المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الأول: عصر المؤلف - تخجيل من حرف التوراة والإنجيل - جـ ١

[صالح الجعفري]

الفصل: ‌الفصل الأول: عصر المؤلف

‌القسم الأول: الباب الأول: التعريف بالمؤلف

‌الفصل الأول: عصر المؤلف

الفصل الأوّل: عصر المؤلِّف

إنّ العصر الذي يعيشه الإنسان له دور بارز في حياته وتكوين شخصيته لذلك كان على الباحث الذي يدرس شخصية من الشّخصيات أو أثراً من آثارها أن يكتب - ولو على وجه الإيجاز - عن النواحي السياسية والعلمية والاجتماعية السائدة في ذلك العصر، ليقف على مدى تأثير وتأثر تلك الشخصية بأحداث عصرها.

وقد عاش المؤلِّف القاضي الإمام صالح بن الحسين الجعفري في الفترة ما بين نهاية القرن السادس ومنتصف القرن السابع الهجريين.

الحالة السياسية:

كان القرن السادس ومنتصف القرن السابع الهجري من فترات العصر العباسي الثاني الذي ضعفت فيه الخلافة العباسية وتفككت إلى دويلات صغيرة، وظهرت ممالك مستقلة عنها، ولم يكن للخليفة العباسي إلاّ السلطة الاسمية على بغداد وما جاورها. أما السلطة الفعلية فكان للسلاجقة في بلاد فارس والمشرق وما رواء النهر، وللغزنويّين في بلاد الهند وخراسان، وللفاطميّين في مصر حتّى سنة 567هـ، ثم انتقلت إلى الأيوبيّين الذين بسطوا سلطانهم إلى بلاد الشام، والموحدّين في الأندلس والمغرب، والصليحيّين في

ص: 15

اليمن1.

وكانت الصورة العامة في ذلك العصر اضطراب الأمن وعدم الاستقرار وانتشار الفتن والثورات والقلاقل وكثرة الحروب الداخلية بين الأمراء والملوك المتنازعين على السلطة والطامعين فيها، مما أدّى إلى ضعف قوّة المسلمين في مواجهة الحروب الخارجية ومن أبرزها الحروب الصليبية التي كانت تشنها دول أروبا على العالم الإسلامي، والغزو المغولي التتري الذي أدّى إلى القضاء على الخلافة العباسية وتدمير عاصمتها بغداد سنة 656هـ.

ولم يكن الحال مختلفاً عن ذلك في مصر، حيث عاش المؤلِّف بداية حياته في كنف الدولة الأيوبية الفتية التي أسسها الملك الناصر صلاح الدين الأيوبي سنة 569هـ، وورثها من بعده أبناؤه إلى أن انتهت الدولة الأيوبية وأفل نجمها سنة 648هـ، وكان عمر المؤلِّف حينئذٍ (57) ، عاماً، ثم عاش بعد ذلك بقية عمره في ظلّ دولة المماليك البحرية2.

أما السلاطين والملوك الذين عاصرهم المؤلِّف فهم:

1-

السلطان الملك الناصر صلاح الدّين الأيوبي ت سنة: 589هـ.

2-

السلطان الملك العزيز عثمان بن السلطان صلاح الدين ت سنة: 595هـ.

3-

السلطان الملك المنصور محمّد بن السلطان الملك العزيز عثمان، وقد خلعه الملك العادل سنة 596هـ.

4-

السلطان الملك العادل أبو بكر بن أيوب، أخو السلطان صلاح الدين ت 615هـ.

5-

السلطان الملك الكامل محمّد بن العادل الصغير أبو بكر ت 635هـ.

1 ر: الدولة العباسية ص 430، محمود الخضري، تاريخ الإسلام 631/ 4_232، د. حسن إبراهيم.

2 هم الملوك الأراك.

ص: 16

6-

السلطان الملك العادل الصغير أبو بكر بن الكامل محمّد، وقد خلعه الأمراء سنة 637هـ.

7-

السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل محمّد ت 647هـ.

8-

السلطان الملك المعظم توران شاه بن الملك الصالح نجم الدين أيوب، وقد قتله المماليك سنة 648هـ. وبموته انتهت الدولة الأيوبية من ديار مصر وانتقلت إلى دولة المماليك الأتراك.

