الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تم بها تأسيس الحكومة، واشتمل على توبيخ للقيادة على تقاعسها وتهاونها بالنسبة لعملية التسليح التي توقفت نهائياً بسبب خطي موريس وشال. وورد في المحضر، دعوة إلى العودة للمبادئ التي وضعها مؤتمر وادي الصومام وخاصة منها أولوية الداخل على الخارج والقيادة الجماعية. وفي النهاية أعلن الحاضرون عن تأسيس لجنة التنسيق فيما بين الولايات لأن (الثورة لا يمكن تسيّرها بقيادة أركان مقرها خارج الحدود)(1).
ففي الثاني عشر من شهر مارس سنة تسع وخمسين وتسعمائة وألف تسلمت الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية المحضر المذكور واستمعت إلى شروح وافية في الموضوع قدمها كاتب الدولة الرائد عمر أو صديق (2). بعد ذلك بدأت المهمات في إتجاه عواصم الوطن العربي وآسيا وبعض البلدان الأوربية (3). وفي التاسع والعشرين من شهر جوان عادت كل الوفود إلى القاهرة حيث اجتمعت الحكومة برئاسة السيد فرحات عباس، وفي أثناء الإجتماع وقع إصطدام حاد بين العقيدين كريم ومحمود شريف (4) كاد أن يقود إلى استعمال الأسلحة ثم رفعت الجلسة وتقرر إستدعاء المجالس التي أصبحت تعرقل حسن سير الثورة.
مناورات الجنرال ديغول وحق الشعب الجزائري
في تقرير المصير:
لقد مرت الثورة الجزائرية بمرحلة حرجة خلال سنة ثمان وخمسين
(1) فرحات عباس، تشريح حرب، الفجر، باريس 1980 ص:256. يذكر الكاتب أن عمر أو صديق أسر له بأن عميروش عازم على أن لاتبقى في الخارج سوى مندوبية يسيرها شخص واحد هو فرحات عباس، أما في قيادة جبهة التحرير الوطني فإنهم سيجبرون على العودة إلى أرض الوطن وتسند القيادة العليا إلى ضباط برتبة جنرال قد يكون عميروش نفسه.
(2)
نفس المصدر، ص: 258، يذكر عباس أن عرض أو صديق أدخل الرعب على النفوس وحير قدماء قادة الولايات بإخبار مزعجة تتعلق بمخطط شارل وبعمليات التعذيب والتقتيل التي استهدفت إطارات الثورة خاصة في الولايتين الثالثة والرابعة نتيجة النشاط الذي قامت به مصالح الإستعملات الفرنسية.
(3)
بدأت هذه المهام بوفد رئاسي توجه إلى تونس يوم 22/ 03/59 ثم عاد إلى القاهرة ليقابل عبد الناصر قبل أن يتوجه إلى الهند والباكستان والعراق وغيرها من البلدان الشقيقة والصديقة وانتهت بزيارة يوغسلافيا حيث كان اللقاء مع المارشال تيتو يوم 12/ 02/1959.
(4)
فرحات عباس، تشريح حرب، ص 268 وما بعدها.
وتسعمائة وألف، وبدأ ذلك بالإعتداء على مبادئ التسيير التي وضعها مؤتمر وادي الصومام وخاصة مبدأ القيادة الجماعية عندما قرر ثلاثة من أعضاء لجنة التنسيق والتنفيذ إعدام رفيق لهم دون، الرجوع إلى باقي أعضاء اللجنة ودون تقديم أي مبرر غير الجري وراء السلطة.
إن إغتيال عبان رمضان في شهر ديسمبر عام 1957 قد تسبب في تجميد نشاط لجنة التنسيق والتنفيذ لمدة تزيد عن ثلاثة أشهر، وفي زرع بذور الشك في أذهان مختلف العناصر القيادية إلى درجة أن الثقة المتبادلة اختفت نهائياً. وقد إنعكس ذلك سلباً على سائر نشاطات جبهة التحرير الوطني وجعل معظم الطاقات تتصرف إلى الإحتراس من الآخر والتفنن في إيجاد وسائل الأمن الفردية، وفي نفس الوقت كانت السلطات الاستعمارية تقيم حاجز موريس (1) وتعمل على دعمه بخط شال.
