المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الباب الثاني: في إثبات نبوته وتحقيق رسالته - تخجيل من حرف التوراة والإنجيل - جـ ١

[صالح الجعفري]

الفصل: ‌الباب الثاني: في إثبات نبوته وتحقيق رسالته

‌الباب الثّاني: في إثبات نبوّته وتحقيق رسالته

الدلالة على نبوّة المسيح: اعلم أن في إثبات نبوّة المسيح عليه السلام [إرغاماً] 1 لليهود والنصارى جميعاً، وذلك أنهم ارتكبوا في طرفي نقيض.

أما اليهود - خذلهم الله - فإنهم يرمونه بالكذب والسحر والنيرنجات2 واستخار الشياطين في أغراضه ومآربه، فقالوا:"إنه إنما يخرج الشياطين من الإنسان ببعلزبول3 رئيس الشياطين، وقالوا: إنه لم يحي ميتاً قط ولا أبرأ ذا علة وعاهة، ولكنه واطأ صديقاً له يقال له ألعازر4 فتماوت ثم إنه دخل عليه في جماعة معه فوجد أمه تبكي، فقال لها: لا تبكي، ثم وضع يده عليه فقام وادعى في البلد أن المسيح أحياه، وكانت أمه تهتف بذلك لشغفها بولدها5. وقالوا: وواطأ آخر فجلس على الطريق كأنه زمن فلما طال مقامه / (1/33/أ) وعُرِف بالزمانة والاستعطاء مَرَّ به في أناس معه كأنه لا يريد فناداه: ارحمني يا ابن داود. فأجابه: ما الذي تريده؟ فقال: أريد أن أنهض. فأخذ بيده وأقامه فقام وقد تعقدت رجلاه من طول الجلوس، فكانت أمه تشيع أن يسوع أقامه".

واستبشع آخرون منهم هذا واستعبدوه فقالوا: لا. ولكن لَطُفَت معرفته بالطبّ حتّى أبرأ الأرض والأكمه وأقام الزمنى والمخلعين. وهم بأسرّهم

1 في ص (إرغام) والصواب ما أثبته.

2 النَّيْرَنج: أَخْذٌ كالسحر وليس به. (ر: القاموس المحيط ص265) .

3 متى 12/24، مرقس 3/22، لوقا 11/15.

وبعلزبول: اسم كنعاني ومعناه: (بعل الأقذار) ، وأصل هذا الاسم (بعلزبوب) وقد غيره اليهود، وأما بعلزبوب، فمعناه:(إله الذباب) وهو أكبر آلهة الوثنيّين ولذلك دعي رئيس الشياطين. (ر: قاموس ص 183) .

4 العازر: معناه: (من يعيه بهوه) ، وهو رجل من بيت عينا، وكان من نصيبه أن يقيمه المسيح من الأموات، ولا يعرف بعد ذلك مكان وزمن وفاته. (ر: المرجع السّابق، ص: 816) .

5 هذا ادعاء اليهود وتفسيرهم لما ورد في إنجيل يوحنا، الإصحاح (1) ، لمعجزة المسيح عليه السلام في إحياء الميت واسمه العازار.

ص: 163

ينسبونه إلى بنوّة الزنى كا يشهد به الإنجيل1، "إذ يقولون له في محاوراتهم: أما نن فلسنا من أولاد الزنى"2.

فإذا أثبتنا معجزاته وآياته بالطرق التي ثبتت بها معجزات موسى وغيره من الأنبياء لم يبق إلى القدح في نبوّته سبيل، وكان ما يعترضون به على المسيح منعكساً عليهم في معجزات أنبيائهم3، وكلّ سؤال انعكس على سائله فهو باطل من أصله.

1 يوحنا 8/41.

2 ورد في كتاب التلمود - وهو كتاب فقه اليهود المقدس لديهم، إذ يعتبرونه التوراة الشفوية من الله لموسى عليه السلام ولكنه في حقيقته ليس إلاّ تفسيرات واستنباطات حاخاماتهم لنصوص التوراة؛ فقد ورد فيه:"أن يسوع الناصري موجود في لجات الجحيم يبن الزفت والنار، وأن أمه مريم أتت به من العسكري باندارا بمباشرة الزنى، وأن الكنائس النصرانية بمقام قاذورات، وأن قتل المسيحي من الأمور المأمور بها".

وجاء في التلمود وصف المسيح بأنه كان ساحراً وثنياً ومجنوناً ومرتداً كافراً وشريراً. وبأنه صنم عبده أتباعه بعد صلبه. وبأن تعاليمه كذب وهرطقة ومستحيلة الإدراك. (الكنْز المرصود في قواعد التلمود - د. روهلنج - ترجمة د. يوسف نصر الله ص 27، 105، فضح التلمود - للأب براناتيس ص 55-76) .

3 لما لم يؤمن اليهود بالمسيح عليه السلام وكفروا بدعوته؟ لقد ذكر الباحثون لذلك عدة أساب نجمل أهمها كالآتي:

1- أن اليهود كانوا ينظرون ظهور نبيّ يكون ملكاً عليهم ويخلصهم من أعدائهم بالسلاح، ولكنمهم فوجئوا بنبيٍّ يدعو إلى الصبر الإيمان بالله ولم تتحقق فيه الشروط التي وردت عند الأنبياء السابقين - حسب زعمهم - حول المسيح المنتظر وزمانه كنُزول إيليا مرهصاً له، ومجيء الخير والقضاء على الشرّ، فلذلك انفضوا من حوله وأظهروا له العدواة.

2-

إن علماء الدين عند اليهود رأوا في المسيح رجلاً جاهلاً يتطاول عليهم، وعند طائفة منهم كانوا يعتبرونه أكثر الفوضويّين خطورة وأضرهم بمصالحهم الدنيوية، فكان أعداؤه ينشرون أن الأعمال الخارقة التي يعملها المسيح مرجعها الشيطان.

3-

لأن المسيح عليه السلام قد خالف بعض تشريعات اليهود التي توجب مخالفتها الرّدّة والكفر-حسب زعمهم-وذلك كقدسية يوم السبت وتحريم العمل فيه. (ر: سفر الخروج (20)، وسفر العدد (15) . وكالأكل بدون غسل الأيدي. (ر: مرقس (2) ، و (7) ، وكالدعاء على أورشليم بالخراب، (لوقا (21) . (ر: المسيحية نشأتها وتطورها ص 44، 45، شارل جنيبر، الفكر الديني اليهودي ص 110-12، د. حسن ظاظا، اليهودية ص41،42، د. شلبي، محاضرات في النصرانية ص 32، أبو زهرة، اليهودية والمسيحية ص 250-254، د. محمّد الأعظمي) .

ص: 164

وأما النصارى فإنهم مجمعون1 على ألوهية المسيح واعتقاد ربوبيته وأنه الإله الذي خلق العالم وجبل بيديه طينة آدم.

فإذا أثبتنا نبوّته وأوضحنا رسالته عُرِف أن الإله غيره، والرّبّ سواه، ونحن نثبت ذلك من كتب النصارى التي بأيديهم ونوضحه من قول المسيح / (1/33/ب) وأقوال تلاميذه الذين صحبوه:

1-

قال يوحنا التلميذ: "قال المسيح لتلاميذه: من قَبِلكم وآواكم فقد قبلني وآواني ومن قبلني فإنما يقبل من أرسلني. ما من عبد أفضل من سيّده"2.

فهذا يوحنا حبيب المسيح يشهد بأن المسيح لم يَدَّع سوى الرسالة وأن من يقبل منه فإنما يقبل من الله الذي أرسله، ويذكر أن الله غيره وأن الرّب سواه، وأنه رسول من عند الله وها هو معترف بالعبودية في قوله:"ما من عبد أفضل من سيّده"، وذلك موافق للكتاب العزيز إذ يحكي منه:{قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتَانِي الكِتَابَ وَجَعَلِنِي نَبِيّاً} . [سورة مريم، الآية: 30] .

فإن زعم النصارى أنه سيد الحواريين وأنهم عبيده وأنه عناهم بقوله: "ما من عبد أفضل من سيّده" أكذبهم الإنجيل إذ يقول فيه: "إن الحواريين إخوته". "فقال له قائل: قابل إخوتك بالباب يطلبونك، فأشار إلى تلاميذه وقال: هؤلاء إخوتي"3. "وقال له أحدهم: يا سيّد. فقال: لست أدعوكم عبيد بل أنتم

1 إن النصارى لم يتفقوا على ألوهية المسيح، إلاّ في القرن الرابع الميلادي بعد مجمع نيقية عام 325م، بعد أن فرض الإمبراطور قسطنطين على المسيحيين القول بذلك بالوعد والوعيد والبسلطة. وبالرغم من ذلك فقد بقيت طوائف كثيرة على الاعتقاد بعدم ألوهية المسيح. ومن أبرزها: طائفة الأريوسية، وفي العصر الحديث نجد الكثير من الباحثين ومفكّري النصارى ينكرون ألوهية المسيح. (ر: المسيح في مصادر العقائد المسيحية - لأحمد عبد الوهّاب) .

2 يوحنا 13/16، 20.

3 متى 12/46-49، مرقس 3/31-34، لوقا 8/19-21.

ص: 165

إخوتي"1. "وقال بعد قيامه: قل لإخوتي يسبقوني إلى الجليل"2.

فقد ثبت بقوله رسالته وأن الله غيره وأنه غير الله، والرسول نبي بسفر بين الله وبين خلقه.

فإن قالوا: نسلم أن الله أرسله ولا غرو / (1/34/أ) أن يرسل الله كلمته رحمة لخلقه ولطفاً بهم، وذلك أنه لما أرسل الله أنبياءه، فكذّبوهم وقتلوهم بعث إليهم ابنه الذي هو كلمته فتجسدت من مريم البتول ليتهيأ للناس السماع منها والأخذ عنها.

فنقول: هذا تعريج على ثدنات3 الحمق وترويج بِبُنيَّات4 الطرق، وذلك لأن الكلمة عندكم قديمة، وهي علم الله على رأي بعضهم، ونطقه على رأي آخرين، وإذا كانت الكلمة قديمة، فكيف يصح إرسالها؟! أفتقولون إن الأب بعد إرسالها بقي أخرساً جاهلاً بغير علم ولا نطق؟! ثم الكلمة هي صفة العلم فكيف تفارق الصفة ذات الباري والصفة لا تفارق موصوفها؟! أو تقولون إن الصفة تقوم بمحلين؟!.

وأخبرونا كيف قَدِر الخلائق على رؤية الكلمة القديمة وثبتوا عند مواجهتها؟! والتوراة تشهد أن موسى بن عمران عليه السلام لم يثبت عند جلال التجلي بل خَرَّ صعقاً وصار الجبل يضطرم ناراً5 وكذلك السبعون شيخاً ماتوا لوقتهم عند سماع كلام الله6.

1 يوحنا 15/15، بألفاظ متقاربة.

2 متى 28/10.

3 ثَدِنَ اللحم: تغيرت رائحته. وفلان كثر لحمه وثقل فهو ثَدِن، وأمرأة ثَدِنة: ناقصة الخلق. المراد به هنا: نواقص الحمق. (ر: القاموس ص 1528) .

4 بُنَيَّات الطرق: الترهات. (ر: القاموس ص 1633) .

5 خروج 19/16-19، تثنية 5/23.

6 خروج 19/20-25، 24/9-18، تثنية5/24، ولم يرد فيها أنهم ماتوا عند كلام الله.

ص: 166

أتقولون إن موسى وصلحاء أصحابه لم يبلغوا من التمكين مبلغ / (1/34/ب) الحواريين الذين زعمتم أنهم شاهدوا الكلمة وخدموها؟! على أن اليهود الملاعنين أيضاً قد شاهدوا المسيح وقاوموه. أفتقولون إن موسى ومن معه من الأشياخ لم يبلغوا من التمكين والقوة مبلغ اليهود؟! هذا وأنتم تروون في التوراة: "إن قوم لوط لما دنوا من الباب يريدون ضيفه برقت من بعض من الملائكة بارقة أعشت أبصارهم، فلم يقدروا على رؤية الملائكة"1.

فمن لم يستطع رؤية مخلوق مثله، كيف استطاع رؤية الرّبّ العظيم والإله القديم؟!

وأخبرونا كيف تقوم الكلمة تتردد بين اليهود في الأرض نيفاً وثلاثين سنة لا يسطع منها نور يغشى الأبصار ويذهل العقول ويزعزع القلوب؟!.

وكيف لم [تتناوبها] 2 الملائكة ويترددون إلى خدمتها؟! وهذه التوراة تنطق: "أن ابني هارون حين دنوا من قبة الزمان وبخَّرا بنار غريبة لم يؤذن فيها، نزلت من السماء نار فأحرقتهما بين يدي موسى وهارون وسائر بني إسرائيل"3. "وقد كلم الله موسى من صوب العوسجة فأضاء له الوادي"4.

"وأرسل [أخزيا] 5 الملك الكافر خمسين رجلاً ليأخذوا الياء / (1/35/أ) النبي فنَزلت نار من السماء فأحرقتهم ثم بعث آخرين فنَزلت النار فأحرقتهم ثلاث مرات"6.

1 تكون 19/1-11.

2 في ص (تنتابها) ولعل الصواب ما أثبته.

3 لاويين 10/1-3.

4 خروج 3/2-4.

5 في ص: (آحاب) والتصويب من النص.

6 الملوك الثاني 1/1-14.

ص: 167

"وألقى بختنصر ثلاثة من أرقاب دانيال النبي في نار عظيمة1 فلم تعد عليهم""وطرح بختنصر دانيال إلى السباع فلم تهجه"2.

وهؤلاء عبيد لله تعالى، فكيف نكص عنهم الشيطان وتمكن من ربّهم على زعم النصارى حتّى أغرى به شرذمة من أَخَسَّ جنده وهم اليهود فقتلوه وصلبوه؟! إذكان المسيح عندهم هوالله أومتّحداًبه وساكناًفيه.

وأخبرونا كيف تتجسدالكلمةفتصيرلحماًودماًوعروقاً شعراًوظفارً؟!

أذلك شيء شاهدتموه عياناً فساغ لكم أن تخبروا به الناس وتدعوهم إلى اعتقاده والقول به، فادَّعوا ما بدا لكم، فمن الذي يمسخ الله عقله ويسلخ لبه فيجيبكم إلى دين اعتقاد أهله أن الله ولد علمهُ، وأن علمه صار إنساناً، وصار ذلك الإنسان إلهاً خالقاً، وأن ذلك الإله قتله خلقه وصلبوه ونكلوا به؟!! فمتى تُساعدون على هذه الخرافات التي يأنف منها النوكى والمغفلون والعجائز المثكلون؟

وأخبرونا أليس المسيح عندكم / (1/35/ب) هو الكلمة، والكلمة هي المسيح؟ فإذا قالوا: نعم. قلنا: فنحن وأنتم نعلم أن المسيح كان يكون منه يكون من الآدميين، أفتصفون الكلمة بأنها كانت بائلة غائطة؟!.

فإن قالوا: البائل الغائط هو الناسوت أبطلوا الاتّحاد وأزروا على يوحنا الإنجيل الذي زعم أن الكلمة صارت جسداً وحلّت في الناسوت.

وكذَّبوا فولس الذي يسمونه رسولاً في قوله: "إن المسيح ابتاعنا من لعنة الخطيئة بصلبه وقتله فصار لعنة بدلنا"3.

1 سفر دانيال إصحاح (2) .

2 سفر دانيال إصحاح (6) .

3 رسالة بولس إلى أهل غلاطية 3/13.

ص: 168

وسفّهوا إفريم في قوله: "إن اليدين التي جبلت آدم هي التي سمرت بالمسامير وإن الشِّبر التي مسحت السماوات هي التي علقت بالصليب".

فإذا قالوا: "إن الآكل الشارب البائل الغائط هو الناسوت فقد كفروا بإفريم وفولس الرسول وغيره من مشائخهم".

وقد نقل عن أكابرهم أنهم قالوا: "من لم يقل إن مريم ولدت الله فهو محروم من ولاية الله"1.

وهم يقرؤون في صلواتهم: "يا والدة الله افتحي لنا أبواب الرحمة، يا من سمرت يده على الصليب لا تضيع من خلقت بيدك".

وإذا كان هذا اعتقادهم فقد اعترفوا بأن الآكل الشارب المقتول المصلوب هو الله، تعالى عن كفرهم علوّاً كبيراً.

فإن قالوا: هذا لازم / (1/36/أ) لكم أيضاً فإنكم موافقون على أن المسيح كلمة الله وقد نطق به قرآنكم.

قلنا: لسنا سواء، فإنا نقول إن الله تعالى شرّفه بتسمية سمّاه بها كما سمّى إبراهيم خليلاً، وسمّى موسى كليماً، وسمّى إسرائيل ابناً بكراً بزعمكم، وسمّى موسى رجل الله، وسمّى عصاه قضيب الرّبّ، وسمّى قبة الزمان خباء الله، كلّ ذلك قد نطقت به كتبكم، والتسميات لا اختلاط لها بالذوات.

1 قائل هذا القول هو: غريغورس، وهو من أكابر علمائهم، ويعتقدون أنه يتكلم بروح القدس. (ر: النصيحة الإيمانية ص 19، للمهتدي نصر بن يحيى المتطبب) . وهذا الاسم يطلق على أكثر من عالم لاهوتي عند النصارى. من أبرزهم: غريغوس العجائبي (213-270) ، أسقف قيصرية، غريغورس المنور (ت 332م) أسقف أرمينيا، غريغورس النازينزي (ت 389م) ، بطريرك القسطنطينية، غريغورس النيصي (ت 395م)، أسقف نيسا ومن أشهر معلمي التصوف المسيحي. كما أن هناك (16) باباً من باباوات الكنيسة يحملون هذا الاسم. (ر: فلسفة الفكر الديني بين الإسلام والمسيحية 2/272، المنجد في الأعلام ص 505) .

ص: 169

ألا ترون الشخص الواحد والعين1 الواحدة تسمّى باسمٍ عند قوم وتسمّى باسمٍ آخر عند آخرين، وإذا كان المسيح عندنا قد سمّاه الله:(كلمة) لم يلزمنا ما لزمكم، فأما أنتم أيها الضلال فتقولون: إن كلمة الله انقلبت لحماً ودماً، فأكلت الخبز وشربت الماء وذلك هو الحَيْرة والعماء.

فإن رجعتم إلى الطريقة المثلى وأضربتم عن هذه المقالة الشوهاء، وقلتم: إن النقائص يستحيل دخولها على الله وعلى صفته، فقد تركتم القول بألوهية المسيح وأبطلتم الاتّحاد، وذلك هو المراد؛ ووافقتم المسلمين والأنبياء المتقدمين. قال الله تعالى حكاية عن المسيح {قَالَ إِنِّ عَبْدُ اللهِ} . [سورة مريم، الآية:30] .وقال تعالى في المزامير:"إن المسيح يشبه/ (1/36/ب) ملكي صادق"2."ملك عادل الذي كان ببيت المقدس"،وقال الحواريون: "إن يسوع يشبه موسى"،وقال بعضهم:"إن المسيح أفضل من موسى"3.

وقال في الإنجيل: "أنا أفضل من يونس"4.

وقال المسيح: "أتيتم من آفاق الأرض لتسمعوا من حكمة سليمان، وهاهنا أفضل من سليمان"5. يريد نفسه.

وقال في الإنجيل: "إلهي لم تركتني"6؟!.

1 العين تقع بالاشتراك على أشياء مختلفة، والمراد هنا: الشيء نفسه.

2 مزامير 110/4. وقد تقدم التعليق. (ر: ص) . أن هذا النصّ وغيره من نصوص كتب أهل الكتاب مما لا ينبغي الجزم بنسبته إلى الله عزوجل وإنما تنسب إلى كتبهم.

3 رسالة بولس إلى العبرانيين 3/1-6.

4 متى 1/41، لوقا 11/32.

5 متى 12/32، لوقا 11/31.

6 متى 27/46، مرقس 15/34.

ص: 170

وقال في خاتمة إنجيل يوحنا: "إني ذاهب إلى إلهي وإلهكم"1.

فاعترف بأن له إلهاً ورباّ فقد ثبتت عبوديته ونبوّته ورسالته.

2-

دليل آخر على نبوّته عليه السلام، قال يوحنا التلميذ:"قال يسوع: أنا هو الراعي الصالح وأنا عارف برعيتي وهي تعرفني"2.

وجه الدلالة من ذلك ما اشتملت عليه التوراة والكتب من رعاية إبراهيم ولوط وإسحاق ويعقوب والأسباط وموسى عليهم السلام تقدمت لهم مقدمات في رعاية النعم ثم أُهِّلُوا بعد لسياسة الأمم، فالنبي راع من الرعاة، وداع من الدعاة، يذودهم بالإنذار عن مراتع الهلاك ويريهم بأنوار الإيمان أشراك الإشراك، ولو كان الأمر على ما يهتف به النصارى من ربوبيته لم يقل في مجلس محشود ومحفل مشهود: أنا الراعي الصالح، بل كان يرفع / (1/37/أ) الالتباس ويقطع عن الناس الوسواس، ويقول: اعملوا أني أنا الله خالق السماء والأرض وجامعكم ليوم العرض، أو أنا ابن الله أو ثالث ثلاثة، أو أنا الكلمة القديمة اتّحدت بجسم إنسان.

وحوشي3 عليه السلام عن هذا الذيان، بل الذي نصّ عليه ودعا تلاميذه إليه قوله في الإنجيل:"لا صالح إلاّ الله الواحد"4. وقوله: "إن الله لا يأكل ولا يشرب ولا رآه أحد". وقوله: "إني لا أعمل بمشيئتي بل بمشيئة من أرسلني"5. وسئل عن القيامة فقال: "لا يعرفها إلاّ الله وحده، فأما أنا فلا أعرفها"6.

1 يوحنا 20/17.

2 يوحنا 10/14.

3 في ص (حوشي) .

4 مرقس 10/18، لوقا 18/18.

5 يوحنا 6/38.

6 مرقس 13/32.

ص: 171

فقوله: "أنا هو الراعي"، تكذيب للنصارى في دعوى ربوبيته؛ لأن الراعي ليس إليه ملك الغنم بل ملكها لغيره وليس له سوى الرعاية.

وقوله: "وأنا عارف برعيتي وهي تعرفني". فيه دليل على أن الخلائق ليسوا بمعمومين بدعوته، بل لم يبعث إلاّ إلى طائفة من بني آدم لا غير. وقد كشف هذا وأوضحه في موضع آخر:"وهو أن أصحابه سألوه أن يقضي حاجة امرأة من الكنعانيين، فقال: لا يحسن أن يؤخذ خبز البنين فيلقى للكلاب إني لم أرسل إلاّ إلى الذين ضلّوا من آل إسرائيل"1.

فهذه نصوص الإنجيل الناجية من التبديلد، وكلها دالة على نبوته ومفصحة برسالته / (1/37/ب) صلى الله عليه وعلى إخوانه من النبيّين والمرسلين.

3-

معجزة دالة على نبوّته، قال متى:"جاء رجل أبرص إلى يسوع وسجد له وقال: يا ربّ طهِّرني، فقال: طهرتك. فزال برصه لوقته، فقال له يسوع: اذهب وقرب قرباناً كما أوصى موسى"2.

