الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب السّابع: في إفساد دعوى الاتّحاد والتّثليث
في إفساد دعوى الاتّحاد والتّثليث1:
نحكي فيه مقالات الفرق الثلاث من النصارى اليعاقبة والروم والنسطورية في دعوى اتّحاد اللاهوت بالناسوت. وكيف تناقضوا وتعارضوا، ثم نعكر على الجميع بالإفساد والإبطال2.
اعلم أنّ فرق النصارى كثيرة ولكن المشهور منهم الآن [ثلاث] 3 فرق: اليعاقبة والروم والنسطور4. وعقائدهم في الإله مختلفة وآراؤهم متباينة ومقالاتهم متناقضة، ولم أر لهم قدماً يثبت ولا قاعدة تستقر في هذه الدعوى، وسبب خبطهم أن كلاًّ منهم يريد أن يفرِّع عن أصل مستحيل؛ مذهباً صحيحاً جائزاً عند العقلاء5 وما ذلك إلاّ كقول القائل:
ومتى كان في الأنابيب خلف وقع الطيش في صدور الصِعَاد
1 الزيادة من المحقِّق لإكمال عنوان الباب مع محتواه.
2 إن نقد المؤلِّف وإبطاله لعقيدة الاتّحاد والتّثليث في هذا الباب قد استكمل به نقد أسس العقيدة النصرانية المنحرفة الثلاثة وهي كالآتي:
1-
التّثليث والاتّحاد.
2-
صلب المسيح تكفيراً عن الخطيئة الأزلية التي ارتكبها آدم عليه السلام. وقد سبق للمؤلِّف نقد هذا الأساس في الباب الخامس. (ر: ص 375) .
3-
محاسبة المسيح للناس يوم القيامة، وقد تقدم مناقشة هذه العقيدة وإبطالها. (ر: ص 397) .
3 في ص، م: ثلاثة، والتصويب من المحقِّق.
4 في م: النسطورية.
5 إن اتّحاد اللاهوت بالناسوت - حسب اعتقاد النصارى - غير معقول؛ لأنه بعد الاتّحاد إما أن يكونا اثنين كما كانا، أو صار الاثنان واحداً. فإن كانا اثنين كما كانا فلا اتّحاد، بل هما متعددان، كما كانا متعددين، وإن كانا قد صارا شيئاً واحداً، فإن كان هذا الواحد هو أحدهما فالآخر قد عدم. وهذا عدم لأحدهما لا اتّحاده. وإن كان هذا الذي صار واحداً - ليس هو أحدهما - فلا بدّ من تغييرهما واستحالتهما، وإلاّ فلو كانا بعد الاتّحاد اثنين ابقيين بصفاعهما لم يكن هناك اتّحاد. (ر: الجواب الصحيح 2/267، النصيحة الإيمانية ص 144، 145، تنقيح الأبحاث ص 54، 55 لابن كمونة، إظهار الحقّ ص 337) .
الفرقة الأولى:
فرقة يعقوب السروجي ويسمى البرادعي أيضاً. ادّعت أنّ المسيح أصاره الاتّحاد طبيعة واحدة [وأقنوما] 1 واحداً2.
1 في ص (وقنوما) ، وهو خطأ يكرره الناسخ كثيراً. والصواب ما أثبتّه.
2 اليعقوبية: أتباع المذهب القائل بأنّ المسيح طبيعة واحدة - من طبيعتين لاهوتية وناسوتية - ومشيئة واحدة. (المونوفيزيتية MONOPHSIYES) ، وأوّل من قال به أوطاخي (أوتيكيس EUTYCHES) ، وهو رئيس ديربالقرب من القسطنطينية. وقد أنكر هذا القول فلافيان FLAVIAN بطريك القسطنطينية وعقد مجمعاً محليّاً لإنكار هذه المقالة وحرمان قائلها أوتيكس من الكنيسة، إلاّ أن الراهب لجأ إلى بطريق الإسكندرية ديسقورس، الذي أقنع الأمبراطور ثودوسيوس الصغير بعقد مجمع أفسس الثاني سنة 449م برئاسة ديسقورس. وصدر قرار المجمع بإعلان مذهب الطبيعة الواحدة ولعن من يخالفه، إلاّ أنّ هذا القرار أغضب البابا (ليو الأوّل) الذي أطلق على المجمع السابق اسم:(مجمع اللصوص) وعقد مجمعاً آخر من خلقيدونية سنة 451م قرر فيه تأييد ازدواج طبيعة المسيح وإبطال قرار المجمع السابق. ولعن يسقورس ومن شايعه ونفيه إلى فلسطين. ومن هذا المجمع افترق النصارى إلى ملكية ممن تبعوا مذهب الملك مرقيانوس - إمبراطور الروم الذي أمر بانعقاد المجمع ـ. ويعقوبية على مذهب ديسقورس المنفي.
وقد اشتهر تسمية أتباع المذهب باليعقوبيين نسبة لى يعقوب البرادعي (JACOB BARADOS) الذي ظهر في القرن 6م، فكان داعية لهذا المذهب بليغ الأثر، جزئياً في الجهر برأيه.
وقيل: نسبة إلى ديسقورس الذي كان اسمه قبل بطريكيته: (يعقوب) ، فكان يكتب - وهو في منفاه - إلى أصحابه أن يثبتوا على أمانة المسكين المنفي يعقوب.
وقد أخذت بهذا المذهب ثلاث كنائس من الكنائس التي سمت نفسها (الأرثوذكسية ORTODOXE) وهي كلمة يونانية معناها: (الرأي الصحيح المستقيم) . وقد استخدم القساوسة اليونانيون هذا الاصطلاح في القرن الرابع الميلادي - وهذه الكنائس الثلاث هي: 1- الكنيسة الأرثوذكسية في مصر والحبشة. 2- الكنيسة الأرثوذكسية السريانية ويتبعها كثير من مسيحي آسيا. 3- الكنيسة الأرثوذكسية والأرمنية موطنها أرمنيا. (من بلاد روسيا) . (ر: قصة الحضارة 12/96، 102، 103، 233، ول ديورانت، موجز تاريخ المسيحية ص 318-323، يسطس الديوري، دائرة المعارف البريطانية 7/597-598، قاموس أكسفورد للكنيسة النصرانية ص 931، 932، 1014، خطط المقريزي 2/488، النصيحة الإيمانية ص 127-130،نصر المتطبب، الأسفار المقدسة ص 132،133،د. عبد الواحد وافي) .
وأصحاب هذا المذهب يزعمون أن مريم ولدت الله - تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً - وأنه صلب متجسداً وسُمِّر ومات ودفن ثم صعد إلى السماء، وإليهم أشار القرآن الكريم فقال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ
…
} . [سورة المائدة، الآية: 17، 72] .
قالوا: لأن طبيعة اللاهوت تركبت مع طبيعة الناسوت كما تركبت نفس الإنسان بجسده فصار إنساناً واحداً فكذلك المسيح. فالمسيح عندهم إله كلّه وإنسان كلّه وله طبيعة واحدة. / (2/17/أ) وهو يفعل بها ما يشبه أفعال الإله وما يشبه أفعال الإنسان وهو [أقنوم] واحد، [والأقنوم] 1 هو الشخص، والأقانيم هي: الأشخاص. ومجرد حكاية هذا المذهب يكفي في الرّدّ عليه؛ إذ حاصله أنّ الإله هو الإنسان والإنسان هو الإله.