9-

وتولت السلطنة من بعده الملكة شجرة الدر زوجة الملك الصالح نجم الدين أيوب وتزوجت الأمير عزّ الدين أيبك التركاني ونزلت له عن السلطنة وكانت مدة سلطنتها ثمانين يوماً.

10-

السلطان الملك المعزّ أيبك التركاني ت سنة: 655هـ.

11-

السلطان الملك المنصور نور الدين عليّ بن الملك المعزّ أيبك، تولى السلطنة وعمره خمس عشرة سنة، وقيل: عشر، وقد خلعه الأمير سيف الدولة قطز سنة 657هـ.

12-

السلطان الملك المظفر سيف الدين قطز المعزي، وقد قتله الأمير بيبرس سنة 658هـ، واستولى على الحكم.

13-

السلطان الملك الظاهر بيبرس البندقداري العلائي ت سنة: 676هـ بدمشق1 وفي عهده توفي المؤلِّف رحمه الله سنة 668هـ.

ويلاحظ من خلال هذا العرض السريع كثرة من تولوا حكم مصر في هذه الفترة، ويرجع ذلك إلى أن منهم من قتل أو خلع من الحكم، إما لسوء تدبيره في الحكم، أو سوء سيرته، أو لطمع الطامعين في السلطة.

1 ر: الجوهر الثمين في سير الخلفاء والملوك والسلاطين، ص 220-283، لابن دقماق، خطط المقريزي 3/84-93.

ص: 17

وأما عن أبرز الأحداث التي حصلت في الفترة التي عاشها المؤلِّف فهي كالآتي:

أوّلاً:

- الجهاد الإسلامي الذي قاده ملوك الأيوبيّين ثم المماليك ضدّ غزوات الفرنجة (الأوربيّين) النصارى على العالم الإسلامي ضمن سلسلة ما يسمى بالحروب الصليبية التي بدأت منذ نهاية القرن الخامس الهجري وانتهت عسكرياً1 في نهاية القرن السابع الهجري، وقد كان الدافع لهذه الحروب الصليبية هو الحقد النصراني على العالم الإسلامي ثم الطمع والجشع في غزو ونهب ثروات البلاد الإسلامية واتّخاذ دعوى نصرة النصرانية واسترجاع بيت المقدس ستاراً لذلك، ولقد خاض المسلمون في هذه الفترة معارك ضارية ضدّ ثلاث حملات صليبية هي الحملة الخامسة والسادسة والسابعة.

- أما الحملة الصليبية الخامسة فقد كانت في سنة 615هـ، وقام الصليبيّون2 بمهاجمة ومحاصرة مدينة دمياط بمصر، وكان سلطان الدولة الأيوبية إذ ذاك الملك العادل أبو بكر الذي مات أثناء حصار دمياط، فاضطربت أمور الدولة واستطاع الصليبيّون احتلال دمياط سنة 616هـ، ثم الانطلاق منها لغزو القاهرة، وكان الملك الكامل ابن الملك العادل قد تولى السلطنة بعد وفاة أبيه، ونادى بالنفير العام، واستنجد بأخويه الملك عيسى صاحب دمشق، والملك الأشرف صاحب حلب فحضرا بجيوشهما لخدمته، لما اجتمعوا ساروا إلى دمياط والتقوا مع الصليبيّين في المنصورة سنة 618هـ في معركة فاصلة كان النصر للمسلمين والهزيمة للكافرين واستسلامهم

1 أما فكرياً، فلا تزال الحروب الصليبية مستمرة إلى يومنا هذا متمثلة في الغزو الفكري الغربي وحملات التنصير والاستشراق بأسلحتها المتنوعة الإعلامية والفكرية والاقتصادية.

2 بقيادة ملك بيت المقدس (مملكة عكا النصرانية) حنابرين، وملك النمسا ليوبولد السادس، وملك المجر أندريه الثاني الذي رجع إلى بلاده قبل حصار دمياط.

ص: 18

وخروجهم من مصر صاغرين، وهكذا انتهت هذه الحملة بهزيمة منكرة وفشل ذريع1.

وأما الحملة الصليبيّة السادسة فقد كانت أيضاً في عهد الكامل ابن الملك العادل، وكان قائدها الإمبراطور الألماني فريدريك الثاني الذي وصل بأسطوله الحربي إلى عكا سنة 626هـ، وفاوض فريدريك الملك الكامل - الذي كان آنذاك بالشام لخلاف بينه وبين أخيه الملك عيسى صاحب دمشق - على أن يرد المسلمون إلى النصارى ما كان صلاح الدين قد استرجعه منهم، فوقعت المصالحة بين الإمبراطور فريدريك والملك الكامل على أن يردوا لهم بيت المقدس وحده دون الأماكن المقدسة الإسلامية وأن تبقى بقية البلاد بأيدي المسلمين2.

