المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الباب الثالث: في تأويل ظواهر الإنجيل - تخجيل من حرف التوراة والإنجيل - جـ ١

[صالح الجعفري]

الفصل: ‌الباب الثالث: في تأويل ظواهر الإنجيل

‌الباب الثّالث: في تأويل ظواهر الإنجيل

/ (1/77/ب) اعلم - رحمك الله - أنه إنما دخل الخلل على النصارى وغيرهم ممن بضاعته من المعقول مزجاة، ومن جهلهم بمقتضيات الألفاظ وعدم المعرفة بوجوه الكلام ولقصور أفهامهم هابوا تأويل الظواهر فلم يحملوها على بعض محتملاتها بالدليل، وليس ذلك صواباً، بل ينبغي حراسة ما دَلَّ عليه دليل العقل الذي لا احتمال فيه، فإذا ورد لفظ عرض ظاهره على ما ضبطه دليل العقل، فإن لم يَنْبُ عنه استعمل الظاهر من اللفظ ولم يتأول، وإن نبا عنه طُلب له [وجه] 1 يحمل عليه ما يحتمله ليجمع بين اللفظ وبين مقتضى العقل2، إذ الشرع لا

1 في ص (وجها) ولعل الصواب ما أثبته.

2 كان الأولى بالمؤلِّف في ردّه على النصارى في هذا الباب أن يستفتحه ببيان حقيقة الأناجيل وألفاظها: فإن أناجيل النصارى ليست قطعية الثبوت والدلالة، بل هي ظنية إن لم تكن منتفية عنها. وذلك بنص القرآن الكريم في أخباره بتحريف أهل الكتاب لما أنْزَل عليهم، ولما ثبت من وجود التناقض والاختلاف في الأناجيل وعدم السند المتصل المتواتر لكتبهم، واعتراف بعض أحبارهم بكل ذلك كما سنبيّنه في الباب الرابع إن شاء الله تعالى.

وعلى فرض التسليم الجدلي لهم بصحة أناجيلهم وفيها تلك الألفاظ التي زل فيها النصارى وهي - الأبّ والرّبّ والإله والابن - فإننا نجد لها تأويلاً (أي: تفسيراً) لمعانيها الصحيحة من نصوص كتبهم المقدسة لديهم - حيث إن الكتاب الواحد يفسر بعضه بعضاً - وما يمكن أن تحمل عليه من المعاني الصحيحة بحسب سياق الكلام وبما يناسب إطلاقها عليه. فإن ألفاظ: (الإله والرّبّ) إذا أطلقت على الله فإنها تحمل على حقيقتها وما يستلزمه مقام الربوبية والألوهية من التعظيم والتنْزِيه والتفرد.

وإذا ما أضيفت إلى المخلوقين وأطلقت عليهم فإنه يراد بها التكريم والتفخيم والتدبر والرعاية والتعليم بحسب ما يناسب مقام العبودية والبشرية.

وكذلك لفظة: (الابن) إذا ما أضيفت إلى الله عزوجل فإنها لا تعني بنوة الولادة أو الانفصال عن الله عزوجل - كما توهمه النصارى - حيث لم ينفرد المسيح بإطلاقها عليه، بل شاركه فيها غيره من الأنبياء والصالحين في التوراة والإنجيل - ممن لم يدع أحد فيه الألوهية فإنها تعني حينئذٍِ بنوة الطاعة والمحبة.

أما قول المؤلِّف: "فإذا ورد لفظ

الخ"، فهو نفس القانون الكليّ في التعارض بين الأدلة النقلية والعقلية الذي توهمه الرازي في كتابه:(أساس التقديس ص 172)، وقد سبقه إليه طائفة من أئمة الأشعرية منهم: أبو حامد الغزالي وابن العربي والجويني والباقلاني. (ر: المواقف للأيجي ص 39، وأصول الدين للبغدادي ص 12) .

وقد أبطل الإمام ابن تيمية قانونهم الكلّي في كتابه: "درء تعارض العقل والنقل"، حيث قال: "ومثل هذا القانون الذي وضعه هؤلاء يضع كلّ فريق لأنفسهم قانوناً فيما جاءت به الأنبياء عن الله، فيجعلون الأصل الذي يعتقدونه ويعتمدونه هو ما ظنوا أن عقولهم عرفته، ويجعلون ما جاءت به الأنبياء تبعاً له، فما وافق قانونهم قبلوه، وما خالفه لم يتبعوه. وهذا يشبه ما وضعته النصارى من أمانتهم التي جعلوها عقيدة إيمانهم وردّوا نصوص التوراة والإنجيل إليها، لكن تلك الأمانة اعتمدوا فيها على ما فهموه من نصوص الأنبياء أو ما بلغهم عنهم، وغلطوا في الفهم أو في تصديق الناقل كسائر الغالطين، فمن يحتج بالسمعيات فإن غلطه إما في الإسناد وإما في المتن.

وأما هؤلاء فوضعوا قوانينهم على ما رأوه بعقولهم وقد غلطوا في الرأي والعقل، فالنصارى أقرب إلى تعظيم الأنبياء والرسل من هؤلاء. ثم ذكر الإمام ابن تيمية جوابين في الرّدّ على قانونهم: جواب إجمالي وتفصيلي:

أما الإجمالي فيقول: والكلام على هذه الجملة بني على بيان ما في مقدمتها من التلبيس فإنها مبنية على مقدمات - أوّلها - ثبوت تعارضهما - والثانية - انحصار التقسيم فيما ذكروه من الأقسام الأربعة - والثالثة - بطلان الأقسام الثلاثة.

والمقدمات الثلاثة باطلة، وبيان ذلك بأصل وهو: أن يقال: إذا قيل: تعارض دليلان - سواء كانا سمعيين أو عقلين، أو أحدهما سمعياً والآخر عقلياً - فالجواب أن يقال: لا يخلو إما أن يكونا قطعيين أو يكونا ظنيين. وأما أن يكون أحدهما قطيعاً والآخر ظنياً. فأما القطعيان فلا يجوز تعارضهما، وهذا متّفق عليه بين العقلاء؛ لأن الدليل القطعي هو الذي يجب ثبوت مدلوله ولا يمكن أن تكون دلالته باطلة.

وحينئذٍ فلو تعارض دليلان قطعيان وأحدهما يناقض مدلول الآخر، للزم الجمع بين النقيضين وهو محال. وإن كان أحد الدليلين المتعارضين قطعياً دون الآخر، فإنه يجب تقديمه باتّفاق العقلاء، سواء كان هو السمعي أو العقلي فإن الظنّ لا يرفع اليقين.

وأما إن كان جميعاً ظنيّين فإنه يصار إلى طلب ترجيح أحدهما، فأيهما ترجح كان هو المقدم سواء كان سمعياً أو عقليّاً.

فتبيّن أن كل ما قام عليه دليل قطعي سمعي يمتنع أن يعارضه قطعي عقلي، ومثل هذا الغلط - أي: القانون السابق - يقع فيه كثير من الناس، يقدِّرون تقديراً يلزم منه لوازم فيثبتون تلك اللوازم ولا يهتدون لكون ذلك التقدير ممتنعاً، والتقدير الممتنع قد يلزمه لوازم ممتنعة كما في قوله تعالى:{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا} . [سورة الأنبياء، الآية: 22 [. اهـ.

(ر: درء تعارض العقل والنقل 1/4-7، 78-81، بتصرف يسير) .

وأما الجواب التفصيلي فقد شغل معظم أجزاء الكتاب الذي يقع في عشرة أجزاء بتحقيق د. محمّد رشاد سالم.

مما سبق يتبيّن لنا فساد ما ذكره المؤلِّف - عفا الله عنه وعنا - في مقدمة الباب الثالث؛ فإن الباطل لا يرد بباطل مثله. كما أنه يستلزم أن يتسلط النصارى على المسلمين بهذا القانون الكليّ الفاسد فيطالبون بتأويل ما ورد في القرآن الكريم والسنة من الألفاظ الشرعية كالصلاة والزكاة ونحوه بحملها على ظواهرها اللغوية ونفي معانيها الشرعية، وغير ذلك من الأمور التي تلزم قانونهم الفاسد.

ص: 241

يرد بخلاف ما يقتضيه العقل.

فإذا عرفت هذا فاعلم أن الألفاظ التي زلوا فيها وقدروها نصوصا وليست

وهذا يشبه ما وضعته النصارى من أمانتهم التي جعلوها عقيدة إيمانهم وردّوا نصوص التوراة والإنجيل إليها، لكن تلك الأمانة اعتمدوا فيها على ما فهموه من نصوص الأنبياء أو ما بلغهم عنهم، وغلطوا في الفهم أو في تصديق الناقل كسائر الغالطين، فمن يحتج بالسمعيات فإن غلطه إما في الإسناد وإما في المتن.

وأما هؤلاء فوضعوا قوانينهم على ما رأوه بعقولهم وقد غلطوا في الرأي والعقل، فالنصارى أقرب إلى تعظيم الأنبياء والرسل من هؤلاء. ثم ذكر الإمام ابن تيمية جوابين في الرّدّ على قانونهم: جواب إجمالي وتفصيلي:

أما الإجمالي فيقول: والكلام على هذه الجملة بني على بيان ما في مقدمتها من التلبيس فإنها مبنية على مقدمات - أوّلها - ثبوت تعارضهما - والثانية - انحصار التقسيم فيما ذكروه من الأقسام الأربعة - والثالثة - بطلان الأقسام الثلاثة.

والمقدمات الثلاثة باطلة، وبيان ذلك بأصل وهو: أن يقال: إذا قيل: تعارض دليلان - سواء كانا سمعيين أو عقلين، أو أحدهما سمعياً والآخر عقلياً - فالجواب أن يقال: لا يخلو إما أن يكونا قطعيين أو يكونا ظنيين. وأما أن يكون أحدهما قطيعاً والآخر ظنياً. فأما القطعيان فلا يجوز تعارضهما، وهذا متّفق عليه بين العقلاء؛ لأن الدليل القطعي هو الذي يجب ثبوت مدلوله ولا يمكن أن تكون دلالته باطلة.

وحينئذٍ فلو تعارض دليلان قطعيان وأحدهما يناقض مدلول الآخر، للزم الجمع بين النقيضين وهو محال. وإن كان أحد الدليلين المتعارضين قطعياً دون الآخر، فإنه يجب تقديمه باتّفاق العقلاء، سواء كان هو السمعي أو العقلي فإن الظنّ لا يرفع اليقين.

وأما إن كان جميعاً ظنيّين فإنه يصار إلى طلب ترجيح أحدهما، فأيهما ترجح كان هو المقدم سواء كان سمعياً أو عقليّاً.

فتبيّن أن كل ما قام عليه دليل قطعي سمعي يمتنع أن يعارضه قطعي عقلي، ومثل هذا الغلط - أي: القانون السابق - يقع فيه كثير من الناس، يقدِّرون تقديراً يلزم منه لوازم فيثبتون تلك اللوازم ولا يهتدون لكون ذلك التقدير ممتنعاً، والتقدير الممتنع قد يلزمه لوازم ممتنعة كما في قوله تعالى:{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا} . [سورة الأنبياء، الآية: 22 [. اهـ.

(ر: درء تعارض العقل والنقل 1/4-7، 78-81، بتصرف يسير) .

وأما الجواب التفصيلي فقد شغل معظم أجزاء الكتاب الذي يقع في عشرة أجزاء بتحقيق د. محمّد رشاد سالم.

مما سبق يتبيّن لنا فساد ما ذكره المؤلِّف - عفا الله عنه وعنا - في مقدمة الباب الثالث؛ فإن الباطل لا يرد بباطل مثله. كما أنه يستلزم أن يتسلط النصارى على المسلمين بهذا القانون الكليّ الفاسد فيطالبون بتأويل ما ورد في القرآن الكريم والسنة من الألفاظ الشرعية كالصلاة والزكاة ونحوه بحملها على ظواهرها اللغوية ونفي معانيها الشرعية، وغير ذلك من الأمور التي تلزم قانونهم الفاسد.

ص: 242

بنصوص أربعة: الإبن، والأب، والإله، والرب.

وإذا نحن أتينا عليها بالتأويل1 وبيّنا ما يحتمله بالدليل من التوراة والإنجيل لم يبق إلى إجرائها على الظاهر من سبيل، بعد أن / (1/78/أ) نقدّر صحّتها مثلاً ونسلم ورودها جدلاً، ولو نسبناهم فيها إلى التحريف والتصحيف لأغريناهم بطغيانهم وحسمنا عنهم مادة إيمانهم، بل نلاطفهم ونتكلم بمقتضى اصطلاحهم ومنقولهم فعسى أن يكون ذلك أقرب لمعقولهم، فأما الخوض بهم في أدلة العقول فشيء لا تحمله قواهم ولا يلائم هواهم.

