المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الثاني: حياة المؤلف - تخجيل من حرف التوراة والإنجيل - جـ ١

[صالح الجعفري]

الفصل: ‌الفصل الثاني: حياة المؤلف

‌الفصل الثاني: حياة المؤلف

حياة المؤلِّف

إنّ بعض الشّخصيات التّاريخية لا تحظى بما تستحقّه من الاهتمام والدراسة من المؤرخين على الرغم من تميز تلك الشّخصيات بمميزات وصفات عديدة تؤهلهم لذلك.

وإنّ المؤلِّف صالح بن الحسين الجعفري من أولئك الذين قَلَّ حظّهم ونصيبهم عند المؤرخين. وقد بذلت ما في وسعي من الجهد والوقت سعياً وراء ترجمة وافية للمؤلِّف في بطون كتب المؤرخّين والتاريخ، وبعد توفيق الله عزوجل وقفت على بعض المصادر التاريخية1 التي ذكرت تاريخ ولادة المؤلِّف، ووفاته وبعض المعلومات المهمة عنه علماً بأن من سبقني إلى دراسة المؤلِّف وآثاره؛ وهو د. محمّد محمد حسانين الذي قام بدراسة شاملة وتحقيق كتاب (الرّدّ على النصارى، لصالح بن الحسين الجعفري) لم يذكر تاريخي ولادة ووفاة المؤلِّف، واكتفى في الترجمة بما في كتاب كشف الظنون لحاجي خليفة وتاريخ الأدب العربي لبروكلمان.

1 ذكرت ترجمة المؤلِّف في المصادر الآتية:

ذيل مرآة الزمان 2/438، لأبي الفتح اليونيني المتوفى سنة 726هـ.

تاريخ الإسلام، للحافظ الذهبي المتوفى سنة 745هـ (مخطوطة بدار الكتب المصرية، ورقة 74/أللسنوات 663-680هـ)

الوافي بالوفيات 16/256، صلاح الدين الصفدي المتوفى سنة 764هـ.

كشف الظنون 1/379، حاجي خليفة.

هداية العارفين 5/422، إسماعيل البغدادي.

معجم المؤلِّفين 5/6، عمر رضا كحالة.

الأدب الجدلي والدفاعي في اللغة العربية بين المسلمين والنصارى واليهود ص 36، 141، 409، للمستشرق مورتز (باللغة الألمانية) .

تاريخ الأدب العربي 1/553، والذيل 1/766، كارل بروكلمان (بالألمانية) .

ص: 33

1-

اسمه ونسبه:

هو صالح بن الحسين بن طلحة بن الحسين بن محمّد بن الحسين الهاشمي الجعفري الزينبي1.

ومن المعلوم أن لقب (الهاشمي) نسبة إلى بني هاشم القرشيّين، وأما لقب (الجعفري) فنسبة إلى جعفر بن أبي طالب، الملقب بالطيار وذي الجناحين، شهيد مؤتة رضي الله عنه وينتسب إليه جماعة، منهم أبو الحسن عليّ بن الحسن الجعفري السمرقندي2، ومحمّد بن إسماعيل بن جعفر بن إبراهيم بن محمّد بن عليّ بن عبد الله بن جعفر3، والأمير الكبير الشريف فخر الدين أبو نصر إسماعيل بن حصن الدولة فخر العرب ثعلب بن يعقوب بن مسلم الجعفري الزينبي4، ومحمّد بن الحسن بن العربي بن محمّد الحجوي الجعفري الزينبي5.

1 كذا أورده أبو الفتح اليونيني في ذيل مرآة الزمان، وبمثله أورده الذهبي ما عدا ذكر اسم الجدّ الرابع في النسب وهو (الحسين) . وبمثل ذلك نقله الصفدي عن الذهبي. أما الباقون فقد ذكروه مختصراً كالآتي: صالح بن الحسين الجعفري.

2 ذكره ابن الأثير الجزري في اللباب في تهذيب الأنساب 1/283.

3 ذكره الزبيدي في تاج العروس من جواهر القاموس 10/446.

4 ذكره المقريزي في الخطط 3/332، وقال عنه: كان أمير الحاج والزائرين وأحد أمراء مصر في الدولة الأيوبية، أوقف مدرسة نسبت إليه باسم (المدرسة الشريفية) وتمّ بناؤها سنة اثنتي عشرة وستمائة وهي من مدارس الفقهاء الشافعية اهـ.