وعندما استولى الملك الصالح أيوب من الملك الكامل على السلطنة في مصر سنة 637هـ، كانت له عداوة مع بقية بني أيوب بالشام خاصة عمه الملك الصالح إسماعيل الذي تحالف مع الصّليبيّين وتنازل لهم عن بعض البقاع منها طبرية وصيدا لمساعدته في حربه ضدّ الملك الصالح أيوب فلم يكن أمام الملك الصالح أيوب (صاحب مصر) إلا الاستعانة بالقبائل الخوارزمية من وراء الفرات سنة 642هـ لمحاربة عسكر الشام المتحالف مع الفرنجة، وجرت معارك شديدة بين الفريقين انتصر فيها الملك الصالح أيوب على أعدائه جميعاً سنة 642هـ، وأعاد بيت المقدس إلى السيادة الإسلامية3.

1 ر: بدائع الزهور في وقائع الدهور 1/258-263، لأبي البركات محمّد بن أحمد بن إياس، الجوهر الثمين ص 235، وفيات الأعيان 4/172، لابن خلكان.

2 ر: الجوهر الثمين ص 235، البداية والنهاية 13/123، 124، الحروب الصليبية في المشرق والمغرب ص 113-116، لمحمّد العروسي.

3 ر: النجوم الزاهرة6/321-324،لابن تغري بردي، البداية والنهاية13/164-165.

ص: 19

كان استرجاع بيت المقدس من النصارى سبباً في قيام الحملة الصليبية السابعة التي قادها ملك فرنسا لويس التاسع1 سنة 647هـ، ضدّ البلاد المصرية - التي كانت لها السيادة على الأماكن المقدسة - وقامت أساطيله الحربية باحتلال مدينة دمياط، ولما وصلت الأخبار بذلك إلى الملك الصالح أيوب أمر بإشهار النداء في مصر والقاهرة بالنفير عاماً، وخرج الملك الصالح بجيشه لصدّ زحف الصليبيين المتّجهين نحو القاهرة وأثناء الحرب ونشوب المعارك توفي الملك الصالح إلاّ أنّ زوجته شجرة الدر أنقذت الموقف وأخفت موته إلاّ عن بعض خاصة القواد وقامت معهم بتدبير الأمور إلى حين وصول ولي العهد الملك توران شاه بن أيوب وتوليه السلطة سنة 648هـ، وقيادة الجيوش ضدّ الصليبيين في معركة فاصلة قاسية كنت الغلبة فيها للمسلمين والهزيمة المنكرة للصليبيين، وأسرّ فيها قائدهم الملك لويس التاسع الذي افتدى نفسه بمبلغ كبير وعاد إلى بلاده مدحوراً2، وبذلك انتهت هذه الحملة التي تعتبر آخر الحملات الصليبية على الشرق الإسلامي.

أما عن جهاد ملوك دولة الممالك، فإن الملك الظاهر بيبرس لما تولى السلطنة في مصر أخذ يهاجم الصليبيّن ويحرر منهم الحصون والمدن كقيسارية3، وأرسوف صفد4، ويافا والشقيف5، وأنطاكية وغيرها عنوة أو مصالحة، وما إن توفي الظاهر بيبرس سنة 676هـ، حتى انحصرت الإمارات الصليبية في منطقة

1 في الجوهر الثمين: إفرنسيس، وفي النجوم: ريدا فرنس.

2 ر: الجوهر الثمين ص 244-248، النجوم الزاهرة 6/362-368، البداية والنهاية 13/178، الحروب الصّليبيّة ص 117-122 للعروسي.

3 ر: الجوهر الثمين ص 277-292، لابن دقماق، الحروب الصّليبيّة ص 131، للعروسي.

4 مدينة بفلسطين بين يافا وحيفا. (ر: المنجد في الأعلام ص 560) .

5 قلعة بمدينة صفد بفلسطين. (المرجع السّابق، ص: 427) .

ص: 20

ساحلية صغيرة لا تعدو عكا وطرابلس1.

