الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المجلد الأول
مقدمة
…
تخجيل مَن حرَّف التّوراة والإِنجيل
دراسة وتحقيق: د/ محمُود عبد الرّحمن قدح
المُقَدِّمة
إنّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيّئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، وأنّ محمّداً عبده ورسوله1، وخاتم أنبيائه ورسله، وأنّ موسى كليم الله ورسوله، وأنّ عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنة حقّ والنار حقّ2.
أما بعد:
فإنّ القرآن الكريم - بجانب دعوته إلى التوحيد وبيان حقائق الإسلام وشريعته - قد عرض مقولات الأديان وآراء الملل والنحل المختلفة التي كانت منتشرة وقت التنزيل. قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا والَّذِينَ هَادُوا والصَّابِئِينَ والنَّصَارَى والمَجُوسَ والَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللهَ يَفْصُلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القِيَامَة إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيْدٌ} . [سورة الحجّ، الآية: 17] .
وقال تعالى: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَاّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَاّ الدَّهْرُ} . [سورة الجاثية، الآية: 24] .
وقد ناقش القرآن الكريم الأديان المنحرفة والعقائد الباطلة، وبرهن على بطلانها وفسادها، ودحض كلّ فرية وردّ كلّ مزعم، وأبان عن الدّين الصحيح الذي هو دين الأنبياء جميعاً، وأمر النّبيّ صلى الله عليه وسلم والمسلمين بتبليغ الدعوة الإسلامية
ومجادلة الخصوم. فقال الله عزوجل: {ادْعُ إِلَى سَبِيْلِ رَبِّكَ بِالحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلُوهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ
…
} . [سورة النحل، الآية: 125] .
لذلك كانت حياته صلى الله عليه وسلم جهاداً في سبيل الدعوة الإسلامية بالحجّة والبرهان في مجادلة الكفار على اختلاف الملل والأديان، ثم بالسيف والسنان بعد ظهور الحجّة والبرهان، وكذلك كان أصحابه رضي الله عنهم من بعده صلى الله عليه وسلم، فقد كان بعض الصحابة على اطِّلاع واسع وعميق على الأديان، وبخاصة اليهودية والنصرانية، كعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمرو بن العاص، ومسلمة أهل الكتاب مثل عبد الله بن سلام وتميم الداري وسلمان الفارسي وغيرهم رضي الله عنهم.
وكذلك كان بعض التابعين وأتباعهم كمالك1 بن دينار، وكعب الأحبار، ووهب بن منبة، وعبد الملك بن عبد العزيز بن جريج، وغيرهم رضي الله عنهم 2.
وحينما نشطت حركة التأليف والكتابة عند العلماء المسلمين، أفردوا العلم الأديان كتباً ومؤلّفاتٍ خاصة به، ومن ذلك:
الإمام محمّد بن إدريس الشافعي (توفي سنة 204هـ) له كتاب في
1 توفي سنة 131هـ، وكان يقول: قرأت الزبور، ويقول: مكتوب في التوراة:
…
ثم يسوق مقتبسات توراتية وزبورية. (ر: حلية الأولياء 2/376، 377، لأبي نعيم) .
2 ر: روايات الصحابة والتابعين وتابعيهم عن اليهود والنصارى في كتب التفاسير والتواريخ كتفسير ابن جرير الطبري وتاريخه.
(تصحيح النّبوّة والرّدّ على البراهمة) 1، وآخر في (الردّ على أهل الأهواء)2.
عليّ بن ربن الطبري - كان نصرانياً فأسلم - (توفي سنة 247هـ) له (الرّدّ على أصناف النصارى) 3 و (الدين والدولة في إثبات بنوة النبي صلى الله عليه وسلم 4.
والإمام أبو الحسن الأشعري عليّ بن إسماعيل (توفي سنة 344هـ) له كتاب في مذاهب النصارى، وآخر في الكلام على النصارى5. والعلاّمة ابن حزم الظاهري (توفي سنة 456هـ) له (الفصل في الملل والأهواء والنحل) .
ومحمّد بن عبد الكريم الشهرستاني (توفي سنة 548هـ) له (الملل والنحل) .
والمفسر محمّد بن عمر الرازي (توفي سنة 606هـ) له (اعتقادات فرق المسلمين والمشركين) .
والإمام ابن تيمية (توفي 728هـ) له (الجواب الصحيح لمن بدّل دين المسيح) ، وغيرهم من العلماء الكثيرين الذين أسهموا في هذه السلسلة المباركة في علم الأديان التي استمرت إلى يومنا هذا.
ولقد كانت جهود هؤلاء العلماء بتأثير مباشر من القرآن الكريم الذي وضع أسس علم الأديان، فكان لعلمائنا بذلك فضل السبق في تدوين هذا العلم مستقلاً
1 يدلّ ذلك على أنّ البراهمة ينكرون النبوة والرسالة كما هو معروف عند معظم الأديان، وقد أفادني فضيلة المشرف بأن البراهمة لا ينكرون النبوة والرسالة وإنما حرفوها إلى عقيدة (الأفتار) وهي نزول الربّ إلى الأرض في صورة البشر لتبليغ الشريعة. (ر: فصول في أديان الهند ص 107، تأليف أ. د/ محمّد ضياء الرحمن الأعظمي) .
2 ذكر ذلك عبد القاهر البغدادي في أصول الدين ص 308.
3 نشرة الأبوان خليفة وكوتشك في بيروت سنة 1959م، بدون تحقيق.
4 حققه ونشره الأستاذ عادل نويهض.
5 ذكره ابن عساكر في تبيين كذب المفتري، ص 129، 130، 135.