5 توفي سنة 1376هـ، (ر: الأعلام 6/96، للزركلي، مقدمة تحقيق كتاب (الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي) للدكتور عبد العزيز القارئ) .

ص: 34

وقد سكن الجعافرة بمصر في إسنا1 بالصعيد الأعلى وهم قبائل كثيرة2، ولهم قرية تنسب إليهم3. وكانوا بادية أصحاب شوكة يحالفون الأمويّين المقيمين هنالك4. ويرى الأستاذ عبد الله خورشيد أن الجعافرة عاشوا في مصر منذ القرن الثالث على الأقل وأنهم هاجروا إلى أرض الأشمونيّين في هجرة قريش إلى تلك المنطقة5.

وأما لقب (الزينبي) فنسبة إلى بطن من ولد عليّ الزينبي ابن عبد الله الجواد بن جعفر الطيار، نسبة إلى أمّه زينب6 بنت عليّ رضي الله عنه، وأمّها فاطمة الزهراء رضي الله عنها.

2-

كنيته ولقبه:

أجمعت المصادر التي ذكرت المؤلِّف على أن كنيته: (أبو البقاء) 7، ولكن لم تذكر تلك المصادر عدد أولاده أو أسماءهم.

وقد اشتهر المؤلِّف بلقبين هما:

الأوّل: (تقي الدين) ، ذكره اليونيني والذهبي والصفدي.

1 وهي الآن من المدن الكبيرة بمحافظة قنا المصرية. (ر: موسوعة المنسرة 1/1399) .

2 ر: تاج العروس 10/447، للزبيدي، لسان العرب 17/235، لابن منظور، معجم البلدان 1/121، 3/247، 4/235، لياقوت الحموي، معجم قبائل العرب القديمة والحديثة 1/191، عمر رضا كحالة.

3 ر: لب اللباب في تحرير الأنساب ص 65، للسيوطي.

4 ر: البيان والإعراب ص 32، للمقمريزي.

5 ر: القبائل العربية في مصر في القرون الثلاثة الأولى للهجرة ص 25.

6 زينت بنت عليّ بن أبي طالب الهاشيمة، سبطة رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال ابن الأثير:"إنها ولدت في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، زوجها أبوها ابن أخيه عبد الله بن جعفر فولدت له أولاداً، وكانت مع أخيها لما قتل". (ر: الإصابة8/100) ،وينسب إليهافي مصرمسجدها، توفيت سنة 65هـ، ودفنت بقناطرالسباع بمصر. (ر: أعلام النساء2/91،99 عمر كحالة) .

7 وحرفت هذه الكنية إلى (أبي التقي) في كتاب الوافي بالوفيات للصدفي، ولعله خطأ مطبعي.

ص: 35

الثاني: (قاضي قوص) لتوليه القضاء بها مدّة، ذكره الذهبي والصفدي.

3 -

ولادته ونشأته:

ولد المؤلِّف في سنة إحدى وثمانين وخمسائة من الهجرة النبوية الشريفة1 بمصر، وكانت سنة ولادته في السنة الخامسة عشرة من ولاية السلطان صلاح الدين الأيوبي على مصر، وفيها أيضاً توفيت زوجة السلطان صلاح الدين2.

وقد نشأ المؤلِّف في بيت سلالة النبوة والعلم والإمارة، فقد كان لآل جعفر الهاشميّين منزلة رفيعة في الدولة الأيوبية حيث كان منهم الأمراء والقضاء.

4-

شيوخه وتلاميذه ومؤلَّفاته:

مما لا شكّ فيه أن المؤلِّف قد طلب العلم على عدد من أهل العلم حتّى أصبحت له المكانة العلمية التي تؤهله لتولي القضاء في مدينة قوص التي تعتبر ثاني المدن المصرية أهمية في ذلك الوقت. ثم تولى ولايتها مدّة من الزمن، غير أن المصادر التاريخية لم تذكر لنا شيوخه وتلاميذه سوى ما ذكره الحافظ الذهبي في تاريخ الإسلام فقال: "إن المؤلِّف سمع من عليّ بن البناء3 وغيره وحدَّث

، وحدَّث عنه الدمياطي"4.