ثانياً:

ومن أبرز الأحداث المؤلمة في هذه الفترة الزمنية الغزو المغولي على العالم الإسلامي الذي قضى على الخلافة العباسية ودمر عاصمتها بغداد سنة 656هـ، واستولى المغول التتار على بلاد الشام وغيرها من بلاد المسلمين وعاثوا في الأرض قتلاً وحرقاً ودماراً وفساداً مما لا مثيل له في التاريخ، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله العلي العظيم.

ثالثاً:

حينما عزم التتار على غزو مصر بعد استيلائهم على الشام، اتّفق الأمراء المماليك على تولية الملك المظفر قطز سنة 657هـ، الذي أعد العدة لملاقاة التتار وأعلن النفير العام في القاهرة وسائر الأقاليم بالخروج إلى الجهاد ومقاتلة التتار الذين انهزموا شرّ هزيمة في معركة عين جالوت2 بيان3 سنة 658هـ4، وكانت نهاية الخرافة السائدة بأن المغول لا ينهزمون، وبداية تحرير البلاد الإسلامية منهم. ولله الحمد.

رابعاً:

إعادة الخلافة العباسية في مصر على يد الملك ظاهر بيبرس سنة 659هـ، بعد هدمها وانقطاعها في بغداد، وتولية المستنثر بالله أحمد بن الإمام الظاهر

1 قلعة بالقرب من قضاء النبطية بجنوب لبنان. (المرجع السّابق، ص: 37) .

2 بليدة شرق دارين بين بيسان ونابلس من أعمال فلسطين. (ر: معجم البلدان / 76، ياقوت الحموي) .

3 مدينة بالأردن بالغور الشمالي. (ر: معجم البلدان 3/60) .

4 ر: الجوهر الثمين ص 264-269، السلوك 1/431، الخطط 2/238، للمقريزي النجوم الزاهرة 7/79-82.

ص: 21

بالله محمّد الخلافة العباسية ومبايعته بالقاهرة1.

تلك كانت أهمّ الأحداث وأبرزها في عصر المؤلِّف باختصار، ويهمنا الآن معرفة دور المؤلِّف فيها، وما مدى تأثيرها فيه؟

لم تذكر المصادر2 التي ترجمت للمؤلّف رحمه الله دوراً بارزاً له في تلك الأحداث، إلاّ أنّها ذكرت أنّ المؤلِّف صالح بن الحسين الجعفري كان قاضياً في مدينة قوص3 مدة وواليا عليها مدة أخرى، وقد استنجت من ذلك أنّ المؤلِّف كان له دور علمي أثناء الحروب الصليبية وغيرها - بحكم ما تولاه من الوظائف المهمّة في الدولة ومكانته الاجتماعية والعلمية والقيادية - في حثّ الناس على الجهاد والخروج لصدّ الغزاة وحماية الأعراض والبلاد، وترغيب الناس في الصدقة، وجمع الأموال لإعداد الجيوش، خاصة حينما أعلن الملك الكامل والملك الصالح والملك المظفر قطز النفير العام في مصر.

وبجانب جهاد المؤلِّف بالسيف والسنان كان له أيضاً جهاد القلم واللسان والحجّة والبرهان ضدّ الصليبيّين وأعوانهم من اليهود، وبيان فساد دينهم وما هم عليه من الباطل والخذلان.

ويظهر لنا هذا الجانب بحسب ما وقفت عليه من كتبه في الرّدّ على اليهود والنصارى ومنها: (تخجيل من حرَّف التوراة والإنجيل) و (الرّدّ على النصارى) ، و (البيان الواضح المشهود من فضائح النصارى واليهود) .

1 ر: الجوهر الثمين ص 179-185، البداية والنهاية 13/231-232.

2 سيأتي ذكر هذه المصادر. (ر:) .

3 قوص: مدينة في مصر على ضفة النيل الشرقية (محافظة قنا) ، تبعد عن القاهرة (800كم) تقريباً في جنوب الصعيد، أصبحت في القرن السابع الهجري (القرن 14م) أولى مدن الصعيد وثانية المدن المصرية، فكانت مدينة كبيرة عظيمة وأهلها أرباب ثروة واسعة وهي محط التجار القادمين من عدن، وهي شديدة الحر لقربها من البلاد الجنوبية. (ر: معجم البلدان 4/413، لياقوت الحموي، المنجد في الأعلام ص 558، الموسوعة الميسرة 1407) .