إن طعن اليهود في هذه الآية وجحدوها ولم يؤمنوا بها، قلنا لهم: ما الدليل على أن هارون وبنيه كانوا يزيلون البرص عن الأبرص3 وذلك شيء لم تشاهدوه؟

فإن قالوا: نقل إلينا بطريق التواتر التي توجب العلم ويقتضي القطع ولا يبقى معها شكّ.

قلنا لهم: فكذلك تواتر واشتهر وانتشر أن المسيح كان يفعل

1 متى 15/21-26، مرقس 7/24-28.

2 متى 8/2-4.

3 لاويين 13/1، 2.

ص: 172

ذلك، فإن حاولوا طعناً في آية المسيح انعكس عليهم في آية هارون وسائر الرسل، وإذا كانت هذه الآية لا سبيل إلى ردها وجحدها فقد لزم اليهود القول بنبوّته وترك ما هم عليه من التهود1.

وإن حاولوا إسناد ذلك إلى معرفته بالطبّ ووقوفه على خواص تزيل البرص بسرعة، قيل لهم: فلعل موسى أيضاً حين طهر أخته مريم من برصها2 كان قد لطف في علم الطبّ ووقف على خواص فعل بها ما فعل دون أن يكون ذلك معجزة له، وحيث / (1/38/أ) بطل ذاك بطل هذا، وكان ما صدر منهما معجزة من عند الله تعالى.

وإن قال النصارى: بذلك نستدل على ربوبيته إذ سجد له الأبرص، وقال له: يا رب، فلم ينكر عليه، ولو كان ذلك غير جائز لأرشده وقوّم أوده، فإقراره على ذلك وإزالة برصه دليل على ربوبيته.

1 الهَود: الرجوع برفق. ومنه: التهويد، وهو مشي كالدبيب، وصار الهود في التعارف التوبة، قال تعالى:{إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} . أي: تبنا.

قال بعضهم: يهود في الأصل من قولهم: هدنا إليك. (ر: المفردات للراغب الأصفهاني ص 546) .

وقيل: إنهم سمّوا بذلك لأنهم يتهودون، أي: يتحركون عند قراءة التوراة.

وقيل: إنهم سمّوا يهوداً نسبة إلى يهوذا الابن الرابع ليعقوب عليه السلام.

وجاء في قاموس الكتاب ص 1084: أن كلمة (يهود) أطلقت أوّلاً على سبط أو مملكة يهوذا تمييزاً لهم عن الأسباط العشرة الذين سمّوا إسرائيل فصارت تشمل جميع من رجعوا من الأسر من الجنس العبراني ثم صارت تطلق على جميع اليهود المشتتين في العالم. اهـ.

وقال البيروني: "إنه قد أبدلت الذال المعجمة دالاً مهملة (يهوذا - يهود) . لأن العرب كانوا إذا نقلوا أسماء أعجمية إلى لغتهم غيّرا بعض حروفها". اهـ.

وذكر أن الفرس قد أطلقوا على شعب يهوذا اسم اليهود وعلى عقيدتهم اليهودية. فلفظة يهود أعم من بني إسرائيل؛ لأن كثيراً من أجناس العرب والروم وغيرهم دخلوا اليهودية وليسوا من بني إسرائيل. (ر: صبح الأعشى 13/253، الخطط للمقريزي 3/503، قصة العقائد - سليمان مظهر ص 318، اليهودية - د. شلبي ص 92، بنو إسرائيل في القرآن والسنة - د. طنطاوي ص 19، أثر أهل الكتاب - د. جميل المصري ص 25) .

2 سيأتي ذكر هذه القصة.

ص: 173

قلنا: ليس في ذلك دلالة على ما انتحلتموه، أما السجود1 فهو كان سلام القوم وتحيّتهم فيما بينهم، يعرف ذلك من طاع كتبهم وقرأ تواليف المتقدمين منهم.

والدليل على ذلك ما اشتملت عليه توراتهم من "سجود2 إبراهيم ولوط للملائكة الذين مرّوا بهم لهلالك سدوم"3. "وسجود إبراهيم لقم ساومهم في قطعة من الأرض لدفن زوجته سارة فسجد لهم مرتين حين فاتحهم فيها"4.

والتوراة تشهد أيضاً: "إن إسرائيل حين دخل على يوسف بمصر سجد له هو وأولاده"5. وكذلك التوراة: "تشهد أن إفرام ومنشا6 سجدا ليقعوب جدهما

1 ورد في قاموس الكتاب المقدس ص 459، أن السجود يدل عل تقديم الاحترام والإكرام والتحية المتواضعة. (تكوين 37/10، الملوك 1/53، متى 9/18) . وهذا النوع من السجود لا يزيد عما يقدمه الناس لمن يكرمونه من الأمراء أو الحاكم ولا يزيد على الانحناء أمامهم، ويوجد سجود آخر يفهم من القرينة أنه تقديم التعبد لله. (تكوين 24/48، ويوحنا 4/24) . اهـ.

2 تكوين 18/1، 2، 19/1.

3 سدوم، أرض قول لوط الذين أهلكهم الله، وهي إحدى مدن السهل الخمسة وتقع الآن تحت الماء في جنوب البحر الميت، وقد صارت خطيئة سدوم ومصيرها مضرب الأمثال، كما أن خطيئة "السدومية" أو الشذوذ الجنسي أخذت اسمها من سدوم. (ر: قاموس ص 460، 461) .

4 تكوين 23/2-12، وفيه: (

فقام إبراهيم وسجد لشعب الأرض لبَنِي حِثّ) .

5 لم أجد في التوراة المحرفة أن يعقوب (إسرائيل) وأولاده سجدوا ليوسف حينما دخلوا عليه بمصر. (ر: تكوين 46/28-31) . ولكن ذكر فيها أن إخوة يوسف قد سجدوا له عندما جاءوا يطلبون الطعام منه أوّل مرة. (ر: تكوين 43/28) .

وقد وصف القرآن الكريم دخول يعقوب وبنيه على يوسف بقوله: {فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً ً

} . [سورة يوسف، الآيتان: 99-100] . قال ابن كثير في تفسره 2/509: "وقد كان هذا سائغاً في شرائعهم إذا سلموا على الكبير يسجدون له. ولم يزل هذا جائزاً من لدن آدم إلى شريعة عيسى عليه السلام، فحرم هذا في هذه الملة. وجعل السجود مختصاً بجناب الرّبّ سبحانه وتعالى. هذا مضمون قول قتادة وغيره".

6 منسى وإفرايم: اسمان عبريان معناهما: (من ينسى) ، و (الأثمار المضاعفة) وهما ابنا يوسف عليه السلام، وقد ولدا بمصر. (ر: قاموس ص 90، 924) .

ص: 174

بحضرة أبيهما يوسف فدعا لهما وبارك عليهما"1. ولم ينكر فعلهما.

وأما قوله: "يا ربّ"، فسيأتي الكلام عليه - إن شاء الله - في باب تأويل ظواهر الإنجيل ونبيّن / (1/38/ب) أنه لفظ يخاطب بها الأكابر والعظماء من الناس، وذلك مشهور في كلّ ملة.

فأما تطهير الأبرص فليس فيه دلالة على ربوبية عسى عليه السلام وألوهيته، بل ينتهض ذلك دليلاً على تقريبه من ربّه ومزيته، ولو جاز أن يتخّذ المسيح بذلك ربّاً لجاز ذلك في حقّ اليسع عليه السلام؛ إذ قد روى النصارى واليهود في كتاب سفر الملوك من كتبهم:"أن نعمان2 الرومي برص فرحل إلى اليسع من بلده واستأذن عليه فلم يأذن له، بل قال لرجل من أصحابه: "قل له ينغمس في الأردن سبع مرات"، ففعل الرجل فبرأ من برصه لوقته ورجع إلى بلده معافى فاتبعه غلام للمسيح يقال له: (حِجْزا) 3 وأوهمه أن المسيح أرسله يطلب منه مالاً ففرح نعمان بذلك وأعطاه مالاً وجوهراً ثميناً فأخفاه الغلام وجاء إلى اليسع، فقال له اليسع: تبعت نعمان وأوهمته عني كذا وكذا، وأخذت منه كذا وخبأته في موضع "كذا، إذ فعلت ذلك فليصر برصه عليك وعلى نسلك. فبرص الغلام مكانه"4.

فهذا نبيّ الله اليسع قد فعل ما هو أعجب من فعل المسيح / (1/39/أ) لأنه أبرأ نعمان وبرَّص الغلام ونطق بالغيب، وقد أشار الإنجيل إلى طرف من القصة.

1 تكوني 48/8-21.

2 نعمان الرومي: رئيس جيش بنهدد ملك الآراميين في أواسط سورية. (ر: قاموس ص 973) .

3 حيجزى: اسم عبري معناه: "وادي الرؤية"، غلام النبي المسيح ورفيقه. (ر: ص:279) .

4 سفر الملوك الثاني، الإصحاح الخامس.

ص: 175

فأما التوراة فهي تنطق: "أن مريم ابنة عمران1 أخت موسى وهارون تَغَرَّبت على موسى في أمر من الأمور فلما صعدوا إلى قبة الزمان وكلّمهم الله سبحانه تهدد مريم جدا وغضب عليها، فلما خرجت من القبة نظر إليها هارون أخوها فإذا هي قد ضربت بالبرص من قرنها إلى قدمها، فرق لها هارون وسأل موسى أن يدعو الله لها فدعا لها فشفيت"2.

وهذه الأنبياء قد فعلت ما هو مثل فعل المسيح وأعجب منه.

فإن قال النصارى: "إن موسى واليسع وغيره كانوا يفعلون ذلك ولكن بعد ابتهال إلى الله ودعاء وطلب ورغبة، فأما المسيح فإنه كان يخترع ذلك اختراعاً من نفسه من غير دعاء ونداء.

قلنا لهم: من سلم أن المسيح كان يفعل ما يفعل غير مبتهل إلى الله ولا طالب إليه، والدعاء لا يشترط لإجابته الإعلان، فإن الداعي يناجي بحوائجه من استوى عند السر والجهر، ومن أين لكم أن المسيح كان لا يدعو ربه / (1/39/ب) سرّاً؟! على أنا نريكم عدة مواضع من الإنجيل الذي بأيديكم يشهد أنه كان لا يفعل معجزاً إلاّ بعد أن يسأل الله ويضرع إليه ويُعَوِّل في نُجْح مطالبه ومآربه عليه، قال في الإنجيل: "عندما أحيا حبيبه العازر ورفع بصره إلى جهة السماء: يا

1 مريم ابنة عمران - أخت موسى وهارون - يذكر عنها قاموس الكتاب ص 856 أن اسمها عبري معناه: (عصيان) ، ويظن أنها أكبر من موسى نحو عشر سنين، وقد ماتت ودفنت في قادش. (وهي على مسافة (50ميلاً) من بئر سبع إلى الجنوب" اهـ. وكانت في نظر اليهود والنصارى نبية من الأنبياء. (ر: سفر الخروج15/20) .

2 قبة الزمان هي ما يسمى في التوراة بـ: "خيمة الاجتماع"، وأطلق عليها اسم علم:"بيت الرّبّ"، وتسمّى أيضاً بـ:"المسكن"، و"ومسكن الشهادة"، وقد أمر الله موسى عليه السلام ببنائها في البرية وتنقسم إلى ثلاثة أجزاء: المسكن، والخيمة، والغلطاء. (ر: سفر الخروج: إصحاح (30) - (35)، وقد كانت مركز عبادة بني إسرائيل وتقديم قرابينهم. (ر: قاموس ص 352-354) .

ص: 176

[أبت] 1 أشكرك لتستجيب لي وأنا أعلم أنك تستجيب لي في كلّ حين، ولكن أشكرك من أجل هؤلاء الفئام ليعلموا أنك أرسلتني"2. فها هو قد أكذب النصارى في دعواهم أنه كان يخترع من تلقاء نفسه من غير دعاء وابتهال. وقال فيما حكاه النصارى عنه:"إلهي إن كان يحسن صرف هذا الكأس فاصرفها عني كما تشاء أنت لا كما أشاء أنا"3.

وهذا شيء لم نسمعه إلاّ منهم فقد وضح كذب مورد السؤال.

فأما موسى عليه السلام فالتوراة تشهد بأنه كان يلقي عصاه فتصير ثعباناً ثم يأخذها فتعود خشبة4 ثم يلقيها فتعود شجرة وتمد أغصاناً وتثمر لوزاً5 ثم يتناولها فتعود عصا ثم يضرب بها النيل فينقلب دما ثم يضربه / (1/40/أ) فيرجع ماء6 كل ذلك من غير سؤال ولا استغاثة.

وقد أحيت تربة قبر اليسع ميتا7، وأبرأ يوسف عيني أبيه من غير سؤال ولا

1 في ألأصل: يأبه، والتصويب من النص.

2 يوحنا 11/41-43، بألفاظ متقاربة، وقد ورد في الأناجيل ذكر معجزة إحياء المسيح عليه السلام للموتى ثلاث مرات هي:

الأولى: إحياء ابنة يَايِرُس - رئيس المجمع - ورد ذلك في إنجيل متى 9/18-39، وإنجيل مرقس 5/21-43، ولوقا 8/40-56.

الثانية: إحياء ابن الأرملة - انفرد بذكرها لوقا 7/11-17.

الثالثة: إقامة العازر - انفرد بذكرها يوحنا.

3 متى 26/39، بألفاظ متقاربة.

4 ر: سفر الخروج الإصحاح السابع.

5 إن ما ورد في التوراة سفر العدد 17/8-10، يفيد أن عصا هارون هي التي أصبحت شجرة وأزهرت وأنتجت لوزاً وليست عصا موسى كما ذكره المؤلف.

6 ر: سفر الخروج الإصحاح السابع.

7 سفر الملوك الثاني 13/20، 21.

ص: 177

دعاء1، وأحرق إيليا ثلاثة عساكر بنار نزلت من السماء2 ولم يتقدم منه دعاء ولا طلب فعل ذلك عدّة من الأنبياء، فأما المسيح فقد بينا أنه كان في غالب أمره يدعو ويضرع كما قدمناه، ولم ينقل أن واحداً ممن سَمَّينا ضُرب ولا غُلب، فأما المسيح فالنصارى تزعم أنه قتل وصلب.

والعجب منا ومنهم فإنا نعتقد نبوّته وسلامته وهم يعتقدون ربوبيته وعطبه، لقد تباعد ما بيننا وبينهم.

4-

معجز دال على نبوته، قال مى:"جاء رئيس من الرؤساء إلى يسوع فقال: إن ابني قد ماتت فلعل تأتي إلينا فتضع يدك عليها، فمضى معه ووضع يده عليها، فعاشت ابنة الرجل"3.

فإن أنكر اليهود ذلك مع تواتره وأكذبوا التواتر انعكس عليهم في نبوة أنبيائهم وإن زعموا أنه فعل ذلك تخييلاً، قيل لهم: ولعل قلب العصا حيواناً يسعى كان أيضاً تخييلاً / (1/40/ب) وشعبذة4 ودكا، فقد لزمهم القول بنبوة المسيح بالطريق التي لزمهم القول بنبوة موسى وغيره. ولو تطرق التشكيك إلى نبوة المسيح مع ظهورها لم يثبت نبوة نبيٍّ ولا استقرت رسالة رسول.

ص: 178

وإن قال النصارى: ذلك دليل على ربوبيته إذ لا قادر على إحياء الموتى سوى الله تعالى، قال الله: {وَالمَوْتَى يَبْعَثُهم الله

} . [سورة الأنعام، الآية: 36] .

قلنا: فيلزم على ذلك أ، تعتقدوا ربوبية كل من أحيا ميتاً وتتخذوه ربّاً، وقد قال عندكم في كتاب سفر الملوك إن إلياس أحيا ابن الأرملة1، وأن اليسع أحيا ابن الإسرائيلية2 وأن حزقيال أحيا بشراً كثيراً يقال إنهم ستّون ألفاً أحياهم في ساعة واحدة3، وهذا أعجب من إحياء المسيح نفسين أو ثلاثة.

والتوراة تشهد إن موسى كان يقلب عصاه ثعباناً، فبينما هي خشبة إذ عادت حيواناً ذا عينين يأكل ما مرّ عليه4، وقلب الخشب حيواناً أبدع من إعادة الروح إلى ميت.

5-

معجز دال على نبوة المسيح، قال متى:"حضر إلى يسوع أعميان فقالا: ارحمنا يا ابن داود، فقال: أتؤمنان؟ قالا: نعم. فلمس أعينهما وقال: / (1/41/أ) كإيمانكما يكون لكما. فانفتحت أعينهما، فقال: لا تقولا لأحد شيئاً"5.

فإن أنكر اليهود هذه الآية وطرقوا إليها المطاعن، قيل لهم: بأي طريق ثبت لكم "أن موسى عليه السلام شكا إليه [بنو] 6 إسرائيل الحيات التي لدغتهم في

1 الملوك الأوّل 17/17-24.

2 الملوك الثاني 4/18-37.

3 حزقيال 37/1-10.

4 الخروج 7/10-13.

5 متى 9/27-30، بألفاظ متقاربة.

6 في ص (بنوا) والصواب ما أثبته.

ص: 179

التيه فاتّخذ لهم حيةً من نحاس ونصبهم على خشبة وقال: من لدغته أفعى فلينظر إلى تلك، ففعلوا وصحوا"1.

فإذا قالوا: "التواتر والنقل المستفيض يشهد به. قيل لهم: فاقتعوا منا بهذا الجواب.

وإن قال النصارى: ذلك دليل على ربوبية المسيح.

قلنا لهم: لو جاز ادعاء ربوبيته بذلك لجاز لآل يوسف أن يدّعوا ربوعيته بمثله؛ إذ التوراة تشهد أنه أبرأ عيني والده يعقوب بعد ذهابهما، ولما لم يجز التمسك بذلك في الربوبية لم يجز هذا، والمسيح أمرّ بستر ذلك، ويوسف لم يأمر به، فيدل على أنه أقوى حالاً وأعظم تمكيناً من غيره.

ومعلوم عندكم: "أن موسى قد ضرب بعصا كثيب رمل فانهال قملاً لكل واحدة عينان تبصر بهما"2. وهذا أعجب من فعل المسيح؛ لأن فيه خلق الحيوان كله، وذلك رد الصحة على جارحة من جوارحه بعد ذهابها.

وقد / (1/41/ب) شهد متى صاحب المسيح أن المسيح لا يعلم المغيبات "إذ يقول للرجلين: أتؤمنان؟ فقالا: نعم". وأنه لم يعلم بإيمانهم بعد قولهما حتى علق الشفاء على إينمانهما، "فقال: مثل إيمانكما يكون لكما". فضاهى ذلك قوله: "وقد

1 العدد 21/6-9، وقد آل أمر هذه الحية النجاسية في بني إسرائيل في السنين التالية أنهم عظموها وغلوا في أمرها حتى عبدوها وأصبحت صنماً إلى أن حطمها حزقيا. (ر: سفر الملوك الثاني إصحاح (18) ، وقد كان التطرف والانحراف عن الشريعة الإلهية عادة في بني إسرائيل ثم أصبحت هذه الحية شعاراً ورمزاً لليهود ولجمعياتهم السّرية الصهيونية كالماسونية وغيرها. كما أنهم يشبهون أن أحلامهم في السيطرة على العالم بالأفعى التي تلف حول الكرة الأرضية فيلتقي رأس الحية بذنبها في فلسطين المحتلة.

2 الخورج 8/16، 17، والقُمَّل: صغار الذباب، قال تعالى:{وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ} . والقمل معروف. (ر: المفردات للأصفهاني ص 413) .

ص: 180

سئل عن يوم القيامة فقال: لا أعلمها. بل الله وحده هو الذي يعلم ساعته ووقتها".

وبذلك نرد على من زعم أنه من جوهر الأب، حيث قالوا في الأمانة:"المسيح إله حقّ من إله حقّ من جوهر أبيه". وهذه الفصول من الإنجيل تكذب تلك الأمانة وتُخطِّئ من ألفها إذ لو كان من جوهر الأب لكان علمه من جوهر عمله، ومشيئته من جوهر مشيئته، وسائر صفاته من صفاته، ولم يكن جسماً ذا شعر وبشر، بل المسيح من جوهر أبيه داود وإبراهيم فهو إنسان حقّ من إنسان حقّ من جوهر أبيه، والعجب أن المسيح عليه السلام رضي من الرجلين أن نسباه إلى داود وقضى حاجتهما ولم ترضَ النصارى له بما رضيه لنفسه حتى نسبوه نسبة خالفوه فيها وأسخطوا الله وأضحكوا منهم سائر / (1/42/أ) طوائف آدم، على أن قول الرجلين له:"يا ابن داود" لوكان خطأ منهما، لم يقرّهما المسيح على الخطأ، ولاسيما خطأ هو كفر! 1.

وكيف يسمعهما ينطقان بالكفر وهو إنما جاء ليخلص الناس منه؟! بل قد سمع ذلك منهما فأقرهما عليه وشفاهما، وذلك منه بما نسباه إليه من نبوة داود، وكيف لا يرضى بذلك منهما وهي النسبة الجليلة التي نسبه بها جبريل الملك حين بشر به مريم بالناصرة كما شهد به لوقا في إنجيله:"إذ يقول لها: إنك تقبلين حبلاً بولد اسمه يسوع يجلسه الرّبّ على كرسي أبيه داود"2. فالويل للنصارى، لم يرضوا له النسبة التي نسبه بها الحواريون، وارتضاها المسيح من أهل زمانه، وجاء بها جبريل من عند الله.

1 يعني: أن قول الرجلين للمسيح عليه السلام: "يا ابن داود"، كفر على مقتضى اعتقاد النصارى بأنه ابن الله، فكيف يقرّهما المسيح عليه السلام على ذلك ولا ينكر عليهما؟! وهذا من باب إلزام النصارى الحجة ببشرية المسيح وعبوديته.

2 لوقا 1/30-32.

ص: 181

فمن عذيري1 من قوم لبسوا عقولهم مقلوبة يتنكبون السبيل ويرتكبون خلاف ما في الإنجيل؟!. نكتة: قال متى: "سمع يوحنا وهو السجن بأعمال المسيح فأرسل إليه اثنين من تلاميذه، وقال: قولوا له أأنت الآتي أو يرجى آخر؟ فقال يسوع: اذهبا وأخبرا يوحنا بما رأيتما وسمعتما العمي يبصرون والعرج يمشون، والبرص يطهرون،/ (1/42/ب) والصمّ يسمعون، والموتى يقومون، فطوبى لمن لم يشك فِيَّ، فلما ذهب التلميذان قال يسوع: هذا الذي كنت من أجله، هو ذا أنا مرسل ملاكي قدام وجهك ليستهل طريقك، الحق أقول لكم، إنه لم تلد النساء أفضل من يوحنا، والصغير في ملكوت الله أفضل منه، بماذا أشبه هذا الجيل الشرير؟ أشبهه بصبيان يصيحون بإخوانهم قائلين: زمنا لكم فلم ترقصوا، ونحنا لكم فلم تبكوا، جاء يوحنا لا يأكل ولا يشرب، فقالوا: به شيطان، جاء ابن الإنسان يأكل ويشرب، فقالوا: إنسان أكول شريب خمر خليل العشارين والخطاة، فتبررت الحكمة في بينها"2.