1 ر: ذيل مرآة الزمان 2/438، تاريخ الإسلام ورقة 74/أوقد وقع خطأ مطبعي في كتاب الوافي بالوفيات للصفدي حيث ذكر أن المؤلِّف ولد سنة إحدى وثمانين.

2 ر: النجوم الزاهرة 6/98.

3 هو: الشيخ الجليل المسند أبوالحسن عليّ بن أبي الكرم نصربن المبارك الواسطي الأصل البغدادي ثم المكّي الخلال ابن البناء، قال عنه الذهبي:"راوي الجامع عن عبد الملك الكروخي، وما علمته روى شيئاً غيره، حدَّث به بمكّة والإسكندرية، ومصر ودمياط وقوص، وحدَّث به جماعة، مات بمكّة في صغر وقيل في ربيع الأوّل سنة 622هـ". (ر: سير أعلام النبلاء 22/248،النجوم الزاهرة 6/63،شذرات الذهب5/101) .

4 ترجم له الذهبي فقال: "عبد المؤمن بن خلف بن أبي الحسن بن شرف، والعلامة الحجة شرف الدين، أبو محمّد الدمياطي، الشافعي، أحد الأئمة الأعلام، وبقية نقاد الحديث، ولد سنة: 613هـ، واشتغل بدمياط وأتقن الفقه، ثم طلب الحديث ورحل وسمع من عدّة أشياخ بدمشق وبحران والموصل والحرمين، وله تصانيف متقنة في الحديث والعوالي والفقه، توفي سنة: 705هـ بالقاهرة". (ر: سير أعلام النبلاء 1/502، النجوم الزاهرة 8/218) .

ص: 36

أما مؤلَّفاته؛ فقد اتّفق أبو الفتح اليونيني مع الحافظ الذهبي على القول بأن للمؤلِّف تصانيف عدّة مفيدة، لكنهما لم يذكرا أسماء مؤلَّفاته، وقد وقفت - بفضل الله عزوجل وتوفيقه - على ثلاثة من مؤلَّفاته المعروفة هي:

1-

تخجيل مَن حرّف الإنجيل1.

2-

البيان الواضح المشهود من فضائح النصارى واليهود2؛ (كتاب العشر المسائل) .

3-

الرّدّ على النصارى3.

5-

عقيدته ومذهبه الفقهي:

قد يتبادر إلى ذهن القارئ لأوّل وهلة حينما يقرأ اسم المؤلِّف صالح ابن الحسين الجعفري4 أنه ينتمي إلى المذهب الجعفري الإمامي الرافضي، المعروف بمذهب:(الشيعة الاثني عشرية) ، وهذا وهمٌ باطلٌ، فإنّ المؤلِّف صالح بن الحسين الجعفري من أهل السنة على المعنى العام الذي يدخل فيه جميع المنتسبين إلى الإسلام عدا الرافضة، وهذا اصطلاح العامة، (لأنّ الرافضة هم

1 وهو الكتاب الذي بين أيدينا، وسيأتي الحديث عنه.

2 ذكره رضا كحالة في معجم المؤلفين 5/6، وتوجد نسخة منه بالمتحف البريطاني تحت رقم: أ. د. د. 16661.

3 توجد نسخة منه بمكتبة آياصوفيا تحت رقم: 2246م، بتركيا، وقام د. محمّد محمد حسنانين بتحقيقه ونشره.

4 وهو الاسم الذي ذكرته المصادر المتأخرة ككشف الظنون وهداية العارفين ومعجم المؤلفين وتاريخ التراث العربي كما تقدم بيانه. ر: ص: 41.

ص: 37

المشهورون عند العامة بالمخالفة للسنة، فجمهور العامة لا تعرف ضدّ السني إلاّ الرافضي، فإذا قال أحدهم: أنا سني، فإنما معناه لست رافضياً) 1.

والأدلة على أنّ المؤلِّف من أهل السنة على هذا المعنى ما يأتي:

1-

دعاؤه للصحابة رضي الله عنهم في مقدمة كتابه بعد البسملة والحَمْدَلة2، ثم دعاؤه بأن يرضى الله عن الصحابة جميعاً، وإقراره بأنهم أعيان الأمة، وإيراده لحديثين في فضل الصحابة3.

2-

استدلاله بالأحاديث التي روواها الصحابة كأبي بكر وعمر وأبي هريرة وغيرهم رضي الله عنهم 4.

3-

إيراده لمناقب بعض الصحابة كأبي بكر وعمر وأنس وسعد بن أبي وقاص وغيرهم5.