ص: 22

وقد أكد لنا المؤلِّف أداءه لهذا الواجب في ذكره سبب تأليف كتابه (البيان الواضح) أنّه كان من باب الذَّبِّ عن الدين والجهاد القامع للملحدين1.

الحالة الاجتماعية:

كان المجتمع المصري يتألف من عدة طبقات: طبقة أهالي البلاد الأصليّين السنيّين الذين يؤلفون الأغلبية الساحقة من المصريّين، ثم طبقة المغاربة الذين قامت الدولة الفاطمية على أكتافهم ويدينون بالمذهب الشيعي مذهب الفاطميّين، ثم طبقة الأتراك الذين كثر عددهم في مصر منذ أيام الدولة الطولونية سنة 254-292هـ، وظهر أمرهم في عهد الخليفة الحاكم الفاطمي، ثم طبقة السودانيّين الذين كثر عددهم في مصر منذ أيام كافور الإخشيد سنة 355-357هـ. وظهر أمرهم منذ أيام الحاكم الفاطمي الذي استعان بهم ضدّ الأتراك2، ثم ظهرت طبقة أخرى في عهد المماليك وهم التتار الذين قدموا إلى مصر في أوائل عهد السلطان بيبرس وازداد عددهم في عهد السلطان كتبغا سنة 695هـ3.

كما كان يعيش في المجتمع المصري المسلم طائفة أهل الذّمّة (وهم اليهود والنصارى) التي تدفع الجزية للدولة الإسلامية مقابل حمايتها وتمتعها بحريتها الدّينية في ظلّ التسامح الإسلامي. وقد تعددت فرق أهل الكتاب وطوائفهم في مصر على النحو الآتي:

1 ر: مقدمة كتاب: (البيان الواضح المشهود) ورقة 5 / أ.

2 ر: مصر في العصور الوسطى ص 461، عليّ إبراهيم حسن، تاريخ الإسلام 4/627، 628، د. حسن إبراهيم.

3 ر: مصر في العصور الوسطى ص 478، د. عليّ إبراهيم.

ص: 23

أما اليهود فكانوا أقلية بالنسبة للنصارى، وينقسمون إلى ثلاث فرق رئيسة هي:

1-

فرقة الربانيّين: وهم جمهور اليهود، ومنهم يكون رئيس اليهود المشرف على الطوائف اليهودية الأخرى.

2-

ثم يليهم في العدد فرقة القرائين.

3-

ثم فرقة السامريّين (أو السامرة) وكانوا أقلية صغيرة العدد في مصر1.

وقد كان لكلّ من فرق اليهود كنائسها الخاصّة بها، وقد أحصى المقريزي إحدى عشرة كنيسة في القاهرة والفسطاط وأقاليم البلاد المصرية، وكلّها محدث في الإسلام على حدّ قوله2.

أما النصارى فقد انقسموا إلى ثلاث فرق رئيسة هي:

1-

اليعاقبة (مذهب اليعقوبية) وهم الأقباط الذين يمثلون أغلبية النصارى في مصر.

2-

الملكية أو الملكانية: وهم أقلية بالنسبة لليعاقبة كما أنهم في غالبيتهم من أصول غير مصرية كالروم وغيرهم، ومن ثمّ اشتدت العداوة بينهم وبين الأقباط.

وكان لكل فرقة بطريرك خاص بها يتولى تنظيم الشؤون الداخلية لجماعته وفقاً لقوانينهم والإشراف على الكنائس والأديرة وما يتعلق بها، وتحديد مواعيد أعيادهم ومواسمهم وتنظيم علاقة أبناء طائفته بالدولة3.

1 ر: صبح الأعشى 11/385، 388، 3/253، 257، 268، للقلشندي.

2 الخطط 2/463، 474.

3 ر: صبح الأعشى 11/392، 395، 397، أهل الذمة ص 34، 103-180، د. قاسم عبده.

ص: 24

3-

النسطورية: وهم أقلية صغيرة العدد في مصر1.

وقد انتشرت كنائس النصارى في كلّ أنحاء مصر، وكانت غالبيتها ملكاً لليعاقبة بحكم كونهم الأغلبية، فقد أحصى المقريزي ما يزيد على اثنتين وثمانين كنيسة لليعاقبة في الوجه القبلي، كما امتلك النصارى الملكية بعض الكنائس في القاهرة والفسطاط، ووجدت بعض كنائس للأرمن والنساطرة2.