قلت: كيف يعتقد في المسيح الربوبية وهذا نبي الله يحيى بن زكريا يرسل إليه: "أأنت الآتي أو يرجى آخر؟ ". فإن كان هذا الشّكّ من يوحنا لا يقدح في إيمانه ونبوته فالمسيح ليس بإله؛ لأن الشّكّ في الإله كفر.

وإن كان المسيح إلهاً كما يهذي به النصارى فقد كفَّروا يوحنا هذا. أفتدعي النصارى - ويلهم - أن يحيى بن زكريا كان جاهلاً بربّه مع قول المسيح: "إن النساء لم تلد أفضل منه؟ ". فشهادة المسيح / (1/43/أ) ليوحنا بأنه أفضل أهل زمانه دليل

1 أي: من يلومه على فعله وينجي باللائمة عليه ي بيان فضائح النصارى وسخافاتهم وضعف عقولهم؟ (ر: المصباح المنير ص 399) .

2 متى 11/2-19، بألفاظ متقاربة وقد اختصر المؤلِّف بعض النصوص.

ص: 182

على غلط النصارى في دعوى ربوبية المسيح، إذ لو كان كما قولوا لكان الأولى باعتقاد ذلك يوحنا، وإنما أرسل يوحنا يسأل عن النبوة والرسالة، فلما أحاله على رؤية الخوارق والتي هي أعلام النبوة زال تردده في نبوته.

وأما قول المسيح: "والصغير في ملكوت الله أفضل منه"، فيعني بالصغير نفسه جرياً على عادته في سلوك التواضع، وفي ذلك دلالة على نبوته من قوله؛ لأن الأفضلية لا تثبت إلاّ بين فاضلين اشتركا في أصل الفضل ثم ترجح أحدهما على الآخر بمزيد من الفضل، ولا يحسن أن يقال: إن الباري جل وعلا أفضل من زيد أو عمرو.

مناقشة: قلب النصارى الحكمةَ وأبدلوها وحرفوا كتب الله وبدلّوها، وصفوا يوحنا بصفة الأرباب في استغنائه عن الطعام والشراب، فقالوا:"كان يوحنا لا يأكل ولا يشرب". واعتقدوا في المسيح الربوبية مع وصفهم له بنقص العبودية، فقالوا:"كان المسيح إنساناً أكولاً شريب خمر"1. فسخر / (1/43/ب) منهم ذووا الألباب وآضوا2 سُبَّةً على ممرّ الأحقاب.

مناقشة: زعم النصارى أن المسيح كان يتردد إلى أورشليم للاستفادة والتعليم ويسائل الأحبار عن الأخبار3 ثم اعتقدوا أنه الذي أنزل التوراة على الكليم وفدى الذبيح من يد إبراهيم، فيقال لهم: يا ممسوحي الحلوم ومسلوخي الفهوم، كيف يتعلم كتاباً هو الذي أنزله أو يتلمذ لرسول هو الذي أرسله؟!.

6-

معجزة دالة على نبوته عليه السلام، قال متى: "حضر إلى يسوع رجل يابس اليد، وذلك بحضرة جماعة من اليهود، فسألوه: هل يحل أن تداوي في

1 متى 11/، 18، 19.

2 أي: صاروا، آض كذا: صار وفعل ذلك. (ر: القاموس ص 821) .

3 لوقا 2/41-50.

ص: 183

السبت؟! لكي [يَنُمُّوا] 1 عليه، فقال لهم يسوع:"أي رجل منكم يسقط خروفه في بئر في يوم السبت فلا يقيمه؟!، فالإنسان أولى من الخروف، ثم قال للرجل: امدد يدك، فمدّها فصحت وعادت كالأخرى، فخرج اليهود متآمرون في إهلاكه، فعلم يسوع سرّهم، وانتقل من هناك فتبعه مرضى فشفاهم"2.

قلت: هربه وتواريه غير قادح في نبوته ولا غاض من رسالته، فذلك كثير ما اتّفق لأنبياء الله وصوفته / (1/44/أ) غير أنه لا يليق بجلال الربوبية، وهو يقدح في قول النصارى إن المسيح إنما نزل من السماء وتجسد من روح القدس وولدته مريم وحلّ في هذا العالم لخلاص آدم وذريته م الجحيم ببذل دمه حتى يكون مؤدياً ما وجب على آدم بأكله الشجرة، فلو كان الأمر على ما يهذون به لما فرّ من ذلك وتوارى وتَحَوَّل من بلدة إلى بلدة أخرى من أمر إنما جاء وتَعَنَّى بسببه، إذ في تأخير قتله استدامة آدم وذريته في العذاب.

فإن قال النصارى:"إنما تَحوَّل واختفى لأن ساعة أجله لم تحضربعد".

قلنا: فكان الأولى أن لا يتحول إذاً، إذ كان لبثه لا يجر إليه مكروهاً ولا يسلط عليه سفيهاً، وما أحسن3 إلهاً له ساعة ترتقب وأجل ينقرض وينقضب.

7-

مضاهاة كلام المسيح لكلام الرسل عليهم السلام، قال متى:"أتي يسوع بأعمى به شيطان أخرس فأبرأه، فعظم الجمع ذلك، فقال الفريسيون: "إنما يخرج الشياطين ببعل زبول رئيس الشياطين، فعلم يسوع سرهم، فقال: لا يستطيع أحد أن يدخل بيت القوي وينهب متاعه / (1/44/ب) إلاّ أن يربط القوي أوّلاً ثم يأخذ متاعه، من ليس معي فهو عليّ، ومن لا يجمع معي فهو يفرق، إن كلّ

1 في ص (ينمو) ، الصواب ما أثبته.

2 متى 12/10-15، بألفاظ متقاربة.

3 أسلوب التهكم والسخرية من معبود النصارى.

ص: 184

تجديف يترك للناس، والتجديف على روح القدس، لا يترك في هذا الدهر ولا في الدهر الآتي"1.

قوله: "كل تجديف يترك للناس والتجديف على روح القدس لا يترك"، مواطئ لقول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن كذباً عليّ ليس ككذب على أحد، فمن كذب عليَّ متعمداً فليتبوّأ مقعده من النار "2. غير أن بين الكلامين في المقدار ما بين الدرهم والدينار.

8-

دليل على نبوته من قوله: قال متى: "قال له قوم من الكتبة: يا معلم نريد أن ترينا آية، فقال: الجيل الشرير الفاسق يطلب آية فلا يعطى إلاّ آية يونان النبيّ؛ لأن يونان أقام في بطن الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليال، كذلك ابن الإنسان يكون في قلب الأرض وبطنها ثلاثة أيام وثلاث ليال. رجال نينوى يقومون في يوم الحكم ويحاكمون هذا الجيل لأنهم تابوا بدعوة يونان وها هنا أفضل من يونان"3.

قلت: هو ذا المسيح قد صرح بنبوته في عدة / (1/45/أ) مواضع من هذا الكلام:

- أحدها: تقرير الكتبة على قولهم له: يا معلم، ولم ينكر عليهم ويقول: كذبتهم بل أنا ربكم أو ابن إلهكم، كما لفق النصارى في أمانتهم التي بأيديهم.

1 متى 12/22-32.

2 حديث متواتر أخرجه البخاري عن علي والزبير بن العوام وأنس بن مالك وسلمة ابن الأكوع وأبي هريرة وغيرهم رضي الله عنهم. (ر: فتح الباري 1/200-203، ومسلم 1/9، 10-4/2298) عن أبي سعيد وغيره، وأخرجه أبو داود 3/319، والترمذي 4/454، وابن ماجه. (ر: صحيح ابن ماجه 1/11-13) ، وغيرهم.

واللفظ الذي أورده المؤلّف أخرجه البخاري في كتاب الجنائز باب (33) . (ر: فتح الباري3/160، ومسلم 1/10، وأحمد 4/245) ، من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه.

3 متى 12/39، 40.

ص: 185

وكيف يجوز إقرارهم على الخطأ في ذات الله، بل إنما أقرهم على الصواب، إذ قال لهم في الإنجيل غير مرة:"إن الأنبياء كلهم [معلِّمون] 1") .

- والثاني: تسويته بين نفسه وبين يونان النبي في جريان المقدور، ويونان2 هو يونس3 بن متى عليه السلام، ومحاكمة أمة يونس لأمته يوم القيامة.

- والثالث: تفضيله نفسه على يونان، وقد قلنا: إن التفضيل إنما يكون بين فاضلين رجح أحدهما على الآخر، ولا يحسن بين الملك والأتوني4، فكيف يحسن بين الله وعبد من عبيده، قال تعالى:{وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ} . [سورة الإسراء، الآية: 55] .ولا غرو أن يفضُل المسيح يونس كما فضُل محمّد سائر الرسل على ما نوضحه إن شاء الله في الباب العاشر من هذا الكتاب.

فأما قوله: "إن ابن الإنسان يكون في قلب الأرض وبطنها ثلاثة أيام وثلاث ليال"، إن سلم عن الاختلاق فذلك محمول على الشبه / (1/45/ب) الذي قتله اليهود وصلبوه فإنه ابن الإنسان، فأما المسيح فهو عندكم معشر النصارى ابن الله، وإلاّ فما بالكم في صلواتكم وبيعكم لا تدعون المسيح ابن الإنسان، فتقولون في أدعيتكم وقراءتكم: يا ابن الإنسان اغفر لنا، يا ابن الإنسان ارحمنا، هذا شيء لا تقولون به ولا تستجيزون إطلاقه، فكيف صرتم إذا لدغتكم حجاج

1 في ص (معلمين) الصواب ما أثبته.

2 يونان: الصيغة السريانية للاسم العبري (يونه) ومعناه: حمامة، وهو ابن متاي من سبط زبولون، وقد تنبأ في أيام يربعام الثاني ملك السامرة، وينسب إليه. (سفريونان) مكون من أربعة إصحاحات. (ر: سفر يونان، قاموس ص 1126-1128) .

3 يونس بن متى عليه السلام، وردت نسبته إلى أبيه في حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"ما ينبغي لعبد أن يقول: إني خير من يونس بن متي". "ونسبه إلى أبيه". أخرجه البخاري، (ر: فتح الباري 6/450) ، ومسلم 4/1846.

4 الأتان: الأنثى من الحمير، والأتون وزان رسول، قال الأزهري: هو للحمام والجصاصة. وجمعه: أتاتين. (ر: المصباح ص 3) .

ص: 186

الحقّ تستروحون إلى ما لا تقولون به؟! هل ذلك إلاّ حيرة وضلال وغلو في عبادة الرجال؟! على أنا نريكم من الإنجيل ما يسيء ظنكم بهذا الفصل وينفركم من القول بصحته وذلك أن الإنجيل الذي بأيديكم يشهد أن المصلوب لم يمكث في بطن الأرض وقلبها سوى يوم واحد وليلتين لا غير، لأن الإنجيل يشهد:"إن يوسف الرامي1 استوهب الجسد من فيلاطس2 القائد عَشية الجمعة ودفنه في قبر كان قد اتّخذه له ليلة السبت، وبقي يوم السبت مدفوناً، وطلب بكرة يوم الأحد غلساً فلم يوجد سوى الأكفان في القبر موضوعة بشادة مريم المجدلانية3 خادمة المسيح وغيرها"4.

فلم يلبث سوى يوم / (1/46/أ) وليلتين، فقد اختلف قولكم أنه يقيم في قلب الأرض وبطنها ما أقام يونان في بطن الحوت وهو ثلاثة أيام وثلاث ليالٍ5.

فأي وثوق بقي يحصل لعاقل بكم؟ وأي طمأنينة تتفق بنقلكم؟ وأية حجّة

1 يوسف الرامي: من الرامة وكان صالحاً غنياً، ولقد كانت الشريعة اليهودية تقضي بألا تبيت جثة المحكوم عليه بالإعدام على آلة التعذيب، والقانون الروماني يجيز لذوي المحكوم عليه بالإعدام أن يطالبوا بجسده ويأخذوه وهذا مما حفز يوسف على طلبه جسد المسيح من القائد بيلاطس. (ر: قاموس الكتاب ص 1119) .

2 بيلاطس النبطي: الحاكم على فلسطين من قبل الحكومة الرومانية سنة 29م، وكانت قيصرية مركز ولايته، وقد أقيل من وظيفته لقسوته ونفي إلى فرنسا ومات هناك، ويعتقد النصارى بأنه تمت على يده محاكمة المسيح. (المرجع السّابق، ص: 207، 208) .

3 مريم المجدلية: وكان المسيح قد أخرج منها سبعة شياطين، فلذلك اتبعته، وكانت معه وقت الصلب والدفن - على حدّ زعمهم - وقد شرفها المسيح بحديثه معها بعد قيامته. (المرجع السّابق، ص: 207) .

4 إنجيل مرقس إصحاح 15، 16.

5 سيأتي بيان المزيد من التناقض في قضية دفن المسيح ومكثه في القبر - حسب زعم النصارى - في الباب الرابع من هذا الكتاب إن شاء الله.

ص: 187

لكم على تصحيح مذهبكم في القتل والصلب بعد صدور هذا الكذب الشنيع؟!.

فإذا كان هذا تحريفكم في أمر يتعلق بالعدد مما لا تعظم فيه المؤنة ولم تشتد الكلفة، فكيف يوثق بكم فيما وراءه؟! ونحن إذا انتهينا معكم إلى ذكر القتل والصلب أريناكم غلطكم في دعوى قتل المسيح وصلبه وأبدينا لكم من الأناجيل التي بأيديكم ما يدل على خلاف ما صرتّم إليه وأرشدناكم إلى وجه الاستنباط منه؛ رجاء الأجر فيكم والمثوبة في هداية بعضكم، وتبصرة وإيضاحاً لإخواننا المسلمين، وتعريفاً لهم مصداق قول ربنا جل اسمه:{وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُم} . [سورة النساء، الآية: 157] .

9-

معجزة دالة على نبوة المسيح عليه السلام، قال متى:"حضر إلى يسوع جمع كثير وليس عنده إلاّ / (1/46/ب) خمس خبزات [وحوتان] 1 فرفع بصره إلى السماء ودعا وبارك على الطعام فأكل الجمع وشبعوا وفضلت كسر كثيرة"2.

إن قدح اليهود في هذه الآية وزعموا أنها قُيدت في الإنجيل هي وأخواتها من غير أن يكون لها صحة، فيقال لهم: فما يؤمنكم أن يكون أيضاً قد قيل في كتاب التوراة التي بأيديكم ما ليس له صحة ولا تحقيق؟ فإن زعموا أن أسلافهم الذين نقلوا إليهم خوارق التوراة انتهوا في الثقة والديانة والصدق والأمانة إلى حدّ أمنوا معه هذه الغائلة، أجيبوا بمثل ذلك، وقيل لهم: الناقلون لمعجزات المسيح أيضاً انتهوا من الدين والتقى والعفاف إلى غاية انتفت عنهم أسباب التهم.

1 في ص (حوتين) الصواب ما أثبته.

2 متى 14/13-21.

ص: 188

وإن قال النصارى: هذه الآية تدل على ربوبية المسيح، قلنا: كيف ذلك، وها هو قد رفع وجهه إلى السماء وحرك أخلاف الإجابة بأنامل الدعاء، وهذا هو دأب الأنبياء وسنة الأولياء إذ دُفِعوا لبثِّ الحقّ وإرشاد الخلق رغبوا إلى معبودهم وطبلوا إليه ما يحقق قصدهم ويعرف أممهم / (1/47/أ) صدقهم والخلائق عيال الله، والنبي نائب عنه في إيصال رزقه إلى خلقه، وبالجملة فلو جاز أن يعتقد في المسيح الربوبية بمثل هذه الدعوى لجاز أن يعتقد في موسى:"بإطعام قومه المن والسلوى وهم يزيدون على ستمائة ألف نفس سوى النساء والصبيان. فأما المن فكان يسقط على الأرض الليل كله كصفائح الجليد أبيض كحب الكزبرة وطعمه كشهد العسل، وأما السلوى فطائر السمان كان يتراكم على الأرض في عسكر بني إسرائيل حتى ملأ الرحاب"1. وهذا أعجب من فعل المسيح في الحوتين والخمسة الأرغفة؛ إذ آية المسيح تكثير خبز موجود، وآية موسى إيصال خير مفقود وقد اشتملت التوراة على عدة من الخوارق لم يأت المسيح بنظيرها فنسمح بشطرها.

10-

بعد ذوي اليسار2 عن مقام الأبرار، قال متى: "قال رجل ليسوع: يا معلم ما أعمل من الصلاح لأرث الحياة الدائمة؟ فقال: احفظ الوصايا، قال: وما هي؟ قال: لا تقتل. لا تزن، لا تسرق، لا تشهد بالزور /1/47/ب) أكرم أباك وأمك، وأحبب قريبك مثلك، فقال الرجل: كل هذا قد عرفته منذ صباي. فما الذي بقي علي؟ فقال المسيح: إن كنت تريد أن تكون كاملاً فاذهب وبع كلّ شيء لك وأعطه للمساكين ليكون لك كنْزاً في السماء وتعال اتبعني. فلما

1 سفر العدد إصحاح (11) ، وكذلك فعل غيره من أنبياء بني إسرائيل في إطعام الخلق الكثير من الشيء اليسير كـ إليا واليسع، حيث ذكر ذلك في سفر الملوك إصحاح (17) ، والملوك الثاني إصحاح (4) .

2 الغنى واليسر.

ص: 189

سمع الرجل هذا الكلام مضى حزيناً؛ لأن ماله كان كثيراً، فقال المسيح: الحق أقول لكم، إن دخول الجمل في سم الخياط أيسر من دخول الغني ملكوت الله، فقال التلاميذ: من يقدر على هذا؟ فقال لهم: أما عند الناس فما يستطاع هذا، وأما عند الله فكل مستطاع. الأنبياء إنما بعثوا بالزهد في الدنيا والتفرغ للمولى والتزود للعقبى"1.

وهذا الكلام من المسيح دال على نبوته ورسالته وفيه ما يهدم قاعدة من قواعد النصارى وهو: جعله حفظ وصايا الله المذكورة في هذا الفصل سبب الخلاص وإرث الحياة الدائمة من غير حاجة إلى قتل المسيح وصلبه. وعند النصارى أن الناس لا يخلصهم من الخطيئة إلاّ قتل المسيح وسفك دمه إذ يقولون في الأمانة / (1/48/أ) : "من أجلنا معشر الناس ومن أجل خلاصنا نزل المسيح من السماء وتجسد وولد وقتل وصلب". وهو ذا المسيح يكذب تلك الأمانة ويزري على من أَلَّفها إذ جعل الخلاص منوطاً بحفظ وصايا الله وأتباع أمره، ولم يوقف الخلاص على ما هذوا به في الأمانة التي هي في الحقيقة خيانة، والشريعة التي هي لإضاعة الشريعة ذريعة، فهلَاّ قال المسيح للرجل: لا ترث الحياة الدائمة حتى تعتقد ربوبيتي وتدين بألوهيتي وتعتقد أني إله حقّ من إله حقّ من جوهر الله، وتعترف بأني أتقنت العوالم وخلقت كل شيء وأني إله مسجون في إنسان أو متّحد به - كما لفقوه في شريعة إيمانهم وتسبيحة دينهم؟!.

وحاشاه حاشاه أن يناط به هذا الوضَر2 ويغشاه؛ إذ هو القائل في إنجيله وفي أدعية ربّه تعالى: "أنت الإله الحقّ وحدك الذي أرسلت يسوع المسيح"3.

1 متى 9/16-27.

2 الوضر: الوسخ، وما تشمه من ريح تجدها من طعام فاسد. (ر: القاموس ص 634) .

3 يوحنا 17/3.

ص: 190

وقال: "لا صالح إلاّ الله وحد"1. وقال لرجل وهو يوصيه: "أحب الله من كلّ قلبك ومن كل قوتك ففي هذه الوصية جميع وصايا الأنبياء"2. / (1/48/ب) . وقال:"أنا ذاهب إلى إلهي وإلهكم"3. يقول ذلك للحواريين. فهذه نصوصه في التوحيد ونفي التثليث4. فمن أين جاءت النصارى هذه الداهية؟! 5. أسأل الله العصمة.

1 ورد النص في متى: 19/16، 17، مرقص 10/17، لوقا 18/18.

2 ورد النص في إنجيل متى 22/35-37، وورد أيضاً فيه 23/9، أن المسيح قال:"إن أباكم واحد في السماوات". ويؤكّده ما ورد في إنجيل مرقص 12/30، قول المسيح:"الرّبّ إلهنا إله واحد، وليس آخر سواه".

3 يوحنا 20/17.

4 لقد وردت في أسفار العهد القديم أيضاً - التي يؤمن النصارى بقدسيتها - نصوص كثيرة تصرح بوحدانية الله وتنفي الشرك عنه. منها: ما ورد في التوراة سفر الخروج 20/1، 2، قول الله لبني إسرائي:"أنا الرّبّ إلهك الذي أخرجك من أرض مصر بيت العبودية لا يكن لك آلهة أخرى أمامي". وفي سفر التثنية أيضاً قول موسى: "الرّبّ إلهنا ربٌّ واحدٌ". وقد ورد التوحيد في سفر أشعياء 45/5، وسفر ملاخي 2/10، وغير ذلك كثير.

وبعد ذلك التصريح بوحدانية الله في التوراة وأسفار الأنبياء والأناجيل، فإنّ للمؤلِّف وغيره أن يستاءل مندهشاً ومنكراً على النصارى - من أين تسرب التثليث إلى دين التوحيد الذي جاء به المسيح عليه السلام مع عدم الدليل عليه؟!.

5 للإجابة عن تساؤل المؤلّف ودهشته ينبغي لنا أن نتعرف تاريخ الديانات الوثنية وتعدد الآلهة وتاريخ النصارى وأسباب انحرافهم، وخلاصة ذلك ما يأتي:

1-

أن ظهور التثليث كان تحديداً لتعدد الآلة المبالغ فيه أحياناً عند الديانات الوثنية القديمة، ولعل البابليين هم أوّل من قال بالثالوث في الألف الرابع قبل الميلاد.

2-

نشأ مذهب عند الهنود وسط بين التوحيد والتثليث هو: "التعدد في وحدة، والوحدة في تعدد"، وقد قالوا به قبل ظهور المسيح بأكثر من ألف عام، فكان عندهم:"براهما وفشنو وسيفا". ويعدونهم ثلاثة جوانب لإله واحد.

3-

وظهر في الإسكندرية - زمن بطليموس الأوّل - عبادة الثالوث المصري المكون من: "سيرابيس وإيزيس وحورس" وكان هيئات ثلاث لإله واحد.

4-

الاضطهادات التي نزلت بالنصارى من اليهود والرومان أدت إلى قتل علماءهم وتحريق كتبهم ومنع قراءتها وتفريقهم واستتارهم، كل ذلك كان من أسباب انحرافهم ونفوذ الأهواء والأساطير والبدع إلى قلوبهم لتحل - مع الزمن - محل العقائد الصحيحة.