4-

ذكره لكرامات أبي بكر وعمر وعليّ والعلاء بن الحضري والبراء بن مالك وعمران بن الحصين وأبي أمامة وابن عباس وغيرهم6 رضي الله عنهم أجمعين -.

5-

إثباته لخلافة أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ رضي الله عنهم على الترتيب7.

1 ر: مجموع الفتاوى 3/356، لابن تيمية، منهاج السنة النبوية 2/221، لابن تيمية.

2 ر: ص: 106 من الكتاب المحقَّق.

3 ر: ص: 130، 131 من الكتاب المحقَّق.

4 ر: الباب العاشر القسم الثاني.

5 ر: ص: وما بعدها من الكتاب المحقَّق.

6 ر: ص: وما بعدها من الكتاب المحقَّق.

7 ر: ص:.

ص: 38

وقد تقدم بيان أن لقب (الجعفري) نسبة إلى جعفر الطيار رضي الله عنه1.

أما على المعنى الأخصّ لأهل السنة - الذي يراد به أهل السنة المحضة الخالصة من البدع، ويخرج به سائر أهل الأهواء والبدع كالخوارج والجهمية والمرجئة والأشاعرة وغيرهم، ويبين ذلك قول الإمام ابن تيمية:"فلفظ أهل السنة يراد به من أثبت خلافة الخلفاء الثلاثة، فيدخل في ذلك جميع الطوائف إلاّ الرافضة، وقد يراد به أهل الحديث والسنة المحضة، فلا يدخل فيه إلاّ من يثبت الصفات لله تعالى، ويقول: إنّ القرآن غير مخلوق وإنّ الله يرى في الآخرة، ويثبت القدر، وغير ذلك من الأصول المعروفة عند أهل الحديث والسنة"2، - فعلى هذا المعنى فإنّ المؤلِّف - غفر الله لنا له - متأثر بمنهج الأشاعرة فيما يبدو لي من خلال كتابه (التخجيل) في بعض المسائل المحدودة التي أشار إليها وهي كالآتي:

1-

إثباته سبع صفات لله عزوجل، وهي التي يسمّيها الأشاعرة صفات المعاني3، ثم تأويله لصفات الاستواء، والنُّزُول، والوجه، والعين، واليد، والقدم4.

2-

نفيه أن يكون لشيء من أفعال الله تعالى علّة مشتملة على حكمة تقتضي إيجاد الفعل أو عدمه5، وهذا الأصل تسمّيه بعض كتب الأشاعرة بـ:(نفي الغرض عن الله) ويعتبرونه من لوازم التَنْزيه.

1 وفي ذلك ردّ على الرافضة، فهذا رجل من آل عليّ وآل جعفر ومن بني هاشم يوالي أبا بكر وعمر وبقية الصحابة ويتبرأ ممن يعادونهم.

2 منهاج السّنّة النّبويّة 2/221.

3 ر: ص: من الكتاب المحقَّق.

4 ر: ص:

5 ر: ص: من الكتاب المحقَّق.

ص: 39

3-

قوله: (إنّ النُّزُول والصعود والحركة والسكون هي أدلة حدث العالم عند المحقّقين) 1، وهذه طريقة الأشاعرة في الاستدلال على حدث العالم ثم الاستدلال على وجود الله، ويسمّونه (دليل الحدوث والقدم) .

ومع ذلك فإنّه لا يجدر بنا أن نسند الرأي إلى الشخص لمجرد أنه ذكره في كتاب له، بل ينبغي أن نعرف أوّلاًَ الظروف التي أحاطت بالمؤلِّف حين ألّف الكتاب الذي نحن بصدده، هل ألّفه لنفسه أو لغيره؟ وتحت أي تأثير عامل من العوامل ألّفه؟ 2.

فما هو ظاهر أنّ المؤلِّف رحمه الله قد ألّف كتابه في الرّدّ علىاليهود والنصارى خاصّة، فهو يورد أحياناً على الخصوم كثيراً من الاعتراضات والآراء التي لا يرتضيها هو كدليل عقلي يمكن الاستدلال به على ما يريده، ولكن يورده على أنه يجوز أن يعارض بها الخصم ولا يستطيع الخصم أن يدفع معارضته بها، ومقصوده من ذلك أن يبيّن للخصم أن الآراء الباطلة كافية أن يدخض بضها بعضاً.