وسبيل الرّدّ على هذه الفرقة:
أن يقول لهم: أخبرونا عن هاتين الطبيعتين اللتين أصارهما الاتّحاد طبيعة واحدة، هل تغيرت كلّ واحدة عما كانت عليه قبل التركيب أم لا؟
فإن زعمت أنهما لم يتغيرا بل بقيت طبيعة الإله بحالها وطبيعة الإنسان أيضاً بحالها؛ فقد نقضوا مذهبهم ورجعوا عن قولهم إلى قول من يقول: إن المسيح بعد الاتّحاد كَهُوَ قبل الاتّحاد. وسيأتي الكلام عليه.
1 الأقانيم: الأصول، واحدها: أقنوم. وأحسبها رومية. كذا في الصحيح للجوهري 5/2016. وفي المعجم الفلسفي (ص 19) : أنّ الأقنوم لغة: الأصل. واصطلاحاً:
أ- عند أفلوطين: أحد مبادئ العالم الثلاثة: الأولى وهي: الواحد، والعقل، والنفس الكلية.
ب- في اللاهوت المسيحي: أحد الأقانيم الثلاثة وهي: الأب والابن والروح القدس.
ويقول د. محمّد البهي في كتابه: (الجانب الإلهي ص 113) : "تسمية هذه الأمور بالأقانيم أو الأصول يرجع إلى أثر الفلسفة الإغريقية في تفلسف المسيحية. وتحديدها بثلاثة؛ يرجع إلى المصدر نفسه أيضاً. لأن ما نراه في المسيحية على هذا الوجه يذكرنا - بـ: (مثل) أفلاطون. فقد جعلها أصول هذا (الوجود) المشاهد واغتبره ظلاًّ لها وشبيهاً بها فقط. كما يذكرنا بثالوث أفلوطين المصري، الذي يتمثل في الواحد، والعقل، ونفس العالم. ولو فتشنا على الألفاظ الدالة على هذه المعاني الثلاثة في المصدر النّصّي للمسيحية وجدناها: الله، كلمة الله، الروح القدس". اهـ.
وإن زعمت أن الطبيعتين قد صارتا طبيعة ثالثة، لا تشبه واحدة من الأوليين، فهذا تصريح بأنّ هذه الطبيعة لا إله ولا إنسان. فكان ينبغي على سياق هذا القول أن لا يصفوا المسيح بأنه إله ولا يصفوه بأنه إنسان؛ بل شيء آخر غريب عجيب؛ وذلك / (2/17/ب) لأن الطبيعتين كانتا قبل التركيب إلهاً كاملاً وإنساناً كاملاً، فإن كان التركيب قد أخرجهما إلى طبيعة غيرهما لم تكن تلك الطبيعة لا إلهاً ولا إنساناً. فإن زعموا أنّهما كانتا قبل التركيب كاملتين، والتركيب لم يخرجهما عن الكمال بل بقي المسيح [إلهاً كاملاً] 1 وهو بعينه إنسان كامل، فقد تحامقوا إذ زعموا أنّ القديم هو بعينه الحادث، وأنّ الزَّمني هو بنفسه الأزلي؛ وذلك بمثابة قول القائل: إن الحركة هي السكون وأنّ السواد هو البياض. وذلك هو الجنون.
الحجّة الثّانية: الجمع بين الجوهرين2، [والأقنومين] في الجوهرية [والأقنومية] يوجب كون الطبعين طبعاً واحداً [والأقنومين] أقنوماً واحداً. فيسقط القول فيه بالدنايا إن كان المسيح إلهاً. أو يسقط القول بظهور الآيات إن كان المسيح إنساناً3. فبطل القول بكونه طبعاً واحداً [وأقنوماُ] واحداً.
1 في ص، م:(إله كامل) وهو خطأ، والتصويب من المحقِّق.
2 الجوهر: ما قام بنفسه. فهو متقوم بذاته ومتعين بماهيته. وهو المقولة الأولى من مقولات أرسطو، وبه تقوم الأعراض والكيفيات ويقابل العرض. (ر: المعجم الفلسفي ص 64) .
3 زيادة في الإيضاح نورد هذه الحجّة بصيغة أخرى، فنقول: إن اليعقوبية إذا قالوا: إن المسيح جوهر من جوهرين وأقنوم من أقنومين، لا يخلو أن يقولوا: إن أحدهما أبطل الآخر وأخرجه عما كان عليه عند الاتّحاد. أو كل واحد منهما بحاله لم يتغير ولم يبطل الآخر. فإن قالوا: إن كلّ واحد منهما لم يتغير عما كان عليه، فخرجوا عن قولهم إلى النسطورية في أنهما باقيان بحالهما بعد الاتّحاد. وظاهر أن ذلك ليس باتّحادٍ.
وإن قالوا: إن أحدهما قد غيَّر الآخر وأبطله كانوا قد أقروا ببطلان الإله، ولزمهم أن يكون المسيح لا قديماً ولا محدثاً، ولا إلهاً ولا غير إله. إذا كان كلّ واحد منهما قد خرج عما كان عليه إلى مشابهة الآخر. والعيان شاهد بأن ناسوت المسيح على ما كان عليه ناسوت غيره من الناس. فإن قالوا: اللاهوت أبطل الناسوت، كان العيان يبطل قولهم فإن ناسوت المسيح مثل ناسوت غيره في الجسمية واللحمية. وإن قالوا: الناسوت أبطل اللاهوت لزمهم أن يكون المحدث يبطل القديم. وهذا لا يجوز؛ إذ اللاهوت هو الذي يُؤثِّر في غيره. وغيره يمتنع أن يُؤثِّر فيه. (ر: تنقيح الأبحاث ص 56 لابن كمونه اليهودي، النصيحة الإيمانية ص 144-146، نصر المتطبب) .
الحجّة الثّالثة: لو قد صار الجوهران واحداً للزم أن يكون القديم هو الحادث من الوجه الذي هو قديم، / (2/18/أ) والمحدث [قديماً] 1 من الوجه الذي هو محدث. فبطل أن يكونا صارا واحداً.
الحجّة الرّابعة: هذا الرأي2 من اليعقوبية مردود بأقوال المسيح في الإنجيل حيث يقول: "أنا ذاهب إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم"3. ففرق بين الذاهب والذي يذهب إليه. فبطل أن يكونا قد صارا واحداً، وإلاّ لاتّحد الذاهب ومن يذهب إليه والداعي والمدعوّ، ودعاء المسيح نفسه محال.
الحجّة الخامسة: إن كان طبع الإله وطبع الإنسان قد صارا واحداً والإله خالق والإنسان مخلوق، فطبع4 الخالق هو طبع المخلوق، وطبع العلة هو طبع المعلول، وذلك محال.
الحجّة السّادسة: إن كان جوهر الأزلي قد تغيّر [وأقنومه] قد تغيّر فقد صار الأزلي زمنياً والزّمنيّ أزليّاً، وذلك جهل من قائله.
الحجّة السّابعة: إن كان جوهر5 الابن الأزلي، وجوهر الإنسان قد تغيّرا عن طباعهما فقد بطلت فائدة الاتّحاد التي يدّعيها النصارى؛ لأنّ فائدته عندهم أن يقع الفيض من الطبيعة اللاهوتية على الطبيعة الناسوتية / (2/18/ب) بحلولها فيه. وإذا كانت [الطبيعتان] 6 قد انقلبتا إلى ثالثة، فلا المفيد بقي مفيداً، ولا المستفيد بقي مستفيداً.