5-

ظهور بولس اليهود وتظاهره بالنصرانية - وقد كان عارفاً بالفلسفة الإغريقية ومدرسة الإسكندرية-ووضعه بذور التثليث بالدعوةإلى تأليه المسيح وبنوته لله.

6-

ظهر في مدرسة الإسكندرية تجديد مذهب أفلاطون على يد أفلوطين وخلاصة فلسفته التي اعتنقها الكثيرون من الرومان:

أ- قمة الوجود هو الواحد أو الأوّل.

ب- الشيء المحدث عند (عقل) شبيه به.

ج- وهذا يفيض بدوره فيحدث صورة منه هي (نفس) . وبعبارة أخرى سهلة: "ثلاثة في واحد وواحد في ثلاثة".

ثم إنّ التاريخ يروي لنا أنه في القرن الثاني والثالث والرابع الميلادي قد دخل الرومان والمصريون أفواجاً في النصرانية، وكثير منهم دخل النصرانية وفي رأسه تعاليم الوثنية الرومانية، والفلسفة الأفلاطونية الحديثة لم تخلع منه، وهؤلاء ولا شكّ أثر تفكيرهم في النصرانية.

1-

انعقاد مجمع نيقية المسكوني عام 325م وتقريره لألوهية المسيح والتثليث، ثم انحياز الإمبراطور قسطنطين - الذي كان وثنياً - إلى ذلك الرأي وتأييده بجاه السلطان وقوة السنان. وكان لنشره تلك العقيدة أكبر الأثر في انتشارها واعتبارها الدين الرسمي للإمبراطورية الرومانية.

بذلك يتبيّن لنا الترابط الوثيق بين النصرانية المنحرفة والديانات الوثنية والفلسفية السابقة عليها كما حكم القرآن الكريم عليهم من قبل، فقال تعالى:{وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} . [سورة التوبة، الآية: 30] .

(ر: للتوسع - تاريخ الفلسفة ص 6-19، لإبراهيم مدكور، محاضرات في النصرانية ص 33-39، 154، لأبي زهرة، العقائد الوثنية في الديانة النصرانية - محمّد طاهر التنير، المسيحية ص 108، 130-133، د. أحمد شلبي، أقانيم النصارى ص 88، 89، أحمد السقا، النصيحة الإيمانية ص 135-140، للمهتدي نصر المتطبب وتعليقات الطالب المحقٌِّ عليها".

ص: 191

11-

اعتراف أهل زمانه بنبوته واستجابتهم لدعوته: انقسم الناس في وقته أقساماً، فمنهم من يرميه بالخنا وبنوة الزنى، ومنهم من اعترف بنبوته واستجاب لدعوته، ومنهم من أدركته النفاسة وخشي أن يستلب الرئاسة، وداء الحسد متى استولى على الجسد فسد، وهو داء قديم من يوم:(أخرج منها فإنك رجيم)1. قال رجل من الصحابة2: يا رسول الله أرفق بعبد الله بن أبيّ،

1 اقتباس من الآية الكريمة: {قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ} . [سورة الحجر، الآية: 34] .

2 هو سعد بن عبادة رضي الله عنه.

ص: 192

فوالله لقد جاء الله بك وإنا لننظم له الخرز لنملكه علينا، فإنه ليرى أنك استلبته ملكاً1، فرفق به عليه السلام كما علم ولم يعرض له حتى اخترم.

قال متى: "لما دنا يسوع وأصحابه من أورشليم أرسل من جاءه بأتان وجحش فركب وفرش الناس له ثيابهم فارتجَّت المدينة لدخوله وقال الجمع: هذا يسوع النبي الذي من ناصرة الجليل، فدخل إلى / (1/49/أ) هيكل الله وأخرج الباعة الذين فيه وأمر برفع موائد الصيارف وكراسي باعة الحمام وقال: مكتوب أن بيت الله بيت الصلاة يدعى، وأنتم صيَّرتموه مغارة للصوص وكل مفسد"2.

قلت: هذا الفعل من المسيح قريب من قوله عليه السلام حين بال الأعرابي في المسجد: "صبوا عليه ذَنُوباً من ماء، إن المساجد لم تُبنَ لهذا، إنما بُنِيت للصلاة والذكر"3.

وفي الفصل: أن أحسن أقوال الناس فيه كان قول من يقول: هو نبي من الأنبياء. وفيه: أن المسيح احتاج أن يركب حماراً من التعب والإعياء وذلك يكذب الأمانة إذ تقول: "إن المسيح من جوهر الله". وقد خلق الله الخلق في ستة أيام وما مسَّه من لغوبٍ، فكيف يفتقر مَنْ هو مِن جوهره إلى المركوب؟! وإنما هو على الحقيقة من جوهر أبيه يعقوب، كما نطق به الإنجيل عن جبريل.

12-

ومن الدلالة على نبوته إقراره من ينطق بنبوته على ذلك وترك الإنكار عليه:

1 أخرجه ابن إسحاق مختصراً. (ر: السيرة النبوية 2/270) . والبخاري في كتاب التفسير باب (15)، (ر: فتح الباري 8/230) ، ومسلم 3/1422 في ساق طويل، والبيقهي في الدلائل 2/576، كلهم من طريق الزهري عن عروة بن الزبير عن أسامة بن زيد رضي الله تعالى عنهما

فذكره بنحوه.

2 متى 21/1-14.

3 أخرجه البخاري في كتاب الوضوء باب (57، 58)، (ر: فتح الباري 1/322، 323) ، ومسلم 1/236، 237، وأحمد 3/111، عن أنس بن مالك رضي الله عنه. واللفظ لمسلم.

ص: 193

قال لوقا في إنجيله: "صحب يسوع بعد قيامه رجلين/ (1/49/ب) وهما يتحدثان في أمره وأمر اليهود فقال لهما: مَن تذكران؟ وكانت أعينهما ممسوكة عن معرفته، فقالا: يسوع الناصري كان رجلاً نبياً قوياً بالأعمال، فلم ينكر عليهما وسار معهما فأضافاه وبات عندهما"1.

فكيف يُقرِّهما على الكفر أنه إله وربّ كما يقول النصارى؟ وهَلَاّ نبههما وعرَّفهما خطأ ما قالا. فكيف يسكت على ما لا يجوز؟! فقد كان يقاوم اليهود في المحافل ويخزيهم ويلعنهم فيالمجالس ولا يغتفر لهم الزلل ولا يغطي منهم على الخطأ والخطل2 ويحاققهم فيما لا تعم به البلوى، فكيف يجوز أن يسامح في أمر يتعلق بالربوبية؟! وكيف يداهن الرجلين ويسمح لهما في أن يعتقدوا نبوته وهو ربهم وخالقهم وإلههم ويؤخر البيان عن وقت حاجتهم إليه، وهو في الساعة التي أزمع فيها على مفارة أهل الأرض وقد صار لهما عليه مع حقّ العبودية حقّ الرفاقة واسترسال الصحبة والمبايتة وهو يسمعهما يشهدان أن المشيح كان نبيّاً قويّاً بالأعمال؟! / (1/50/أ) . والمداهنة في الدين لا تليق بمثل المسيح مع أنه لا حاجة به في تيك الساعة إليهما، فإقرارهما على ما قالا ومسايرته لهما ومبيته عندهما تناوله طعامهما رضا بقولهما فيه وحكماً بصحة ما ذهبا إليه من نبوته، فكيف لم ترض النصارى له بما رضي هو لنفسه من أهل زمانه؟!.

13-

دليل على نبوته من مفهوم قوله: قال متى: "جاء إلى يسوع رؤساء الكهنة فقالوا: بأي سلطان تفعل هذا؟ ومن الذي أعطاك هذا السلطان؟ فقال يسوع: وأنا أسألكم عن كلمة واحدة: معمودية يوحنا من أين هي؟ أمن الله أم

1 لوقا 24/13-29، وقد أرد المؤلِّف النص بالمعنى، ولكن لم يُذكر في لوقا أو غيره أن المسيح بات عند الرجلين.

2 الخطل: المنطق الفاسد المضطرب. (ر: مختار الصحاح ص 181) .

ص: 194

من الناس؟ فقالوا: لا نعلم. فقال: وأنا أيضاً لا أعرفكم بأي سلطان أفعل ما أفعل، ثم قال: الحق أقول لكم إن الزناة والعشارين سيسبقونكم إلى ملكوت الله، جاءكم يوحنا بطريق العدل فلم تؤمنوا به والعشارون والزناة آمنوا"1.

هذا القول بمفهومه يدلّ على بنوته إذ جعل أفعاله وأفعال يحيى بن زكريا تخرج من مشكاة واحدة، وفي هذا الكلام ما يهدم على النصارى قطباً من أقطاب كفرهم، وهو ما حكيناه عنهم / (1/50/ب) من أنه لا يخرجهم من الخطيئة التي ورطهم فيها أبوهم آدم إلاّ قتل المسيح، وها هو يقول إن الزناة والعشارين يسبقون اليهود إلى الملكوت بالتوبة والانصباغ في معموديته ومعمودية يوحنا، ولم يحوجهم إلى غير ذلك، ولم يُرجِ خلاصهم إلى قتله وصلبه كما يهتف به النصارى، بل جعل التوبة وحسن الاتباع كافياً في ذلك.

14-

ومن الدليل على نبوته دعاؤه إلى الله سبحانه أسوة غيره من الرسل: قال متى: "قال له قائل: يا معلم، أيما أعظم الوصايا في الناموس؟ قال: أعظم الوصايا في الناموس أن تحبّ الربّ إلهك من كلّ قلبك ومن كلّ نفسك ومن كلّ فكرك ومن كل قوتك ففي هذا جميع نواميس الأنبياء"2.

قلت: لو كان الأمر على ما يعتقد أهل الضلال لقال للرجال: "أعظم الوصايا في الناموس أن تحب الثالوث والصليب، كلا والله، وأين هذا الهذيان من نواميس الأنبياء؟! وأعظم النواميس توراة موسى ثم داود ثم أشعيا وقد فليناها طرقاً تترى وتصفحناها بطناً وظهراً، فلم نر فها / (1/51/أ) ما يدعيه النصارى أصلاً البتة، ولقد شددت على من تنكب التوحيد أشد تشديد حتى قالت: "أيما

1 متى 21/23-33.

2 متى 2/34-40. وفيه: "قال له يسوع: تحب الرّبّ إلهك من كل قلبك ومن كلّ نفسك ومن كلّ فكرك - هذه هي الوصية الأولى والعظمى - والثانية مثلها تحب قريبك كنفسك، بهاتين الوصيتين يتعلق الناموس كله والأنبياء".

ص: 195

نفس أشركت مع الله غيره في حبها فأهلكوا تلك النفس من شعبها"1.

15-

دليل صحيح على نبوة المسيح، قال متى:"قال يسوع المسيح وهو يخطب البلد: يا أورشليم يا أورشليم يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها كم من مرة أردت أن أجمع بنيك حولك كما تجمع الدجاجة فراريجها فلم يريدوا"2.

وجه الدلالة من هذا الكلام أنهم كانوا يتوثبون عليه في المجالس بأورشليم يريدون قتله، إذ كان يفحمهم بالحجج فربما تناولوا الحجارة ليحصبوه فيتوارى ويخرج من بينهم ويذهب. وقد قتلوا عدة من أنبيائهم بها، فكأنه يقول:"تريدون قتلي كما فعلتم بمن تقدمني"، والخطاب للبلد والمراد أهلها، والقول بنبوته ألزم على قول النصارى إنه قتل بأورشليم؛ لأنه سماها قاتلة الأنبياء ولم يقل يا قاتلة الإله، وفي الكلام ما يمنعهم من اعتقاد ربوبيته؛ لأنه أراد جمعهم على الإيمان فلم تنفذ إرادته، ومَنْ هذا / (1/51/ب) سبيله فلا يصلح للربوبية؛ فقد شهد على نفسه بالعجز عن جمعهم على الدين والهدى، وأولى ذلك لربّه عزوجل إذ يقول في دعائه:"أيها الأب كلّ شيء بقدرتك اصرف عني هذا الكأس". كما تقدم.

والعجب أن المسيح أراد وأراد اليهود فنفذت إرادتهم وقصرت إرادته، إذ قال: إنه أراد أن يجمعهم، فلم يريدوا هم، وإله تقصر إرادته وتنفذ إرادة عدوّه إله ضعيف. وهذا فاعلم حال الأنبياء مع كفار قومهم، قال الله تعالى لنبيّه عليه السلام:{لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُم وَلَكِنَ الله يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} . [سورة البقرة، الآية: 282] . وقال:

1 ورد حكم القتل على المرتد المشرك في سفر الخروج إصحاح (20، 34) ، وفي شفر التثنية إصحاح (13، 17) .

2 متى 13/37.

ص: 196

{أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} . [سورة يونس، الآية: 99] .

وفي هذا الكلام إثبات مزية لموسى عليه السلام، وذلك أن موسى عليه السلام أراد جمع قومه على الإيمان فاستجابوا وأذعنوا، وأمرهم بالنفر معه فسارعوا وظعنوا، فأخرجهم من مصر وجلَّلهم النصر، وشقّ بهم البحر، ورفع عنهم السيف بعد أن بلغ النحر، وقاتل بهم الملوك فلم يغلب، وقهر العمالقة والجبابرة ولم يقتل ولم يصلب. فما نرى موسى إلاّ كان أحقّ أن يُدَّعى له ما ادُّعي في المسيح. / (1/52/أ) . فلو أن النصارى جمعت بين قوله للبلد:"يا قاتلة الأنبياء" وبين دعواهم أنه قتل بها لما وسعهم إلا القول بنبوته ولكن أفهام القوم بعيدة عن هذا النمط، قريبة من السقط والغلط. ألا ترهم كيف جمعوا في الاعتقاد بين الأضداد فقالوا في تسبيحة أمانتهم:"نؤمن بالرّبّ أيسوع المسيح الذي أتقنت العوالم بيده وخلق كلّ شيء وقتل وصلب أيام هيردوس؟! ". فبينا هم ينعتونه بالرّبّ المجيد إذ وصفوه بذُلٍّ ما عليه مزيد!.

16-

شهادة أشعيا للمسيح عليهما السلام بالنبوة والرسالة وتكذيب اليهود فيما قرفوه به. قال لوقا: "جاء يسوع إلى الناصرة حيث تربى ودخل كعادته في مجامعهم يوم السبت ليقرأ فدفع إليه سفر أشعيا النبي فلما فتحه إذ فيه مكتوب: "روح الرّبّ عليّ من أجل هذا مسحني وأرسلني لأبشر المساكين، وأشفى منكسري القلوب، وأنذر المأسورين بالتخلية، والعميان بالنظر، وأبشر بالسنة المقبولة". ثم طوى السفر ودفعه إلى / (1/52/ب) الخادم فجعلوا ينظرون إليه، فقال: اليوم كمل هذا المكتوب في سماعكم، فجلعوا يقولون: أليس هذا ابن يوسف؟!

ص: 197

فقال: الحقّ أقول لكم إنه لا يقبل نبي في مدينته وعند عشيرته"1.

فهذه بنوة من أشعيا على تصديق المسيح في دعوى النبوة والرسالة، وقد ذكر أن روح الرّبّ عليه، وهو نزول روح القدس الذي هو العلم والحكمة والواصلة إليه مع الملك، كقول الله في التوراة لموسى:"يصنع لك قبة الزمان بصلئيل2 الذي من سبط يهوذا ورفيقه الذي من سبط دان وهما اللذان ملأتهما روح الله بالعلم والحكمة"3. وكقول الإنجيل: "إن يوحنا بن زكريا امتلأ من روح القدس وهو في بطن أمه"4.

وكقول المسيح في الإنجيل: "إن سمعان5 كان ينتظر عزاء إسرائيل وكانت روح القدس تحل عليه"6. فهذه الروح متى حلت على آدمي تنبأ أو نطق بالحكمة وذلك مشهور عند أهل الكتاب. وقد حكينا قول الله في الكتاب العزيز في حقّ المؤمنين: {وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ} . [سورة المجادلة، الآية:22] .

وقال أشعيا النبي في كتابه: "قال الله لي: اخرج إلى بقعة كذا وكذا، فخرجت / (1/53/أ) فجاءت الروح فدخلت فيَّ فأقامتني على رجلي"7. فهذه الروح متى جاءت نبياً كانت وحياً، ومتى جاءت ولياً من أولياء الله أكسته إلهاماً عن الله

1 لوقا 4/16-24، بألفاظ متقاربة.

2 في الأصل: (يصل أل) والتصويب من نص التوراة.

3 خروج 35/30-32.

4 لوقا /15.

5 هو سمعان الشيخ: رجل تقي سكن أورشليم، وأوحي إليه أنه سيعيش حتى يرى المسيح. (ر: قاموس ص 483) .

6 لوقا 2/25.

7 ورد النص في سفر حزقيال 3/22-24 منسوباً إليه، وقد وهم المؤلِّف رحمه الله في نسبته القول إلى أشعيا وكتابه، ولعله من الناسخ. والله أعلم.

ص: 198

وجودة وفراسة وصدق توسم قال الله في كتابه العزيز: {

إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلمُتَوَسِّمِينَ} . [سورة الحجر، الآية: 75] .

وقال سيّدنا محمّد رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن من أمتي [محدثين] "1 2.

وقد قال النصارى: قال المسيح لأصحابه: "لا تهتموا بها تقولون إذا حضرتم المجالس فإن روح أبيكم الحال فيكم هي تنطق عنكم بالعلم والحكمة"3.

فأما قول المسيح في آخر الكلام عندما وخزه الناس بأبصارهم: "إنه لا يقبل نبيّ في بلدته وعند عشيرته"4، فذلك واضح في نبوته لمن أراد الله هدايته.

واعلم أن من لاحظ هذا الفصل يعين الإنصاف لم يتخالجه الشكوك في نبوة المسيح وأن اعتقادها هو الاعتقاد الصحيح، ولهذا تجد كثيراً من عقلاء النصارى يضمرون اعتقاد نبوته دون ربوبيته، ولكن لا يبوحون بذلك خشية الجمهور مع الأُنس بالمَرْبَى، إذ كل مولود يولد على الفطرة / (1/53/ب) فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه5.

1 في ص (محدثون) ولعل الصواب ما أثبته.

2 أخرجه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء باب (54)، (ر: فتح الباري 6/512) ، وأحمد 2/339 عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال:"إنه كان فيما مضى قبلكم من الأمم محدثون، وإنه إن كان في أمتي هذه منهم فإنه عمر بن الخطاب". وأخرجه مسلم 4/1864، والترمذي 5/581، عن عائشة رضي الله تعالى عنها بنحوه، قال ابن وهب:"تفسير: محدثون: ملهمون".

3 مى 10/17-20.

4 متى 13/57، لوقا 4/24.

5 اقتباس من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من مولود إلاّ يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة جمعاء هل تحسّون فيها من جدعاء؟

". أخرجه البخاري في كتاب الجنائز. (ر: ف:3/219) ، ومسلم 4/2048، وأحمد في مسند 2/315.

ص: 199

17-

خارق من خوارق نبوته يتحقق به كذب اليهود وبهتهم فيما نسبوه إليه: قال لوقا: "رأى يسوع جنازة شاب واحد لأمه ومعها جمع من أهل المدينة ورآها تبكي وراءه، فَرَقَّ لها وتحنن عليها، وقال لها: لا تبكي. ثم تقدم ومس النعش فوقف الحاملون، فقال يسوع للميت: لك أقول يا شاب قم فاجلس. فجلس الميت وتكلم فدفعه لأمه ومجدوا الله، فقال الناس: لقد قام فينا نبيّ عظيم وتعاهد الله شعبه بصلاح. فذاع ذلك اليهودية"1.

فإن أنكر اليهود دلالة هذه المعجزة على النبوة وصلاحيتها لدعوى الرسالة، قلنا لهم: فلعل انقلاب العصا حيواناً ذا عينين لا يدل أيضاً على النبوة، وحيث بطل القول بذلك بطل هذا. على أن آية المسيح أوضح في الدلالة وذلك أن إحياء من مات أوثق في النفوس من اضطراب خشبة وتحركها، مع احتمال السحر والشعبذة، كيف واليهود يزعمون أن سحرة / (1/54/أ) فرعون عارضوا موسى وفعلوا مثل فعله على ما يشهد بذلك توراتهم2؟ وذلك متعذر في إحياء الميت، فقد وضحت نبوته، وأكذب الله اليهود وأخزاهم بظهور صدقه.

وقد شهد له الجمع العظيم بالنبوة وبقولهم: (لقد قام فينا نبي عظيم". وذلك حجة على النصارى، إذ صَحَّ عن خيار أسلافهم أنهم شهدوا له بالنبوة، فكيف يدعي المتأخرون ألوهيته؟! وإنما طريق من غاب الأخذ عمن حضر، فإن زعم النصارى اليوم أن قول ذلك الجمع ليس بحجة في إثبات نبوته، قلنا لهم: الحجة القاطعة تقريرهم على ذلك والرضا منهم به وترك الإنكار عليهم.

أفتقول النصارى - ويلهم - إن المسيح عليه السلام أقرّهم على الكفر وقول الباطل؟! وهل تسمية الله نبيّاً إلاّ كتسمية النبيّ إلهاً؟! وكيف يعتقد في المسيح

1 لوقا 7/12-17، بألفاظ متقاربة.

2 انظر: سفر الخروج الإصحاح السابع.

ص: 200

أن يسمعهم ينطقون بالمحال ولا يرشدهم؟! وهو القائل في إنجيله: "لا تدعوا لكم معلماً على الأرض فإن معلمكم هو المسيح"1. والأنبياء كلهم معلمون. "ولا تدعوا لكم مدبراً في الأرض فإن مدبركم هو المسيح". / (1/54/ب) وإذا كان المسيح هو معلمهم ومدبرهم، فكيف تقولون إنه أهملهم وتركهم يخبطون في عمياء ويتيهون في ظلماء ويخاطبون ربّهم بأنه نبي من الأنبياء ثم لا يرشدهم إلى اعتقاد الحقّ وقول الصدق؟!.

فإن استروح النصارى في دعواهم ربوبيته إلى إحياء الميت أريناهم من كتبهم التي بأيديهم جماعة من أنبيائهم قد أحيوا الموتى مثل: إلياس واليسع وحزقيال وغيرهم ولم يخرجهم هذا الصنع عن كونهم عبادالله تعالى.

فإن قال النصارى: إن أولئك كانوا إذا راموا شيئاً من ذلك تضرعوا إلى المسيح وسألوه وطلبوه منه المعونة ودعوه، قلبنا عليهم السؤال وقلنا. فلعل المسيح كان إذا رام شيئاً من هذه الآيات تضرع إلى أحد من ذكرنا وسأله ودعاه وطلب منه فهم متقدمون عليه وأرواحهم في حضرة الملكوت قبله، وهو متأخر عنهم فهو أحقّ أن يسألهم من أن يسألوه. فقد وضح بذلك نبوته واستوى حاله وحال من تقدمه من إخوانه الأنبياء صلوات الله عليهم أجعين.

