المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الباب السادس: في الأجوبة المسعدة عن أسئلة الملحدة - تخجيل من حرف التوراة والإنجيل - جـ ١

[صالح الجعفري]

الفصل: ‌الباب السادس: في الأجوبة المسعدة عن أسئلة الملحدة

‌الباب السّادس: في الأجوبة المسعدة عن أسئلة الملحدة

نسطر أسئلة عبثوا بالسؤال عنها، ونشفعها بالجواب، لينتفع بذلك من أحبّ مكالمتهم:

1-

سؤال: قال النصارى: قد علمتم معاشر المسلمين أن اليهود والنصارى يزيد عددهم على عدد التواتر أضعافاً مضاعفة، وها هم ينقلون ويخبرون أن المسيح قد قُتل وصُلب على رابية من روابي البيت المقدس، وخبر التواتر يفيد العلم ويُوجب القطع، فكيف ينفي كتابكم ما أثبته التواتر؟! وما ذلك إلاّ بمثابة من ينفي وجود بغداد وغيرها مما عُلم بالضرورة.

والجواب: هو أنّا نقول: مَن سَلَّم لكم أن الذين شاهدوا والقتل وشهدوا به بلغوا حدّ التواتر، كلَاّ. لم يكونوا بهذه الصفة، وبيانه أن الذين حضروا القتل والصلب إنما كانوا شرذمة من اليهود، فأما أصحاب المسيح فلم يحضر منهم أحد البتة كما قدمنا1.

وإذا كان المخبرون آحاداً / (1/153/ب) وأفراداً فلا تواتر، إذ التواتر شرطه أن يستوي فيه الطرفان والواسطة.

وإذا كان الحاضرون للقتل لم يوصفوا بهذه الصفة فكثرة من جاء بعدهم إنما أخبر عنهم، فلا جرم قُدِّم تواتر الكتاب العزيز على خبرهم. فهذا وجه.

1 ر: الباب الخامس.

ص: 391

والوجه الثاني: أَنَّا لو قَدَّرنا أنهم بلغوا حدّ التواتر - غير أن التواتر إنما أثبت قتلاً وصلباً لا غير - فلا جرم أن القرآن الكريم لم يَنْفِه، ولكن القرآن إنما نفى أن يكون المفعول به ذلك المسيح نفسه، وأعلمنا أنه كان قد شُبِّه لهم. وهذا القدر لو عُرِض على الذين شاهدوا الصلب وقيل لهم: أتجوِّزون أن يكون هذا الذي قد أُحْضر للقتل ليس هو المسيح، ولكنه رجل قد ألقى الله شبهه عليه أو خلقه الله ابتداء يُشبه المسيح؟! فإنا نعلم أنهم كانوا يجوّزون ذلك ولا يحيلونه؛ لأن تغيير الأشباه والأشكال جائز في مقدور الله تعالى، وإنما يمتنع ذلك في زمان لا تخرق فيه العوائد، وقد كان في زمان المسيح خوارق [لا يخفى] 1 / (1/154/أ) أمرها، فلا يمتنع أن يكون الله سبحانه قد خرق العادة بإلقاء شبه المسيح على غيره، أو أتاح لهم شخصاً يشبهه، كما خرق العادة فقلب النار برداً وسلاماً على إبراهيم الخليل وعلى الفتية في زمن دانيال عليه السلام، وكما حوَّل لون يد موسى عن لونها الأوّل، وغَيَّر جوهر الماء إلى الخمر والزيت للأنبياء عليهم السلام. وإذا كان ذلك جائزاً، فالذين أخبروا أن المصلوبَ المسيحُ ليسوا على ثبت، فلم يوجب خبرهم عِلْماً، فلا جرم قُدِّم تواتر الكتاب العزيز عليهم، وإذا ثبت ذلك لم يقع التعارض بين الأدلة القطعية.

فإن قيل: مَن هو الذي وقع عليه الشَّبه حتى التبس أمره على اليهود والنصارى واشتبه؟

1 في ص (لا تخفى) والصواب ما أثبته.

ص: 392

قلنا: روى وهب1 بن منبه: أن المسيح حين أحاطت به اليهود في بيت كان فيه، صوَّر الله الجميع بصورة المسيح، فخرج واحد منهم وكانوا تسعة عشر رجلاً فأخوه وذهبوا ليلاً2، وكذلك روى مجاهد3.

وقال ابن4إسحاق - عمَّن أسلم منهم -: "إن المسيح/ (1/154/ب) ، حين حصره اليهود قال: من يقبل صورتي فيقتل وله الجنة؟ فقال أحد من معه: أنا. فوقع عليه شبه المسيح. وصعد بالمسيح من ساعته إلى السماء، وأخذ الرجل فقتل صبيحة تلك الليلة"5. قاله من المفسرين: السُّدِّي6، وقتادة7، وابن8 جريج.

1 هو: وَهْبُ بن مُنبه بن كامل اليماني، أبو عبد الله الأنباري. العلامة الإخباري القصصي، من خيار علماء التابعين، مات سنة 110هـ. (ر: ترجمته في الجرح والتعديل لابن أبي حاتم 9/24، وسير أعلام 4/544، تهذيب التهذيب 11/147، التفسير والمفسرون - الذهبي 1/195) .

2 أخرجه الإمام ابن جرير الطبري، ورجّه في تفسيره 6/12، 15، 16.

3 هو: مُجَاهد بن جَبْر، الإمام، شيخ القراء والمفسرين، أبو الحجاج المكي، مولى السائب بن أبي السائب. من كبار التابعين، مات سنة 104هـ على الأشهر. (ر: ترجمته في المصادر السّابقة على الترتيب 8/319، 4/449، 10/38، 1/104) .

4 هو: محمّد بن إسحاق بن يسار، أبو بكر، المطلبي مولاهم، إمام أهل المغازي، صاحب السيرة النبوية. صدوق يدلس. مات سنة:150هـ. وقيل: بعدها. (ر: ترجمته في: طبقات ابن سعد 7/321، سير أعلام النبلاء 7/33، تهذيب التهذيب 9/38، تاريخ بغداد 1/214) .

5 أخرجه ابن جرير الطبري في تفسير 6/14، 15، عن ابن إسحاق، والسّدّي، وقتادة، وابن جريج، والقاسم ابن أبي بزة.

6 هو: إسماعيل بن عبد الرحمن بن أبي كَرِيمة، الإمام المفسّر، أبو محمّد الحجازي ثم الكوفي الأعورُ السُّدِّي. أحد موالي قريش. صدوق يهم. ورمي بالتشيع. من الرابعة. مات سنة 127هـ. (ر: ترجمته في: طبقات ابن سعد 6/323، سير أعلام النبلاء 5/264، تهذيب 1/313، طبقات المفسرين 1/109) .

7 هو: أبو الخطاب، قتادة بن دعامة السّدوسي البصري، الأكمه، حافظ العصر، قدوة المفسرين، وهو حجة بالإجماع إذا بيّن السماع، فإنه مدلس معروف بذلك، وكان يرى القدر - نسأل الله العفو - وهو رأس الطبقة الرابعة. مات سنة: 117هـ. (ر: ترجمته في: طبقات ابن سعد 7/229، سير أعلام النبلاء 5/269، تهذيب 8/315، طبقات المفسرين 2/43، التفسير والمفسرون، الذهبي 1/125) .

8 هو: عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج، الإمام الحافظ، شيخ الحرم، أبو خالد وأبو الوليد الأموي، ثقة فقيه فاضل، وكان يدلس ويرسل من السادسة، مات سنة 150هـ، أو بعدها. (ر: ترجمته في: الجرح والتعديل لابن أبي حاتم5/356،سير أعلام النبلاء 6/325، تهذيب 6/402، التقريب 1/520، التفسير والمفسرون 1/198) .

ص: 393

وقيل: "إن اليهود لما جاؤوا لأخذ المسيح هرب من كان معه من أصحابه وثبت معه رجل واحد يسمّى: جرجس، فألقى الله شبهه عليه، فأخذوه وذهبوا به ليلاً، وستر الله المسيح عن أعينهم، فعذبوا الرجل ليلاً، ثم قتلوه من صبيحة تلك الليلة"1. فلم يشكّ من كان ترك المسيح وهرب عنه أن المأخوذ هو المسيح، فلذلك أخبروا أن المسيح قد صلب.

قال المؤلّف: قد روينا فيما تقدم من كتابنا هذا عن بطرس - صاحب المسيح - أن المسيح عليه السلام صعد إلى جبل الجليل في جماعة من أصحابه، فنظروا إلى وجهه وإذا هو قد تغيرت صورته، وابيضت ثيابه، وإذا موسى وإلياء قد نزلا إليه ومعهم سحابة تظلهم، وعند ذلك وقع على بطرس / (1/155/أ) وأصحاب المسيح النوم فناموا2، وذلك يحقّق قولنا في الشبه 3.

1 أخرجه ابن جرير6/15،قال: قال ابن حميد: قال سلمة: قال ابن إسحاق:

فذكره بنحوه.

2 متى 17/1-8، ومرقس 9/1-8.

3 اختلف العلماء في الشبه المصلوب بدلاً عن المسيح عليه السلام على أقوال هي:

الأوّل: أن عيسى عليه السلام سأل أصحابه - ممن كان معه في البيت حين أحاط به اليهود - فقال: "أيّكم يلقى عليه شبهي فيقتل مكاني ويكون معي في درجتي؟ ". فانتدب لذلك شاب من أحدثهم سنّاً، فألقي عليه شبهه فيقتل، ورفع عيسى عليه السلام. قال بهذا قتادة والسدي والقاسم بن أبي عزة وابن جريج. ورجّحه الإمام ابن كثير 1/587، 588، وساق في ذلك أثراً من تفسير ابن عباس ورواه النسائي عن أبي كريب عن أبي معاوية بنحوه. وكذا ذكره غير واحد من السلف. اهـ.

الثّاني: قيل: إن شبه عيسى ألقي على جميع من كان معه في البيت من غير مسألة عيسى إيّاهم ذلك، فخرج إلى اليهود بعض من كان في البيت، فقتلوه وهم يحسبونه أنه المسيح عليه السلام. وهذا القول أحد الروايتين عن وهب بن منبه واختاره الإمام ابن جرير في تفسيره 6/16.

الثّالث: قيل: إن الشبه ألقي على الحواري الخائن يهوذا الأسخريوطي الذي أخذ الرشوة من اليهود ليدلهم على مكان المسيح عليه السلام، فعاقته الله بعكس مقصوده. فألقي شبه عيسى عليه، فقبض عليه اليهود وقتلوه وهم يحسبون أنه المسيح عليه السلام. وهذا القول أحد الرواتين عن وهب منبه. (ر: تفسير الطبري 6/13، وبه قال نجم الدين الطوفي في كتابه:(الانتصارات الإسلامية في كشف شبه النصرانية ص 102) . وقد وردت هذه الرواية في إنجيل برنابا: (الفصل الإصحاح 214، 215، 217) .

الرّابع: قل: إنه شبه للنصارى القول بذلك، أي: حصلت لهم الشبهة في أمره، وليس لهم علم بأنه قتل وصلب، وكان المشبهون لهم شيوخ السوء في ذلك الوقت وشُرُطهم المُدَّعون لهم أنهم قتلوه وصلبوه، وهم يعلمون أنه لم يكن ذلك. وإنما أخذوا مَنْ أَمْكَنهم فقتلوه وصلبوه في استتار ومنع من حضور الناس، ثم أنزلوه ودفنوه تمويهاً على العامّة الذين شبه لهم الخبر. وقال بهذا ابن حزم في الفصل الملل والنحل 1/125، وذكره ابن القيم في هداية الحياري ص 314.

والذي أرجّحه - والله أعلم - هو القول الأوّل لصحّة إسناده إلى ابن عباس رضي الله عنهما؛ لأن الله سبحانه وتعالى قد أثنى على الحواريين في عدة آيات من سورة آل عمران، والمائدة، والصّفّ، قال تعالى:{وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} . [سورة المائدة، الآية: 111] . وقال تعالى: {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ. رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} . [سورة آل عمران، الآية: 52، 53.] . فناسب أن يكون موقفهم بحسب قوّة إيمانهم بالله وتصديهم لنبيّه عيسى عليه السلام أن يفدوه بأنفسهم ويستشهدوا في سبيل الدفاع عنه عليه السلام.

ص: 394

2-

سؤال: قال النصارى: كيف يصحّ أن يكون المصلوب غير المسيح ثم يقترن بصلبه ظهور ما ظهر من الآيات من اسوداد الشمس وانشقاق حجاب الهيكل وقيام الأموات وغير ذلك، وكم قد قُتِلَ من الأنبياء والشهداء ولم يظهر عند مقتلهم شيء من هذا؟

قلنا: قد دللنا على كذب هذا النقل بعدم انتشاره في العالم واشتهاره بين طبقات بني آدم، وأنه لو كان صحيحاً لَدُوِّن في الكتب ونقله علماء العجم والعرب، فيحث لم ينقل ذلك دلّ على كذبه وافتعاله1.

ثم لو قدرناه صدقاً وأمراً ثابتاً حقّاً لم يلزم منه أن يكون المصلوب هو المسيح بل لكونه من الحواريين الذين هم عندكم أفضل من الملائكة المقرّبين والأنبياء المرسلين، ثم ذلك الحواري أفضل الحواريين كلّهم لوجهين:

أحدهما: لإيثاره المسيح بنفسه حتى فداه من القتل.

والثاني: لإيثار المسيح إيّاه بشبهه، فقد صار له بذلك مزيّة أجبت أن تبكى عليه السماء والأرض ويتشوش العالم فيأخذ في النقص والنقض. / (1/155/ب) .

1 ر: ص 228، 229.

ص: 395

3-

سؤال على النصارى: يقال: للنصارى: قد زعمتم أن المسيح هو إله العباد وخالقهم وبارؤهم ورازقهم وآمرهم وناهيهم ومدبِّرهم في جيمع أحوالهم وحافظهم إلى منتهى آجالهم، ثم زعمتم مع ذلك أن اليهود عدوا عليه فأخذوه قهراً وسحبوه قسراً بعد أن هرب واختفى، وإنما دَلَّ عليه بعض أصحابه، فلما ظفروا به أهانوا وبذلوه وما صانوه، ثم جعلوا على رأسه إكليلاً من الشكوك، وعبثوا به كما يعبث بأهل النوك، ثم رفعوه على جذع ضماناًواستسقى ماء فسقي خلاً هواناً، ثم ترك حتى ألصقت الشمس جسده بالصليب، ولم يكفن لولا تصدّق عليه بالكفن إنسان غريب، وبقي برهة تحت التراب تبكيه الأحباب والأتراب، فأخبرونا يا سخفاء العقول ومنتحلي هذا المحال المنقول-مَنِ الذي كان يقوم برزق الأنام والأنعام في تلك الأيام؟!.

وكيف كان حال الوجود والإله في اللحود؟! ومَن الذي دَبَّر السماء والأرض وخلقه فيها بالبسط والقبض والرفع والخفض؟! وهل دُفنت الكلمة بدفنه وقُتلت بقتله أم خذلته/ (1/156/أ) وهربت مع تلاميذه؟

فإن كان قد دفنت بدفنه، فإن قبراً وسع الإله القديم لقبر عظيم، وإن كانت قد فَرَّت وأسلمته، فكيف تصحّ مفارقتها له بعد اتّحادها به؟! أين ذهب الاتّحاد وكيف بطل الامتزاج؟!.

وما شأن هذا الإله المسكين - أسمله قومه لأعدائه وخذله سائر أودائه1؟. أين قولكم في الأمامنة: "إن المسيح أتقن العوالم بيدهوخلق كلّ شيء"؟ أين ما وصفتم عن الإنجيل أن العالم بالمسيح كُوِّن؟

1 أي: أحبائه. (ر: القاموس ص 415) .

ص: 396

وقولكم: إن الآب لا يدين أحداً، بل الابن هو الذي يدين الناس1، أترونه كان راضياً بما فعل به قادراً على الدفع عن نفسه؟

فإن كان راضياً، فالذي فُعِل به كفر، ومذهبكم يأبى ذلك، وكان ينبغي على سياق هذا أن تثبتوا على اليهود وتترحموا على يهوذا الأسخريوطي وتصلوا عليهم؛ فإنهم أعانوا على حصول رضاه وسارعوا إلى ما قدَّره وقضاه.

وإن كان ذلك بغير رضاه فاطلبوا إلهاً سواه، فإن من عجز عن حماية خشاشة حتى تم عليه ما نسبتم له، كيف ترجون عنده نفعاً أو تؤملون / (1/156/ب) لديه دفعاً؟! وهذه نقيصة تقتضي تَنَقُّضُ من لصقت به.

فإن قيل: إنما يكون ذلك نقيصة إذا كان المفعول به عاجزاً عن الامتناع والدفاع، فأما المسيح فلو شاء لامتنع من اليهود وأهلك من قصده بأذى من سائر الجنود، بل إنما أراد أن يستسلم ويبذل نفسه فداءً عن الناس لينقذهم من الخطيئة ويزيل عنهم درن الذنوب ويطهرهم من التبعات والحوب.

فنقول: لا نسلم ما ذكرتم، إذ كتابكم شاهد عليه بأنه هرب واختفى واستتر من أعدائه مراراً واعتنى وتنقل من مكان إلى مكان، وبذل في طلب السلامة غاية الإمكان، إلى أن دلَّ عليه رجل من أصحابه فأخذ بغير اختياره وإيثاره.

وهذا شيء لم نسمعه إلاّ منكم ومن كتابكم، وقد حكيتم أن آخر كلام سُمع منه:"إلَهي إلَهِي لِمَ تَركتني؟ ". مع تقدم قوله في دعائه: "إلهي إن كان يحسن صرف هذا اكأس فاصرفها عني". فبطل قولهم في هذا السؤال لو شاء لامتنع وفعل بأعدائه وصنع.

1 هذا هو الأساس الثالث من أسس العقيدة النصرانية المنحرفة. وهو الاعتقاد بأن المسيح سيحاسب الناس يوم القيامة. لأنه من أجلهم - كما يزعم النصارى - وهذا الأساس مبنى على الأساس الثاني الذي تقدم بيانه. (ر: ص 375) .

ص: 397

وأما قولهم: إنه أراد أن يستسلم ويبذل نفسه فداء عن الناس لينقذهم من الخطيئة والبأس، فهذا كلام من الكلام/ (1/157/أ) السخيف، وذلك أنه لا يخلو أن يفديهم بنفسه من عقاب نفسه أو عقاب غيره.

فإن كان إنما فداهم من عقاب نفسه، فما حاجته أن يرذل نفسه في أمر هو يملكه وزمامه بيده؟ فهلا عفا عنهم وأعفا نفسه من القتل والإهانة!

وإن كان إنما افتداهم من عقاب غيره فقد صار ضعيفاً عاجزاً لم يمكنه صلاح عباده إلاّ بأن يشفع لهم، ثم لا تقبل شفاعته حتى يبذل نفسه للصفع والإهانة والموت.

والعجب أنه مع بذل نفسه لهذه المحن لم تقبل شفاته، ولم يحصل لهم الفداء الذي يدعون، هذا مع أن المشفوع إليه أبوه، أفلم يكن له عند أبيه من الجاه ما يُشَفِّعه في مطلوبه وهو معافى من هذه المحن بلا قتله وصلبه من غير إسعافه بمراده؟

ومثل هذا الفعل لا يصدر إلاّ من العدوّ المشاحن وأرباب الحقود والضغائن، ومما يتعجب منه أن هذا الرّبّ الذي تدعون بعد أن تعنَّى ونزل إلى الأرض وحَلَّ به ما وصفتم يبتغي بذلك خلاصكم، لم يحصل لكم خلاصاً ولا تَمَّ له مراد. لأنه إن كان أراد خلاصكم من محن الدنيا فها أنتم باقون على ما كنتم / (1/157/ب) عليه من طبائع البشر وتحمل الضرر ومعالجة الهرم والكبر ومضاجعة الأجداث والحُفر.

وإن كان أراد خلاصكم من عهد التكاليف ليحط عنكم الآثام ويسقط الصلاة والصيام، فها أنتم دائبون على التكليف مخاطبون بالتصحيح والتوسيف، وإلاّ فكان ينبغي أن مَن زنا منكم وسرق وافترى وفسق لا يؤاخذ

ص: 398

بجريرة ولا يعاقب على صغيرة ولا كبيرة. وإن كان أراد خلاصكم من أهوال القيامة وأنكال يوم الطامة وما يتوجه على العباد عند قيام الأشهاد، أكذبكم الإنجيل إذ يقول فيه:"إني جامع الناس في القيامة عن يميني وشمالي، فأقول لأهل اليمين: فعلتم خيراً فاذهبوا إلى النعيم، وأقول لأهل الشمال: فعلتم شرّاً فاذهبوا إلى الجحيم"1.

وإذا لم يحصل لكم بنزول المسيح خلاص من عقاب الدنيا ولا من عذاب الآخرة، فأين ترجون الخلاص الذي جاءكم لأجله وفعل بنفسه ما ذكرتم ثم لم يتم له مراد؟!.

وإذ كان ذلك فاطلبوا الخلاص ممن هو بيديه ومُعَوِّل سائر الخلائق عليه وهو الذي لا إله سواه سبحانه وتعالى عما يشركون.

4 سؤال: (1/158/أ) قال النصارى: إنما استسلم المسيح ليعلمنا الصبر على الشدائد فتعظم أجورنا وتجزل مثوباتنا، والمتابعة بالحال أبلغ منها بالمقال.

فنقول: فما بال أحدكم لا يجلس في بيته حتى يناله ما وصفتم غير منازع خصمه ولا مدافع عدّوه؟

وما بالكم تقيمون سوق الحروب وتبيحون الغصوب وتنصبون القتال وتسفكون الدماء من النساء والرجال؟ فما نرى التعليم أفادكم خيراً ولا منعكم شرّاً ولا أكسبكم عِلماً ولا أنالكم حِلماً، وصار ما وصفتم به ربكم من الإهانة خالياً عن الفائدة صفراً من الحكمة. وكيف يحسن منكم إيراد هذا السؤال مع قولكم عنه: إنه حين نزل به المكروه الذي وصفتم، قال:"إلَهي إن كان يمكن صرف هذا الكأس عني فاصرفه عني". وهذا القول منه إن صحّ عنه يكذبكم في قولكم: إنه استسلم وألقى بيديه لقصد تعليمكم وتقويمكم.

1 متى 25/31-46.

ص: 399

5-

س b ؤال: قال النصارى: إنما يكون القتل نقيصة لو أنه مضاف إلى لاهوت المسيح، ونحن لا نعتقد ذلك؛ وإنما القتل والضرب والصلب مضاف إلى ناسوت / (1/158/ب) المسيح دون لاهوته.

فنقول: يمتنع ذلك على اليعقوبية1 منكم القائلين بأن المسيح قد صار بالاتّحاد طبيعة واحدة، إذا الطبيعة الواحدة لم يبق فيها ناسوت متميّز عن لاهوت حتى يخص بالقتل والإهانة بل قالوا: إنه صار شيئاً واحداً، والشيء الواحد لا يقال إنه مات ولم يمت، وقتل ولم يقتل، وأهين ولم يهن.

وأما الروم2 وغيرهم القائلون بأن المسيح بعد الاتّحاد باق على طبيعتين، فيقال لهم: هل فارق اللاهوت ناسوته عند القتل والصلب؟

فإن زعموا أنه فارقه أبطلوا دين النصرانية جملة، إذ بطل الاتّحاد ولم يستحق المسيح الربوبية عندهم إلاّ بالاتّحاد، فإذا حكموا بأن الإله قد تجرد عن الإنسان وفارقه فقد بطلت ربوبية المسيح في ذلك الزمان.

وإن قالوا: لم يفارقه، فقد التزموا ما ورد على اليعقوبية، وهو كون اللاهوت قتل بقتل الناسوت وأهين بإهانته.