1 في ص (قديم) والصواب ما أثبتّه.
2 في م: الذي.
3 يوحنا 20/17.
4 في م: فبطبع.
5 ليست في (م) .
6 في ص، م (الطبيعتين) ، وهو خطأ. والتصويب من المحقِّق.
الحجّة الثّامنة: إن كان الجوهران و [الأقنومان] سليمين في المسيح، لم يصدق قول من يقول إنهما صارا واحداً بالعدد. وكيف يقال في الكثرة إنها واحد1 من الجهة التي هي كثرة؟!. وكيف يقال في الواحد إنه كثرة من الجهة التي هو بها واحد؟!.
وإن كان الجوهران والأقنومان قد تفاسدا وعدما فكان ينبغي أن لا يوجد المسيح بل يعدم ويتلاشى.
الحجّة التّاسعة: إن كان الجوهران و [الأقنومان] قد صارا واحداً بالعدد فيجب أن يبطل فعل هذا وفعل هذا؛ لأنّ المختل في الطباع إذا تركب منهم طبع آخر لم يَبن فعل الأوّل ولا الثاني. فكان يجب أن لا يظهر المسيح2 لا فعلاً إلهياً ولا فعلاً ناسوتياً، ألا ترى أنّ الاستقصات الأربع إذا تركب عنها جسم فلا شكّ أن ذلك الجسم ليس بنار محضة ولا هواء ولا ماء ولا تراب.
فعلى سياق هذا كان يلزم أن يكون المسيح بالاتّحاد / (2/19/أ) الذي يدّعونه لا إله ولا إنسان، ويؤول القول بالاتّحادإلى رفع ثمرته وفائدته.
الحجّة العاشرة: الإنجيل مصرَّح بأنّ المسيح كان يتَزَايد أوّلاً في بنيته ومعارفه وعلومه، والمتزايد غير الكامل فبطل أن يكون شيئاً واحداً؛ لأنّ الإله لا يتقلب ولا يتغيّر ولا يستحيل ولا يزيد.
فإذا قلتم: إنهما قد صارا واحداً ثم انقلب وتغيّر، فيكون غير المنقلب منقلباً وغير المستحيل مستحيلاً.
1 في م: واحدة.
2 في م: للمسيح.
وإذا انقلبت الكلمة فمن القالب لها؟!. ثم جوهر الابن على زعمهم غير مائت ولا1 فاسد. وجوهر الإنسان المأخوذ من مريم مائت وفاسد. فإن كان المجتمع منهما صار واحداً فقد صار بجملته لا مائتاً ولا غير مائت ولا فاسداً ولا غير فاسد. وذلك خبط وجهل.
وإنه لقبيح بموجد أوجه خالقه بعد أن لم يكن أن يقول: إنه صار هو وخالقه شيئاً واحداً وطبيعة واحدة، ولا يقبح أن يقال: إن الخالق الباري أفاض على عبده النعماء.
وقال فولس في أواخر الرسالة العاشرة: "الله مالك العالمين الذي لا يفسد ولا يرى، هو الله / (2/19/ب) الأحد، له الكرامة والحمد إلى أبد الآباد. جلّ وعلا2.
الحجّة الحادية عشرة: صيرروة الجوهرين المتنافيين كالثلج والنار واحداً مستحيل ببداية العقول مع اشتراكهما ي أصل الجوهرية. فصيرورة خالق الجوهر مع الجوهر واحداً أولى3 بالاستحالة.
الحجّة الثّانية عشرة: قال يحيى بن زكريا حين رأى المسيح: "هذا خروف الله وحمل الله الذي يحمل خطايا العالم"4. فَفَرَّق بينه وبين الباري تعالى فبطل أن يكونا واحداً.
الحجّة الثّالثة عشرة: قال شمعون الصفا: "يا رجال بني إسرائيل إن يسوع رجل جاءكم من الله"5. وأيسوع اسم المسيح. فشهد شمعون وهو رئيس
1 في م: وإلا.
2 رسالة بولس الأولى إلى تيموثاوس 1/17.
3 في م: إلى.
4 يوحنا 1/29، 36.
5 أعمال الرسل 2/22.
أصحاب المسيح بأنّ المسيح رجل، وأن الله أرسله، أنه إنسان كلّه، وذلك تكذيب لليعقوبية في دعوى هذا النوع من الاتّحاد.
الحجّة الرّابعة عشرة: سئل المسيح عن يوم القيامة، فقال:"لا يعرف ذلك إلاّ الأب وحده، فأما الابن فلا يعرفها"1. وقول المسيح أولى بالتصديق، وقد أخبر أنه لا يعلم بالمغيّبات، ولو قد صار مع الله شيئاً واحداً لعلم ما يعلمه الله / (2/20/أ) لأنّ الشيء الواحد لا يمكن أن يثبت لبعضه من الحكم ما يجب نفيه عن البعض، فبطل أن يكونا شيئاً واحداً.
الحجّة الخامسة عشرة: الأناجيل الأربعة تذكر أنّ المسيح بكى على صديقه إلعازر، وفرح بتوبة التائب، وأكل في دعوات أصحابه، وشرب وركب الأتان، وتعب من وعر الطريق، وحزن2 من نزول الموت. وقال:"إلهي اصرف عني هذا الكأس". وهذه النقائص قبيح إضافتها إلى الابن الأزلي. فبطل أن يكونا صارا واحداً.
فهذه حجج دامغة لليعاقبة قاضية بفساد ما ذهبوا إليه. وكثيراً ما [يحاولون] 3 تحقيق مقالتهم إذا ألزموا4 ما يعتقدونه من قتل المسيح وصلبه فلا يمكنهم ذلك إلاّ أن يفروا إلى مذهب النسطور.
1 مرقس 17/32.
2 في م: وخرز.
3 في ص (يحاولوا) والصواب ما أثبتّه.
4 في م: لزموا.
الفرقة الثّانية:
فرقة الملكية1؛ ومذهبهم أنّ المسيح بعد صدور الاتّحاد جوهران وهو [أقنوم]
1 الملكية؛ نسبة إلى المذهب الذي اعتنقه ملوك الرومان النصارى، وهو: أنّ للمسيح طبيعتين ومشيئتين في أقنوم واحد، وقد أخطأ الشهرستاني حينما زعم نسبة هذا المذهب إلى رجل اسمه:(ملكا) .
وقد مرّ هذا المذهب بعدة مراحل، حيث بدأ إقراره في مجمع نيقية سنة 325م، بتأييد الملك قسطنطين لمذهب تعدد الآلهة واعتبار المسيح ابناً وإلهاً ومستقلاً. ثم في مجمع القسطنطينية الأوّلسنة 381م، تحددت هوية الثالوث النصراني بالآب والابن في المسيح طبيعتين - خلافاً لليعقوبية - وحيث إن الذي دعا إلى هذا المجمع هو الملك (الإمبراطور) الروماني وتأييده لمذهب ازدواج الطبيعتين فقد أطلق عليه المذهب الملكي أو الملكاني.
ثم أضيف إلى هذا المذهب القول بأنّ المسيح له طبيعتان ومشيئتان في مجمع القسطنطينية الثالث سنة 680م خلافاً للمارونية القائلين بأنّ المسيح له طبيعتان ومشيئة واحدة.
