العليا.
وفيما يتعلق بأولوية السياسي على العسكري والداخل على الخارج، فإن المجلس الوطني قد ألغى قرار مؤتمر وادي الصومام وأكد في لائحته النهائية أن الأولوية لا تكون إلا حيث الفعالية وحيث مصلحة الثورة. وفي الحقيقة، فإن هذا التأكيد لم يكن إلا شكلياً، ولأن الواقع لم يكن كذلك بالنسبة للنقطتين على حد سواء.
ففيما يخص النقطة الأولى، تجدر الإشارة إلى أن السلطة كلها قد انتقلت إلى القادة العسكريين الذين بدأوا يجنحون إلى الاستبداد رغم معارضة عبان الذي أصبح شبه وحيد نظراً لسكوت من كانوا يسمون بالسياسيين الذين رضوا بدور المنفذ. وقد كان الفرنسيون يدعون هؤلاء العسكريين: "الباءات الثلاث وهم يعنون: بلقاسم كريم، وبن طوبال لخضر وبالصوف عبد الحفيظ (1).
(1) تسمية العسكريين والسياسيين هي فقط اختراعات السلطات الاستعمارية، لأن قادة الثورة وخاصة منهم الأوائل كانوا جميعاً متساوين تقريباً من حيث التكوين العسكري والسياسي، وعلى سبيل المثال فإن عبان رمضان الذي ينبعث بكونه سياسياً لا يختلف في شيء عن آيت أحمد وبن بلة أو من