كما يبدو لي أنّ سبب تأثر المؤلِّف - عفا الله عنا وعنه - بمنهج الأشاعرة يرجع إلى نشأته وحياته في كنف الدولة الأيوبية التي كان ملوكها وقضاؤها قد تلقوا العقيدة الأشعرية وحفظوها من أساتذتهم، فحملوا كافة الناس في أيام دولتهم على التزامه في مواجهة المذهب الفاطمي الشيعي، وكان هذا هو السبب في اشتهار مذهب الأشعري وانتشاره في أمصار الإسلام بحيث نسي غيره من المذاهب وجهل3.

1 ر: ص: من الكتاب المحقَّق، وقد قمت بالتعليق على تلك المواضع ببيان مذهب أهل السنة والجماعة فيها وإبطال بعض شبه المخالفين، ولله الحمد.

2 ر: مقدمة تحقيق د. سليمان دنيا لكتاب (تهافت الفلاسفة للغزالي) ص 56،بتصرف.

3 ر: خطط المقريزي 3/279، 280، 306.

ص: 40

وفي ختام الحديث عن عقيدة المؤلِّف - رحمه الله تعالى - نقول كما قال الإمام الذهبي في حقّ المفسّر قتادة بن دعامة الذي كان يرى القدر، قال:"لعلّ الله يعذر أمثاله ممن تلبس ببدعة يريد بها تعظيم الباري وتنْزِيهه، وبذل وسعه، والله حكم عدل لطيف بعباده، ولا يسأل عما يفعل، ثم إنّ الكبير من أئمة العالم إذا كثر صوابه، وعُلم تحريه للحقّ، واتّسع علمه، وظهر ذكاؤه، وعرف صلاحه وورعه واتّباعه، ويغفر له زلَلُه، ولا نضلله ونطرحه وننسى محاسنه، نعم. ولا نقتدي به في بدعته وخطئه، ونرجو له التوبة من ذلك"1.

أما مذهبه الفقهي فإنّه كان شافعي المذهب فيما يبدو لي، حيث كان مؤسّس الدولة الأيوبية صلاح الدين شافعياً، وعمل على القضاء على الدولة الفاطمية الشيعية، فصرف جميع القضاة الشيعيّين وعين بدلهم قضاة من الشافعية السنيّين وفَوَّض القضاء لصدر الدين عبد الملك بن درباس الشافعي، فلم يستنب عنه في أقاليم مصر إلاّ من كان شافعي المذهب مثله، ومن ثم انتشر المذهب الشافعي في مصر وما تبعها من الأقاليم2.

وبقي الأمر كذلك في مصر طوال عهد الأيوبيّين وطرفا من عهد المماليك إلى أن ولي أمر مصر السلطان بيبرس الذي وَلَّى بمصر والقاهرة أربعة قضاة: شافعي ومالكي وحنفي وحنبلي واستمر ذلك من سنة خمس وستين وستمائه3.

1 ر: سير أعلام النبلاء 5/271.

2 ر: خطط المقريزي 3/297، الروضتين في أخبار الدولتين 1/191، لأبي شامة، تاريخ الإسلام السياسي 4/378، 379، د. حسن إبراهيم حسن، مصر في العصور الوسطى ص 349، د. عليّ إبراهيم حسن.

3 ر: خطط المقريزي 3/280.

ص: 41

6-

شخصيته العلمية وثناء العلماء عليه:

لقد كان المؤلِّف رحمه الله شخصية علمية فذّة متعددة الجوانب وذا ثقافة واسعة متنوعة، يدلّنا على ذلك بعض آثاره العلمية التي وقفت عليها وما ذكره المؤرّخون في ترجمته، وموجز القول في ذلك أنّه كان مُتخصِصاً في العلوم الآتية:

1-

علم الفقه وأصوله، يدلّ على ذلك توليه القضاء في مدينة قوص، فإنّ من شرط القاضي أن يكون من أهل الاجتهاد1.

2-

علم الأديان وخاصّة اليهودية والنصرانية، ويبدو لنا اهتمام المؤلِّف بهذا العلم وبروزه فيه واشتهار ذلك عنه بين العلماء فيما صَرَّح به المؤلِّف في مقدمة كتابه:(تخجيل مَنْ حرَّف الإنجيل) 2، إضافة إلى بعض مؤلَّفاته التي عثرت عليها وهي:(البيان الواضح المشهود في فضائح النصارى واليهود) ، و (الرّد على النصارى) وقد تقدم الحديث عنها.