18-

شهادة فولس بنبوة المسيح ورسالته / (1/55/أ) وأنه واسطة بين الله وبين عبادة أسوة غيره من الأنبياء. قال في الرسالة الرابعة عشرة إلى العبرانيين: "أما أنتم فاقتربتم من جبل صهيون ومن مدينة الله أورشليم التي في السماء ومن ديوان الملائكة ومن الله ديّان الجميع ومن يسوع المسيح واسطة الوصية الحديثة الذي هو أفضل من هابيل"2.

1 متى 23/8/10، بألفاظ متقاربة.

2 رسالة بولس إلى العبرانيين 12/22-24، بألفاظ متقاربة.

ص: 201

فهذا فولس لم يدع للمسيح ما يتقوله النصارى من ربوبية المسيح وألوهيته، بل يشهد بأنه سفير وواسطة بين الله وبين عباده في الوصية1. ويخبر بأنه أفضل من هابيل، وكلّ تصريح منه بخلاف ما ذهب النصارى إليه.

19-

بيان أنه كان يضيف ما يفعله إلى الله تعالى، قال لوقا:"أُتي المسيح بمجنون لا يسكن إلاّ المقابر لا يلبس ثوباً فلما رأى يسوع خرّ بين يديه وقال: يا يسوع سألتك بالله ولا تعذبني. فأمره أن يخرج من الرجل فخرج، ثم أفاق الرجل وسأل يسوع الصحبة فقال له: اذهب وأخبر بالذي صنع الله بك. فذهب فجعل ينادي بذلك في المدينة"2.

قلت: طلب الرجل صحبة المسيح فصرفه وعرفه أن الشفاء من الله وأمره بإشاعة / (1/55/ب) شكر الله، فقال: أخبر بالذي صنع الله بك. ولم يقل: بالذي صنعت بك. فإن قال النصارى: لا فرق بينهما، إذ كان المسيح هو الله، والله هو المسيح.

قلنا لهم: فالمجنون إذاً أعقل وأعرف بالله منكم؛ إذ يقول: يا يسوع أسألك بالله، فقد عرف الله تعال على [حدً] 3 وعرف المسيح على [حدٍ] 4 وأدرك التفرقة بين الإله المقسم به وبين الإنسان المقسم عليه. وأنتم تقولون إن الإله هو الإنسان والإنسان هو الإله، فأيكم أولى بالجنون؟!.

1 في ش: الوصية الحديثة هي: الإنجيل؛ لأن الوصية القديمة هي: "للتوراة فاعلمه". اهـ. قلت: التعبير المعاصر هو: العهد القديم، والعهد الجديد.

2 لوقا 8/27-39، في سياق طويل. وقد ذكره المؤلِّف بالمعنى.

3 في ص: (حدن) .

4 في ص: (حدن) .

ص: 202

إن طرق اليهود إلى هذا شيئاً من الطعن انعكس عليهم في [حية] 1 النحاس وغيرها؛ إذ طريق ثبوت الكلّ واحد، فالاعتراض على نوع منها يعود على سائرها، ولا سبيل إلى ردّ شيء منها.

20-

دليل على رسالته من لفظه، قالو لوقا:"اختار يسوع سبعين [رجلاً] 2 وبعثهم إلى كلّ موضع أزمع أن يأتيه، وقال: الحصاد كثير والحصادون قليل، اطلبوا إلى صاحب الزرع أن يرسل فَعَلَة لحصاده ثم قال: من سمع منكم فقد سمع مني، ومن شتمكم فقد شتمني، ومن شتمني فإنما يشتم / (1/56/أ) مَنْ أَرْسلني"3.

فإن قال النصارى: ذلك دليل على الربوبية لأن إرسال الرسل إلى الخلق دليل على ما قلناه.

قلنا لهم: أما بعث السبعين فليس فيه مستروح لكم، فقد اختار موسى سبعين رجلاً من قومه وندبهم لإبلاغ بني إسرائيل فنبأهم الله ببركة اختياره فصاروا أنبياء4.

فأما السبعون الذي اختارهم المسيح فمن سلم لكم أنهم كانوا أنبياء مؤيّدين بالمعجزات؟ ولعل المسيح عليه السلام إنما اقتدى بسنة موسى في الإرسال والعدد، فالمسيح عليه السلام نبي ورسول ولا يمتنع أن يكون [للرسول] 5 رسول، فقد أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم جماعة من أصحابه إلى ملوك الأرض.

فإن قال النصارى: قوله: "من شتمني فإنما يشتم من أرسلني". دليل على

1 في ص (الحية) والصواب ما أثبته.

2 في ص (رجل) والصواب ما أثبته.

3 لوقا 10/، 2، 16.

4 يعتقد النصارى أن الحواريين والسبعين رسولاً الذين اختارهم المسيح لتبليغ دعوته كانوا أنبياء ورسلاً. وكذلك بولس الملقب بالرسول. أما نحن المسلمين فنعتقد أنه ليس بين النبيّ صلى الله عليه وسلم وبين المسيح عليه السلام نبيّ أو رسول. كما ورد ذلك الحديث الصحيح الذي أخرجه مسلم 4/1837 عن ابن هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أنا أولى الناس بابن مريم؛ الأنبياء أولاد علات وليس بيني وبينه نبيّ".

5 إضافة يقتضيها السياق.

ص: 203

الاتّحاد1 الذي نقول به.

قلنا: وقوله:"من شتمكم فقد شتمني"،دليل على اتّحادهم بالمسيح. أفتقولون إن السبعين اتّحدوا بجسد المسيح؟ فإن تراعنواوادعوا ذلك.

قلنا لهم: فيلزم على ذلك أن يكونوا قد اتّحدوا / (1/56/ب) بذات الله إذ اكانوا قد اتّحدوا بمن اتّحد به المسيح. فإن التزموا ذلك.

قلنا: فالسبعون هم الله تعالى، والله هو السبعون، والرسول هو المرسِل والمُرسِل هو الرسول، وهذا هو الجنون. ثم نقول للنصارى: أليس قد اعترف المسيح بأن غيره أرسله؟! فكيف تقولون إنه هو نفسه؟ فإن قالوا: هذا اعتقاد طائفة2 منّا ونحن لا نلتزمها فيلزمنا الذّبّ عنها ولكن الاعتقاد المرضي عندنا أن المسيح ابن الله3 ولا نقول هو الله نسفه ولا يعبد أن يرسل اله ابنه إلى عباده. فحينئذ يحسن أن نعيد عليهم بعض ما مضى لنا ونقول: "ألم تقولوا في الأمانة: "نؤمن بالمسيح الإله الحقّ الذي أتقن العوالم بيده وخلق كلّ شيء الذي نزل من السماء وتجسد وولدته مريم وقتل وصلب؟! ". ألم تقرؤوا في صلواتكم: "يا ربنا المسيح الذي ذاق الموت من أجلنا ونزل من السماء لخلاصنا لا تضيع من خلقت بيديك؟! ".

ألم ينقلوا عن إفريم من أسلافكم وكبار مشائخكم قوله: إن / (1/57/أ) اليدين التي جبلت طينة آدم هي التي سمرت على الخشبة، وإن الشَّبر التي مسحت السماوات هي التي عُلقت على الصليب، وإن من لم يقل إن مريم ولدت الله فهو محروم من ولاية الله؟! وإذا كانت صلواتكم وأمانتكم وأقوال مشاخئكم

1 يقصدون به اتّحاد اللاهوت بالناسوت في المسيح عليه السلام.

2 هي طائفة اليعقوبية وسيأتي الحديث عنها، وقد أشار القرآن الكريم إلى اعتقاد هذه الطائفة بقوله تعالى:{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} . [سورة المائدة، الآية:17] .

3 هذا اعتقاد طائفة النسطورية، وقد أشار القرآن الكريم بقوله تعالى: {وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ

} . [سورة التوبة، الآية: 30] .

ص: 204

مصرحة بذلك فقد كذبتم في هربكم مما ألزمناكم وصدق المسيح في قوله: "إن الله نبأه وأرسله".

وأما قولهم: "فلا يبعد أن يرسل الله ابنه، وتسمية الله أبّاً والمسيح ابناً، فنحن نسألهم ما تعنون بهذه النبوة؟ أمجرد تسمية وتشريف أم لما خصّه به من الآيات والخوارق أم تريدون البنوّة المعروفة المألوفة؟

فإن قالوا: إنّ ذلك مجرد تسمية وتشريف، قلنا: فلا اختصاص للمسيح بهذا التشريف والتسمية. ولا مزية له على غيره؛ فقد سمّى الله يعقوب ابناً وسمّى داود ابناً وسمّى الصالحين وأولاد الأنبياء أبناء بزعمكم.

فرويتم أنتم لنا عن الله في التوراة قوله: "إسرائيل ابني بكري"1. يقول ذلك لفرعون في عدّة مواضع.

وقال في السفر الأوّل: "لما رأى بنو الله بنات الناس حساناً / (1/57/ب) جدّاً نكحوا منهم على ما أحبوا وأرادوا فغرقهم الله بالطوفان"2.

وقال في المزامير: "داود حبيبي"3. وقال المسيح: "أنا ذاهب إلى أبي وأبيكم"4. فقد استوى المسيح وغيره في هذا التشريف وترجح إسرائيل بالبكارة عليه. وإن أردتم البنوة المعروفة المألوفة بين الناس وهي المتّخذة من الزوجية والمملوكة، على معنى أن المسيح انفصل من من الله، فكيف يصحّ هذا؟ وإنما ينفصل الجسم من جسم مثله والباري منَزَّه عن الجمسية؟! ثم ذلك باطل بنصّ الإنجيل؛ إذ قال لوقاً:"إن المسيح من روح القدس"5. فكيف تقولون

1 سفر الخروج 4/22.

2 تكوين 6/1، 2.

3 مزمور 2/7.

4 يوحنا 20/17.

5 لوقا 1/35.

ص: 205

إنّه منفصل من ذات الله؟! فقد بطل مقصودكم من البنوة على كلا القسمين.

وإن قالوا: إنما استحق المسيح البنوة لما اتّحدت به الكلمة فصار بها ابناً على1 الحقيقة، وغيره ممن ذكرتم لم يتّحد به فبقي ابناً على سبيل التشريف.

قلنا: أخبرونا عن هذه الكلمة، ما هي؟ وما الذي تعنون بها؟ فإنهم يقولون: الكلمة هي العلم أو النطق ولا يعدلون عن ذلك، فيقال لهم: أليس من حكم الصفة أن لا تفارق الذات / (1/58/أ) الموصوفة بها فإذا كان العلم أو النطق هو صفة لذات الباري تعالى فلا تفارقه إلاّ ويخلفها ضدّها وهي الجهل أو الخرس.

فإن كان علم الباري قد انفصل أو نطقه وقام بغيره فقد صار القديم ماوقاً2 ناقصاً وذلك مستحيل على الله سبحانه. وإن كان علم الله لم يزايله وكلامه لم يفارقه، فلا حقيقة لهذا الاتّحاد الذي تدَّعونه. قد أطلبت النفس قليلاًفلنرجع إلى إيثار الاختصار؛ فإن هذه الفرقة أنزر شأناً من أن يحتفل لها.

21-

إيثاره الله على ما سواه وذلك دأب النبيين من إخوانه عليه السلام قال لوقا: "جلس يسوع يوماً يتكلم على تلاميذه فرفعت امرأة من المجلس صوتها وقالت: طوبى للبطن التي حملتك [وللثديين] 3 التي أرضعتك. فقال لها المسيح: مهلاً طوبى لمن يسمع كلام الله فيحفظه"4.

1 يشير النصارى - في قولهم ذلك - إلى ما ورد في إنجيل يوحنا 1/1-2، 14، ونصّه: "في البدء كان الكلمة، والكلمة كان من عند الله، وكان الكلمة الله، هذا كان البدء عند الله

والكلمة صار جسداً، وحلّ بيننا، ورأينا مجده مجداً كما لو حيد من الآب مملوءاً نعمة وحقاً".

2 المُوقُ: حمق في غباوة، يقال: أحمق مسائق، والجمع:(مَوقَى) مثل: حمقى ونَوْكى. (ر: الصحاح للجهوري 4/1557) .

3 في ص (وللأيدي) والتصويب من النّصّ.

4 لوقا 11/27، 28.

ص: 206

قلت: هذه امرأة اشتغلت بمدح المخلوق فأرشدها لمدح الخالق جل وعلا. انظر إلى هذا الكلام الصادر من هذه المرأة، هل خرج من قلب معتقد ربوبية المسيح وألوهيته؟ وإلاّ فما أحسن رباً في بطن وإلهاً على أيدي المراضع! أعوذ / (1/58/ب) بالله من الضلال والتعبد للأطفال.

22-

شهادة يوحنا الإنجيلي على المسيح بالنبوة، قال يوحنا:"كان الناس إذا رأوا يسوع وسمعوا كلامه يقولون: هذا النّبيّ حقّاً"1. وقال يوحنا أيضاً: "تفل يسوع على طين ووضعه على عيني أكمه وقال: اذهب فاغتسل في عين شلوخاً. ففعل فانفتحت عيناه. وذلك في يوم السبت فوقع بين اليهود فيه خلف، فمنهم من يقول: ليس هذا الرجل من الله إذ لا يحترم السبت. ومنهم من يقول: إن الله لا يستجيب للخاطئين، ومنهم من يقول: هو نبيّ"2. "ومنهن من يقول: إنه لا يجيء نبيّ من الجليل"3.

قلت: هذا هو يحونا الإنجيلي الذي يُسمّى حبيب المسيح يشهد بنبوته، وهو أحسن أقوال زمانه فيه، وذلك يكذب اليهود والنصارى.

أما اليهود ففي جحد نبوته، وأما النصارى ففي ادّعاء ربوبيته.

23-

موعظة مشابهة لمواعظ الأنبياء عليهم السلام قال المسيح لمن حضره: "لِمَ لَمْ تحكموا بالحقّ من نفوسكم؟! فإذا ذهب أحدكم مع خصمه إلى الرئيس فليدفع ما / (1/59/أ) يجب عليه في الطريق فيخلص كيلا يذهب به إلى الحاكم فيدفعه الحاكم إلى المستخرج فيلقيه المستخرج في السجن، الحقّ أقول لكم إنه لا يخرج منه حتى يؤدي آخر فلس عليه"4.

1 يوحنا 4/19، 6/14، 7/40، 9/17.

2 يوحنا 9/13-17.

3 يوحنا 7/52.

4 لوقا 13/57-59، وبنحوه متى 5/25، 26.

ص: 207

قلت: الموعظة بليغة ومعناها رائق وقاعدتها مبنية على رأس من الحقائق، غير أن قول خاتم النّبيّين "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا"1. أبلغ من ذلك وأخصر وأضبط لشوارد فرائد الفوائد وأحصر.

24-

قال المؤلِّف - عفا الله عنه -: قد شهد يوحنا الإنجيلي أن المسيح ليس إلهاً، ولكنه نبيّ بار ذو شفاعة مقبولة عند الله، فقال في الفصل الأوّل من رسالته الأولى:"أيها الأبناء لا تخطؤوا، فإن أخطأ أحدكم فلنا شفيع عند الأب يسوع المسيح البار"2.

فهذا - رحمكم الله - يوحنا الحواري مفارق لمقالة النصارى في المسيح موافق لاعتقاد الملة الحنيفية في بنوته عليه السلام.

25-

دليل صحيح على نبوة المسيح، قال لوقا: "قال الفريسون ليسوع: أخرج من هاهنا فإن هيرودس يريد قتلك، فقال امضوا وقولوا لهذا الثعلب أني

1 أخرجه الحافظ ابن أبي الدنيا في كتابه: (محاسبة النفس) بتحقيق المستعصم بالله مصطفى بن عليّ ص 22، وعنه ابن كثير في تفسيره 4/442، قال: ثنا إسحاق بن إسماعيل، ثنا سفيان بن عيينة عن جعفر بن برقان عن ثابت بن الحجاج قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا

".

قلت: وهذه الرواية موقوفة على عمر بن الخطاب رضي الله عنه وكل رواتها ثقات. والخبر قد رواه الترمذي 4/550 مختصراً بلفظ: يروى عن عمر.

2 ورد النص في رسالة يوحنا الأولى 2/1، كالآتي:"يا أولادي أكتب إليكم هذا لكي لا تخطؤوا وإن أخطأ أحد فلنا شفيع عند الأب يسوع المسيح البار، وهو كفارة لخطايانا، ليس لخطايانا فقط بل لخطايا كلّ العالم أيضاً".

قلت: إن استدلال المؤلِّف بهذا النص على نبوة المسيح وعدم ألوهيته صحيح؛ لأن الشفاعة تقتضي خضوع طرف لآخر وتذلله، والمسيح هنا مصرح بأنه يطلب الشفاعة من الله، فهو إذن عبد من عبيد الله أكرمه بالرسالة والنبوة.

وأما بقية النص فإنه لا يسلم للنصارى بأن المسيح جاء كفارة لخطايا العالم. فهذه دعوى للنصارى لا دليل صحيح لهم عليها. لاسيما وأن ذلك يتعارض - بجانب العقل - مع ما جاء في كتابهم المقدس مصرحاً بـ: "النفس التي تطخئ هي تموت، الابن لا يحمل من إثم الأب، والأب لا يحمل من إثم الابن، برّ البار عليه يكون، وشرّ الشرير عليه يكون". سفر حزقيال 18/20.

ص: 208

/ (1/59/ب) أقيم هاهنا اليوم وغدا وفي اليوم الثالث أكمل لأنه لا يهلك نبي خارجا عن أورشليم"1.

قال المؤلِّف - عفا الله عنه -: "لو اجتمع علماء النصرانية ورامو صرف هذا الكلام عن صلاحيته لنبوة المسيح إلى إثبات ما يدعونه من الربوبية لأعوزهم2 ذلك. فمن أبدى من النصرانية في بنوته نزاعاً. ورام لهم دفاعاً فهذا الفصل وأمثاله حجّة عليه. فإن قال النصارى: هب أن هذا الفصل يدل على نبوته، أليس قد شهد عليكم معشر المسلمين بأنه في اليوم الثالث يقتل ويصلب؟

قلنا: لم يقل ذلك وحاشاه منه، إنما قال: إنه في اليوم الثالث يكمل، يريد أنه تتم مدة إقامته في هذا العالم الناقص ثم يرتفع، وكيف أراد ما ذكرتم من القتل والصفع والصلب وذلك غاية النقص؟! لأنكم زعمتم أنه ضرب وسحب ثم قتل وصلب وسلب وذلك لا يعد كمالا، بل الكمال الذي أراده هو الذي يقول به المسلمون من أن الله حماه من أعدائه حين طلبوه ورد طلبتهم منه بالحرمان، فما / (1/60/أ) قتلوه وما صلبوه، ونحن إن شاء الله إذا انتهينا إلى ذكر القتل والصلب أبدينا فيه العجب العجاب وأقررنا عيون أولي الألباب.

26-

وصية مناسبة لكلام الرسل: "قال المسيح عليه السلام: "إذا دعاك أخوك فلا تجلس في صدر المجلس؛ فلعله قد دعا هناك من هو أكرم عليه منك، فليأتي المدعو فيقال لك: دع المكان لهذا، فتقوم فتجلس في آخر باب الناس فتخزى أمام الحاضرين، ولكن إذا دعيت فاجلس في آخر موضع حتى إذا جاء الذي دعاك يقول لك: يا حبيب ارتفع عن مجلسك هذا فيكون لك مجد أمام

1 لوقا 13/31-33.

2 في ش: أعوزه الشيء: إذا احتاج إليه فلم يقدر عليه.

ص: 209

الحاضرين، فمن اتضع ارتفع ومن ارتفع اتضع. وإذا صنعت وليمة فلا تدع أحباءك وأغنياء جيرانك لكي [يكافئوك] 1 ولكن ادع المساكين والضعفاء والزمنى والمقعدين؛ فطوبى لك إذ ليس لهم ما يكافئونك به ومجازاتك تكون في قيامة الصّدِّيقين - ثم عَرَّض بالعلماء - فقال: جيدٌ هو الملح فإذا فسد فبماذا يملح؟ "2. من كانت له أذنان سامعتان فليسمع هذه الوصية وما / (1/60/ب) شاكلها لم تمتد إليها يد التغيير سوى ما عبق بها من قصر التعبير. وهي بطولها مندمجة في قوله عليه السلام: "شرّ الطعام طعام الوليمة يدعى إليها الأغنياء ويترك الفقراء" 3. وقال عليه السلام: "من تواضع لله رفعه الله"4. وفي قوله: "إنكم أئمة يقتدى بكم"5. يقول ذل لأصحابه رضي الله عنهم.

اشتمال الجنة على الأكل والشرب والنكاح:

وذلك على خلاف معتقد أهل الكتاب، قال المسيح عليه السلام: "كان رجل من الأغنياء يلبس [البز] 6 والأرجوان7 ويتنعم كلّ يوم ويلتذ. وكان ببابه رجل مسكين يسمّى اليعازر مضروب بالقروح، وكانت الكلاب تأتي فتلعق قروحه ويود لو ملأ بطنه من الفتات الذي يسقط من مائدة ذلك

1 في ص (يكافئونك) والصواب ما أثبته.

2 لوقا 14/7-14، 34، 35.

3 أخرجه مسلم 2/1055، عن أبي هرير رضي الله عنه مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأخرجه البخاري في كتاب النكاح باب (72) . (ر: فتح الباري 9/244) ، وأبو داود /125، وابن ماجه. (ر: صحيح ابن ماجه 1/323) ، موقوفاً على أبي هريرة رضي الله عنه.

4 أخرجه مسلم 4/2001، الترمذي 4/330، وأحمد 2/386، كلمهم من طريق العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

فذكره.

5 تقدم تخريجه. ر: ص: 104.

6 في ص (البرفية) والتصويب من نصّ الإنجيل.

7 لون صباغة يشمل البنفسجي والقرمزي أو الأحمر. وكانت ثياب الأرجوان غالية الثمن يلبسها الأغنياء وذوو المكانة الرفيعة. (ر: قاموس ص 45) .

ص: 210

الغنى، فلما مات ذلك المسكين أخذته الملائكة إلى حضن إبراهيم. ومات ذلك الغني فقر في الجحيم ففتح عينيه وهو في العذاب فنظر إلى اليعازر في حضن إبراهيم يتنعم ويلتذ فنادى: يا أبتاه إبراهيم ارحمني وأرسل اليعارز ليبل طرف إصبعه بماء يبرد لساني من هذا / (1/61أ) اللهيب، فقال إبراهيم: يا بني اذكر أنك أفنيت خيراتك في حياتك واليعازر إذ ذاك في بلائه، والآن فهو ها هنا يستريح وأنت تعذب، ومع ذلك فبيننا وبينكم هوة بعيدة لا يقدر أحد منا على العبور إلى الآخر"1.

قلت: قال الله فيمن حاله بحال ذلك الغني: {أَذْهَبْتَم طَيِّبَاتِكُم فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا واسْتَمْتَعْتُم بِهَا فَاليَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الهُوْنِ بِمَا كُنْتُم تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيرِ الحَقِّ وَبِمَا كُنْتُم تَفْسُقُونَ} . [سورة الأحقاف، الآية: 20] .