أما فيما يتعلق بالناحية الاقتصادية في مصر زمن الأيوبيّين وعصر المماليك البحرية فقد كانت منتعشة، وكان المال يأيتها من موارد عدّة، منها: الجزية التي كانت تصلها من الإمارت، والضرائب المعتادة التي تجبى من الشعب، إضافة إلى غنائم الحروب وغيرها، ولم تحدث في عهد الأيوبيّين إلاّ مجاعة واحدة في عهد السلطان العادل سنة596هـ استمرت نحو ثلاث سنوات، كان سببها انخفاض مياه النيل، فانتشر القحط، وهرب الناس من مصر إلى الشام وغيرها ومات الناس من التعب والجوع واشتدّ الغلاء3.

تلك صورة موجزة عن المجتمع المصري زمن المؤلّف، نتعرف من خلالها بعض المؤثّرات في شخصية المؤلّف وتكوينه، إذ لا يخفى أن للبيئة الاجتماعية التي تحيط بالإنسان تأثيراً فيه بصورة مباشرة أو غير مباشرة، سلباً أو إيجاباً.

وقد كان المؤلِّف - بحكم وظيفته قاضياً لمدينة قوص ووالياً عليها - على اتّصال وثيق بمختلف طبقات الشعب مسلمهم وذميهم، كبيرهم وصغيرهم، واطلاع على أمورهم ومشكلاتهم، وتحكيم شرع الله فيهم وإقامة العدل

1 خطط المقريزي 2/510، الانتصار لواسطة عقد الأمصار ص 107، لابن دقماق.

2 خطط المقريزي 2/516-518، الانتصار لواسطة عقد الأمصار ص 107-109، أهل الذّمّة ص 129، 130، د. قاسم.

3 السلوك 1/156، للمقريزي، البداية والنهاية 13/22، 29، مصر في العصور الوسطى ص 380-383.

ص: 25

والقسط بينهم، وقد كان للاحتكاك المباشر بين المؤلِّف القاضي واليهود والنصارى أثر في تأليف كتبه في الرّدّ اليهود والنصارى، خاصة إذا ما علمنا أن مدينة قوص من المدن الرئيسة التي كان يعيش فيها عدد كبير من الذّميّين، فقد ذكر بنيامين التطيلي - الذي قام برحلة إلى مصر في عصر الأيوبيّين - أنّه وجد بقوص حوالي ثلاثمائة يهودي1، كما ذكر المؤرخ المقريزي أنه كان بقوص وأسوان إحدى عشرة كنيسة للنصارى2، فقد كان من الطبيعي أن يقوم المؤلِّف الفقيه بجوابه في الدعوة إلى الإسلام بأن يبيّن لليهود والنصارى بطلان ما يعتقدونه من العقائد الفاسدة وما يتمسكون به من الشريعة المنسوخة والكتب المحرفة ويقدّم لهم النصيحة الواجبة المؤيّدة بالأدلة النقلية والبراهين العقلية لاعتناق الإسلام والانضمام إلى أهل الإيمان، وقد أوضح المؤلِّف أن من أسباب تأليفه لكتاب (التخجيل) هو القيام بما أُمِر به المسلمون في قوله تعالى:{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهِم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} ، كما بيَّن المؤلِّف خلال كتابه بعضاً من نشاطه في مجال الدعوة عن طريق المناظرة والمحاورة لأحبار اليهود والنصارى بإبطال شبههم وإقامة الحجّة عليهم وإلزامهم بالاعتراف بنبوّة سيدنا محمّد صلى الله عليه وسلم.

1 ر: كتاب (رحلة بنيمين التطيلي) ص 173، ترجمة وتعليق عزرا حداد - طبعة بغداد سنة 1945م، نقلاً من كتاب أهل الذّمّة في مصر ص 21،60،د. قاسم عبده.

2 ر: الخطط 3/579.

