المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الباب الأول: في كون المسيح عبدا من عبيد الله بقوله وفتواه - تخجيل من حرف التوراة والإنجيل - جـ ١

[صالح الجعفري]

الفصل: ‌الباب الأول: في كون المسيح عبدا من عبيد الله بقوله وفتواه

‌الباب الأوّل: في كون المسيح عبداً من عبيد الله بقوله وفتواه

ولندل على ذلك من كتبهم كما شرطنا في صدر الكتاب:

1-

قال متى الحواري في الفصل الثامن من إنجيله: "قال الله في نبوة أشعيا - يعني المسيح - هذا1 فتاي الذي اصطفيت وحبيبي الذي ارتاحت له نفسي أنا واضع روحي عليه ويدعو إلى الحقّ"2.

قلت: سمّاه الله عبداً مصطفى على لسان أشعيا وابتعثه مأموراً بدعوة الأمم أسوة غيره من الأنبياء، أورد ذلك متى في معرض الاسشتهاد على أهل العناد3 حيث نسبه الفُجَّار إلى يوسف النجار4، فقد تضافر الإنجيل ومحكم التنْزيل على عبودية عيسى وجعله داعياً للأمم كداود وموسى.

1 في ش: قال المؤلّف: "نقل ابن ربن والطرطوشي وابن عوف قوله هذا عبدي فكشفت عنه الأناجيل فلم أجده بهذه الترجمة، بل الذي وجدته في النسخ التي وقفت عليها كما وضعت، غير أن الفتى هاهنا هو العبد أو الصاحب كما دللت عليه من التوراة والإنجيل". والله أعلم.

2 متى 2/17، 18.

3 أراد المؤلِّف بأهل العناد اليهود الذين رموا مريم الزنى مع يوسف النجار.

4 يوسف النجار: تزعم المصادر النصرانية، أنه كان خطيب مريم العذراء على عادة اليهود في اتّخاذ العشير - حيث يخطب الشاب الفتاة من أهلها ثم يتعاشران بدون اتصال زوجي مدة من الزمن فإذا رضي كل واحد منهم الآخر تم الزواج - وقد أراد يوسف هجر مريم سراً حينما ظهرت عليها آثار الحمل إلاّ أن الملاك ظهر له في المنام وأخبره بالحقيقة، حينئذ قام يوسف برعايتها وابنها ولا يعرف عن يوسف بعد قيام المسيح الدعوة الجهرية، وأغلب الظن أنه مات قبل ذلك. ر: إنجيلي متى، لوقا، الإصحاح 1، 2، والكنْز الجليل في تفسير الإنجيل 1/7، وقاموس ص: 1118، وتاريخ المسيحية - حبيب سعيد ص 32، 33. وقد انساق بضع المؤلّفين المعاصرين إلى رواية هذه الخطبة المزعومة بين مريم ويوسف النجار ونسبة المسيح عليه السلام إلى يوسف النجار من غير التعليق أو الرّدّ عليها، بل ذكر بعضهم أن ما جاء في الأناجيل بشأن هذه القصة لا يخالف ما في القرآن وبأنه أمر مسكوت عنه فلا نصدقها ولا نكذّبها ويصح إيرادها. ر: قصص الأنبياء ص 382، 383، عبد الوهّاب النجار.

فنقول: بأن القرآن الكريم والسنة الصحيحة لم يذكر فيهما شيء عن هذه الخطبة المزعومة ولم يثبت دليل لهذه العادة المذكورة، كما أن خطبة مريم ليوسف النجار لو كانت معروفة ومشتهرة لما استهجن قومها فعلتها، قال تعالى:{قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً} . [سورة مريم، الآية: 27، 28.] . وذلك مما يدل على كذب النصارى فيما يزعمونه من علاقة يوسف بمريم، وأنه من الإسرائيليات التي لا نقبلها بل نكذّبها.

ر: نظرات في كتاب النبوة والأنبياء للصابوني ص 7-10، محمّد أبو ريحم، التحذير من مختصرات الصابوني ص 18، 19، للشيخ بكر أبو زيد.

ص: 117

والفتى هو العبد والخادم لا الولد، والدليل عليه من التوراة في السفر الأوّل منها قول موسى:"ولما بلغ إبراهيم / (1/10/أ) أن الملوك أغاروا على سدّوم وسبوا لوطا بن أخي إبراهيم عَبَّأَ فتيانه وعددتهم ثلثمائة وثمانية عشر رجلاً، وسار في طلب العدوّ واستنقذ لوطا وماشيته وجميع ماله"1.

ومعلوم أن إبراهيم الخليل عليه السلام لم يكن له يؤمئذ هذه العدة من الأولاد فمن ادعى ذلك أكذبه أهل الكتابين، فقد شهد موسى عليه السلام أن الفتى هو العبد أو الخادم.

وقال موسى في السفر الرابع من التوراة ما هو أجلى من ذلك قصة بلعام2 بن بعور وهو: "أن بالاق3 بن صفوري الملك أرسل إلى بلعام ليلعن

1 تكوين 14/14، 15، وموضع الشاهد من النصّ كالآتي: "فلما سمع أبرام أن أخاه سُبي جَرَّ غلمانه المتمرنين

".

2 بلعام بن بعور: تذكر المصادر الإسرائيلية بأنه كان نبياً مشهوراً في قرية فيما بين النهرين وقد دعاه ملك مؤاب ليلعن بني إسرائيل ويدعو عليهم فرفض وبعد إلحاح رضي بذلك ولكنه كان يدعو لهم بدل أن يدعو عليهم، ومع ذلك دبر وسيلة لإيقاع بني إسرائيل في الإثم والشرك ليهلكوا، وعندما حارب بنو إسرائيل المديانيين قتلوا بلعام. ر: سفر العدد الإصحاحات 22، 24، 31، وقاموس ص 189.

وقد ذكر ابن كث ير قصته في تفسير قوله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ

} الآيات. [سورة الأعراف، الآية: 175-177] . قال ابن إسحاق وغيره: "بأن بلعام كان رجلاً مجاب الدعوة وقد سأله قوه بأن يدعو على موسى وقومه

" الخ. وذكر قصة مشابهة لما في التوراة، ثم قال ابن كثير: "وهذا الذي ذكره ابن إسحاق من قصة بلعام صحيح وقد ذكره غير واحد من علماء السلف". اهـ.

قلت: ولم يكن نبيّاً كما يزعم أهل الكتاب. والله أعلم. ر: تفسير ابن كثير 12/275-278، وقصص الأنبياء، ص 380، 381.

3 بالاق: اسم مؤابي معناه: المتلف أو المخرب وهو ابن صفور، وكان ملك مؤاب وهي أرض يقابلها اليوم القسم الشرقي من البحر الميب لمملكة الأردن اليوم. ر: سفر العدد إصحاح 22، قاموس ص 160، 927.

ص: 118

له بني إسرائيل ويدعو عليهم فأجابه بعد مفاوضات وسار إليه راكباً أتانه ومعه فتيان من مماليكه"1. فقد شهدت التوراة أن الفتى هو العبد والمملوك لا كما تخرصه متأخرو النصارى في حمل هذه اللفظة على الولد.

والدليل على أن لفظ الفتى ليس موضوعاً للولد قول الإنجيل "إن المسيح بعد قيامه وقبل رفعه مَرَّ على جماعة من تلاميذه وهم يصيدون السمك فقال: يا فتيان هل عندكم من طعام؟ فأطعموه جزءاً من حوت وشيئاً من شهد العسل"2. فقد وضح أن لفظة الفتى ليس / (1/10/ب) فيها مستروح للنصارى فيما يرومونه من النبوة بل هي لا تستعمل إلاّ فيما قلناه، وقد قال ربنا جل اسمه: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ

} . [سورة الكهف، الآية: 60] . يعنى خادمه يوشع3، وقال سبحانه: {

مِنْ فَتَيَاتِكُمُ المُؤْمِنَاتِ

} . [سورة النساء، الآية: 25] .

1 سفر العدد 22/5-22، في سياق طويل وقد اختصره المؤلّف وموضع الشاهد من النصّ كالآتي:"....وهو راكب على أتانه وغلامه معه".

2 يوحنا 21/4/13، لوقا 24/26-42، بألفاظ متقاربة، وقد ورد موضع الشاهد كالآتي: "

فقال لهم يوسع: يا غلمان ألعل عندكم إداماً؟

".

3 يوشع بن نون عليه السلام، كان اسمه في الأصل: هوشع، يهوشوع ثم دعاه موسى يوشع ومعناه: يهود خلاص وهو خليفة موسى الذي قاد بني إسرائيل لدخول الأرض المقدسة ومحاربة لله أهلها، وأنه أمر الشمس بالوقوف والتأخير في المغيب ليتم له فتح الأرض والنصر على أعدائه.

وينسب إليه سفر باسمه عدد إصحاحاته 24 إصحاحاً، وكاتب هذا السفر مجهول وقد ينسب إلى أشخاص متعددين. ر: ترجمته في مصادر أهل الكتاب سفر ويشع، وقاموى ص 1067، 1070ن بتخليص.

أما المصادر الإسلامية، فإن القرآن الكريم لم يصرح باسمه في قصة الخضر في الآية السابقة، وقد ورد النص على نبوته وأنه خليفة موسى في بني إسرائيل فيما رواه الإمام مسلم 3/1366، وأحمد 3/318، والبخاري مختصرا فتح 9/223 عن أبي هرية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "غزا نبي من الأنبياء فقال لقومه: لا يتبعني رجل قد ملك بضع امرأة وهو يريد أن يبني بها ولم يبن، ولا آخر قد بنى بنياناً ولم يرفع سقفها، ولا آخر قد اشترى غنماً أو خلفات وهو ينتظر أولادها. قال: فغزا فدنا من القرية حين صلى العصر أو قريباً من ذلك، فقال للشمس: أنت مأمورة وأنا مأمور، اللهم احبسها عليّ شيئاً، فحسبت عليه حتى فتح الله عليه

". الحديث.

ويتبين لنا اسم هذا النبي الذي حبست له الشمس من الحديث الذي رواه الإمام أحمد 2/325 عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الشمس لم تحبس على بشر إلاّ ليوشع ليالي سار إلى بيت المقدس".

قال الإمام ابن كثير: "انفرد به أحمد من هذا الوجه وهو على شرط البخاري". وصحّحه الشيخ الألباني. ر: الأحاديث الصحيحة1/347-351،ح202،ر: سيرة هذا النبي الكريم في تفسير ابن كثير3/97-101،قصص الأنبياء، ص 377،384.

ص: 119

وقال نبيّنا صلى الله عليه وسلم: "لا يقل أحدكم عبدي وأمتي وليقل فتاي وفتاتي"1.

فقوله تعالى في نبوة أشعيا (هذا فتاي) مكذب للنصارى في دعواهم ربويبة المسيح وألوهيته، إذا أضافه سبحانه إلى نفسه إضافة الملك. فقال جل من قائل2: هذا فتاي وحبيبي أنا أفعل به كذا وكذا، وهذا تصريح من متي الحواري بأن المسيح ليس هو وأن الله ليس هو المسيح وأن الله قائل والمسيح مقول له، وأ، الله مُعْطِ ومُنْعِم وأن المسيح مُعْطَى ومُنْعَم عليه، وأنه فتى من فتيان بني آدم، وأن الله مالكه، وأنه عبد وأن الله سيده.

وقد روى النصارى في الإصحاح السابع والأربعين من إنجيل مارقس: "أنه بينا بطرس في الدار ينظر الغابه إذ جاءت فتاة من جواري رئيس الكهنة فنمت عليه ورأته [أخرى] 3 فذكرت مثل ذلك"4.

1 أخرجه البخاري ر: فتح الباري 5/177، ومسلم 4/1764، 1765، وأبو داود 4/294، وأحمد 2/423، عن أبي هريرة رضي الله عنه.

2 ما كان ينبغي للمؤلِّف أن يجزم بنسبة هذا النصّ وغيره من نصوص التوراة والأناجيل وغيرها إلى الله عزوجل أو إلى أحد الأنبياء، وإنما ينسبها إلى توراة اليهود وأناجيل النصارى وما يتبعها من الكتب التي فقد تقدم بيان عدم حجيتها وظنية ثبوتها.

3 في ص أخوي والتصويب من النص.

4 مرقس 14/66-69، وقد ذكره المؤلّف بالمعنى.

ص: 120

فهذا تصريح منهم أن الفتى هو اعبد / (1/11/أ) والفتاة هي الجارية، فكيف يحملون ذلك على غير محمله وهذه التوراة والإنجيل تكذبهم وتخطئهم وتصرح بالرّدّ عليهم.

وقد حكى لوقا أيضاً في إنجيله: "أن مريم عليها السلام لما رأت أم يوحنا قالت لها وهي تثني على الله: إن الله أنزل الأقوياء عن الكراسي ورفع المتوضعين وأشبع الجياع من الخيرات ورد الأغنياء صفراً وعضد إسرائيل فتاه"1. يريد عبده، وعبودية إسرائيل متفق عليها، وذلك يهدم ما تعلقوا به من حمل الفتى على الولد، وفي ذلك رد على النصارى وتشويش لأمانتهم وإفساد لصلواتهم وتكذيب لمشائخ دينهم إذ يقرؤون في صلاة الساعة الأولى من صلواتهم "المسيح الإله الصالح الطويل الروح الكثير الرحمة الداعي الكل إلى الخلاص".

ويقرؤون في صلاة السَّحر: "تعالوا بنا نسجد للمسيح إلهنا".