وإن فسروا الاتّحاد بالتَّدَرُع، وهو أن الإله جعله درعاً ومسكناً له وبيتاً3، ثم فارقه عند ورود ما ورد على الناسوت أبطلوا ألوهية المسيح في تيك الحال.

وقلنا لهم: أليس / (1/159/أ) قد امتهن الناسوت وأهين وأرذل؟! وهذا القدر يكفي في إثبات النقيصة إذ لم يأنف لمحله وسكنه ودرعه أن تناله هذه النقائص، وإن الإنسان ليركب دابة ويلبس ثوباً فيصونه عن الأذى والقذى أن يناله.

1 فرقة من فرق النصارى الكبيرة وسيأتي الحديث عنها.

2 وهم طائفة الملكية من فرق النصارى الكبيرة.

3 هذا القول هو مذهب طائفة النسطورية. من فرق النصارى الكبيرة.

ص: 400

ثم إن كان اللاهوت قادراً على دفع النقائص عن محله ومسكنه ثم لم يفعل فقد أساء مجاورته ورضي بدخول النقص على موضعه، وذلك بالنقص عليه في نفسه. وإن لم يكن قادراً، فذلك أبعد له عن عِزَّ الربوبية وأقرب إلى ذلّ العبودية.

6-

سؤال: فإن قال النصارى: كيف يجوز إلقاء الشبه - وهو ضلال؟ - وإذا كان الله تعالى هو الذي أضل عباده فلا معنى لإرسال الرسل إليهم، بل يكون ظالماً للرسل إذا بعثهم إلى من يكذبهم أقوالهم ويَرُدُّ، وكيف يستقيم أن يرسل رسلاً يهون العباد من كُفْرٍ وهو الذي زينه لهم؟!.

قلنا: الانفصال عن هذا السؤال في التوراة والإنجيل. أما التوراة فإنها مصرحة بأن الله قد قَسَّى قلب فرعون فلم يؤمن بموسى: "فقال الله فيها: يا موسى اذهب إلى فرعون/ (1/159/ب) وقل له: يقول لك إله بني إسرائيل: أرسل شعبي تتعبد لي، وأنا أُقَسِّي قلب فرعون فلا يرسلهم"1. وفي التوراة: "إن كلّ آية صنعها موسى بمصر قد صنع السحرة مثلها"2.

وأما الإنجيل فقال: "قال يسوع: إني ذاهب إلى أورشليم لأقتل وأصلب، فقال له بطرس: حاشاك من هذا، فانتهره، وقال: إني جئت لهذا"3.

فقد علم الكفر وأراده وتعنَّى بسببه، وقدر على كفّ اليهود وتركهم على كفرهم فلم يكففهم.

1 سفر الخروج 4/21.

2 سفر الخروج 7/11.

3 متى 16/21-23.

ص: 401

وقد قال يسوع في الإنجيل: "الويل لذلك الإنسان الذي يسلَّم ابن الإنسان خير له لو لم يولد"1.

وإذا كان هذا جائزاً عند النصارى واليهود جميعاً2، فكيف يمنعونأن يصون الله نبيّه المسيح عن قوم يريدون قتله ويلقي شبهه على رجل آخر قد حضر أجله يجعله له جُنَّةً ويثيب ذلك الرجل عن صبره الجنّة؟!.

على أَنَّا نقول: ليس في إلقاء الشبه ضلال كما زعم مورد السؤال، إذ ليس الإلقاء هو الذي بعثهم على القتل، بل ما جاؤوا إلى المسيح إلاّ وهم قد أجمعوا على الفتك به، وبهذا القصد كفروا، وإنماكان/ (1/160/أ) الإلقاء لتخليص المسيح من أيديهم، وهذا خلاص من الضلال لا إضلال.

وإنما كان يكون تضليلاً لو كان الله أمرهم بقتل المسيح، ثم ألقى شبهه على آخر فقلتوه، وأما إذ نهوا عن القتل فخالفوا وجاروا ليقتلوا، فحال بينهم وبين المسيح. وإلقاء شبهه على غيره، أو أباح لهم من يشبهه في الصورة، فلا يقال لهذا القبيل تضليل.

1 مرقس 14/21.

2 يقول ابن القيم: "وقد اتّفقت رسل الله من أوّلهم إلى آخرهم وكتبهم المُنَزَّلة عليهم أنه سبحانه يضلّ من يشاء ويهدي من يشاء، وأنه من يهده الله فلا مضلّ له، ومن يضلّ فلا هادي له. وأن الهدى والضلالة بيده لا بيد العبد. وأن العبد هو الضالّ أو المهتدي. فالهداية والإضلال فعله سبحانه وقدره، والاهتداء الضلال فعل العبد وكسبه". اهـ.

وقد ذكر الإمام ابن القيم بعد هذا مراتب الهدى والضلال في القرآن الكريم، وتكلم على كلّ منها، وبيّن ما بينها من الخصوص والعموم وأطال في ذلك. (ر: شفاء العليل ص 142-182) .

ص: 402

ثم ولو قدَّرنا ذلك تضليلاً، فمذهب أهل الحقّ أن الله يفعل ما يريد ويضلّ من يشاء من العبيد، ولا ينسب إلى ظلم ولا جور إذ له بحقّ ملكه - وملك حقّه - أن يفعل ما أراد، فلا يجب عليه شيء ولا يتوجه لمخلوق عليه حقّ، وكلّ ما يفعل فهو حسن. وكل ما يوصله من خير فهو ابتداء فضل. وكلّ ما يبتلي به من ضرّ فهو قضاء عدل.

وقد زَلَّ وهفا مَن أوجب على الله ثواب المحسنين أو عقاب المسيئين [إذ لا] 1 يجب على ربّ الأرباب ثواب أو عقاب2.

1 في ص (أنا) والتصويب من المحقِّق. والزيادة يقتضيها السياق.

2 إن مسألة الوجوب على الله أو (هل يجب على الله تعالى شيء؟) ، قد سلك فيها كلّ من المعتزلة والأشاعرة طريقين كليهما خطأ. ولم يوفقوا لطريق الحقّ الذي دلّ عليه الكتاب والسنة، وتوضيح ذلك:

1-

أن المعتزلة أفرطوا في تمجيد العقل، حتّى أوجبوا بمقتضاه على الله تعالى أموراً وحرموا عليه أموراً أخرى، ووضعوا لله شريعة التعديل والتجوير، فهم بذلك شبهوا الخالق بالمخلوق. (ر: شرح الأصول الخمسة للقاضي عبد الجبار ص 132، والمجموع المحيط بالتكليف لابن منتويه ص 234) .

2-

أما الأشاعرة فقد أخطأوا في إطلاقهم القول بنفي الوجوب في حقّه تعالى، فلم ينَزِّهوه عن فعل شيء، بناء منهم على نفي التحسين والتقبيح العقليين، وقالوا: إن الوجوب لا يتصور في حقّه؛ لأنه المالك المتصرف ولا يسأل عما يفعل، ونسوا أنه لا يسأل لكمال حكمته. (ر: محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين للرازي ص 147، 148، المواقف للإيجي ص 328، 329، والتبصير في الدين للإسراييني ص 68) .

3-

وأما أهل السنة والجماعة - الفريق الوسط - فهم الذين منعوا أن يوجب العقل على الله تعالى شيئاً، ولم يمنعوا أن يوجب الله على نفسه بعض الأمور التي يقتضيها كماله والتي أخبر أنه أوجبها على نفسه. كما قال تعالى:{وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَة} . [سورة الأنعام، الآية: 54] .

وفي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله لما قضى الخلق كتب على نفسه كتاباً، فهو موضوع عنده فوق العرش أن رحمتي تغلب غضبي". أخرجه البخاري. (ر: فتح الباري 13/404) .

ولا يلزم من كونه تعالى أوجب على نفسه بعض الأمور أن يكون فاعلاً بالإيجاب - أي: لا اختبار له ـ؛ لأنه سبحانه أوجبه على نفسه باختياره، فإذا شاء الحسن واختاره لم يكن ذلك نافياً للاختيار، فاختياره وإرادته اقتضت التعلق بما كان حسناً على وجه اللزوم فكيف لا يكون مختاراً. (ر: مدارج السالكين 1/66، 2/338، شفاء العليل لابن القيم ص 179، والحكمة والتعليل في أفعال الله تعالى د. محمّد ربيع المدخلي ص 110-111) .

ويُبَيِّن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله موقف السلف في هذه المسألة بقوله: "وأما الإيجاب عليه سبحانه وتعالى، والتحريم بالقياس على خلقه، فهذا قول القدرية - أي: المعتزلة - وهو قول مبتدع مخالف لصحيح المنقول وصريح المعقول.

وأهل السنة متّفقون على أنه سبحانه خالق كلّ شيء وربّه ومليكه، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأن العباد لا يوجبون عليه شيئاً.

ولهذا كان من قال من أهل السنة بالوجوب، قال: إنه كتب على نفسه الرحمة، وحرّم الظلم على نفسه، فإن الله هو المنعم على العباد بكلّ خيرٍ، فهو الخالق لهم وهو المرسل إليهم الرسل، وهو الميسر لهم الإيمان والعمل الصالح". اهـ. (ر: اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم ص 409، 410) .

ص: 403

وقد شهد أهل الكتاب واعترفوا بأن الله تعالى هو الذي نفخ الروح في العجل حتى عبده بنو إسرائيل، وقد قال الله تعالى:{قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ الله شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ المَسِييحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعاً} . [سورة المائدة، الآية: 17] .

وعيسى / (1/160/ب) وأمه لا جُرْم لهما، فأخبر تعالى أنه لو أهلكهما لم يكن ممنوعاً من ذلك {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُم يُسْأَلُون} . [سورة الأنبياء، الآية: 23] .

7 سؤال: قال النصارى: شهد كتابكم ونبيّكم بأن المسيح عيسى ابن مريم هو كلمة الله، والكلمة عندنا وعندكم قديمة كالكلام.

ص: 404

قلنا: لا نزاع في تسميته عليه السلام (كلمة) 1 كما سمّي إبراهيم

خليلاً2. وموسوى كليماً3، والتسميات لا حجر فيها، وإذ وافقناكمعلى تسمية المسيح كلمة، فمن أين لكم قِدَمُهَا؟ وبم تنكرون على من يزعم أن الكلمة عبارة عن الآية؟.

والآيات تسمى كلمات، وهو المعني بقوله:{مَا نَفَدَتْ كَلْمَاتُ الله} 4. يعني: آياته ومصنوعاته، وقد قال الله تعالى: {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأَمَّهُ آيَةً

} . [سورة المؤمنون، الآية: 50] . وقال: {وَجَعَلْنَاهَا وابْنَهَا آيَةً لِلعَالِمينَ} . [سورة الأنبياء، الآية: 91] . فهذا وجه.

ووجه آخر: وهو أن نقول: المعنى بإلقاء الكلمة إلى مريم تكوين المسيح من غير نطفة فحل، والمقصود أن الله اخترعه وكَوَّنه من غير تناسل معروف وقال له: كن، فكان. إذ كلّ أمر اتّصل بأمرور فهو ملقى إليه.

1 قال تعالى: {إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} . [سورة آل عمران، الآية: 45] . وقال تعالى: {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ..} . الآية. [سورة النساء، الآية: 171] .

قال ابن كثير في تفسيره 1/603: "إنما المسيح عبد من عباد الله، وخلق من خلقه، قال له: كن فكان، ورسول من رسله، وكلمته ألفاها إلى مريم، أي: خلقه بالكلمة التي أرسل بها جبريل عليه السلام إلى مريم، فنفخ فيها من روحه بإذن ربّه عزوجل فكان عيسى بإذنه عزوجل، وكانت تلك النفخة التي نفخها في جيب درعها، فنزلت حتى ولجت فرجها بمنْزِلة لقاح الأب والأمّ، والجميع مخلوق لله عزوجل، ولهذا قيل لعيسى: إنه كلمة الله وروح منه؛ لأنه لم يكن له أب تولد منه إنما هو ناشئ عن الكلمة التي قال لها بها: كن فكان". اهـ.

2 قال تعالى: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} . [سورة النساء، الآية: 125] .

3 قال تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} . [سورة النساء، الآية: 164] .

4 قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} . [سورة لقمان، الآية: 27] . قال قتادة: أي: لو كان شجر الأرض أقلاماً ومع البحر سبعة أبحر ما كان لتنفذ عجائب ربي وحكمته وخلقه وعلمه". (ر: تفسير ابن كثير /460) .

ص: 405

وسمى المسيح كلمة لقول لوقا في إنجيله: "إن جبريل قال لمريم: السلام عليك أيتها المباركة / (1/161/أ) في النساء إنك تحبلين بولد يسمى المسيح يجلسه الرّبّ على كرسي أبيه داود"1. فعندها حملت مريم بالمسيح؛ أي: عند هذه الكلمة فسمي المسيح بها كما يُسَمَّى الشيء بما يلازمه عادةً، فكان المسيح (كلمة) بهذا الاعتبار لا كما اعتقد جهلة النصارى من انقلاب الكلمة الأزلية جسداً ذا شعرٍ وظفر.

8 سؤال: قال النصارى: أليس في كتابكم معشر المسلمين: {فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا} . [سورة التحريم، الآية: 12] . فما تأويل ذلك غير ما ذهبنا إليه؟!.

والجواب أنا نقول: هذا لا يفيدكم شيئاً في مطلوبكم؛ إذ ليس اعتقاد أحد منكم أن روح الأب اتّحد بالمسيح، وإنما الذي اتّحد به هو العلم. وقد قلنا: إن الروح ترد على معانٍ شتّى منها: أن ترد والمراد بها الوحي، كقوله:{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّن أَمْرنَا} . [سورة الشورى، الآية:52] .

وترد والمراد بها جبريل، وهو المعني بقوله تعالى:{نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ} . [سورة الشعراء، الآية: 193] .

وترد والمراد بها ملك كبير يقوم يوم القيامة صفّاً وحده والملائكة كلّها صفّاً آخر.

وترد والمراد بها أرواح الأشخاص وهو المعني بقوله: {قُلِ الرُّوحُ مِن أَمْرِ رَبِّي} . [سورة الإسراء، الآية: 85] . وإذا كان اللفظ متردداً / (1/161/ب) بين معانٍ كثيرة فلا يسوغ التمسك به إلاّ مع اقترانه بما يفسره، وكلّ مفتقر للتفسير فلا وجه للاستدلال بظاهره.

1 لوقا 1/30-31.

ص: 406

فالمسيح سمّاه الله (روحاً) كتسمية جبريل روحاً، وقد قلنا: إن الشيء قد يسمى بما يلازمه، فالله تعالى نفخ في مريم بواسطة جبريل وهو المعني بقول لوقا في إنجيله:"روح القدس تحلّ عليك"1. وقد قالت التوراة: "إن روح الله حال في يوسف"2. وذلك كناية عن العلم والحكمة.

وفي التوراة: "إن بصلئيل رجل من سبط يهوذا ورجل آخر من سبط دان قد ملأتهما روح القدس"3. وفي التوراة: "إن يوشع امتلأ من روح القدس؛ لأن موسى كان قد وضع يده على رأسه"4.

وفي كتاب الأسباط5: "إن روح الله لبست جدعون"6. وفيكتاب شمويال7: "إن روح الله تكلمت على لساني"8. وفي كتاب حزقيال يقول: "رأيت قدوس الله فوقعت فدخلت فِيَّ الروح فأقامتني"9.

1 لوقا 1/35.

2 سفر التكوين 41/38.

3 سفر الخروج 31/1-3.

4 سفر التثنية 34/9.

5 كتاب الأسباط هو سفر القضاة: نسبة إلى فترة من تاريخ بني إسرائيل كان القضاة هم الذين تولوا شؤون الحكم في بني إسرائيل بعد استيلائهم على بلاد كنعان بقيادة يوشع بن نون، وعدد إصحاحاته (21) إصحاحاً، وموضوعه: تاريخ بني إسرائيل من قبل موت يوشع إلى آخر أيام شمعون.

أما مؤلِّف هذا السفر، فإنه لا يعرف على التحقيق، ويظن أنه صموئيل النبيّ، قال تعالى:{وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً} . [سورة النجم، الآية: 28] . (ر: قاموس ص 737، مقدمة الكتاب المقدس بالإنجليزية، طبعة سنة 1971م، وهي التي يطلق عليها النسخة القياسية المنقحة (R.S.V) ، رسالة في اللاهوت ص 275، سبينوزا) .

6 سفر القضاة 6/34، وجدعون: هو ابن يوآش. أحد قضاة بني إسرائيل، ويزعمون أن ملاك الرّبّ قد دعاه ليخلص شعبه من المديانيين والوثنيين، وليهدم مذبح البعل الذي كان يعبده قومه. (ر: سفر القضاة الإصحاحات (6، 7، 8، قاموس ص252) .

7 كتاب شمويال هو: سفر صموئيل، وصموئيل مناه:(اسم الله) ، وهو في العهد القديم من الأنبياء وآخر القضاة في بني إسرائيل، وقد أمره الله أن يمسح شاؤل ملكاً على بني إسرائيل، وينسب إليه سفران باسمه، وكانا في الأصل سفراً واحداً وتمَّ تقسيمه إلى جزئين في طبعة البندقية 1516-1517م، من النسخة السبعينية، وعدد إصحاحات السفر (31) ، والثاني (24)، إصحاحاً. أما مؤلِّف السفر الأوّل والثاني فهو مجهول. ويقول سبينوزا: لم يكتب صموئيل سفره؛ لأن الرواية تمتد إلى ما بعد موته بقرون عديدة. (ر: رسالة في اللاهوت ص 275، قاموس ص 552، وما بعدها، مقدمة الكتاب المقدس، ط سنة 1971م، بالإنجليزية) .

8 سفر صموئيل الأوّل 10/10.

9 سفر حزقيال 3/23، 24.

ص: 407

وفي إنجيل لوقا: "إن يوحنا المعمداني امتلأ من روح القدس وهو في بطن أمه"1.

وقال لوقا في إنجيله: "كان في بيت المقدس رجل يقال له: سمعان، ينتظر عزاء إسرائيل / (1/162/أ) وروح القدس كانت تحلّ عليه"2.

وقال يوحنا التلميذ في إنجليه: "كلّ إنسانٍ لا يولد من الماء والروح لا يدخل ملكوت الله"3.

وقال فولس في رسالته الأولى لإخوانه: "أو لا تعلمون أنكم هياكل الله وأن روح الله حال فيكم، ومن يفسد هيكل الله يفسده الله"4.

وذلك كلّه دليل على مساواة المسيح غيره من الأنبياء والأولياء في حلول هذه الروح التي هي إما الملك، أو العلم والحكمة.

فما أجاب به النصارى عن حلول الروح على من ذكرنا وامتلائهم منها فهو جواب عن قول جبريل لمريم: "روح القدس تحلّ عليكِ"5.

1 لوقا 1/41.

2 لوقا 2/25.

3 يوحنا 3/3.

4 رسالته الأولى إلى هل كورنثوس 6/16، 17.

5 تقدم الحديث عن معاني كلمة (الروح) . (ر: ص 125) .

ص: 408

9 سؤال: قال النصارى: قال يسوع لمقعد قد غفرت لك1، وذلك دليل ربوبية إذا لا يغفر الذنوب إلاّ الله.

والجواب: هو أنا نقول: ليس كذلك لفظ الإنجيل؛ وإنما قال له: مغفورة لك خطاياك. أخبره عن الله بغفر خطاياه لصبره على بلواه وسكونه تحت مجاري قد مولاه، ثم ولو سلمنا ورد هذه اللفظة بعينها على ما على حرفها السائل فليس فيها مستروح لما يحاول، إذ يحتمل أن يكون / (1/162/ب) ذلك المقعد من جملة من كان يؤذي المسيح مع اليهود ويقول فيه كقولهم، فلما رآه المسيح وشاهد بلاه رَقَّ له وحنى عليه فقال له: قد غفرت لك، يريد حللتك، والدليل عليه قول بطرس في الإنجيل للمسيح:"يا أبت، إلى كم أغفر لأخي إذا أخطأ إِليَّ إلى سبع مرات؟ قال: لست أقول إلى سبع مرات فقط بل إلى سبعين مرة سبع مرات"2.

وهذه أكابرهم اليوم يفعلون ذلك ويغفرون لمن أرادوا حط ذنوبه، وليس فيهم من يعتقد خروجه عن ربقة العبودية3.

وقد ذكر الإنجيل: "إن اليهود ومن حضر يسوع أنكروا عليه هذه الكلمة، فقال: ألم تعلموا أن ابن الإنسان قد جعل له أن يغفر الخطايا"4.

فصرّح في هذا القول بأنه عبد مخلوق، جعل الله له أن يخبر عباده بغفر خطاياهم لإيمانهم به وتصديقهم له.

1 متى 9/2.

2 متى 18/21، 22.

3 إنّ تجرؤ قساوسة الكنيسة على ادعائهم غفران خطايا النصارى يعتبر سرّاً من أسرار الكنيسة السبعة، ويُسمَّى (سرّ الاعتراف وغفران الذنوب) ، وقد قررته الكنيسة حقّاً لنفسها في المجمع الثاني عشر (الإيتراني الرّابع) سنة 1215م، وتمادت في ذلك إلى أن أصدرت الكنيسة (صكوك الغفران) لاستغلال النصارى وجمع الأموال للكنيسة وقساوستها، وقد كانت مسألة غفران الذنوب من أبرز الأسباب التي دعت إلى ظهور حركة الإصلاح الكنسي وظهور فرقة البروتستانت.

4 متى 9/3-6.

ص: 409

وقد قال مرقس في إنجيله: "قال يسوع لتلاميذه: إذا قمتم إلى الصلاة فاغفروا لمن لكم عليه خطيئة، لكيما يغفر لكم ربّكم خطاياكم"1.

وقالت التوراة في السفر الخامس منها: "يا موسى ارحل أنت وبنو / (1/163/أ) إسرائيل، وأنا أرسل معكم ملكاً يغفر لكم خطاياكم"2. أضاف الغفران إلى الملك وهو عبد من عبيد الله تعالى.

وقالت التوراة: "إن إخوة يوسف دنوا لتقبيل رجليه، فلم يدعهم، فاعترفوا له بذنوبهم فغفر لهم"3. فقول المسيح للرجل: قد غفرت لك، معناه: قد حاللتك أو قد شفعت لك.

وقال فولس في آخر الرسالة الخامسة - وهو يوصي بالبر واللطف -: "وأنتم أيّها الأرباب اغفروا ذنوب مماليككم؛ لأن ربّكم في السماء وليس عنده هوادة"4.

10 سؤال: قال النصارى: قال يوحنا المعمداني ين رأى المسيح: "هذا خروف الله الذي يحمل خطايا العالم"5. فشهد وهو نبيّ صادق بأن المسيح سيقتل ويصلب قرباناً عن خطيئة آدم.

والجواب: أن هذا السؤال دالّ على عدم فهم مورده وسوء بصيرته بالإنجيل، وذلك أنّ يوحنا أورد هذا الكلام شهادة للمسيح بالنبوة والرسالة أسوة غيره من الأنبياء في حملهم خطايا قومهم بما يرشدونهم إليه من الإيمان

1 مرقس 11/25، 26.

2 سفر الخروج 23/23، 32/34.

3 لم أجد في النسخة التي يبدي في التوراة اليونانية والسامرية النّصّ الذي ذكره المؤلِّف، وقد ورد في القرآن الكريم قوله تعالى في حكاية يوسف مع أخوته:{قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ. قَالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} . [سورة يوسف، الآية: 91-92] .

4 رسالته إلى أهل أفسس 6/9.

5 يوحنا 1/29، 30.