ص: 26

الحالة العلمية:

إنّ الحوادث المؤلمة والغزوات المتكررة على العالم الإسلامي من التتار والصليبيّين تركت آثاراً سيّئة وخطيرة على الحركة العلمية، فقد قتل الأئمة والعلماء وهدمت المساجد والمدارس وأحرقت المكتبات وأتلفت الكتب، ولكن على الرغم من ذلك فإن الحركة الفكرية والثقافية في ذلك العصر كانت مزدهرة ازدهاراً كبيراً، فقد ظهر الأئمة والعلماء والأعلام في مختلف العلوم منهم:

محمّد بن عمر بن حسين الرازي المفسر ت سنة: 606هـ، وعبد الله بن أحمد بن محمّد بن قدامة المقدسي، ت سنة: 620هـ، وعلي بن محمّد الشيباني المعروف بابن الأثير المؤرخ ت سنة: 630هـ، وعلم الدين عليّ بن محمّد بن عبد الصمد السخاوي ت سنة: 643هـ، وابن التلمساني شرف الدين عبد الله بن محمّد الفهري ت سنة: 644هـ، وابن الحاجب عثمان بن عمر ت سنة: 646هـ، ونجم الدين مختار بن محمود الزاهدي الغزميني ت سنة: 658هـ، والعزّ ابن عبد السلام المعروف بسلطان العلماء ت سنة: 660هـ، ومحمّد بن أحمد بن أبي بكر الأنصاري القرطبي المفسر ت سنة: 671هـ، وأبو زكريا يحيى بن شرف الدين النووي ت سنة: 676هـ، وشهاب الدين أحمد بن إدريس القرافي ت سنة: 684هـ، وغيرهم ممن يصعب حصرهم والإحاطة بهم.

كما نشطت مراكز علمية في الأندلس وغيرها، وانتشرت المؤلَّفات النافعة في العلوم المختلفة وتنافس الناس على اقتنائها ودراستها وقد ساعد على هذه الحركة العلمية وازدهارها عدّة عوامل من أبرزها:

1- اعتناء الملوك والولاة بالعلم وتشجيعهم وإكرامهم للعلماء.

2-

تولي العلماء للمناصب المهمّة والعالية في الدّولة واحترام الناس لهم وتقديرهم.

ص: 27

3-

كثرة المدارس والمراكز العلمية التي تنشأ في البلاد الإسلامية.

4-

توافر خزائن الكتب في المساجد والمدارس وانتشار المكتبات العلمية العامّة والخاصّة.

وقد توافرت تلك العوامل في مصر، حيث عاش المؤلِّف رحمه الله، فقد عرف عن ملوك الأيوبيّين والمماليك حبهم وتقديرهم للعلم والعلماء، فكان السلطان صلاح الدين الأيوبي ت سنة: 589هـ، يحبّ العلماء وأهل الخير ويقربهم ويحسن إليهم، حتى صار لكثرة مخالطته بهم وأخذه عنهم من كبار الفقهاء1، وكذلك كان ابنه بعده الملك العزيز عثمان الذي سمع الحديث من الحافظ السلفي والفقيه أبي طاهر بن عوف الزهري وغيرهم2، وكذلك كان من بعده الملك العادل أبو بكر3.

ثم كان الملك الكامل الذي يحضر مجلسه الفقهاء كلّ ليلة ويتحدث معهم ويشاركهم في علومهم ويبيت معهم كواحد منهم4، ويتنافس العلماء في إهداء كتبهم ومؤلَّفاتهم إليه، فقد أهدى إليه المؤلِّف صالح بن الحسين الجعفري كتابه:(العشر المسائل) وتسمّى أيضاً: (البيان الواضح المشهود من فضائح النصارى واليهود) الذي ألّفه في عهد الكامل سنة 618هـ، وأهداه إليه ليقمع به أشطان طاغية الروم الأبتر الشيطان الذي أرسل إلى السلطان الكامل عدّة

1 ر: الجوهر الثمين ص 224، 225، النجوم الزاهرة 8/9، 56.

2 ر: وفيات الأعيان 3/251، لابن خلكان، الجوهر الثمين ص 230، النجوم الزاهرة 6/127-129.

3 ر: النجوم الزاهرة 6/163.

4 ر: وفيات الأعيان 5/81، الجوهر الثمين ص 238، النجوم الزاهرة 6/227، 228، خطط المقريزي 3/339.

ص: 28

مسائل يطلب من المسلمين الجواب عنها، وكان ذلك سبب تأليف المؤلِّف لذلك الكتاب1.

كما أهدى الإمام أحمد بن إدريس القرافي كتابه: (أدلة الوحدانية في الرّدّ على النصرانية) إلى السلطان الكامل2.

وكذلك كان الملك الصالح نجم الدين يكرم العلماء ويحبّهم ويسمع منهم ويبالغ في إكرامهم ويجري على أهل العلم الجرايات3.

أما عن ملوك المماليك فإن السلطان الظاهر بيبرس كان محبّاً للعلماء ومقرباً لهم، وبنى المدارس والجوامع الكثيرة4.