ويقرؤون في صلاة الساعة الثّالثة: "يا والدة الإله مريم العذراء افتحي لنا أبواب الرحمة"2.

ويقرؤون في أمانتهم وتسبيحة دينهم: "المسيح الإله الحق الذي بيده أتقنت العوالم وخلق كلّ شيء".

وينقلون عن مشائخ دينهم وعلماء أهل ملتهم مثل أفريم3 / (1/11/ب) وغيره قوله: إن اليدين التي جبلت طينة آدم هي التي سُمِّرت على الصليب، وأن

1 لوقا 1/52-54.

2 سيأتي المزيد من التفصيل لهذه الصلوات.

3 أفرايم السراياني: من آباء الكنيسة الشرقية، ولد سنة 306م، في نصيبين، وكان رئيس المدرسة الأسقفية في مدينته، له مؤلَّفات وقصائد تعليمية دينية، امتاز بمديح العذراء مريم، علم مات الرها سنة 373م. ر: فلسفة الفكر الديني بين الإسلام والمسيحية 2/398، 399، تأليف لويس غردية، المنجد في الأعلام ص 52، 53.

ص: 121

الشبر التي مسحت السماوات هي التي سمرت على الخشبة، وأن من لا يقول إن مريم ولدت الله فهو بعيد عن ولاية الله".

وذلك كله باطل وزور وإفك وبهتان بقول متى حواري المسيح عن الله: "هذا فتاي الذي اصطفيت"، أَهْمْ - وَيْلَهُم - أعلم بالمسيح من تلميذه متى وسائر أصحابه الذين عاصروه وشاهدوه فليس فيهم من ينتحل هذا الهذيان الذي صار إليه المتأخرون من النصارى.

وإذا قال أشعيا النبيّ عليه السلام: "إن المسيح مضاف إلى الله فقد عُلِمَ وعُرف أن ما سوى الله تعالى فهو عَبْدُه وخلقٌ من خلقه، وكون المسيح حبيباً من أحبابه وفتى من فتيانه لا يخرجه ذلك عن العبودية، وقد دلّلنا من التوراة والإنجيل على أن الفتى هو العبد والخادم فلا التفات بعد ذلك إلى جهلة النصارى.

2-

وقد صرح فولس فصيح النصارى ومفسرهم بأن المسيح عبد مخلوق فقال في الرسالة الثانية عشرة: "انظروا إلى هذا الرسول رئيس أحبارنا يسوع المؤتمن عند من خلقه مثل موسى في / (1/12/أ) جميع أحواله غير أنه أفضل من موسى"1. فأي بيان وأي تصريح أوضح من شهادة فولس بأن المسيح مخلوق وأنه مؤتمن عند خالقه تعالى؟!.

3-

دليل آخر على عبودية المسيح من قوله وفعله قال متى: "جاء يسوع المسيح إلى يوحنا المعمداني من الأردن إلى الجليل ليتعمد على يده، فقال حين رآه: هذا الذي قلت إنه يجيء بعدي وهو أقوى مني وأنا لا أستحق أن [أحل معقد] 2 خُفِّه ثم قال للمسيح: إني لمحتاج أن أتعمد منك، فقال يسوع: دع الآن هذا فإنه ينبغي لي أن أكمل لك البر فتولَّه. فتعمد المسيح"3.

1 الراسالة إلى العبرانيّين 3/1-3، بألفاظ متقاربة.

2 في ص اجلس مقعد والصواب ما أثبته لموافقته سياق نص الأناجيل.

3 متى 3/11/16.

ص: 122

قلت: هذا المسيح عليه السلام متقيد بالعبادات، متطوق عهده التكاليف، ملتزم وظائف الخدمة، قائم بما يجب ليوحنا من الحُرْمَة، مساوٍ في تعمده وتعبده سائر الأمة، فكيف تعتقد فيه الربويبة والألوهية وهو يتعمد1 من عبد من عبيده ليكمل بِرَّه؟! وهل يفتقر إلى التكميل إلاّ ناقص ويدعى إلى فعل الجميل إلاّ من هو عنه ناكص؟!

والتكليف عبارة عن التزام ما فيه كلفة، ورُتْبَة المُوجِب فوق رتبة الموجَب عليه، فالتزام المسيح وظائف العبادة دليل على / (1/12/ب) عبوديته، وقد صرح يحيى المعمداني بعبودية المسيح قولاً وفعلاً.

أما تصريحه قولاً فإذ يقول: "إن المسيح أقوى منه، والتفضيل إنما يكون بين فاضلين رجح أحدهما على الآخر، ولا يحسن التفضيل بين الإله والآدمي. وأما تصريحه فعلاً فتعميده للمسيح أسوة أمثاله من الناس، وكيف يحسن من نبي الله يحيى بن زكريا أن يجهل ربه فلا يعرفه حقّ معرفته فيعامله معاملة المخلوقين والعبيد المربويبن؟! وإن كان قد عرفه فهلا نصح لعباده، وأرشدهم إلى معرفة بارئهم، وقام خطيباً في الناس حين رأى المسيح، وقال: اعلموا أن الله تعالى قد رحمكم وتجشهم لخلاصكم وجاء إليكم لينقذكم من الخطية ويفيكم من أعدائكم وها هو هذا الذي جاء ليتعمد مني، كما يعتقده النصارى يومنا هذا. وحاشى ابن زكريا عن أمثال هذه الترهات.

فإن قيل: إنما تعمّد وتعبّد ليعلم الناس العبادة إذ ليس المتابعة في الأقوال مثل المتابعة في الأفعال.

فنقول: أو لم يكن الناس يعرفون العبادة قبل مجيء المسيح / (1/13/أ) فما زادهم على أن قال: تعلموا العبادة يا من هم بها عالمون، فصار ذلك مكن يقول لحاسب

1 سيأتي تعريف التعميد ونوعه.

ص: 123

ماهر: اعلم أن خمسة وخمسة عشرة سواء. ثم هذا السؤال ينْزل منْزلة من يدعي أنه إنما جاء ليعلم الناس الأمور الناسوتية من الأكل والشرب والنوم وأمثاله وذلك لا يقوله لبيب، فتعمده وتعبده عليه السلام دليل ظاهر على عبوديته، فمن عذيري من قوم دُفعنا معهم إلى أن يستدل على أن الله القديم الأزلي ليس بآدمي يأكل ويشرب ويجيء ويذهب ويسترح ويتعب.

فإن قيل: فقد قال متي في تمام هذا الكلام: "إن يسوع لما تعمد وخرج من الماء انفتحت له أبواب السماء ونظر روح الله جاءت إليه في شبه حمامة وإذا صوت من السماء قائلاً: هذا ابني الحبيب الذي سُرَّت نفسي"1. وذلك دليل على ما ينتحله النصارى من بنوته وألوهيته.

قلنا: أوّلاً:

لا نسلم صحة هذا النقل لضعفه والدليل على ضعفه ووهاه أن صدور مثل هذه الآية العظيمة الآتية عند التعميد واجتماع الغَويّ والرشيد سبيلها أن تشتهر وتنتشر / (1/13/ب) بحيث ينقلها الجم الغفير والخلق الكثير، فلما لم ينقلها غير واحد2 تبيّنّا بطلان ذلك وكذب ناقله، على أنّا لو سلما ذلك فليس فيه مستروح

1 متى 3/3/16، 17.

2 قول المؤلِّف رحمه الله "فلما لم ينقلها غير واحد

" فيه نظر، فإن حادثة تعميد يوحنا المعمداني للمسيح عليه السلام وفتح السماء ونزول الورح في شكل حمامة وسماع النداء من السماء لم ينفرد متى بنقله فقط، بل نله أيضاً مرقس في إنجيله 1/10، ولوقا في إنجيله 3/21، ويوحنا في إنجيله 1/22، مع وجود التناقض والاختلاف في روايات الأناجيل كالآتي:

ورد في إنجيل متى إصحاح 3، وإنجيل لوقا إصحاح 3، بأن يوحنا كان يعرف المسيح قبل نزول الروح على المسيح.

وخالفهما يوحنا الحواري في إنجيله إصحاح 1 فذكر: بأن يوحنا ما عرف المسيح إلاّ بعد نزول الروح على المسيح.

ثم تناقض متى ولوقا مع ما ذكراه سابقاً فذكر متى إصحاح 11، ولوقا إصحاح 7، بأن يوحنا ما عرف المسيح بعد نزول الروح أيضاً، وإنما أرسل يوحنا إلى المسيح تلميذين من تلاميذه يسألانه عن حاله، هذا ظاهر التناقض والفساد.

ص: 124

للنصارى فيما يرمونه؛ لأن بفتح السماء وسماع النداء ونزول الروح الذي هو الملك كل ذلك من المعجزات الدالة على صحة النبوات، ولا غرو أن يأتي المسيح بخارق قاطع لشغب اليهود نازل منْزلة قول الله: صدق عبدي، فأما الروح [1] فتارة يكون جبريل، [2] وتارة يكون مَلَكاً غيره يقوم يوم القيامة صفاً وحده وسائر الملائكة صفاً آخر [3] وتارة يكون بمعنى الشيطان [4] وتارة يكون عبارة عن العلم والحكمة. [5] وتارة يكون عبارة عن روح الآدمي. [6] وتارة يكون كناية عن سرّ الشيء ولبه. [7] وتارة يكون بمعنى الوحي فهذه عدة محامل.

والدليل على الأوّل: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِيْنُ عَلَى قَلْبِكَ

} . [سورة الشعراء، الآية: 193] . وفي الإنجيل: (روح القدس تحل عليك)1. يقول لمريم.

والدليل على الثاني: {يَومَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالمَلَائِكَةُ صَفّاً} . [سورة النبأ، الآية: 38]2.

والدليل على الثالث: قول الإنجيل: "إن المسيح أبرأ الناس من الأرواح

1 لوقا 1/35.

2 قد اختلف المفسِّرون في المراد بالروح في الآية ما هو؟ على أقوال:

أحدهما: رواه العوفي عن ابن عباس أنهم أراح بني آدم.

الثاني: هم بنو آدم. قاله الحسن وقتادة عن ابن عباس.

الثالث: أنهم خلق من خلق الله على صور بني آدم وليسوا ملائكة ولا بشر وهم يأكلون ويشربون. قاله ابن عباس ومجاهد وأبو صالح والأعمشي.

الرابع: هو جبريل. قاله الشعبي والضحاك ومقاتل.

الخامس: أنه القرآن. قاله ابن زيد.

السادس: هو ملك عظيم من أعظم الملائكة خلقاً. قاله ابن عباس، وابن مسعود في تفسيره للروح، ونقل ابن جرير لهما حديثين في ذلك، وعلق عليهما ابن كثير بقوله:"هذان حديثان غريبان جداً".

وقال ابن جرير بعد سرده الأقوال: "والصواب من القول أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبر أن خلقه لا يملكون منه خطاباً يوم يقوم الروح، والروح خلق من خلقه، وجائز أن يكون بعض هذه الأشياء التي ذكرت، والله أعلم أي ذلك هو، ولا خبر بشيء من ذلك أنه المعني به دون غيره يجب التسليم له، ولا حجة تدل عليه، وغير ضائر الجهل به". اهـ. انظر: تفسير الطبري 30/22، 23، تفسير ابن كثير 4/496، 497.

ص: 125

النجسة فخلصوا"1.

والدليل / (1/14/أ) على الرابع: قول التوراة لموسى: "يصنع لك قبة الزمان بصلئيل الذي ملأته روح الحكمة والعلم"2 والدليل على الخامس: {

وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي

} . [سورة الإسراء، الآية: 85] .

والدليل على السادس: قول القائل: هذا روح المسألة، أي: سِرُّها ولُبُّها.

والدليل على السابع: {وَكَذَلِك أَوْحَيْنَا إِلَيكَ رُوحَنَا مِنْ أَمْرِنَا} . [سورة الشورى، الآية: 52] . {يُنَزِّلُ المَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ

} . [سورة النحل، الآية: 2] .

وقول المعمداني: "إن روح الله نظرها جاءت إليه". يريد المَلَك الآتي في صورة طائر واختصاصه بالحمام، لأنه ميمون غير متشائم به، ونسبتها إلى الله بنسبة مِلْك كقولهم في التوراة:"أن موسى رجل الله"3، و"العصا التي يبده قضيب الله"4، و"وقبة الأمد التي بنيت في التيه، خباء الله"5، و"أورشليم التي هي البيت المقدس بيت الله"6، فكذلك قول مَتَّى: (ونظر روح الله جاء إليه"، يريد مَلَك الله.

والدليل على مساواة المسيح غيره في هذه الروح والتأييد بها قول لوقا في إنجيله: "قال يسوع لتلاميذه: إن أباكم السماوي يعطي ورح القدس للذين

1 لوقا 4/36، وقد ذكر المؤلف النصّ بالمعنى.

2 خروج 31/1-3.

3 تثنية 33/1.

4 خروج 4/20.

5 أخبار الأيام الثاني 31/13، نحميا 11/11.

6 تكوين 28/17، 22.

ص: 126

يسألونه"1. والدليل عليه من / (1/14/ب) التوراة قول الله لموسى: "اختر سبعين من قومك حتى أفيض عليهم من الروح التي عليك، فيحملوا عنك ثقل هذا الشعب. ففعل موسى فأفاض عليهم من روحه فتنبؤا لساعتهم"2.

وفي التوراة أيضاً في حقّ يوسف الصديق: "يقول الملك: هل رأيتم مثل هذا الفتى الذي روح الله حال فيه"3.