فنقول - وبالله التوفيق -: أما لفظتا الابن والأب: فلغتهم تسمي الولي (ابناً) وتسمي المربِّي (أباً) 2 ويعبرون عن ذلك بأبوَّة النعمة وبُنُوَّة الخدمة وذلك

1 التأويل في اللغة: يطلق على معنيين: 1- الرجوع والعاقبة والمصير. 2- التفسير والبيان. (ر: الصحاح للجوهري 4/1627، القاموس المحيط ص 1244) .

2 ورد في قاموس الكتاب ص 17 أن كلمة (الأب) وردت في الكتاب المقدس بمعانٍ كثيرة منها:

1-

السلف المباشر للإنسان أي: والده.

2-

الجد أو الأسلاف على وجه عام.

3-

أطلق هذا اللفظ رمزياً على:

أ- الأب الروحي الذي ينفث من روحه في غيره سواء كان تأثيره طيباً أو على النقيض من ذلك، فقد دُعي إبراهيم (أبو المؤمنين) ، كما دعي إبليس أبو الأشرار.

ب- الدلالة على التشابه والتقارب والتماثل (وقلت للقبر أنت أبي) . سفر أيوب 17/14.

ج- على مصدر الشيء مثل: (أبو المجد) . أفسس 1/17.

د- على الخالق.

هـ وعلى مبتدع فنّ ما أو عمل ما، أو مبتكر أسلوب خاص للحياة. (أب ساكني الخيام) . تكوين 4/20.

وعلى الشخص الذي تظهر فيه خاصيات الأبوة. (أبو اليتامى) . مزمور 68/5.

ز- على من يقوم بعمل المرشد والمشير والمهتم بأمر من الأمور. (وهو قد جعلني أبا لفرعون) . تكوين 45/8.

ح- على رئيس محترم مكرم، ويطلق بخاصة على الأنبياء والمتقدمين في السن والمقام وعلى المسيحيين الأوّلين.

يعتبر الله في الديانة المسيحية أباً، وأبوة الله تسير في اتجاهين:

الأوّل: أبوته للبشر بالخلق.

والثاني: أبوته للمؤمنين بالنعمة. اهـ. ملخصاً.

قلت: فإذا كانت هذه معاني الأبوة في الكتاب المقدس لديهم، فما الذي جعل أبوة الله للمسيح مختصة بأن تكون من نفس جوهر الذات الإلهية - على حد زعمهم وسخافتهم؟ - وكيف يكون ذلك وقد شاركه غيره من الأنبياء والصالحين في تلك الأبوة ولهم من المعجزات أكثر مما للمسيح؟؟.

ص: 243

عندهم مشهور وفي نبوات أنبيائهم مذكور مرسوم والدليل عليه من التوراة قول الله لموسى: "اذهب إلى فرعون فقل له: يقول لك الرّبّ إسرائيل ابني بكري أرسله يعبدني فإن أبيت أن ترسل ابني بكري قتلت ابنك بكرك"1. قالت التوراة: "فلما لم يرسل فرعون بني إسرائيل كما قال الله قتل الله أبكار فرعون وقومه من بكر فرعون الجالس على السرير إلى الأتوني من أولاد الآدميين إلى ولد الحيوان البهيم"2 / (1/78/ب) .

فهذه التوراة تُسَمِّي بنبي إسرائيل كلهم أبناء الله وأبكاره وتسمي أبناء أهل مصرأبناء فرعون وتوسع بتسمية سخال3 الحيوان أولاداً لمالك الحيوان.

فهل بقي بعد هذا ريب في صرف البنوة عن ظاهرها وحملها على الوليّ والعبد؟!

ألم تسمع النصارى قوله الله: "أرسله يعبدني"، فعبر عن العبد المطيع له الممتثل أمره بالابن؟! 4.

1 سفر الخروج 4/22، 23.

2 سفر الخروج 12/29، 30.

3 يقال (السخلة) لولد الغنم من الضأن والمعز ساعة وضعه ذكراً كان أو أنثى، وجمعه: سخل وسخال. (ر: مختار الصحاح ص 290) .

4 ورد في قاموس الكتاب ص 108، 109، أن كلمة:"ابن الله أو أبناء الله" لقب أطلق على:

1-

المسيا (المسيح) وهو يدل على العلاقة القوية بين الأب السماوي والابن الأزلي.

2-

دعي آدم ابن الله. (لوقا 3/38) .

3-

دعي إسرائيل وشعبه ابن الله وأبناء الله.

4-

أطلق على المؤمنين بالله والناس الأتقياء.

5-

وعلى الملائكة. اهـ. ملخصاً.

وأستشهد هنا بقول الأستاذ شارل جنيْبر في كتابه: "المسيحية" ص 39، 106، في بيان حقيقة إطلاق (ابن الله) على المسيح، فيقول جنيبر: "والدراسات الأكيدة لدراسات الباحثين هي: أن عيسى لم يدع قط أنه هو المسيح المنتظر، ولم يقل عن نفسه إنه (ابن الله) ، وذلك تعبير لم يكن في الواقع ليمثل - بالنسبة إلى اليهود - سوى خطأ لغوي فاحش وضرب من ضروب السفه في الدين.

كذلك لا يسمح لنا أي نص من نصوص الأناجيل بإطلاق تعبير (ابن الله) على عيسى، فتلك لغة لم يبدأ في استخدامها سوى المسيحيين الذين تأثروا بالثقافة اليونانية، إنها اللغة التي استخدمها القديس بولس كما استخدمها مؤلِّف الإنجيل الرابع، وقد وجدوا فيها معانٍ عميقة وعلى قدر كافٍ من الوضوح بالنسبة إليهما.

ثم يقول جنير: يمكن لليهود أن يعتبر نفسه (عبداً ليهوه لا ابناً ليهوه) ، ونعتقد أنه من المحتمل أن يكون عيسى قد تصور نفسه (عبد الله) وتقدم للناس بهذه الصفة.

والكلمة العبرية (عبد) كثيراً ما تترجم إلى اليونانية بكلمة تعني (خادماً) و (طفلاً) على حد سواء، وتطور كلمة (طفل) إلى كلمة (ابن) ليس بالأمر العسير، فإن كلمة رضي الله عنه X?S) (اليونانية) تعني في نفس الوقت (خادم) و (طفل)، تماماً كالكلمة اللاتينية:(P عزوجل e صلى الله عليه وسلم ، وعلى هذا يكون التطور في اللغة اليونانية من: رضي الله عنه X?S) أي: (طفل) إلى: (عزوجل igs) أي: (ابن) أمراً في غاية البساطة. ولكن مفهوم (ابن الله) نبع من العالم الفكري اليوناني".اهـ.

ص: 244

قال المؤلِّف - عفا الله عنه -: "قَلَّ ما رأيت لفظة الابن في كتبهم إلاّ مقرونة بالعبودية والتعبد كقول التوراة: "إسرائيل ابني بكري أرسله يعبدني"1.

وكقول المزامير: "أنت ابني سلني أعطيك"2. وكقول المسيح: "أنا ذاهب إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم"3. وكقوله: "إذ صليتم فقولوا: أبانا الذي في السماوات قدوس اسمك افعل بنا كذا وكذا"4. من باب السؤال والدعاء، فإذا كان إسرائيل ابن الله وبكره، فأيُّ مزية للمسيح عليه وعلى غيره في هذه البنوّة؟!

1 خروج 4/22.

2 مزمور 2/7، 8.

3 يوحنا 20/17.

4 متى 6/9-13.

ص: 245

وقال أيضاً في التوراة في قصة الطوفان: "إنه لما نظر بنو الله إلى بنات الناس [حسانا] 1 جدا شغفوا بههن فنكحوا منهن ما أحبوا واختاروا فلولدوا جبابرة مذكورين / (1/79/أ) فأفسدوا فقال الله: لا تحل عنايتي على هؤلاء القوم"2.

قال المؤلِّف: أراد بأبناء الله أولاد القتيل من بني آدم وهو هابيل، وأراد ببنات الناس بنات القاتل وهو قابيل، وكُنَّ [حسانا] 3 جدا فصروا قلوبهن عن عبادة الله إلى عبادة الأصنام، وقد سمَّى الله أولاد الصلحاء من عباده أبناء له إذ كانوا أولياءه وأبناء وليه وصفيه الشهيد. فدلّ على ما قلناه من تسمية الولي في شرع أهل الكتاب ابناً والمربِّي له أباً ومنعماً، وذلك لا خفاء به عندهم، والدليل على ذلك من المزامير قول الله:"يا داود أنت ابني حبيبي"4، وذلك يقضي بمساواته المسيح إذ يقول له:"هذا ابني الحبيب"5. فما نرى الإنجيل زاد المسيح على أن ساواه بداود وإسرائيل وأولاده الصلحاء من أولاد هابيل الذي قتله قابيل.

وقال في المزامير لداود أو لغيره: "أنت ابني وأنا اليوم ولدتك، سلني أعطيك"6. وفي المزامير: "ولدتك من البطن قبل الفجر"7.

وقال نبي الله أشعيا في نبوته حاكياً عن الله: "توصوا بني في أبنائي وبناتي"8. يريد ذكور عباده / (1/79/ب) الصالحين وإناثهم.

1 في ص (حسان) والصواب ما أثبته.

2 تكوين 6/1-4، وفي ش: في التوراة لما نظر بنو اللهم، اللام مفخمة وهو عبارة عن اسم الله تعالى.

3 في ص (حسان) والصواب ما أثبته.

4 متى 3/17، مرقس 9/7.

5 مزمور 2/7.

6 مزمور 22/9، 110/3.

7 سفر أشيعا 43/6.

8 سفر أشعيا 1/2.

ص: 246

وقال الله في نبوة أشعيا: "إني ربيت أولاداً حتى كبروا ونشأوا"1، فما نرى المسيح إلاّ نسج له على منوال من تقدمه من صلحاء عباد الله فإن لم يصح هذا النقل فلا بنوة، وإن كان صحيحاً فلا مزية.

والدليل على أن البنوة بمعنى التربية والإنعام قول المسيح في الإنجيل: "إني رباني"2، فقرن الأبوة بالتربية.

وقال المسيح: "أنا الكرم وأبي الفلاح فكما أن الفلاح يسقي الكرم ويدفع عنه الأذى ويُنمِّيه فكذلك يفعل الأب"3.

قال المؤلِّف: وإذا كان هذا نقلهم عن الله تعالى أن الله تعالى سمَّى الصالحين من عباده والمتقين من خلقه أبناء، فلا معنى لإطنابهم في بنوة المسيح وتخصيص التأويل بداود وإسرائيل وغيره ما إليه من سبيل.

قلت: وهذه الولادة الروحانية هي الأبوة المعتبرة المستفادة من تربية المشائخ والعلماء بالله الدالين عليه المحبين عباده، وبها يصير الإنسان إنساناً، وذلك أن الوالد الجسماني يضع المولود ساذجاً عن المعرفة، خالياً عن العلم، عاطلاً من الأدب، متوفر البهيمية / (1/80/أ) نزر الإنسانية، ليس له كبير فضل على الحيوان البهيم، فإذا ولد الولادة الروحانية نقل إلى طور الإنسان، وحُوِّل عن بهيم الحيوان، فتروى بالعلم، وتحلَّى بالحكم، وتَشَنَّف بالأدب، وتشرف بالزهد، وتَرَوْحن بالمعرفة، فترقى عن الإنسانية وناسب الملائكة، فحينئذٍ تمت له الولادة الروحانية وتلاشت في جنبها الولادة الترابية الجسمانية.

1 يوحنا 14/31.

2 يوحنا14/31.

3 يوحنا15/1-9.

ص: 247

والدليل على اعتبار هذه الولادة قول المسيح: "لن يدخل ملكوت السماوات من لم يولد من ذي قبل، قيل له: كيف يولد شيخ، قال: الحقّ أقول لكم إن المولود من الجسد جسد هو، والمولود من الروح روح هو"1.

يريد عزوجل روح الحكمة التي قالت التوراة: "إنها ملأت بصلئيل من سبط يهوذا"2. "وقال رجل من أصحاب المسيح له: يا سيد مرني أن أذهب فأدفن أبي، فقال: دع الموتى يدفنون موتاهم"3. أمره بملازمة الأب الروحاني الذي يكون سبب الحياة الدائمة.

ولما استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم عتاب بن أسيد4 على مكّة قال: "يا عتاب أتدري على من استعملتك؟ / (1/80/ب) استعملتك على أهل الله، قالها مرات"5. وقال عزوجل: "أهل القرآن هم أهل الله"6.

1 يوحنا 3/3-6.

2 سفر الخروج 31/1-3.