واعلم أن اليهود والنصارى2 ينكرون أن يكون في الجنة طعام أو نكاح أو شراب، وهو الكلام من المسيح حجّة عليهم، وقد قال المسيح:"إن اليعازر هذا في كفالة إبراهيم يتنعم ويلتذ في الآخرة". كما قال: "إن ذلك الغني كان كلّ يوم يتنعم في دنياه ويلتذ". والذي يبتدر إلى الأفهام منه التنعم بالطيبات المألوفة المعروفة؛ إذ الإنسان إنما يشتاق لما عرف جنسه ونوعه وقد جاء ذلك في

1 لوقا 16/19-26، بألفاظ متقاربة.

2 قال الإمام ابن تيمية: "واليهود والنصارى والصابئون من المتفلسفة وغيرهم فإنهم ينكرون أن يكون في الجنة أكل وشرب ولباس ونكاح ويمنعون وجود ما أخبر به القرآن.

والرّدّ عليهم هو أن ما ورد في القرآن الكريم من وصف ملذات الجنة أن حقيقتها ليست مماثلة لما في الدنيا، بل بينهما تباين عظيم مع التشابه في الأسماء، فنحن نعلمها إذا خوطبنا بتلك الأسماء من جهة القدر المشترك بينهما ولكن لتلك الحقائق خاصية لا ندركها في الدنيا، ولا سبيل إلى إدراكنا لها لعدم إدراك عينها أو نظيرها من كلّ وجه، وتلك الحقائق على ما هي عليه". (ر: رسالة الإكليل من مجموعة الرسائل الكبرى - لابن تيمية 2/11) .

ص: 211

الإنجيل [كثيراً] 1 ولكن النصارى2 محجوبون بالتقليد عن النظر في أقوال الأنبياء، قال قولقا:"قال يسوع: إذا صنعت وليمة فادع المساكين والضعفاء لتكون / (1/61/ب) مجازاتك في قيامة الصديقين. فقال من حضر: طوبى لمن يأكل خبزاً في ملكوت الله"3.

وقال حملة الإنجيل: "قال يسوع لتلاميذه: إني ذاهب أعد لكم مائدتي في الملكوت [لتأكلوا وتشربوا وتجلسوا] 4 على كراسي المجد"5. وقال الإنجيل: "إن المسيح شرب مع تلاميذه عصيراً ثم قال: إني لست شارباً من هذه الكرمة حتى أشربها معكم حديثاً في ملكوت السماوات"6. وقال المسيح في الإنجيل: "إنكم ستأكلون وتشربون على مائدة أبي"7. وقال المسيح في الإنجيل: "بحقّ أقول لكم إنه سيأتي قوم من المشرق والمغرب [فيجلسون] 8. مع إبراهيم وإسحاق ويعقوب في ملكوت السماء وتخرج بنو الملكوت إلى الظلمة البرانية، هنالك يكون البكاء وصرير الأسنان"9. وقال المسيح في الإنجيل: "طوبى

1 في ص (كثير) والصواب ما أثبته.

2 يقول القسيس حنا مقار العيسوي في رسالته إلى أبي عبيدة الخزرجي: "إننا إذا حشرنا يوم القيامة حشرنا بأجسادنا ونفوسنا ولكن لا نأكل هناك ولا نشرب". اهـ. (ر: مقامع هامات الصلبان ص 106، للخزرجي، تحقيق د. محمّد شامة) .

ونقل ذلك عنهم ابن كمونة اليهودي في تنقيح الأبحاث ص 53، وانظر أيضاً خلاصة الأصول الإيمانية في معتقدات الكنيسة القبطية الأرثوذكسية - لحبيب جرجس ص 156-157، ويلاحظ أن ذلك الاعتقاد في أمور الآخرة بشبه اعتقاد الفلاسفة والملاحدة في ذلك مما يدل على تأثر اليهود والنصارى بالأفكار الوثنية الفلسفية.

3 لوقا 14/12-15.

4 في ص (لتأكلون وتشربون وتجلسون) والصواب ما أثبته.

5 لوقا 22/29، 30.

6 متى 26/29، مرقس 14/25، لوقا 22/18.

7 لوقا 22/30.

8 في ص (فيتلون) والتصويب من نصّ الإنجيل.

9 متى 8/10-12.

ص: 212

للجياع العطاش فإنهم يشبعون، طوبى للرحماء فإنهم يرحمون"1.

فهذا المسيح يشهد أن في الجنة أكلاً وشرباً وشبعاً وأن المساكين يتملكون ذلك وفي الإنجيل يقول المسيح: "بيعوا أمتعتكم وتصدقوا، اجعلوا لكم أكياساً لا تبلى وكنوزاً في السماء لا تفنى حيث لا يصل إليها سارق ولا يفسدها / (1/62/أ) سوس فحيث تكون كنوزكم هناك تكون قلوبكم معلقة"2.

وقال المسيح عليه السلام لأصحابه: "أنتم تقولون إن الحصاد يأتي بعد أربعة أشهر، وأنا أقول لكم ارفعوا أعينكم فانظروا إلى الكور قد ابيضت وبلغت الحصاد، والذي يحصد يأخذ الأجرة ويجمع ثمار الحياة الدائمة"3.

وقال المسيح عليه السلام لتلاميذه: "اعملوا لا للطعام الفاني، بل للطعام الباقي في الحياة المؤبّدة لأن ذلك قد ختمه الله"4.

فقد ثبت عن المسيح اشتمال الجنة على الأكل من الطيبات والتنعم بالذات والتفكه في الشهوات.

فإن قيل: وأين ذكر الجماع في الجنة؟!.

قلنا: قال المسيح عليه السلام في الإنجيل: "من ترك زوجة أو بنين أو حقلاً من أجلي فإنه يعطى في الجنة مائة ضعف ويرث الحياة الدائمة"5.

فقد صرح المسيح بأن الرجل المؤمن يعطى في الجنة مائتي زوجة كما يعطى مائتي حقل. والحقل الكرم والبستان. وذلك مكذب للنصارى واليهود فيما صاروا إليه.

1 متى 5/6-7.

2 متى 6/19-21، لوقا 12/33، 34.

3 يوحنا 4/35، 36.

4 يوحنا 6/27.

5 متى 19/25، مرقس 10/29، 30.

ص: 213

فإن قيل: هذا فيه الحجة الواضحة على النصارى، فما الحجة فيه على اليهود1 مع إنكارهم / (1/62/ب) شرع الإنجيل؟

قلنا: قال الله تعالى في السفر الأوّل من التوراة وهو الذي يدعى سفر الخليفة: "إن الله غرس فردوساً في جنة عدن وأسكنه آدم وغرس له من كل شجرة طيبة المأكل شهية الطعم وتقدم إليه: إني قد جعلت كل شجر الجنة لك مأكلاً سوى شجرة معرفة الخير والشرّ، ثم قال الله سبحانه: لا يحسن أن يبقى آدم وحده. فألقى عليه سباتاً ونزع ضلعاً من أضلاعه ثم أخلف له عوضه لحماً ثم خلق الله من ذلك الضلع حواء فزوجها آدم فلما أكلا من الشجرة التي [نُهيا] 2 عنها انفتحت أعينهما وعرفا أنهما عريان فكلمهما الله وتوعدهما على المخالفة، ثم صنع سبحانه لآدم وزوجته سرابيلات من الجلود فألبسهما ثم أرسلهما من جنة عدن وأهبطهما إلى الأرض ليحرث فيها"3.

وقال في السفر الأوّل أيضاً: "كانت سدوم قبل أن يخسف الله بها تشبه فردوس الله وأرض مصر"4. وقال في السفر الأوّل أيضاً: "أما هابيل الشهيد فإنه يجزى بدل الواحد سبعة"5.

1 يقول ابن كمونة اليهودي في تنقيح الأبحاث ص 27: "واعتقدت اليهود أن ثواب الطاعة هو الخلود في نعيم الجنة والعالم الآتي، وعقاب المعصية هو العذاب في جهنم من غير خلود لمعتقد هذه الشريعة وإن كان عاصياً. ومنهم من اعتقد أن بعث الأموات يحصل مرتين، مرة في زمن المسيح المنتظر عندهم وذلك البعث مختص بالصالحين من الأمة

وتارة يبعث الموتى في القيامة العامة لكافة الناس، الصالحين منهم والطالحين للجزاء بالثواب الأبدي على الطاعة وبالعقاب على المعصية. واعتقدوا أيضاً بقاء الأنفس بعد فساد الأجساد، وأنها لا تعدم أبداً. ونبغ منهم من زعم أن العالم الآتي هو ما بعد الموت فقط، وأن الثواب الأبدي والعقاب إنما هو للأنفس المجردة بعد خراب أجسادها، وليسا بجسمانيين بل هما روحانيان فحسب، والنصوص الكثيرة المنقولة عن علمائهم وحملة شرعهم ناطقة بالمجازاة بالثواب والعقاب بغير عود الأنفس إلى الأبدان، وهي غير محتملة التأويل عند كل عاقل يتأملها جميعاً". اهـ. بتلخيص.

2 في ص (نهي) والصواب ما أثبته.

3 سفر التكوين الإصحاح الثاني والثالث.

4 سفر التكوين 13/10.

5 سفر التكوين 4/15.

ص: 214

وهذا دليل أن الجزاء جنس المنفق في الدنيا تقرباً / (1/63/أ) إلى الله، فإن هابيل كان قد قرب من أبكار غنمه فتقبله الله منه ووعده الجزاء على الواحد سبعة.

فهذه التوراة والإنجيل مصرحة بموافقة الكتاب العزيز، وبذلك تتم اللذة وتجتمع المسرة وتحصل الدعة، فمن أعظم جرماً وأشد إثماً وأثقل وزراً وأضعف أزراً ممن يقرأ هذه النصوص من التوراة والإنجيل ثم يكفر بها ويردها؟!.

ولو أن اليهود والنصارى إذ حرموا لذة الاستنباط والاستخراج قلدوا أنبياء الله في ذلك لأخذوا بحظهم من الخير، فقد قال النبي أشعيا في نبوته:"يا معشر العطاش الجياع توجهوا إلى الماء والورود ومَن ليس له فضة فليذهب يمتار ويستقي ويأكل ويتزود من الخمر واللبن بلا فضة ولا ثمن"1.

قلت: وذلك موافق لقول الله تعالى في الكتاب العزيز في وصف الجنة: {فِيهَا أَنْهَارٌ مِّنْ مَاءٍ غَيرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خِمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّن عَسَلٍ مُّصَفًّى وَلَهُم فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ} [سورة محمّد، الآية:15] .

وقال دانيال عليه السلام: "سيبعث من الأجداث قوم كثير بعضهم إلى الحياة الدائمة وبعضهم إلى البوار"2.

وقال / (1/63/ب) داود: "الله باعثهم وناشرهم من بين أنياب السباع ومن لجج البحار"3. وقال أيضاً في المزمور الخامس والثلاثين: "يا ربّ البشر بظلال بيتك يستترون ومن نعيم بيتك يشبعون ومن وادي نعمك بترعون؛ لأن ينبوع

1 سفر أشعيا 55/1.

2 سفر دانيال 12/2.

3 ورد معنى النص في مزمور 96/10-13.

ص: 215

الحياة عندك"1. وقال في [المزمور] 2 الثمنين: "لو سمع مني شعبي وسلك سبلي لأذللت أعلاه ومحوت سيئاته وأطعمته من طيباتي"3.

وقال في المزمور الرابع والعشرين والمائة: "المتوكلون على الله مثل جبل صهيون الذي بأورشليم لا يزول إلى الأبد. والذين يزرعون بالدموع يحصدون بالفرح كانوا ينطلقون باكين ويقبلون بالتهليل وقد حملوا غلاتهم"4.

فهذه نبوات أنبياء بني إسرائيل والتوراة والإنجيل قد تظاهرت وتضافرت5 بما نطق به الكتاب العزيز من اشتمال دار الثواب على الطعام والنكاح والشراب.

فإن قال اليهود: ما حكيته عن التوراة من الجنة محمول على بستان من بساتين الدنيا ولا ينكر تسمية الجنة بستاناً، والبستان جنة.

قلنا: يا إخوان القرود ومشاركي ثمود إنما قالت التوراة: إن الله / (1/64/أ) أسكن آدم فردوساً في جنة عدن وجعل فيه من كل شجرة طيبة المأكل وقال لآدم: جعلت لك كل شجر الجنة مأكلاً. والله تعالى يقول: إنه فردوس في الجنة وأنتم تقولون: بل بستان وحديقة في الدنيا، ألم تسمعوا إلى قوله في بقية الكلام: إن الله كلمهما وتهددهما ثم صنع لهما سرابيلات من الجلود وأرسلهام من جنة عدن إلى الأرض التي أخذ منها آدم وأهبطهما للحرث؟!.

1 مزمور 36/7-9.

2 في ص (مزمور) والتصويب من المحقِّق.

3 مزمور 81/13-16، وهو منسوب إلى إمام المغنين. (آساف) .

4 مزمور 125/1-2، 136/5، 6.

5 في ص: تطافرت.

ص: 216

وإن تعلق النصارى بقول أسلافهم: إن أهل الجنة لا يتزوجون1. قلنا لهم: يا عباد الرجال وربات الحجال، لو قدرنا صحة ما نقلتموه عن أسلافكم من ورود هذا اللفظ بعينه لم يلزم نفي ما صرنا إليه من التنعم بالنسوان في الجنان، إذ يحتمل أن يراد به أنهم لا يتزوجون الزواج المعروف المألوف من قاعدة النكاح والزواج الدنيوي وهو تقدم الخطبة وبذل الصداق والعقد والشروط وغير ذلك مما فيه حرج وكلف على الناكح، بل يمنحون ذلك ويتملكونه ويرثونه وراثة وتملكاً والدليل عليه من الإنجيل قول المسيح:"من ترك زوجة من أجلي في الدنيا فإنه/ (1/64/ب) يعطى مائة ضعف ويرث الحياة الدائمة"2. وفي ذلك موافقة الكتاب العزيز حيث يقول: {تِلْكَ الجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُم تَعْمَلُون} . [سورة الزخف، الآية: 72] . ولفظة الميراث كثيرة مستعملة في الإنجيل والتّنْزِيل، ولهذا شمر كثير من أتباع المسيح في طلب هذا التضعيف فترهبنوا وانقطعوا عن النساء والشواغل، فإذاً قولكم: إن أهل الجنة لا يتزوجون منافاة بينه وبين قوله في الإنجيل: "من ترك زوجة فإنه يعط للواحد مائة ضعف". والأصل المعتبر عند أرباب النظر الجمع بين الأدلة، لا تعطيل بعضها واستعمال بعض؛ فقد ثبت - بعون الله ومنه - ما

1 يستدل النصارى على ذلك بما ورد في إنجيل متى 22/22-30، ومرقس 12/18-25، ولوقا 20/27-35: "حين جاء إلى المسيح صدوقيون - وهم فرقة من اليهود - يسألونه عن امرأة تزوجت بسبعة أزواج واحداً تلو الآخر فلمن من السبعة تكون زوجة في يوم القيامة؟

فقال المسيح: "تضلون إذ لا تعرفون الكتب ولا قوة الله؛ لأنهم في القيامة لا يزوجون ولا يتزوجون بل يكونون كملائكة الله في السماء". وهذا النصّ لا نسلم بصحته ونجزم بتحريفه وكذبه ناقله؛ فإن الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - قد بشروا المؤمنين بالجنة وما فيها من الملذات والنعيم.

2 ورد النص في إنجيل متى 19/29، كالآتي: "قال لهم يسوع:

وكل مَن ترك بيوتاً أو إخوةً أو أخوات أو أباً أو أماً أو امرأة أو أولاداً أو حقولاً من أجل اسمي يأخذ مائة ضعف ويرث الحياة الأبدية". وبنحوه ورد في إنجيل مرقس 10/30.

ص: 217

ضمناه من اشتمال الجنة على الملاذ الروحانية والجسمانية جميعاً1.

لزوم الاستقامة خوف هجوم القيامة:/ (1/65/أ) "قال المسيح يشبه ملكوت الله-عشر عذارى أخذن مصابيحهن وخرجن للقاء العروس، خمس منهم جاهلات وخمس حكيمات، فأما الجاهلات فأخذن مصابيحهن ولم يعددن زيتاً، وأما الحكيمات فأعددت الزيت مع مصابيحهن، فلما أبطأ العروس نعسن ونمن أجمع وانتصف الليل وصرخ الصوت: قد جاء العروس فاخرجن للقائه. فقال الحكيمات وزيّتن مصابيحهن فقال الجاهلات للحكيمات: أعطونا من زيتكن فإن مصابيحنا قد طفئت. فقلن: ليس معنا ما يكفينا وإياكن فاذهبن وابتعن لكن زيتا. فلما ذهبن لذلك جاء العروس ودخل مع المستعدات إلى العرس وأغلق الباب، وجاء الجاهلات فقلن: يا ربّ يا ربّ. فقال: الحقّ أقول لكن إني لست أعرفكم، ثم قال لتلاميذه: اسهوا الآن وصلوا فإنكم لا

1 ونؤكد ما ذكره المؤلِّف من الأدلة في إثبات البعث الجسماني والتنعم من الأكل والنكاح واللباس وغيره - بذكر دليل سمعي وآخر عقلي - كالآتي:

أما الأوّل: وهو الذي نعتمد عليه - أن السمع قد قام على أن الله عزوجل خلق الأشياء واخترعها مبتدعاً لها لا من شيء ولا على أصل متقدم، وإذ هو كذلك فلا متوهم يتعذر عليه إذ ما شاء كان. وقد أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قامت به الدلائل الضرورية على صحة نبوته وأنه عن الله عزوجل يخبرنا أن الأكل والشرب والنكاح واللباس هنالك، وهذا قبل أن يخبر به الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم داخل في حد الممكن. ثم قام دليل على صحته فصار في حد الواجب.

وأما الدليل العقلي، فإن الله تعالى خلق جواهرنا وطباعنا تلتذ بالمأكل والمشرب والروائح والملابس والأصوات الموافقة لجوهرنا والوطء، وقد علمنا أن النفس هي الملتذة بذلك، وأن هذه الحواس الجسدية هي الموصلة لهذه الملاذ إلى النفس، فهذه طبيعة جواهر أنفسا التي لا سبيل في وجودها دونها، فإذا جمع الله عزوجل يوم القيامة في دار الجزاء بين أجسادنا بعد تصفيتها من كل كدر وبين أنفسنا عادت الطبيعة كما كانت فجوزيت هنالك ونعمت بملاذها وبما تستدعيه طباعها التي لم توجد قط إلاّ لذلك، إلاّ أن ذلك الطعام غير معاني بنار ولا ذو آفات ولا مستحيل كما أخبرنا تعالى:{لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنْزِفُونَ} . (ر: الأصول والفروع ص 78، لابن حزم. مقام هامات الصلبان ص 280، 281، للخزرجي باختصار) .

ص: 218

تعرفون ذلك اليوم ولا تلك الساعة"1.

قلت: قال ربنا جل اسمه: {يَومَ يَقُولُ المُنَافِقُونَ وَالمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُم قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُم فَالتَمِسُوا نُوراً فَضُرَبَ بَينَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ العَذَابُ يُنَادُونَهُم أَلَمْ نَكُن مَّعَكُم قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُم فَتَنْتُم أَنْفَسَكُم وَتَرَبَّصْتُم وَارْتَبْتُم وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللهِ وَغَرَّكُم بِاللهِ الغَرُورُ} . [سورة الحديد، الآياتان: 13-14] .

انظر - رحمك الله - إلى هذا الكلام الرفيع القدر، الطيّب النّشر، الحسن البشر، وقسمه بفصل العذارى العشر لتعلم / (1/65/ب) قدر ما أوتيت الأمة المحمدّية، وتقف على سِرِّ قوله عليه السلام:"لقد جئتكم بها بيضاء نقية"2.

27-

شهادة يوحنا الإنجيلي للمسيح عليه السلام بالنبوة، وفي ذلك تكذيب للمتأخرين من النصارى في دعوى ربوبيته؛ قال يوحنا تلميذ المسيح وحبيبه وهو أحد مدوني الإنجيل: (لما أطعم يسوع خمسة [آلاف] 3 رجل من خمسة أرغفة وحوين من السمك قال الناس: حقا إن هذا لهو النبيّ الآتي إلى العالم. فلما علم أنهم يريدون يخطفونه ويصيرونه ملكاً عليهم خرج من بينهم وذهب وحده إلى الجليل"4.

فهؤلاء خمسة آلاف رجل ممن شاهد المسيح يشهدون له بالنبوة وهو مقرّهم على شهادتهم، حاكم بصحة إيمانهم، راضٍ بهذا المعتقد منهم. ولو أنكر عليهم قولهم لنقل إلينا كما نقلت منهياته وأوامره على ما سيأتي، وما أحسن إلهاً يخاف من العبيد أن [يخطفوه ويصيروه ملكاً عليهم ويغلبوه] 5 على رأيه في ذلك!!.

1 متى 25/1-13.

2 تقدم تخريجه ص 104.

3 في ص (ألف) والتصويب من النص.

4 يوحنا 6/10-15.

5 في ص (يخطفونه ويصيرونه

ويغلبونه) والصواب ما أثبته.

ص: 219

وقد نقلوا عن لوقا أن جبريل حين بشر مريم أم المسيح بالناصرة قال لها: "إن ولدك يجلسه الرّبّ على كرسي / (1/66/أ) أبيه داود ويملكه على بيت يعقوب"1.

فإن كان ما حكوه عن لوقا عن جبريل صحيحاً فقد كذبوا في هربه من التمليك عليهم، وإن كان ما نقلوه هاهنا في الهرب صحيحاً فقد كذبوا في نقلهم عن لوقا عن جبريل، وإلاّ فكيف يتقدم الله إليه على لسان جبريل بسياسة عباده والتملك عليهم ثم يأبى ذلك ويخالف أمره وينكص عنه فلا يمتثله؟!

هذا مما يورَّك فيه على النقلة وبهذا الاضطراب وشبهه ردّ العلماء كتب هؤلاء القوم وأضربوا عن الاحتفال بها؛ فإن شغب النصارى بذكر هذه الآية أعدنا عليهم آية موسى وقلنا: قد نقلنا من التوراة أن موسى أطعم قومه وهم ستمائة ألف رجل سوى الصبيان والنسوان والغرباء مَنّاً وسلوى وأدامه عليهم2، ومن صنع خيراً كثيراً وأدامه أفضل بلا شكّ ممن صنع قليلاً منه وقطعه.

وبالجملة فآيات الأنبياء ليست نمطاً واحداً؛ إذ المقصود منها الإعجاز.

28-

معجزة دالة على صدق نبوته عليه السلام، / (1/66/ب) قال يوحنا التلميذ:"دعي المسيح إلى عرس في الجليل ففرغ الخمر الذي لهم، فقالت أم يسوع: ليس للقوم خمر ثم قالت للخدام: افعلوا ما يأمركم به يسوع، وكان هناك أوعية من حجارة لتطهير اليهود فأمرهم يسوع فملؤوها ماء ثم أمرهم فسقوا الناس منها خمراً طيبة. قال يوحنا: هذه أوّل آية أظهرها المسيح بقانا الجليل"3.

1 لوقا 1/32، 33.