والدليل عليه من نبوة دانيال: "أن روح الله حلت على دانيال"4. وفي التوراة أيضاً: "أن موسى لما توفي امتلأ يوشع خادمه من روح القدس؛ لأن موسى كان قد وضع يده على رأسه"5.

فقد استوت الحال بين المسيح وبين من ذكرنا في تشريفه بهذه الروح، وقد قال الله في الكتاب العزيز في حقّ إخواننا من المسلمين:{وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحِ مِنْهُ} . [سورة المجادلة، الآية: 22] . فما أجاب النصارى به عن حلول الروح على هؤلاء فهو جواب لنا عن حلوله على من يَّدعونه.

فإن تجاهلوا وقالوا: الروح الآتي إلى من عدا المسيح هي الملك والعلم والحكمة، والروح الآتي إلى المسيح هي حياة الله.

قلنا لهم: الويل لكم إن كان ما تقولون فقد صار ذاتاً ميتة لا روح / (1/15/أ) فيها، وإذا كان قد صار ذاتاً خالية من الحياة، فكيف يقولون: إنه قال: هذا عبدي وهذا ابني؟ فقد آل ما تدعون إلى نفي ما تدّعون.

1 لوقا 11/13.

2 عدد 11/16-25، في سياق طويل.

3 تكوين 41/38.

4 لم أعثر في فسر دانيال بالنسخة الحالي على النصّ الذي أورده المؤلف ولعل المؤلف يقصد حزقيال فقد ورد في سفر حزقيال 3/23، 24:"أن روح الله حلَّت فيه".

5 تثنية 34/9.

ص: 127

ثم نقول لهم: بم تنكرون على من يزعم أن الروح الآتي والنداء ليس هو لعيسى بل هي لأستاذه الذي عَمَّده هو يحيى بن زكريا؟! لأنه بشهادة الإنجيل أفضل منه إذ هو الذي امتلأ من روح القدس وهو جنين في بطن أمه ثم نشأ سيداً وحصوراً1.

وقد قلتم في إنجيلكم: "إن يوحنا هذا لا يأكل ولا يشرب ولا يتناول خمراً ولا مسكراً2 ولا يلبس سوى جلود الحيوان3 وأنه انتهض قبل المسيح إلى الدعاء إلى الله وعمد الخلق حتى عمَّد المسيح فيمن عمد.

فأما المسيح فلم تأته الروح - في قولكم - إلاّ بعد الثلاثين سنة من عمره على يد يوحنا، ولم يتصف بما اتصف به يوحنا شيخه وأستاذه بل أكل الخبز واللحم وشرب الخمر في زعمكم وحضر الدعوات4 وتناول نفائس الطعام، وصبت عليه امرأة دهنا قيمته ثلاثمائة مثقال فلم ينكر عليها5، كل ذلك يشهد به إنجيلكم.

وإذا كان الأمر على ما وصفتم من حال الرجلين سلام الله عليهما فلا خفاء بكونه أفضل منه، وإذا ثبتت أفضلية يوحنا فمن أين لكم أن الروح الآتي والنداء المسموع لم يكن ليوحنا؟ فدلوا أنتم على أن ذلك كان للمسيح، ولن تجدوا إلى ذلك سبيلاً.

1 يقال ساد القوم يسودهم، ولما كان من شرط المتولي للجماعة أن يكون مهذب النفس قيل لكل من كان فاضلاً في نفسه:"سيد" وعلى ذلك قوله: {وَسَيِّداً وَحَصُوراً} . [سورة آل عمران، الآية: 39] . أما الحصور فإنه الذي لا يأتي النساء إما من العنة وإما من العفة والاجتهاد في إزالة الشهوة، والثاني أظهر في الآية؛ لأن بذلك يستحق المحمدة. ر: المفردات للراغب الأصفهاني ص 120، 247.

2 لوقا 7/33.

3 مرقس 1/6.

4 يوحنا الإصحاح الثاني.

5 متى 26/7-12، مرقس 14/3-8، ولم يرد فيهما ذكر قيمة الطيب.

ص: 128

ثم نقول لهم: أليس قد زعمتم أن الروح إنما جاءت في شبه حمامة فعرف شكلها وكميتها وقدرها وفرَّغت حيراً وشغلت آخر وتنقلت في الجهات؟! وذلك صفة المخلوق الحادث ويتعالى عن ذلك القديم جل جلاله، ثم لفظ النبوَّة معارض بلفظ العبودية، فقد سمّاه الله عبده ولله واختار له ما عنده، وسوَّاه في العبودية بمن كان قبله ومن جاء بعده.

4-

دليل آخر على عبودية المسيح عليه السلام قال متى: "أخذ إبليس يسوع المسيح وأخرجه إلى البرية ليجربه وقال له: إن كنت أنت ابن الله فقل لهذه الحجارة أن تصير خبزاً، فقال المسيح: إنه مكتوب أنه ليس بالخبز وحده يحيى الإنسان بل بكل كلمة تخرج من الله فأخذه إبليس ومضى به حتى أقامه على أعلى جبل في الأرض وأراه جميع ممالك العالم وقال:

هذا كلّه لي وأنا أعطيكه إن سجدت لي / (1/16/أ) سجدة واحدة، فقال: اغرب عني يا شيطان فإنه مكتوب للربّ إلاهك أسجد وله وحده أعبده، فمضى به إبليس وأقامه على جناح الهيكل، وقال له: انطرح من هاهنا إلى أسفل، فإنه مكتوب أن يرسل بعض ملائكته فتحملك حتى لا تعثر رجل بحجر، فقال المسيح: ومكتوب أيضاً لا تجرب الرّب إلاهك، فمضى به إبليس وتركه وجاءت ملائكة تحرسه، وصام المسيح عند ثلك ثلاثين يوماً بلياليها وجاع أخيراً"1.

قلت: هذا متى الحواري قد ذكر هذه القصة وهي شاهدة على المسيح بصريح العبودية وافتقار البشرية، وسلوك سنة المتعبدين وطريق المتبتلين من المجتهدين، وأدب الأولياء ومقدمات أمور الأنبياء، ينقطعون إلى مولاهم في قنن2 الجبال، ويفرغون البال بمواصلة الوصال، ألم يأتكم نبأ ابن عمران3 إذ

1 متي 4/1-11، بألفاظ متقاربة.

2 القُنة: أعلى الجبل، والجمع قنان وقنات. ر: مختار الصحاح ص 553.

3 يقصد: النبيّ موسى بن عمران عليه السلام، وقد ورد ذلك في سفر الخروج 34/28.

ص: 129

طوى الأربعين لا يفطر وفعل من الخوارق بمصر وغيرها ما لا يجحد ولا ينكر.

ولقد أربت آياته في النقل الصحيح على آيات المسيح، وإذا انتهينا إلى ما يليق بذلك أشبعنا القول فيها إن شاء الله، والعجب كيف يجرب إبليس يسوع ويمتحنه ويسحبه معه من مكان إلى مكان، / (1/16/ب) ويسومه السجود له وهو في زعم النصارى خالقه وخالق كل شيء، فنحن نسألهم عن هذا المتردد مع الشيطان من مكان إلى مكان، والمقهور في يده والشيطان طامع في استتباعه وصيرورته عبداً له، أهو إنسان مخلوق أو إله خالق أو إله اتّحد بإنسان أو سكن في أهابه واتّخذه محلاً له؟!.

فإن قالوا: إنه إنسان مخلوق وافقوا شرعنا وخالفوا شريعتهم وأمانتهم إذ يقولون فيها: "إن المسيح إله خالق غير مخلوق وأنه الذي أتقن العالم بيده".

وإن قالوا: إنه خالق أو إله اتّحد إنسان أو حل فيه وسكنه، فقد حكموا أن الإله الأزلي سحبه الشيطان، وردده وجرت عليه أحكامه، وطمع فيه أن يسجد له وفيه امتهان الربّ القديم، والإله العظيم في يد الشيطان الرجيم.

وقد شهد متى أن المسيح قد جاع، والإنجيل يقول:"إن الله لا يأكل ولا يشرب ولا رآه أحد"1. وإذا ثبت بقول أصحاب المسيح أن المسيح قد جاع،

1 لم أجد نص هذه العبارة في نسخة الأنانجيل التي بين يدي، وقد ذكر هذا النص الحسن بن أيوب في كتابه: الرد على النصارى والإمام القرافي في الأجوبة الفاخرة ص 149، والمهتدي نصر بن يحيى المتطبب في النصيحة الإيمانية ص 248، وابن القيم في هداية الحياري ص 274، كالآتي:"إن الله تبارك وتعالى لم يلد ولم يولد ولم يأكل ولم يشرب ولم ينم ولم يره أحد من خلقه ولا رآه أحد إلا مات". وقد علق شيخ الإسلام في الجواب الصحيح 2/334 على النصّ بقوله: "إن هذه العبارة مما ينازع فيه النصارى بأنه ليس موجوداً في كتبهم ولا يعترفون به".اهـ.

قلت: إن معنى النص المذكور ذكر متفرقاً في العهد القديم والجديد الآتي:

في إنجيل يوحنا 1/18: "الله لم يره أحد قط". وبنحوه ذكر في التوراة خروج 33/20، وفي رسالة يوحنا الأولى 4/12، وفي الرسالة الأولة لتيموثاوس 6/16.

في الميزان 121/4: "إنه لا ينعس ولا ينام حافظ إسرائيل".

في أشعيا 40/28: "إله الدهر الربّ خالق أطراف الأرض لا يكل ولا يعيا وليس عن فهمه فحص".

وبما أن المسيح قد اعترف في الأناجيل بأنه غير ناسخ للتوراة، بناء عليه فكل ما في التوراة عن الله وصفاته ملزم للنصارى تمام الإلزام.

ص: 130

وتظافرت عليه الآلام والأوجاع فقد ثبت بذلك أنه عبد لله، إذ ثبت أن ما سوى / (1/17/أ) فهو عبد له.

فإن قالوا: لا ننكر أن المسيح جاع وشبع واطمأن وجزع وناله النفع والضرر واعتورت عليه أحوال البشر، غير أن هذه النقائص إنما دخلت على ناسوته دون لاهوته1.

قلنا لِمَ يَدَعُ الاتّحاد الذي تدعونه ناسوتاً متميّزاً عن لاهوت حتى يُخَصَّ بالعطش والجوع والأرق والهجوع! بل صار المسيح بالاتّحاد الذي يدّعيه أهل الإلحاد شيئاً واحداً، والشيء الواحد لا يقال إنه جاع ولم يجع ومات ولم يمت. على القول أيضاً بذلك مفسد للاتّحاد الذي يدعونه؛ لأنه قد كان المسيح قبل الاتّحاد يدركه عوارض الآدميّين من الجوع والعطش والطمأنينة والدهش وغير ذلك، فإن كان بعد الاتّحاد كَهُوَ2 قبل الاتّحاد فلا معنى للاتّحاد، فقد صار الاتّحاد الذي يُدَّعى له مجرد تسمية ساذجة عن المعنى.

وإذا ثبت أن المسيح قد تناول الطعام وصلى وصام والتزم الأحكام فقد أربى في العبودية على سائر الأنام.

والعجب أن الشيطان لا يثبت مع وجود المَلَك، فكيف يطمع فيمن يعتقد ربوبيته حتى يسومه أن يجعله / (1/17/ب) من الأتباع [ويوظف] 3

1 يؤمن النصارى بالاتّحاد: وهو اتّحاد اللاهوت الجزء الإلهي مع الناسوت الجزء الإنساني في المسيح عليه السلام، وسيأتي في الباب السابع تفصيل اختلاف النصارى في تصوير ذلك الاتّحاد.

2 كهو: أي: كمثله.

3 في ص يوصف ولعل الصواب ما أثبته.

ص: 131

عليه السجود الذي هو نهاية الاتضاع، ألا تنظر النصارى إلى قول المسيح:"ولله وحده أعبد"، فإنه أثبت لربه الوحدة والانفراد، ونفى عن خالقه سائر الأنداد، من الشريك والصحابة والأولاد. فالمسيح يقول:"لا ينبغي السجود إلاّ لله الواحد"، والنصارى تقول: لا يسجد إلاّ لثلاثة آلهة. لقد تباعد ما بينهم وبين المسيح.

5-

دليل آخر على عبودية المسيح عليه السلام قال متى: "سمع مهيرودس ملك اليهود خبر يسوع فقال لغلمانه: أترى يوحنا قد قام من بين الأموات وهذه القوى تعمد معه. وكان هيرودس هذا قد قتل يوحنا المعمداني في السجن وأعطى رأسه لابنة هيروديا1، وكانت قد تمنت عليه ذلك يوم رقصت فيه مجلس مولود ولد له، فجاء التلاميذ وأخبرا يوسع بمصاب يوحنا، فجزع يسوع وخرج من وقته من الموضوع الذي كان به منفرداً"2.

قلت: اشتبه أمر المسيح على الناس، والرّبّ لا يقع التشابه بينه وبين خلقه، وإنما شبهه الناس بيوحنا لاشتراكهما في أعلام النبوة، وأخبر التلاميذ المسيح بالقصة قبل أن يعلم بها، والربّ تعالى / (1/18/أ) يجب أن يكون عالماً بجميع المعلومات محيط بما تحت تخوم الأرضين إلى أعلى السماوات، {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} . [سورة الملك، الآية: 14] .

وخرج المسيح عقب هذه الأخبار مؤثراً للإستار معملاً مطايا الحذار من الأشرار، ومن دأب البشر عند توقع الضرر الأخذ بالحذر.

1 يقال إن اسمها: سالومة ابنة هيروديا والتي رقصت في حفلة عيد ميلاد هيرودس وطلبت رأس يوحنا المعمدان على طبق. انظر: قاموس ص 447.