وإبتداء من الفصل الأول لسنة ثمان وخمسين وتسعمائة وألف أصبح الحاجز مستحيل الإجتياز إلا إذا وافقت وحدات جيش التحرير الوطني على ترك ثلاثة أرباعها في الميدان مقابل ربع قد يصل إلى الأراضي الجزائرية، ورغم كل ذلك فإن السيد كريم بلقاسم ظل يوهم القيادة بأن الأسلاك المكهربة لا تشكل صعوبة تذكر في وجه قواتنا المقاتلة. (2)
لكن ذلك لم يكن هو رأي مسؤول التسليح العقيد وأعمران الذي وجه إلى لجنة التنسيق والتنفيذ تقريراً يحمل تاريخ الثامن من شهر جويلية سنة ثمان وخمسين وتسعمائة وألف جاء فيه: "أن جيش التحرير الوطني الذي بلغ أوجه قوته من حيث العدد والسلاح يصاب حالياً بخسائر فادحة، إذ فقد في ظرف شهرين فقط أكثر من ستة آلاف مجاهد في منطقة عنابة وحدها. وإذا كنا في العام الماضي قد أوصلنا إلى الداخل أسلحة كثيرة، فإن تجديدها وتزويدها بالذخيرة قد أصبح الآن صعباً جدّاً بسبب الأسلاك المكهربة وما تتضمنه
(1) شرع في بناء خط موريس في شهر جوان 1957 وهو مزدوج من الأسلاك الشائكة المكهربة يمتد من البحر الشرقي في مدينة عنابة إلى قرية نقرين بوادي سوف على بعد حوالي عشرين كلم فقط من الأراضي التونسية ويهدف إلى سد المنافذ الجبلية المقابلة لقواعد جيش التحرير الوطني. وأما على الحدود الغربية فهو مقسم إلى شمالي بسد الأطلس التلي في مواجهة مدينة وجدة وجنوبي بسد الأطلس الصحراوي في مواجهة فقيق.
(2)
المجاهد، العدد 23 ص439 وما بعدها.
فجواتها من حقول الألغام" (1).
وإلى جانب خط موريس كانت هناك الظاهرة الديغولية التي عم مفعولها البسيكولوجي مختلف أنحاء الجزائر ابتداءً من الثالث عشر من ماي سنة ثمان وخمسين وتسعمائة وألف. فالدعاية الإستعمارية إستطاعت في ظرف قصير جداً أن تثبت في أذهان المواطنين الجزائريين عظمة الجنرال ديغول وقدرته على تسوية المشكل الجزائري واستعداده لتحقيق السلم في ربوع البلاد، ولم ينجوا من تأثير هذه الغاية حتى بعض كبار المسؤولين في جبهة التحرير الوطني وفي التنسيق والتنفيذ بالذات (2).
إن الجنرال ديغول يعدّ من أعظم الرؤوساء الذين عرفتهم فرنسا، ما في ذلك شك، وعظمته هي بالضبط ما يكذب الدعاية الاستعمارية المذكورة، وقد أورد هو نفسه في مذكراته ما يدعم قولنا هذا عندما توقف طويلاً عند المسألة الجزائية مؤكداً ((رجالاً تاريخيين أمثال دويرمون (3) وبيجو (4) وكلوزيل (5) وهم الذين بذلوا جهوداً جبارة من أجل إلحاق الجزائر بفرنسا. وليس من المعقول أن تضيع هذه المستعمرة في عهد حكومتنا)) (6). لأجل ذلك فإنه فكر وقدر ثم وضع بنفسه خطة للقضاء على الثورة ترتكز على دعائم أساسية هي:
أ- التنمية الإقتصادية قصد تشغيل المواطنين وعزلهم عن جبهة التحرير الوطني وقد وظف لذلك أرصدة مالية كبيرة في إطار مايسمى بمشروع قسنطينة الذي أعلن عن ميلاده والشروع في تجسيده يوم الثالث من شهر أكتوبر سنة ثمان وخمسين وتسعمائة وألف.