3 مى 8/21-22، لوقا 9/59، 60.

4 عتاب بن أسيد أبي العيص، أسلم يوم الفتح، وكان عامل الرسول صلى الله عليه وسلم على مكّة، ومات في آخر خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنهما. (ر: ترجمته في ابن سعد 5/446، والإصابة 4/211) .

5 أخرجه ابن عدي في الكامل في ضعفاء الرجال 7/245، قال:"ثنا القاسم بن عليّ الجوهري، ثنا يحيى بن عثمان، ثنا يحيى بن بكير، ثني يحيى بن صالح الأيلي عن إسماعيل بن أمية عن عطاء عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا عتاب بن أسيد إني قد بعثتك إلى أهل الله وأهل مكّة

". الحديث.

وفي إسناده يحيى بن صالح الأبيل، قال العقيلي عنه: روى مناكير وكذا قال ابن عدي. (ر: لسان الميزان 6/262) . وأما نصّ المؤلِّف فقد ذكره ابن سعد في الطبقات 5/446، من غير إسناد.

6 أخرجه ابن ماجه. (ر: صحيح ابن ماجه 1/42) ، والإمام أحمد 3/127، 128، 242، والحاكم 1/556، وغيرهم من طرق كلها عن عبد الرحمن بن بديل عن أبيه عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله رضي الله عنه

، فذكره. قال الحاكم:"قد روى هذا الحديث من ثلاثة أوجه عن أنفس هذا أمثلها"، ووافقه الذهبي.

ص: 248

وقيل لأبي بكر الصّدِّيق: ماذا تقول لربّك وقد استعملت علينا عمر؟ فقال: "أقول: استعملت على أهلك خير أهلك"1.

وذلك لكه للتشريف وإلاّ فلا مناسبة بين القديم والحادث والخالق والمخلوق وبعد، فقد كانت هذه الولادة - أعني ولادة التربية - مشهورة في الزمن الأوّل والدهر المتقدم، فكأن التبني بالغير مسوغ فانظر إلى المعنى الذي أشرنا إليه، ولم يزل ذلك كذلك إلى قبيل الإسلام ولما قال عزوجل:"إن زيداً2 ابني يرثني وأرثه، رضي بذلك والد زيد وعمومته وانصرفوا"3. فلما جاء الله بالإسلام والنبوة منع من ذلك رفعا للالتباس بالتسمية وأحكام الأبوة الدنيوية فقال جل من قائل: {ادْعُوهُم لآبَائِهِم} . [سورة الأحزاب، الآية: 5] .

فإن أراد النصارى بالأبوة والبنوة المذهب الروحاني من التربية والتعليم والتهذيب والتقويم، لم نشاححهم في الألفاظ بعد فهم المعاني، لكنا نقول لهم: لا اختصاص للمسيح عزوجل بهذه البنوة، ونتلو عليهم ما تقدم مما نقلناه من التوراة والنبوات والإنجيل.

1 أخرجه ابن سعد في الطبقات 3/199، 274، بإسناده.

2 زيد بن حارثة بن شراحيل الكلبي، حبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، الصحابي المعروف رضي الله عنه.

3 إن موضع استشهاد المؤلِّف بأن زيداً عرف بابن محمّدصلى الله عليه وسلم لتربيته وتبنّيه له، قد أخرجه البخاري في كتاب التفسير. (ر: فتح الباري 8/517) ، ومسلم 4/1884، والترمذي 5/634، عن ابن عمر رضي الله عنهما: "أن زيداً بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كنا ندعوه إلاّ زيد بن محمّد حتى نزل القرآن: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} .

وأما لفظ ما أورده المؤلِّف فقد أخرجه ابن سعد3/42،ابن حجر في الإصابة 3/25، من طريق هشام بن السائب الكلبي عن أبيه، وعن حميد بن مرثد الطائي وغيرهما في سياق طويل، إلاّ أنّ في إسناده محمّداً بن السالبي وهو متّهم بالكذب، ورمي بالرفض، من السادسة. (ر: التقريب 2/163) .

ص: 249

(1/81/أ) الدليل على مساواة المسيح غيره في هذه البنوة وأنه لم يخص بها نفسه:

وذلك في الإنجيل كثير جداً قال المسيح في خاتمة الإنجيل: "أنا ذاهب إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم" فقد سوى بين نفسه وبين تلاميذه في هذا المعنى ويوضحه قوله: "وإلهي وإلهكم"، فإن رام النصارى تفرقة بين المسيح وبين غيره قلبنا عليهم الكلام وعكسنا المرام حتى يضطرهم الحجاج إلى جعل البنوة في حق المسيح وغيره بمعنى واحد.

قال المؤلِّف لقد فاوضني بعض الرهبان ممن يدَّعي بناناً في البيان، فأفضى الحديث معه إلى ذكر الابن والبنوة، فألزمته قول التوراة:"ابني بكري" وقلت له: لعل البكر يكون أحظى عند والده، وأولى بطريف1 بِرِّه وتالده2، فما تقول في بنوة إسرائيل؟ فقال: إسرائيل وغيره ابن النعمة والمسيح ابن على الحقيقة، فعكست عليه كلامه فتبلد واختزى ولجأ إلى ضعف العبارة واعتزى3.

وقد سوَّى المسيح بين نفسه وبين سائر المطيعين من عباد الله في هذه البنوة وقد أخبر يوحنا الإنجيلي في الفصل الثاني من الرسالة4 الأولى أن إطلاق لفظ البنوة إنما هي / (1/81/ب) مجرد تسمية امتن الله بها عليهم تشريفاً لهم فقال: "انظروا إلى محبة الأب لنا أنه أعطانا أن ندعا له أبناء"5. ثم قال في الفصل الثالث منها: "أيها الأحباء الآن صرنا أبناء الله وقد تبنَّن بنا فينبغي لنا أن نَنْزِله من الإجلال

(الطارف والطريف) من المال المستحدث وهو ضدّ التالد والتليد والاسم: (الطرفة) . (ر: مختار الصحاح ص 390) .

2 التالد: المال القديم الأصلي الذي ولد عندك وهو ضدّ الطارف. (ر: مختار الصحاح ص78) .

3 أي: نسيب إلى ضعف العبارة والخزي والتبلد، وأصله عزا، عزاه، فااعتزى. (المرجع السابق، ص 431) .

4 رسالة يوحنا الأولى من ضمن أسفار العهد الجديد.

5 رسالة يوحنا الأولى 3/1.

ص: 250

على ما هو عليه، فمن صحّ له هذا الرجاء فليزك نفسه بترك الخطيئة والإثم واعملوا أن من لابس الخطيئة فإنه لم يعرفه"1.

قال متى: "قال المسيح: أحبوا أعداءكم وباركوا على لاعنيكم وأحسنوا إلى من يبغضكم وصلوا على من يطردكم، لكيما تكونوا بني أبيكم المشرق شمسه على الأخيار والأشرار، والممطر على الصّديقين والظالمين"2.

وقال المسيح لتلاميذه: "كونوا كاملين مثل أبيكم فهو كامل، لا تصنعوا معروفكم قدام الناس لكي تراؤنهم فيحبط أجركم عند أبيكم الذي في السماوات، لتكن صدقتك في السّرّ وأبوك يرى السّرّ فيجزيك علانية، إذا صليت فادخل مخدعك وأغلق بابك وصل لأبيك سراً وأبوك يرى السّرّ فيجزيك علانية، وإذا صليتم فلا تتشبهوا بالوثنيين لأنهم يظنون أن / (1/82/أ) يسمع منهم بكثرة كلامهم، فأبوكم عالم بحوائجكم قبل أن تسألوه"3.

فهذا المسيح قد سوَّى بين نفسه وبين سائر المطيعين لله في البنوة، وبيَّن أن لفظة:"الابن" قد تطلق على العبد الصالح بدليل قوله لليهود: "أنتم لو كان الله أباكم كنتم [تحبونني] 4، أنتم من أبيكم إبليس وشهوة إبليس تهون"5.

1 رسالة يوحنا الأولى 3/2-6، وقد ورد النص الآتي:"أيها الأحباء الآن نحن أولاد الله ولم يظهر بعد ماذا سنكون؟ ولكن نعلم أنه إذا أظهر نكون مثله لأننا س سنراه، كما هو وكلّ من عنده هذا الرجاء به يطهر نفسه كما هو طاهر، كل من يفعل الخطيئة يفعل التعدي أيضاً والخطيئة هي التعدي وتعلمون أن ذلك أظهر، يرفع خطايانا وليس فيه خطيئة، كل من يثبت فيه لا يخطئ، كل من يخطئ لم يبصره ولا عرفه".

2 لوقا 6/27-35، في سياق طويل وقد ذكره المؤلِّف مختصرا.

3 متى 5/48، 6/1-8.

4 في ص (تحبوني) ولعل الصواب ما أثبته.

5 يوحنا 8/42-44، بألفاظ متقاربة.

ص: 251

وقد قال فولس في الرسالة الخامسة: "إياكم والسفه والسب واللعن واللعب، فإن الزاني والنجس والغاشم كعابد الوثن لا نصيب له في ملكوت الله، احذروا هذه الشرور فمن أجلها يأتي رجز الله على الأبناء الذين لا يطيعونه، فإياكم أن تكونوا شركاءهم فقد كنتم من قبل في ظلمة فاسعوا لأن نسعى [كأبناء] 1 النور"2. انظر كيف سمى فولس حكيم النصارى [من] 3 يعمل بالمعاصي ابناً، كما سمّى المتقين من عباد الله ابناً، فقد استبان لك مرادهم بالبنوة التي يطلقونها.

نوع آخر: قال المسيح: "سمعتم ما قيل العين بالعين والسن بالسن وأنا أقول لا تقاوموا الشرّ بالشرّ ولكن من لطمك على خدك الأيمن فحول الآخر، ومن رام أخذ ثوبك فزده إزارك / (1/82/ب) ومن سخرك ميلا فامش معه ميلين، ومن سألك فأعطه، ومن اقترض منك فلا تمنعه، سمعتم ما قيل أحبب قريبك وأبغض عدوّك وأنا أقول لكم أحبوا أعداءكم وباركوا على لاعنيكم وأحسنوا إلى من يبغضكم وصلوا على من يطردكم ويخزيكم، لكيما تكونوا بني أبيكم كونوا كاملين مثل أبيكم فهو كامل4، وإذا صنعت رحمة فلا تصوِّت قدامك بالبوق كالمرائين في المجامع والأسواق لكي يُحمدوا من الناس، الحقّ أقول لكم لقد أخذوا أجرهم، وإذا صنعت رحمة فلا تعلم شمالك ما صنعت يمينك لتكن صدقتك في السِّرّ وأبوك يجزيك علانية، وإذا صليتم فلا تكونوا كالمرائين الذين يصلون ليظهر للناس صلاتهم، الحقّ أقول لكم لقد أخذوا أجرهم5، وإذا

1 في ص (أبناء) ولعل الصواب ما أثبته.

2 رسالة فولس إلى أهل أفسس 5/3-8.

3 إضافة يقتضيها السياق.

4 متى 5/38-48.

5 متى 6/1-5.

ص: 252

صمتم فلا تكونوا كالمرائين الذين يعبسون وجوههم ويغيِّرونها ليظهر للناس صيامهم، الحقّ أقول لكم لقد أخذوا أجرهم، وأنت إذا صمت فاغسل وجهك وادهن رأسك كيلا يظهر للناس صيامك، اغفروا للناس خطاياهم ليغفر لكم أبوكم السماوي خطاياكم، لا تكنِزوا لكم كنوزاً في الأرض [حيث] 1 الأكلة والسوس / (1/83/أ) والسارق ولكن اكنِزوا لكم كنوزاً في السماء حتى لا تفسدها سوس ولا تنالها أيدي السُّرَّاق، فحيث تكون كنوزكم هناك تكون قلوبكم"2.

فهذه أقوال من المسيح شاهدة بأنه عزوجل لم يخص نفسه بالبنوة دون أدناهم، وأنه وإياهم فيها سيَّان، وأنّها كلمة تطلق على عباد الله الصالين، وأنه حيث ما ذكرها قرنها بالعبودية والتشمير في الطاعة، وأن من كان منحرفاً عن التقى والديانة لم يصلح لهذه البنوة، كما قال المسيح لليهود:"أنتم من أبيكم إبليس". حيث لم يرضهم للبنوة المعزوة إلى الصالحين من بني إسرائيل.

إطلاق أتباع المسيح لفظ البنوة على أنفسهم غير مفرقين فيها بينهم وبين المسيح [و] 3 أنهم لم يفهموا منها إلاّ ما أشرنا إليه:

قال يوحنا التلميذ في قصص الحواريّين الذي يسمى فراكسيس: "يا أحبائي إنا أبناء الله سمانا بذلك، واعملوا أن الفصل بين أبناء الله وأبناء الشيطان أن من لم يتَبَرر ويحب أخاه فليس من الله بل من الشيطان"4.