2 ورد ذلك في سفر الخروج الإصحاح (16) .

3 يوحنا 2/1-11.

ص: 220

فإن قال النصارى: بذلك نستدل على ربوبيته إذ قلب الأعيان ليس من مقدور البشر، فالجواب أن المستبدل بالخلق والاختراع هو الله الذي لا إله غيره الفرد القديم الواحد العالم القادر الحكيم خالق العالم بما فيه من الأجسام والأعراض، وليس في تحويل الماء خمراً سوى تبديل عرض بعرض؛ إذ لا يخلو الجوهر عن عرض إلاّ ويخلفه ضدّه، فتارة يكون ذلك الضدّ مناسباً، وتارة يكون مخالفاً، وذلك كله ممكن والله تعالى متّصف بالقدرة على كلّ ممكن، وقد دللنا على عبودية المسيح في الباب الأوّل / (1/67/أ) وفي ذلك ما يردّ هذا السؤال، والمعجز في الحقيقة خالق العجز وهو الله عزوجل، وصدوره على يد عبد من عبيد الله يدعي أن الله أرسله يتَنَزَّل منْزِلَة قول الله تعالى:"صدق عبدي".

ونحن نناقش النصارى على ذلك فنقول:

أوّلاً: لا نسلم أن هذه المعجزة لعيسى بل هي لمريم أمه بدليل أنها التي اقترحتها وطلبتها. ألا تراها كيف تقدمت للخدام وقالت: افعلوا ما يأمركم به يسوع، وذلك من غير مؤامراته؟

وقد حكى بعض العلماء من أصحابنا في نبوة مريم قولين، فإن كانت نبية فهذه معجزة لها، وإلاّ فهي كرامة في حقّ ولايتها1، والكرامة صورتها صورة

1 اختلف العلماء في مسألة جواز نبوة النساء مطلقاً على أقوال هي:

أ- ذهب بعضهم إلى جواز نبوة النساء واتّفقوا على نبوة مريم واختلفوا في حواء وسارة وهاجر وأم موسى، ومن هؤلاء العلماء ابن حزم. (ر: الفصل في الملل والنحل 5/119-121) ، والقرطبي وتبعهم بعض العلماء.

ب- وذهب بعضهم إلى التوقف في المسألة؛ فقد نقل عن السبكي الكبير أنه قال: "لم يصح عندي في هذه المسألة شيء". (ر: فتح الباري 6/471، 474) .

ج- وذهب الجمهور إلى عدم جواز نبوة النساء، وأن النبوة خاصة بالرجال. قاله القاضي عياض، ونقل النووي وابن تيمية الإجماع على ذلك عن غير واحد مثل القاضيين: أبي بكر بن الطيب وأبي يعلى وابن أبي الفراء، والأستاذ أبي المعالي الجويني وغيرهم. (ر: فتح الباري 6/471، 473) . قصص الأنبياء ص 483، لابن كثير، الجواب الصحيح 1/331، لابن تيمية) .

واستدلوا على ذلك بقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلاّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ

} . [سورة النحل، الآية: 43] . وبقوله تعالى: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ} . [سورة المائدة، الآية: 75] . فجعل غاية مريم الصديقة كما جعل غاية المسيح الرسالة.

وذكروا لذلك حِكَماً؛ منها: أن النبوة عبء ثقيل لا تتحمله طبيعة المرأة الضعيفة، ولأن الرسالة تقتضي الاشتهار بالدعوة، والأنوثة تقتضي التستر وتنافي الاشتهار لما بين الاشتهار والاستتار من التمانع. ولعلوّ مرتبة الذكور على الأنوثة فلذلك جعل الله القوامة للرجال على النساء، والنبوة تقتضي قوامة النبي على من يتابعه، ولأن المرأة يطرأ عيلها بحكم طبيعتها ما يعطلها عن كثير من الوظائف والاتصال بالملأ الأعلى كالحيض والحمل والولادة ونحوه، ولكون النفوس مائلة في ذواتهن بحسب الطبع فيغفلون عن مقالهن، وكل ذلك مانع من القيام بأعباء الرسالة وتكاليفها. كما ناقش الجمهور أدلة المخالفين بردود قوية. (ر: للتوسع: قصص الأنبياء، ص 482-486، للإمام ابن كثير، لوامع الأنوار البهية 2/265، 266، للسفاريني، الرسل والرسالات ص 84-89، د. عمر الأشقر) .

ص: 221

المعجزة وإنما يفترقا في التحدي على رأي بعضهم، قال الله تعالى في حقّ مريم أم المسيح:{كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا المِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا زِرْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عَندِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيرِ حِسَابٍ} . [سورة آل عمران، الآية: 37] .

ولا يستنكر من أصحابنا القول بنبوة مريم؛ فأهل الكتاب يعتقدون نبوة جماعة من النسوان منهم: مريم1 أخت موسى وخُلدى2 وأستار3

1 ورد نسبة النبوة إلى مريم أخت موسى وهارون في التوراة المحرفة في سفر الخروج 15/20، وقد تقدمت ترجمتها ص:176.

2 خلدة: يذكر عنها قاموس الكتاب ص 344: أن اسمها عبري معناه: "ابن عرس"، وهي امرأة شالوم، وهي نبية شهيرة سكنت القسم الثاني من أورشليم في عهد الملك يوشيا، وتنبأت عن خراب أورشليم. (ر: أيضا: سفر الملوك الثاني إصحاح (22) ، وسفر أخبار الأيام الثاني إصحاح (34) .

3 أستير: معناه في الفارسية: "كوكب"، واسمها في العبرية هدسة أي: "شجرة الآس) وهي امرأة يهودية جميلة اتّخذها ملك الفرس زوجة له، وقد لعبت دوراً مهمّاً في إنقاذ اليهود من مكيدة دبرها وزير الملك للقضاء عليهم يوم الثالث عشر من آذار، وقد استطاعت أن تستصدر أمراً من الملك بالقضاء على وزيره بعد اتّهامه بالخيانة ضدّ الملك، وقتلت أكثر من سبعين ألفاً من الفرس أتباع الوزير في اليوم المحدد السابق لقتل اليهود فيه، ولذلك اتّخذ اليهود يوم الرابع عشر من آذار عيداً لهم إلى يومنا هذا تخليداً لذكرها، ولا يعرف شيء عن موت أستير وتاريخه.

وينسب إليها سفر باسمها: "سفر أستير" عدد إصحاحاته: (10) إصحاحات ضمن أسفار الوحي القانونية، له مكانة خاصة ممتازة عند اليهود. (ر: سفر أستير، وقاموس الكتاب ص 63-66) .

ص: 222

ورفقى1، وقد زعموا أنّه كان لفولس2 / (1/67/ب) الرسول من أتباع المسيح بعد المسيح أربع بنات كلهن نبيات3.

ولو سلمنا أن الآية مضافة إلى المسيح وفي حقه فهي آية تدل على صدقه والله يؤيد من يشاء لإرشاد خلقه، ولو جاز أن يدعي في المسيح الربوبية بتحويل الماء خمراً لجاز أن يدَّعي ذلك في اليسع بتحويله زيتاً فقد جاء في سفر الملوك من كتب أهل الكتاب:"أن اليسع عليه السلام نزل بامرأة من بني إسرائيل فأضافته وأكرمته فلما عزم على الانصراف قال لها: هل لك من حاجة؟ قالت: يا نبي الله إن على زوجي ديناً قد فدحه وإن رأيت أن [تدعو] 4 الله تعالى لنا بقضاء ديننا. فقال لها اليسع: أحضريني ما عندك من الأواني واستعيري من جيرانك ما قدرت عليه من الآنية. ففعلت ذلك فأمرها فملأتها كلّها ماء ثم قال: اتركيها ليلتك هذه. وتركها ومضى فأصبحت المرأة وقد تحوَّل ذلك كلّه زيتاً فباعوه وقضوا دينهم"5. فهذه الآية أعجب وأغرب. ولم ينقل أن اليسع امتهن

1 رفقة: اسم عبري ربما كان معناه: "رباط أ، حبل قيد"، وهي ابنة بتوئيل، وزوجة إسحاق وأم يعقوب عليهما السلام وينسبون إليها زوراً وبهتاناً في التوراة المحرفة أنها دبرت حيلة ليعقوب لينال البركة والنبوة من أبيه إسحاق بدلاً من أخيه الأكبر عيسو - وقد ماتت رفقة قبل إسحاق ودفنت في مغارة المكفيلة عند قبر إبراهيم عليه السلام، ولم يذكر أنها كانت نبية. (ر: سفر التكوين إصحاح 24، 25، 27، 49، قاموس الكتاب ص 408) .

2 الصواب أنه فيلبس المبشر: أحد السبعة المرسومين شماسة في كنسبة أورشليم، وقد كرس نفسه بعد الاضطهاد للتبشير وخاصة في السامرة، وقد كان له أربع بنات عذارى يتنبأن. (ر: أعمال الرسل21/8،9) .وقد استقر فيلبس بقيصرية، وصار أسقف تراليس. (ر: سفر أعمال الرسل إصحاح6،8،21، وقاموس الكتاب ص 702) .

3 ذكر قاموس الكتاب المقدس ص 952 أن الإناث من الأنبياء-حسب اعتقاد أهل الكتاب-في الكتاب المقدس هن: 1- مريم أخت موسى وهارون. 2- دبورة. 3- حنة أم صموئيل. 4- خلدة امرأة شلوم. 5- حنة بنت فنوئيل. 6- بنات فيلبس الأربع. ولم يذكر الكتاب نبية غيرهن إلاّ أنّه ذكر وجود نبيات كاذبات وحذر منهن مثل: نوغدية وإيزابيل. اهـ.

4 في ص (تدعوا) والتصويب من المحقِّق.

5 سفر الملوك الثاني 4/1-7.

ص: 223

وغلب وقتل وصلب. بلْ لم يزل / (1/68/أ) آمناً في سِرْبه1 إلى أن لحق بالله ربه.

ولقد فعل موسى ما هو أعجب من ذلك كله وهو: "أنه ضرب بعصاه بحر النيل بمصر فتحوَّل الماء بسائر أرض مصر دماً عبيطاً"2. وكذلك "ألقى عصاه بين عصي بني إسرائيل فاهتزت شجرة ذات أغصان وأفنان وأورقت وأثمرت لوزاً، فبينا هي خشبة إذْ صارت شجرة خضراء مثمرة"3. فبطل ما عوَّل النصارى عليه، فما أجابوا به عن آيتي موسى واليسع فهو جواب لنا عن آية المسيح.

وقد صرح فولس في الرسالة الرابعة عشرة إلى العبرانيين بأن المسيح ليس ربّاً ولا إلهاً بل إنّه عبد من عباد الله، شرّفه الله كما شرّف غيره من أنبيائه وأهل صفوته. فقال:"إن المسيح هو رئيس أحبارنا وهو الذي صعد إلى السماء وليس لنا رئيس أحبار غيره، ثم قال: إن كل رئيس أحبار إنما يكون من الناس ليقوموا فيما بين الناس وبين الله، وليس أحد ينال الكرامة لنفسه إلاّ من أناله الله مثل هارون، وكذلك المسيح لم يمدح نفسه، بل الله الذي مدحه حيث يقول: أقسم الربّ بأنّك أنت الكاهن المؤيد شبه/ (1/68/ب) ملكي صادق"4.

فهذا فولس - الذي ليس عند النصارى من يعدله - يشهد بأن المسيح إنسان من بني آدم [وحَبْرٌ] 5 من أحبارهم كهارون.

29-

دليل صحيح على نبوته: قال يوحنا الإنجيلي: "جاء يسوع إلى بئر من آبار السامرة مستسقياً ماء وقد عيي من تعب الطريق ففاوضته امرأة منهم

1 السرب: النفس، يقال: فلان آمن في سربه، أي: في نفسه. (ر: مختار الصحاح ص293) .

2 سفر الخروج 7/14-21.

3 تقدم تخريجها ر: ص: 84.

4 الرسالة إلى العبرانيين 4/14-16، 5/1-10.

5 في ص (حبرا) والصواب ما أثبته.

ص: 224

فقالت: يا سيد إني أرى أنك نبي. فقال لها يسوع: أنا هو الذي أكلمك. ثم وافاه تلاميذه فعرضوا عليه طعاماً، فقال: إن لي طعاماً لستم تعرفونه، إن طعامي أن أعمل مَسَرَّة من أرسلني، وأتم عمله. ثم بعد يومين خرج من هناك؛ لأنه شهد أن النبي لا يكرم في مدينته"1. وجه الدلالة على النبوة والرسالة من وجوه:

أحدها: قولها له: "يا سيد إني أرى أنك نبي". فصدّقها وحقّق ظنّها، فقال لها:"أنا هو"، وهذا واضح.

الثاني: قوله: "إن لي طعاماً لستم تعرفونه"، يعني بذلك اللذات الروحانية الحاصلة من المناجات والمكالمة.

الثالث: قوله: "أعمل مسرة من أرسلني". كَنَّى / (1/69/أ) بالمسرة عن المحبة، وإن كان الباري لا يتصف بالمسرة، وذلك من سوء تعبيرهم، وعَرَّف بأنه رسول مأمور بإتمام العمل ولزوم الطاعة، والنبي وغيره شرع في الشرع إلاّ ما قام الدليل على تخصيصه به.

قال المؤلِّف - عفا الله عنه -: "من وقف على هذه الفصول الشاهدة بالنبوة والرسالة، وشاهد ما كفيته من مؤنة استخراجها من أيدي الضانين بها، الكاتمين لها؛ ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متمُّ نوره، فليخصّصني بدعوة صالحة تكون زادي لمعادي، ويتعين عليه إظهار ذلك للمسلم والكافر، أما المسلم ليقف على مصداق قوله تعالى في حقّ المسيح: {وَجَعَلَنِي نَبِيّاً

} 2. [سورة مريم، الآية: 30] . وقوله: {ما المسيح ابن مريم إلاّ رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة} . [سورة المائدة، الآية: 75] .

وأما الكافر فحتى تظهر عليه الحجة، ويتّضح المحجة، وأنذر

1 يوحنا 4/5-44، في سياق طويل وقد اختصره المؤلِّف.

2 {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً} . [سورة مريم، الآية: 30] .

ص: 225

من بسطت يداه في دنياه، وأهمته العناية بأخراه أن يجمع من وجوه هذه الطائفة الزائفة جمعاً كثيفاً، ويحضر إنجيلهم ويقررهم بهذه الفصول على النبوة والعبودية، ليهلك من هلك/ (1/69/ب) عن بيِّنةٍ ويحيى من حَيَّى عن بيِّنةٍ.

وأما قول يوحنا: "وقد عَيِيَ يسوع من تعب الطريق"، فدليل على الحدث، ظاهر لمن له ناظر. وليت شعري كيف يعتقد ربوبية رجل ذي رأس وعينين، وقذال1 وأذنين، وفم ولسان وكف وبنان، يأكل ويشرب، ويعيا ويتعب، ويهان ويضرب، ويقتل في زعمه ويصلب؟!.

على أَنَّا نسأل النصارى فنقول: من هو هذا الذي عطش وعيي من تعب الطريق؟! فإن قالوا: هو اللاهوت، أكذبتهم التوراة إذ تقول:"إن الله خالق العالم بأسره وما مسه إعياء ولا تعب"2.

وإن قالوا: هو الناسوت، أبطلوا الاتّحاد، إذ لم يبق لاهوت متميّز عن ناسوت حتى يضاف إليه الإعياء والتعب، وإذا كان الإله منَزَّهاً عن التعب والإعياء وقد تعب المسيح وعيي، فذلك دليل على كذب النصارى فيما هذوا به من الاتّحاد، اللهم إلاّ أن يفسروا الاتّحاد بما ظهر على يده من آيات الإله من إحياء الميّت وتطهير الأبرص وغير ذلك. فيقودهم القول بذلك إلى مساواة المسيح / (1/70/أ) غيره، ويصير لا خصوصية له بهذا الاتّحاد. فإن راموا تفرقة بين المسيح وبين غيره ممن أحيا الميّت وطهر الأبرص وفعل أضعاف فعل المسيح لم يقدروا على ذلك، وقد حكى لوقا في إنجيله: "أن رجلاً من الفريسين طلب إلى يسوع أن يأكل عنده خبزاً، فلما دخل بيته حضرت إليه امرأة خاطئة، وصبَّت

1 القَذَال: جماع مؤخر الرأس، ويكون من الفرس معقد العذار خلف الناصية. والجمع:"أَقذِلَة وقُذُل". (ر: المصباح المنير ص 495) .

2 ورد النص في سفر أشعيا 40/28، كالآتي:"إله الدهر الرّبّ خالق أطراف الأرض لا يكل ولا يعيا". فلعل مراد المؤلِّف في نسبة النصّ إلى التوراة أي جنس الكتب القديمة المتقدمة على الإنجيل، وذلك من إطلاق اسم الجزء على الكل.

ص: 226

على رجليه قارورة طيب، وبكت عند قدميه حتى بَلَّتهما بدموعها، وجعلت تمسح قدميه بالطيب وبشعر رأسها، فقال الفريسي في نفسه: لو كان هذا نبيّاً لعرف أن هذه المرأة خاطئة. فأجابه يسوع عما هجس في نفسه"1.

30-

الدليل على رسالته من قوله واعترافه بأن الله غيره وأنه رسول الله إلى عباده، قال يوحنا التلميذ:"لما انتصف العيد حضر يسوع إلى الهيكل وشرع يعلم، فقال اليهود: كيف يحسن هذا التعليم؟ فقال تعليمي ليس هو لي بل للذي أرسلني، فمن عمل بطاعته فهو يعرف تعليمي، هل هو من عندي أم من عند الله؟ إن من يتكلم من عند نفسه إنما يريد مجد نفسه. فأما من يريد مجد/ (1/70/ب) من أرسله فهو صادق فعلام تريدون قتلي؟ فقال الجمع: لأنك شيطان. فقال لهم: تزعمون أن موسى عَلَّمكم الختان وليس الختان من موسى ولكنه من الآباء: "وقد يختنون الإنسان ومن الختان يهلك الإنسان كيلا تنقضوا سنة موسى"2. فعلام تنقمون عليَّ إبرائي الإنسان يوم السبت، ثم قال: إني لم آت من عندي ولكن الذي أرسلني محقّ، ولستم تعرفونه وأنا الذي أعرفه، وهو أرسلني. فَهَمَّ اليهود بأخذه ولم يقدروا، لأن ساعته لم تحضر بعد"3.

فقد وضحت رسالته من الله إلى الناس وضوح الصبح لذي عينين، ولولا تعاسة الجِد4 لما اشتبه الخالق بمخلوق، ولا قوبلت حقوقه بالعقوق.

فأما موضع التحريف من هذا الفصل، فهو قوله:"ليس الختان من موسى ولكنه من الآباء". وذلك غير صحيح؛ لأن التوراة قد أوجبت الختان، وجعلته

1 لوقا 7/36-50، في سياق ذكره المؤلِّف مختصراً.

2 ورد النص في إنجيل يوحنا 7/22، 23، كالآتي: "ففي السبت تختنون الإنسان، فإن كان الإنسان يقبل الختان في السبت لئلا ينقض ناموس موسى

".

3 يوحنا 7/14-30.

(الجد) في الأمر الاجتهاد، وهومصدر يقال منه: جَدَّ يجدّ والاسم: الجِدُّ. (ر: المصباح ص 92) .

ص: 227

من شرائع الإيمان، فقال الله فيها:"اختنوا لحم غرلتكم أنت وبنوك ورقيقك والساكن عندك الذي أقبل إليَّ، واجعلوا ذلك ميسماً لي في أجسادكم، فمن لم يفعل ذلك فليقتل بما أبطل من عهدي"1. والتوراة تشهد أن إبراهيم أمره/ (1/71/أ) الله فاختتن بعد ما كبرت سنة وختن بنيه وعبيده2، واختتن موسى وهارون والمسيح3 [وحواريوه] 4 وتلاميذه، والدليل على ثبج5 هذا النقل واضطرابه قوله بعد ذلك: "كيلا تنقضوا سنة موسى"،سمَّى الختان سنة موسى بعد قوله:"وليس الختان من موسى"، ولم يزل أتباع المسيح يختنون ويستنون بسنة الأنبياء في الختان حتى جاء رجل من المتأخرين يدعى فولس، هو الذي يسمونه فولوس الرسول، فادّعى أن المسيح ترآءى له، وأرسله إلى أهل دينه، فأحلَّ لهم فولس أشياء، وحلهم مما كانوا مرتبطين به من أقوال موسى والمسيح6، فكان مما حلهم منه سنة الختان التي شرعها الأنبياء عليهم السلام فراجعوه في ذلك،

1 سفر التكوين 17/9-14.

2 سفر التكوين 17/23-27.

3 جاء النص بختان المسيح في إنجيل لوقا 2/21.

4 في ص (وحواريه) والصواب ما أثبته.

5 الثبج: وسط الشيء ومعظمه. واضطراب الكلام وتفنيه وتعمية الخط وترك بيانه. (ر: القاموس ص 233) .

6 إن الختان من الشعائر المعروفة في اليهودية، وهو قطع لحم غرلة كل ذكر ابن ثمانية أيام، وكان فرضاً دينياً عند اليهود، وفي بكور العصر المسيحي زعم فريق من اليهود المتنصرين أن حفظ تلك السنة ضروري للخلاص، ولهذا قال بولس: لأنه في المسيح يسوع ليس الختان ينفع شيئاً ولا الغرلة بل الخليقة الجديدة. (رسالته إلى غلاطية 6/15) . (ر: قاموس ص 337، 338، بتخليص) . ويفهم من سفر الأعمال الرسل الإصحاح (15) بأن الحورايين قد عقدوا ما يسمّى بـ: "مجمع أورشليم" بطلب من بولس - الذي كان أوّل من دعا إلى ترك الختان، وعدم اتباع عادات بني إسرائيل - وبرنابا وغيرهم في النظر في مسألة الوثنيين الذين دخلوا في المسيحية ويرفوضون الختان، وقرر الحواريون السماح للوثنيين في الدخول في المسيحية دون شرط الختان - الذي لم ينسخ نسخاً باتاً - اعتباراً منهم على أن ذلك سيكون خطوة أولى إلى التمسك الكامل بأحكام المسيحية.

إلاّ أن الواضح بعد ذلك في أقوال بولس التصريح منه بنسخ الختان نسخاً باتاً، وعدم الفائدة منه كما تقدم، واستبدال الختان بالتعميد في العهد الجديد حيث قال بولس في رسالته إلى كولوسي 2/11، 12: "وبه أيضاً ختنتم ختاناً غير مصنوع بيد، بخلع جسم خطايا البشرية بختان المسيح مدفونين معه في المعمودية التي فيها أقمتم أيضاً معه بإيمان عمل الله الذي أقامه من الأموات. اهـ.

ص: 228

فقال لهم فولس هذا المدعي رسالة المسيح: "إن الختان ليس بشيء، وإن الغرلة ليس بشيء"1. فأطبق الملكية2 على ترك الختان، وتربص بقية طوائف بها فلم يتجاسروا على إهمالها.