ص: 410

والمغفرة بالله سبحانه،/ (1/163/ب) وقد كان المعمداني يتصل به ما يهتف به اليهود من فذف المسيح وقذف والدته الطاهرة، ويبلغه قول اليهود:"إنه لن يجيء من الجليل والناصرة نبيّ"1، فلما وقع بصره على المسيح وعرفه بتعريف الله له قال:"هذا الذي به يحط الله خطايا عالم زمانه". والدليل عليه: بقية الكلام إذ قال يوحنا: "هذا الذي قلت لكم إنه يأتي بعدي، وهو أقوى مني، وأنا فلا أستحقّ أن أحلّ سيور حذائه ولا أصلح أجلس مقعد خفه، وهو الذي بيده الرفش ينقي بيدره الغلة إلى إهرائه، ويحرق الأتبان بالنار التي لا تطفئ"2.

فقد أفادنا قول المعمداني هذا معانٍ شتّى في شأن المسيح منها: تسويته المسيح مع مسائر بني إسرائيل في جعله خروفاً، قال المسيح في إنجيله:"إني إنما أرسلت للخراف الضالّة من بني إسرائيل"3. سمّى الناس خرافاً، وسماه المعمداني خروفاً من غير تفرقه بينه وبين غيره، وكذلك قال المسيح: "أنا الراعي الصالح وأنا عارف برعيتي"4.

ومنها: أن المعمداني شهد / (1/164/أ) بأن المسيح عبد الله، وأضافه إليه إضافة ملك، فقال:"هذا خروف الله". وقال مرة أخرى: "هذا حمل الله". فشهد بأن الله مالكه، ولم يقل المعمداني حين رأى المسيح: هذا هو الله - كما يهذي به طوائف من النصارى. ولا قال: هذا الإنسان الذي اتّحد الله به أو سكن الله في إهابه واتّخذه له نزلاً ومسكناً - كما افتراه متأخرو النصارى.

1 يوحنا 1/46.

2 يوحنا 1/29، 30.

3 متى 10/6.

4 يوحنا 10/14.

ص: 411

وفي ذلك تكذيب للأمانة وإظهار لفسادها ومراغمة لمن عقدها حيث يقولون فيها: "إن المسيح إله حقّ، بيد أتقنت العوالم وخلق كلّ شيء، وإنه خالق غير مخلوق".

الويل لهم، أَهُم أعلم بالمسيح وأعرف به من نبيّ الله يحيى بن زكريا الذي شهد المسيح "بأن النساء لم تلد مثله"1، فيوحنا هذا النبي عليه السلام إنما بعثه الله على زعم النصارى ليشهد للمسيح، وها هو يشهد بأن المسيح خروف وأن الله مالكه، وأنه يأتي بعده يعمد الناس ويستتيبهم كما كان يحيى بن زكريا يفعل غير أنه أقوى منه، وهذا قد يقول ذوو الورع والتقوى تورعاً وخوفاً من السلب بالإعجاب، / (1/164/ب) ولا يلزم أ، يكون القائل لذلك دون المقول له فلم يزل الصالحون يعتمدون ذلك.

وقد شهد يوحا بنبوة المسيح صريحاً إذ يقول: "إنه يجمع الصلحاء إلى ملته والأبرار ويبعد الكفار إلى النار". فقد وضح أنه ليس في كلام المعمداني ما يدلّ على انتحال الضلال. وإلاّ فما أحسن ربّاًُ له حذاء ينتعله وخف يقي رجليه؟!!. أعوذ بالله من العمي وتنكب الهدى.

11 سؤال: وهو معضلات النصارى، قال النصارى: قال يسوع: "أنا بأبي، وأبي بِيَ"2. قالوا: هذا تصريح من المسيح بأنه متّحد بالله، والله متّحد به.

والجواب: في قول يوحنا التلميذ في الفصل السادس عشر من إنجيله، قال يوحنا: "تضرع المسيح إلى الله في تلاميذه فقال: أيها القدوس احفظهم

1 متى 11/11.

2 يوحنا 14/10، 11.

ص: 412

باسمك ليكونوا هم أيضاً شيئاً واحداً كما أنا شيء واحد، قد منحتهم من المجد الذي أعطيتني ليكونوا شيئاً واحداً، فأنا بهم وأنت بِيَ"1.

وتأويل ذلك: أنت يا إلهي معي وأنت لي، وأنا أيضاً مع أصحابي وأنا لهم، وكما أنك / (1/165/أ) أرسلتني لأدعو عبادك إلى توحيدك فكذلك أرسلتهم ليدعوا إليك، فكن لهم كما كنت لي، فإن عُدِل عن هذا التأويل لزم منه المحال؛ وهو أن يكون قوام الله وثبوت ربوبيته برجل من خلقه، ويلزم منه محال آخر؛ وهو: أن يكون الباري وعبد من عبيده متداخلين، ويلزم منه محال آخر؛ وهو: أن يكون التلاميذ متداخلين مع المسيح ويكون المسيح متداخلاً معهم2.

فإن التزمه النصارى قيل لهم: فالله إذاً حالّ في التلاميذ والتلاميذ حالّون في الله - تعالى الله عن هذيان النصارى علوّاً كبيراً.

وقد قال فولس - وهو يعظ بعض إخوانه ويحذره من الزنى -: "أما علمتم أن أجسادكم أعضاء للمسيح، فيعمد أحدكم إلى عضو من المسيح فيجعله عضواً للزانية؛ لأن من يصحب الزانية يصير معها جسداً واحداً، والذي يصحب سيدنا المسيح يصير معه روحاً واحداً"3.

وذلك يفسد على النصارى سؤالهم.

12 سؤال ثانٍ: من المعضلات، قال النصارى: قال يوحنا التلميذ في الفصل / (1/165/ب) الثالث عشر من إنجيله: "من رآني فقد رآى أبي فأنا وأبي واحد"4.

1 يوحنا 17/11-23.

2 ورد هذا الجواب أيضاً في النصيحة الإيمانية للمهتدي نصر بن يحيى المتطبب ص 174.

3 رسالته الأولى إلى كورنثوس 6/15-17.

4 يوحنا 14/9-11، 10/30.

ص: 413

والجواب: أن له وجوهاً من التأويل:

أحدها: إنه قد اعترف في الإنجيل في غير موضع أنه رسول من الله إلى عباد الله، ولا شكّ أن رسول الملك إذا توجه إلى قطر فأبدى بعض الرعية شماساً1 عن الامتثال فيحسن منه أن يقول: أنا ومن أرسلني واحد، ومن رآني فقد رآى من أرسلني، ومن بايعني أو عاهدني فقد بايع وعاهد من أرسلني وحصل له العصمة والذمام، وذلك غير مستنكر من الرسل والنواب والوكلاء ومن ندب لسفارة ووساطة بين اثنين أو جماعة، ومنه قول الله عزوجل لنبيّه محمّد صلى الله عليه وسلم:{إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوقَ أَيْدِيهِم} . [سورة الفتح، الآية: 10] .

الوجه الثاني: أن رؤية الصنعة تدل على صانعها؛ إذ لا يتصور بناء محكم متقن إلاّ ببانٍ حكيم متقن، وكلما جَلَّت الصنعة دلّت على جلال صانعها، والمسيح لما بهر الناس بما صدر على يديه من العجائب ورأى التفاتهم إليه / (1/166/أ) واشتغالهم به فأحب رفع هممهم إلى الله الذي هو أعلى وأجل وأحكم من كلّ حكيم، وقد قال في إنجيله:"أبي أعظم مني"2. وقال له إنسان: يا معلم صالح. فقال: "لا تقل لي صالحاً، لا صالح إلاّ الله واحده".

1 أي: امتناعاً وإباء. (ر: القاموس ص 712) .

2 يوحنا 14/28.

ص: 414

والوجه الثالث: المسيح كان عبراني اللسان، والعبرانيون يعتقدون قول التوراة في السفر الأوّل منها:"أن الله خلق آدم يشبهه"1. قولاً صحيحاً، فخاطبهم المسيح بما يفهمون، وإنما أرادت التوراة: أن الله حيّ عالم قادر، وقد أعطي آدم هذه الصفات من الحياة والعلم والقدرة، فكأنه يقول من رآني فقد رأى آدم، ومن رأى آدم فقد رأى الله، فحذف الواسطة.

1 سفر التكوين 1/26، 27، ونصّه:"وقال الله: نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا". قال الإمام ابن تيمية: "إن لفظ التوراة: "نصنع آم كصورتنا وشبهنا". وبعضهم يترجمه: "نخلق بشراً على صورتنا شبهنا) . والمعنى واحد. وهو كما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "إن الله خلق آدم على صورته". (أخرجه البخاري. (ر: فتح الباري 8/43) ، ومسلم 4/2183، وأحمد 2/315) . وفي رواية:"على صورة الرحمن". (أخرجه ابن أبي عاصم في السنة / 228، 229، والآجري في الشرعية ص 315، والبيهقي في الصفات ص 291، وصحّحه الإمامان: أحمد وابن راهويه. (ر: نقض التأسيس 2/133، 140، المخطوط) - ثم قال - إن شبه الشيء بالشيء يكون لمشابهته له من بعض الوجوه، وذلك لا يقتضي التماثل الذي يوجب أن يشتركا فيم يجب ويجوز ويمتنع. وإذا قيل: هذا حيّ عليم قدير، وهذا حيّ عليم قدير، فتشابها في مسمّى الحيّ والعليم والقدير، لم يوجب ذلك أن يكون هذا المسمّى مماثلاً لهذا المسمّى فيما يجب ويجوز ويمتنع؛ بل هنا ثلاثة أشياء:

أحدها: القدر المشترك الذي تشابها فيه، وهو معنى كلّي لا يخصّ به أحدهما، ولا يوجد كلّيّ عامٌ مشترك إلاّ في علم العالم.

والثاني: ما يختصّ به هذا، كما يختصّ الرّبّ به من الحياة والعلم والقدرة.

والثالث: ما يختصّ به العبد من الحياة والعلم والقدرة.

فمما اختصّ به الرّبّ عزوجل لا يشركه فيه العبد، ولا يجوز عليه شيء من النقائص التي تجوز على صفات العبد، وما يختصّ به العبد لا يشركه فيه الرّبّ، ولا يستحق شيئاً من صفات الكمال التي يختصّ به الرّبّ عزوجل.

وأما القدر المشترك كالمعنى الكلّيّ الثابت في ذهن الإنسان فهذا لا يستلزم خصائص الخالق ولا خصائص المخلوق، فالاشتراك فيه غير محذور.

ولفظ التوراة فيه: "سنخلق بشراً على صورتنا يشبهنا". لم يقل: على مثالنا، وهو كقول النبيّ صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح:"لا يقولن أحدكم: قبح الله وجهك ووجه من أشبه وجهك، فإن الله تعالى خلق آدم على صورته". فلم تذكر الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم كموسى ومحمّد صلى الله عليه وسلم إلاّ لفظة (شبه) دون لفظ (مثل) .

وقد تنازع الناس: هل لفظ الشبه والمثل بمعنىً واحدٍ أو معنيين؟ على قولين:

أحدهما: أنهما بمعنىً واحدٍ، وأن ما دلّ عليه لفظ المثل مطلقاً ومقيداً يدلّ عليه لفظ الشبه. وهذا قول طائفة من النظار.

والثاني: أن معناهما مختلف عند الإطلاق لغةً وشرعاً وعقلاً. وإن كان مع التقيد والقرينة يراد بأحدهما ما يراد بالآخر. وهذا قول أكثر الناس.

فإن العقل يعلم أن الأعراض مثل الألوان تشتبه في كونها ألواناً مع أن السواد ليس مثل البياض. ومعلوم في اللغة أن يقال: هذا يشبه هذا وفيه شبه من هذا؛ إذ أشبهه من بعض الوجوه، وإن كان مخالفاً له في الحقيقة. وقال تعالى:{وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} . [سورة البقرة، الآية: 188] . فوَصَف القولين بالتماثل، والقلوب بالتشابه لا بالتماثل. فإن القلوب وإن اشتركت في هذا القول فهي مختلفة لا متماثلة.

(ر: للتوسع: الجواب الصحيح 2/231-234، شرح كتاب التوحيد 2/29-98، للشيخ الغنيمان، وعقيدة أهل الرحمن في خلق آدم على صورة الرحمن - للشيخ حمود التويجري، نقض أساس التقديس 2/133-142، للإمام ابن تيمية) .

ص: 415

فإن عدلوا عن هذا التأويل لزمهم أن يكون اليهود وسائر الكفار والحمير والكلاب قد رأوا الله، وأكذبوا التوراة والإنجيل؛ إذ يقول:"إن الله لم يره أحد قط"1.

13 سؤال ثالث وهو من المعضلات: حكى النصارى عن المسيح عليه السلام أنه قال: "لا يصعد إلى السماء إلاّ من / (1/166/ب) نزل من السماء"2.

والجواب: من وجوه:

أحدها: أنه أشار إلى زاكي الأعمال وهي التي نزلت بالوجه مع الملائكة، وكأنه يقول: لا يصعد من الأعمال إلاّ ما كان خالصاً قد أُريد به وجه الله. قال الله تعالى: {لَا تُفَتَّحُ لَهُم أَبْوَابَ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ} 3. وقال سبحانه: {إِلَيهِ يَصْعَدُ الكَلْمُ الطَّيِّبُ وَالعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} . [سورة فاطر، الآية: 10] .

الوجه الثاني: أنه لا يبادر إلى سموّ الأخلاق والأعمال والأحوال إلاّ من له سموّ وهِمَّة مثل الحواريين الذين أجابوا داعي المسيح من غير تقدم رؤية آية بل قال لهم: "دعوا الدنيا واتّبعوني ففعلوا"4.

ص: 416

والوجه الثالث: أنه أشار إلى الأرواح الطاهرة السماوية التي تنام على طهارة يؤذن لها فتعرج وتسرح ثم تعود فإذا فارقت الجسد صعدت، وأما أرواح الكفار والفجار فلا تصعد وإذا فارقت الجسد أودعت في الأرض السفلى؛ لأنها لم تنْزل من السماء.

فإن عدلوا عن هذه الوجوه وأجروه على ظاهره، قلنا لهم: فقد صعد إلى السماء / (1/167/أ) من لم ينْزل منها وهو إدريس الذي يسمونه خنوخ1.

وناسوت المسيح أيضاً لم ينَزل من السماء وقد صعد إلى السماء، فإما أن يتأولوا الخبر وإلاّ أخرجوه إلى الكذب.

فإن قال النصارى: لم يزل يسوع متجسداً، أكذبتهم نصوص الإنجيل والأمانة إذ تقول:"إنه أخذ جسده من مريم عليهما السلام، وقال في الإنجيل: "هذا مولد يسوع المسيح"، فحكم بأنه مخلوق".

14 سؤال رابع من المعضلات: روى النصارى عن المسيح أنه قال: "إن إبراهيم الخليل اشتهى أن يرى يومي فرأى وفرح، فقال له اليهود: لم يأت لك

1 أخنوخ: اسم عري ومعنا: (مكرس أو محنك) ، وهو ابن يارد، وقد ذكر في التوراة أنه عاش في طاعة الله ثلاثمائة وخمساً وستين سنة، ثم لم يوجد بعد ذلك؛ لأن الله أخذه. (سفر التكوين 5/2-24) . وفسر ذلك بأن الله نقله لكي لا يرى الموت. (ر: قاموس ص 32) .

وقال الإمام ابن كثير: "إن إدريس عليه السلام هو خنوخ، قال تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيّاً} . [سورة مريم، الآية: 56-57] . وقد كان قبل نوح عليه السلام، ويزعم كثير من علماء التفسير والأحكام أنه أوّل من تكلم عن الخطّ بالرمل، ويسمونه هرمس الهرامسة. ويكذبون عليه أشياء كثيرة كما كذبوا على غيره من الأنبياء والعلماء الحكماء والأولياء" اهـ.

(ر: قصص الأنبياء لابن كثير ص 58، وراجع: قصص الأنبياء للنجار ص 24، والنبوة للصابوني ص 243) .

ص: 417

خمسون سنة فكيف رأيت إبراهيم؟ فقال: الحقّ أقول لكم إنني [كنت] 1 قبل أن يكون إبراهيم". قال المؤلِّف: هذا من أقوى ما يتمسك به النصارى في ربوبية المسيح.

والجواب: يحتمل أن يكون الله تعالى قد أرى إبراهيم أيام المسيح كما أرى آدم جميع أيام ولده، وأعلم إبراهيم بأحواله كما أعلم آدم بأحوال ولده من بعده، وكما أرى موسى ما يؤول أمر بني إسرائيل إليه على ما / (1/167/ب) يشهد بذلك التوراة وذلك بالروح المدركة لا بالعين الباصرة.

فإن أبى النصارى هذا التأويل أكذبوا متّى إذ يقول في صدر إنجيله: "هذا مولد يسوع المسيح بن داود بن إبراهيم"2. وأكذبوا لوقا في روايته عن جبريل إذ يقول لمريم: "إنك تلدين ولداً يسمّى يسوع يجلسه الرّبّ على كرسي أبيه داود".

وإذ كان المسيح إنما هو ابن مريم ولدته في زمن متأخر عن إبراهيم بمئتين من السنين، فكيف يكون قبل إبراهيم إلاّ على وجه التأويل وهو أن الله تعالى كان قد قَدَّر له الاصطفاء والاجتباء في سباق علمه قبل إبراهيم، وأعلَم الله إبراهيم: أن من ولدك مَن أجعله آية للعالمين، فاشتاق إلى رؤية هذا الولد، فكشف الله له عن روحه الزكية النبوية فرآها وفرح بها.

1 ساقطة من الأصل، وقد أثبتّها من نصّ الإنجيل.

2 متى 1/1.

ص: 418

وقد روي في الخبر: "أن الله تعالى خلق الأرواح قبل الأشباح بألفي عام"1. وقد قال سليمان في حكمته: "أنا قبل خلق الدنيا"2. كما حكينا فيما مضى، وقال داود في مزموره:"ذكرتني يا ربّ من البدء وقدّستني بأعمالك"3.

وقيل لمحمّد صلى الله عليه وسلم / (1/168/أ) متى وجبت لك النبوة؟ فقال عليه السلام: " كنت نبيّاً وآدم منجدل في طينته"4.

15 سؤال خامس وهو من المعضلات: روى النصارى عن يوحنا الإنجيلي أنه قال في صدر إنجيله: "إن الكلمة صارت جسداً وحلّت فينا"5.

1 رواه الأزدي عن عليّ رضي الله عنه مرفوعاً بلفظ: "إن الله تعالى خلق الأرواح قبل الأجساد بألفي عام ثم جعلها تحت العرش ثم أمرها بالطاعة فأول روح سلمت عليّ روح عليّ". قال الأزدي: في إسناده عبد الله بن أيوب بن أبي علاج وهما كذابان، وقال ابن عدي في الكامل 4/210: وهو منكر. وقال ابن الجوزي: هذا حديث موضوع. (ر: الموضوعات لابن الجوزي 1/401، والآليء المصنوعة للسيوطي 1/199، والفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة للشوكاني ص 382) .

ورواه أبو عبد الله بن منده عن عمرو بن عنبسة رضي الله عنه مرفوعاً بلفظ: "إن الله خلق الأرواح قبل العباد بألفي عام فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف". قال ابن القيم: "إسناده لا يصح". ففيه عتبة بن السكن، قال الدارقطني:"متروك". وأرطأة بن المنذر، قال فيه ابن عدي 1/431: بعض أحاديثه غلط". (ر: الروح لابن القيم ص 216، 232) .

2 سفر الأمثال 8/22-31، بألفاظ متقاربة.

3 سفر المزامير 143/5، بألفاظ متقاربة.

4 أخرجه الإمام أحمد في مسنده 4/127، وابن حبان (ر: الموارد ص 512) ، والحاكم 2/418، عن العرباض بن سارية رضي الله عنه، قال:

فذكره بنحوه. وصحّحه الحاكم ووافقه الذهبي. كما صحّحه الشيخ الألباني في حاشية مشكاة المصابيح 3/127.

وفي رواية أخرى عن ميسرة الفجر رضي الله عنه. أخرجها الإمام أحمد 5/59، والحاكم 2/607-209، وصحّحه ووافقه الذهبي.

5 يوحنا 1/14.

ص: 419

والجواب: أن ذلك يحتمل التقديم والتأخير لفساد التعبير وتبدل اللسان فتكون إن الجسد الإنساني الذي هو جسد المسيح سمي الكلمة، ولا معنى لـ:(صار) إلاّ تجدد ما لم يكن، وقوله:(وحلّ فينا) إشارة إلى جسد يسوع المسيح الذي صار كلمة بالتسمية من الله تعالى، وكأن يوحنا يقول: إن الذي كفر به اليهود ونسبوه إلى الجنون شرَّفه الله سماه كلمة له، وأقام بين أظهرنا ما أقام لم يعرفوا قدره.

ويحتمل أن يكون يوحنا أشار بهذا القول إلى بطرس كبير التلاميذ وَوَصَّي المسيح من بعده، فإنه قام بتدبيرهم بعد رفع المسيح بعهد عهده إليه ووصية أوصاه، وكان التلاميذ يفزعون إليه في نوازلهم بعد المسيح على ما يشهد به سيرهم، / (1/168/ب) وكأن يوحنا يقول:"إن ذهبت الكلمة من بيننا فإنها لم تذهب حتى صارت جسداً وحلّ فينا". يريد أن بركة الكلمة وتدبيرها حاضر في جسد بيننا وهو بطرس.

ويحتمل أن يكون يوحنا قال: "إن الكلمة أصارت جسداً وحَلَّ فينا". فأسقطوا الهمزة عند إخراج الكلام إلى اللسان العربي من العبراني، والميز1 بين صارت وأصارت لا يكاد يدرك في اللسان الواحد، فكيف مع النقل والتحويل وفساد الترجمة؟! وقد أخبر الله تعالى أن المسيح كان يصنع من الطين حيواناً2، والنصارى وإن أنكروا هذا ففي الإنجيل ما يصدِّقه وهو: "أن المسيح عليه السلام تفل على الطين من ريقه وصوَّره على موضع عيني رجل أكمه قد

1 أي: التمييز والتفريق بين صارت وأصارت

2 قال تعالى: {وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ

} . [سورة آل عمران، الآية: 49] . ولم تذكر الأناجيل المحرفة هذه المعجزة لعيسى عليه السلام. كما لم تذكر أيضاً كلام عيسى في المهد صبيّاً، وذلك بسبب نسيانهم وإهمالهم وتحريفهم لكتب الله عزوجل.

ص: 420

ولد أعمى، وقال: اذهب فاغتسل في عين شلوخا ففعل وأبصر، فتعجب اليهود من ذلك"1.

فإن أبى النصارى تأويلناالكلام يوحنا هذا لزمهم أن تكون الكلمة الأزلية استحالت لحماً ودماً وعروقاً وشعراً وظفراً واغتذت بالطعام / (1/169/أ) وكان منها ما يكون من الأنام، وبقيت ذات الباري خرساء غير ناطقة وجاهلة غير عالمة، وذلك لا يقوله لبيب.

فإن قيل: فما المرضي عندك في كلمة يوحنا هذه على تقدير صحّتها وسلامتها عن التحريف والتصحيف؟

فأقول: يحتمل أن تكون كلمة جبريل التي أوردها على مريم قد صارت جسداً وتخلَّق منها المسيح الذي حلَّ فيهم، وقد قال الله تعالى:{فَأَرْسَلْنَا إِلَيهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً} - إلى قوله: - {فَحَملَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً} . [سورة مريم، الآية: 17-22] . وذلك بعينه هو الذي حكاه لوقا في إنجيله عن جبريل، وإذا كانت الكلمة التي صارت جسداً هي كلمة جبريل اندفعت عنا مؤنة التأويل.

16 سؤال سادس من المعضلات: حكى النصارى عن المسيح أنه قال: "كما أقام يونس في بطن الحوت ثلاثة أيام وليال، فذلك ابن الإنسان يقيم في بطن الأرض وقلبها ثلاثة أيام وثلاث ليالٍ"2.