1 في ص (جنب) والتصويب من النص.

2 متى 6/16-21.

3 إضافة يقتضيها السياق. والله أعلم.

4 رسالة يوحنا الأولى 3/1-11، بألفاظ متقاربة، ولم يرد النصّ في سفر أعمال الرسل كما ذكر المؤلِّف.

ص: 253

فبيَّن الحواري أن بنوة الله عبارة عن طاعته وأن من لم يطع الله / (1/83/ب) فليس يصلح لهذه البنوة ولا تليق به، وساوى بين نفسه وبين المسيح في هذه البنوة. فلم يبق بعدها للنصارى باقية، ولم تقم لهم في تخصيص المسيح بالبنوة قائمة. وقد عبَّر يوحنا الإنجيلي عن هذه البنوة بالطاعة والاستقامة، وذكر أن مَن كان منحرفاً عن خدمة الله لم يصلح لهذه البنوة، فقال في الفصل الثالث من رسالته الأولى:"اعملوا أن كل من ولد من الله فلن يعمل خطيئة من أجل أن زرعه [ثابت] 1 فيه فلا يستطيع أن يخطئ لأنه مولود من الله وبهذا نتبيّن أبناء الله من أبناء الشيطان فكل من لا يعمل البر فليس هو من الله"2.

فالمسيح عزوجل ويعقوب وداود ومن مضى من أولياء الله وأنبيائه لما تحققوا بخدمة الله وسارعوا إليها أطلق اللسان العبراني عليهم هذه التسمية تشريفاً له ولا مزية للمسيح على غيره في ذلك.

وقال فولس الذي يسمونه فولس الرسول وهو المفرس العالم الذي لهم في رسالته إلى ملك الروم: "أن الروح تشهد لأرواحنا أنا أنباء الله وإذا كنا أبناءه فنحن ورثته / (1/84/أ) أيضاً". وقال فولس في هذه الرسالة: "إن البرية كلها تترجى ظهور أبناء الله"3.

قال المؤلِّف: إن كان هذا الكلام صحيحاً، فالمسلمون أحق بهذه التسمية فإنهم الذين ملأوا الأرض ونفعوا البرايا والأمم بما أرشدوهم إليه من طاعة الله، وعلموهم من توحيده، وشرعوا لهم من أحكامه، وتحقق رجاء البرية بما أفادهم المسلمون من مصالح دينهم ودنياهم.

1 في ص (ثابتا) والصواب ما أثبته.

2 رسالة يوحنا الأولى 3/9، 10.

3 رسالة بولس إلى أهل رومية 8/16-19، وقد وهم المؤلِّف في قول إنها رسالة بولس إلى ملك الروم.

ص: 254

وقال فولس في رسالته إلى بعض النواحي: "أولا تعلمون أنكم هياكل الله، وأن روح الله حالة فيكم، وأن الدنيا والآخرة لكم"1.

وقال فولس لإخوانه: "إن أجسامكم هيكل لروح القدس التي قبلتموها عن الله"2. وقال فولس في رسالته الثانية: "إن الله تعالى قال: إني أحل فيهم وأسعى معهم، وأكون لهم إلهاً وهم يكونون بمنْزِلة البنين والبنات"3.

فهذا فولس- المؤتمن عند النصارى-لم يدَّع أن المسيح [مباين] 4 أحد من الملة في هذه البنوة، وقول فولس:"إنكم هياكل الله"، الهيكل5 بيت متعبدهم كالمسجد ونحوه، فشبه بيت العبد الصالح في طهارتها وعمارتها بذكر الله بالهيكل والمسجد.

وقال متى في إنجيله / (1/84/ب) : "إن جباة الجزية جاءوا إلى بطرس فقالوا: ما بال [معلمكم لا] 6 يؤدّي الجزية؟ فقال لهم: نعم. ثم أخبر المسيح بمقالتهم فقال: يا بطرس والبنون أيضاً تؤدّي الغرم، اذهب إلى البحر فأوّل حوت يخرج فخذ وأدِّ عني وعنك"7.

فهذا متى يشهد على المسيح بأنه لا يختص بهذه البنوة وأن [البنين] 8 سواه كثير.

1 رسالة بولس الأولى إلى أهل كورنثوس 3/12، 16، في سياق طويل وقد ذكره المؤلِّف مختصراً.

2 رسالة بولس الأولى إلى أهل كورنثوس 6/19 بألفاظ متقاربة.

3 رسالة بولس الثانية إلى أهل كورنثوس 6/19 بألفاظ متقاربة.

4 في ص (مباينا) والصواب ما أثبته.

5 الهيكل: كلمة سومرية معناها: (البيت الكبير) وهو مكان عبادة الله، ويقوم مقام الكنيسة اليوم، وكان اليهوديطلقون اسم:"الهيكل" على مكان واحدكبير في القدس، وباقي أماكن العبادةكانت تسمى:(مجامع) ومفردها مجمع. (ر: قاموس ص1012) .

6 بياض في الأصل، والتصويب من النصّ في ص:198.

7 متى 17/24-27.

8 في ص (البنون) والصواب ما أثبته.

ص: 255

وهذه صورة [صلاة] 1 زعم النصارى أن المسيح علَّمها تلاميذ: وهي: "أبانا الذي في السماوات قدوس اسمك يأتي ملكوتك تكون مشيئتك كما في السماء كذلك تكون على الأرض، آتنا خبزنا قوتاً في اليوم، واغفر لنا ما وجب علينا كما نحب أن نغفر لمن أخطأ إلينا، ولا تدخلنا التجارب ولكن نجنا من الشرير، إذ لك المجد والقوة والملك إلى الأبد. آمين"2.

قال المؤلِّف: قوله: "آبانا الذي في السماوات" لفظ موهم من حيث الأبوة ومن حيث الجهة.

فالأبوة متروكة الظاهر بقول يوسف في التوراة: [لأخيه بنيامين - وهو لا يعرفه - يا بني الله يترأف] 3 عليك.

فقد سمى أخاه ابنه، وليس ابناً له على الحقيقة، وبقوله / (1/85/أ) في التوراة لإخوته:"لستم أنتم الذين بعتموني بل الله قدمني أمامكم، وجعلني أبا لفرعون وسيداً لأهل الأرض"4. يريد مدبراً له.

1 إضافة يقتضيها السياق.

2 متى 6/9-14، لوقا 11/2-4. وهذه الصلاة يسميها النصارى:"بالصلاة الربانية" وهي فاتحة صلاتهم وبعدها يقرؤون الصلوات (الأدعية) التي تناسب صلاتهم، وتنقسم هذه الصلاة إلى ثلاثة أقسام:(1) الدعاء "أبانا الذي

(2) الطلبات وهي سبت، ثلاث منها تختص باسم الله وملكوته ومشيئته، وثلاث باحتياجات الإنسان الزمنية والروحية. (3) التمجيد (لأن لك الملك

". (ر: قاموس ص 552، الصلاة في الأديان الثلاثة ص 135، 158، أحمد أبو طبة".

3 في ص: "لا جيب سامن وهو لا يعرفه يا بني الله يترأف"، والتصويب من النّصّ في سفر التكوين 43/29.

4 تكوين 45/4-8.

ص: 256

وقد كان التلاميذ يقولون للمسيح يا أبت1، وليس [أباهم] 2 إلاّعلى جهة التدبير كما قال لهم:"لا تدعوا لكم مُدبَّر على الأرض فإن مدبركم المسيح"3.

وكانوا أيضاً يدعون بطرس بعد المسح (أبا) لهم كما شهدت به سير التلاميذ، وذلك بمعنى المدبر، فيعلم اللبيب أن قول المسيح لربّه (يا أبت) إن صحّ ذلك عنه كقول بطرس للمسيح (يا أبت) وكقول التلاميذ لبطرس (يا أبت) . وعند الوقوف على هذه المواضع تنحل عقود النصارى في دعوى بنوة المسيح وينفصم عراهم فلا يحاولون انفصالاً إلاّ وينعكس عليهم في بنوة المسيح.

ويقال لهم: هل بنوة يوسف لأخيه بنيامين ولملك مصر إلاّ كأبوة الله للمسيح؟ ! وهل بنوة المسيح لله إلاّ كبنوة إسرائيل وداود وأولاده الشهيد من ابني آدم كما حكوا عن التوراة والكتب القديمة؟ ولما كان الأب هو المشفق المرفق العاطف ببره العابد بخيره، المحرك بإحسانه / (1/85/أ) المفضل بتطوله وامتنانه، وكانت هذه المعاني لا تتحقق على الحقيقة إلاّ من الله جلت قدرته، وكان المسيح قد توفرت روحانيته فلم ير الوسائط، حَسُنَ4 عنده التجوز باسم الأب عن الرّبّ، وهذا محمل يتعين حمل هذه الألفاظ عليه إن صحّ إطلاقها

1 لم أعثر في الأناجيل على نصّ يشير إلى أن التلاميذ كانوا يقولون للمسيح: يا أبت، ولكن ورد فيها أ، التلاميذ كانوا ينادون المسيح بالألقاب الآتية:

- (المسيح ابن الله) . ر: متى 16/16.

- (ربّ) . ر: مى 16/26، مرقس 8/31، يوحنا 21/15.

- (سيد) . ر: مرقس 9/4-5، يوحنا 13/137.

- (معلم) . ر: يوحنا 3/2.

2 في ص (أبوهم) والصواب ما أثبته.

3 متى 23/9.

4 في ش: جواب لَمَّا.

ص: 257

منه، إذا القديم جلّ وعلا يتقدس عن أن يشار إليه بأبوة البعضية المتّخذة من الزوجة والسرية تعالى القديم عن مماسة العديم، ويقدس العظيم عن ملابسة الهضيم1. {لَيسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ} . [سورة الشورى، الآية: 11] .

ولما كان الابن هو المضهوم الجناح، المفتقر في سعيه إلى النجاح، الخائف من دركات الهلكات بركوب الجناح، اللائذ بأبيه [لاستمطار] 2 نواله، المتعلق بذيول كرمه في مضمون سؤاله، المرمَّى ببره العظيم المعدي بمنه الجسيم لم3 يقبح عنده التوسع باسم الابن عن العبد.

فإن تأوّل النصارى البنوة والأبوة بهذا التأويل وإلاّ فضحتهم التوراة والنبوات والإنجيل فقد حكوا عن التوراة قول الله: "إسرائيل ابني بكري"، وفي المزامير يقول داود لأكابر بني إسرائيل:"أنا قلت لكم إنكم آلهة وبنو / (1/86/أ) العلا كلكم تدعون"4.

ولا خلاف أن الإنجيل من فاتحته إلى خاتمته لم يخصص المسيح بهذه البنوة، بل شارك فيها غيره من الصحلحاء والأتقياء من عباد الله وأوليائه، ومن أنصف من النصارى عرف صحة ما قلناه فقد قال يوحنا في إنجيله:"إن يسوع كان مزمعاً أن يجمع أبناء الله"5. فهذا يوحنا التلميذ يذكر أن سائر بني إسرائيل يسمون بهذا الاسم ويذكر أن المسيح رام جمع الناس على كلمة الإيمان فلم يقدر على ذلك.

1 هضم فلاناً: ظلمه، وغصبه. كاهتضمه وتضهمه. فهو هضيم. (ر: القاموس ص1511) .

2 في الأصل: (لاستمطار)، وأظنه تحريف من الناسخ لكلمة:(لاستمطار) وهو ما أثبته لموافقته سياق الكلام. والله أعلم.

3 في ش: جواب لما.

4 مزمور 82/6.

5 يوحنا 11/52.

ص: 258

وإذا ثبت إطلاق لفظة البنوة على يقعوب وداود وغيره، فما بال النصارى لا يقولون في أيمانهم وحلفهم:"وحقّ يعقوب ابن الله؟! ".

ولِمَ حطُّوا حرمته وهو ابن الله بكره - والبكر له مزيد حرمة عند أبيه؟! وكذلك هلا أقسموا بداود وهو ابنه حبيبه، ولم هجروا اسمه وهو مساو المسيح في البنوة والحبّ؟!.

وكذلك قال لوقا الإنجيلي: "جبريل أخبر عن الله أن المسيح ابن داود"1. فهلا نسبوه نسبته التي نسبه بها جبريل ولهجوا بذلك في أقسامهم وأيمانهم فقالوا: "وحقّ المسيح ابن داود".