وهذا فولس3 الرسول عندهم له كلمات تدل على تهكم وتلاعب بدين النصارى ستأتي متفرقة في أضعاف هذا المختصر إن شاء الله تعالى. وقد سمعت بعض / (1/71/ب) النصارى يذكر أن كلمة ينطق بها المسيح مركبة من اللاهوت والناسوت جميعاً، فيلزم على قول هذا القائل أن يكون الإله قد نطق بكلام المستضعفين إذ يقول في كلامه لليهود: إنكم تريدون قتلي، وذلك زلل عظيم.

31-

مناظرة جرت بينه وبين اليهود تشهد له بالنبوة والرسالة؛ قال يوحنا التلميذ: "قال يسوع لليهود الذين حضروه: إن أنتم ثبتم على الحقّ فالحقّ يعتقكم، فقالوا: نحن ذرية إبراهيم وأنت تزعم أنا عبيد. فقال: الحقّ أقول

1 رسالة بولس إلى أهل كورنثوس 7/19.

2 فرقة من فرق النصارى الكبيرة، وسيأتي التعريف بها.

3 لقد سبق لنا في ترجمة بولس (انظر: ص: 100) بيان الدور الخطير الذي قام به في انحراف النصارى، وقد أكّد الباحثون المعاصرون من النصارى ما قد قرره علماء المسلمين قديماً في المؤسس للنصرانية المنحرفة هو بولس، وليس عيسى عليه السلام. والأدلة على ذلك كثيرة من أقوال بولس في رسالته التي تثبت أنه واضع أسس العقيدة النصرانية المنحرفة ومنها:

قوله في رسالته إلى كولوسي 1/15: "الذي هو (يعني: المسيح) صورة الله غير المنظور بكر كل خليفة، فإنه فيه خلق الكل ما في السماوات وما على الأرض ما يرى وما لا يرى سواء كان عروشاً أم سيادات أو رئاسات أم سلاطين، الكل به وله قد خلق".

وقوله في رسالته إلى رومية 3/23: "إذ الجميع أخطأوا وأعوزهم مجد الله متَبَررين مجاناً بنعمته بالفداء الذي بيسوع المسيح الذي قدمه الله كفارة بالإيمان بدمه". وكذلك في نفس الرسالة 5/10-21.

وقوله أيضاً 4/100: "وأما أنت فلماذا تدين أخاك

لأننا جميعاً سوف نقف أمام كرسي المسيح".

ص: 229

لكم إن من يعمل بالخطيئة فهو عبد الخطيئة، قد عرفت أنكم من ذرية إبراهيم، ولكنكم تريدون قتل رجل كلمكم بالحقّ الذي سمعه من الله، فقالوا: أما نحن فلسنا مولودين من زنى، وإنما لنا أبٌّ واحدٌ هو الله. فقال: لو كان الله أباكم كنتم تحبونني؛ لأن الله أرسلني ولستم تفهمون كلامي ولا تطيقون استماع قولي، أنتم من أبيكم إبليس وشهوة أبيكم تأتون. فقالوا: ألم نقل إنك سامري وأن بك جنوناً؟ فقال: الحقّ أقول لكم إن من يحفظ كلامي لا / (1/72/أ) يذوق الموت إلى الأبد. فقالوا: الآن علمنا أنك مجنون. قد مات إبراهيم والأنبياء؛ فلعلك أعظم من أبينا إبراهيم ومن مات من الأنبياء، من تجعل نفسك؟ فقال يسوع: أبوكم إبراهيم اشتهى أن يرى يومي فرأى وفرح. فقال له اليهود: لم يأت لك خمسون سنة فكيف رأيت إبراهيم؟ فقال يسوع: الحقّ أقول لكم إنني [كائن] 1 قبل أن يكون إبراهيم. فتناولوا حجارة ليرجموه، فتوارى يسوع وخرج من الهيكل"2.

قلت: فقد نطق المسيح في هذا الفصل وفي غيره بأنه رسول من الله، وأنه إنسان من خلقه يروم أعداؤه قتله على تبليغ رسالة ربّه، وأنه سامع من الله، وأن الله غيره ولو أن الأمر على ما يتخيله النصارى لأرشد أهل ذلك المجلس إلى الصواب ولعرّفهم أن الإله لا يتصور قتله والظهور عليه، ولكنه أثبت عندهم أنه رجل ضعيف من بني آدم، وأكّد ذلك في نفوسهم بهربه وتواريه من المجلس على أعين الناس وهم يشهدون، وكيف يكون إلهاً ويترك خلقه يرتبكون في حبائل الشكوك، ويقول في محاورته:"إنّكم تريدون قتلي / (1/72/ب) وأنا إنسان كلمتكم بالحق وفُهْت لكم الصدق"؟!.

1 إضافة يقتضيها السياق مأخوذة من نص الإنجيل.

2 يوحنا 8/31-59، في سياق طويل، وقد اختصر المؤلِّف بعضه.

ص: 230

وفي هذا الفصل مواضع يسألون عنها، وكلّها قريبة المغزى على من أمعن من مطالعة كتبهم، وعرف نبوات أنبيائهم، منها قوله:"أنا قبل أن يكون إبراهيم". وإنما يريد قبلية الاصطفاء والاجتباء، وتقدير الكلام:"أنّ الله قدّر لي النبوة واصطفاني للرسالة قبل خلق إبراهيم". وهذا محمل يتعين حمل هذا الكلام عليه إن صحّ نسبته إليه، ولو كان الأمر على ما [ينهق] 1 به النصارى من دعوى الربوبية لم يخصص القبلية بإبراهيم ولقال:"أنا كنت قبل خلق العالم، وأنا الذي نفخت الروح في حواء وآدم"، ولو جاز أن يتمسك بقوله:"أنا قبل أن يكون إبراهيم"، لجاز ذلك في سليمان فقد قال عليه السلام في حكمته:"أنا كنت قبل الدني، وأنا كنت مع الله حين مدَّ الأرض، وكنت صبيّاً ألهو بين يديه"2.

فإن قالوا: هذا مُأَوَّل لأن سليمان3 من بني إسرائيل، فكيف يكون قبل الدنيا؟!.

قلنا: ويسوع المسيح من ولد إبراهيم، فكيف يكون قبل إبراهيم؟! فاستوت الحال وترجح جانب سليمان في / (1/73/أ) هذه القَبْليِّة4.

1 في ص (يهيق) ولعل الصواب ما أثبته.

2 سفر الأمثال 8/22-31، بألفاظ متقاربة، وقد ذكره المؤلِّف مختصراً.

3 سليمان بن داود عليهما السلام اسم عبري معناه: "رجل السلام". وهو وأباه داود عند أهل الكتاب مجرد ملكين من ملوك بني إسرائيل وليسا نبيّين من أنبيائهم الكرام، وينسب إليه الهيكل المسمّى بـ:(هيكل سليمان) ، كما ينسبون إليه زوراً وبهتاناً الكثير من كبائر الذنوب، وحتى الشرك بالله، كما ينسبون إليه سفر الجامعة وعدد إصحاحاته (2) ، وسفر الأمثال وإصحاحاته (31)، وسفر نشيد الأناشيد وإصحاحاته (8) . (ر: سيرته في سفر الملوك الأوّل وقاموس الكتاب ص 481، 483، 951) .

أما في المصادر الإسلامية فإن سليمان وداود عليهما السلام بلا شكّ - من أنبياء الله الكرام المعصومين. (ر: سيرته في تاريخ الطبري 1/344-356، قصص الأنبياء، ص 428-447، لابن كثير وغير ذلك) .

4 إن كلام المؤلِّف في الردّ على استدلال النصارى على ألوهية المسيح بقوله: "أنا قبل أن يكون إبراهيم"، مقتبس من كلام الحسن بن أيوب - وقد كان نصرانياً ثم أسلم - في الرّدّ على النصارى، وكتابه مفقود، إلاّ أن الإمام ابن تيمية قد نقل أغلب كتابه في الجواب الصحيح 2/340، 341، كما ذكر الرّدّ أيضاً المهتدي نصر بن يحيى المتطبّب في النصيحة الإيمانية في فضيحة الملة النصرانية ص 276، 277.

ص: 231

ومنها قوله: "إن أباكم إبراهيم ليشتهي أن يرى يومي فرأى وفرح"، يحتمل أن يكون إبراهيم كان قد اشتهى أن يرى يوماً يتلذذ فيه بمناجاة الله ومكالمته، فلا جرم أن الله تعالى أناله طلبته، وأسعفه بحاجته، وشرفه نحلته "فكلمه عند انتصاف النهار، حين مرت به الملائكة لهلاك قوم لوط كما شهدت به التوراة، وفارقوه وبقي إبراهيم قائماً بين يدي الله يناجيه ويتلذذ بمراجعته ويقول له: يا ربّ أتهلك الأبرار مع الفجار بغضب واحد"1. كما شهدت به التوراة، فضاهى ذلك اليوم من حسنه وطيبه يوم المسيح: "إذا كان يدعو ربّه عند إحياء العازر، ويقول: أشكرك؛ لأنك تستجيب لي، وأنا أعلم أنك تستجيب لي في كلّ حين، ولكن أشكرك من أجل هؤلاء الفئام ليعلموا أنك أرسلتني"2. كما نطق به الإنجيل، فهذا تأويل قول:"إبراهيم اشتهى أن يرى يومي"،ولو كان على ما يذهب إليه النصارى لقال: اشتهى أن يراني، ولم يقل: اشتهى أن يرى يومي.

ويحتمل أيضاً أن يكون إبراهيم كان قد سأل الله تعالى أن يجعل / (1/73/ب) في ذريته رجلاً صالحاً تعمّ بركته، فوعده الله أن يخرج من ذريته من يحيى الميت، ويبرئ الأبرص والأكمه، ويشفي المرضى، فاشتهى إبراهيم أن يري يوماً من أيام هذا المولود الموعود به لكي يحصل له مع علم اليقين عين اليقين [فأحيا له] 3 ميتاً أو عدداً من الموتى، وشفى له مرضى، وكثر له من الزاد القليل ما أشبع الجمع الكثير، وقال: إن من ذريتك من أُجري هذه الأمور على يده، ففرح بذلك اليوم التي حصل له فيه من ربّه ما حصل.

1 سفر التكوين إصحاح (18) .

2 يوحنا 11/1-46.

3 بياض في ص، والإضافة من المحقِّق حسب سياق الكلام.

ص: 232

وفي الفصل ما يقتضي مساواة المسيح غيره في لفظ النبوة إذ يقولون: "إن أبانا واحد هو الله"، فلم ينكر عليهم [ويقل] 1: كذّبتم بل هو أبي دونكم، بل أقرّهم على ذلك، وقال:"لو أن الله [أبوكم كنتم تحبّونني] 2". ومن ذلك قوله: "الحقّ يعتقكم"، ومعلوم أنهم أحرار، ومن ذلك قوله:"أنتم من أبيكم إبليس"، ومعلوم أنهم من بني آدم، فهذا التوسع من المسيح يوجب صرف الأبوَّة والبُنُوَّة عن ظاهرها.

ويقتضي إطلاق البنوة على العبد المطيع حيث يقول: لو أن الله / (1/74/أ)[أبوكم كنتم تحبونني]3.

قال المؤلِّف - عفا الله عنه -: "لقد فاوضت بعض النصارى فيما يتعلق بألفاظ البنوة، فقال: لا تعجب من تسميتنا السيد المسيح ابناً، فنحن بأسرنا ندعو الله أباً لجميعنا.

فقلت له: فأنتم إذاً مع المسيح في الرتبة، فلم تسمونه ربّاً وتتّخذونه إلهاً؟ ولم يميز عنكم في هذه التسمية؟! فذكر اختصاصه بالخوارق والآيات فتلوت عليه أمثالها صدرت عن عدة من الأنبياء، فحار ولم يحر جواباً، وأصيب ولم يصب صواباً. فليت شعري، أي شيء في هذا الفصل يصلح للاستدلال على ربوبية المسيح وفيه قوله لليهود:"من منكم يوبخني على خطيئة؟! "، وفيه هربه من المجلس بحضرتهم. وهلاّ كان مكان قوله:"من منكم يوبخني على خطيئة"، من منكم يجحد خلقي العالم؟! ونفخي الروح في آدم؟!، ولم تنكرون ربوبيتي وتجحدون ألوهيتي، وأنا الذي بيده البسط والقبض، وبأمره قامت السماء والأرض؟! وحاشاه حاشاه، بل إنما استدل على نبوته بثبوت عصمته، فقال:"من منكم يوبخني على خطيئة؟! ".

1 في ص (ويقول) والصواب ما أثبته.

2، و (4) في ص (أباكم كنتم تحبوني) والصواب ما أثبته.

ص: 233

32-

معجزة دالة على نبوّته / (1/74/ب) : قال يوحنا التلميذ: "أحيا يسوع العازر، وجاء إلى القبر مع أخته، وقال لها: أين دفنتموه؟ فأشارت إلى المغارة التي هو فيها، فقال: ارفعوا الحجر عنه. ثم دمعت عيناه، فقال اليهود: انظروا حبه له. فقالت أخت العازر: يا سيد إنه قد أنتن؛ لأن له أربعة أيام، فقال: إن آمنت رأيت مجد الله، فرفعوا الحجر عن القبر، ورفع يسوع بصره إلى فوق، وقال: يا أبتاه أشكرك لأنك تسمع لي، وأعلم أنك تسمع لي في كلّ حين، ولكن أشكرك من أجل هؤلاء القيام ليعلموا أنك أرسلتني، ثم نادى بصوت عظيم: عازار اخرج. فخرج الميت ويداه ورجلاه ملفوفة باللفائف ووجهه مستور بعمامة، فقال يسوع: حُلُّوه ودعوه يمضي إلى بيته"1.

قلت: بهذا وشبهه ثبتت نبوّة المسيح، ووضحت رسالته، وقطع ألسن اليهود الذي قرفوه بالخناء، ونسبوا أمير الصدق إلى الزنا، وهذا الكلام من المسيح هو التحدّي على النبوّة.

فإن نازع اليهود في صدق هذه الآية من المسيح [ود] لالتها2 على النبوّة/ (1/75/أ) ورد عليهم ذلك بعينه في شقّ البحر وإجراء المياه من حجر [الصَّوَانٍ] 3 وغيره من آيات عيسى، وكلّ سؤال انعكس على مورده مردود من أصله.

وإن زعم النصارى أن ذلك دليل على ربوبية المسيح إذ ليس في مقدور البشر إحياء من في القبور.

قلنا: قد بيّنا في الباب الأوّل عبودية المسيح، وأنه إنسان من الخلق أكرمه الله بالآيات وأمدّه بالمعجزات، والرّبّ تعالى هو الذي يعيد الروح إلى قالبها، ويفعل ذلك عند دعوة النبي ليتوجه على العباد قبول أمره

1 يوحنا 11/1-44، في سياق طويل، وقد اختصر المؤلِّف بعضه.

2 في ص: بياض، والمثبت من اجتهاد المحقِّق حسب سياق الكلام. والله أعلم.

3 في ص: (الطران) ولا معنى له، ولعله تحريف من الناسخ، وما أثبته موافق لسياق الكلام. و (الصواب) ضرب من الحجارة شديد.

ص: 234

وينْزِل ذلك منه سبحانه منْزِلة قوله: "صدق عبدي فأطيعوه"، وهذا كما فلق البحر بسؤال موسى، وأخرج له من الرمل حيواناً كثيراً [قملا فأرسله] 1 إلى فرعون وجنوده، وقد شهد كتاب [سفر] 2 الملوك من كتبهم: أن قوماً حملوا ميتاً لهم إلى [القبر فرأوا عدوّاً لهم] 3، فطرحوا الميت عن أعناقهم، وابتدروا [الهرب إلى المدينة، فأحيا الله تعالى الميت] 4، وأقبل حتى دخل المدينة، فنظروا [فإذا هم قد وضعوه على قبْرِ] 5 نبي الله اليسع، فهذا تراب [قبْر اليسع قد أحيا ميّتاً وهو أعجب] 6 من فعل المسيح، والمسيح سأل / (1/75/ب) وتضرع في ذلك، واليسع ميّت لم ينسب إليه سؤال.

وقد ذكرنا أشعيا النبي "أن الله عزوجل قال لحزقيال: قم فتنبأ على هذه العظام حتى أحييها لك. ففعل فأحيا الله بدعوته عالماً كبيراً يقال: إنهم ثلاثون ألفاً، وقيل: ستون ألفاً، كان بختنصر اليوناني قتلهم، وكان لهم من يوم قتلوا ستون سنة"7. وقد أحيا إلياس وغيره8 الأموات.

"وقد كان موسى ضرب بعصاه الرمل فَتَكَوَّنَ منه [قمل] 9 وذباب فانثال على أعدائه"10. ولا شكّ أن من صوَّر حيواناً ابتداءاً فهو أبدع ممن أعاد الروح إلى قالبها الأوّل. وكلّ هذه المنقولات تشهد بها التوراة والنبوات، فهلاّ اتّخذ

1 في ص بياض، والإضافة من نص التوراة سفر الخروج 8/16، 17.

2 و (3) ، و (4) ، و (5) ، و (6) بياض وسقط في الأصل، وقد أكملت النقص من سفر الملوك الثاني 13/20-21، ومن المنتخب الجليل من تخجيل مَنْ حرَّف الإنجيل، لأبي الفضل المالكي ص 82.

7 ورد النصّ في سفر حزقيال 37/1-10، ولم يرد في سفر أشيعا كما ذكر المؤلِّف. ولعله سهو منه، أو إضافة من الناسخ.

8 ورد في سفر الملوك الأوّل 17/17-24 أن النبي إيليا (إلياس) عليه السلام أحيا ابن الأرملة الميت، وكذلك أحيا النبي اليسع عليه السلام ابن الإسرائيلية الميت كما ذُكر في سفر الملوك الثاني 4/18-37.

9 في ص (قملاً) والصواب ما أثبته.

10 سفر الخروج 8/16، 17.

ص: 235

النصارى من ذكرنا من الأنبياء آلهة وأرباباً، وقد أربوا على ما صدر من المسيح عليه السلام.

واعلم أن في قصة العازر أشياء تمنع النصارى من اعتقاد ربوبية المسيح منها:

قوله: "أين دفنتموه"، فإنه لو كان المسيح ربّه [لعرف أين] 1 مكانه. فكيف يسأل الرّبّ عن موضع [قبر العازر؟!]2.

ومنها: استعباره عند رؤية قبْره [وذلك من صفات] 3 الآدميّين / (1/76/أ) وحُنُوِّ الجنسية.

ومنها: قوله لأخت الميّت: "إن آمنت رأيت مجد الله"، أضاف القدرة على الإحياء إلى غيره.

ومنها: ابتهاله وطلبه من الله وإظهار فاقته وحاجته إليه سبحانه، وعجزه وقصوره عن أن يأخذ إلاّ ما أعطاه، وقد صرّح هو بذلك في موضع آخر من الإنجيل إذ يقول:"إن الابن لا يقدر أن يفعل شيئاً ولا يتفكر فيه إلاّ أن يأمره الأب"4. وهذا غاية العجز والافتقار، فلو كان المسيح هو الله أو الله حالاً فيه كما يقول النصارى للزم اتّحاد السائل والمسؤول، والداعي والمدعو، والطالب والمطلوب منه.

ولو كان الله هو المسيح أو صفة من صفاته لجر إلى تلبيس عظيم، إذ سؤاله غيره، وطلبه من غير مطلوب منه، تلبيس وتدليس، وحمل لخلقه أن يقفوا به دون حقّه، وأن يعاملوه بما يقصر عن جلاله، ولا يعطونه من الخدمة والعبادة ما

1، و (3) ، و (4) طمس وبياض في الأصل، وإكمال النقص من المحقِّق حسب سياق الكلام

4 إنجيل يوحنا 5/9، 8/28، بنفس المعنى.

ص: 236

يتقاضاه الربوبية وتوجيه الإلهية بل يعاملونه معاملة البشر ويخاطبونه مخاطبة الآدميين، فينسبونه تارة إلى بنوة داود وأخرى إلى بنوة يوسف / (1/76/ب) ومريم، وذلك غض عظيم من منصب الربوبية وحط لجلال الألوهية.

فنحن - يرحمك الله - نسأل النصارى عن هذا الداعي المبتهل الطالب أهو الإله الأزلي الواحد أو إنسان من بني آدم؟!

فإن قالوا: إنه إنسان من بني آدم وافقوا شريعتنا وخالفوا شريعتهم إذ تقول: "إن المسيح إله حقّ من إله حقّ من جوهر الله، وأن المسيح بيده أتقن العوالم وخلق كلّ شيء". وحينئذٍ يصيروا مسلمين إذا اعترفوا بالرسول صلى الله عليه وسلم.

وإن زعموا أن القائل لذلك هو الإله الخالق الأزلي الواحد، فقد صرّحوا أن الله الأزلي لا يعلم المغيبات، وأنه مفتقر إلى سؤال غيره، وأن له ربّاً فوقه يسأله حوائجه، ويضرع إليه في نوازله ومأربه، وكفى بذلك تجاهلاً.

مؤاخذة على إحياء العازر: ذكر يوحنا في قصة العازر هذه أن مريم ومرثا أختا العازر ذهبتا إلى يسوع فقالتا: "يا سيد إن حبيبك العازر قد مات، فقال يسوع: ليس هذا موتاً على الحقيقة، ولكن ليظهر مجد الله"1.

قلت: لا يخلو أن يكون / (1/77/أ) العازر مات أو لم يمت، فإن كان قد مات، فكيف يقول: إنه لم يمت حقيقة، وإن كان لم يمت لم يحصل الإعجاز بإحياء من لم يمت وإحياء الحيّ محال.

1 ورد النّصّ في إنجيل يوحنا 11/3، 4، كالآتي:"فأرسلت الأختان إليه فائلتين: يا سيد هو ذا الذي تحبه مريض، فلما سمع يسوع قال: هذا المرض ليس للموت بل لأجل مجد الله؛ ليتمجد ابن الله به". اهـ. هو مخالف للنّصّ الذي ذكره المؤلِّف، ولا يتطرق إليه الاعتراض الذي ذكره؛ لاختلاف عبارات النّصّين.

ص: 237

نكته: من غَلُظَ فهمه وأظلم حسه وكثف لبه افتقر في إرشاده إلى معجز كثيف، فلا جرم كانت الآيات في أهل الكتاب من جنس فُهومِهم.

ولما لطفت أفهام آخرين وتروحنت نفوسهم وقوي نفوذ إدراكهم اكتفى في هدايتهم بالروحاني من المعجز، فلا جرم آمن طوائف بمجرد رؤية نبيّهم وسماع أوّل كلامه، ولم يتوقف إيمانهم على ما توقف عليه إيمان الأوّلين.

نكته أخرى: من أرسله الملك إلى قطر في أمر ذي بالٍ فهو إما خصيص به أو غير خصيص، فإن كان خصيصاً به لم يحتج في تبليغ أوامره إلى مزيد ثبته. وإن كان الآخر فلا بدّ لوجوب الامتثال مما يقطع الاحتمال، فقد ثبتت بحمد الله نبوة المسيح، وتقررت رسالته بالأدلة المستنبطة من كتبهم على وجه لا خفاء به على من نَوَّرَ الله قلبه. (1/77/ب) .

ص: 238