3-

علم المناظرة والجدل، وهو ظاهر في كتبه السابقة التي تبيّن أنّ المؤلِّف ذو نفس طويل في المناظرة والإقناع، فإذا أراد إثبات مسألة أو نفيها وبيان بطلانها فإنه يأتي بالأدلة النقلية العقلية ويأخذ بمجامع القول والمسألة ويسدّ على خصمه الطريق ويواصل البحث والنقاش من جميع الوجوه والجوانب المحتملة حتّى يلزم الخصم ويفحمه.

وقد ذكر لنا المؤلِّف في كتابه: (التخجيل) بعض المناظرات والمجادلات التي جرت بينه وبين أحبار اليهود والنصارى في بيان بطلان ما يعتقدونه3، وهذا

1 ر: المغني 14/12، 14، لابن قدامة، تحقيق د. عبد الله التركي، ود. عبد الفتاح الحلو.

2 ر: من الكتاب المحقَّق.

3 ر: ص:، وغيرها من المواضع في الكتاب المحقَّق.

ص: 42

دليل آخر على تمكنه في المناظرة ومقارعة الخصوم.

4-

علم الأدب، ويبيّن لنا اهتمام المؤلِّف بالأدب وبروزه فهي أيضاً ما ذكره أبو الفتح اليونيني في ترجمة (بأنه كان أحد الفضلاء العارفين بالأدب وغيره

وله خطب حسنة ونظم جيد) .

وقال فيه الذهبي: "بأنه كان عارفاً بالأدب وله خطب ونظم ونثر

".

ونقل ذلك عنه صلاح الدين الصفدي في كتابه: (الوافي بالوفيات وأراد أن يضيف على ما نقله من الذهبي بعض الأبيات الشعرية للمؤلِّف إلاّ أنّ النسخة المخطوطة لكتاب الوافي بالوفيات فيها بياض بمقدار خمسة أسطر في المكان الذي ذكرت فيها تلك الأبيات الشعرية1.

ومما يدل على سعة اطلاع المؤلِّف على الأدب والشعر استشهاده بالأبيات الشعرية في كتابه: (التخجيل) 2 وكثرة إيراده لها.

وقد عثرت على منظومة نثرية للمؤلِّف، تظهر الناحية الأدبية فيه، وهي صيغة يمين مغلظة كتبها المؤلِّف ليحلف بها اليهود والنصارى في الشيء الخطير ونصّها كالآتي:

قال المؤلِّف - عفا الله عنه -: "يمين مغلظة يحلف بها النصارى في المال الخطير: يحضر النصراني إلى الكنيس في أوّل الصوم الكبير ويجتمع عليه مشائخ دينه فإن كان ذلك بحضرة الجاثليق3، أو نائبه فهو أولى، ويقال له: قل: والله إله إبراهيم ماسك الكلّ، خالف ما يرى وما لا يرى، صانع كلّ شيء ومتقنه، الرّبّ لا أعبد سواه، ولا أعتقد إلاّ إيّاه ما تستحقّ عليّ شيئاً مما تدعيه على

1 ر: الوافي بالوفيات 16/257.

2 ر: ص: من الكتاب المحقَّق.

3 كبير قساوسة النصارى ورئيسهم.

ص: 43

مقتضى عقدك وموجب شرعك وإلاّ فبرئت من الثالوث وجحدت الأب وكذبت الابن وكفرت بروح القدس، وخلعت دين النصرانية والتزمت دين الحنيفية، وضمخت الهيكل1 بحيضة يهودية، ورفضت مريم وقرنت مع الإسخريوطي2 في جهنم، وقلت إنّ المعمداني3 فيما شهد به ليسوع كذاب، وأنّ المسيح كآدم خلقه الله من تراب، وكفرت بإحياء العازر4 ومجيء الفارقليط5 الآخر، وتبرأت التلاميذ الاثني عشر6، وعلى جزم الثلاثمائة والثمانية عشر، وإن كانت ذمتي لك مشغولة ونيتي في حلفي هذا مدخولة، فكسرت الصلبان ودست برجلي القربان7، وبصقت في وجوه الرهبان عند قولهم:(كرياليصان) 8، واعتقدت أنّ مجمع نقية كفر وفجر، وأن يوسف النجار زنى بأم يسوع وعهر، وإن كنت في إنكاري متأولاً وفي دعوى براءة الذّمّة متقولاً، فعطلت الناقوس ورجعت إلى ملّة اليهود والمجوس، وكسرت صليب الصلبوت، وطبخت به لحم الجمل وأكلته في أوّل الصوم الكبير تحت الهيكل بحضرة الآباء، ونقضت حجارة قمامة9، وبنيت بها بيعة اليهود ومزقت عفارة أم الرّبّ، وشاركت الشّرط في سلب ثيابه، وأحدثت تحت صليبه، وتجمرت بخشبته، وصفعت الجاثليق، وهذه اليمين في عنقي وأعناق عقبي إلى الأبد".