وكيف رغبوا له / (1/86/ب) عن تسمية سماه الله بها على لسان جبريل قبل خلقه؟! أهم أعلم بما يجب له من الله؟! فكيف تكروا تسمية الله له وأخلفوا تسمية أجمع أرباب الملل والنحل على تخطئتهم فيها؟!.

فإن رجعوا الفهقرى وتمسكوا بقوله: "يا أبت"، أوردنا عليهم قولة التلاميذ:"قولوا: أبانا الذي في السماوات"، ونظائرها. على أنا نقول لهم: ألم ترووا لنا عن المسيح في خاتمة الإنجيل قوله: "أنا ذاهب إلى إلهي وإلهكم"2، وقوله وهو على الصليب فيما زعمتم:"إلهي إلهي لم تركتني؟ "3.

فهلا تقولون في صلواتكم وأدعيتكم: يا عبد الله اغفر لنا، وكذلك إذا دعوتم الأب فقولوا: يا سيد إلهنا ارحمنا، وكذلك قولوا في دعائكم الأب: يا جَدَّنا افعل بنا كذا؛ لأن بطرس4 أبوكم، والمسيح أبٌ لبطرس، والله أب للمسيح.

1 لوقا 1/32.

2 يوحنا 20/17.

3 متى 27/46.

4 باعتبار أن بطرس رئيس الحواريّين.

ص: 259

وقد زعمتم أن [المسيح] 1 صفعه اليهود في رأسه بالقصب [وضَفَّروا] 2 على رأسه إكليلا من الشكوك وألبسوه ثياباً حمراً وسقوه الخلّ عندما عطش، وأنتم في صلواتكم تبتهلون إليه بالأدعية، فما بالكم لا تقولون: يا من صفعه اليهود في رأسه وبصقوا في وجهه / (1/87/أ) واقتسموا ثيابه بينهم بالقرعة واستعار على خشبته وقرن باللصوص - افعل بنا كذا!

- الدلالة على استعمال المسيح المجاز والاستعارات:

- فإن تلاميذه كانوا [معافين] 3 مما ابتلى به المتأخرون من النصارى قال متى: "بينا يسوع جالسا يتكلم على الناس إذ قيل له: أمك وأخوتك بالباب يطلبونك، فقال: من أمي ومن أخوتي، ثم أومأ بيده إلى تلاميذه وقال: هؤلاء هم أمي وإخوتي، وكل من صنع مشيئة أبي الذي في السماوات فهو أخي وأختي وأمي"4.

قلت: هو ذا المسيح عليه السلام قد أعرف في التجوز والتوسع والاستعارة حتى سمى المطيع لله قريباً له من هذه الجهات فجعله أماً له وأختاً وأخاً، وإذا كان النصارى لا يجرون على ظاهر هذا اللفظ، بل يحملونه على ما يليق به من التأويل فكذلك يلزمهم في لفظ البنوة والأبوة، فإنه كما يستحيل أن يكون آحاد الناس أماً وأختاً وأخاً للمسيح فكذلك يستحيل أن يكون المسيح - وهو رجل من بني إسرائيل يناله من النفع والضرر ما ينال غيره من البشر - ابناً لله / (1/87/ب) القديم الأزلي.

1 إضافة يقتضيها السياق. والظاهر أنها سقطت من الناسخ.

2 في ص (ظفروا) والصواب ما أثبته.

3 في ص (معافون) والتصويب من المحقِّق.

4 متى 12/46-50، مرقس 3/31-35، لوقا 8/19-21.

ص: 260

فإن [هذى] 1 هاذ منهم وقال: فإذا لم يكن له بُدُّ من أبٍ، فمن أبوه؟!.

قلنا له: إذا لم يكن لآدم بُدُّ من أبٍ، فمن أبوه؟!، فإذا قالوا: إن آدم خلقه الله آية وأعجوبة إذ خلقه من غير تناسل وتوالد، قلنا: وكذلك المسيح خلقه الله تعالى آية وأعجوبة إذ خلقه من [غير أب] 2، فكم خلق الله سبحانه من الحيوان من غير توالد وتناسل معروف، وقد ابتدأ الله العالم بأسره لا عن مثال سبق، فأي آيات الله تنكرون3؟!.

واعلم أن إطلاق المسيح لفظ: (النبوة) جرى فيه على عادة من تقدمه من بني إسرائيل، فإنهم كانوا يطلقون هذه البنوة والربوبية والألوهية على المعظمين في الدين والمدبرين للأمم كقول التوراة:"إسرائيل ابني بكري"، وكقول المزامير:"داود ابني حبيبي"، وقوله للأكابر من بني إسرائيل:"أنا قلت: إنكم آلهة وبني العلاكلكم تدعون"، وقول شعيا:"توصوا بي في بني وبناتي". وقول أشعيا: "إني رببت أولاداً حتى نشأوا وكبروا".

فحال المسيح منسج على منوال من سبقه. فقال: "أنا ذاهب / (1/88/أ) وأبيكم". غير أن هذه اللفظة لم تأت إلاّ ومعها لفظ العبودية ليزول الإيهام ويحصل التشريف والإنعام، والدليل على ما قلناه من بنوة شعيا النبي عليه السلام: "إن الله تعالى تهدد بني إسرائيل على جرم فعلوه، فلما خافوا نزول العقوبة قالوا في دعائهم: الله ترأف علينا، وأقبل بوجههك إلينا، ولا تصرف

1 في ص (هذا) والصواب ما أثبته. والهذيان هو: الكلام غير المعقول لمرض أو غيره. (ر: القاموس ص 1734) .

2 في ص: (غراب)، وفي ش:(من تراب)، اقتباس من قوله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ

} . الآية. لكن فيه ما فيه، كأن العبارة من غراب أو من تراب. اهـ.

قلت: الصواب ما أثبته. فهو الموافق لسياق الكلام، والتحريف حصل من الناسخ.

3 اقتباس من قوله تعالى: {وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ} .] سورة غافر، الآية: 81 [.

ص: 261

رحمتك عنا فأنت هو الرّبّ أبونا، فأما إبراهيم وإسرائيل فلم نعرفه، لكن أنت أبونا وقد ملنا عن طرقك، يا ربّ ارحمنا فنحن عبيدك"1.

وقد رووا عن يوحنا الإنجيلي: "أن من لابس المعاصي وانغمس في الخطايا فليس له في هذه الولادة من نصيب"2.

فقالوا: قال يوحنا في خاتمة رسالته الأولى: "قد علمنا أن كل من هو مولود من الله لا يخطئ؛ لأن ولادته من الله وهو حافظه له من أن يقترب إليه الشرير"3.

فإن صدق النصارى في هذا النقل فليس فيهم إذاً من يستحق هذه التسمية لأنه لا يكاد أحد منهم يخلص من ملابسة المعاصي واقتراف الخطيئة والإثم. فإما أن يبطلوا هذا / (1/88/ب) ويوصوا بفساده لهم دعواهم البنوة، وإما أن يصحّحوه فيخرجوا عن بنوة الله التي يدَّعون بها، فقد حكم يوحنا وغيره من أئمتهم أن مَنْ ولد مِنَ الله لم يرتكب على نفسه ذنباً ولم يختلف وزراً. فهكذا كان اعتقاد من يطلق لفظ الأبوة على الله ويُسمِّي نفسه (ابناً لله) إنما يجعل ذلك من باب التودد إلى الله والخدمة له، فلهذا لم يكن يضرّه إطلاقه، ولما جاء المتأخرون أكثروا من هذا الإطلاق وصاروا يوردونه على جهة الفخر والتزكية وتمجيد النفس فخوطبوا بالتكبر4، وقيل لهم في الكتاب العزيز: {مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ

} 5.

ص: 262

فأما [لفظتا] 1 الإله والرّبّ:

فالرّبّ هو المربي باللطف والإحسان العائد بالعطف والامتنان، وهاتان اللفظتان قد تستعملان في حقّ العظيم من الآدميّين تجوزاً وتوسعاً، لكن على جهة التقييد لا جهة الإطلاق، وقد قال أشعيا النبي:"عرف الثور من اقتناه والحمار مربط ربه ولم يعرف ذلك بنو إسرائيل"2.

وهذه كتب القوم تشهد بأن المعلم / (1/89/أ) والمدبر والقيم يسمى رباً3، كما أن الرجل رب منْزِله وداره وبيته ورب ماله. قال نبيّنا صلى الله عليه وسلم لرجلٍ:"أربّ إبل أنت أم ربّ غنم؟ "، فقال: من كل آتاني الله فأجزل4.

1 في ص (لفظتي) ولعل الصواب ما أثبته.

2 ورد النّصّ في سفر أشعيا 1/3 كالآتي: "الثور يعرف قانيه والحمار معلف صاحبه أما إسرائيل فلا يعرف

". والفرق واضح بين النّصّ الذي أورده المؤلِّف وبين النّصّ المذكور حالياً في سفر أشعيا والظاهر أن عبارة "والحمار مربط ربه"، كانت موجودة في نسخة المؤلِّف، ثم حرفت بعد ذلك في النسخ التي كتبت بعد زمن المؤلِّف. رحمه الله.

3 ذكر في قاموس الكتاب ص 396، أ، لفظة:(رب) يقصد بها:

1-

اسم الجلالة، وفي هذه الحالة تطلق على الأب والابن بدون تمييز سيما في رسائل بولس الرسول.

2-

وقد تستعمل بمعنى: سيد أو مولى دلالة على الاعتبار والإكرام. اهـ.

ويحدّثنا ستيفن نيل عن استعمالا كلمة (رب) في كتابه: "من هو المسيح؟ ص 49" فيقول:"إن الكلمة اليونانية الأصلية التي معناه: (رب) يمكن استعمالها كصيغة للتأديب في المخاطبة، فسبحان فيلبي يخاطب بولس وسيلا بكلمة: (سيدي أو ربي: أعمال 16/30"، ولكن يمكن أن تستعمل بمعنى أرفع وأرقى، وكانت تستعمل وصفاً للإمبراطور في كلّ أنحاء الإمبراطوريةالرومانية، كماكانت تستعمل أيضاًلملوك اليهود.

وكانت اللفظة لقباً من ألقاب الكرامة خلع على كثير من الآلهة الوثنية وخاصة آلهة أديان الأسرار، ولهذا السبب ذهب بعض العلماء إلى أن لفظ (الرّبّ) أطلق أوّلاً على يسوع في الجماعات الأممية الناطقة باليونانية؛ وذلك لأنه هو الوصف الذي خلعوه على آلهتهم قبل أن يعتنقوا المسيحية، وكان من الهَيِّن على أولئك الأمم أن يقبلوا هذا اللقب الذي كان مألوفاً لديهم". اهـ.

ويعلق على ذلك الأستاذ محمّد مجدي مرجان - الذي كان نصرانياً فأسلم - بقوله: "والواقع أن لفظ (رب يستعمل في كثير من المجتمعات، وخاصة في الأزمنة القديمة بقصد التكريم والتعظيم، ويتكرر اللفظ كثيراً في أسفار التوراة بمعنى سيد أو معلم". (ر: المسيح إنسان أم إله - محمّد مرجان، ص 175) .

4 أخرجه البخاري في خلق أفعال العباد ص 59، مختصراً، والإمام أحمد 4/136، 5/53، وعنه الطبراني في المعجم الكبير 19/283، والحافظ أبي بكر الحميدي في مسنده (ح 883) ، كلهم من طريق سفيان بن عيينة، قال: ثنا أبو الزعراء عمرو بن عمور عن عمه أبي الأحوص عن أبيه مالك بن نضلة الجشمي، قال: أتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم فصعد في النظر وصوب، وقال:"أربّ إبل أنت أو ربّ غنم؟ "، قال: من كل قد آتاني فأكثروا طيب

الخ". وقال الحافظ في الإصابة 6/35: "سنده صحيح".

ص: 263

والدليل على ذلك من التوراة قول إبراهيم ولوط للملك: "يا رب مِلْ إلى منْزِل عبدك"1. ونحن والنصارى متّفقون على عدم التعبد للملائكة وإنما أرادا الإجلال في الخطاب، وفي التوراة يقول الله لموسى: "قد جعلتك إلهاً لفرعون"2. يريد: مسلطاً عليه ومتحكماً فيه.

وفي التوراة: "وقد شكا موسى لثغةَ في لسانه وعجمة في منطقه، فقال الله له: "قد جعلتك رباً لهارون وجعلته لك نبيّاً، أنا آمرك وأنت تبلغه وهو يبلغ ابن إسرائيل"3.

ولم يقل الله للمسيح: قد جعلتك ربّاً وإلهاً، بل إنما ذلك شيء تَقَوَّله النصارى، فقول بطرس للمسيح:"يا رب"، إن صحّ فهو مُنَزَّل منْزِلة ربوبية موسى لهارون من حيث إن المسيح أيضاً مبلغ عن الله أوامره كتبليغ موسى أخاه هارون.