2 متى 14/1-13.

ص: 132

وقد اتّفق مثل هذا الابتلاء لطائفة من الأولياء ولم يجدَّ بهم الهلع بزمامه ولا أنزلهم عن غارب التوكل سنامه، قال بعض السلف:"نَفِرُّ من قدر الله إلى قدر الله"1.

اعلم أن يسوع2 هو عكس عيسى، وكأنه (يَسُع) أشبعت الضمة قليلاً فصارت واواً، وكذلك يشوع في التوراة هو

يوشع3.

فأما يلامعمداني فهو يحيى4 بن زكريا - وهو نبي ابن نبي - ولد بالبشرى من الله، وهو أكبر في السن من المسيح بستة أشهر أو نحوها، وقد تولى التعميد

1 هذه مقالة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما خرج إلى الشام فأخبره أمراء الأجناد بأن الوباء وقع بالشام فاستشار الصحابة في دخول الشام أو الرجوع عنها فأشار عليه مشيخة قريش من مهاجرة الفتح بأن يرجع بالناس ولا يقدمهم على الوباء، فأذن عمر بالناس، إني مصبح على ظهر فأصبحوا عليه. قال أبو عبيدة: يا أمير المؤمنين أفراراً من قدر الله؟.

قال لو غيرك قالها يا أبا عبيدة، نعم. نفر من قدر الله عزوجل إلى قدر الله

، ثم جاء عبد الرحمن بن عوف وكان متغيباً في بعض حاجته فقال: إن عندي من هذا علماً سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً منه". قال: فحمد الله عزوجل ثم انصرف. أخرجه البخاري في كتاب الطبّ باب 30. فتح الباري 10/179، مسلم 4/1740، 1741، في سياق طويل عن ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما -.

2 نقله أيضاً نجم الدين الطوفي في كتابه: الانتصارات الإسلامية ص 77، وفي الصحاح للجوهري 2/955: عيسى اسم عبراني أو سرياني، والجمع العيسون، والنسبة عيسى وعيسوي.

وجاء في قاموس الكتاب ص 1065: أن يسوع الصيغة العربية للاسم العبري يوشع ومعناه: يهوه مخلص، الله مخلص، وقد سمي بهذا الاسم المسيح حسب قول الملاك ليوسف: متى 1/21، مريم لوقا 1/31. اهـ.

3 هو يوشع بن نون عليه السلام، الاسمان يشوع ويسوع شبيهان وقد تقدمت ترجمته. انظر: ص 119.

4 يحيى بن زكريا عليهما السلام، ورد ذكرهما في آيات متعددة في القرآن الكريم. انظر: سيرتهما في قصص الأنبياء لابن كثير ص 466-477، ولعبد عبد الوهّاب النجار ص 368-369، والنبوة والأنبياء للصابوني ص 326-336.

ويذكر عنه قاموس الكتاب ص 1106-1108، ما ملخصه:"بأنه كان ناسكاً زاهداً يدعو الناس إلى التوبة ويعمدهم بعدها في نهر الأردن وذلك سبب تسميته: "يوحنا المعمداني" وقد أمر هيردوس بقتله في حوالي سنة 28م، ودفنه تلاميذه في سبطياً عاصمة السامرة بجانب قبر اليشع وعوبديا". اهـ بتصرف.

ص: 133

قبل المسيح وعمد المسيح فمن عمده من الناس، والتعميد1 هو غمس التائب في الماء يشيرون بذلك إلى الانغماس في الطاعة والتجرد عن المخافة كما ورد شرع الإسلام بتطهير الكافر حين يسلم.

فأما هيردوس2 فهو أحد الأربعة / (1/18/ب) الذين كانوا يدور عليهم أمر الشام من جهة قيصر وكان قد رام نكاح ابنة أخيه وقيل ابنة زوجته فحال بينه يوحنا المعمداني وبين ما أراد من ذلك فاعتقله هيردوس ثم قتله بالتماس أم الصبية إذ رأت أنه زاعم3 مقصودها، فذكر أن دم يوحنا هذا لم يغض4 مذ وقع على الأرض حتى حرك الله داعية بعض ملوك بابل، قال أصحابنا: يقال لهذا الملك حردوش البابلي فسار إلى اليهود يجر الشوك والشجر فقتل مقاتليهم وسبي ذراريهم، وحرق قراهم وعضَّد5 شجرهم، وأجلاهم عن البيت المقدس،

1 ورد في قاموس الكتاب ص 637: "بأن اليهود استعملوا عادة التعميد، وبأن تعميد يوحنا كانت تسمّى "معمودية التوبة لمغفرة الخطايا" وفي النصرانية جعل التعميد بالماء باسم الثالوث الأقدس علامة على التطهير من الخطيئة والنجاسة وعلى الانتساب رسمياً إلى كنيسة المسيح، وقد جعل التعميد عوضاً عن الختان الذي كان مفروضاً على بني إسرائيل، وقد اختلفت وجهات نظر النصارى حول قضيتين: نوع المعمودية، ومعموديةالصغاروالكبار".اهـ. بتصرف. وتعتبرالمعمودية من أسرار الكنيسة ووظائفها التي تختص بها. ر: أيضاً الكنْزالجليل في تفسيرالإنجيل1/28، 539.

2 هيردوس انتيباس: هو الابن الثاني لهيرودوس الكبير، عُيِّن حاكماً على الجليل وقد غضب عليه الإمبراطور ونفاه إلى ليون ثم أسبانيا وكان زمن ملكه من 4 ق. م إلى 39 م. ر: قاموس ص 1011.

3 في ش: راغم بالراء من المراغمة وهي المغاضبة، وبالزاي فهي المزاغمة، أي: التغضب في الكلام هذا على الغين المعجمة، أما على المهملة والزاي وهو الراغم أي: القول. ر: الصحاح 5/1934، 1941، 1942.

4 في ش: لم ينقص ولم يضع.

5 في ش: عضد الشجر أي: قطعه بالمعضدة المقتلع. ر: الصحاح 2/509.

ص: 134

وأعطى الله عهداً ألا يكف عنهم حتى يغيض ذلك الدم، فلم يغض حتى كاد يستأصل اليهود واستاق السبي معه إلى بابل1.

وفيهم أنْزل الله على نبيّه محمّد صلى الله عليه وسلم: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَينِ} . [سورة الإسراء، الآية: 4] . فكانت المرّة الأولى على يد بختنصر2 بسبب قلتهم نبي الله أشعيا في زمن أرميا النبي عليه السلام، ثم رد الله إليهم ملكهم، وكانت المرة الثانية على يد خردوش3 اليوناني بسبب قتلهم يحيى بن زكريا / (1/19/ب) وذكر أن بين الوقعتين أربع مائة وإحدى وستون سنة4.

1 بابل: مدينة قديمة في أواسط ما بين النهرين، تقع أنقاضها على الفرات قرب الحلة، على مسافة 80كم جنوب شرقي بغداد، وقد أطلق اسم بلاد بابل على القسم الجنوبي من بلاد ما بين النهرين لتمييزه عن بلاد آشور. ر: المنجد في الأعلام ص: 106.

2 نبوخذ ناصر، نبوخذ نصر: اسم بابلي معناه: "نبو حامي الحدود" ملك بابل. حكم 605-652 ق. م أخمد ثورة قام بها اليهود في أرض يهوذا وعندما أعادوا الكرة لم يخمد ثورتهم وحسب بل ساق ملكهم وكبراءهم أسرى إلى بابل وهو ما يعرف في تاريخ اليهودية بالأسر البابلي. ر: قاموس ص 954-955، الموسوعة العربية 2/1821.

3 ذكره الطبري في تاريخه 1/591 باسم: خردوس وبأنه من ملوك بابل، وفي مروج الذهب ص 63، للمسعودي: أنه حردوس بالحاء المهلة.

ويرى د. ف. عبد الرحمن - أستاذ فقه اللغة - أن اسم خردوس إنما هو تحريف لاسم الحارث بالاتينية وهو: ARETAS - نقلاً عن مسودة كتاب الإعلام بأصول الأعلام - تأليف د. ف عبد الرحيم.

أما الحارث فهو ملك البتراء، الذي حارب هيرودوس، وهيروديا انتيباس لزواجه بهيروذيا زوجة أخيه فيليس وقيل: إنها ابنة أخيه، وقد كان هيرودس متزوجاً بابنة الحارث من قبل وقد طلقها لذلك، وهيروديا هي التي طلبت من هيردودس رأس يحيى عليه السلام لمعارضته هذا الزواج. ر: قاموس ص 282.

4 هذا ما نقله الإمام ابن جرير الطبري في تاريخه 1/593، وفي تفسيره 15/22-27، 41، 42، عن ابن حميد قال: ثنا سلمة، ثني ابن إسحاق قال: فذكره في سياق طويل جداً. في تفسير قوله تعالى: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً} .

والذي أراه - والله أعلى وأعلم - هو ترجيح ما رواه ابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. ر: تفسير الدر المنثور للسيوطي 4/163، 165، بأن المُسلَّط على بني إسرائيل لإفسادهم في المرّة الأولى هم جالوت وجنوده الذين اضطهدوا وأذلوا بني إسرائيل يدل على ذلك قولهم - كما حكي القرآن الكريم عنهم حينما طلبوا من نبيّهم أن يبعث الله لهم ملكاً:{وَمَا لَنَا أَلاّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا} . [سورة البقرة، الآية: 246] . ثم بعث الله طالوت ملكاً لهم وقتل داود عليه السلام جالوت، ورجع إلى بني إسرائيل ملكهم، ثم لما فسدوا المرة الثانية وقتلوا نبيّهم أشعيا، بعث الله عليهم بتختنصر فقتلهم وسبى نساءهم وذراريهم وهدم الهيكل المعروف بـ: هيكل سليمان، وهذا التدمير البابلي هو ما يعرف في تاريخهم بـ: السبي البابلي حيث أجلاهم بختنصر عن بيت المقدس وأخذهم سبياً إلى بابل.

وعندما رجع بعض بني إسرائيل مرة ثانية إلى بيت المقدس في ظل حكم الفرس وأفسدوا بقتلهم زكريا وابنه يحيى، ومحاولة قتل عيسى عليه السلام سلط الله عليهم الرومان بقيادة تيطس سنة 70م، ثم بقيادة أدريانوي سنة 135م، فقتلهم وشردهم في جميع أنحاء البلاد المجاورة، وهكذا كلما عاد اليهود للفساد والإفساد في الأرض تكرر تسليط الله عليهم من يسومهم أشد العذاب تصديقاً لقوله تعالى:{وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا} . وهو مستمر فيهم في كل زمان ومكان. حيث سلط الله عليهم المؤمنين فقتلوا وأجلوا بني قينقاع والنضير وقريظة عن المدينة وعن خيبر، كما سلط الله عليهم أيضاً ملوك أروبا في العصور الوسطى و"هتلر" وغيره في العصر الحديث. ونرجو الله أن يسلطنا عليهم بتمسكنا بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فنسترد أولى القبلتين ونطهر الأرض من رجسهم وسادهم، كما سيسلط الله عليهم المهدي والمسيح عليه السلام والمؤمنين إذا ما خرج اليهود مع المسيح الدجال كما ذكر ذلك في أحاديث أشراط الساعة.

وأما بالنسبة لتحديد الذين سلطهم الله على بني إسرائيل لفسادهم في الآية الكريمة فالأولى فيه ما قاله الإمام ابن كثير في تفسيره 3/28: "وفيما قصّ الله علينا في كتابه غنية عما سواه من بقية الكتب قبله، ولم يحوجنا الله ورسوله إليها، وقد أخبر الله عنهم أنهم لما طغوا وبغوا سلط الله عليهم عدوّهم فاستباح بيضتهم وسلك خلال بيوتهم، وأذلهم وقهرهم جزاءً وفاقاً، وما ربّك بظلام للعبيد، فإنهم كانوا قد تمردوا وقتلوا خلقاً من الأنبياء والعلماء".

ص: 135

ينبغي أن يقال للنصارى: ما الذي دفعكم إلى عبادة مخلوق يفزع عند الضرار إلى التقية والحذار، ويلجأ عند توقع المكروه إلى الفرار والاستتار في الجدار؟! أين قولكم إنه حين تعمد جاءته روح الله؟! وأنتم رويتم لنا أن موسى قد قاتل الجبابرة وأباد الفراعنة، وطهر الأرض من العمالقة، وقتل عوج1 مبارزة، ولم يفر من خصمه وإن عظم بأسه، ولا نكل عن فرعون وإن اشتدت شوكته، وقد كان يدخل على فرعون فينغص عليه سلطانه،

1 عوج: ملك الأموريين في باشان، وكان وكان جبار القامة شديد البأس، وقد انتصر عليه موسى في حربه معه واحتل مملكته. ر: سفر التثنية3/1-11،قاموس ص646.

ص: 136

ويُرْغم مجاهرةً شيطانه، ويحقر عند أهل مملكته شأنه، ثم جَرَّعه أليم اليَمِّ، وأباد جنوده في اللج الخضم، أفكانت الروح التي مع موسى أقوى من الروح التي ادعيتموها للمسيح؟! فما نرى موسى إلاّ أحق من المسيح بالربويبة إذ كان لم يخف والمسيح قد خاف، وكذلك يوشع وداود قد قهرا الصناديد، والمسيح قلتم إنه قتله اليهود.