والجواب عن ذلك من وجهين:

أحدهما: لا أُسلِّم صحّة هذا النقل بل هو كذب ومَيْن، إذ الإنجيل يشهد أن المصلوب المقبور لم يبق / (1/169/ب) في قلب الأرض وبطنها سوى يوم واحد وليلتين على كلا الروايتين، فقد أخلف قولهم وظهر كذبه وإفكه فلا حاجة بنا إلى الكلام عليه.

1 يوحنا 9/1-7.

2 متى 12/39، 40.

ص: 421

والوجه الثاني: أن المسيح لم يقل: إني أقتل وأصلب وأدفن وأقيم في بطن الأرض هذه المدة كما تخرصه النصارى، إنما قال: إن ابن الإنسان يجري له ذلك، وابن الإنسان هو الذي يُشَبَّه لليهود بالمسيح؛ لأن المسيح على ما قررته وأوضحته فيما تقدم1.

وقد قلَّبت الإنجيل دفعات كثيرة وأنعمت النظر فيه فما وجدته قط أضاف ذلك إلى نفسه الكريمة ولا أورده إلاّ مضافاً إلى ابن الإنسان يعرف ذلك من وقف على الإنجيل.

والعجب من النصارى كيف يُنْزِلون ذلك على المسيح وهو [لا] 2 يرضون له بنوةإبراهيم وداود؟! فكيف يجعلونه ابن إنسان من عرض الناس؟!

والعجب أيضاً أنهم يصفونه بما وصفه به اليهود من حيث لا يشعرون؛ لأن غاية ما قال فيه اليهود أنه ولد يوسف النجار، فأي فرق بينهم وبين اليهود في ذلك / (1/170/أ) إذا اعترفوا أنه ابن الإنسان؟

وإذا كان المسيح عندهم إنما هو ابن الله - تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً - فلا يمكن أن يكون ابن الله يُقتل ويُدفن في الأرض بين الأموات، هذا مع وصفهم له في الأمانة:"فإنه إله حقّ من إله حقّ من جوهر الله". فإن صدقوا - وحوشوا من الصدق - فالذي قال المسيح: إنه يكون في قلب الأرض أيام وثلاث ليالٍ، إنما هو ابن الإنسان الذي هو إنسان حقّ من إنسان حقّ من جوهر أبيه آدم، وفي ذلك تكذيب لهم في دعوى قتل المسيح وصلبه.

1 ر: الباب الخامس في أن المسيح عليه السلام وإن قصد وطلب فما قتل وما صلب.

2 في ص (فلا) والصواب ما أثبته.

ص: 422

17-

سؤال سابع من المعضلات: حكى النصارى عن المسيح عليه السلام أنه قال: "قال داود في مزمور له: قال الرّبّ لربي"1. قال المسيح: "فهذا داود يدعوه ربّه فكيف تقولون إنه ابنه؟ "2.

والجواب: أنا لا نصحّح هذا النقل عن داود نبيّ الله، فإنه إنما بعث ذاباً عن توحيد التوراة ومقرراً لها أسوة غيره من الأنبياء الذين بعثوا بعد موسى عليه السلام والتوراة، فليس فيها ما يدل على ضلال النصارى، ومتى شهر عن / (1/170/ب) موسى أو داود وغيره من أنبياء الله أن الرّبّ يكون له ربّاً وللإله إلهاً؟!.

وإذا كان ذلك من الهذيان فلنوَرِّك3 على النقلة عن داود، إذ داود ثابت العصمة وهو أعرف بالله تعالى من أن يجعل له ربّاً فوقه أو ربّاً تحته يشاركه في الربوبية، على أن ذلك مردود بشهادة الإنجيل عن جبريل إذ قال لمريم:"إنك تلدين ولداً يجلسه الله على كرسي أبيه داود". وفي ذلك تكذيب لمن نقل عن المسيح أيضاً، إذ المسيح قد شحن إنجيله بتوحيد الله وإفراده بالربوبية كما حكيناه عنه، فكيف يَدَّعى أنه ربّاً لداود والناس ينادونه: يا ابن داود ارحمنا، فيفعل ويرضى منهم بهذا القول؟!.

وهو القائل في إنجيله: "لا صالح إلاّ الله"4. "إن إلهكم واحد"5. "إن أفضل الوصايا كلّها الله واحد"6. "أنا ذاهب إلى إلهي و [إلهكم] 7". "إلَهي إلَهِي

1 ورد في مزمور 110/1، وقد نقل الإمام ابن تيمية استدلال النصارى بهذا النّصّ، وذكر الرّدّ عليهم من أربعة أوجه. (ر: الجواب الصحيح 2/237، 238) .

2 متى 2/43، 44.

3 أي: فلنوجب حمل الذنب على النقلة عن داود. (ر: قاموس ص 1235) .

4 متى 19/16-17، مرقس 10/17، لوقا 18/18.

5 متى 23/9.

6 مرقس 12/28-30.

7 في ص (الاهي) والتصويب من النص في إنجيل يوحنا 0/17.

ص: 423

لِمَ تركتني؟ "1. "إنكم تريدون قتلي وأنا إنسان كلمتكم بالحقّ الذي سمعته من الله"2. وذلك في الإنجيل كثير جداً.

وإذا كان هذا نصّ المسيح في الإنجيل فقد كذبوا عليه في ادِّعائه أن داود / (1/171/أ) عبده. قال مؤلِّفه: سألت حَبراً من أحبار اليهود عن هذا المزمور، قال:"قال الرّبّ لربي". تفسيره عندنا بالعبرانية: "قال الرّبّ لوليي". قال والرّبّ عندنا يطلق على المعظم في الدين ثم تلا قول إبراهيم ولوط الذي حكيناه3.

18-

سؤال ثامن من العضلات: قال النصارى: نحن واليهود من مخالفينا في الملة ننقل أن الذي قتل وصلب لم يكن سوى يسوع المسيح فلو تطرق التشكيك إلى رواتنا ونقلة أخبارنا وحملة ديننا لتطرق مثله إلى ما تنقلونه عن أسلافكم ولم يثبت لأحد من أتباع الأنبياء قاعدة ألبتة4.

والجواب: أن الرواة الأربعة الذين رووا لكم القتل والصلب لم يحضر منهم أحد البتة ذلك المشهد من خوف اليهود بشهادة الإنجيل.

وقد شهدت أقاصيص الإنجيل بأن المسيح كان قد تغيَّر منظر وجهه حتى على بطرس وخواص تلاميذه. واستولى عليه ذلك حتى تعدَّى إلى لون ثيابه فغيرهما عما كانت عليه، وأنه لما التبس أمره وتنكرت حلاه على أصحابه فضلاً عن اليهود إحتاجوا / (1/171/ب) إلى أن أرشوا رجلاً من تلاميذه الاثني عشر برشوة حتى دلّهم عليه، ثم لم يعرفوه حتى قال لهم: إذا رأيتموني أُقَبِّل شخصاً فأمسكوه، فإنه

1 متى 27/46، مرقس 15/34.

2 يوحنا 8/40.

3 ر: ص 263، 264.

4 ذكر هذا الاعتراض من النصارى والرّدّ عليه أيضاً في الأجوبة الفاخرة للإمام القرافي ص 50، 51، والانتصارات الإسلامية في كشف شبه النصرانية، لنجم الدين الطوفي ص 101.

ص: 424

يسوع، هذا مع كون المسيح في كلّ يوم في الهيكل يناظرهم ويفحمهم بالحجج النبوية ويظهر عليهم ويكسر حججهم في كلّ مجلس ومجمع يجتمعون فيه.

فما حاجتهم إلى مَنْ يعرِّفهم عينه بعلامة وأمارة يجعلها لهم لولا وقوع الشبه الحائل بينهم وبين رجلٍ من أسباطهم وعشائرهم فَأَخْذُهم من أخذوه إنما هو الشّبه، ثم الشبه إنما أخذ ليلاً فلم يصيروا به إلى رئيس الكهنة وله حيلة تُعرف فقتلوه صبيحة تلك الليلة كما أخبر الإنجيل. وإذا كان هذا نص الإنجيل أن أصحاب المسيح لم يحضروا، واليهود قد اشتبه عليهم الحال وأنكروا صورة المسيح بعد طول المعرفة به، فإخبار من جاء بعدهم لا يفيد ولا الظن إذ كان مستنده ما ذكرنا.

فالقول بقتل المسيح وصلبه لا سبيل إلى صحته بعد إخبار جبريل عن ربّ العالمين أن المسيح يجلسه الرّبّ على كرسي أبيه داود، ويملِّكه / (1/172/أ) على بيت يعقوب على ما تضمنه إنجيل لوقا. وقد حققنا ذلك غير مرة فلا نعيده1.

19-

سؤال تاسع من المعضلات: قال النصارى: قال المسيح: "إذا كان يوم القيامة أرسل ابن الإنسان ملائكته، فجمعوا أصحاب الشكوك وفاعلي الآثام فيلقونهم في أتون النار، هنالك يكون البكاء وصرير الأسنان"2.

قال النصارى: فقد أثبت لنفسه ملائكة، ولا يثبت ملك الملائكة إلاّ لله تعالى، وأثبت أنه المقتول المصلوب.

1 ر: الباب الخامس.

2 متى 13/41، 42.

ص: 425

والجواب: أن هذه نسبة صحبة لا نبسة ملك، والدليل على ذلك من الإنجيل قول يسوع:"لا تحقروا أحداً من هؤلاء الصغار المؤمنين بِيَ. فإن ملائكتهم ينظرون وجه أبِي الذي في السماوات في كلّ حين"1. فقد أثبت للصغار ملائكة لم يرد الملك، وقد قال يسوع أيضاً لليهود في الإنجيل: "لا تظنوا أني لا أستطيع أن أدعو أبي فيرسل لي اثني عشر جوقاً من الملائكة"2. أثبت ها هنا ملك الملائكة لله وحده فكان ذلك المطلق [محمولاً] 3 على هذا المقيد.

وقد قالت التوراة: "إن بني / (1/172/ب) إسرائيل كان لهم ملك يحمل عمود الغمام ويسير أمامهم ويلهب لهم بالليل ناراً يؤمونها في مسيرهم"4.

وقوله: "إن ابن الإنسان" يوهم أنه أراد نفسه، ونحن نحمله على الشَّبه الشهيد الذي صلبه اليهود، أنعم فإنه من الحواريين الذين هم تلوا النّبيّين في الشفاعة. قال الله تعالى:{فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيهِم مِّنَ النَّبِيِّين وَالصِّدِّقين..} الآية. [سورة النساء، الآية: 69] . وإذا كان الشَّبَه صِدِّيقاً فهو من خيرهم لإيثاره المسيح، فلا بُعد أن يشهد له المسيح بأنه يشفع يوم القيامة، ويرسل الملائكة بين يديه ويؤمر بامتثال أوامره ويلقي من آذاه وقتله وصلبه في أتون النار.

والدليل على تشريف الأولياء والأصفياء بهذه الرتبة الكتاب العزيز والإنجيل، قال الله:{فَمَا تَنْفَعُهُم شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} . [سورة المدّثر، الآية: 48] . دلّ على أن من الشافعين مَنْ تنفع شفاعته.

وقال المسيح لتلاميذه: "أنتم الذين صبرتم معني

1 متى 18/10.

2 متى 26/53.

3 في ص (محمول) والصواب ما أثبته.

4 سفر الخروج 13/21، 22.

ص: 426

في تجاربي وإنكم يوم القيامة تجلسون على اثني عشر كرسياً من كراسي المجد تدينون اثني عشر سبط بني إسرائيل"1.فقد أثبت محاسبة/ (1/173/أ) الأسباط من بني يعقوب إلى تلاميذه، والمصلوب من خيرهم كما تقدم. وكيف لا يعظم جرم اليهود ويسلط عليهم في الدار الآخرة أصحاب المسيح وإنما قتلوا في زعمهم واعتقادهم وظنهم المسيح؟! فبشؤم قصدهم عظم إثمهم وإن لم يصادفوه ولا قتلوه فسلط الله عليهم في القيامة بعض خدمه وهو الشَّبه لينتقم منهم.

20-

سؤال عاشر وهو من المعضلات، قال النصارى: قال دواد في مزمور له وتنبأ به على آلام المسيح وما يجري عليه من اليهود: "ثقبوا يدي، وجعلوا في طعامي المرار، وعند عطشي سقوني خلاً، يا رب لا تبعد نصرك مني"2.

1 متى 19/28.

2 ورد في مزمور 22/16-19 كالآتي: "لأنه قد أحاطت بي كلاب جماعة من الأشرار اكتنفتني، ثقبوا يديَّ ورجلي، أحصى كل عظامي وهم ينظرون ويتفرسون فيَّ، يقتسمون ثيابي بينهم وعلى لباسي يقترعون، أما أنت يا ربّ فلا تبعد، يا قُوَّتي أسرع إلى نصرتي".

يقول الشيخ رحمة الله الهندي: "إن هذه العبارة (ثقبوا يدي ورجلي) المذكورة في التراجم الشائعة، لا توجد في العبرانية، بل يوجد بدلاً منها هذه الجملة: "كلتا يدي مثل الأسد".

فنسأل النصارى: هل النسخة العبرانية هاهنا محرفة في زعمكم أم لا؟ فإن لم تكن محرفة، فلم حرّفتم هذه الجملة لتصدق على المسيح في زعمكم؟! وإن كانت محرفة فلا بُدَّ أن تُقِرُّوا بتحريفها". (ر: إظهار الحقّ ص55،بتصرف بسيط) .

وهذا يؤكّد أن هذا المزمور بالذات قد تعرَّض للكثير من التحريف والتعديل، مما يجعلنا في شكّ من أن تراجمه الشائعة لا تعطي نفس المعاني والمفاهيم التي سجلها داود عليه السلام في مزموره الأصلي.

كما أن فهم علمائهم لهذا المزمور يتمثل فيما يقوله الأستاذ نينهام-أستا اللاهوت-في كتابه: (تفسيرإنجيل مرقس ص428) :"بأننا لو أخذناه ككل، فإنه لا يعدوا أن يكون صلاة لعبد بار يعاني آلاماً إلاّ أنه يثق تماماً في حبّ الله له وحفظه من الشرّ وهو مطمئن تماماً لحمايته وخاصة الفقرات19/26،وبالذات الفقرتين24،26"وفيهما: لأنه لم يحتقر ولم يرذل مسكنة المسكين ولم يحجب عنه بل عند صراخه استمع إليه".

وتوجد بعض الشواهد على أن افتتاحية المزمور كان يفسرها قدماء اليهود على ضوء بقية أجزائه وأنه كان يُعرف كصيغة صلاة مؤكّدة الاستجابة من أجل العون في وقت الضيق"اهـ. (نقلاًمن المسيح في مصادر-لأحمد عبد الوهّاب ص227-229) .

وأما احتجاجهم بالنّصّ: "وجعلوا في طعامي

". فقد ورد في مزمور 69/21 كالآتي: "ويجعلون في طعامي علقماً وفي عطشي يسقونني خلاً". إلاّ أننا نجد النصّ مختلفاً في الترجمة الحديثة (THE PSALMS) طبعة لندن وجلاسجو عام 1963م كالآتي: "أعطوني لطعامي سماً في عطشي سقونني خلاً". ومن الواضح أنه لا يمكن تطبيق هذه الترجمة على المصلوب حرفياً لأن الذي يعطي لطعامه سماً، لا يلبث أن يموت بالسم وليس بالصلب. (ر: المرجع السّابق، ص: 246، 252) .

ص: 427

قالوا: فأي حجة أبين أو دليلاً أوضح من هذا؟!

والجواب: عن ذلك من وجوه:

أحدها: لا نسلم أن دواد عنى بذلك المسيح بل لم يعن إلاّ نفسه، والكلام يحمل على المعنى حيث أعوز حمله على اللفظ، وكأنه عليه السلام كَنَّى بذلك عما هو بصدده من قتال المشركين ومنازعة أعداء الدين وجبابرة فلسطين، وكأنهم / (1/173/ب) لطول حروبهم وموالاة شرورهم فعلوا هذه الأشياء، وداود أخبر بهذا المزمور عن نفسه فمَن أراد صرفه عنه إلى غيره فعليه إقامة الدليل.

قال مؤلِّفه: "بعد تبييض هذه النسخة والفراغ سألت حبراً من أحبار اليهود عن قول داود: "ثقبوا يدي" بالمزمور، فأجابني بنحو ما ذكرته في الوجه الأوّل على الفور من غير توقف، فتعجبت من اتّفاقه لنصّ ما عندهم.

الوجه الثاني: نسلم أن داود لم يعن بذلك نفسه ولكن عنى غيره فبم تنكر النصارى أن ذلك المعنِيَّ رجلٌ كان قبل داود؟!. واللفظ يساعد عليه فإنه ذكره بلفظ الماضي فقال: ثقبوا يدي جعلوا في طعامي المرار، وذلك يشير إلى أمر قد وقع وفرغ منه، وإذا كان ذلك لم يصلح للاستقبال فلعلّ داود إنما أراد بالمزمور رجلاً من أسلافه الماضين كإبراهيم وموسى وغيره من الأصفياء فتألم بذلك تألم الولد البار لوالده وذوي رَحِمِه وعزَّى نفسه وسلاّها فيما ابتلى به من/ (1/174/أ) قتال كفار زمانه وملوك دهره.

ص: 428

الوجه الثالث: نسلِّم أن داود أرد الاستقبال، لكن ليس في المزمور ما يدلّ على قتل وضرب وصفح وصلب كما نسبه الصنارى لربّهم في زعمهم، وليس فيه إلاّ أن رجلاً من الناس يُثقب يده ويُسقى خلاً عند عطشه ويُمَرَّر طعامه ويسأل ربه وخالقه إلهه أن ينصره، ولا يلزم من وجود هذه الأموروجودقتل وصلب، فقديثقب يد الإنسان ويسقى الخل ولا يموت.

والوجه الرّابع: سلَّمنا أن ذلك يستلزم القتل والصلب والإهانة، وأن داود عبَّر ببعض الآلام عن سائرها، لكن من أين للنصارى أن المفعول به ذلك هو المسيح؟!، وليس في كلام داود له ذكر البتة. فبم ينكرون على من يقول: إن المفعول به ذلك هو الشبه لا المسيح؟ وليس دعواهم أن داود أراد المسيح بأولى من دعوى مَن يقول: لم يرد بذلك إلاّ الشبه. والدليل على أن داود أراد الشبه قوله: "يا ربّ لا تبعد نصرك مني". فصرَّح داود بأن المفعول به ذلك عبد من عبيد الله/ (1/174/ب) يستصرخ بربه ويلتمس نصر خالقه عند نزول كربه، ويؤيّده قول نقلة الإنجيل إن المصلوب قال في آخر كلام تكلم به على الخشبة:"إلَهِي إِلَهِي كيف تركتني؟ ". والمسيح ليس كذلك عند النصارى. ولاسيما وقد رووا عن داود أنه عنى المسيح بقوله في المزمور: "قال الرّبّ لربِّي: اجلس عن يميني حتى أجعل أعداءك موطئ قدميك". وإذا قالوا: إن داود يخاطب المسيح بلفظ الربوبية وأن أعداءه تكون موطئ قدميه بطل أن يكون عنى بقوله: "ثقبوا يدي". المسيح وصحّ إضافة ذلك إلى الشبه.

ثم داود عبراني اللسان، فلو كان في مزمور ما ينوه بذكر المسيح وربوبيته وقتله وصلبه لكان العبرانيون - وهم اليهود - أحقّ بمعرفته من غيرهم. لاشتغالهم بتلاوة مزامير داود وانكماشهم على قراءتها والتعبد بها، فإقدامهم على ما أقدموا عليه من طلب المسيح وتكذيبه، وعزمهم على قتله حتى شغلهم الله

ص: 429

عنه بالشبه الذي قتلوه وصلبوه-دليل واضح (1/175/أ) على غلط النصارى فيما استنبطوه من المزامير بعقولهم واستخرجوه بأذهانهم.

فهذه عشرة أسئلة معدودة من معضلات أسئلتهم مضافة إلى ما قدمناه، غير أن هذه الأسئلة هي أساس كفرهم، وعليها عقدوا أمانتهم التي سنبيّن بعون الله فسادها وتناقض ألفاظها ومعارضتها للثالوث ومعارضة الثالوث لها.

وقد بيّن داود في المزمور التاسع عشر على ما ذهبنا إليه من خلاص المسيح من أعدائه اليهود، وأخبر أن الله تعالى حماه منهم وستره عنهم، فقال:"يستجيب لك الرّبّ في يوم شديد، ويرسل لك عوناً من قدسه يعضدك من الآن، عرف خلاص الله لمسيجه ومن سماء قدسه استجاب له"1. فقد شهد داود بأن الله خلّص المسيح.

وهذا المزمور مصدِّق لقول لوقا: "إن جبريل خبَّر عن الله أن المسيح يكون ملك بني إسرائيل". فأما مزمور "ثقبوا يدي"، فكذَّب بشارة جبريل، وما رَدَّ بشارة جبريل عن الله تعالى فهو مردود.

فإن قيل: فالمسيح صعد إلى السماء2 وهذا يدل على ربوبيته.

قلنا: هذا من أضعف ما يتمسك / (1/175/ب) به؛ إذ الملائكة تصعد السماء وليسوا آلهةً ولا أرباباً، وأخنوخ الذي هو إدريس قد صعد إلى السماء3 وهو عبد من عبيد الله. وكذلك إلياء وَدَّع تلميذه اليسع وصعد إلى السماء على فرس من نور4.

1 مزمور 20/1-7.

2 مرقس 16/19، لوقا 24/51.

3 سفر التكوين 5/24.

4 سفر الملوك الثاني 2/1-11.

ص: 430

والعجب أن التلاميذ عندكم أفضل من إدريس وإليا وغيرهم وقد قتلوا وماتوا ودفنوا في الإرض، فليس في صعود السماء ما يدلّ على ما يذهبون إليه.

فإن قيل: فالمسيح أخبر بالمغيِّبات وعَرَّف تلاميذه بما سيحدث في المستقبل1 ولا يعلم الغيب إلاّ الله سبحانه.

قلنا: التعلق بذلك يصلح لإثبات النبوة والرسالة، أما أنه يصلح لما تدّعونه فلا. والدليل على ذلك أنّ نوحاً وإبراهيم ويعقوب ويوسف وموسى وجماعة من الأصفياء قد أخبروا بالمغيَّبات فوقعت على وفق خبرهم. فأخبر نوح بالطوفان وهلاك الخلق بأسرهم إلاّ من ركب سفينته2، وأخبر إبراهيم بأن ذريّته يكونون في العبودية والسخرة بمصر المدة الطويلة3، وأخبر يعقوب بأن الله سيذكر بني إسرائيل ويخرجهم من مصر إلى بلادهم بيدٍ / (1/176/أ) منيعة غزيزة قوية4، وأخبر موسى بشتات أمر اليهود وعبادتم الأصنام والأوثان وإعراضهم عن طاعة الله الذي أنقذهم من سخرة فرعون5، وأخبر يوسف بالغلاء والمجاعة التي تعمُّ الأرض سبع سنين6، وأخبر دانيال بختنصر بمغيبات كثيرة7. فلم يخرم مما قالوا ولم يخلف كما شهد بذلك كله التوراة

1 متى 24/1-31، مرقس 13/1-32، لوقا 21-5-28، لوقا 22/31-38، يوحنا 13/36-38.

2 سفر التكوين إصحاح (6) .

3 سفر التكوين 15/13-17.

4 سفر التكوين 48/21.

5 سفر التثنية 31/24-30، 32/1-47.

6 سفر التكوين 41/25-36.

7 من هذه المغيبات: إخبار دانيال بختنصر بحلمه عن التمثال العجيب وتفسيره له. (ر: دانيال صح 2)، وعن حلم الملك عن الشجرة العظيمة التي قطعت وتأويل ذلك. (ر: دانيال صح 3) ، وعن تفسير الكتابة التي ظهرت على الحائط في الوليمة التي أقامها الملك. (ر: دانيال صح 5) . وغير ذلك.