وظلّت الطوائف القائلة بمذهب الملكية (بالطبيعتين والمشيئتين) متّفقة في آرائها إلى أن دَبَّ الخلاف بينها بشأن انبثاق روح القدس. أكان من الأب وحده؟ أم من الأب والابن معا؟ ولأجل ذلك عقد مجمع القسطنطينية الرابع سنة 869م، ونتج عنه انفصال الكنيسة الشرقية رئاسة ومذهباً واسماً عن الكنيسة الغربية (مذهب المالكية)، حيث أصبحت الكنيسة الشرقية تسمى بـ: كنيسة الروم الأرثوذكسية أو اليونانية، وأتباعها يعتقدون بأنّ الروح القدس منبثق عن الأب وحده، وأكثرهم في الشرق باليونان وتركيا وروسيا، وغيرها. ولهم بطاركة أربعة: 1- بطريك القسطنطينية وهو كبيرهم. 2- بطريك الإسكندرية للروم الأرثوذكس. 3- بطريك أنطاكية. 4- بطريك أورشليم. كما تميّزوا باعتقادهم أن الإله الأب أفضل من الإله الابن. وتحريم الدم والمنخنقة وإيجاب استخدام الخبز في العشاء الرباني وغير ذلك.
أما الكنسية الغربية اللاتينية فتسمى بـ: الكنيسة البطرسية - نسبة إلى بطرس رئيس الحواريين - الكاثوليكية (نسبة إلى كاثوليك CATHLIQE) وهي كلمة يونانية ومعناها العالمي أو العام. (وهو اصطلاح استخدمته الكنيسة في القرن الثاني الميلادي) . ويرأسها البابا بالفاتيكان في روما. ويعتقد أتباعها أن الروح القدس منبثق عن الأب والابن معاً. وبالمساواة الكاملة بين الأب والابن، وإباحة الدم والمنخنقة واستخدام الفطير بدلاً من الخبز في العشاء الرباني، وتتميّز الكنيسة الكاثوليكية بعدة سمات بارزة، منها: استعمال اللغة اللاتينية. والبخور، واتّخاذ الأيقونات والمصورات البارزة، والتقويم الخاص وغير ذلك. وينتشر أتباعها في معظم بلاد العالم لما لها من النفوذ والمال.
ثم حدث انشقاق آخر بداخل الكنيسة الكاثوليكية عند ما ظهر دعاة الإصلاح الكنسي في أوائل القرن (16م) بتخليص الكنيسة من مظاهر الفساد. ومن أبرز هؤلاء الدعاة: مارتن لوثر الألماني سنة 1546م، وزونجلي السويسري سنة 1531م، وكلفن الفرنسي سنة 1564م. الذين احتجوا على فساد الكنيسة. فسمي مذهبهم بـ:(البروتستانتية PROTESTANNTISME) أي: المحتجّين، وقد سموا أنفسهم بـ:(الإنجيليين) على كنيستهم (الكنيسة الإنجيلية) لدعواهم أنهم يتبعون الإنجيل ويفهمونه بأنفسهم دون الحاجة إلى البابوات. ومن أبرز مبادئهم: إبطال الرئاسة في الدين، وصكوك الغفران والرهبنة، وتحريم التماثيل والصور في الكنيسة، وأن الخبز والخمر في العشاء الرباني لا يتحولان إلى لحم المسيح ودمه وإنما هو وسيلة رمزية. وينتشر أتباعهم في ألمانيا وإنجلترا وأمريكا الشمالية وغيرها.
وعندما ظهرت الحاجة إلى توحيد صفّ النّصارى وجمع كلمتهم عقد عام 1563م مجمع (مؤتمر) عالمي في الفاتيكان بدعوة من البابا يوحنا الثالث والعشرين لأجل تحقيق الوحدة الدينية بين المذاهب النصرانية المختلفة، فتساهلت بذلك الكنائس والمذاهب النصرانية المختلفة في الاعتراف للكنيسة الكاثوليكية بالتقدم عليها في الرئاسة لا بالسلطان.
(ر: قصة الحضارة 11/396، موجز تاريخ المسيحية ص 313-318، دائرة المعارف البريطانية 2/543، 644، 8/249، قاموس أوكسفورد ص 254-256، 1134-1136،الموسوعة الميسرة ص357،1489،1490،الملل والنحل 1/222-224، للشهرستاني، الأسفار المقدسة 133-136، 140-146، النصرانية 130-134 الطهطاوي) .
ويزعم أتباع هذا المذهب أن الآلهة ثلاثة متميزون ومنفصلون: الأب، والابن، والروح القدس، ومع ذلك فهم شيء واحد في الطبيعة والذات. ويزعمون أنّ الكلمة (وهي أقنوم العلم وهي الابن) قد اتّحدت بجسد المسيح، وأنّ مريم قد ولدت الإله والإنسان وأنهما شيء واحد، وأن الموت والصلب وقع على اللاهوت والناسوت معاً، وإليهم أشار القرآن الكريم بقوله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ
…
} . [سورة المائدة، الآية: 73] .
واحد - وقد حكينا عنهم أنّ [الأقنوم] هو الشخص - قالوا: فله بطبيعة اللاهوت مشيئة كمشيئة الأب، وله بطبيعة الناسوت مشيئة كمشيئة إبراهيم وداود غير أنّه / (2/20/ب) واحد أي شخص واحد.
فردّوا الاتّحاد إلى [الأقنوم] إذ رأوا1 الاتّحاد بالنسبة إلى الجوهر مستحيل.
وسبيل الرّدّ على هذه الفرقة:
أن نقول: إذا قلتم: إن المسيح بعد الاتّحاد باقٍ على طبيعته ومشيئته كما كان قبل الاتّحاد فقد أبطلتم الاتّحاد، إذ افتراق أحد الجوهرين بالطبيعة والمشيئة هو غاية الافتراق، وإذاكان ذلك كذلك، فلا معنى للاتّحاد.
إذ الاتّحاد عبارة عن صيرورة أكثر من الواحد واحداً. وإذا كان جوهر الأزلي باقٍ بحاله وجوهر الإنسان باقٍ بحاله فقد آل الاتّحاد مجرد تسمية فارغة عن المعنى خالية عن الفائدة.
1 في م: رو.
الحجّة الثّانية: هو أن نقول لهم: أتقولون إن اللاهوت اتّحد بالناسوت حقيقة أو مجازاً؟ !.
فإن قالوا: إن ذلك [تجوز وتوسع] 1 أبطلوا وتجوزوا بإطلاق ما لم يجز إطلاقه على القديم سبحانه2.
وإن قالوا: إنه اتّحد به حقيقة لزمهم أن تكون مشيئتهما3 واحد؛ لأن الواحد لا تكون له إلاّ مشيئة واحدة، إذ لو كان للواحد مشيئتان للزم إما أن يكونا متماثلتين أو مختلفتين، فإن كانتا / (2/21/أ) متماثلتين فإحداهما مغنية عن الأخرى، وإن كانتا مختلفتين تناقضت أحكامهما وامتنع حصول مرادهما.
فثبت أنه لا بدّ من إبطال إحدى4 المشيئتين إن كان الاتّحاد حقيقة، أو إبطال الاتّحاد جملة أن يثبت المشيئتان.