وقد قال داود في المزمور الثاني والثمانين: "قام الله في جماعة الآلهة / (1/89/ب) ، وقال فيه وهو يعنف الأكابر من بني إسرائيل: "أنا قلت إنكم آلهة وبني العلا

1 سفر التكوين 18/1-3، كالآتي: "وظهر له الرّبّ بلوطات ممرا وهو جالس في باب الخيمة

وقال: يا سيد إن كنت قد وجدت نعمة في عينيك فلا تتجاوز عبدك". وورد في نفس السفر 19/2، أن لوطاً عليه السلام قال للملكين: "يا سيّديَّ ميلا إلى بيت عبدكم

".

2 سفر الخروج 7/1.

3 سفر الخورج 4/16، 7/1، 2، بألفاظ متقاربة.

ص: 264

تدعون"1. وفي المزامير أيضاً في حقّ يوسف: "فخلَاّ الملك يوسف وصيَّره سلطاناً على شعبه ربّاً على بنيه"2. يريد القيم عليهم والمدبر لأمورهم.

وقد قال يوسف للساقي عندما فسر له رؤياه: "اذكرني عند ربّك"3، يريد مدبرك والقيم عليك.

وإذا عرفت ذلك سهل عليك ما يهتف به النصارى من تسمية المسيح ربّاً وإلهاً، وعرفت كيف تكسر حجتهم بتأويل هذه الألفاظ، وقد قال شمعون الصفا رئيس الحواريّين:"إن الله جعل أيسوع ربّاً"4، يريد وَكَل تدبير أصحابه إليه، إذ الرّبّ لا يقال إن غيره جعله وصيره ربّاً وإلهاً، فما نرى شمعون الصفا زاد المسيح في ذلك على ما قالت التوراة:"إن الله جعل موسى ربّاً لهارون وإلهاً لفرعون". ولم يتجاوز به أيضاً قول المزامير: "إن يوسف صار ربّاً للملك". وفي الإنجيل: "إن الكلاب لتأكل من موائد أربابها"5.

1 مزمور 82/6.

2 مزمور 105/20، 21، ونصّه كالآتي:"أرسل الملك فحله، أرسل سلطان الشعب فأطلقه، أقامه سيدا على بيته ومسلطاً على كل ملكه".

3 قال تعالى: {وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ} . [سورة يوسف، الآية: 42 [.

قال شيخ الإسلام: "فإن قيل: لا ريب أن يوسف سمى السيد ربّاً في قوله: {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} ، و"{ارْجِعْ إِلَى رَبِّك} ، ونحو ذلك، وهذا كان جائزاً في شرعه، كما جاز في شرعه أن يؤخذ السارق عبداً، وإن كان هذا منسوخاً في شرع محمّد صلى الله عليه وسلم". اهـ. (ر: الفتاوى 15/188) .

4 سفر أعمال الرسل 2/36.

5 متى 15/27، مرقس 7/28.

ص: 265

وقد روي عن سلمان الفارسي1 أنه قال: "تداولني بعضة عشر من ربّ إلى ربّ"2. وإنما / (1/90/أ) يريد المرشدين والمدبرين له.

وقد يكون بمعنى السيد، قال الأعشى:

وَأَهْلَكْن يوماً رَبَّ كِنْدَةَ وابنَه وَرَبَّ مَعَدّ بين خَبْتٍ وَعَرْعَر3

1 سلمان أبو عبد الله الفارسي رضي الله عنه، ويقال له: سلمان بن الإسلام وسلمان الخير الصحابي المعروف، له ستون حديثاً.

2 أخرجه البخاري في كتاب مناقب الأنصار باب (53) . (ر: فتح الباري 7/277) ، وابن عبد البر في الاستيعاب 4/221، وأبو نعيم في الحلية 1/195، عن سلمان الفارسي:"أنه تداوله بضعة عشر من ربّ إلى ربّ". واللفظ للبخاري.

قال الحافظ: "أي: سيد إلى سيد، وكأنه لم يبلغه حديث أبي هريرة في النهي عن إطلاق ربّ على السيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يقل أحدكم: أطعم ربّك، وضئ ربَّك، وليقل: سيدي ومولاي، ولا يقل أحدكم: عبدي وأمتي، وليقل: فتاي وفتاتي وغلامي". أخرجه البخاري 5/177، ومسلم 4/1764.

وقال الحافظ: "ويفه نهي العبد أن يقول لسيده: ربّي، وكذلك نهي غيره فلا يقول له أحد: ربّك، والسبب في النهي أن حقيقة الربوبية لله تعالى، لأن الرّبّ هو المالك والقائم بالشيء فلا توجد حقيقة ذلك إلاّ لله تعالى. قال الخطابي: سبب المنع أن الإنسان مربوب متعبد بإخلاص التوحيد لله وترك الاشتراك معه، فكره له المضاهاة في الاسم لئلا يدخل في معنى الشرك، ولا فرق في ذلك بين الحرّ والعبد، فأما ما لا تعبد عليه من سائر الحيوانات والجمادات فلا يكره إطلاق ذلك عليه عند الإضافة كقوله: ربّ الدار، وربّ الثوب، وقال ابن بطال: لا يجوز أن يقال أحد غير الله: ربّ، كما لا يجوز أن يقال له: إله. وقال الحافظ: ويحتمل أن يكون للتنْزِيه وما ورد من ذلك فلبيان الجواز - يشير إلى قوله عليه السلام في أشراط الساعة: "أن تلد الأمة ربّها"، وقيل: هو مخصوص بغير النبي صلى الله عليه وسلم ولا يرد ما في القرآن أو المراد للنهي عن الإكثار من ذلك واتّخاذ استعمال هذه اللفظة عادة، وليس المراد النهي عن كذرها في الجملة". اهـ.

3 البيت من شعر لبيد بن ربيعة العامري وليس للأعشى كما ذكر المؤلِّف. (ر: ديوان لبيد بن ربيعة ص 55، تحقيق د. إحسان عباس، ط سلسلة التراث العربي، وزارة الإرشاد والأنباء في الكويت - سنة 1962م، ر: لسان العرب 1/399، تارج العروس 1/260، وتفسير الطبري 1/62، ور: ترجمة لبيد بن ربيعة ت سنة 41 في الأعلام للزركلي 5/240) .

ص: 266

ويكون أيضاً للرّبّ بمعنى: المالك. قال طرفة1:

كقنطرة الرومي أقسم ربّها لتكتنفن حتى تشاد بقرمد2

ويكون أيضاً الرّبّ بمعنى: المربي من قولهم: رَبّ َ يَرُبُّ فهو رَبٌّ3.

قال الشاعر:

يَرُبُّ الذي يأتي من الخير أنه متى فعل المعروف زاد وتمما4

ويكون أيضاً بمعنى: المصلح للشيء، قال الشاعر:

كانوا كاسالِئَةٍ حَمْقاء إذ حقنت سلاءها في أديمٍ غَيرَ مَرْبُوب5

ويقال للشمس إلهة، قال الشاعر:

وأعجلنا الإلهة أن تؤوبا6

ويقال: ألهت إلى فلان، إذا فزعت إليه واعتمدت عليه، وقيل: هو من ألهت فيه إذا تحيرت فيه فلم تهتد إليه، فقول بطرس:"يا ربّ"، يريد يا مدبر أمرنا والقيم علينا.

1 طرفة بن العبد البكري الوائلي، أبو عمرو، شاعر جاهلي من الطبقة الأولى. (ر: ترجمته في الأعلام 3/225) .

2 ورد البيت في ديوان طرفة ص 22، شرح وتقديم: مهدي محمّد ناصر الدين، دار الكتاب العلمية، بيروت، ط الأولى سنة 1407هـ، ور: شرح القصائد العشر للخطيب التبريزي ص 87. تصحيح عبد السلام الحوفي، دار الكتب العلمية، ط الأولى سنة 1405هـ.

3 رَبَّ فلان ولده يَرُبُّه رَبّاً، وربَّبه، وتربَّبه، بمعنى أي: ربَّاه. (ر: الصحيح 1/130) .

4 ورد البيت في لسان العرب 1/386، وتاج العروس 3/261 غير منسوب، وقد أنشده ابن الأنباري كالآتي:

يرب الذي يأتي من العرف أنه إذا سئل المعروف زاد وتمما

5 ذكره الطبري في تفسيره 1/62، ونسبه إلى قول الفرزق بن غالب، وورد في لسان العرب 1/390، كالآتي:"سلالها ف أديم غير مربوب، أي: غير مصلح".

6 ذكره الجوهري في الصحاح 6/2224، وقال أنشدني أبو علي:

تروحَّنا من اللعباء قصراً وأعجلنا الإلهة أن تؤوبا

ص: 267

وقول أشعيا: "هوذا العذراء تحبل وتلد ولداً عمانويل الذي تفسير إلهنا"1 محمول على بعض هذه المحامل / (1/90/ب) إن صح نقلهم عن أشعيا هذا اللفظ بعينه.

وقد فسر علماء الإنجيل قول مريم المجدلانية للمسيح (ربوني) 2 بالمعلم، والمعلم والمربي والمدبر بمعنى واحد3.

وقد صرح يوحنا الإنجيلي بأن الألوهية ليست على ظاهرها فقال في إنجيليه: "جلس يسوع في إسطوان سليمان بأورشليم فأحاطت به اليهود وتناولوا الحجارة ليرجموه وقالوا: حتى متى تعذب نفوسنا؟ فقال: أريتكم أعمالاً حساناً من عند الله، أفمن أجل الأعمال [ترجمونني] 4؟! فقالوا: إنما نرجمك لأنك بينا أنت إنسان إذ جعلت نفسك إلهاً، فقال يسوع: أليس هكذا مكتوب في ناموسكم: "إني قلت إنكم آلهة وبني العلا تدعون"5، فإذا قيل لأولئك: (آلهة) لكون كلمة الله عندهم، فالذي قدَّسه الله وأرسله إلى العالم، كيف تقولون إنه يجدف"6.

فقد اعترف يوحنا والمسيح بأن الألوهية متْروكة الظاهر، وإن إطلاقها عليه كإطلاقها على العلماء والحكماء والمدبرين من بني إسرائيل، وقد صرح في هذا

1 أشعيا 7/14.

2 يوحنا20/16، 17، والنصّ كالآتي: "قالت له: ربوني، الذي تفسيره: يا معلم

".

3 علق محمّد مجدي مرجان ص 174، على النّصّ السابق وعلى ما ورد في إنجيل يوحنا 1/37، 38، بقوله: "لم يشأ يوحنا أن يطلق كلمة (رب) على عيسى من غير تفسيره، فقد خشي أن يتصور الناس أن عيسى إله أو بعض إله، ففسر يوحنا الكلمة في صلب الإنجيل نفسه بأنها تعني المعلم، فعيسى بالنسبة لتلاميذه هو معلمهم وأستاذهم.

4 في ص (ترجموني) والصواب ما أثبته.

5 نصّ مقتبس من مزمور 82/6، ونصّه:"قلت: إنكم آلهة وبنو العلي كلكم".

6 يوحنا 10/22-36، في سياق طويل وقد اختصر بعضه المؤلِّف وذكره بالمعنى.

ص: 268

الكلام بأنه ليس هو الله، ولا الله حال / (1/91/أ) فيه، وأن الله قدّسه؛ أي: طهّره وأرسله إلى العالم، وكذلك يفعل بسائر الأنبياء والرسل1.

ولو كان المسيح هو الله، كقول الجهلة من النصارى للزم اتّحاد المُرْسِل والرسول والمُقدَّس.

قال فولس في رسائله: "وقد يعرفون نعمة سيدنا يسوع المسيح إذ تَمَسْكن من أجلكم وهو غني، لكي تستغنوا بمسكنته"2.

فشهد فولس بأن المسيح رجل من عباد الله يتواضع لله كدأب أوليائه وصفوته.

- وقد استشهد النصارى على ربوبية المسيح بقصة الكنعانية:

قال متى: "حضر إلى يسوع امرأة كنعانية فقالت: إن ابنتي بها شيطان رديئ فعسى تتعطف عليها، فلم يجبها فسأله التلاميذ أن يقضي حاجتها فقال: لم أرسل إلاّ للخراف الضالة من بيت إسرائيل. فجاءت المرأة وسجدت له وقالت له: يا رب أَعِنِّي. فقال: ليس يجيد أن يؤخذ خبز النبيّين فيعطى للكلاب. فقالت: نعم. يا ربّ والكلاب أيضاً تأكل من الفتات الذي يسقط من موائد

1 يقول محمّد مجدي مرجان في كتابه السابق ص 172: "يطلق لفظ: (إله) في الكتب المقدسة على بعض الأنبياء على سبيل المجاز تعبيراً عن قربهم من الله كسائر أبناء الله الصالحين والبشر المؤمنين، يقول عيسى موضحاً المجاز: "إنما بنوة الله بالأعمال"، ويقول لأتباعه عند صعوده إلى السماء وإنقاذه من أعدائه: "إني أصعد إلى أبي وأبيكم إلهي وإلهكم". نعم. فنبوة الله ليست باللحم والدم، وليست بالتناسل والتوالد، إنما بالعمل الصالح، وكلما صدق الإيمان وثبت اليقين وحسنت النيات والأعمال كلما زاد اقتراب الإنسان من خالقه، وصار قريباً من ربّه وكأنه ابنه، فنحن أبناء الله وصنع يديه". اهـ.