ص: 431

والنبوات وأربوا على المسيح في ذلك، وذلك كله بتعريف الله:{عَالِمُ الغَيبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَاّ مَنِ ارْتَضَى مِن رُّسُولِ} 1.

والعجب كيف يتمسك النصارى في دعوى ربوبية المسيح بإخباره الغيب، وهذا نوح وإبراهيم ويعقوب يخبرون به وينبؤون عنه، مع أن النصارى لا يعتقدون فيهم سوى أنهم قوم صالحون لا غير2، وهذا من أجلِّ أغاليطهم وكفرهم إذ

1 الآية الكريمة: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً. إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً} . [سورة الجن، الآية: 26-27] .

2 إن الفكر النصراني المنحرف في القرون الأولى المسيحية لم يتطرق إلى بحث قضية الوحي والنبوة؛ لأن ألوهية المسيح عليه السلام وما يتعلق به من قضايا فلسفية هي المحرر الرئيسي للفكر النصراني أو ما يسمى بعلم: (الثيولويجا: THEOLOGIA) .

أما بعد ظهور الإسلام فإن موقف النصارى من بعض قضايا النبوة مثل: نبوة بعض الأنبياء السابقين كنوح وإبراهيم ويعقوب عليهم السلام، فهو يتلخّص في الآتي:

الأوّل: اعتبارهم مجرد آباء للشعب الإسرائيلي ورجال صالحين وليسوا أنبياء مرسلين من الله، وهذا الموقف ناشئ من التراث اليهودي الذي ورثه النصارى. (فإن التراث اليهودي يجعل النبوة تبدأ في مرحلة متأخرة من الزمان، بدأت بموسى عليه السلام الذي يعتبر أباً الأنبياء ومن أبرز آبائهم المتقدمين - وتنتهي بأنبياء القرن الرابع قبل الميلاد. أما نوح وإبراهيم ويعقوب وغيرهم فإنهم - في نظر اليهود - مجرد آباء للشعب الإسرائيلي وبأن ما تلقاه هؤلاء الآباء من الوحي الإلهي فإنه إرث يهوذي خالص.

ونادراً ما يستخدم تعبير (الأنبياء) للتعريف بهذه المجموعة من الأنبياء - حسب الفهم الإسلامي ـ، فكل الشخصيات السابقة على موسى عليه السلام في التراث اليهودي يجمعهم لقب البطارقة:(THE PATRIACHS) أو الآباء بما يعني أنهم كانوا بمثابة رؤساء وشيوخ لقبائلهم، وأن وظيفتهم كانت سياسية اجتماعية أكثر منها دينية".

(ر: تاريخ النبوة الإسرائيلية ص16-21، د. محمّد خليفة حسن أحمد، دائرة المعارف اليهودية 13/181. مادة البطارقة 13/1149، مادة النبوة، قاموس أكسفورد ص د، 1132) .

كما أن أصحاب هذا الموقف قد يكونون متأثرين برد الفعل المعاكس لما ورد في القرآن الكريم من إثبات نبوة هؤلاء الأنبياء الكرام، مما دعاهم إلى إنكار نبوتهم عناداً ومخالفةً لما عند المسلمين.

أما الموقف الثاني: الاعتراف بنبوتهم، فهو ما ورد في بعض المصادر اليهودية. (ر: تنقيح الأبحاث ص 21، لابن كمونة اليهودي، الأصول الثلاثة عشر لموسى بن ميمون) . وأصحاب هذا الموقف متأثرون بالإسلام، وهم بذلك يتحاشون الانتقادات التي توجه إليهم لعدم إثباتهم نبوة هؤلاء الأنبياء الكرام مع ثبوت تكليم الله عزوجل لهم في التوراة.

وبذلك يتبيّن لنا أن ما ذكره المؤلِّف عن أهل الكتاب صحيح. والله أعلم.

ص: 432

أخرجوا من ديوان النبوة مثل نوح وإبراهيم عليهم السلام مع شهادة التوراة بأعلامهم ورسوخ أقداهم ومكالمتهم الحقّ ودعائهم الخلق1.

فإن قيل: فالمسيح جاء من غير/ (1/176/ب) فحل ونحن وأنتم قاطعون بطهارة مريم وبراءتها. وإذا كان لا بدّ من أب فلا أب له سوى الله تعالى.

قلنا: هذا من أضعف ما يُتَمسك به؛ وذلك أن التوراة مصرحة بأن الله تعالى خلق حواء من آدم، قال الله تعالى في صدر التوراة:"لا يحسن أن يبقى آدم وحده بل نخلق له زوجاً مثله، فألقى الله عليه النوم فنام فنَزَع ضلعاً من أضلاعه وأخلف له عوضه لحماً، فخلق الله من ذلك الضلع حواء زوجته"2.

فإذا كان لا بدّ لها من أم فهل تقولون: إن الله أمها؟! فَخَلْقُ أنثى من ذكر بغير أم أعجب من خلق ذكر من أنثى بغير أب، وأعجب من هذين خلق بشر من غير أنثى ولا ذكر. وقد خلق الله آدم من تراب، فمن كان قادراً على أن يخلق بشراً من غير أبوين ولا يكون ابناً له كيف لا يقدر أن يخلق بشراً من أنثى ولا ذكر ولا يكون ابناً له؟!.

1 لقد وردت نصوص كثيرة في سفر التكوين من التوراة تثبت نبوة هؤلاء الأنبياء وإنزال الوحي عليهم، فأما نوح عليه السلام فقد ورد في الإصحاحات (6-9) النصوص الآتية: "فقال الله لنوح: نهاية كلّ بشر

". "وكلم الله نوحاً قائلاً: اخرج من الفلك

"، "وقال الله لنوح: هذه علامة

". وغير ذلك.

وأما إبراهيم عليه السلام فقد ورد عنه في الإصحاحات (12-18، 20-24) نصوص كثيرة منها: "قال الرّبّ لأبرام: اذهب من أرضك". "ظهر الرّبّ لأبرام وقال له: أنا الله القدير

". (فقال الله له - أي: لملك جرار الذي أخذ سارة زوجة إبراهيم - في الحلم:

فالآن ردّا امرأة الرجل فإنه نبيّ

". وغيرها.

وأما يعقوب عليه السلام فقد ورد عن الإصحاحات (35، 46) مثل ذلك، منها: "قال الله ليعقوب: قم اصعد

". "وقال له الله: اسمك يعقوب

". وغيرها. لكن التوراة المحرفة لا تذكر أي نشاط للدعوة لهؤلاء الأنبياء.

2 سفر التكوين 2/18-23.

ص: 433

وكم قد خلق الله سبحانه من مخلوقاته من غير تناسل معروف ولا ولادة معتادة؟! {فَأَيُّ آيَاتِ الله تُنْكِرُون} 1.

انتزاعات لهم:

وانتزع النصارى من / (1/177/أ) التوراة والكتب العتيقة مواضع زعموا أنها دالة على ربوبية المسيح، ونحن نوردها في معرض الأسئلة، ونجيب عنها، ونبيّن أن ليس فيها [تفريج لكربة النصارى ولا معتصم] 2 لهم فيما يحاولونه.

1-

فإن قيل: ففي التوراة ما يدل على عقد النصارى في المسيح، وهو:"أن إسرائيل لما احتضر بمصر جمع بنيه ودعا واحداً ثم قال لابنه يهوذا: لا يعدم سبط يهوذا ملكاً مسلطاً، ونبيّاً مرسلاً حتى يأتي الذي له الملك. وإياه ينتظر الشعوب، ربط بالحبلة جحشه، يرخص بالخمر لباسه، ويصبغ بعصير العنب رداءه، عيناه أشد سهولة من الخمر، وأسنانه أشد بياضاً من اللبن"3.

1 قال تعالى: {وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ} . [سورة غافر، الآية: 81] .

2 في ص (تفريجاً للبرية النصارى ولا معتصماً) والصواب ما أثبته.

3 ورد النّصّ في سفر التكوين 49/1-12 كالآتي: "لا يزول قضيب من يهوذا ومشترع من بين رجليه حتى يأتي شيلون، وله يكون خضوع شعوب، رابطاً بالكرمة جحشة وبالجنفة ابن أتانه، غسل بالخمر لباسه وبدم العنب ثوبه، مسوّد العينين من الخمر ومبيض الأسنان من اللبن".

قلت: الفرق واضح بين هذا النّصّ وما ذكره المؤلِّف، وقد أشار الشيخ - رحمة الله - إلى اختلاف اللفظ في عبارة:"حتى يأتي الذي له الكل". وذكر أنها موجودة في التراجم العربية للكتاب المقدس المطبوعة سنة 1722م، 1831م، 1844م، وأن عبارة:"الذي له الكل"، أو "الذي هو له"، ترجمة للفظ:"شيلوه"، أو "شيلون". (ر: إظهار الحق ص 518، 519) .

وبناء على ذلك فإن تفسير هذه البشارة كالآتي: إنه لا تزول السلطة من بيت يهوذا والمشترع من بين رجليه أو صُلْبِه - وهو المسيح - لأنه من بيت يهوذا، فيكون ما بيَّنه في الأناجيل من الشريعة يبقى مستمراً حتى يأتي شيلون "أي: من له الأمر أو الكلّ"، فيكون الحكم والعمل على شريعته، ولم يتحقق هذا إلاّ بمجيءسيدنا محمّد صلى الله عليه وسلم.

وقد فسر الأستاذ عبد الأحد داود - الذي كان قسيساً فأسلم - كلمة: "شيلوه" بالرجوع إلى أصل اشتقاق هذه الكلمة في اللغة العبرية، فسرها بثلاث تفسيرات:

الأوّل: "الشخص الذي له"، ويكون المعنى كالآتي:"إن الطابع الملكي المتنبئ لن ينقطع من يهوذا إلى أن يجيء الشخص الذي يخصّه هذا الطابع ويكون له خضوع الشعوب".

الثاني: "المسلم، الهادئ، الوديع، الأمين".

الثالث: أن كلمة شيلوه تحريف لكلمة: "شلواه"، ومعناه: الرسول أو المبعوث. ثم يقرر الأستاذ عبد الأحد أنه على أي تفسير من هذه التفسيرات الثلاثة فإنها تنطبق تماماً على نبيّنا محمّد صلى الله عليه وسلم الذي أقام دين الإسلام ووحَّد جميع الشعوب وأزال سلطة اليهود، وهو صلى الله عليه وسلم الملقب بالأمين، وهو رسول الله الذي يتكرر إطلاق هذا اللقب عليه في القرآن الكريم وفي الأذان وفي الصلاة خمس مرات كلّ يوم.

ثم يقول: فإننا مضطرون بحكم تحقق هذه الصفات في محمّد صلى الله عليه وسلم، أن نُسلِّم بأن اليهود ينتظرون عبثاً مجيء (شيلوه) آخر، وأن النصارى مصرون على خطئهم في الاعقاد أن عيسى كان هو المقصود بـ:(شيلوه". (ر: محمّد في الكتاب المقدس - عبد الأحد داود ص 77-85، بتصرف) .

ص: 434

قال النصارى1: وهذه صفات المسيح.

قلنا: اللفظ للتوراة وهي عبرانية واليهود من أولاد يعقوب أعرف بذلك منكم، وها هم إلى الآن ينازعونكم في الموصوف بهذه الصفات، ويدَّعون أنه صاحبكم وهم إلى الآن ينتظرونه، ونحن لا نسلم أن هذا الموعود به عيسى بن مريم ولا غيره بل هو محمّد صلى الله عليه وسلم / (1/177/ب) والدليل على ذلك قول يعقوب:"حتى يأتي الذي له الملك". وليست كذلك وإنما هي: "الكلّ"، فحرفت بسوء النقل وكذلك هي في بعض نسخ التوراة "الكلّ"، فجعله مع النبوة ملكاً مطاع الأمر كما قال

1 ويزعم ذلك أيضاً مؤلفو قاموس الكتاب المقدس ص 536، وقد توهمه أيضاً العلامة نجم الدين الطوفي في كتابه:(الانتصارات الإسلامية في كشف شبه النصرانية، ص 107، 108) حينما زعم أن الصفات الواردة في النّصّ السابق هي صفات المسيح، هذا اجتهاد خاطئ منه رحمه الله يرده ما ذكرناه سابقاً.

ص: 435

أبو سفيان للعباس: "لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيماً فقال له: اسكت فإنها النبوة"1. وقال: لقد أتيت كسرى في ملكه وقيصر في ملكه فما رأيت قوماً أهيب لملكهم من أصحاب محمّد لمحمّد صلى الله عليه وسلم2.

وقال صناديد قريش: لقد أَمِرَ أَمْرُ ابن أبي كَبْشة3، جد من أجداد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وكذلك كان عليه السلام، فإن الله جمع له الكلّ كما قال يعقوب: النبوة، والملك، فاستقام أمره واستوسق4 سلطانه واستتبت دولته وألقت إليه الدنيا سلطان مقاليدها فكان نبيّاً رسولاً كما كان سلطاناً مبعوثاً إلى الأحمر والأسود والقريب والبعيد، ولقد هابته الملوك وهادته واعتصمت منه بالذمم، وحضت على مؤازرته، وتابعه قيصر والنجاشي وملوك العرب.

فأما المسيح عليه

1 حديث العباس مع أبي سفيان رضي الله عنهما ورد في قصة فتح مكة - في سياق طويل - عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أخرجه ابن إسحاق. (ر: سيرة ابن هشام 4/64)، وإسحاق بن راهويه في مسنده. (ر: المطالب العالية 4/244-246 لابن حجر) . وأخرجه ابن سعد 2/134-137، والبيهقي في الدلائل 5/32-35، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 6/167-1700، وقال:"رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح". وقال الحافظ بن حجر: "هذا حديث صحيح".

2 هذه مقالة أبي سفيان للعباس رضي الله تعالى عنهما في قصة الفتح حينما رأى أبو سفيان المسلمين يتلقون وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أخرجها البيهقي في الدلائل 5/39-40، برواية موسى بن عقبة. ونقلها ابن كثير في البداية والنهاية 4/324.

3 هذه مقالة أبي سفيان بن حرب قالها لأصحابه من كفار قريش بعد ما ساله هرقل ملك الروم عن أحوال النبي صلى الله عليه وسلم، وفد أخرجه البخاري في كتاب بدء الوحي باب (7) . (ر: فتح الباري 1/31-33) . ومسلم 3/1393-1397، والبيهقي في الدلائل 4/377-380، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في سياق طويل. قال الحافظ ابن حجر:"وابن أبي كبشة أراد به النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ لأن أبا كبشة أحد أجداده، وعادة العرب إذا انتقصت نسبت إلى جدّ غامض"، وقال ابن قتيبة والخطابي والدارقطني:"وهو رجل من خزاعة خالف قريشاً في عبادة الأوثان فعبد الشعرى، فنسبوه إليه للاشتراك في مطلق المخالفة". وكذا قاله الزبير. قال: واسمه: "وجز بن عامر بن غالب". (ر: فتح الباري 1/40) .

4 استوسق: اجتمع وانتظم. (ر: القاموس ص 1199) .

ص: 436

السلام / (1/178/أ) فقد شهدت عليه أقواله وأقوال تلاميذه في الإنجيل بأنه لم يرسل إلى كلّ الأمم من العرب والعجم؛ إذ يقول في إنجيله: "إني لم أرسل إلاّ إلى الخراف الضالة من بيت إسرائيل"1. "وسئل أن يقضي حاجة امرأة من الكنعانيّين، فقال: ليس بجيد أن يؤخذ خبز النبيين فيلقى للكلاب"2. وقال المسيح حيث بعث تلاميذه: "مدن السامرة لا تدخلوا، وطريق الزنادقة لا تسلكوا، واذهبوا إلى الخراف التي ضلت من بيت إسرائيل"3.

فبين في كلّ كلامه أن دعوته خاصة وليست عامة، فإذاً ليس هو المراد بلفظ إسرائيل، إذ إسرائيل يقول:"إنه ينتظره كلّ الشعوب". ولم يقل ينتظره من ضلّ من شعب إسرائيل لا غير.

والعجب من النصارى كيف ينْزِلون هذا الكلام على المسيح عليه السلام وهم مجمعون أن صاحبهم كان مستضعفاً يبذل الجزية أسوة سائر [أهل] 4 الذمة، فرووا في إنجيلهم الذي بأيديهم اليوم:"أن جباة الجزية من جهة قيصر قالوا لبطرس: ما بال معلمكم لا يؤدّي إلينا الغرم؟ فذكر ذلك بطرس للمسيح، فقال: [والبنون] 5 أيضاً يؤدّون الغرم / (1/178/ب) ثم قال لبطرس: اذهب إلى البحر وألق الصنارة واصطد ما تؤدّي عني وعنك"6.

1 متى 15/24.

2 متى 15/21-28.

3 متى 10/5، 6.

4 إضافة يقتضيها السياق. والله أعلم.

5 في ص (والبنين) والصواب ما أثبته.

6 متى 17/24-27.

ص: 437

وهذا نقلهم والعُهدة عليهم، وإذا كان الأمر ما نقلوا فليس هو صاحبهم؛ لأن الصادق إسرائيل قال: إن هذا الآتي يكون ملكاً نبيّاً وكلّ الشعوب ينتظرونه، والخلائق معمومون برسالته ودعوته. والنصارى يقولون: هو هذا الذي يبذل الجزية من صيد السمك ويتحمَّل الصَّفار وإن خساس اليهود وأراذلهم وثبوا به وأرذلوه واستذلوه وربطوه ربط اللصوص وأهل الدَّعر1، ووضعوا على رأسه إكليلاً من الشوك، وجعلوا يصفعونه ويسخرون منه، ولما قضوا نهمتهم من عقوبته صلبوه على خشبة فوق نشز من الأرض، وقرنوه بلصين مصلبين، ثم قتلوه وإياهما، كما حكوه لنا في إنجيلهم، أفكانت بشرى يعقوب لسائر الشعوب برجل يرذل ويصفح ويؤيّدي الجزية فيذل لها ويخضع ويحمل خشبته ويصعد عليها ويرفع ويستسقى ماء فَيُذاد عنه ويُدفع ويسأل البقيا فلا يجاب إليها ولا يسمع. قال يعقوب عليه السلام: / (1/179/أ)"وإيّاه ينتظر الشعوب". والمسيح عند النصارى إله خالق وربّ رازق. ومعلوم أن أكثر شعوب الأرض وأهل الدنيا ينكرون هذا ولا يقرون به فكيف ينتظرونه؟! وإنما ينتظر الإنسان ما يجوّزه فأما ما يحيله ويقضي بمنعه واستحالته فلا ينتظر مجيئته وإتيانه.

فقد وضح أن الذي نصّ عليه يعقوب في التوراة ليس هو المسيح عليه السلام. فأما اليهود فيقال لهم: أخبرونا عن مسيحكم هذا الذي أنتم تنتظرونه، هل يعرفه غيركم أو يقرّ به سواكم؟

1 الدعر: الفساد والفسق والخبث. (ر: القاموس ص 501) .

ص: 438

فإن ادّعوا ذلك كابروا العيان، فإن أحداً من الناس لا يعرفه ولا يدين الله بمجيئه، وانتظار الشيء فرع معرفته، وإنما ينتظرون المسيح الدجال الكذاب الضال المضل الذي حذّر منه الأنبياء1 وأتباع الأنبياء، قالت التوراة في السفر الخامس بعد أن نصّ على مجيء النبيّ الصادق:"فأما الذي يقول ما لم آمره به ويتكلم باسم إله أخر فليقتل ذلك2 قتلاً، وإن أشكل عليهم معرفة الصادق من الكاذب فانظروا فإني لا أتمُّ عمل الكاذب ولا أكمل فعله؛ لأن قوله ذلك / (1/179/ب) كذب وجرأة وصفاقة وجه لا يخافوه ولا يفزعوا منه"3. فهذا ما في التوراة.

وأما الإنجيل فقال4: "إنه سيقوم مسيح كذب وأنبياء كذبة بآيات وعلامات [ويضلون] 5 الناس إن قَدَرُوا، ويتم الذي حكاه دانيال حيث يقول: "يهرب الناس إلى الجبال ولا ينْزِل مَنْ على سطح داره أن ينْزل لأخذ ثيابه، الويل للحبالى والمرضعات في تيك الأيام، ويكون ضيق عظيم لم يكن مثله في العالم، ولولا أن تيك الأيام قصرت لم يخلص ذو جسد، ولكن من أجل المنتخبين قصرت تيك الآيام، ومن بعد ذل تظلم الشمس والقمر وتسقط الكواكب وترتج السماء".

وقد قال المسيح في الإنجيل "ومن قِبَل ثمارهم يعرفونهم"6. ونحن نعلم

1 عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: "قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس فأثنى على الله فما هو أهله، ثم ذكر الدجال، فقال: إني لأُنْذَركموه، وما من نبيٍّ إلاّ أنذر قومه، لقد أنذر نوح قومه، ولكني أقول لكم فيه قولاً لم يقله نبيّ لقومه: تعلمون أنه أعور، وأن الله ليس بأعور". أخرجه البخاري. (ر: فتح الباري 6/370) .

2 في ص: تكررت لفظة: (ذلك) .

3 سفر التثنية 18/20-23، بألفاظ مختلفة.

4 إنجيل متّى 24/3-34، مرقس 13/5-32، لوقا 21/8-32.

5 في ص (ويضلوا) والصواب ما أثبته.

6 متى 7/16، 20.

ص: 439

أن من ثمار محمّد عليه السلام توحيد الباري وتقديسه وخلع ما سواه جلّ وتعالى، وأما المسلمون فلا يعدلون لهذا النعت عن محمّد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأما النصارى فمكذبون لليهود زاعمون أنه المسيح ابن مريم عليه السلام، وقد أبطلنا ذلك.

وأما المجوس1 وسائر فرق الناس كالصابئة2 وأصحاب

هرمس3

1 المجوس؛ هم: الذين أثبتوا أصلين للعالم هما: (إله النور) خالق الخير واسمه: يزدان. و (إله الظلمة) خالق الشّر، واسمه: أهرمن. والمجوس يعظمون النيران والأنوار. وانقسموا إلى مذاهب كثيرة منها: الثنوية، والزرادشتية، والمركونية، والمزدكية، والتناسخية.

(ر: التمهيد للباقلاني ص 87، الفصل لابن حزم 1/86، الملل والنحل للشهرستاني 1/230، والداعي إلى الإسلام لأبي البركات الأنباري ص 221، 271، اعتقادات فرق المسلمين والمشركين للرازي ص 86، البرهان للسكسكي ص 90) .

2 الصابئة؛ في مقابلة الحنيفية، وفي اللغة: صبأ الرجل: إذا مال وزاغ. وقيل: بأنها كلمة آرامية الأصل تدل على التطهير، ويعرف منها:

1-

الصابئة الحرانيون: وقد انقرضوا في القرن (11هـ) ومركزهم (حران) .

2-

الصابئة المندائيون: ويزعمون أنهم أتباع النبيّ يحيى عليه السلام. ويُقَدَّر عددهم حالياً بعشرة آلاف شخص تقريباً معظمهم في العراق وإيران. والصابئة يقدسون الكواكب والنجوم، ويعتبر الاتّجاه نحو القطب الشمالي والتعميد في المياه الجارية من أبرز معالم ديانتهم.

(ر: الفصل 1/88-90، الممل والنحل 2/5-57، اعتقادات ص 90، والبرهان ص 932، الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب ص 317) .

3 هرمس: وجمعه هرامس، يسمى عند العرب إدريس، وعند اليونانيين أطرسمسين، وعند العبرانيين أخنوخ، وعند الفرس: أبهجل أو اللهجد - وتفسيره - ذو عدل. وقد اشتهر من الهرامسة ثلاثة:

1-

هرمس الأوّل ويسمونه: (هرمس الهرامسة) - وقد كان قبل الطوفان - وهو أخنون أو إدريس، وللصابئة شرائع يسندونها إليه، وقيل أوّل من استخرج الحكمة وعلم النجوم والطبّ.