(1) نجد تأكيداً لهذا التبرير في كتاب فليب تريبي: تشريح حرب الجزائر، ص 205 وما بعدها.
(2)
تشريح حرب، ص 241، يقول عباس فرحات: "من وجهة نظري فإن الجنرال كان قادراً على تسوية مشاكلنا إلا أنه لم يكن يمينياً ولا يسارياً، بل كان هو ضمير فرنسا.
(3)
من مواليد 1773. عين وزير للحربية الفرنسية سنة 1846 ثم قاد الحملة إلى الجزائر ووقع مع الداي وثيقة الإستسلام ورقي إلى رتبة مرشال فرنسا سنة 1832 وتوفي عام 1846 أنه لم يكن يمينياً ولا يسارياً بل هو ضمير فرنسا.
(4)
جنيرال فرنسي أرسل إلى الجزائر لمحاربة الأمير عبد القادر سنة 1836، وقع معاهدة التافنة سنة 1837 وفي سنة 1840 عين حاكماً عاماً للجزائر فمارس فيها سياسة الأرض المحروقة وإستقال من الجيش سنة 1847. ومات بعد ذلك بقليل مصاباً بمرض الطاعون.
(5)
عين حاكماً للجزائر بعدما أن خرج منها ديومون سنة 1830:هزيمة أحمد باي أمام قسنطينة 1836. توفي بعد أن عين مرشال فرنسا سنة 1842.
(6)
مذكرات الجنرال ديغول، الأمل، ص71.
ب- إيهام الرأي الفرنسي والعالمي بالجنوح إلى السلم قصد الحد من الإنتصارات التي حققتها وتحققها جبهة التحرير الوطني في حظيرة الأمم المتحدة ولدى منظمات الجمهورية المختلفة.
ففي هذا الإطار أعلن، في اليوم الرابع من أكتوبر من نفس السنة أنه يأمر العسكريين بمغادرة لجان السلامة العامة (1) وفي اليوم الثالث والعشرين من ذات الشهر عرض على جيش التحرير الوطني ما يسمى بسلام الشجعان.
ج- إعادة تنظيم الجيش وتزويده بأحدث أنواع الأسلحة مع أمره بتكثيف العمليات العسكرية الهجومية، وبهذا الصدد استدعى الجنرال صالان إلى باريس واستبدله في اليوم الثاني من شهر ديسمبر بالجنرال شال كقائد عام للقوات المسلحة وبول دولوفريبي كمندوب عام لفرنسا في الجزائر.
وإذا كان الجنرال ديغول في العلانية يبدي نفس الإهتمام بالدعائم الثلاث المذكورة، فإنه في الواقع، كان يراهن فقط على الدعامة الثالثة معتقداً أن الإستراتيجية الجديدة (2) التي بشربها الجنرال شال قادرة على إنهاء الثورة في أجل قريب.
وبالفعل، لقد وضع تحت تصرف قائد القوات المسلحة الجديد إمكانيات ضخمة في المجالين المادي والبشري، ولمساعدته تم تعيين وترقية مجموعة من الجنرالات والعقداء الذين تخرجوا من المدارس العسكرية العليا أو الذين اكتسبوا في
(1) تأسست هذه اللجان على أثر الحركة الثالث عشر من ماي سنة ثمان وخمسين وتسعمائة وألف، بمبادرة من غلاة المعمرين والمتطرفين من الضباط في الجيش: وكان الهدف منها تجنيد الرأي العام في الجزائر وفي فرنسا من أجل الحفاظ على الجزائر فرنسية، تشكلت لجنة أم في الجزائر العاصمة ثم تلتها لجان محلية في جميع المستويات متضمنة أعضاء من الأوربيين. ومن الجيش وآخرين من الجزائريين المتمردين على سلطة جبهة التحرير الوطني. وفي نظر فرحات عباس، فإن هذه اللجان كانت في بداية الأمر ضد الجزائريين وضد فرنسا اللبرالية، تشريح حرب ص:240.