2 رسالة بولس الثانية إلى أهل كورنثوس 8/9.

ص: 269

أربابها، فحينئذٍ عطف / (1/91/ب) عليها وقال:[يا امرأة عظيم إيمانك، ليكن لك كما تريدين] 1، فشفيت ابنتها من تلك الساعة"2.

قال النصارى: سجدت له [المرأة] 3 وخاطبته بالربوبية، وذلك دليل على ربوبيته إذ لم ينكر عليها، بل تقريرها وشفاء ابنتها من أوضح الأدلة على ربوبيته.

وسبيل من وقف على ذلك أن يعارض قول الكنعانية له: "يا رب"، بقولها:"والكلاب تأكل من الفتات الذي يسقط من موائد أربابها"، فقد جعلت ملاك الكلاب [أرباباً] 4 لهم ولم ينكر عليها أيضاً.

وكذلك فليعارضوا بقوله: "ليس بجيد أن يؤخذ خبز النبيّين فيعطى للكلاب"، فقد سمى الكفار من بني آدم كلاباً، وقد سمى الدعاء والشفاء خبزاً، وذلك كله دليل التجوز والتوسع، وإذا كان ذلك كله جائزاً على المعنى، فالربوبية والبنوة أيضاً جائزة على طريق المعنى، فإن أحاولوا أن يكون الآدمي كلباً فليحيلوا أن يكون ربّاً.

وأما سجودها له ولم ينكر عليها فذلك كان سلام القوم وتحيتهم في الزمن الأوّل على عظمائهم وأكابرهم، / (1/92/أ) والدليل عليه أن التوراة تنطق:"بأن إخوة يوسف حين عرفوه سجدوا له طالبين قدميه"5، وكذلك قالت التوراة:"إن إفرام ومنسى [ابني] 6 يوسف سجدا لجدهما يعقوب بحضرة أبيهم يوسف"7. فلن ينكر عليهم.

1 في ص (يا مرأة عظيمة أمانيك يكون لك ما أردتي) والتصويب من النص.

2 متى 15/22-28.

3 إضافة يقتضيها السياق.

4 في ص (أربا) والتصويب من المحقِّق.

5 سفر التكوين 42/6.

6 في ص (ابنا) والتصويب من المحقِّق.

7 تكوين 48/8-21.

ص: 270

وقد قالت التوراة: "إن إبراهيم ولوطاً سجدا للملائكة على الأرض"1، فلم ينهوا عن ذلك. "وقد ساوم إبراهيم قوماً في أرض لهم ليدفن سارة فلم يكلّمهم، ولم يساومهم حتى سجد لهم مرتّين"2. على ما في التوراة، فبطل تعلقهم بسجود المرأة للمسيح.

وقال المؤلِّف - عفا الله عنه -: قصة هذه الكنعانية التي استدلوا بها على الربوبية هي من أدل الدلالة على عدم الروبية، وبيانه: أنها جاءت إلى المسيح مؤمنة به، سالكة طريقه في التواضع، معتقدة أن معجزته لا تعجز عن شفاء ابنتها، وهو فلم يَعْلَم بما انطوى عليه ضميرها من الإيمان به، ألا تراه كيف جابهها بالرّدّ؟! وقال: ليس بجيد أن يؤخذ خبز النبيّين فيعطى للكلاب، فلما قالت له ما قالت ظهر له من إيمانها ما كان مستوراً / (1/92/ب) عنه وبدا له من معتقدها فيه ما لم يكن في حسابه، فحينئذٍ قضى حاجتها وشفى ابنتها.

- دليل من قوله على أنّ ما يفعله بقوّة الله وحوله:

قال مرقس: "قال رجل ليسوع: يا معلم قد جئتك بابني وبه روح أبكم حيثما أدركه صرعه وسألت تلاميذك فلم يقدروا على إخراجه، فقال يسوع: آتوني به، فلما رآه قال لأبيه: مُذْ كم أصابه هذا؟ فقال: منذ صباه فتارة يلقيه في الماء وتارة يطرحه في النار، فإن استعطت فأعنا وتحنن علينا، فقال يسوع: كلّ شيء يستطيعه المؤمن، فبكى أبو الصبي، وقال: أنا مؤمن فأعن ضعف إيماني، فانتهر يسوع الروح وقال: أيها الروح النجس الأبكم الأصم اخرج من الإنسان، فخرج، وصار الصبي كالميت وأخذ يسوع بيده وأقامه فقال:

1 تكوين 18/1، 192/1.

2 تكوين 23/2-12.

ص: 271

التلاميذ: لم لم نقدر نحن على إخراجه؟ قال يسوع: إن هذا الجنس لا يستطاع إلاّ بصوم وصلاة، وخرج يسوع من هناك إلى الجليل مستتراً"1.

قلت: إن قدح اليهود في هذه الآية، قيل لهم: ألم ترووا/ (1/93/أ) لنا: "أن موت الفجأة وقع في بني إسرائيل بغتة فقتل منهم أربعة وعشرين ألفاً وسبعمائة رجل، فأمر موسى هارون أن يضع في المجمرة بخوراً وقام بين الأموات والأحياء فأمسك الموت الفاشي عن بعضهم"2.؟!

فما الدليل على صحة ما نقلتم من هذه الآية ولعلها زور وكذب ومينٌ3 وإفك؟ فإذا قالوا: قد ثبت أن الناقلين لهذه الآية انتهوا في الكثرة إلى حد يستحيل مهم التواطؤ على الكذب، قيل لهم: وكذلك آية المسيح نقلها من يستحيل تواطؤهم على الباطل فاستوت الحال.

وإن زعم النصارى أن ذلك يصلح للدلالة على ربوبويته، قيل لهم: لا تتعرضوا للاستدلال بهذه القصة على ربوبية المسيح البته، فهي من إحدى الشواهد على عبوديته وبيانه من وجوه:

أحدها: قوله لأبي الصبي: "مذن كم أصابه الجني"، فإن ذلك مشعرٌ بعدم علمه بالزمن الذي علقه الجني فيه، إذ لو كان ربّه وإلهه كما يزعم النصارى لكان هو الذي ابتلاه ولَمَا عَلِقَه الجني دون إذنه وعلمه، فعدم علمه بالوقت الذي لبسه فيه دليل / (1/93/ب) على عبوديته، إذا الغيب لا يعلمه إلاّ الله

1 مرقس 9/17-30.

2 سفر العدد 16/42-50، في سياق طويل، وقد ذكره المؤلِّف مختصراً، وقد ورد في النّصّ أن الذين قتل من بني إسرائيل أربعة عشر ألفاً وسبعمائة، وليس كما ذكره المؤلِّف، والظاهر أنه تحريف من الناسخ.

3 المين: الكذب، وجمعه:(ميون) . (ر: الصحاح ص 641) .

ص: 272

الواحد جلّ وعلام، وقد مضى نظائر ذلك إذ قد سئل عن يوم القيامة، "فقال: لا أعلمها ولا يعلمها إلاّ الله الواحد"1.

والثاني: قوله: "كلّ شيء يستطيعه المؤمن"، أراد إنما يصدر منه من شفاء المرضى وسائر الآيات إنما كانت لإيمانه بالله واهب القوي وما حي أثر الداء بالدواء.

والثالث: قوله للتلاميذ: "إن هذا الجن لا يستطاع إلاّ بصوم وصلاة". يدل على أن المسيح تقدم في الصوم والصلاة والعبادة إلى حد أربى فيه على غيره من عبيد الله. وفي بقية الفصل ما دل على خوف يسوع وتواريه وعجزه عن مقاومة مناوئيه، وهو أنه بعد قيام الفتى من صرعته خرج إلى الجليل فاراً من ساعته، والكلمة الأزلية لا تعتورها نقائص البشرية.

كذب النصارى في دعوى بنوة المسيح:

قال مرقس: "خرج يسوع وتلاميذه إلى البحر وتبعه جمع كثير فأبرأ أعلالهم فجعلوا يزدحمون عليه ويقولون: "أنت هو ابن الله، فكان ينهاهم وينتهرهم"2.

قلت: أعلم / (1/94/أ) أن هذا الكلام لو كان إيماناً من قائله لم ينهه المسيح، وكيف ينهى عنه، وإنما جاء لنشر الدين وبثّ الحقّ اليقين، والأمر بالكتمان ينافي الإعلان بالإيمان؟.

فلو أن قول أهل زمانه:"أنت ابن الله"توحيد لم ينههم عن التوحيد، لكنه إنما نهاهم لمخالفة نصّ الإنجيل إذا قال فيه لوقا: "إن المسيح هو ابن داود وأن

1 مرقس 12/32.

2 مرقس 3/7-12، بألفاظ متقاربة.

ص: 273

الرّبّ يجلسه على كرسي أبيه داود"1. وذلك بشهادة جبريل عليه السلام. وإذا كان المسيح إنما هو ابن داود، فكيف لا ينهاهم عن قول ما لا يحسن قوله؟!. فإن قال النصارى: إنما نهاهم خوفاً من اليهود أن يفطنوا به إذ كانوا يرومون قتله.

قلنا: ألم تزعمواأنه إنما تعنى ونزل إلى الأرض ليقتل إيثاراًلكم وتخليصاً من العذاب الذي ورطكم فيه آدم بتعاطي الخطيئة؟! أفترونه ندم على ذلك؟! فهو يستتر ويتوارى خوفاً من القتل، أفتصفونه بالبداء والندم والجهل بعواقب الأمور؟! لقد كادالله هذه العقول وحادبها عن سواء السبيل.

- نوع منه آخر: قال لوقا: "كان كلّ من له مريض يجيء به إلى يسوع / (1/94/ب) فيضع يده عليه فيبرأ فيقولون له: أنت ابن الله، فكان ينتهرهم ولا يدعهم ينطقون بهذا"2.

انظر رحمك الله إلى انتهار المسيح من ينطق بلفظة البنوة ليعلم أن النصارى اليوم معرضون عن إنجيله سالكون غير سبيله.

فقد شهد لوقا بمثل ما شهد به مرقس، فإن زعموا أنه إنما نهاهم خشية اليهود قيل لهم: لو كان ذلك كذلك لما أكثر من فعل الآيات وفي فعلها وإظهارها ما يوجب شهرته وظهوره، فلما أكثر من المعجزات وأشاع فعلها دلّ على كذبكم في أنه نهاهم خشية أن يفطن به، بل إنما نهاهم لنصّ الإنجيل وبيان جبريل، حيث يقول:"إن يسوع هو ابن داود"، فلذلك لم يرض منهم بهذا الإطلاق.

وقد قال متى في إنجيله: "هذا ميلاد يسوع المسيح بن داود بن إبراهيم"3. فشهد - وهو الصادق عندهم - أن أبا المسيح هو داود، وذلك ردّ على من زعم من النصارى أنه ابن الله - تعالى الله عن قولهم علوّاً كبيراً.

1 لوقا 1/32.

2 لوقا 4/40، 41.

3 متى 1/1.

ص: 274

فإن قيل: ساعدتمونا على ترك العمل بظاهره إذ سلمتم أنه مولود / (1/65/أ) من غير أبٍّ، فكيف توردون علينا بنوة داود؟!. وإذا كنتم لا تقولون بذلك فقد سُلِّم لنا مرادنا.

قلنا: النسبة نسبتان: نسبة تعريف ونسبة تشريف.

فالأولى: هي نسبة الإنسان من والده الذي هو أصله.

والثانية: هي نسبته من والد والده الذي هو أصل أصله، فالمسيح منسوب إلى داود النسبة الثانية - التي هي نسبة تشريف - وهي كنسبة داود إلى إبراهيم، ثم مريم أم المسيح1 من نسل داود، وداود من نسل يهوذا بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم.

وإذا كان المسيح بن داود بهذه النسبة بطل ما ذهبتم إليه من الضلال وانتحال المحال.

فإن قيل: إن كان قد روى مرقس ولوقا - من أصحابه - نهيه من ينطق بلفظ البنوة فقد قال هو: "إني ذاهب إلى أبي وأبيكم".