2-

هرمس الثاني: من أهل بابل الكلدانيين وكان بعد الطوفان.

3-

هرمس الثالث: سكن مصر.

(ر: الفهرست لابن النديم ص 492، الفصل لابن حزم 1/90، الشهرستاني 2/45، الكامل لابن الأثير 1/34، أخبار العلماء للقفطي ص 5، دائرة معارف فريد وجدي 10/504) .

ص: 440

وغيرهم فينقسمون إلى من له شبهة كتاب / (1/1810/أ) وهو لا يدين بالتوراة ولا بشيء من قول اليهود، وإلى من ينكر النبوات جملة كالبراهمة1 والهنود وغيرهم.

وإذا كان ذلك كذلك فليس المذكور في التوراة صاحبهم الذي ينتظره سائر الشعوب، وإذا فسدت دعوى اليهود والنصارى جميعاً فلا بدَّ من الوفاء بقول إسرائيل الله الصادق، ولم يبعث إلى سائر الشعوب سوى محمّد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يمكن دعوى ذلك لموسى عليه السلام إذ هو مهجور على كلّ قول ولا ادعاه أحد، ثم اعلم أنه يتعين تأويل ألفاظ إسرائيل وصرفها عن ظاهرها، فأكثر كلام القوم متروك الظواهر موكول استنباطه إلى آراء العلماء وفهوم الحكماء.

والدليل على أنّ نبيّنا محمّداً صلى الله عليه وسلم ينتظره سائر الشعوب قوله تعالى في محكم كتابه العزيز: {قُلْ يَا أَيَّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيكُم جَمِيعاً} . [سورة الأعراف، الآية: 158] . {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَاّ رَحْمَةً لِلعَالِمِينَ} . [سورة الأنبياء، الآية: 107] . {تَبَارَك الَّذِي نَزَلَ الفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} . [سورة الفرقان، الآية: 1] .

1 البراهمة: نسبة إلى الإله: (براهما)، أحد عناصر الثالوث الهندي المكون من:(براهما، وفشنو، وسيفا) ، ويمثلون الديانة الهندوسية، والبراهمة هم أعلى الطبقات في المجتمع الهدوسي، ولهم الكهانة والمراتب العليا، ويزعمون أنهم خلقوا من فم الإله براهما، ثم يلونهم طبقة الكاشتر ثم الويش ثم الطبقة المنبوذة وهم الشودر. وهذه الديانة يعتنقها معظم أهل الهند، وأبرز معتقداتهم: الكارما (قانون الجزاء) ، وتناسخ الأرواح، والانطلاق، ووحدة الوجود.

(ر: الفصل 1/137، اعتقادات فرق 2/250، البرهان ص 87ت، والداعي إلى الإسلام ص 272، الموسوعة الميسرة ص 531، مقارنة الأديان، د. شلبي، أديان الهند الكبرى) .

ص: 441

وقد قال عليه السلام / (1/180/ب)"بعثت إلى الأحمر والأسود، لو أدركني موسى وعيسى ولم يتبعاني لأكبهما الله في النار"1. وذلك الذي يوضح أنه عليه السلام المراد في التوراة على لسان يعقوب. وقد نصت الأنبياء في نبواتهم على أن هذا النبيّ المنتظر يكون خاتم الأنبياء، وسنذكر ذلك في الباب الأخير.

أما ما يتعيّن تأويله: فقوله: "ربط بالحبلة جحشة"، فتأويله بعض أصابنا فقال: يشد الحمار بالشجرة - ثم قال - الحمار هم اليهود والشجرة هم أصحاب النبيّ عليه السلام، قال: وشاهد ذلك من القرآن والتوراة. قال الله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّورَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً} . [سورة الجمعة، الآية: 5] . فَشَبَّه اليهود بالحمار. وقال تعالى في التوراة: "أخرجت شجرة من مصر ثم فرعتها في جميع الدنيا"2. يعني: بالشجرة أصحاب موسى وكذلك أصحاب محمّدأيضاً شجرة بهذا الاعتبار، وكأنه يقول: يربط الكفار بأصحابه وأهل بيته، قال الله تعالى: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُم فَشُدُّوا الوَثَاق} . [سورة محمّد، الآية: 4] .

1 لم أعثر عليه بهذا اللفظ، ولكن ورد معناه بلفظ آخر، فقد أخرج الإمام مسلم 1/371، عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي كان كلّ نبيّ يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى كلّ أحمر وأسود

" الحديث. وأخرجه ابن سعد 1/191، عن أبي جعفر مرسلاً بلفظ: "بعثت إلى الأحمر والأسود". وأخرج الإمام أحمد 3/387، وابن أبي شيبة 5/312، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "والذي نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية لا تسألوهم عن شيء فيخبرونكم بحقّ فتكذبوا به أو بباطل فتصدقوا به، والذي نفسي بيده لو أن موسى عليه السلام كان حيّاً ما وسعه إلاّ أن يتبعني". وقد تقدم تخريجه. (ر: ص 21) .

2 ورد النّصّ في مزمور 80/8، 9، كالآتي:"كرمة من مصر نقلت. طردت أمماً وغرستها. هيأت قدامها فأصَّلت أصولها فملأت الأرض". ولعل المؤلِّف قصد بقوله: "إن النّصّ في التوراة" العهد القديم وكتب الأنبياء. وذلك من باب إطلاق الجزء على الكلّ.

ص: 442

وقد قال المسيح لليهود: "إما أن تكونوا / (1/181/أ) شجرة وثمرتها طيبة، إما أن تكونوا شجرة خبيثة وثمرتها خبيثة؛ لأن من الثمرة تعرف الشجرة"1. هذا تأويله عند بعض أسلافنا. رحمهم الله.

وأنا أقول: يحتمل أن يريد بالحبلة جزيرة العرب وهي الحجاز وما والاه، وقد كانت قبل معبث سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم محمل الشرور ومحط الآثام كالحبلة التي خمَّرتها أم الخبائث فربط عليه السلام مركوبه؛ أي: استقر بها فلم يزايلهاحتى أزال ما بها من الشرك، وأبادما اشتملت عليه من الكفر والإفك، وأحال حالها من عبادةالأوثان إلى عبادةالرحمن كاستحالةالخمر خلاً.

وقد قال بعض أهل العلم: إنهم غيَّروا من كلام يعقوب كلمتين: أحدهما: (جحشه) وإنما هي: مهره. والثانية: (الملك) وإنما هي: الكلّ. وذكر أنه رأى ذلك في نسخة لم تتغير - قال -: وإنما فعلوا ذلك لكي يخرجوا نص يعقوب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قلت: ولا فائدة لهم أيضاً في ذلك، فلعمري لقد كان له عليه السلام [حمار] 2 يسمى يعفور، ومعلوم أنه لا بدَّ من ربطه بالشجر/ (1/181/ب) وغيرها، وخفاء علامة واحدة - لو خفيت - لا يقدح في ظهور بقية الصفات.

وأما قوله: "يرخص بالخمر لباسه"، فذلك كناية عن جهاده الكفار وقتاله في سبيل الله، أسوة سائر الرسل كما صنع إبراهيم وموسى ويوشع وداود، والخمر هو الدم ودليله قول المسيح:"وأشار إلى الخمر: هذا دمي"3. وكأنه

1 متى 7/17-20.

2 في ص (حماراً) والصواب ما أثبته.

3 متى 26/27، 28، مرقص 14/24، لوقا 22/20.

ص: 443

عليه السلام لشجاعته وإقدامه في طاعة ربه يصبغ لباسه بدماء المشركين كما ورد: "أنه حين رجع من بعض غزواته ناول سيفه ابنته فاطمة عليها السلام وقال: يا بنية أزيلي ما عليه فلقد أبلى عن أبيك اليوم"1.

وكيف لا يصفه يعقوب بذلك وقد روي: "أنه عليه السلام حمل في بعض مواقفه سبعين حملة على المشركين"2.

وكذلك قول يعقوب عليه السلام: "يصبغ بعصير العنب رداءه". يعني: يغمس سيفه في دماء الكافرين، والسيف يسمى رداءاً وإزاراً. ولو تصرف متأول في كلام يعقوب فقدّم وأخّر فقال: يرخص الخمر بلباسه، / (1/182/أ) لكان محسناً؛ يعني: يحرم الخمر ويزيل وضرها بتقواه. قال الله تعالى: {وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيرٌ} . [سورة الأعراف، الآية:26] .سمى التقوى لباساً.

وأما قوله: "عيناه أشدُّ سهولة من الخمر". فقد روي في حلاه: صلى الله عليه وسلم أنه كان بعينيه حمرة ظاهرة لا تفارقه3، ويحتمل أن يكون أشار بذلك إلى

1 أخرجه ابن إسحاق معلقاً: (ر: السيرة 3/146)، وعنه الحاكم في مستدركه 3/24 عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم (من غزوة أحد) أعطى فاطمة ابنته سيفه فقال: يا بنية اغلسي عن هذا الدم، فأعطاها عليٌّ سيفه، قال: وهذا فاغسلي عنه دمه، فوالله لقد صدقني اليوم القتال، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لئن كنت صدقت القتال اليوم لقد صدق معك القتال اليوم سهل بن حنيف وسماك بن خرشة أبو دجانة". وقال الحاكم: "حديث صحيح". وسكت عنه الذهبي.

2 لم أقف على تخريجه بهذا النصّ، ولكن ثبت أنه صلى الله عليه وسلم كان من أشجع الناس وأصبرهم وأجلدهم، حتى قال بعض أصحابه: كنا إذا اشتدّ الحرب وحمى الوطيس نتقي برسول الله صلى الله عليه وسلم. (ر: الشمائل ص 110 لابن كثير) .

3 ورد في صفته صلى الله عليه وسلم في حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه أنه كان صلى الله عليه وسلم: "أشكل العينين". أخرجه مسلم 4/1820، وأحمد 5/86، 88.

والشكلة: حمرة في بياض العينين، وهو محمود. والسهلة: حمرة في سواد العين. قاله القاضي وأبو عبيد وجميع أصحاب الغريب. (ر: شرح النووي لصحيح مسلم 15/93) . وقد ورد أيضاً في حديث عليّ رضي الله عنه "أنه كان صلى الله عليه وسلم: "هدب الأشفار مشرب العينين بحمرة". أخرجه الإمام أحمد 1/89.

ص: 444

شدّة حيائه عليه السلام فإنه كان أشدّ حياءً وخفراً من الغذراء في خدرها1. فكان إذا أتى أهله تلفع من شدّة حيائه صلى الله عليه وسلم.

وكان لا [يجابه] 2 أحداً في وجهه بما يكره3، وإن أمضه ما يصدر منه عرَّض، فقال: ما بال قوم يفعلون كذا وكذا4، ومال الرجال نولِّيه مما ولاّنا الله فيفعل كيت وكيت، وإن أقواماً استأذنوني في أمر فلا آذن لهم، وذلك لما طبعه الله عليه من الحياء والخفر والسكينة صلى الله عليه وسلم.

وأما قوله: "وأسنانه أشدُّ / (1/1/2/ب) بياضاً من اللبن". فإن حمل على ظاهره فكذلك كان عليه السلام لكثرة محافظته على سنة السواك5، وقد اختلف الفقهاء في وجوب السواك عليه صلى الله عليه وسلم6.

1 قال تعالى: {إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ

} . [سورة الأحزاب، الآية: 53] . وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشدَّ حياءً من العذراء في خدرها

" الحديث. أخرجه البخاري. (ر: فتح الباري 6/566) ، ومسلم 4/1809، والترمذي في الشمائل ص 283.

2 في ص (كبه) والتصويب من المحقِّق.

3 عن أنس رضي الله عنه أن رجلاً دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه أثر صفرة - وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قَلَّما يواجه رجلاً في وجهه بشيء يكرهه - فلما خرج قال: "لو أمرتم هذا أن يغسل ذا عنه". أخرجه أبو داود 4/250، والترمذي في الشمائل ص 273.

4 عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا بلغه عن الرجل الشيء لم يقل: ما بال فلان يقول؟! ولكن يقول: مابال أقوام يقولون كذاوكذا". أخرجه أبوداود4/250.

5 عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لولا أن أشقّ على أمتي - أو على الناس - لأمرتهم بالسواك مع كلّ صلاة". أخرجه البخاري واللفظ له. (ر: فتح الباري 2/374) . ومسلم 1/220. وعن عائشة رضي الله عنها "أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا دخل بيته بدأ بالسواك". أخرجه مسلم 1/220.

6 عن عبد الله بن حنظلة الغسيل: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يؤمر بالوضوء لكلّ صلاة طاهراً كان أو غير طاهر، فلمَّا شقّ ذلك عليه أمر بالسواك عند كلّ صلاة". أخرجه أبو داود 1/12، وابن خزيمة وابن حبان والحاكم 1/155، والبيهقي في السنن، وذكر ذلك السيوطي في الخصائص 2/397. قال الحاكم:"حديث صحيح، على شرط مسلم، ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي.

ص: 445

وإن تأوّل فالأسنان الأصحاب والأعوان الذين هم أعون النبيّ على تبغيغ أوامر ربه تعالى كاستعانة الإنسان [بالأسنان] 1 على تناول غذائه.

فوصف يعقوب أصحاب نبيّنا رضوان الله عليهم وأهل بيته الأكرمين بصفاء التوحيد ونقاء العقائد عن ظلم التجسيم والتجسيد.

قال الشاعر يرثي سناً سقط له:

وصاحب لا أمل الدهر صحبته يشقي لنفعي ويسعى سعي مجتهد

لم ألقه مذ تصاحبنا فمذ وقعت عيني عليه افترقنا فرقة الأبد

2-

فإن قيل: وفي التوراة ما يدلّ على ما ندين به من صلب المسيح، وهو أن موسى عليه السلام صنع لبني إسرائيل في التيه حية من النحاس، وأمرهم بالنظر إليها.

قال النصارى/ (1/183/أ) :"فهذا تنويه بأن المسيح سيقتل ويصلب؛ لأن موسى محاشى عن العبث، قالوا: وقد كان المسيح يقول لأصحابه: "اذكروا الحية النحاس"2.

فنقول لهم: يا نوكا لو قرأتم ما قبل ذلك لتبيّن لكم غلطكم وسقطكم؛ وذلك أن التوراة تقول: "إن بني إسرائيل شكوا إلى - موسى وهم في التيه - من

1 في ص (بالإنسان) وهو خطأ. والتصويب من المحقّق لموافقة السياق. والله أعلم.

2 يوحنا 3/14، 15، ونصّه:"وكما رفع موسى الحية في البرية هكذا ينبغي أن يرفع ابن الإنسان لكي لا يهلك كلّ مَن يؤمن به، بل تكون له الحية الأبدية". ويقول مؤلفو قاموس الكتاب تعليقاً على النّصّ: "بأنه عندما تنبأ الرّبّ يسوع بصلبه، شرح معناه وأهميته الروحية بمقارنته برفع الحية النحاسية". اهـ.

قلت: هذا موافق لما نقله المؤلِّف عن النصارى في زمنه. وهو دليل على سخافة عقولهم، وضعف تفكيرهم، وتمسكهم بأوهى الحجج وأضعفها لإثبات باطلهم وسخافاتهم.

ص: 446

حيات تلدغهم، فأهلكت منهم خلقاً كثيراً، فأمرهم أن يصنعوا حية من نحاس ثم يرفعوها على خشبة. وقال: من لدغته حية فليأتِ ولينظر إلى تلك فيبرأ"1.

وإنما رفعوها لكبر العسكر حتى تسهل رؤيتها ولا تتعذر مشاهدتها. وأما ما ذكرته النصارى من أن ذلك تنويه بصلب المسيح فكذب على نبيّ الله موسى، وكيف يُعدَّى ذلك إلى موسى عليه السلام وقد شحن توراته بتوحيد الله وتنْزِيهه وإفراده بالربوبية والألوهية، ثم أمر بقتل المصورين للصور، ونهى عن إتيان العرافين والمنجمين ومتحلمي الأحلام، وحرص على قتل من دعا إلى عبادة غير الله وأشرك مع الله / (1/183/ب) إلهاً آخر كما [ذكرت] 2 التوراة. وقال عليه السلام:"من [دعاك] 3 إلى عبادة آلهة أخرى فاقتله واقتل من استجاب له من الواحد والجماعة والبلدة، ولا تحننوا عليهم، ولا ترحموهم، وأزيلوا الشرّ من بينكم، فالله ربّكم واحد هو إله جبار عظيم مرهوب إله غيور هو نار محرقة"4.

فمن زعم من النصارى أن توراة موسى فيها ما يعضد باطله أكذبناه بما نقلناه من التوراة.

قال المؤلِّف: يقال للنصارى هَبْ أن ذلك كان تنويهاً بصلب، فبم تنكرون على من يزعم أن ذلك المصلوب إنما هو الشّبه - الذي قدمنا ذكره - وبيانه أن المسيح أعلى قدراً من الشّبه؛ لأنه: عندنا نبيّ وعندكم معشر النصارى إله، فلو كانت الحية تنويهاً بالمسيح لاتّخذوها من الذهب أو من شيء أعلى من الذهب

1 سفر العدد 21/8، 9.

2 بياض في الأصل، والمثبت من المحقِّق حسب سياق الجملة. والله أعلم.

3 بياض في الأصل، والمثبت من نصّ التوراة.

4 سفر التثنية 13/6-11.

ص: 447

ليكون ذلك تنويهاً بأن المصلوب يكون أعلى من من كلّ شيء وأفضل كفضل الذهب على غيره من المنطبعات، فلما اتّخذوها من النحاس منع / (1/184/أ) قدرتهم على الذهب دلّ ذلك على أن المصلوب لا يكون إلاّ مفضولاً.

وقد شهدت التوراة بأن موسى عليه السلام حلَّى قبة الزمان التي بناها للرّبّ بقدر كبير من الذهب1 فيا لله العجب تُبنى قبة للرّبّ وتُحَلى بقناطير من الذهب! فكيف تتّخذ الحية من النحاس وهي تنويه بالرّبّ نفسه؟! هذا ما لا يجمل ولا يحسن بمثل موسى وصلحاء أصحابه، ففضل ما بين الذهب والنحاس كفضل ما بين المسيح والشّبه، ثم النحاس يسمى بأرض الشام المجاورة لأرض التيه شَبَهاً2، فلعل القوم إنما اتّخذوا الحية من الشّبه لتكون منوِّهة بصلب الشبه وحماية المسيح.

فأعجب - هداك الله - المواطأة بين الاسمين، إذ كلّ واحد منهما يسمى شبهاً.

ثم يقال للنصارى: وكيف استدللتم بنصب الحية النحاس على صلب المسيح وهي على النقيض منه، وذلك أن تلك حين صارت على جذعها صارت سبباً للشفاء ووسيلة إلى العافية من البلاء؛ فمن رآها خلص من علته وعوفي من لدغته / (1/184/ب) لساعته، فأما يسوع فحين صار على جذعه صار سبباً للهلاك ووسيلة إلى الاشتراك، فلو أن يسوع حين صار على الخشبة أطبق اليهود على الإيمان وخلصوا من لدغات الكفر والعصيان لكان ذلك موضع شبهة،

1 سفر الخروج الإصحاحات (35، 36، 37، 38، 39) .

2 ورد في القاموس المحيط (ص 1610)، أن الشَّبَه والشَّبَهان - محركتين ـ: النحاس الأصفر. ويكسر، وجمعه: أَشْبَاه. اهـ.

ص: 448

فأما والأمر على العكس والنقيض مما تذهبون إليه فلا وجه لاستدلالكم بذلك وهي على نقيض مقصودكم، فقد صار ما انتزعوه استدلالاً على الباطل دليلاً على الحقّ1. ولله الحمد والمنة.

/ (2/2/ب) قال مؤلِّفه - عفا الله عنه -: ولنَزدهم2 زيادات أخر من التوراة والإنجيل تدل على وقوع الشبه والاشتباه ليتأنسوا به ولا يحيلونه، ومن ذلك:"أن الله تعالى غَيَّر صورة يد موسى عن لونها الأوّل ثم أعادها إلى لونها"3. وفعله سبحانه ذلك تدريجاً لهم وتأنيساً على الاشتباه قبل وقوعه، إذ النفوس تبتدر4 إلى إنكار ما لم يتقدم معرفته، فكما جاز في القدرة الإلهية تغير لون يد موسى حتى صارت تلمع كالثلج فكذلك وجه المسيح. ولهذا نصّ الإنجيل: "أنه قبل الفزع بقليل صعد إلى جبل بالجليل ونزل إليه موسى وإليا، قال التلاميذ: فنظرنا فإذا منظر وجه المسيح قد تغيَّر وتغيّرت ثيابه فصارت تلمع كالبرق"5. وهذا الموضع إن وفق الله له ذا لبّ من النصارى اضطره إلى ترك القول بقتل المسيح وأحال ما كان من قتل وصلب على شبه المسيح.

ومن ذلك: أن الله تعالى أمر موسى / (2/3/أ) فضرب البحر بعصاه فتحول دماً عبيطاً، فكان المصريون يشربونه دماً، والإسرائيليون6 يشربونه ماء صافياً.

1 ورد في أخره العبارة الآتية: "تَمَّ الجزء الأوّل يتلوه الجزء الثاني من كتاب: (تخجيل مَنْ حرَّف الإنجيل) ، ووافق الفارغ منه في يوم السبت في شهر صفر الثالث من سنة سبع وثلاثين وستمائة".

2 في م: ولنَزدرهم.

3 سفر الخروج 4/6، 7.

4 في م: تتبدر.

5 متى /1-8، مرقس 9/2-8، لوقا 9/28-36.

6 سفر الخروج 7/19-24.

ص: 449

ومن ذلك: أن مريم ابنة عمران - أخت موسى - تغيرت على موسى في أمر من الأمور، فأمرهما الله أن يصعدا إلى قبة الزمان، فكلَّم الله مريم وتوعدها في حقّ موسى، فلما خرجت مريم من القبة إذا هي بيضاء برصاء من قرنها إلى قدمها، فرقّ لها هارون فقال لموسى: يا سيد اشفها. فدعا لها، فأمرها الله أن تخرج خارج العسكر وتقيم سبعة ثم تدخل، ففعلت، فزال عنها البرص1.

ومن ذلك: أن عصا موسى كانت من شجرة جوز فبينما هي خشبة يابسة لا نبات بها إذ صارت شجرة ذات أفنان وعرشت وأثمرت جوزاً، وبينما هي كذلك صارت حية ذات روح تسعى وتأكل ما وجدت، وبينما هي كذلك إذ عادت إلى حالها الأوّل2.

ومن ذلك: أن امرأة لوط لما التفتت تنظر ما نزل من العذاب بقومها صارت لوقتها نصبة ملح3، وكلّ ذلك تأنيس بشبه4 / (2/3/ب) سيتّفق في المستقبل، هذا ما شهد به المنقول من التوراة.

فأما الإنجيل فقد شهد بأن الماء تحول خمراً5، وشهد سفر الملوك

بأن الماء انقلب زيتاً6.

فأما ما يشاهد من بديع تدبير الله وعجيب فعله؛ ما نرى الرجلين قد استويا في الحلى والصورة حتى لا يكاد الإنسان يفرق بينهما.

1 سفر العدد 12/1-15.

2 سفر العدد 17/8-10، والنصّ يفيد أن عصا هارون هي التي أصبحت شجرة وأثمرت لوزاً وليست عصا موسى.

3 سفر التكوين 19/26.

4 في م [تشبه] .

5 يوحنا 2/1-11.

6 سفر الملوك الثاني 4/3-7.