الحجّة الثّالثة: على الروم أصحاب الجوهرين و [الأقنوم] الواحد، هو أن نقول: إن قلتم: إن [الأقنومين]- أعني: [أقنوم] الأزلي [وأقنوم] الإنسان - قد صارا5 واحداً، فالجوهران أيضاً قد صارا واحداً، والقول [بصيرورة] 6 الجوهرين واحداً باطل، والقول بالأقنوم الواحد باطل.
الحجّة الرّابعة: هذا المذهب فيه قباحة، وذلك أن صيرورة جوهرين مختلفي الطباع شخصاً واحداً [أقنوماً] لا يبوء به عاقل، إذ يلزم عليه أن يشار إلى المسيح بأنه قديم محدث إشارة واحدة.
1 في ص (تجوزا وتوسعا) والصواب ما أثبتّه.
2 في م: زاد: (وتعالى) .
3 في م: مشيئتها.
4 في ص (أحد) والتصويب من نسخة (م) .
5 في م: صار.
6 في ص، م:(بضرورة) ، ولعله خطأ من الناسخ. والتصويب من المحقِّق لموافقته سياق الجملة. والله أعلم.
الحجّة الخامسة: إن كان أقنوم المسيح قد صارا [أقنوماً] واحداً، وأحدهما زمني والآخر أزلي، فقد صار الأزلي زمنيّاً والزمنيّ أزليّاً، أو صار منهما شيء آخر لا أزلي ولا زمني وذلك محال. وعلى هذا يبطل فعل [أقنوم] الإنسان وهو الأكل والشرب وغيره، وقد وُصِف المسيح به (2/21/ب) بذلك، أو يبطل فعل [أقنوم] الإله؛ وهو إحياء الميت وتطهير الأرض وقد وُصف المسيح به.
الحجّة السّادسة: إن كان [الأقنومان] قد صارا [أقنوماً] واحداً منع تنافي طباعهما فهذا إنما يتم بالامتزاج والاختلاط، فيلزم أن يتغير الإله ويستحيل مع طبع الإنسان، وذلك متعذر على ذات الباري تعالى.
وأكثر الحجج الواردة على الفرقة الأولى ورادة على الفرقة الثانية لقولها باتّحاد الأقنوم.
الفرقة الثّالثة:
فرقة النسطور1 وهم نصارى المشرق المنسوبون إلى نسطورس
أخذوا الأمانة
1 النسطورية: نسبة إلى نسطوريوس الذي ولد بسوريا (380م - ت 451م) - وقد أخطأ الشهرستاني في قوله: "إن نسطور الملقب بالحكيم ظهر في زمان المأمون". وقد أصبح نسطور بطريكاً على القسطنطينية سنة 428م، لمدة أربع سنين إلى أن أعلن مذهبه - الذي تأثر فيه بأستاذه ثيودور المبسوستيائي ت 428م - بأن مريم العذراء أم المسيح الإنسان وليست والدة الإله، ولذلك كان إثبات أحدهما الإنسان الذي هو مولود من مريم، وأن هذا الإنسان الذي يقول إنه المسيح بالمحبة متوحد مع ابن الإله، ويقال له: الإله وابن الإله، ليس على الحقيقة ولكن على المجاز.
ولما قال نسطور مقالته تلك كاتبه كيرلس بطريرك الإسكندرية ويوحنا بطريرك أنطاكية ليعدل عن رأيه ولكنه لم يستحب. فانعقد لذلك مجمع أفسس سنة 431م وتقرر فيه: وضع مقدمة قانون الإيمان، وأن مريم العذراء والدة الله، وأن للمسيح طبيعتان لاهوتية وناسوتية في أقنوم واحد، وتقرر أيضاً خلع نسطور من الكنيسة ولعنه ونفيه إلى مصر.
ويذكر المؤرخ ابن البطريق في التاريخ ص 152؛ "أن مقالة نسطور قد اندثرت، فأحياها من بعده بزمان طويل برصوما (ت 490م) مطران نصيبين في عهد قباذ بن فيروز ملك فارس، وثبتها في الشرق وخاصة أهل فارس. فلذلك كثرت النسطورية بالمشرق وخاصة أرض أهل فارس بالعراق والموصل ونصيبين والفرات والجزيرة".اهـ.
وهذا يفسر لنا سبب انحراف النسطوريين عن مقالة نسطور الأصلية، فقد مالوا إلى القول بامتزاج اللاهوت (ابن الإله) في الناسوت، وبأن المسيح أقنومان وطبيعتان لهما مشيئة واحدة، وإليهم أشار القرآن الكريم بقوله تعالى: {وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ
…
} . [سورة التوبة، الآية: 30، 31] . ولا تزال توجد منهم جماعات متفرقة في آسيا وخاصة في العراق وإيران والهند والصين، ومع أن الكنيسة الكاثوليكية أدخلتهم في خظيرتها إلاّ أنهم لا يزالون ينكرون عبادة مريم.
(ر: قصة الحضارة 2/100، 101، مجموعة الشرع الكنسي ص 288-293، دائرة المعارف 7/269، قاموس أكفسورد ص 961، 962، الملل والنحل 1/224، 225، للشهرستاني، الفصل 1/111، لابن حزم، محاضرات في النصرانية ص 157-159، لأبي زهرة) .
وكان لأتباع النسطورية تأثير بالغ في ظهور الفرق المنتسبة إلى الإسلام، وخصوصاً الغلاة منها إلتي ظهرت في المشرق، قد تأثرت الشيعة بعقائدهم وخاصة حلول اللاهوت في الإمام أو أن الإمام له طبيعة إلهية. (الملل 2/53 للشهرستاني) . وكان لهم شأن خطير في ترجمة كتب اليونان وخاصة كتب الفلسفة التي أفسدت عقائد المسلمين وسرَّبت إليهم الأفكار المنحرفة التي تأثرت بها فرقة المعتزلة تأثراً كبيراً وخاصة في تحكيم العقل والقول بنفي القدر ونحوه.
عن السليح1 ماري2 وعنتوما3، ساعدوا نسطورس على رأيه فنسبوا إليه. ومذهبها أنّ المسيح بعد الاتّحاد جوهران [وأقنومان] باقيان على طباعهما كما كانا قبل الاتّحاد وردّوا الاتّحاد إلى خاص البنوة وهي علم الباري. قالوا: فهذا الشخص المأخوذ من السيدة شارك الله في هذه الخاصية فصار بها ابناً ومسيحاً.
1 السليح: كلمة سريانية معناها: (الرسول) . ر: المنجد ص 344 مادة: (سلح) .
2 مار ماري: يزعمون أنه في السبعين تلميذاً الذين أرسلهم المسيح، وأنه أسس كرسي المشرق وأوّل الأساقفة في أيام أفرهط ملك بابل ونيرون قيصر ملك الروم. توفي سنة 393 يونانية.
(ر: أخبار بطاركة كرسي المشرق ص 3-5، لماري بن سليمان، أخبار بطاركة كسي المشرق ص 1، 2، عمرو بن متى) .