قلنا: فبذلك نستدل على اضطراب النقل وضعفه، إذ لو كان صحيحاً لم يختلفوا فيه، وإذا كان بعض الإنجيل يقول إن المسيح بن داود، وبعضه يقول: لا. بل هو ابن يوسف، وبعضه يقول: بل هو ابن الله، لم تحصل الثقة بقول واحد لاسيما والمسيح يقول: / (1/95/ب)"إنّي ذاهب إلى إلهي وإلهكم"، ويقول في زعمكم:"إلهي إلهي لم تركتني؟ ". فالمسيح يقول إن الله إلهه وربّه، وأنتم تقولون: لا. بل هو ابنه. لقد تباعد ما بينكم وبين المسيح.

مسألة: زعم النصارى أن يسوع إنما جاءهم لينصرهم على اليهود ويطلع عليهم بالثالوث شموس السعود.

1 ورد ي قاموس الكتاب ص 756، أن مريم العذراء من سبط يهوذا من نسل داود. (قارون لوقا1/32، 69، رومية 1/3، 2، الرسالة الثانية ليتموثاوس 2/8، وعبرانيّين 7/14) .

ص: 275

فيقال لهم: يا عباد الرجال وربات الحجال1 إن كان الأمر على ما تصفون فقد كان يقضي أمره على ألسن رسله والحال صالحة، وميزان التوحيد بطاعات العبيد راجحة، والخلائق مقبلون على أنبيائهم إقبالهم على آبائهم وأبنائهم، فما الذي دعاه إلى نزوله عن مجده الرفيع وعِزَّه المنيع إلى حضيض النصب ومقر الآفات والوصب؟! فيولج بطن امرأة من إمائه ومكث برحمها منغمساً في المشيمة على حال ذميمة، ثم ولدوه وأرضعته وفضلته وأدبته فأمرته بحقوقها ونهته عن عقوقها، وترددت به إلى الأعياد والمواسم وأرته الشعائر والمعالم، ولم تزل تلقنه وتثقفه حتى شبّ وترعرع وتشوَّف / (1/96/أ) إلى حنكة الرجولية وتطلع، فلما شرع فيما جاء له من نصرتكم وثب عليه اليهود فكذبوا فمه وأهدروا دمه، وأقصوه وشردوه وكدروا عليه روح الحياة ونكدوه، وأجمعوا أن يخربوا جثمانه ويفسدوه، فلما طال عليه تمردهم أعمل مطايا الحذار وعَوَّل على معقل الاستتار في الحذار، وتقدم إلى أصحابه ألا يذكروه وأن يبالغوا في طي أمره فلا ينشروه بل ينكروه، ولم يزل ذلك حاله واليهود تنقب عليه وترشي من يرشدها إليه، حتى دلّ عليه صاحبه يهوذا، وساق إليه من أعدائه جمعاً كثيفاً وأنزل به من الذعر خطباً منيفاً. فأنشبوا فيه مخاليب الضراب، وأمطروه شآبيب العذاب، وسحبوه على شوك السفاه والسباب، وبقي هذا الإله المسكين في أيدي اليهود ممتهناً يرون أقبح ما يأتونه إليه حسناً، فلما بلغوا من إهانته المراد، مضوا به إلى بقعة من الأرض تزعم النصارى أنه دحاها وألزموه حمل خشبة قالوا:[إنه] 2 أنبت لحاها، / (1/96/ب) وألبسوه أثواباً كان قد صنع ورسها3 وأصهوره شمساً هو الذي أسخن مسها، فسألهم شربة من الماء - الذي فجره - حين

1 الحجل: هو الخلخال. (ر: الصحاح ص 124) .

2 في ص (إنها) والتصويب من المحقِّق.

3 ورَّسه توريساً: صبغه به. (ر: القاموس ص 747) .

ص: 276

وقفت نفسه لدى الحنجرة [فضنوا] 1 عليه بذلك، وعوَّضوه الخل مما هنالك، فلما تضافرت عليه فوق جذعةٍ الدواهي أعلن بقوله: إلهي إلهي، وصار بين اللصوص ثالثة الأثافي2، وعُوِّض عن بلوغ المنى بالمنافي، ثم زهقت نفسه وفتح رمسه3 وصار في صدر الأرض سراً مكتوماً، وعاد هذا الإله العظيم عديماً، ولما تمت له ثلاثة أيام في الرخام، قام من ذلك المكان ورجع إلهاً كما كان، فتلبِّس الحال الوبيل4 وادَّرع5 الذّل العريض الطويل، ولم يؤمن به إلاّ عصابة هي أقل من قليل.

فما أرى هذا الإله إلاّ نايل6 الرأي فاسد الحسّ فطير7 الفطرة مشؤوم الغرة8 منقوص الهمة مظلم الفكرة9، إذ عرض نفسه للمحن وأثار بين عباده الأحقاد والإحن، فلقد شان الربوبية وأزل بهجتها وطمس نورها وأطلق ألسن السفلة بنقصها، وثلبها حتى لقد شكك كثير / (1/97/أ) منهم في الربوبية وسَهَّل

1 في ص (فطنوا) والتصويب من المحقِّق.

2 الأُثْفَيَة: الحجر توضع عليه القدر، جمعه: أَثافي، وأُثَف. ورماه الله بثالثة الأثافي، أي: بالجبل، والمراد: بداهية، وذلك أنهم إذا لم يجدوا ثالثة الأثافي أسندوا القدر إلى الجبل. (ر: القاموس ص 1636) .

3 الرَّمس: الدفن والقبر، جمعه: أرْمَاس، ورموس. (ر: القاموس ص 708) .

4 وبيل: أي: ثقيل وخيم. (ر: مختار الصحاح ص 707) .

5 أدرع: أي: لبس. (ر: م. ن ص 203) .

6 هكذا في الأصل، والذي أراه أن الكلمة الصحيحة هي:"مائل"، وقد حصل لها تحريف من الناسخ والله أعلم.

7 الفطير: ضدّ الخمير، وهو العجين لم يختمر، وكل شيء أعجتله عن إدراكه فهو فطير، يقال: إياك والرأي الفطير. (ر: مختار الصحيح ص 507) .

8 غُرّة كلّ شيء أوّله، وأكرمه. والغِرَّة: الغفلة.

9 إن هذه الصفات القبيحة التي ذكرها المؤلِّف لازمة للإله الذي يعبده النصارى، وذلك بحسب ما ورد في أناجيلهم المقدسة عندهم.

ص: 277

عليهم ارتكاب مذاهب الدهرية1. وسلَّهم من ربقة العبودية بالكلية، فسحقاً سحقاً لإلهٍ هذه حكمته ومحقاً محقاً لربٍّ هذا تدبيره.

فلو أن إنساناً نشأ ببعض الجزائر المنقطعة عن العمران لا يعرف رباً ولا يقرأ كتباً، ولا يدين بملة عرض عليه دين النصارى، فقيل له: إن لك رباً خلقك وأبدعك، ومن صفته أنه رجل مثك يبول ويغوط ويبصق ويمتخط ويجوع ويعطش ويعرى ويكتسي ويسهر وينام، وسارع مع الأنام الكلام وأن إنساناً مثله حقد عليه بعض الأمر فضربه وسحبه، ثم قتله وصلبه بعد أن حطم شعره ولطم نحره، فجاور الأموات وتعذر عليه روح الحياة وفات.

1 الدهرية: أنكروا الخالق والرسالة والبعث والإعادة، وهم الذين أخبر عنهم القرآن الكريم:{وَقَالُوا مَا هِيَ إِلاّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاّ الدَّهْرُ} .] سورة الجاثية، الآية: 24 [. وزعموا بأن العالم قديم لم يزل ولا يزال، وما ثم إلاّ أرحام تدفع، وأرض تبلع، وسماء تقلع

الخ. ويسمون بالملاحدة.

ودهرية زماننا يسمون بالشيوعية الماركسية والاشتراكية والوجودية. (ر: الفصل - لابن حزم 1/47، الملل للشهرستاني 2/3، 235، البرهان في معرفة عقائد أهل الأديان - للسكسكي الحنبلي ص 88، إغاثة اللهفان - لابن قيم الجوزية 2/255) .

إن ما ذكره المؤلّف - في زمنه - من اعتناق كثير من النصارى لمذهب الدهرية والإلحاد وإناكر الروبية وأنه ناتج عن عقيدة النصارى السخيفة التي لا يقبلها عقل صحيح ولا فطرة سليمة - نجده واضحاً وبارزاً في زماننا حيث أخذت العقيدة الدينية في الذبول وأصبح الإلحاد مفخرة الأندية حتى أندية الكنيسة نفسها، وظهرت الشعارات الإلحادية المختلفة فكان شعار الثورة الفرنسية (أشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس)، وشعار الثورة الشيوعية:(الدين أفيون الشعوب)، وشعار العلمانية:(فصل الدين عن الحياة والدولة) . وقد ملئ الفراغ العقدي عند النصارى بالاتّجاه الوثني الروماني الذي تمثله في العصر الحديث الأفكار المادية، فنشأت في المجتمعات والبلاد النصرانية المذاهب المادية الهدامة كالشيوعية الماركسية والبرجماتية والوجودية والداروينية والفريدوية وخلافها من الأمراض العقلية التي أنتجها العقل البشري المريض. وذلك يفسر لنا الانحلال الاجتماعي الرهيب والانهيار الأسري والخلقي والروحي في المجتمع الغربي النصراني.

ص: 278

لاستنكف الرجل أن يعترف بوجود هذا الإله فضلاً عن أن يتعبد له ولأحال تصوّره ولرأى لنفسه عليه فضلاً لا ينكر ومزية من حقها أن تذكر فتشكر1.

قال المؤلِّف: ليس في الصنارى من يجحد مما ذكرته في هذا الفصل حرفاً واحداً بل قد / (1/97/ب) مدوا أعناقهم للذل، وأسلبوا آذانهم للخزي وأنسوا بسماع التوبيخ، واستلانوا ملابس التقريع، فهم يتلون هذا الفصل تلاوة [المتبجح] 2 ويبتهجون به ابتهاج [المُنْجح]3.

فالحمد لله الذي حَصَّننا بمعقل العقل عن سلوك هذا المذهب و [أنار لنا] 4 بدهن الذهن [حلوك] 5 هذا الغيهب.

1 ذكر أبو عبيدة الخزرجي في كتابه: (مقامع هامات الصلبان ص 123)، والقرطبي في:(الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام ص 167)، ما وصف أحد ملوك الهند-وكان من الملوك الذين يحكمون بالسياسة الدينية الذين لم يتقلدوا أتباع ملة دينية-وقد ذكرت له الملل الثلاث فقال: أما النصارى-وإن كان مناصبوهم من أهل الملل يجاهدونهم بحكم شرعي فلقد أرى ذلك بحكم شرعي، وإن كنا لم نر بحكم عقولنا قتالاً ولكن استثني هؤلاء القوم من جميع العالم، فإنهم قصدوا مضادة العقل وناصبوه العداوة، واستحلوا بيت الاستحالات مع أنهم حادوا عن المسلك الذي انتهجه غيرهم من أهل الشرائع، وقد كان لهم فيهم كفاية ولكنهم شذوا عن جميع مناهج العالم الشرعية الصالحة والعقلية الواضحة، واعتقدوا كلّ مستحيل ممكناً فلم يُعرَف عنهم شيء، وبنوا من ذلك شرعاً لا يؤدي البتة إلى صلاح نوع من أنواع العلام إلاّ أنه يُصيِّر العاقل إذا تشرع به أخرق أحق والمرشد سفيهاً والمحسن مسيئاً؛ لأن من كان في أصل عقيدته-التي نشأ عليها-الإساءة إلى الخالق، والنيل منه بوصفه بغير صفاته الحسنى فخليق به أن يستحل الإساءة إلى مخلوق.

وكذلك ما بلغنا عنهم في خلقهم من جهل وضعف العقل والطمع والبخل ومهانة النفس وخساسة الهمة والقدر وقلة الحياء إلاّ قليلاً منهم. فلو لم تجب مجاهدة هؤلاء القوم إلاّ لعموم أضرارهم التي لا تحصى وجوهه لكفى. وكما يجب قتل الحيوان المؤذي بطبعه، لا يلام المرء على قتل هؤلاء فكيف وثم من الموجبات ما تقدم؟! ". اهـ.

2 في ص (المحج) ولعل الصواب ما أثبته. والله أعلم.

3 في ص (المنجح) ولعل الصواب ما أثبته. والمنجح: هو الظفر بالشيء. أنجح زيد وهو منجح. كما في القاموس ص 311.

4 في ص (أنالنا) والصواب ما أثبته.

5 في ص (حلول) والصواب ما أثبته.

ص: 279