6-

دليل آخر على عبودية المسيح: قال فولس الرسول في الرسالة الأولى1: "وأنا أحب يا إخوتي / (1/19/ب) أن تعلموا أن رأس المرأة الرجل، وأن رأس كل رجل المسيح، وأن رأس المسيح الله".

فهذا فولس قد نطق بأن المسيح مرؤوس وأن الله رئيس عليه، وذلك منه رَدٌّ على النصارى وإفساد لأمانتهم وشريعتهم.

7-

دليل آخر، قال متى:"أصعد يسوع تلاميذه سفينة وصعد هو إلى الجبل يصلي، فلما كان في الهجعة الرابعة من الليل جاء ماشياً على الماء طالباً السفينة فخاف التلاميذ وتصارخوا فقال يسوع: لا بأس عليكم. فقال بطرس له: يا ربّ إن كنت أنت هو فادعني آتيك على الماء، فقال: تعال. فنزل بطرس يمشي على الماء فاشتد الريح فكاد أن يغرق فصاح: يا ربّ نجّني. فمد يسو يده وأخذه، وقال له: يا قليل الأمانة لم شككت؟ ثم صعد يسوع فسجدوا له"2.

قلت: هذا الفصل معرب عن تعبد المسيح وتبتله وتهجده لمولاه وتذلله، وحركته في الجهات وتنقله وصعوده قنن الجبال وتوقله3، وهذه كلّها أفعال دالة على حدثه.

1 الرسالة الأولى من رسائل بولس إلى أهل كورنثوس 11/2، 3.

2 متى 14/22-32.

3 في ش: وَقَل الجبل توله: علاه وصعده.

ص: 137

فأما مشيه على الماء فليس فيه مستروح في دعوى ربوبيته فغايته أن التحق في / (1/20/أ) ذلك بموسى وإلياس واليسع صلوات الله عليهم.

والتوراة: "تنطق أن موسى ضرب البحر فانفرق طرقاً وفرقاً، فكان كلّ فِرْقٍ لفريق من بني إسرائيل، حتى عبره ستمائة ألف رجل من بني إسرائيل سوى النساء والصبيان وبهيم الحيوان"1. وهذا أعجب من مشي عيسى وصاحبه على الماء إذ السفن تساويهما في ذلك، فلو كان عيسى ربّاً بذلك لكان موسى أولى، لما ظهر من عظيم فعله وجسيم نبله.

وقد جاء في سفر الملوك2 من كتبهم:"إن إلياس3 عليه السلام انتهى إلى الأردن ومعه صاحبه اليسع فنزع إلياس عمامته وضرب بها الأردن فيبس له الماء وناول عماته اليسع4 صاحبه فلما رجع الآخر ضرب بها الماء فيبس أيضاً حتى

1 سفر التكوين الإصحاح الرابع عشر والخامس عشر.

2 سفر الملوك: من أسفار العهد القديم، والتي تسمى بالأسفار لاتاريخية، ويتكون من سفرين هما: سفر الملوك الأوّل وعدد إصحاحاته 22، وسفر الملوك الثاني وعدد إصحاحاته 25 إصحاحاً، والمقصود بالملوك هم الذين تولوا حكم بني إسرائيل عن الملك بعد عهد القضاة.

وموضوع سفر الملوك هو: الحديث عن ملك سليمان عليه السلام وبنائه الهيكل، ثم انقسام مملكته بعد وفاته إلى مملكتين شمالية وجنوبية، وحروب المملكتين فيما بينهما، وينتهي سفر الملوك المملكتين وحريق الهيكل سنة 587 ق. م. وسبي اليهود إلى بابل.

ومما ننكره على اليهود والنصارى - ونستغربه - هو تقديسهم لهذين السفرين مع تصريحهم بأنه لا يعرف مؤلّفها، وبأنه مجهول يروي قصصاً قديمة سابقة على عصره. ر: مقدمة الكتاب المقدس طبعة 1971م، قاموس ص 920، رسالة في اللاهوت ص 275، 276، سبينوزا.

3 إلياس عليه السلام، ورد ذكره في القرآن الكريم بموضعين:[سورة الأنعام الآية: 85، وسورة الصافات الآية: 123-132] . ر: سيرته ي تاريخ الطبري 1/325، قصص الأنبياء لابن كثير، ص 400، النبوة والأنبياء للصابوني ص 318.

أما مصادر أهل الكتاب فتذكر عنه بأنه إليا التشبي، وإيليا: اسم عبري معناه: الاهي يهوه والصيغة اليونانية لهذا الاسم هي: إلياس وتستعمل أحياناً في العربية، وقد عاش في المملكة الشمالية حيث حارب إيزابل زوجة الملك أخاب التي ساقت زوجها وبني إسرائيل إلى عبادة العجل، وقد أيده الله بمعجزات كثيرة وفي نهاية أيامه ذهب إلى نهر الأردن مع تلميذه اليسع، ثم جاءت مركبة وفرسان نارية حملت إيليا إلى السماء. ر: سيرته في سفر الملوك الأوّل والثاني، وقاموس ص 144-145.

4 اليسع عليه السلام، ورد ذكره في موضعين في القرآن الكريم:[سورة الأنعام، الآية: 86] ، و [سورة ص، الآية: 48] . ر: سيرته في تاريخ الطبري 1/327، وقصص الأنبياء، ص 408، والنبوة للصابوني ص 321. ويذكر عنه قاموس ص 111 ما ملخصه:"أن اسمه عبراني معناه: الله خلاص وهو خليفة إيليا في النبوة"، ويسجل سفر الملوك الثاني معجزات كثير قام بها لايشع حتى بعد موته.

ص: 138

مشى عليه راجعاً"1. فلم يكن واحد منهما رباّ بذلك، وقد خاف بطرس2 صاحب المسيح الغرق، لم يخف منه اليسع، وقوة الصاحب تدل على قوة حال المصحوب.

مناقشة على قول بطرس "يا ربّ إن كنت أن هو": اعلم أنّ هذا من الكلام الخلف وذلك إن بطرس إن عرف أنه / (1/20/ب) المسيح، فكيف يقول:"إن كنت أنت هو؟ " وإن لم يكن عرفه، فكليف يقول له يا رب؟!.

8-

دليل آخر على عبودية المسيح، قال متى:"قال رجل للمسيح: يا معلم صالح، فقال له لا تقل لي صالحاً، لا صالحَ إلاّ الله الواحد"3.

قلت: أضاف المسيح لربّه الوحدة، واعترف له بالألوهية وحده، وفي ذلك ردٌّ على النصارى في دعواهم التثليث وعبادة المسيح إذ نفى الصلاحية عن نفسه وأثبتها لله وحده، ولو كان الأمر في ذلك على ما يعتقده النصارى لبيَّنه للرجل ولقال له: لا صالح إلاّ الأب وأنا روح القدس، لم يؤخر البيان عن وقت الحاجة.

وفي قول المسيح عليه السلام: "لا صالح إلاّ الله الواحد"، تكذيب للنصارى فيما يقرؤونه في صلواتهم إذ يقرؤون في بعض فرائصهم: "الإله الصالح الطويل

1 سفر الملوك الثاني 2/1-8.

2 بطرس: رئيس الحواريين واسمه الأصلي سمعان بن لوقا ومهنته صيد الأسماك، وقد سماه المسيح كيفا ومعناها صخرة يقابلها في العربية صفا فسمي بشمعون الصفا في المصادر العربية، وقد وقف شمعون جهوده على التبشير بالمسيحية إلى أن قبض عليه في روما وصلب منكساً بناء على طلبه سنة 67م في زمن الإمبراطور نيرون، وتنسب إليه رسالتان من الرسائل السبع التي يسمّونها: الرسائل الكاثوليكية. ر: ترجمته في الأناجيل الأربعة، وسفر أعمال الرسل والإصحاحات: 1، 2، 4، 5، 15، قاموس ص 174-178.

3 متى 19/16، 17.

ص: 139

الروح الداعي الكلّ إلى الخلاص". وقد يقرؤون فيها: "يا ربنا وإلهنا يسوع المسيح لا تضيع من خلقت بيديك، لا." ويقرؤون في شريعة إيمانهم التي لا يتم لهم قربان إلاّ بقراءتها:"نؤمن بالربّ الواحد يسوع المسيح الذي بيده أتقنت العوالم، وخلق كلّ شيء". وهذا / (1/21/أ) كله مخالف لقول المسيح عليه السلام: "لا صالح إلاّ الله وحده"، وإذا كان هذا قول المسيح فقد ثبت أنه ليس هو الله ولا صفة من صفاته، وإذا ثبت أنه غيره ثبت أنه عبده؛ لأن ما سواه فهو عبده وخلقه، وتبيّن فساد الأمانة التي لهم وجهل من ألفها بدين المسيح وشريعته.

9-

دليل آخر على عبودية المسيح، قال متى:"قال يسوع: من أراد أن يكون منكم كبيراً فيلكن لكم خادماً، ومن أراد أن يكون أوّلاً فليكن آخراً إن ابن الإنسان لم يأت ليخدم، بل ليخدم ويبذل نفسه عن كثير"1.

قلت: هذا دأب المتّقين وعباد الله المشفقين، قام عليه السلام بوصفه الاتضاع، ولزم مناهج إخوانه من الأنبياء في رعاية الأتباع، وصرح بأنه إنما بعث خادماً والربّ يجب أن يكون مخدوماً، وأنه باذل نفسه ويتعالى القديم أن يكون عديماً.

10-

دليل آخر على عبودية المسيح، قال متى:"مرّ يسوع بشجرة تين وقد جاع فقصدها فلم يجد فيها سوى الورق فقال: لا تخرج منك ثمرة إلى الأبد فيبست الشجرة لوقتها فتعجب التلاميذ وقالوا: كيف يبست؟ فقال: الحقّ أقول لكم: إنه لو كان / (1/21/ب) لكم إيمان بغير شكّ وقلتم للجبال: تعال واسقط في البحر لفعل كلّ ما سألتموه تنالوه"2.

1 متى 20/26-28.

2 متى 21/18-22.

ص: 140

قلت: أدركته عليه السلام عوارض البشر من الجوع والعطش وما أكثر ما يصفه الإنجيل بذلك، ولما سبق في علم الله تعالى ما سيدعى فيه من الربويبة والإلهية حفظ هذه المواضع من الإنجيل وحرسها عن التغيير والتبديل، ولتكون وازعة ذوي عن الأحلام، عن عبادة رجل من الأنام، يفتقر إلى الشراب والطعام، فقل للنصارى: يا معشر من بخس حظه من المعقول، كيف خفي عن يسوع حال الشجرة وهو في زعمكم الذي غرسها؟! أم كيف افتقر إلى تناول الثمرة وهو الذي كَوَّن بلسها1؟!. ولِمَ دعا عليها؟! ومن الذي دعاه حتى ساق الثوى2 إليها؟

وأخبرونا من هو هذا الذي جاع؟، فإن زعمتم أنه الإله أكذبكم الإنجيل إذ يقول:"إن الله لا يأكل ولا يشرب". وأكذبكم داود في المزامير إذ يقول: "إن إله إسرائيل لا يأكل لحوم العجاجيل ولا يشرب دماء أولاد الغنم"3.

فإن قلتم: إن الناسوت هو الذي جاع، أبطلتم الاتّحاد، إذ الاتّحاد عندكم صيَّر / (1/22/أ) الكثرة قِلة وجعل الاثنين واحداً، وأنتم زعمتم أن فائدة الاتّحاد تشريف الطبيعة الناسوتية لا انحطاط الطبيعة اللاهوتية.

فإذا قلتم: إن طبيعة الناسوت باقية على حكمها، لم يحصل التشريف الذي ذكرتم، فما نرى طبيعة اللاهوت أكسب الناسوت خيراً.

وأخبرونا أليس مَتَّى هذا يقول إنّ المسيح هو الذي جاع، وهو الذي تردد مع الشيطان في سخرته وواصل الصيام بسببه؟، والمسيح هو عبارة عن الطبيعتين

1 البلس: من لا خير عنده، أو عنده إبلاس وشر، وثمر كالتين’، والتين نفسه. ر: القاموس المحيط ص 687.

2 ثَوَّى، تَثْوِيَةً: مات. انظر: القاموس المحيط ص 1637.

3 مزمور 50/13.

ص: 141

لللاهوتية والناسوتية جميعاً، إذ طبيعة الإنسان على تجردها لا تسمى مسيحاً عندكم، وإذا كان هذا هكذا فقد لزمكم القول بجوع الإله وعطشه ودخول الآفات عليه، وإذا كان ذلك غير سائغ فالمسيح إذاً عبد مربوب ومخلوق مألوه يتأذى بأسباب الأذى ويفتقر إلى تناول الغذاء.

فأما جفاف الشجرة بدعوته فليس في ذلك معتصم في دعوى ربوبيته ولو جاز أن يدعى في المسيح الربوبية بهذه القضية لجاز ذلك لإبراهيم وموسى وإلياس ودانيال وخلق كثير / (1/22/ب) من أصفياء الله، فقد أجيبت لهم دعوات، وأمددهم الله من الملائكة بربوات.

11-

دليل آخر على عبودية المسيح، قال متى:"اجتمع الفريسيون1 والهيروديسيون2 ودسوا على يسوع رجلاً ليصطادوه3 بكلمة، فقال له الرجل: يا معلم، قد علمنا أنك محق، وأن طريق، الله بالحق تعلم، وأنك لا تبالي بأحد ولا تعمل لوجه إنسان، فقل لنا هل نعطي الجزية لقيصر أم لا؟ فعلم يسوع سرّهم وخاف شرّهم، فقال: يا مراؤون إنما جئتم لتجربوني4 أدوا ما لقيصر لقيصر وما لله - لله"5.