مستقلاً عن العلوم الأخرى، وفي وضع المنهج السليم له بالاعتماد على المصادر الأصلية لكلّ ديانةٍ بعيداً عن الأساطير والشائعات، وفي النقد البنَّاء الهادف لإظهار الحقّ وإزهاق الباطل.
ومن هؤلاء العلماء الذين أسهموا بحظٍّ وافرٍ في هذا العلم القاضي الفقيه أبو البقاء صالح بن الحسين الجعفري الهاشمي المتوفى سنة 668هـ، الذي يعتبر من المتخصصين في هذا العلم، وذلك بحسب ما وقفت على ترجمته وبعض آثاره العلمية وهي: كتاب (تخجيل مَنْ حرَّف التوراة والإنجيل) و (البيان الواضح المشهود من فضائح النصارى واليهود) و (الرّد على النصارى) .
لذلك كان اختياري دارسة وتحقيق كتابه (تخجيل مَنْ حرَّف التوراة والإنجيل) ليكون موضوع رسالتي المقدَّمة لنيل الشهادة العالمية العالية (درجة الدّكتوراه) ، نظراً لأهمية الكتاب في موضوعه الذي يتضمن الرّدّ على اليهود والنصارى، ولأنّه بمثابة الأصل لكتابيه الآخرين، ولاشتماله على الكثير من الأحاديث النبوية الشريفة، ولعدّة مميّزات أخرى سنتبيّنها - إن شاء الله تعالى - من خلال دراسته. إضافة على ما سبق فإن اختياري لهذا الموضوع له أسباب عديدة من أهمّها:
1-
العمل بقوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} ، وتطبيق المنهج القرآني في المبادرة بالهجوم على العقائد الباطلة والمفاهيم الخاطئة بهتك أستارها وبيان فسادها وتناقضها، وذلك من أنواع الجهاد الذي قال عنه النّبيّ صلى الله عليه وسلم:" جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم"1.
1 رواه أنس بن مالك رضي الله عنه وأخرجه الإمام أحمد (3/100) ، وأبو داود (3/10) ، والنسائي (6/7) ، والحاكم (2/81) ، وصحّحه، ووافقه الذهبي.
2-
إنّ في دراسة الأديان والفرق ومعرفة أسرارها فوائد عديدة منها:
أنّها تمكن الدَّاعية من النجاح في دعوته - بعد توفيق الله وعونه - حيث إن معرفة الداعية بدين المدعو يساعدهكثيراً في التأثير فيه وتخليصه من رواسب العقائد الباطلة، فيكون ذلك أدعى لقبول الحقّ.
ومنها: الوقوف على أسباب انحراف اليهود والنصارى وغيرهم، من باب معرفة الشرّ لتوقيه.
ومنها: زيادة الإيمان بديننا، والحمد الشكر لخالقنا عزوجل، فمن الظلام نعرف قيمة النور ومن الباطل نعرف قيمةالحقّ.
ومنها: أنّ بمعرفة حقيقة الأديان الباطلة يعرف بطلان ما يشبه أقوالهم من أقوال أهل الإلحاد والبدع.
3-
إنّ في إبراز تراث علمائنا المسلمين في هذا العالم تأكيداً لأصالته وهويته الإسلامية واستمداده من الكتب والسنة، وتأكيداً لتأثير التراث الإسلامي في حركة النقد للتوراة والأناجيل المحرفة عند أحبار اليهود والنصارى ومفكِّريهم المتأخرين.
ولإعطاء هذا الموضوع حقّه من البحث - حسب جهدي المتواضع وعلمي القاصر - وجلباً للفائدة التي يتوخاها الباحث قسمت عملي في دراسة الكتاب وتحقيقه إلى قسمين كالآتي:
القسم الأوّل: دراسة المؤلّف وكتابه، ويشتمل على بابين هما:
الباب الأوّل: التعريف بالمؤلِّف، ويندرج تحته فصلان:(الأوّل: عصر المؤلِّف، والثاني: حياة المؤلّف) .
الباب الثاني: التعريف بالكتاب وبيان منهج التحقيق، وتحته فصلان:(الأوّل: التعريف بالكتاب، والثاني: التعريف بالمخطوطة وبيان منهج التحقيق) .
القسم الثّاني: نص الكتاب المحقَّق، ويشتمل على عشرة أبواب.
ثم وضعت خاتمة ذكرت فيها أبرز الصعوبات التي واجهتها في البحث وأهمّ النتائج والتوصيات التي ارتأيتها، وقمت بوضع فهارس متنوعة للبحث ليسهل على القارئ الاستفادة منه.
وفي ختام هذه المقدِّمة فإني أحمد الله عزوجل وأشكره كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه عزوجل على نعمه الظاهرة والباطنة، وأسأله العون على ذكره وشكره وحسن عبادته تبارك وتعالى. ثم أتوجه بالشكر والامتنان للوالدين الكريمين على حسن تربيتهما وتوجيههما، فجزاهما الله خير الجزاء وأجزل مثوبتهما في الدنيا والآخرة.
ثم أشكر كلّ من أعانني في إتمام هذا البحث وإخراجه، وأخصّ بالذكر أستاذي فضيلة الأستاذ الدكتور محمّد ضياء الرحمن الأعظمي الذي أشرف على هذا البحث فأفادني من علمه وأخلاقه فجزاه الله عني خير الجزاء في الدنيا والآخرة.
كما أسجل عظيم شكري وامتناني للجامعة الإسلاميّة بالمدينة المنوّرة التي نشأت في رعايتها منذ المرحلة الثانوية، حفظها الله وأدامها لخدمة الإسلام والمسلمين وسدد خطى القائمين عليها والمسؤولين فيها.
وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدّين.
المحقِّق: محمود بن عبد الرحمن قدح