ص: 450

وقد تتاعقب الألوان على الشجر والثمر، فترى الثمرة الواحدة بينما هي في غاية البياض إذ عادت في غاية الاخضرار، وبينمنا هي كذلك إذ صارت صفراء ثم حمراء ثم سوداء وكذلك أحوالها في الطعوم وتنقلها من المرارة إلى الغضوضة إلى الحلاوة وذلك في الزمن اليسير.

وقد نرى الشخص أزهر اللون نقي البشرة في حال الصبوة ثم نراه في حال الشيخوخة فلا تكاد تبين1 صورته، وهذا الشَّيْب فإنه يصبغ الأسود الحالك أبيضاً يَقَقَا2 وهذا من أعجب أنواع الصباغ، ولا عجب من حسن ما الله خالق، وقد قال شاعرهم في هذا المعنى:

أنكرتني إذ رأت شيبي بدا ثم قالت ما الذي بعدي عراه

قلت هذا صبغة الله ومن يصبغ الأسود مبيضاً سواه

/ (2/4/أ) وكم مَنْ قد اتّفق له هم وغم وركوب هول في بر أو بحر فبات غربيباً فأصبح أشيباً ولقد خُبرِّت3 أن عندنا بأرض مصر حيواناً يعرف بالحرباء يتلون في الساعة الواحدة عدة ألوان، وهذه أمور شاهدة بأن الشبه غير مستحيل في نفسه، وإذا كان جائزاً فقد أخبر الصادق بوقوعه فلا التفات بعد ذلك إلى جهلة4 النصارى في ردِّه.

1 في م: [تثبت] .

2 اليقق: القطن. وأبيض يقق شديد البياض. (ر: القاموس ص: 1201) .

3 في م: أخبرت.

4 في م: جهة.

ص: 451

وإن قالوا: لا ننكر جوازه1 وإنه غير مستحيل في نفسه غير أن المسيح قال لنا: إنه سيناله من اليهود قتل وغلب وآلام كثيرة، فوقع الأمر كما أخبر.

قلنا لهم: أين قال ذلك في الإنجيل أم في غيره؟! فإن عزوه إلى غير الإنجيل أكذبهم جملة الإنجيل إذ هو مقصور على أخبار المسيح من حين ولادته إلى حين رفعه، وليس يؤثر عنه شيء خارج عما في الإنجيل، وإن عزوه إلى الإنجيل افتضحوا؛ إذ اللفظ في الإنجيل أقربه إلى مقصودهم قول المسيح:"إن ابن الإنسان سيناله من اليهود كيت وكيت"2.

وقد بينا غير مرة أن ابن الإنسان المذكور إنما هو الشبه الذي قتل وصلب، والدليل على ذلك أن النصارى إلى يومنا / (2/4/ب) هذا ليس فيهم من إذا روى شيئاً عن المسيح قال: قال المسيح ابن الإنسان، ولا إذا أقسم قسما قال: وحقّ المسيح ابن الإنسان، ولا إذا دعا وابتهل سأل المسيح ابن الإنسان، ولكن ديدنه وهجيره أن يقول: قال المسيح ابن الله، وحقّ المسيح ابن الله.

فإذاً دعواهم أن المسيح قال: إني سأُقتل وأُصلب دعوى لا حقيقة لها فاعملوا ترشدوا.

3-

وانتزع النصارى من التوراة تحريم الأعمال في السبت: وقالوا: إنما كان ذلك تنويهاً وتنبيهاً للناس على آلام المسيح، وذلك لأنه صلب يوم الجمعة ودُفن ليلة السبت وقام يوم الأحد باكراً، فنبَّهت التوراة على أنه يكون يوم السبت كله مَيِّتاً معطلاً من الأعمال.

1 في م: [لا شك بوازه] .

2 مرقس 8/31.

ص: 452

ونحن - يرحمك مولاك - قد أريناك1 بعون خالقك حماية الله عبده المسيح وصونه عن كيد أعدائه، وإلقاء شبهه على رجل قد حضر أجله ورضي الله له الشهادة فلا معنى للإعادة، غير أن النصارى يتعلقون في أباطيلهم بأدنى سبب كالغريق في اللجة يتعلق بما لا ينجيه، وإلاّ فأي مناسبة بين خلق الله تعالى العالم في ستة أيام وإنجاز / (2/5/أ) المخلوقات في اليوم السابع وبين إهانة رجل وقتله وصفعه وصلبه في ذلك اليوم؟! والفراغ من الأعمال غاية الكمال، والصفع والصلب والقتل غاية الذلّ والنقص ولا مناسبة بينهما البتة.

وإنما حرَّم الله على بني إسرائيل العمل يوم السبت2 ليتذكروا ما كانوا فيه من السّخر والتعب والنصب عند فرعون، ويحمدوا الله على ما أراحم من جور الفراعنة، فرسم لهم يوماً واحداً في الأسبوع يكون لهم تذكرة كيلا يتقادم الزمان فينسون حسن صنيع الله عندهم فتلزمهم العقوبة أو نقص المثوبة بقلة الشكر على ما اتّخذ عندهم من النعمة.

فيقولون: لو أن الله وضع لنا علماً نعلم3 به ما جرى لسلفنا لم نقصر في الشكر، فأزاح الله عللهم وعين لهم اليوم الذي تمت فيه خلائق الله ومصنوعاته، فهذه هي العلة في العطلة من الأعمال يوم السبت لا كما انتزع النصارى.

على أنا لو تركناهم وما انتزعوا لم يكن فيه دلالة إلاّ على قتل الشبه الذي فرغنا من ذكره.

1 في م: [أرينا] .

2 سفر الخروج 20/8، 21/12-18.

3 في م: [نعمل] .

ص: 453

وكذلك / (2/5/ب) أمره تعالى برجم الزاني واللوطي تذكيراً لهم ولنا ما فعل بأهل سدوم وعامورا1 ليحصل الانزجار عن مثل فعلهم، ال الله تعالى:{وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِين بِبَعيِدٍ} . [سورة هود، الآية: 83] .

وكذلك أمره سبحانه بالاغتسال من الجنابات والأحداث تذكيراً لهم ما صنع بفرعون وقومه، وكيف أغرقهم في البحر وفجَّر لهم المياه من الصخر القاسي. وكذلك أمرهم باتّخاذ الأواني من الذهب في بيت مقدسهم إذكاراً لهم بالذهب الذي خرجوا به من مصر وكيف سلبه من الفراعنة ومنحهم2 إيّاه مع عزِّ المسلوب وضعف السالب.

وكذلك أمره إيّاهم بأن يفدوا أولادهم بذبيحة كلّ على قدر طوقه إذكاراً لهم فعل إبراهيم حين أراد ذبح ولده3 ليتأسوا به في الرضى والتسليم لله عزوجل فيعظم مثوبتهم ويجزل أجرهم.

وكذلك أمره سبحانه بالقرابين والأضاحي تذكرة فعل ابْنَيْ آدم وسخاء نفس هابيل وشح أخيه قابين4، لكيف البخيل عن بخله ويجود السخي في سخاه.

وكذلك أمر إياهم أن يقربوا / (2/6/أ) عن أبكارهم إذكاراً لهم ما صنعه الله بأبكار فرعون وقومه وكيف قتل في ليلة واحدة فأبكار الناس والحيوان من الملك إلى الأتوني5.

1 تكوين 19/24.

2 في م: بومنحتهم] .

3 ورد ذلك في سفر التكوين 22/1-13.

4 ورد ذلك في سفر التكوين 4/2-7.

5 ورد ذلك في سفر الخروج 13/13-16.

ص: 454

وكذلك رش الكهنة الدم على المذبح إذكاراً لهم الدم الذي أرسل على المصريين والنعمة على بني إسرائيل1، إذ يشرب هؤلاء الماء العذب وهؤلاء الدم العبيط من معين واحد ومجرى واحد.

وكذلك أمره لهم بعيد [المظال] 2 إذكاراً لهم تظليلهم بالغمام من حرّ الشمس، وقد ذكرت التوراة العلة في ذلك، فقال الله تعالى:"إن سألك ابنك عداً وبعد غد، وقال لك: أيّ شيء هذا؟ فقل له: بيد منيعة قوية أخرجنا قومنا من مصر"3.

وهذه المواضع تبطل على النصارى ما احتجوا به من العطلة في السبت على قتل المسيح وصلبه.

4-

وانتزع النصارى من التوراة قوله: "تعالوا نخلق بشراً4 يشبهنا ومثالنا"5. وقوله أيضاً فيها: "تعالوا ننْزِل نبلبل ألس الناس"6. قالوا: فهذا دليلنا على الثالوث وإنما خاطب بذلك الروح / (2/6/ب) والابن، وقوله:"شبهنا ومثالنا". دليل على التأنس الذي فعله7.

1 سفر الخروج 7/19-24.

2 في ص، م (الظال)، والصواب ما أثبته. عنيد المظال: هو آخر الأعياد السنوية الكبرى، وثاني أعياد الحصاد عند بني إسرائيل، واشتقّ الاسم من عادتهم في أن يسكنوا مظالاً أثناء مدة العيد، ويسمى أيضاً (عيد الجمع)، وكان يقام في الشهر السابع. (سبتمبر - أكتوبر) . (ر: قاموس ص 586، 587) .

3 سفر اللاويين 23/42، 43.

4 في م: [بشر] .

5 تكوين 1/26، والنّصّ كالآتي:"وقال الله: نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا".

6 تكوين 11/7، 9.

7 نقل الإمام ابن تيمية استدلال النصارى بهذا النّصّ: على أن المراد بشبهه ومثاله هو كلمته وروحه (أي: الله - تعالى عما يقولون علوّاً كبيراً -) ثم ذكر ابن تيمية الرّدّ على الشبهة من ستة أوجه منها:

أ- أن الله ليس كمثله شيء، وليس لفظ النّصّ (على مثالنا) .

ب- أنه لا اختصاص للمسيح بما ذكر على كلّ تقدير حقّ وباطل بأيّ تفسير فُسِّر قوله: "سنخلق بشراً على صورتنا شبهنا". لم يخص ذلك المسيح. (ر: الجواب الصحيح 2/231-235) .

ص: 455

والجواب: أن نقول أخطأتهم الطريق وقذفتم بنفوسكم من مكان سحيق، وذلك أن الروح والابن قديمان لا دخول لهما تحت أوامر الآب حتى يأمرهما، وليس قوله لهما بأولى من قولهما له، فمن صَيّر الأب أولى بافتتاح القول منهما؟!

ثم الأب عبارة عن الذات، والروح عبارة عن الحياة، والابن عبارة عن العلم أو النطق، فكيف يخاطب الله علمه وحياته فيقول لهما: تعالوا ننْزل، والصفة على تجردها لا تُخَاطَب ولا تُخاطِب؟!.

فإذا قالوا: فإذا كان لفظ التوراة هكذا وهو صالح للتثليث فما وجه حمله على التوحيد؟

قلنا: هذه النون مشهورة في كلّ لسان وعند كلّ إنسان يطلقها العظماء بينهم والأكابر، وهي بالله أليق، إذ هو العظيم على الحقيقة وكلّ عظيم سواه فهو عبده، ومخترع1 من صنعه.

وقد قال لوقا في إنجيله: "إن ناساً راموا ترتيب الأمور التي نحن بها عارفون كما عهد إلينا أولئك الصفوة"2. فهذا لوقا قد ذكر نفسه3 بلفظ الجمع فبطل ما تخيّله / (2/7/أ) النصارى من ذلك.

وقد قال الله تعالى في الكتاب العزيز: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} . [سورة الحجر، الآية: 9] . {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} 4.

1 في م: [ومخترعا] .

2 لوقا 1/1، 2.

3 في م: [بنفسه] .

4 قال تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ

} . [سورة النساء، الآية: 163] .

ص: 456

ويحتمل أن يكون أمر الملائكة بالنُزول وبخمر طينة آدم وتديرها على هذا الشكل الإنساني كالفعلة1 والعمال الذين يصدرون عن رأي المهندس الحكيم، فلما كملت فخارته نفخ الله في الروح، والخلق عبارة عن التقدير قال الأوّل:

وَلأَنْتَ تَفْري مَا خَلَقْت وبعـ ـضُ القومِ يخلُق ثم لا يَفْري2

هذا كله إن كانت ألفاظ التوراة والإنجيل لم يدخلها التحريف والتصحيف، وهذا الموضع إن لم يمش على ما قلناه وإلاّ صادم بقية نصوص التوراة في استبداد الله تعالى بالخلق والاختراع إذ قال الله في السفر الأوّل منها:"في البدء خلق الله السماء والأرض، فقال الله ليكن كذا ليكن كذا، حتى أكمل سائر مخلوقاته في ستة أيام"3. كلّ ذلك ليس فيه ما يشعر بتثنية ولا تثليث.

فأما قوله: "شبهنا ومثالنا"، فهذا الموضع هو الذي غلط اليهود والنصارى فاعتقدوا أن الله / (2/7/ب)[جسم]4. وأنه مشابه لهذا الهيكل الإنساني، ويتعالى القديم عن مشابهة مخلوقاته {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} . [سورة الشورى، الآية: 11] .

وإنما أراد الله تعالى أن آدم صار يعرف الخير والشّرّ، ولم يرد المثال والشبه الخلقي، وقد فسرته التوراة بعد ذلك بأسطر فقال الله تعالى:"هذا آدم قد صار كأحدنا يعرف الخير والشّرّ"5. والسّرّ في ذلك أن الملك مركوز في خلقه معرفة الخير الشّرّ، والحيوان البهيم خال عن ذلك، وقد كان آدم في بدء أمره

1 في ص: لفعله، والمثبت من نسخة م.

2 ذكر الجوهري في الصحاح 4/1471 ونسبه إلى الشاعر: زهير بن أبي سلمى.

3 سفر التكوين الإصحاح الأوّل.

4 في ص (جسما) ، والصواب ما أثبتّه.

5 تكوين 3/22.

ص: 457

[ساذجا] 1 عن معرفة ذلك، فلما تناول الشجرة بدت له سوءته، وعرف ما لم يكن يعرف من الخير والشّرّ.

وإذا كان الله سبحانه2 إنما أراد المماثلة في العلم بالخير والشّرّ بطل قول النصارى إن ذلك [دليل] 3 على التثليث.

وأما قوله: "ننْزِل نبلبل الألسن". فنُزوله نزول أوامره وتجدد أحكامه وهبوط الملائكة بوحيه، وإلاّ فالحركة والتفريغ والاشتغال يستحيل على القديم سبحانه4. وقد رُوي عن سيّدنا رسول الله أنه قال: "ينْزِل ربُّنا إلى السماء الدنيا في كلّ ليلة جمعة / (2/8/أ) فيقول: هل من تائب

" الحديث5.

1 في ص (ساذج) والصواب ما أثبته.

2 في م: زاد: وتعالى.

3 في ص (دليلا) والصواب ما أثبته.

4 في م: زاد: وتعالى.

5 عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ينْزِل ربُّنا تبارك وتعالى كلّ ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الأخير، يقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له". أخرجه البخاري. (ر: فتح الباري 3/29) ، ومسلم 1/521، والإمام أحمد في المسند 2/264، 265.

وقد أجمع سلف الأمة وأئمتها على التصديق بنُزول الله سبحانه وتعالى إلى سماء الدنيا كما ورد في الحديث من غير تشبيه ولا تعطيل ولا تحريف وتكييف. ووصفه بالنُزول كوصفه بسائر الصفات كالاستواء على العرش والإتيان والمجيء. {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} . [سورة الشورى، الآية: 11] .

وأما الشبهة التي أوردها المؤلِّف في أن النُزول يستلزم الانتقال والتفريغ والاشتغال، وذلك من خصائص الأجسام التي تمتنع في حقّ الله عزوجل.

فجوابها أن نقول: إن نُزول الله عزوجل وإتيانه ومجيئه لا يشبه نُزول الخلق وإتيانهم ومجيئهم، فلا يلزمه تبارك وتعالى ما لزمهم، فإن الله عزوجل لا يزال فوق العرش، ولا يخلو العرش منه مع دنوه ونُزوله إلى السماء الدنيا، ولا يكون العرش فوقه وكذلك يوم القيامة كما جاء به الكتاب والسنة.

يقول الإمام ابن القيم: "إن الصفة يلزمها لوازم لنفسها وذاتها، فلا يجوز نفي هذه اللوازم عنها لا في حقّ الرّبّ ولا في حقّ العبد، ويلزمها لوازم من جهة اختصاصها بالعبد، فلا يجوز إثبات تلك اللوازم للرّبّ، ويلزمها لوازم من حيث اختصاصها بالرّبّ. فلا يجوز سلبها عنه ولا إثباتها للعبد". اهـ. (ر: مختصر الصواعق2/485) .

يقول ابن قتيبة: "لا نحتم على النُزول منه (الله) بشيء، ولكنا نبيّن كيف النُزول منا وما تحتمله اللغة من هذا اللفظ - والله أعلم بما أراد - والنُزُول منا يكون بمعنيين:

أحدهما: الانتقال عن مكان إلى مكان كنُزولك من الجبل إلى الحضيض ومن السطح إلى الدار.

والمعنى الآخر: إقبالك على الشيء بالإرادة والنية، وكذلك الهبوط والارتقاء والبلوغ والمصير وأشباه هذا من الكلام". اهـ. مختصراً. (ر: تأويل مختلف الحديث ص 184، 185.

فالإمام ابن قتيبة يبيّن لنا في كلامه ما تحتمله اللغة من معنى النُزُول الحقيقي بالنسبة للخلق، فعلى المعنى الثاني الذي ذكره ليس فيه انتقال جسم - وهو لازم على المعنى الأوّل - فنُزُول البشر يأتي على تلك الصفتين وهو فيهما حقيقة. إذن فلا يحكم على نُزُول الله تعالى أنه يكون كنُزُول خلقه. وأنه يلزم نزوله ما يلزم نُزُولهم، وإن كان هناك اشتراك في اللفظ فإنه لاشتراك في حقيقة الصفة وقيامها بالمتّصف بها، فصفات الله تعالى لائقة بكماله وجلاله وعظمته، ولا يجوز نفيها عنه عزوجل خوفاً من التشبيه؛ لأنه لا مشابهة بين صفات الخالق وصفات المخلوق. كما لا مشابهة بين ذاته المقدسة وذواتهم. ولأن صفات الخلق مناسبة لحالهم وفنائهم وعجزهم وافتقارهم. وصفاته عزوجل مناسبة لعظمته وبقائه وقدرته وغناه سبحانه وتعالى. (للاستزادة ر: شرح أصول اعتقاد أهل السنة اللالكائي 3/434-453، شرح حديث النُزُول للإمام ابن تيمية) .

ص: 458

وقول التوراة في خاتمتها1: "أقبل الله من سيناء، وتجلى من ساعير، وظهر من جبال فاران"2. فنُزُوله سبحانه؛ نزول أوامره، وظهوره ظهور3 شرائعه، وإقباله؛ إسباغ نعمه على خلقه، وهذه كلّها معانٍ معقولة يؤمن بها اللبيب ولا يجريها على الظاهر إلاّ المريب، ونحن فقد بينا نم كتابهم الذي بأيديهم توحيد الباري، واستشهادنا بأقوال المسيح في التوحيد وأقوال تلاميذه، وذلك يبطل تعلقهم بهذه الكلم التي لا دلالة فيها على التثليث.

1 في (خاتمتها) ليست في م.

2 تثنية 33/1-3.

3 ليست في م.

ص: 459

5-

وانتزع النصارى من التوراة: "أن ثلاثة من الملائكة مروا بإبراهيم عليه السلام فسجد لهم وخاطبهم بـ:"يا رب" 1، قالوا: فهذا إبراهيم يعتقد التثليث الذي نحن نقول به2.

فيقال لهم: غلطتم أيّها القوم غلطاً عظيماً، وحدتم عن صوب الصواب، وأشكل عليكم غير المشكل، وذلك أن التوراة تقول في السفر الأوّل منها:"إن الله سبحانه كان متجلياً لإبراهيم قبل رؤيته الملائكة الثلاثة"3. فقوله: "يا رب"، خطاب4 لله وحده. ويؤيد ما قلته قول / (2/8/ب) التوراة: "ومضى الملائكة نحو سدوم وبقي إبراهيم قائماً بين يدي الله تعالى يشفع في القوم، ويقول: بخطيئة واحدة تهلك الأبرار مع الفجار، حاشاك من ذلك يا حاكم الأرض أن5يكون هذا من صنيعك"6. فهذا وجه حسن مقبول.

ووجه آخر: وهو أنه يحتمل أن يكون إبراهيم أَضْمَر (يا رسل رب)، والإضمار في التوراة كثير جداً:"كقول الملك لهاجر رآها ومعها ولدها إسماعيل: شُدِّي يديك بهذا الغلام فإني سأكثر نسله كثيراً"7. فأضمر الملك: "يقول لك الله: إني سأكثر نسل ولدك". إذ الملك لا يقدر على ذلك، وهو صادق لا يكذب.

1 ورد النّصّ في تكوين 18/2، 3، كالآتي: "وسجد إلى الأرض وقال: يا سيد

"

2 نقل ذلك عنهم أيضاً الإمام ابن حزم في كتابه: (الفصل في الملل والنحل 1/220)، وقال:"وقد رأيت في بعض كتب النصارى الاحتجاج بهذه القضية في إثبات التثليث". اهـ.

3 تكوين 12/7، 18/1.

4 في م: [خطابا] .

5 في م: (أن) ساقطة.

6 تكوين 18/22-25.

7 تكوين 21/17، 18.

ص: 460

وكذلك قول التوراة في هذا السفر: "إبراهيم، إبراهيم لا تذبحن الغلام، فقد علمت أنك تخاف الله حين لم تمنعني ابنك وحيدك"1. فأضمر "قال الله"؛ لأن إبراهيم لم يقصد بذبح ولده التقرب إلى الملك، ولم يكذب في قوله. وإذ ثبت أن إبراهيم إنما خاطب بذلك الله؛ وسجد له؛ بطل انتزاع النصارى لذلك واستشهادهم به.

على أنا نقول: لو ثبت أن إبراهيم خاطب الملائكة وسجد لهم لم يلزم منه / (2/9/أ) ما انتحله النصارى من عبادة الثالوث؛ لأن قصد الجماعة الكثيرة2 بلفظ الواحد هو لسان القوم كان في ذلك الزمان، وشاهده من التوراة قوله لبني إسرائيل:"وتعملون للرّبّ إلهكم ليبارك في طعامكم وشرابكم، ويدفع الآلام عن بيوتكم، ولا يجعل عاقراً في أرضكم، وأرسل هيبتي بين يديك، وأقاتل عنك كلّ من تذهب إليه، وأجعل أعداءك خاضعة بين يديك"3. وهذا كما ترى مخاطبة الجمع الكثير بلفظ الواحد، وفي التوراة من هذا الجنس كثير؛ كقوله لبني إسرائيل: "إنكم تعرفون أنفس التواينة؛ لأنكم كنتم تواينة بأرض مصر، ازرع أرضك ستّ سنين ودعها في السابعة"4.

وشاهد من المزامير لداود: "اسمع يا قوم، أقول لكم يا إسرائيل: أنا الله ربّك"5. وشاهده من الإنجيل: "لا تقابلوا الشّرّ بالشّرّ، ولكن من لطمك على خدك الأيمن فحول له الآخر، ومن رام أخذ ثوبك فألق عليه رداءك"6.

1 تكوين 22/11، 12.

2 في م: [الكبيرة] .

3 خروج 23/25-27.

4 ورد النّصّ في سفر الخروج 23/9/11، كالآتي:"ولا تضايق الغريب فإنكم عارفون نفس الغريب، لأنكم كنتم غرباء في أرض مصر، وستّ سنين تزرع أرضك وتجمع غلتها وأما في السابعة فتريحها".

5 مزمور 81/8-10.

6 متى 5/39، 40.