3 توما: اسم آرامي معناه: (توأم) أحد الاثني عشر رسولاً - حسب اصطلاح النصارى - والمقصود به أحد الحواريين حيث ورد اسمه في إنجيل متى 10/3 ضمن الحواريين، ويلقب بالمتشكك؛ لأنه شكّ في قيامة المسيح من الموت - حسب زعمهم - وتذكر الروايات التاريخية أنه كان مبشراً في بلاد الفرس والهند ومات هناك. وينتسب إليه النصارى الذين يتبعون طقس الكنيسة السريانية (النسطورية) ، كما ينتسب إليه النصارى الذين يتبعون طقس الكنيسة السريانية (النسطورية)، كما ينسب إليه (إنجيل توما) الذي لا تعترف به الكنيسة. (ر: قاموس ص 226، 227، المنجد في الأعلام ص 196) .
سبيل الرّدّ على هذه الفرقة:
أن نقول: إذا/ (2/22/أ) قلتم إن الجوهرين [باقيان] 1 و [الأقنومين] كذلك على حالهم فلا موقع للاتّحاد وصار الاتّحاد اسماًساذجاًلا ثمرة له ولا فائدة.
الحجّة الثّانية على النسطور: أن نقول: القول بكون المسيح [أقنومين] مُكذَّب بالحسّ؛ وذلك أن الذي يراه كلّ ذي بصر سليم من المسيح إنما هو [أقنوم] واحد، أي: شخص واحد، وتكذيب أصدق الحواس وهو البصر لا سبيل إليه.
الحجّة الثّالثة: القول بكونه [أقنومين] يجر إلى السيلان ويفتح باب السفسطة ويشكك في الضروريات، فالقول به باطل إذ كون المسيح شخصاً واحداً [أقنوماً] احداً معلوم ضرورة، ومن زعم أن المسيح كان شخصين لم يسلم من خبل في عقله.
الحجّة الرّابعة: هذا الرّأي أعني: القول [بالأقنومين] مُكذَّب بأقوال حملة الإنجيل الذين كانوا قبل صدور هذا الخلاف. فإنهم يشهدون بأن المسيح ابن داود بن إبراهيم، وأنه ولد في بيت لحم ووضع في معلف وذلك في أيام هيردوس فإنه صام وصلى وأكل وشرب وفرح وحزن وأنه كان شخصاً، / (2/22/ب) فالقول بأنه كان شخصين مردود بأقوال التلاميذ الذين هم أعرف الناس بالمسيح.
الحجّة الخامسة: قال بطرس-صاحب المسيح-في كتاب فراكسيس: "يا بني إسرائيل، إن أيسوع الناصري رجل جاء من الله، وأن الله مسحه بروح القدس وبالقوة الإلهية"2. فشهد بطرس المؤتمن عند النصارى بأن المسيح رجل
1 في م:، ص (باقيين) ، وهو خطأ، والتصويب من المحقِّق.
2 أعمال الرسل 10/38.
واحد شخص واحد [أقنوم] واحد، فمن قال بأنه شخصان فقد خَطَّأَ بطرس وجَهَّله. ومن جَهَّل مثل بطرس منهم فهو بالجهل1 أجدر.
الحجّة السّادسة على النسطور: قال فولس-الذي يسمونه فولس الرسول-: "واحد هو الله، وواحد هو المتوسط بين الله والناس"2.
فشهد بأن المسيح شيء واحد وأنه غير الله الواحد. وقال فولس أيضاً: "إن ربّ جميع الشعوب واحد غني متّسع لكلّ من يدعوه وكلّ من يدعو باسم الرّبّ يحيي"3. ولكن كيف يدعوه من لم يؤمن به. وذلك يقضي بفساد مذهب النسطور؛ إذ مذهبهم أن المسيح شخصان، وفولس الرسول يقول: كلا، ولكنه واحد.
الحجّة السّابعة على النسطور4: أن يقال لهم: إن كان المسيح شخصين فلا [يخلو] 5 / (2/23/أ) الأمر فيه من أن يكونا متجاورين أو متداخلين، فإن كانا متجاورين فيلزم منه أن يكون [أقنوم] الإله مذروعاً ممسوحاً له قدر وكمية، إذ كلّ شيئين تحاذيا فلا بدَّ أن يكونا متساويين أو متفاوتين، فإن كانا متساويين فقد ساوى [الأقنوم] الإلهي [الأقنوم] الإنساني وذلك محال. وإن كانا متفاوتين فإن كان أقنوم اللاهوت أصغر لم يصلح للربوبية، وإن كان أكبر فقد أخذ [الأقنوم] الإنساني منه بعضه بالمسامته والمحاذاة، والقدر الزائد منه على [الأقنوم] الإنساني يعود إليه التقسيم. فإن كان مساوياً [لأقنوم] الإنسان فقد ساوى الخالق المخلوق، وإن كان أصغر لم يصلح، وإن كان أكبر فقد ساوى أقنوم الإنسان بعض الإله والقدر الزائد يعود إليه التقسيم، وذلك يقضي بالكمية على الأقنوم الإلهي وهو محال.
1 في م: بالجهال.
2 رسالته إلى أهل غلاطية 3/20.
3 رسالته إلى أهل رومية 10/11-13.
4 في م: النسور، وهو خطأ.
5 في ص (يخلوا) والصواب ما أثبتّه.
وإن كانا متداخلين فلا يخلو أن يتداخلا تداخل امتزاج أو تداخل إدراع كلابس الدرع، فإن كانا تداخلا تداخل امتزاج حتى صارا طبيعة واحدة فهذا مذهب اليعقوبية / (2/23/ب) ، وقد أبطلناه.
وإن تداخلا تداخل إدراع فيلزم منه أن يكون الأقنوم الأزلي الذي لا يوصف بالجسم قد تشكل الأجسام وصار له لحية وفرج مسامت لما تشكل به من [أقنوم] الإنسان، وكلّ ذلك محال فالقول به محال.
الحجّة الثّامنة: الإنجيل يشهد: "بأن المسيح رفع وجهه إلى جهة السماء وابتهل في الدعاء وقال: يا أبتِ أدعوك فتستجيب لي، وأعلم أنك تستجيب لي في كلّ حين، ولكن إنما أدعوك من أجل هؤلاء القيام ليعلموا أنك أرسلتني"1.
فهذا الداعي المبتهل لا يخلو من أن يكون [الأقنوم] اللاهوتي أو [الأقنوم] الإنساني، فإن كان [الأقنوم الإنساني] 2 فيلزم منه أن يكون الجسد مولداً من الأب [مرسلاً] 3 منه، وهذا ما لا يقول به نصراني ألبتة؛ لأن المولود من الأب عند سائرهم إنما هو الكلمة. وإن كان الداعي هو الأقنوم اللاهوتي فهذا فيه تدليس عظيم إذا المشاهد داعياً إنما هو الجسد المشاهد بائلاً وغائطاً.
الحجّة التّاسعة: هذا المذهب مردود بقول يوحنا الإنجيلي إذ يقول في كتابه: "إن الكلمة صارت جسداً وحلّ فينا"4. وذلك / (2/24/أ) عند النصارى عبارة عن انقلاب [الأقنوم] اللاهوتي إنساناً مسيحاً، فكيف يقول النسطور: إن المسيح [أقنومان اثنان] 5 ويوحنا يقول: إنه واحد؟!.
1 يوحنا 11/41، 42.
2 في م: (فإن كان القنوم الإنساني) ساطقة.
3 في ص (مرسل) والصواب ما أثبتّه.
4 يوحنا 1/14.
5 في ص (قنومين اثنين) والصواب ما أثبتّه.