قلت: هذه من المسيح عليه السلام حيدة6 عن الجواب وهي مؤذنة بالتقية

1 الفريسيون: كلمة آرامية، ومعناه:"المنعزلون"، ويقلبون أنفسهم بلقب: حسيديم أي: الأتقياء، وكذلك: صيريم، أي: الزملاء، وهم من أبرز الفئات اليهودية وأضيقها رأياً وتعليماً وأشدّها عداء للمسيح وأتباعه، ومن أبرز معتقداتهم: إيمانهم بأسفار العهد القديم وبالتلمود، وإيمانهم بالبعث الدنيوي. ر: الكنْز الجليل في تفسير الإنجيل 1/28، انظر: قاموس الكتاب ص 674، الفكر الديني اليهودي - حسن ظاظا ص 210.

2 هيرودسيون: هم جماعة ليسوا طائفة دينية ولا حزباً سياسياً، بل مجرد أتباع هيرودس الكبير وخلفائه في فلسطين وكان لهم نفوذ واسع. ر: قاموس ص 1012.

3 في ص ليصطادونه والصواب ما أثبته.

4 في ص لتجربونني، والصواب ما أثبته.

5 متى 22/15-21.

6 في ش: الحيدة: الميل للضرورة.

ص: 142

القاضية بضعف البشرية، والحيدة توجد كثيراً في كلام الأنبياء عليهم السلام يستعملونها للضرورة الحاضرة.

وأنا أستحسن قول سيدنا محمّد رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وقد قال له العباس: يا رسول الله، إن أبا طالب كان بارّاً أترجو الله له؟ فقال عليه السلام: "كلّ الخير أرجوه من ربّي"1.

وقوله: "وقد سأله رجل: يا رسول الله، متى الساعة؟ فقال: "ما أعددت لها؟ "، قال: حبّ الله ورسوله. فقال / (1/23/أ) : "أنت مع من أحببت"2.

ولما قال إبراهيم للكافر: ربي الذي يحيي ويميت. قال: يا إبراهيم أنشدك

1 أخرجه ابن سعد 1/124، والذهبي في تاريخ الإسلام السيرة النبوية ص 233، كلاهما من طريق حماد بن سلمة عن ثابت البناني عن إسحاق بن عبد الله بن الحارث قال: قال العباس:

، فذكر.

وذكره السيوطي في الخصائص 1/147، وغزاه لابن عساكر أيضاً.

قلت: رجاله ثقات وهم من رجال الستة. ر: التقريب على الترتيب 1/197، 1/115، 1/58.

وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم: "كلّ الخير أرجوه من ربّي". فهو بيّن في كمال ثقته صلى الله عليه وسلم بربّه عزوجل. وفيه تطييب لنفس عمّه العباس رضي الله عنه، كما أن دفاع أبي طالب في حياته عن النبي صلى الله عليه وسلم وحمايته عن أذى المشركين قد حصل له بذلك خير في الآخرة، كما ورد في الحديث الصحيح عن العباس بن عبد المطلب أنه قال: يا رسول الله، هل نفعتَ أبا طالب بشيء، فإنه كان يحوطك ويغضب لك؟ فقال:"نعم. هو في ضحضاح من النار، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار". أخرجه البخاري. ر: فتح الباري 7/193، ح 3883، ومسلم 1/194. وعن ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"أهون النار عذاباً أبو طالب منتعلاً بنعلين يغلي منهما دماغه". أخرجه مسلم 1/195. والذي تصرّح به هذه الأحاديث الصحيحة وغيرها في أمر أبي طالب هو معتقد أهل السنة والجماعة فيه بعكس الرافضة التي تدّعي موت أبي طالب على الإسلام، وتستدل عليه بأحاديث قال عنها الحافظ ابن حجر: "بأن أسانيدها واهية"، وقد أفاض وأجاد الحافظ ابن حجر في الإصابة 7/112-116، في ترجمة أبي طالب في الرد على شبه الرافضة في دعوى إسلام أبي طالب.

2 أخرجه البخاري في كتاب الأدب باب 96ر: فتح الباري 10/557، ومسلم 3/2032، 2033، عن أنس رضي الله عنه.

ص: 143

الله أأنت رأيته يفعل ذلك؟، {قَالَ إِبْرَاهِيمُ: فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ المَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ المَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} . [سورة البقرة، الآية: 258] .

واعتبر هذا الفصل الذي نقله مَتَّى تجده من كلام الراوي ليس للمسيح منه إلاّ القليل، وهذا حال أكثر الإنجيل، والإنجيل الحقّ هو المأخوذ عن المسيح عليه السلام لا عن غيره.

وما أديص1 قول هذا الراوي [ليصطادوه] 2 بكلمة!! هذا يعتبر سلفهم فما ظنّك بخلفهم؟! أما كان يستطيع أيجعل مكان [ليصطادوه] 3 [ليمتحنوه ويختبروا ما عنده ويقفوا] 4 على حقيقة مذهبه، أين هذا من ألفاظ الكتاب العزيز إذ يقول:{وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيكَ} . [سورة الإسراء، الآية: 73] . {وَإِن كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا

} . [سورة الإسراء، الآية: 76] .

12-

الدلالة على أن التلاميذ لم يكونوا [يعتقدون] 5 في المسيح ما ابتلي به النصارى، قال نقلة الإنجيل: لما كان في أوّل من عيد الفطير جاء التلاميذ إلى يسوع وقالوا له: أين تريد أن تأكل الفصح؟، فقال: اذهبوا إلى فلان فقولوا: يقول لك المعلم: عندك آكل الفصلح مع تلاميذي6.

1 دَاص يديص ديَصَاناً: زاغ، حاد. الدَّائص الدّص ج داصة، والداصة: السفلة لكثرة حلاكتهم. ر: القاموس المحيط ص 800.

2 في ص ليصطادونه، والصواب ما أثبته.

3 في ص ليصطادونه، والصواب ما أثبته.

4 في ص ليمتحنونه ويختبرون ما عنده ويقفون، والصواب ما أثبته.

5 في ص يعتقدوا، والتصويب من المحقِّق.

6 متى 26/17، 18، وذكره أيضاً مرقس 4/12-15، ولوقا 22/7-12.

ص: 144

فَعَرْضُهم/ (1/23/ب) عليه الطعام والعمل بسنة العيد المأخوذة عن موسى، واتباعه أحكام التوراة دليل ظاهر على أنهم لا يفرقون بينه وبين البشر في شيء سوى النبوة، إذ هم يروون عنه في الإنجيل أن الأنبياء كلهم [معلمون] للناس، وهم الذين يروون عنه أن الله لا يأكل ولا يشرب.

وقد شهد فولس الرسول في رسالته الأولى بأن المسيح عبدٌ لله وأن الله مالكه فقال وهو يُسهب في إفادة إخوانه: "إن كل شيء فهو لكم، وأنتم للمسيح والمسيح"1. فأضافه الله بلام التمليك كإضافة الأشياء لملاكها، وقوله: "وأنتم" يريد أنتم له أتباع، وهو يبلغكم عن الله أوامره بطريق السفارة.

فإن قال النصارى: إنما أكل وشرب بناسوته، قلنا: ذلك باطل على رأي اليعقوبية2 القائلين أن الاتّحاد قد أصار طبيعتي المسيح طبيعة واحدة، فإنه لم يبق ناسوت متميّز عن لاهوت حتى يضاف إليه الأكل والشرب، وهو باطل على قول من جعل المسيح درعاً للاهوت أو مسكناً له3. إذ لو تجرد اللاهوت عن ناسوته حال ملابسة هذه النقائص لبطلت ألوهيته وخرج عن كونه مسيحاً / (1/24/أ) فإنه لم تثبت له هذه التسمية إلاّ بعد الاتّحاد في زعمهم.

فقد أقام يسوع بينهم ثلاثين سنة لا يسمى مسيحاً إنما يعرف بيسوع بن يوسف، فمن أضاف الأكل والشرب إلى ناسوته وحده فقد جعله آكلاً شارباً ببعضه، ومن جوّز قبول آلهة للتنصيف، فقد أبان عن عقل سخيف وعقل ضعيف. ألم تسمعوا إلى قول المسيح:"يقول لك المعلم"، سمّى نفسه معلماً لهم؟! وقال لهم في موضع آخر:"ليس لكم معلم سوى المسيح"4. وقد قال في

1 رسالة بولس الأولى إلى أهل كورنثوس 3/22، 23.

2 فرقة من فرق النصارى سيأتي الحديث عنها.

3 هذاالقول على مذهب النسطوريةوهي من فرق النصارىالكبيرة وسيأتي الحديث عنها.

4 متى 23/8، 10.

ص: 145

الإنجيل غير مرة: "إن الأنبياء كلهم [معلمون] 1 لدواب الله"2.

فكيف صرتم تُضربون عما في الإنجيل من دلائل نبوته وتتعلقون بأدنى خيال ف محاولة ربوبيته؟!.

فإن أشكل عليكم لفظ الإنجيل - وليس بمشكل - فارجعا القهقرى إلى التوراة كتاب موسى والأنبياء من بعده، فهل تجدون فيها ما تنتحلونه من عبادة رجل من بني آدم؟! وإنا نجد غير ذلك في التوارة، وقد حذرت من الشرك بالله ومجانبة توحيد الله حتى قالت:"متى سمعتم بذلك في بلد أو قرية فأهلكوا جميع من في تلك القرية / (1/24/ب) والبلد بحد السلاح، ولا ترحموهم، الله ربكم هو إله واحد غيور عظيم مرهوب فاتقوه وخافوه، واحفظوا سنته وأحكامه وأزيلوا الشرّ من بينكم"3.

وكرر ذلك في أسفار التوراة مرة بعد أخرى، فالاعتماد في ذلك على التوراة المقولة بلسان الإجماع عندكم، وذل أولى من الاعتماد على كتاب، إنما نقله أربعة أنفس وفيهم اثنان ليسا من أصحاب المسيح بل من التابعين لهم، فلا جرم لمّا نُقل هذا الكتاب بلفظ الآحاد وقع فيه من الغلط ما ستقفون عليه إن شاء الله في الباب الرابع من هذا الكتاب. وحينئذ تتحققون أنه ليس هو الإنجيل المنَزَّل من عند الله.

1 في ص معلمين والصواب ما أثبته.

2 لم أجد في الأناجيل النص الذي ذكره المؤلف، ولكن ورد في إنجيل يوحنا 6/45، ما يؤدّي نفس المعنى كالآتي:"أنه مكتوب في الأنيباء ويكون الجميع متعلمين من الله". ولعل الناسخ زاد كلمة لداوب في النص الذي أورده المؤلف.

3 خروج 23/23، 24/12-16.

ص: 146

13-

شهادة المسيح على أهل زمانه بالشّكّ في شأنه قال متى: "بينما التلاميذ يأكلون طعاماً مع يسوع قال: كلكم تشكون فِيَّ هذه الليلة؛ لأنه مكتوب أني أضرب الراعي فيفترق الغنم، فقال بطرس: لو شَكَّ جميعهم لم أشك أنا، فقال يسوع: الحقّ أقول لك إنك في هذه الليلة تنكرني قبل أن يصيح الديك"1.

فقد شهد / (1/25/أ) عليهم المسيح بالشّكّ فيه وأن خيارهم وهو بطرس خليفته عليهم من بعده سينكره، وإذا وقع لهم الشّكّ في المسيح في آخر أيامه ومنتهى مدته فقد تخرمت الثقة بأقوالهم، وإذا أنكره مثل بطرس ولم يعرفه بطل جزمهم بأنه قتل وصلب وصحّ قول2 ربنا تعالى:{وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُم وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَاّ اتَّبَاعُ الحَقِّ} . الآية. [سورة النساء، الآية: 157] .

فهذا المسيح عليه السلام قد وافق محمّداً عليهما السلام في أن القوم شاكون فيه، وذلك مبطل لدعوى القتل والصلب.

وقد صرح المسيح في هذا الفصل بحرف لو تأمله النصارى لما عدلوا عن اعتقاد نبوته إلى انتحال بنوته وهو قول المسيح: "إنه مكتوب أني أضرب الراعي"، سمّى نفسه راعياً وهادياً داعياً، وهذا حال الأنبياء عليهم السلام فإنهم يطوقون أعباء السياسة، ويرفقون الأنام بأخلاق الحراسة.

فنحن نسأل النصارى، من هو الضارب؟ ومن هو المضروب؟

1 متى 26/31-34.

2 قول المؤلف: "وصحّ قول ربنا تعالى

"، هو من باب الإلزام وإقامة الحجة على النصارى. وإلاّ فإن كلّ مسلم يعتقد بأن قول الله عزوجل هو الحقّ ووعده الصدق.

ص: 147

فإن زعموا أن الضارب هو الله، والمضروب هو الإنسان فقد وافقوا شريعتنا وخالفوا / (1/25/ب) شريعتهم إذ تقول:"إن المسيح إله لا إنسان".

وإن قالوا: الضارب هو الإنسان والمضروب هو الله، كان هذا قولاً لا يقوله أحد من الحمقاء فضلاً عن العقلاء.

فإن عادوا وقالوا المضروب هو المسيح أعدنا عليهم القول المتقدم، وقلنا: المسيح عندكم ليس آدمياً محضاً ولا إنساناً صرفاً، بل هو مركب بالاتّحاد من إله وإنسان، فقد لزمكم أن يكون الإله مضروباً أيضاً مع الإنسان، فإن راموا تخصيص الناسوت بالضرب لم يتهيأ لهم بعد القول بالاتّحاد، وإن راموا تصحيح الضرب وإضافته وسائر النقائض إلى الناسوت فقد أبطلوا الاتّحاد، وهو المراد.