أما عن المدارس والمراكز العلمية فقد كانت كثيرة جدّاً، نذكر منها5:

1-

المدرسةالناصريةوقد بناها السلطان صلاح الدين في عام566هـ.

2-

المدرسةالصلاحية وبناها السلطان صلاح الدين في عام572هـ.

3-

المدرسة الفاضلية أسسها القاضي الفاضل عبد الرحيم ت سنة: 596هـ، وكان من أكابر العلماء في عصر الأيوبيّين.

4-

المدرسة الشريفية وقفها الأمير الشريف فخر الدين أبو نصر إسماعيل بن ثعلب الجعفري الزيني أحد أمراء مصر في الدولة الأيوبية ت سنة: 612هـ.

5-

المدرسة الكاملية وهي دار الحديث بناها الملك الكامل في عام 621هـ.

1 مقدمة كتاب: (البيان الواضح المشهود) - مخطوط، الورقات 4، 5.

2 ر: مقدمة كتاب (أدلة الوحدانية) ص 19-21، تحقيق عبد الرحمن دمشقية.

3 ر: السلوك 2/308، 340، النجوم الزاهرة 6/331.

4 ر: النجوم الزاهرة 7/181، عصر سلاطين المماليك 1/27.

5 ر: للتوسع خطط المقريزي 3/313-383، حسن المحاضرة 2/257-270.

ص: 29

6-

المدرسة الصالحية وهي أربع مدارس للمذاهب الأربعة بناها الملك الصالح نجم الدين أيوب في عام 639هـ.

7-

المدرسة الظاهرية وبناها الملك الظاهر بيبرس في عام 662هـ.

وكانت هذه المدارس وغيرها تعنى بتدريس العلوم الدينية والأدبية والعقلية، كما كانت تلك المدارس والمساجد والقصور تلحق بها خزائن الكتب (المكتبات) التي تحتوي على أمّهات الكتب وأنفسها وأوسعها في سائر العلوم.

بذلك نرى أن البيئة العلمية المحيطة بالمؤلِّف ساعدته كثيراً في تكوينه العلمي وعلى تحصيل العلم والاجتهاد فيه حتى أصبح من العلماء البارزين الذين كانت لهم التصانيف العديدة المفيدة ونال ثقة الولاة والحكام في تعيينه قاضياً في مدينة قوص ووالياً عليها، خاصّة إذا ما علمنا أن مدينة قوص قد نشطت أثناء الحروب الصليبية حينما استولى الصليبيّون على فلسطين وعلى ثغورها فازداد خطرهم وأصبح الطريق المألوف لحجاج بيت الله الحرام غير مأمون، فأصبحت مدينة قوص من المدن الرئيسة المهمّة التي يمرّ بها حجاج بيت الله القادمين من الأندلس وشمال أفريقيا، فكثرت بها المدارس والمعاهد والمساجد وقصدها العلماء ونزلوا فيها، وبزغ منها علماء في مختلف العلوم، وكثر فيها الأدباء والشعراء؛ لأنّها أصبحت محط رحال الحجيج1.

ومن هؤلاء العلماء الذين درسوا العلم ودَرَّسوه في قوص: شمس الدين أبو عبد الله محمّد بن محمود الأصفهاني توفي سنة: 688هـ2، وجلال الدّين أحمد بن عبد الرحمن الكندي الدشنادي توفي بقوص سنة 677هـ3، والقاضي

1 ر: الغزو الصليبيب والعالم الإسلامي ص 229، 230، عليّ عبد الحليم محمود، الموسوعة الميسرة 1/1407.

2 ر: طبقات الشافعية 8/101، للسبكي، حسن المحاضرة 2/164.

3 ر: طبقات الشافعية 8/20، للسبكي.

ص: 30

بهاء الدين القفطي هبة الله بن عبد الله بن سيد الكل، كان قيماً بالمدرسة النجيبية قوص توفي سنة 697هـ1، وتقي الدين بن دقيق العيد محمّد بن عليّ بن وهب القشيري، تفقه على والده بقوص وتفي سنة: 702هـ2، والحسين بن أبي بكر بن عياض بن موسى السبتي القوصي توفي سنة 682هـ3، وغيرهم.

1 ر: طبقات الشافعية 8/390.

2 ر: طبقات الشافعية 9/207.

3 ر: معجم المؤلِّفين 3/317.

ص: 31