1 أي: مكان القربان المقدس عند النصارى.

2 هو يهوذا الإسخريوطي الذي أخذ الرشوة من زعماء اليهود ليدلهم على المكان الذي اختبأ في المسيح، كما في الأناجيل المحرفة.

3 هو: يوجنا المعمدان، أي: النبيّ يحيى عليه السلام.

4 اسم الشخص الذي أحياه المسيح من الموت كما ورد في الأناجيل.

5 وهو الذي بشرت الأناجيل بمجيئه.

6 هم: حواريو المسيح عليه السلام.

7 أي: القربان المقدس أو العشاء الرباني الذي تقدمه الكنيسة للنصارى يوم الأحد.

8 معناه: ربّ ارحم.

9 أي: كنيسة القيامة في فلسطين والتي يعتقد النصارى أنّ يوم القيامة ستكون فيها.

ص: 44

يمين مغلظة يحلف بها اليهود في الشيء الكثير: يحضر اليهود إلى بيعتهم وهو صائم أو في يوم عيدهم ويجمع عليه جمع كبير من شيوخ دينهم وإن كان ذلك بحضرة المثيبة1 أو نائبه فهو أولى، ويقال له: قل: والله الأزلي الذي لم يزل ولا يزال الإله الذي برأ العالم وخلق حواء من آدم، وأرسل ماء الطوفان وتقبل من هابيل القربان، وكلّم موسى من الشجرة ونصره على فرعون والسحرة، وغرف فرعون في بحر سوف، وأهلك قورح ومن معه بالخسوف، ونَجَّى بني إسرائيل بيد القوية وأطعمهم منّاً وسلوى بالبرية، ما يُستحق على شيء من مطلبك على مقتضى مذهبك وإلاّ فرفضت موسى المكلَّم واتّبعت عيسى بن مريم، وإن كان لك في ذمتي مثقال ذرّة ونيتي في حلفي هذا غير برة، فعبدت الصلبان وعظمت الأوثان، وهدمت قبة الزمان2، وبنيت بها دير الرهبان، وكذبت التوراة وصدّقت الإنجيل، وفضلت يسوع الراوي على موسى وشمؤيل، وإن كنت قد جنحت لتأويل في هذه الأقاويل فقذفت مريم النبية3، وانسللت من اليهودية، والتزمت المجوسية وفارقت الملة الإسرائيلية بالكلّيّة، وكفرت بالعشر الآيات4، وبقيت محروماً إلى الممات، وحشرت في اليوم المعلوم بين عامورا وسدوم5، وهذه اليمين في عنقي وأعناق عقبي إلى الأبد". أهـ.

قال المؤلِّف: "لا تستبعد منا نظم هذه الكلمات وإلزامهم بها فقد قال الفقهاء من أئمتنا رضي الله عنهم إنّ اليهود والنصارى والمجوس - أبعدهم الله -

1 رأس المثيبة: أي: مدير الأكاديمية الشرعية اليهودية ورئيسي أحبارهم. (ر: الفكر الديني اليهودي ص: 117، حسن ظاظا) .

2 وهي: خيمة الاجتماع التي أمر الله بني إسرائيل ببنائها في القبة كما ورد في التوراة الحالية.

3 يعتقد اليهود أن مريم أخت موسى نبية من الأنبياء.

4 أي: الوصايا العشر الواردة في التوراة.

5 مكان نزول العذاب على قوم لوط عليه السلام.