الحجّة العاشرة: لا شكّ أنّ طائفتي الروم والنسطور يطلقون اللعن والجرم على طائفة اليعاقبة لقولهم: "إن طبيعة اللاهوت وطبيعة الناسوت قد صارتا طبيعة واحدة بالاتّحاد". فمن قال إنّ المسيح اثنان في العدد بعد كونه واحداً فهو [حقيق] 1 بهذا الذّمّ.
فهذا ما يخص كلّ طائفة على انفرادها. وقد عرفت أنّ مقالة اليعقوبية أنّ المسيح عبارة عن طبيعتين لاهوتية وناسوتية، وأنهما بالتركيب صارتا طبيعة واحدة لها مشيئة واحدة.
وأنّ مقالةالروم أنّ المسيح بعدالاتّحاد [طبيعتان] 2لكن [أقنوم] واحد.
وأنّ مقالة النسطور أنّ المسيح بعد الاتّحاد [جوهران وأقنومان]3. وردوا الاتّحاد إلى صفة البنوة4.
1 في ص (محقوق) والصواب ما أثبتّه.
2 في ص (طبيعتين) والصواب ما أثبتّه.
3 في ص (جوهرين وقنومين) والصواب ما أثبتّه.
4 قال شيخ الإسلام في الجواب الصحيح3/179: "والنصارى - في هذا الباب - من أبلغ الناس تناقضاً، يقولون الشيءويقولون بمايناقضه ويلعنون من قال هذاومن قال هذا.
وأيضاً فلكّ طائفة منكم تلعن الأخرى، فإن أهل الأمانة تلعن الأريوسية وغيرهم من طوائف النصارى. وهم يلعنونكم. وكلّ فرقكم الثلاثة النسطورية واليعقوبية والملكية تلعن الطائفتين الأخريين. فأنتم واليعوقوبية تلعنون من يقول: إن مريم لم تلد إلهاً، ويقولون: إن مريم ولدت إنساناً تاماً إلهاً تاماً.
وأنتم والنسطورية تلعنون من قال: إنهماجوهر واحد بمشيئةواحدةوطبيعةواحدة، ومن قال: إن اللاهوت مولود من مريم، ومع قولكم المسيح الذي ولدته مريم مات وصلب.
وفي أقوالكم من العجائب المتناقضة التي توجب أنكم ملعونون - ما يطول وصفه - فما منكم من أحد إلاّ وهو لاعن ملعون. فلعنكم من قال بهذه المقولات لا يوجب أنكم على الحقّ بل يوجب أن يكون من جملة الملعونين عندكم كطائفة من طوائفكم. والنصارى طوائف كثيرون مختلفون اختلافاً كثيراً. والطوائف الثلاثة المشهورة في الأزمان المتأخرة فهم بعض طوائفهم، وإلاّ فهم طوائف كثيرون مختلفون في التثليث والاتّحاد". اهـ.
ومما يرد على الجميع ويفسد عليهم دعوى الاتّحاد، قول فولس في الرسالة الثّالثة:"أوسلتم تعلمون وتوقنون بأن يسوع المسيح حال فيكم، ولإن لم يكن حالاً فيكم (2/24/ب) إنكم لمرذولون، وأنا أرجو أن تكونوا لستم بمرذولين"1. فيجب على مقتضى قول فولس أن يكون اتّحاد اللاهوت بناسوت المسيح كاتّحاد المسيح بناسوت أمته ومتبعيه، ولإن كان من المستحيل أن يتّحد جسم المسيح بأجساد آلاف من النصارى في أقطار الأرض، فاتّحاد القديم جل جلاله بجسد المسيح أجدر بالاستحالة! 2.
1 رسالته الثّانية إلى أهل كورنثوس 13/5، 6.
2 لقد اعتنى علماء المسلمين بنقد عقائد هذه الفرق النصرانية الثّلاثة بأدلة نقلية وعقلية، ومن هؤلاء العلماء: المهتدي الحسن بن أيوب في رسالته: (الرّدّ على النصارى)، والتي قد نقل الإمام ابن تيمية جزءاً كبيراً منها في كتابه:(الجواب الصحيح 2/315-318)، والقاضي الباقلاني في كتابه:(تمهيد الأوائل ص: 100-125)، والقاضي عبد الجبار المعتزلي في كتابه:(تثبيت دلائل النبوة ص: 91-105)، والعلامة ابن حزم في:(الفصل والنحل 1/109-132)، وأبو حامد الغزالي في كتابه:(الرّدّ الجميل لإلهية عيسى بصريح الإنجيل ص: 155-162)، والإمام القرطبي في كتابه:(الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام ص: 127-134)، والمهتدي نصر بن يحيى المتطبب في كتابه:(النصيحة الإيمانية في فضيحة الملة النصرانية ص: 119-149)، والقرافي في كتابه:(أدلة الوحدانية في الرّدّ على النصرانية ص: 95-97) ، وغيرهم.
القول في إبطال التّثليث:
اعلم أنّ سائر النصارى مجمعون على الثّالوث، وهو أنّ ربهم أبٌ، وابن، وروح، فيعبّرون بالأب عن الذات، وبالابن عن النطق الذي هو الكلام، وبالروح عن الحياة 1.
ويزعمون أنه لا يصحّ التّوحيد لموحّدٍ دون أن يعتقد هذا، فزعموا أنّ الأب جوهر 2، وأنّ له صفة حياة وصفة نطق.
1 إن القول الذي أجمع عليه النصارى هو: "أن الله - تعالى عما يقولون علوّاً كبيراً - جوهر واحد، له ثلاثة أقانيم: أقنوم الأب، وأقنوم الابن، وأقنوم روح القدس، وبأنها واحد في الجوهر مختلفة الأقانيم".
وقد أشار القرآن الكريم إلى اعتقادهم بهذه الأقانيم الثّلاثة، فقال: {يَا أَهْلَ الكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُم وَلَا تَقُولُوا عَلَى الله إِلَاّ الحَقَّ إِنَّمَا المَسِيحُ عَيسَى ابن مَرْيمَ رَسُولُ الله وَكَلْمَتُهُ أَلْقَاَهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُوا بالله وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَة انْتَهُوا خَيراً لَّكُم
…
} ، [سورة النساء، الآيتان: 171-172] .
ولقد تناقض أحبارهم في شرح وعرض هذه العقيدة تناقضاً واضحاً؛ بحيث لا يمكن الجمع بين أقوالهم أو الجزم بواحد منها، فقد اختلفوا في التعبير عن ماهية تلك الأقانيم:
فقال بعضهم: إنها أشخاص وذوات، وقال بعضهم: إنها خواص، وقال بعضهم: إنها صفات وهكذا.
واختلفوا في انبثاق روح القدس، هل هو من الأب وحده؟ أم من الأب والابن معاً؟
ثم اختلفوا في نسبة كلّ من الأقانيم الثّلاثة من الإله المجموع الذي يسمونه الثّالوث، وقال بعضهم: إن كلاّ منها إله بذاته، كالإله المجموع (الثّالوث)، وقال بعضهم: إن كلاّ منها إلهٌ بذاته، ولكنه دون الإله المجموع، وقال بعضهم: إن هذه الأقانيم ليست آلهة وإنما الإله هو مجموعها: (الثّالوث) ، وهكذا نرى سلسلة طويلة من الاختلافات والتناقضات في أهم أسس عقيدتهم؛ لأن الإيمان بالتّثليث والتوحيد في آنٍ واحدٍ هو إيمان بغير المعقول باعتراف فهمه وإدراكه، وإن من يحاول إدراك سرّ الثّالوث تمام الإدراك كمَن يحاول وضع مياه المحيط كلّها في كفه.