وإن قالوا: المراد بالمضروب (الابن) وبالضارب (الأب)، قلنا لهم: فالأب والابن عندكم قديمان، فما الذي أصار أحدهما ضارباً والآخر مضورباً بأولى من العكس؟! وإذا كان الابن عندكم عبارة عن الحكمة الأزلية، فما معنى ضرب الله كلمته؟ وإنما تضرب الأجسام، فأما صفات الله القديمة فلا تفارق ذاته الكريمة ولا تقوم بغيره.

وما نرى لروح القدس في أكثر هذه الفصول ذِكراً، فلا ضارب ولا مضروب / (1/26/أ) تعالى الله عن هذيانكم هذا علوّاً كبيراً.

14-

صلاة المسيح وتعبده واجتهاده في الطاعة وتهجده، قال متى: "جاء المسيح مع تلاميذه إلى قرية تدعى جسمانية1 فقال لهم: امكثوا هاهنا حتى أصلي هناك. ثم أخذ يحزن ويكتئب، وقال: إن نفسي حزينة حتى الموت. ثم قال لبطرس وابني زيدي: اسهروا معي هذه الليلة. ثم خَرَّ على وجهه يصلي

1 ورد في النص جشسيمَاني: وهي كلمة آرامية معناها: معصرة الزيت ويقع شرق أورشليم، وهو الآن مكان مقدس عند النصارى؛ لأنه مكان ألم المسيح وتسليمه والقبض عليه فيما زعموا. ر: قاموس ص 249، بتخليص.

ص: 148

ويقول: يا [أبتاه] 1 إن كان يستطاع فَلْتَعْبُر عني هذا الكأس، وليس كإرادتي لكن كإرادتك، ثم جاء إلى تلاميذه فوجدهم نياماً، فقال لهم: ما قدرتم أن تسهروا معي ساعة واحدة، ثم مضى وصلى وقال: يا [أبتاه] 2 إن لم تستطع أن تعبر عني هذا الكأس حتى أشربها فليكن مسَّرتك، وجاء أيضاً فوجدهم نياماً فتركهم ومضى يصلي وأعاد كلامه الأوّل"3.

قلت: انظروا معاشر الضلال ودعاة الضلال، هل تليق هذه الخلال بصفات ذي الجلال؟!.

لو لم يكن في إنجيلكم سوى هذا الفصل لكان قائداً للعميان، سائقاً إلى غير دين النصرانية من الأديان، إذ كان وما شاكله من أوضح الأدلة على ضعف البشرية وعجز العبودية، / (1/26/ب) فسبحان من بخس النصارى عقولهم وأظلم سبلهم وأعمى دليلهم، أين هذا مما روى "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين احتضر جعل يقول: الرفيق الأعلى"! 4. فأنبياء الله بل صلحاء الناس محاشون عن هذا التردّد حال الانتقال.

وهذه التوراة تشهد باحتضار طائفة من أولياء الله كإبراهيم وإسحاق ويعقوب وهارون وموسى وغيرهم، وهم راضون بلقاء ربّهم، فرحون بانقلابهم إلى [شَعُوبهم] 5 فنحن نوَرِّك6 على من نقل هذا التردد القبيح عن السيد المسيح.

1 في ص به، والتصويب من النصّ.

2 في ص به، والتصويب من النصّ.

3 متى 26/36-44.

4 أخرجه البخاري في كتاب الصحابة يباب 5. ر: فتح الباري 7/20، 10/127، ومسلم4/1894،والترمذي15/491، وأحمد 6/274، عن عائشة رضي الله عنها.

5 في ص شعهم وما أثبته الموافق للسياق. ومعناها: منيتهم وموتهم، حيث اشتق من التفريق. شَعَب اسم المنية شعوب على وزن رسول. لأنها تفرق الخلائق وصار علماً عليها غير منصرف. ر: المصباح المنير ص 313.

6 ورّكه توريكاً: أوجبه والذنب عليه حمله. ر: القاموس المحيط ص 1235.

ص: 149

وفي هذا الفصل حرف يقطع بانحرافه وتحريفه وهو قوله: "إن لم تستطع أن تَعْبُر عني هذا الكأس". ثكلت لافظه أمه، لقد عجَّز قادراً، وسلك طريقاً عن الجَدَد1 نادراً، كيف يعجز القادر على الإطلاق، ويبخل من بيده مفاتيح أقفال الأرزاق؟!.

فنحن نسأل النصارى، ما سبب هذا الحزن والاكتئاب؟! هل يعدو أن يكون إما جزعاً من الموت أو أسفاً على بقاء الناس على الكفر؟! وأَيُّ ذلك كان فقد تحقق عجزه فلا يصلح مَنْ هذا حاله للربوبية.

ثم نقول لهم: ألم تنقلوا عنه أنه إنما جاء ليُخلِّص الخلق ويفديهم / (1/27/أ) بدمه الكريم من الجحيم؟ وإذا كان الأمر على ما زعمتم فلا معنى لحزنه ولا اكتئابه.

وفي الفصل أيضاً ما يفسد عليهم ما لفقوه في شريعة إيمانهم، وهو قوله: (وليس كإرادتي لكن كإرادتك" [فصرَّح] 2 بأن إرادته مغايرة لإرادة الله تعالى، وإذا كانت إرادته غير إرادة الله بطل قولهم في الأمانة: "المسيح إله حقٌّ من حقّ إله حق من جوهر أبيه".

فإن صححوا الأمانة أكذبوا الإنجيل، وإن صححوا الإنجيل أفسدوا الأمانة، إذ لو كان من جوهر الأب لكانت إرادته من جوهر إرادته، وهم يطلقون على الباري لفظ الجوهر تعالى الله عن كفرهم علوّاً كبيراً.

15-

دليل آخر على عبودية المسيح، قال لوقا: "ورد أمر قيصر بتدوين الناس، فمضى يوسف ومريم وهي حامل بالمسيح ليكتتبا مع الناس فضربها

1 في ش: أي: عن الطرق.

2 في ص مسرح، والتصويب من المحقِّق.

ص: 150

الطَّلَق فولدته ولفته في الخرق وتركته في مذود حيث نزلاً، فلما تمت له ثمانية أيام سمّوه يسوعاً ولما أكملوا أيام تطهيرهم أقاموه ليقربوا عنه زَوْجَيْ يمام أو فرخي حمام كَسُنَّة الناموس"1.

قلت: هذه أحوال البشرية في تنقلها من / (1/27/ب) الاختتان إلى الرضاع إلى الطفولية ويتعالى ربّ الأرباب أن تحويه معالف الدواب، بل لا تحويه الأقطار ولا يحده المقدار، ولا تحيط به الجهات ولا تكتنفه الأرضون ولا السماوات2.

قال لوقا: "ولما أكملوا سنَّتهم على مقتضى ناموس الربّ رجعوا إلى الجليل إلى بلدهم الناصرة فكان الصبي ينشأ ويصفو بالروح ويمتلئ بالحكمة، وكانت نعمة الله عليه وأبواه يمضيان به في كل سنة إلى عيد الفصح، ولما تمت له اثنتا عشرة سنة مضوا به إلى ارشليم كالعادة، فلما رجعوا تخلف عنهم يسوع في أورشليم ولم يعلموا به وسارا وهما يحسبانه مع الرفقة فلما لم يجداه رجعا إلى أورشليم فوجداه في الهيكل بين العلماء والشيوخ يباحثهم ويسمع منهم فأخذاه وانصرفا وكان يطيعهما"3.

قلت: هذا الكلام والذي قبله يشير إلى تقيد المسيح بشريعة موسى عليهما السلام، وأنه وغير شرع في الشرع، ورتبة التابع دون رتبة المتبوع وفي ذلك دلالة على عبوديته، فأما اعتقاد الربوبية في صبي يتعلم أحكام / (1/28/أ) التوراة ويسأل اليهود عما أشكل عليه منها فذلك عين الجنون، وهذا لوقا أَحدُ مُدَوَّني الإنجيل يشهد بأن المسيح عبد من عباد الله، وأنه صبي منت صبيان بني آدم، وأنه كان يتَزيد مواقع النعمة من الله شيئاً فشيئاً ويتعلم العلم ويسأل عما جهل ويستفيد

1 لوقا 2/1-24، في سياق طويل وقد ذكره المؤلف مختصراً.

2 قال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} . [سورة الزمر، الآية: 67] .

3 لوقا 2/39-51، في سياق طويل ذكره المؤلف مختصراً.

ص: 151

ممن هو أعلم منه، ويخبركم أن الله معطيه ومنعم عليه، فكيف لم ترضوا له ما وصفه به لوقا من صفته؟ أأنتم أعلم بما يجب له من لوقا؟! ألم تسمعوا إلى قوله:"وأبواه يمضيان به كلّ سنة إلى أورشليم". ألا يعجبوا من جلوسه بين العلماء للاستفادة والتعليم؟ فالنجاء النجاء من وبال هذا المذهب الذميم، والوحا الوحا1 في حلّ عقد هذا التصميم.

16-

دليل آخر على عبودية المسيح وضعفه وافتقاره إلى خالقه وتبرئه ممّا يدّعيه النصارى فيه، قال لوقا:"قال رجل ليسوع: أتبعك إلى حيث تمضي يا سيد، فقال له يسوع: للثعالب أجحار ولطيور السماء أوكار، وابن الإنسان فليس له موضع يسند رأسه"2.

قلت: الزهد شعار الأنبياء ودثار المتقين ونعت المؤقنين، يفرغ القلب منت الهموم / (1/28/ب) ويقشع عن الفكر غيوم الغمون، ويعرب عن قوة الإيمان والوثوق بضمان الرحمن، اشتغل المسيح بالزهد والنسك وتفرغ لخدمة ربه فرفض الملك، ورضي فقره فسكن الفقر3 وحقّق صبره، فتوسد الحجر وافترش العفر4. فكيف تعبد النصارى من لا يحوي مسقط رأسه فقراً؟! وتأمل من لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً.

وإذ قد رووا عن الصادق المسيح أنه ليس موضع يسند رأسه، ورووا عنه أنه لا صالح إلاّ الله وحده، وحكوا عنه أنه قال: إنّ الله الإله الحقّ وحده، وأخبروا عنه أنه صام وصلى وانقطع لعبادة ربه وتخلَّى، فقد أكذبوا الأمانة التي

1 الوحا: السرعة. يمد ويقصر، ويقال:"الوحا الوحا"، أي: البدار البدار. ر: مختار الصحاح ص 713.

2 لوقا 9/57، 58.

3 القفر: مغازة لا نبات فيها ولا ماء، والجمع: قفار. ر: مختار الصحاح ص 545.

4 العفر: التراب. المرجع السّابق، ص:441.

ص: 152

ألفها قدماؤهم إذ تقول: "إن المسيح إله حقّ وأنه خالق كلّ شيء وأن بيديه أتقنت العوالم". وتعيَّن عليهم العمل بمقتضى قول المسيح وفتاوى تلاميذه الأبرار، وشهادة الأنبياء الذين تقدموه مثل: موسى، وداود. "فقد قال المسيح ورفع وجهه إلى السماء: إلهي أنت الإله الحقّ الذي أرسلت يسوع المسيح"1.

وقال موسى في التوراة: "لا إله إلاّ إلهنا إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب الرّبّ الأزلي الذي لم يزل"2.

وقال داود في مزموره3: "إن الله أقسم / (1/29/أ) إن المسيح رجل كاهن يشبه في عبادته وتقواه ملكي صادق". الكاهن الذي كان يخدم البيت المقدس على عهد إبراهيم4.

17-

وقال سمعون الصفا رئيس الحواريين: "إن المسيح رجل أظهره الله بالأيد والقوة والمعجزات"5. وقال المسيح: "إنه لا يقدر على عمل شيء

1 يوحنا 17/1، 3.

2 خروج 3/15.

3 مزمور 110/4.

4 ملكي صادق: اسم سامي معناه: ملك البر، وتزعم المصادر اليهودية، بأنه كان ملك أورشيلم وكاهن الله العلي، وكان معاصر لإبراهيم عليه السلام الذي باركه ملكي صادق، وأعطاه إبراهيم زكاة العشر. أما المصادر النصرانية فتصفه بأنه بلا أب ولا أم وبلا نسب. ولا بداءة أيام له ولا نهاية حياة بل هو مشبه بابن الله ويبقى كاهناً إلى الأبد. ر: تكوين14/18-20، السنن القويم1/50،الرسالة إلى العبرانيين 7/1-4، قاموس ص 922.

قلت: وهذا غلوٌّ ممقوتٌُ من أهل الكتاب في وصفهم ملكي صادق بهذه الصفات المستحيلة عليه؛ لأنه ليس هناك من هو بلا أب وبلا أم إلاّ آدم عليه السلام، ولا بُدّ لكل مخلوق من أن تكون له بداية ونهاية. وأما قول المؤلّف رحمه الله:"بأن ملكي صادق كأن يخدم البيت المقدس"، فمناه: بأنه كان ملكاً على أورشليم.

5 سفر أعمال الرسل 2/22.

ص: 153

ولا يتفكر فيه حتى يكون الله هو الذي يعمله"1. وسئل عن القيامة، فقال: "لا يعرفها إلاّ الله وحده"2.

وهذه أقوال دالة وروايات متظاهرة على أن المسيح عبد مربوب، وأن له رباً يضرع إليه، ويعول في مصادره وموارده عليه لا إله غيره ولا رب سواه.