ص: 45

يغلظ عليهم اليمين بإحضارهم بيوت متعبداتهم عند الحلف، مع أنه لا حرمة لها، وكأن المطلوب من ذلك حمل الذمي على الخروج من الحقّ بتكليفه التلفظ بما يعظم موقعه في قلبه ليكن أدعى إلى حصول المقصود، كما يكلف المسلم حضور المسجد الجامع يوم الجمعة بعد صلاة العصر عند المنبر بحضرة جمع من المسلمين وزيادة ألفاظ معظمة كقوله: الطالب الغالب جل وعلا". ا. هـ1.

وقد ظهر لي من خلال ما ذكره الحافظ الذهبي في ترجمة المؤلِّف بأنه سمع من المُحَدِّث عليّ بن البنا، ثم تحديثه للعلامة الدمياطي، ومن خلال كثرة استشهاده واستدلاله بالأحاديث النبوية والآثار في كتابه التخجيل وكتبه الأخرى، أنّ المؤلِّف رحمه الله كان له اهتمام كبير وحرص شديد على طلب الحديث وسماعه وروايته.

تلك بعض الجوانب العلمية لشخصية المؤلِّف رحمه الله التي استعطت إثبات أدلتها، وقد تكون هناك جوانب أخرى نجهلها. فإنّ المؤلِّف بلا شكّ من الشخصيات العلمية المرموقة في عصره، ومن أصحاب المواهب والاهتمامات المختلفة، والله أعلم.

أما ثناء العلماء عليه، فقد كان المؤلِّف متخلقاً بأخلاق القاضي العدل والعالم الجاد الوقور، مما دعا المترجمين أن يثنوا عليه ثناءً حسناً، ويكفيه في ذلك شهادة إمامين وعالمين من ثقات المؤرّخين: أوّلهما: الشيخ الإمام العالم بقية السلف2

1 ورد نصّ اليمين المغلظة في نهاية الجزء الثاني من كتاب (التخجيل) بالمخطوطة، راجع الورقات: 186، 187، 188، وفي آخرها كتب:"تم الكتاب وحسبي الله وبه التوفيق برحمته وصلواته على خير خلقه سيدنا محمّد وآله وسلم تسليماً كثيراً، والحمد لله". ا. هـ.

وإنّ أوّل ما استخدمت هذه الأيمان لليهود والنصارى في زمن الفضل بن الربيع وزير الرشيد أحدثها كاتب له، ذكر ذلك محمّد بن عمر المدائني في كتاب:(القلم والدواة) . (ر: صبح الأعشى 13/266-287، للقلقشندي) .

2 تلك الأوصاف ذكرها الإمام ابن كثير في ترجمة قطب الدين اليونيني. (ر: البداية والنهاية 14/126.

ص: 46

قطب الدين أبو الفتح موسى بن محمّد اليونيني الذي قال عنه: "صالح بن الحسين، أبو البقاء، تقي الدين، كان أحد الفضلاء العارفين بالأدب وغيره، والرؤساء المذكورين بالفضل والنبل، وتولى قضاء قوص مدّة، ونظرها أيضاً مدّة أخرى

".

وثانيهما: مؤرّخ الإسلام وشيخ المُحدِّثين والحفاظ الحافظ شمس الدين أبو عبد الله محمّد بن عثمان الذهبي الذي ترجم له بقوله: "صالح بن الحسين، القاضي الجليل، الإمام تقي الدين، أبو البقاء الهاشمي، كان رئيساً نبيلاً عارفاً بالأدب، ولي قضاء قوص مدّة، وله خطب، ونظم، ونثر، وتصانيف، وأبخس نفسه بولاية نظر قوص وفاعل ذلك منقوص

".

7-

وفاته:

عاش المؤلِّف سبعة وثمانين عاماً قضاها في القضاء والولاية والتأليف والدعوة إلى الله، فقد مرّ بنا أنّ ولايته كانت سنة:(581هـ)، وكانت وفاته سنة:(668هـ) 1 بالقاهرة في مستهل ذي القعدة، ودفن من الغد بسفح المقطم2. رحمه الله تعالى رحمة واسعة.

1 ذكره أبو الفتح اليونيني والذهبي والصفدي ورضا كحالة.

2 هضبة قرب القاهرة، تشرف على القرافة، وهي مقبرة فسطاط مصر والقاهرة، تقوم عليها قلعة صلاح الدين ومدينة المقطم. (ر: المنجد في الأعلام 679، الموسوعة الميسر 1731) .

ص: 47