ص: 461

وفي الإنجيل: "لا تصنعوا بِرّكم قُدَّام الناس لتراؤوا لهم فيحبط أجركم؛ لكن إذا صنعت رحمة فلا تُصوّت/ (2/9/ب) قدامك بالبوق كما يفعل المراؤون في المحافل والأسواق لكي يحمدهم الناس"1.وذلك في كتبهم كثير. فلو كان خطاب إبراهيم للثلاثة بلفظ واحد يدل على التثليث؛ فهذه كتبهم تخاطب الجموع الكثيرة بلفظ الواحد فيلزم منه إفساد التثليث.

وأما قوله: "يا ربّ" فقد قدمنا أن لغة القوم تجيز ذلك، وأنهم يخطابون العظيم القدر الرفيع المنْزلة ولا يستنكر ذلك منهم، وقد قال زكريا عليه السلام:"قال لي الملك: ما تدري ما هذا؟ قلت: لا يا رب"2.

ورأى يوشع رجلاً في يده السيف مصلتاً؛ فذهب إليه فقال: "أَمِنَّا أنت أم من عدونا؟ "، فقال: أنا رئيس جند الله3. فسجد يوشع. وقال: أَيُّ شيء يقول الرّبّ لعبد؟ فقال: اخلع نعليك فإن الموضع الذي أنت فيه مقدس"4.

وهذا في كتب القوم كثير يخاطبون به أكابرهم وعظماءهم، ولما كان لفظ الرّبّ يطلقونه على غير الله تجوزاً وتوسعاً، احتاجوا إلى لفظ التأكيد والتكرار عند إرادة الرّبّ الحقيقي. فقيل لهم في التوراة والكتب العتيقة:"اعلموا / (2/10/أ) أن الله ربّكم وإلهكم وخالقكم ورازقكم". حتى يرتفع الاشتراك بين المجاز والحقيقة. وقال سبحانه في التوراة لبني إسرائيل: "اختنوا قلفة قلوبكم ولا

1 متى 6/1، 2.

2 ورد النّصّ في سفر زكريا 4/5 كالآتي: "فأجاب الملاك الذي كلمني وقال لي: أما تعلم ما هذه؟ فقلت: لا يا سيدي".

3 في م: [الرب] .

4 سفر يشوع 5/13-15.

ص: 462

تقسوا رقابكم، الله ربّكم هو إله الآلهة وربّ الأرباب، إله عظيم مرهوب جبار، لا يرتشي ولا يحابي، وينصف الأيتام والأرامل الذين يقبلون إليه"1.

وقد ذكرنا أن السجود كان سلام القوم على أكابرهم وتحيتهم لعظمائهم، فقد سجد يوشع للملك، والتوراة تشهد بأن إبراهيم ولوطاً وإخوة يوسف وأولاده قد فعلوا ذلك، وذلك مذكور مشهور2.

قال مؤلِّفه-عفا الله عنه-في هذاالفصل من التوراةمعانٍ رديَّة فتأمل:

منها قولهم: "إن الله قال لإبراهيم: لقد وصل إلى إثم سدوم وعامورا فقلت انزل الآن فانظر هل صنعوا وأثموا كما بلغني وإلاّ عرفت ذلك"3. فإن فيه نسبة الباري إلى عدم العلم بالمغيبات، ونسبة الملائكة إلى عدم الصدق وأنهم في موضع تهمة ومحل ظنه.

والموضع / (2/10/ب) الآخر قولهم: "إن الملائكة أكلت الطعام عند إبراهيم ولوط، فنقلوا عن إبراهيم أنه أطعمهم خبز ملة، وصنع لهم عجلاً سميناً، وساقهم لبناً وسمناً، وأن لوطاً أطعمهم فطيراً"4. هذا وأهل الكتاب ينكرون قول أهل الإسلام إن أهل الجنة يغتذون بالطعام والشراب، ويقولون: لا طعام في الجنة ولا شراب ولا نكاح؛ بل يكون حالهم كحال الملائكة لا يأكلون ولا يشربون وهذه غفلة عظيمة. وقد قال تعالى في شأن الملائكة في هذه القصة: {فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُم لَا تَصِلُ إِلَيهِ نَكِرَهم} . [سورة هود، الآية: 70] . وذلك كناية عن ترك الأكل ويشبه أن يكونوا أمسكوا5 طعام إبراهيم وباركوا عليه. وتقدموا إليه بإطعامه أبناء السبيل وذوي الحاجة.

1 تثنية 10/16-18.

2 ر: ص 174.

3 تكوين 18/20-21.

4 تكوين 18/6-8.

5 في م: مسوا.

ص: 463

6-

وانتزع النصارى من التوراة قولها: "وأهبط الرّبّ على سدوم وعامورا ناراً وكبريتاً من بين يدي الرّبّ من السماء"1. فزعموا أن تكرار "الرّبّ" مرتين دليل لهم على اقنومين2، وأن الله أَبْهَم ذكر [الأقنوم] 3 الثالث ووكله إلى استخراج العلماء والفهماء4 / (2/11/أ) لتكثر أجورهم وتجزل مثوبتهم بالبحث والاستنباط.

والجواب عن ذلك: أنه سبحانه5 إنما كرر لفظة الرّبّ للتأكيد ليُعْلِم عباده أنه هو المتولي عذاب الظالمين، وهذا موجود في كلّ لغة عند إرادة التأكيد وهو كقول القائل: نعوذ بالله من غضب الله، وكقول التوراة:"وصعد موسى إلى الله وناداه الله: قل لبني إسرائيل وأَعْلِم بني يعقوب قد رأيتم ما صنعت بالمصريين"6.وكررالله مرتين وكرر يعقوب والمعنى واحد.

وقد قال أشعيا في نبوته: "إن الرّبّ رحم7 يعقوب ونجى إسرائيل"8. وقال أشعيا أيضاً: "تكلم يا يعقوب وقل يا إسرائيل ولا تخف"9.

وفي التوراة: "قال موسى: يا ربّ الشعب الذين معني ستمائة ألف، وأنت قلت إنك تطعمهم لحماً شهراً كاملاً، فلو ذُبح لهؤلاء أنعام الأرض وثيرانها أو

1 تكوين 19/24.

2 نقل الإمام ابن تيمية هذا الاستدلال الفاسد من النصارى. وأورد الرّدّ عليهم من اربعة أوجه. (ر: الجواب الصحيح 2/236، 237) .

3 في ص (القنوم) والصواب ما أثبتّه.

4 في م: (الفقهاء) .

(أنه سبحانه) ليست في م.

6 خروج 19/3، 4.

7 في م: [وهم] .

8 أشعيا 14/1 كالآتي: "لأن الرّبّ سيرحم يعقوب ويختار أيضاً إسرائيل".

9 أشعيا 40/27.

ص: 464

صيد لهم سمك البحور أين كان يقع ذلك منهم؟ فقال الرّبّ: يد الرّبّ تكمل الأشياء، والآن ترى هل يتمّ كلامي أم لا؟ "1. فبطل ما تعلقوا به من قوله:"أنزل / (2/11/ب) الرّبّ من بين يدي الرّبّ".

ويقال للنصارى: ما قولكم فيمن يدعي أن الأقانيم خمسة ويستشهد بقول الله تعالى في التوراة: (فدعا بنو إسرائيل، فصعد نحيبهم إلى الله، فرأى الله بَلِيَّتهم فذكر اله ميثاقه مع إبراهيم أبيهم، فنظر الله لهم وعلم الله حالهم واضطرارهم"2. وإن كان قوله: "أهبط الرّبّ على سدوم

". تدل على أقنومين. فهذه الآية من التوراة تدل على خمسة أقانيم. ولعل ثم أيضاً عدة أقانيم وراء هذه الخمسة أظهر منها ما أظهر وأبهم الباقي؛ ليكثر أجر الحكماء والعلماء في استنباط ما أبهم منها.

وكذلك قال داود في مزمور الثامن عشر: "ناموس الرّبّ بلا عَيب، شهادة الرّبّ صادقة، أمر الرّبّ مستقيم، ووصية الرّبّ تدبر العيون، خشية الرّبّ زكية، أحكام الرّبّ عادلة"3. فهذا المزمور قد كرر (الرّبّ) ست مرات، أفتقول النصارى إن الأقانيم ستة؟! فبطل ما ادّعوه في قوله: "أنْزله الرّبّ على سدوم) . ونُزِّل ذلك منْزلة قوله: بسم الله الرحمن الرحيم، ولا فرق في التكرار والتأكيد / (2/12/أ) بين أن يأتي بالاسم الواحد مرتين وبين المغايرة بين الاسمين والمعنى واحد.

7-

فإن قيل: دليلنا على ربوبية المسيح أنه أحيا الميّت، وأبرأ الأكمه وطهَّر الأبصر، ومشى على الماء، وصعد السماء، وحوَّل الماء خمراً، وكثَّر الطعام القليل، وأقام الز َمِن، وحمته الملائكة، وسترته الغمامة، وأخرج الشياطين من الآدميين.

1 سفر العدد 11/21-23.

2 خروج 2/23-25.

3 مزمور 19/7-9.

ص: 465

والجواب: أنه لم يُسلَّم لكم هذه الدعاوى سوى هذه الأمة البارة وهي أمة محمّد صلى الله عليه وسلم، فلولا محمّد عليه السلام شهد لأخيه عيسى بالرسالة والنبوة لما عَرَّج أحد اليوم على أقوالكم ولا وثق بروايتكم، وإلاّ فما بال بني إسرائيل على كثرتهم لم يصدقوكم بما تنقلون؟! هذا وأنتم تنقلون عن أمور محسوسة إذا وقعت لم تكد تخفى.

فإن قالوا: إن اليهود لعداوتهم لنا تمالؤوا على ستر هذه الخوارق بغياً وحسداً.

قلنا لهم: فما بال من عدا اليهود من الأمم والطوائف كالفرس والديلم والترك والهنود والصين لم يصدقوكم على ذلك ويتّفقوا1 على دينكم ويتابعوكم على معتقدكم / (2/12/ب) وقد أَرَّخَ الناس أخبار العالم وحوادثه ودَّنوا في كتبهم عجائبه؟!.

فما بال العالم يُكذبكم ويقولون: إن يسوعكم لم يحي مَيِّتاً قط، ولا أقام زمناً ألبتة، ولا طَهَّر أبرص أصلاً. وإن جميع ما تنقلونه من ذلك كذب ومين وإفك واختلاق لا أصل له ولا صحة. فلولا محمّد رسول الله صلى الله عليه وسلم شهد بصدق أخيه المسيح، وأخبر أنه أحيا الميّت، وأبرأ الأكمه والأبرص، وخلق من الطين كهيئة الطير بإذن الله - لما عَرَّج أحد على أمثالكم وأشباهكم.

فأما بقية الآيات التي تدعونها فإن ثبت أن نبيّنا صلى الله عليه وسلم أخبرنا بها أو أخبرنا صادق آخر من الأنبياء المتقدمين شيء منها سمعناه وآمنا به وصدقناه وكان عندنا عَلَماً من أعلام نبوته عليه السلام، فأما أنتم فإنا لا نصدقكم فيما تنقلون عن الأنبياء بعد وقوفنا على تخليطكم في منقولكم، وفساد عقولكم وقبولها لكلّ مستحيل، ألستم الذين تنقلون عن يوحنا الإنجيلي: "أن

1 في م: [وتصفقوا] .

ص: 466

كلمة الله التي هي علمه صارت لحماً وشعراً وظفراً؟ " ألستم الذين تنقلون عن أفريم:"أن اليدين اللتين خمرت طينة آدم سُمِّرت بالمسامير على/ (2/13/أ) الصليب، والشِّبْر التي مسحت السماوات عُلِّقت على خشبة، وأن من لم يقل إن مريم ولدت ربّها إلهها فهو محروم؟! "1.

ألستم الذين زعمتم أنّ لوطاً وقع على ابنتيه فأحبلهما وأولدهما2؟!، وأنّ رؤبيل بكر يعقوب وقع على سُرِيَّة أبيه وفجر بها؟! 3، وأنّ يهوذا وقع على امرأة ابنه؟! 4، وأنّ دينا ابنة يعقوب افترعت وأزيلت بكارتها؟!! 5.

وصيَّرتم ذلك قرآناً يتلى في بيِّعكم وكنائسكم بحضرة جموعكم، ألستم الذين زعمتم أن لله الخالق الباري ابناً، وأنه أرسل أنبياء فقهروا وغلبوا وظهر عليهم الشيطان وقل جدهم وقهر سلطانهم. واستولى على ملك الله، فاحتاج الله أن أرسل ابنه ذلك إلى الأرض. فولج فوائد امرأة من خلقه وأقام برحمها تسعة أشهر، ثم خرج من فرجها طفلاً، وبقي يتردد بين اليهود يدعوهم، وأن الشيطان قهره وأخرجه إلى البرية وسحبه من مكان إلى مكان ودعاه إلى أن يسجد له، فلما أتى عليه هذا الابن سلط عليه شرذمة من أَخس6 جنده وأدبر أعوانه؛ وهم اليهود فأخذوه وصفعوه / (2/13/ب) وصلبوه وأغضبوا والده وأثكلوه؟! وإذا كان هذا نقلكم فأيّ عاقل بعدها يسكن إليكم أو يعول في أمر عليكم؟!

1 نقل ذلك عن النصارى القاضي عبد الجبار المعتزلي، في كتابه:(تثبيت دلائل النبوة ص 104) . والإمام ابن القيم في: (هداية الحياري، ص 269) .

2 تكوين 19/30-38.

3 تكوين 35/22.

4 تكوين 19/12-30.

5 تكوين 34/1-3.

6 في م: [أحسن] .

ص: 467

فأما إحياء الميّت1 فقد حكينا أن إلياس أحيا ابن الأرملة2، وأن اليسع أحيا مَيِّتين [واحداً] 3 في حال4 حياته وآخر بعد وفاته5، وأن حزقيال أحيا الذين قتلهم بختنصر، وكانوا ألوفاً من الناس، ولهم من يوم قتلوا [نَيِّف وأربعون] 6 سنة، فقال الله لحزقيال: تنبأ على هذه العظام حتى أحييها لك7، وقد فعل قبر اليسع8 أعجب من فعل المسيح؛ لأن قوماً حملوا جنازة إلى الجبال فرأوا9 عَدُوّاً، فخافوا وطرحوا الميت عن رقابهم وابتدروا فزعه، فقام الميت، وجاء يمشي حتى دخل المدينة، فنظروا فإذا هم قد ألقوه على قبر نبي الله اليسع، وفعل حزقيال أبدع من فعل المسيح، وفعل موسى أغرب من فعله؛ إذ قلب الخشبة لها عينان تبصر بهما10، وأخرج من الرمل11 قملاً يسعى حتى ملأ قياطن فرعون وأرض مصر، وهذا أعجب وأغرب من فعل المسيح.

وأما إبراء الأكمه من بني آدم: فلا شكّ أنّها من الآيات الباهرة أيضاً، وهو يلحق بإحياء الميّت؛ / (2/14/أ) لأن ذاك أحيا عضواً كان ميّتاً فأشبه إحياء الإنسان جملة، غير أن آية موسى12 أغرب عند العقلاء منهم. وذلك أن صنعه عينين

1 ورد إحياء عيسى بن الأرملة في إنجيل يوحنا7/11-17، وإحياء لعازر11/1-46.

2 سفر الملوك الأوّل 17/17-24.

3 في ص (واحد) والصواب ما أثبتّه.

4 سفر الملوك الثاني 4/18-37.

5 سفر الملوك الثاني 13/20، 21.

6 في ص (نيفاً وأربعين) والصواب ما أثبتّه.

7 سفر حزقيال 37/1-10.

8 في م: [اليست] .

9 في م: [فغذوا] .

10 خروج 4/2، 7/9-12.

11 خروج 8/16، 17.

12 في م زاد: [عليه السلام] .

ص: 468

لخشبة يابسة جافة لا روح فيها أبدع. وأبدع من فتح عيني آدمي، ثم آية موسى كيف أراد أدارها وحولها، إذ بينما هي خشبة صارت حيواناً يبصر بعينيه ويأكل ما قدر عليه، وبينما هي حيوان إذ عادت شجرة لوز مثمرة، وبينما هي كذلك إذ عادت إلى حالها الأوّل، ثم إنها يستدعي بها الجواد والذباب والقمل والضفادع، ويثير بها الثلوج والمياه والظلمة، ويشق بها البحر، ويُجري بها المياه من الصخر، ويجاهد بها الجبابرة فَتَنْفُذ في كلّ ما عمل بها أعظم نفوذ، وهذا - فاعلموا - لم يكن للمسيح من الآيات مثله، وقد فتح يوسف الصّدّيق عيني أبيه يعقوب عليهما السلام كلّ ذلك يشهد به التوراة.

وأما إبراء الأبرص1: فقد شهدت التوراة أيضاً أن مريم أخت موسى وهارون تكلمت في موسى فبرصت من ساعتا، فأخرجت عن العسكر، فرضي عنها فزال برصها2، ولم يدع عليها في الأوّل ولا / (2/14/ب) دعا لها في الثاني وذرنا عن نعمان الرومي أنه برص فرحل إلى اليسع، واستأذن عليه فلم يأذن له، وقال: قولوا له يذهب إلى الأردن فينغمس فيه سبعاً فإنه يبرأ، ففعل، فبرأ من برصه3.

وأما مشيه على الماء4 فقد حكينا أن إلياس وتلميذه اليسع ق مَشَيَا على نهر الأردن جميعاً5، وكذلك يوشع بن نون قد مشى على الماء بتابوت السكينة هو ومن معه6.

1 متى 8/1-4، مرقس1/40-45، لوقا 5/12-14، 17/11-19.

2 سفر العدد 12/1-10، في سياق طويل.

3 سفر الملوك الثاني الإصحاح (5) .

4 متى 14/25، مرقس 6/48.

5 سفر الملوك الثاني 2/1-8.

6 سفر يشوع الإصحاح (3) .

ص: 469

وأما تحويل الماء خمراً1 فقد حكينا عن سفر الملوك من كتبهم أن إلياس أو اليسع قلب الماء زيتاً؛ فأغنى به بيتاً من الفقراء2. وذلك أعجب من فعل المسيح على الكلّ سلام الله.

وأما تكثيره القليل من الطعام3، فقد حكي في التوراة أن موسى دعا الله فأطعم بني إسرائيل مَنَّاً وسلوى في البرية. وهم ستمائة ألف سوى النساء والصبيان4. وذلك أعجب وأغرب من آية المسيح - علهما السلام -. وقد حكي في سفر الملوك أن إلياس عليه السلام نزل بامرأة أرملة في زمن قحط شديد حتى هلك الناس. ومكثت السماء لم تمطر ثلاث سنين / (2/15/أ) فقال لها: هل عندك من طعام؟ قالت: والله يا نبيّ الله، ما عندي إلاّ كفّ دقيق في قلة لنا. أردت أن أخبزه لطفل صغير. وقد أيقنَّا بالهلاك. فقال عليه السلام: أحضريه ولا خوف عليك. فأحضرته بين يديه. فبارك عليه. فمكث عندها ثلاث سنين وستة أشهر؛ تأكل منه هي وأهلها وجيرانها حتى فرّج الله عن الناس5. ومَن كَثَّر القليل وأدامه أغرب في الإعجاز ممَّن كَثَّر ولم يدمه.

وأما حراسة الملائكة له6، فالتوراة تشهد بأن الملك كان يسير في عمود الغمام أيام بني إسرائيل حتى شقّ بهم البحر وخلّصهم من فرعون7. وذلك أعجب من تخليص المسيح من يد الشيطان.

1 يوحنا 2/1-11.

2 سفر الملوك الثاني 4/1-7.

3 متى 14/15-21، 15/32-38، مرقس 6/34-44، لوقا 9/12-17، يوحنا 6/5-12.

4 سفر الخروج الإصحاح (16) .

5 سفر الملوك الأوّل 17/10-16.

6 متى 4/11، مرقس 1/13، لوقا 4/13.

7 خروج 13/21، 22.

ص: 470

والعجب من النصارى يعتقدون أنّ المسيح ربّ الشيطان وربّ كلّ شيء ومع ذلك يُقِرُّون أنّ الشيطان حصره في البرية واستولى عليه. وقال له: اسجد لي. حتى خلصته الملائكة من يده وأنقذه من ورطته1.

وأما صعوده إلى السماء2، فسائر كبتهم تشهد أنّ أخنوخ قد صعد إلى السماء3، وأنّ إلياء قد صعد إلى السماء4، فاستوت حالهما مع المسيح. / (2/15/ب) .

والعجب أنّ الملائكة مأواها السماء وهي في زعم النصارى خدم المسيح، فكيف يعدون صعوده إلى السماء دلالة على الربوبية؟!.

وأما شفاء الزمن5 من علة زمانته، فالتوراة شاهدة أن سارة حملت وهي عجوز فانية وولدت إسحاق ببركة نبيّ الله إبراهيم6، وكذلك الإنجيل يشهد أن أليصابات على كبر سنها حملت وولدت يحيى ببركة نبيّ الله زكريا7. وما ذلك إلاّ غضو أزيلت علته. فبطش بعد ضمان عطبته وزمانته. فاستوى الأمران.

وأما ستره بالغمامة حين صعد إلى الجبل8، فالتوراة تشهد بأنّ بني إسرائيل إذ كانوا في التيه مع موسى، وكان الغمام يسترهم من حرّ الشمس وهم ستمائة ألف سوى النساء والصبيان وبهيم الحيوان9. وذلك أربعة سنة. وهذا

1 متى 4/1-11، مرقس 1/12، 13، لوقا 4/1-13.

2 مرقس 16/19، 20، لوقا 24/50-53.

3 سفر التكوين 5/24.

4 سفر التكوين الثاني 2/1-11.

5 شفاء المفلوج: متى 9/1-8، شفاء الأخرس: 9/32-34، شفاء الأعمى: متى 8/22-26.

6 تكوين 21/1-8.

7 لوقا 1/5-25.

8 متى 17/5، لوقا 9/28-36.

9 عدد 10/34، 6/15-23.

ص: 471

أعجب من ستر المسيح بالغمامة ومعه نفر يسيرة.

وأما شفاء المجنون من جنونه1، فالتوراة تشهد أن موت الفجأة وقع في بني إسرائيل فقتل منهم في يوم واحد آلافاً منهم، فأخذ هارون / (2/16/أ) البخور في مجمرة وقام بين الأموات والأحياء، فكفّ الموت عن بقيتهم2، وما الجنون إلاّ مرض أصاب العقل، وهو دون مرض جملة البُنية. وكذلك نهشتهم الحيات في التيه فاتّخذ لهم حية من نحاس، فكان كلّ من لدغته حية جاء إلى الحية النحاس فيبرأ من علته3، فهاتان الآيتان من التوراة أعجب من فعل المسيح.

وأما إجابة دعوته4، فالتوراة تشهد بأن إسحاق حين كبر وقرم إلى اللحم وقضى أولاده شهوته دعا ليعقوب وعيسى فاستجيب فيهما5. وكذلك قالت: إن يعقوب بارك ودعا لأولاده عند وفاته، فلم ترد دعوته6، ومما أخبر يعقوب تلميذ المسيح في رسالته: أن إلياس دعا على قومه فلم تمطر السماء ثلاث سنين وستة أشهر. ثم دعا بعد ذلك فزال الجدب7. وهذا أعجب من فعل المسيح وأغرب. وقد بقيت للأنبياء آيات لم يأت المسيح عليه السلام بنظيرها فنسمع بتسطيرها. والله أعلم.

1 مرقس 1/21-28، يوحنا 4/31-37، متى 9/32-34، 12/22-37.

2 عدد 16/41-50.

3 عدد 21/6-9.

4 ورد أن المسيح دعا الله لأجل إحياء لعازر في إنجيل يوحنا 11/1-46، ودعا لأجل إطعام الكثير من الطعام القليل في إنجيل متى 14/15-21، وغير ذلك.

5 تكوين الإصحاح (27) .

6 تكوين الإصحاح (49) .

7 رسالة يعقوب 5/17، 18.

ص: 472