(2)
لقد عبر شال عن هذه الإستراتيجية الجديدة بقوله: ((أن تطويق الأماكن وتمشيطها لم يعد كافياً لأن الفلاقة)) يعرفون الأرض جيداً وهم ينتقلون بسرعة كبيرة، ولذلك يجب علينا، عندما نحتل منطقة أن نبقى فيها أطول مدة ممكنة حتى ندفع العدو إلى المجهول، فتواجدنا بالليل والنهار في الجبال وفي الأودية سيجعل المتردين يختفون، ونظراً إلى أنهم لا يستطيعون ذلك، لأنهم في حاجة ماسة إلى الإتصال بالسكان، فإن حياتهم ستتحول إلى جحيم وهذا ما ينبغي أن نحققه)).
الميدان، خبرة واسعة في حرب الفيتنام وفي الجزائر نفسها (1).
ولم تكن استراتيجية شال مجرد حبر على ورق، بل أن كل المصادر تؤكد على أن كل العمليات العسكرية التي انطلقت مع بداية العام الجديد قد شكلت خطراً كبيراً على جبهة التحرير الوطني خاصة في الولايتين الثالثة والرابعة. أن هذه العمليات قد تواصلت إلى غاية عام ستين وتسعمائة وألف ملحقة اضراراً بالمدنيين وخسائر بجيش التحرير الوطني لم يعرف لها مثيل لا من قبل ولا من بعد (2)، وهو الأمر الذي جعل فرحات عباس يقول في كتابه ((تشريح حرب)) ((إن الجزائر لم تعرف ثقل الحرب مثل ما عرفت ذلك في عهد الجنرال ديغول)) (3) لكن، على الرغم من كل هذه الجهود، فإن الجنرال شال لم يحقق الإنتصارات العسكرية التي طلبها منه رئيس الدولة الفرنسية الذي اضطره الواقع إلى الحل المبني على التفاوض وهو الحل الذي شرع في تطبيقه منذ 16/ 05/1959 عندما صرح، باسم فرنسا، أنه يعترف للشعب الجزائري بحقه في تقرير مصيره.
سياسة ديغول للقضاء على الثورة (عسكرياً) وقبل ذلك، كان الجنرال ديغول، في اليوم السابع عشر من شهر أفريل، أي بعد المعركة التي استشهد فيها قائد الولاية الثالثة والولاية السادسة بحوالي أسبوعين فقط، قد وجه رسالة تهنئة إلى الجنرال شال جدد له فيها ثقته المطلقة في نجاح برنامجه الذي قال عنه إنه يستحق التهنئة الكاملة في الجزائر، (4) وزادت هذه التهاني من غرور الجنرال شال الذي أدلى بعدها بأيام فقط إلى جريدة لومند الفرنسية بحديث أكد فيه أنه "آخذ بزمام الأمور وأن الإنتصار العسكري لا شك فيه وهو قريب"(5).
(1) من جملة الضباط السامين تجدر الإشارة خاصة إلى الجنرالات: ألار، قراسيو، قامبياز، فور، ماسي، موست، وغيرهم وإلى العقداء: بويس، بيجار، ترانكي، بروزا، ديكتس، جيرا، كوستو، قوداز، قادر، سيكالدي وغيرهم.
(2)
عرفت هذه العمليات نجاحاً كبيراً بفعل المحافظة على مناطق الطريق كما جاء ذلك في تعليمات الجنرال شارل وبفعل تكثيف الطلعات الجوية الموجهة للمراقبة والقصف، وليس أدل على ثقل خسائر جيش التحرير الوطني في هذه العمليات من كونها أدت في معركة واحدة إلى استشهاد قائدي الولاية الثالثة والسادسة العقيدين عميروش وسي الحواس والنائب الأول لقائد الولاية السادسة الرائد عمر ادريس ومجموعة كبيرة من مرافقيهم وقد حدث ذلك يوم 29/ 03/1959.
(3)
تشريح حرب، ص 252.
(4)
انظر جريدة: ليكون الجي العدد الصادر بتاريخ 17/ 04/1959، فإن البرقية قد نشرت على أعمدة الصفحة الأولى تحت عنوان: الجنرال ديغول يهنئ القادة العسكريين وتفوقهم.
(5)
انظر جريدة لوموند، الصفحة الثانية من العدد الصادر بتاريخ 26/ 04/ 1959.