فهلموا معشر النصارى إلى عبادة ذي الجلال، وقدسوا القديم عن تشبيهه بالرجال، واستحيوا من ذوي الحجى أن تعبدوا إنساناً قد حملت به أمه كما تحمل النساء بالأجنة، وترددت عليه أطوار الخلق وتنقلت به الحال إلى أن ناهز الثلاثين من السنين، ينسب إلى أُبوَّة يوسف مرة وداود أخرى، يتغذى بالطعام ويتردد بين الأنام، ثم تعتوره عوارض الحيوان فيعافى ويكرب، ويحزن ويطرب، ويعيا فيركب، ويستريح ويتعب، ويجوع ويعطش،/ (1/29/ب) فيأكل ويشرب، ويستتر من عدوّه ويطلب، ويقرن باللصوص كما زعمتم ويسحب، ويحمل صليبه فيقتل بقولكم ويصلب، ويدفن في المقابر فيبكى عليه ويندب، وقولوا بنا جميعاً كما قال المسيح في الإنجيل:"لِلرّبِّ إِلَاهِكَ اسجد وله وحده اعبد"3. قصم بذلك ظهر الخبيث وفصم عرى أهل التثليث وأثبت لربه الوحدة، وسجد لله وحده، ولم يعبد إلهين اثنين، ولا ثالث ثلاثة، ولا رأى ادِّراع ولا أقسم بالذراع، ولا اعتقد اتّحاد اللاهوت بالناسوت، ولا أقسم بصليب الصلبوت، ولا عظَّم الصّور والصلبان، ولا نطق بقولكم (كُرْياليصان) 4 بل عبد الله،

1 يوحنا 5/9، 8/28، بالمعنى.

2 مرقص 17/32.

3 متى 4/10.

4 كلمة كرياليصون: اصطلاح يوناني معناه: يا ربّ ارحم، يتلى في القداس وفي صلوات عديدة بصيغته اليونانية في الكنيستين: الشرقية والغربية على السواء، وبهذه الكلمة يستفتحون بها صلواتهم وأدعيتهم. ر: ترانيم ومدائح منتخبة للكنيسة القبطية، كتاب: قائمة المصطلحات الكنسية في العربية، ص 49، باللغة الألمانية جورج غراف، الموسوعة العربية 2/1458.

ص: 154

ودعا إليه وعول فيما يأتيه ويدره عليه، قال الله تعالى في الإنجيل:"هذا فتاي" سمّاه عبداً وسمّيتموه ربّاً، وقال:"هذا رسولي"، سمّاه نبيّاً وجعلتموه أنتم إلهاً، وقال المسيح:"لا أعمل بمشيئتي" وقلتم إنه خالق كل شيء حتى كأنكم قد تتابعتم على خلافه بدليل أو تبايعتم على رفضه برهن ثقيل، فاستدركوا الغلط واهجروا الهُجر اللغط وتعلقوا بذمام قول الإسلام:{مَا المَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأَمُّه1 صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ} . [سورة المائدة، الآية: 75] . ولا تغلوا في دينكم بغير دليل، واعتقدوا عبودية المسيح كما نطق به الإنجيل.

18-

دليل آخر على عبودية المسيح ومساواته البشر، قال مرقس في إنجيله:"قال يسوع: إن نفسي حزينة حتى الموت، ثم خرّ على وجهه يصلي لله وقال: أيها الأب كلّ شيء بقدرتك، أخّر عني هذا الكأس لكن كما تريد لا كما أريد أنا"2. فها هو سائل والله مسؤول. وأي عبودية تزيد على هذا؟!

19-

دليل آخر على عبوديته، قال يوحنا:"وقف يسوع على بئر من آبار [السامرة] 3 فقالت: له امرأة من نسل يعقوب: إن آبائنا سجدوا في هذا الجبل وأنتم تقولون إنه أورشليم؟! فقال لها يسوع: أنتم تسجدون لمن لا تعلمون ونحن نسجد لمن نعلم"4.

قلت: هذا يوحنا التلميذ حبيب المسيح يشهد على المسيح أنه معترف بربّ لا تجزئه العبادة لغيره ولا تنبغي الربوبية لسواه سبحانه، ولو كان الأمر على ما

1 / 1/30/أ.

2 مرقس 14/34-36.

3 في ص: السمرة، والتصويب من النصّ. والسامرة: اسم عبراني معناه: مركز الحارس، وهي اسم المملكة الشمالية مملكة إسرائيل التي أقامتها الأسباط العشرة من بني إسرائيل، ويضم إقليم السامرة وسط فلسطين ويقع بين الجليل في الشمال واليهودية في الجنوب. قاموس الكتاب ص 448، 449.

4 يوحنا 4/19-22.

ص: 155

يهتف به النصارى لأرشدها، وقال: اضربي عن معتقد أسلافك العواة واسجدي لي ولأبي وروح القدس، فإني ثلث الإله، كلا ولكنه / (1/31/أ) أخبره أنه عبد مذلَّلٌ تحت رقّ العبودية وأنه يسجد لله مستحق الربوية.

وأعلم أن المسيح قد كان يصلي إلى أورشليم1 وهي البيت المقدس قبلة الأنبياء قبله، ولم يزل يتوجه إليها مدة مقامه إلى حين رفع فكان مما أحدث النصارى بعده الصلاة إلى جهة الشرق، وتركوا القبلة التي كان المسيح يتوجه إليها. فإذا عيب عليهم ذلك اعتذروا بأن صاحبهم صلب إلى تلك الجهة، قالوا: فتعين علينا التوجه إلى حيث صلب2.

فيقال لهم: أرأيتم لو صلب إلى جهة المغرب أوصلب منكساً إلى أسفل ماذا كنتم تصنعون؟ وإذ تركتم قبلة المسيح والأنبياء وحسن عندكم خلافه فهلا توجهتم إلى الناصرة3 التي هي بلد ربكم أو إلى مصر التي هرب إليها بزعمكم خوف القتل، وتعلقتم بشبهتين من الإنجيل: إحداهما: قوله: "إنه كتب أن يدعى المسيح ناصرياً"4. والأخرى قوله: "من مصر دعوت ابني"5.

1 أورشليم: معناه: أساس السلام، وكانت تسمى يبوس وأريئيل، وأما بالعربية فتسمى بيت المقدس والقدس الشريف، والقدس. ر: قاموس ص 129. وهي مدينة مقدسة منذ عصر إبراهيم عليه السلام. قال تعالى: {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطاً إِلَى الأرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} . [سورة الأنبياء، الآية: 71] . قال أبي بن كعب، وقتادة وغيرهما: إنها أرض الشام. ر: تفسير ابن كثير 3/194.

2 ذكر ذلك القاضي عبد الجبار المعتزلي في كتابه: تثبيت دلائل النبوة 1/197، وابن القيم في: هداية الحياري ص 264.

3 الناصرة: اسم عبري ربما كان معناه: القضيب أو المحروسة، وهي مدينة في الجليل في شمال فلسطين إليها ينسب المسيح يسوع الناصري كما ورد في الأناجيل، فهي قرية أمه، وفيها نشأ المسيح في صغره، وإليها ينسب النصارى ودينهم النصرانية. ر: قاموس ص 946، المنجد في الأعلام ص 704.

4 متى 2/32.

5 متى 2/15.

ص: 156

فكيف تركتم هاتين الجهتين ولكم فيهما مستمسك وتوجهتم إلى جهة ارتضاها اليهود الملاعنين للتنكيل بإلهكم كما زعمتم؟!.

ولو كنتم ذوي نظر وعبر لكانت هذه الجهة حرية عندكم بالمقت / (1/31/أ) فإنها الجهة التي هلك فيها معبودكم وقبلت دم ربّكم.

وأخبرونا عن توجه هذا المصلوب إلى هذه الجهة أكان في ذلك طائعاً أو كارهاً؟! فإن كان كارهاً لم يكن لكم أن تصلوا إلى جهةٍ لم يخترها صاحبكم ولم يرضها وإنما حُمِل عليها مجبراً، وإن كان قد توجه إليها طائعاً راضياً، فَلِمَ [تلعنون] 1 اليهود الذين صلبوه [وتكفرونهم] 2 والذي فعلوه به إعانة له ومساهمة في حصول محبوبه وقرة عينه، ولاسيما أنهم نهجوا لكم قبلة تصلّون إليها؟! فتحننوا الآن على اليهود وتبركوا بهم إذاً، إذ كانوا قد فعلوا ما هو قرّة عينكم وعين صاحبكم.

وكذلك يهوذا الإسخريوطي3 الذي ارتشى عليه وألقاه في أيدي اليهود حتى قتلوه وصلبوه بزعمكم فصلّوا عليه وترحموا وتبركوا باسمه وصَوِّبُوا فعله، فإنه صار وسيلة إلا خلاصكم، وإذ قلتم: إن أسلافكم في دركات النيران ولا خلاص لهم من ذلك إلاّ بقتل ربكم، وإنما قتل وصلب بدلالته وبركة سفارته

1 في ص تلعنوا، والصواب ما أثبته.

2 في ص وتكفروهم، والصواب ما أثبته.

3 يهوذا: اسم عبري، معناه: حمد، ولقب بالإسخريوطي تمييزاً له عن يهوذا آخر، وكان أحد الحواريين الاثني عشر، وأميناً للصندوق، وبرغم ذلك فقد خان يهوذا المسيح ووشى بمكانه لليهود مقابل ثلاثين مثقالاً من الفضة، ثم قيل: بأنه خنق نفسه شنقاً ندماً على خيانته. ر: متى إصحاح 27، قاموس الكتاب ص 1089-1091. وقد ورد أن الله عاقبه على خيانته فألقى شبه المسيح على يهوذا فقبض الحراس عليه، ثم قتلوه صلباً بدلاً من المسيح الحقيقي الذي نجّاه الله عزوجل ورفعه إليه. ر: إنجيل برنابا إصحاح 215، 216.

ص: 157

وليس في النصارى - يرحمك الله - / (1/31/ب) من يُقِلُّ اللعن عن اليهود أو يقدر يسمع باسم الإسخريوطي، وهذه المؤاخذات واردة على الأصل الفاسد الذي أَصَّلوه، فإن أَبَوْا إلاّ لعن اليهود ومقت يهوذا فليتطيَّروا بجهة المشرق لكونها عَمَّتْهم بالشر وسقتهم بالكأس المرّ، وإلاّ فكيف يذمّ اليهود وتمدح الجهة وكلاهما مشؤوم؟! وما أحسن لعن [إله] 1 تقتله اليهود، [ورب] 2 تغلبه إخوان القرود.

20-

دليل آخر على عبوديته وحدثه وأنه آدمي محض وإنسان صرف: اعلم أوّلاً أن تعاقب الأحوال من التغير والزوال والتفريغ والإشغال، والسكون والحركات والاختصاص بالمقادير والهيئات، هي الأدلة على حدث أجسام العالم.

ولا خلاف بين النصارى أن المسيح عليه السلام ولدته أمه في بيت لحم في أرض يهوذا ولفتة ووضعته في الخرق في معلف وأرضعته ثديها وأفرشته حجرها وتولت تأديبه ونشأ نشوء الآدميين، لم يتميّز عنهم في حال من الأحوال من صغره إلى حين ابتداء الدعوة، قد عُرف طوله وقدره ولونه وكميته واعتذى بالطعام وانتقل من مكان إلى مكان ونحن نعلم / (1/32/أ) أنه كان إذا نزل أورشليم فقد فارق الناصرة، وإذا أقام بالناصرة فقد خلت منه أورشليم، وأنه ولد في دولة هيرودس ملك اليهودية، وأن مريم فرت به إلى مصر خوفاً من هيرودس ثم أعادته إلى الشام حين هلك أعداؤه، وأنه عاش نيفاً وثلاثين سنة يتعلم العلم ويقرأ التوراة ونبوات الأنبياء ويركب الحمير ويزجي3 الأوقات من الأقوات باليسير الحقير ويلجأ إلى الله في حوائجه ومآربه. ويدعوه إذا أعوزته وجوه

1 في ص إلهاً وما أثبته الموافق لقواعد النحو.

2 في ص ورباً، وما أثبته الموافق لقواعد النحو.

3 زَجَّى الشيء: دفعه برفق، يقال: كيف تُزَجِّي الأيام؟ أي: كيف تدافعها، وتَزَجَّى بكذا: اكتفى به. ر: مختار الصحاح ص 269.

ص: 158

مطالبه، ويفرح ويغتم ويلبس ويعتم، ويفرّ من السلطان ويناظر الشيطان.

وإذا كان حال المسيح على ما وصفنا فقد ثبت أنه مخلوق ومحدث، وعبد، وأن الله إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب هو خالقه ومحدثه، فإن تحامق النصارى فزعموا أنه هو الله أو صفة من صفاته، أو أن الله ساكن فيه وحال في إهابه، فقد حكموا أن القديم الأزلي ولدته امرأة، وخرج من فرجها، ولفته في الخرق، وألقته في مذود ثور، وسقته ثديها وقومته بتأديبها، وهربت به من خوف من يقصده من الأعداء وعلَمته وهذّبته / (1/32/ب) . وأنه كان يتردد إلى اليهود، يتعلم منهم وأن الله الأزلي كان له إلهاً يدعوه ويرجوه، وهذا كلّه لازم للنصارى على الأصل الذي أصلوه، وإذا كان ذلك محالاً فقد ثبت بما قدمناه أن المسيح عبد من عباد الله بقوله وفتواه.

ص: 159