ويقول القسّ باسيليوس إسحاق في كتابه: (الحقّ) : "أجلّ إن هذا التعليم عن التّثليث فوق إدراكنا، ولكن عدم إدراكه لا يبطله".
ويقول يس منصور في كتابه: (التّثليث والتوحيد) : "إن من الصعب أن نحاول فهم هذا الأمر بعقولنا القاصرة". (ر: النصرانية والإسلام ص: 149، 150، محمّد الطهطاوي) .
وهذه الشهادات منهم كافية في الدلالة على بطلان هذه العقيدة وفسادها.
2 قال الإمام ابن تيمية: "وأما قدماء الفلاسفة كأرسطو، وأمثاله، فكانوا يسمّونه (الله) جوهراً، وعنهم أخذت النصارى هذه التسمية، فإن أرسطو كان قبل المسيح بأكثر من ثلاثمائة سنة، ولهذا قال هؤلاء في كتابهم: نعجب مِمَن ينكر ذلك، وهو قد قرأ شيئاً من كتب الفلاسفة والمنطق". اهـ. ثم أورد ابن تيمية سبعة أوجه في الرّدّ على النصارى في تسميتهم الباري عز وجل بالجوهر. (ر: الجواب الصحيح 3/204-327) .
ويؤكّد ما ذكره ابن تيمية اعتراف النصارى بذلك، حيث يقول الأب متى المسكين في كتابه:(القديس اثناسيوس الرسولي ص 351) : "إن الجوهر ESSENTIA بمنعى: الوجود الحقيقي أو الكيان الواقعي، كان هذا التعبير مستخدماً عند أفلاطون قديماً ليفيد لخواص النوعية للمُثل IDEAS العليا أو الحقائق في مقارنتها بالمظاهر التي نراها. ولما جاء أضاف إليها معانٍ جديدة وتثبتها في المحيط الفلسفي الإغريقي، وهي عنده بمعنى: الكائن". اهـ.
قالوا1: فلا يكون الإله فاعلاً حكيماً إلاّ بعد كونه حياً ناطقاً فإذا وجب أن يكون الإله حيّاً ناطقاً، فهل الحياة والنطق ذوات أو صفات؟ اختلف فيه أكابرهم، فمنهم من قال: الحياة والنطق صفات2 لجوهر الأب. ومنهم من قال: بل هي ذوات بأنفسها. ومنهم من قال: بل هي خواص لذلك الجوهر. وطريق مفاوضتهم في ذلك:
أن3 نقول لهم: هل / (2/25/أ) تثبون الألوهية لكل واحد من الأقانيم الثلاثة أم تزعمون أن الجميع إله واحد، أم تقولون إن الإله واحد منها والباقي صفات له؟
فإن قلتم: بأن الإله واحد والزائد صفات له، فقد أبطلتم القول بالثالوث وواففقتمونا على قولنا: إنّ الإله واحد وله صفات من العلم والقدرة والإرادة والحياة والسمع والبصر والكلام. وإنّ شيئاً من هذه الصفات ليست إلهاً وإنما ذات موصوفة بهذه الصفات، وفارقتم حينئذٍ قول مشائخ4 الأمانة إذ يقولون:"إن الأب إله واحد، وإنّ الأب أيسوع إله واحد، وإن الروح القدس إله ثالث". وأفسدتم صلواكم حيث تقرأون فيها: "الملائكة يمجدونك وابنك نظيرك في الابتداء وروح القدس مساويك في الكرامة".
1 في م: قال.
2 ليست في (م) .
3 ليست في (م) .
4 في م: المسيح، وهو خطأ.
وإن زعمتم أن الجميع إله واحد وأن واحداً من الثلاثة ليس إلهاً على انفراده فقد تركتم القول بالتثليث وعبدتم إلهاً واحداً متركباً من ثلاثة أقانيم وهذا ترك لما انطوت عليه الأمانة في أنّ كلّ واحد من الأب والابن والروح القدس [إله مستقل] 1 بالألوهية. / (2/25/ب) وهدم لأصل النصرانية إذ لا خلاف بينهم أن اللاهوت اتّحد بالناسوت.
وإذا كان الإله عبارة عن الثلاثة الآب والابن والروح، فالأب والروح ما اتّحدا بالناسوت أصلاً، وإنما اتّحد به الابن الذي هو العلم أو النطق، فإذاً ما اتّحد الإله بل أحد الأقانيم الثلاثة، وذلك على تجرده لا يسمى إلهاً. وفي الأمانة:"إن المسيح إله حقّ وإنه أتقن العوالم بيد، وخلق كلّ شيء، وأنه نزل من السماء لخلاص الناس". وذلك مما يبطل هذا [الأقنوم] لأن الذي نزل إنما هو في زعمكم [أقنوم] الابن، فإذا كان الإله هو مجموع الثلاثة بطل أن يكون الابن هو خالق الأشياء ومتقن العوالم ومخلص الناس؛ إذ لا يوصف بذلك إلاّ الإله الذي هو مجموع الثلاثة القانيم وهي: الأب والابن والروح القدس.
وإن زعموا أنّ كلّ واحد من الثلاثة الأقانيم إله ومجموعها إله واحد، قلنا لهم: أتزعمون أنّ كلّ واحد من الثلاثة إله حقيقة أو على سبيل التجوز والتوسع وأن الإله الحقيقي هو مجموع الثلاثة؟.
فإن قالوا بهذا وصرفوه إلى مجرد التسمية دون الحقيقة تركوا القول بالثالوث وأثبتوا / إلهاً واحداً له صفات، ثم سَمُّوا صفاته آلهة تحكماً وتخرصاً بغير توقيف ولا دلالة، هدموا قول الأمانة:"إن المسيح إله حقّ"، وقالوا: بل هو إله تجوز. وأبطلوا عبادة المسيح حيث يقرأون في صلاتهم: تعالوا نسجد، تعالوا نتضرع للمسيح إلهنا، وردوا قول مشائخ الأمانة إذ يقولون: "المسيح إله حقّ، وإنه أتقن
1 في ص (إلهاً مستقلاً) والصواب ما أثبتّه.
العوالم وخلق كلّ شيء بيده". لأن الذي أتقن العوالم هو الإله بالحقيقة كما لا إله بالتسمية والتجوز، وهذا الإله الحقيقي لم يتّحد بجسد المسيح بل ما اتّحد به إلاّ [أقنوم] واحد، ويسمَّى إلهاً على سبيل التجوز والاستعارة.
وإن زعموا أن كلّ واحد من الثلاثة الأقانيم إله كامل على الحقيقة إذا أفردوا، وأن الجميع إله واحد على الحقيقة إذا جمعوا، وبهذا القول يقولون فهذا في الدرجة العليا من الفساد والتهافت؛ وذلك أَنَّا نقول لهم: أيجوز خلو الإله عن الحياة والعلم؟ فإن جوَّزوا ذلك، قيل لهم: فإذا لا حاجة إلى الأقانيم إذ الإله مستغنٍ عنها.
وإن قالوا: لا بدَّ للإله من أن يكون حيّاً عالماً، فيقال لهم: إذا قلتم إنّ كلّ واحدٍ / (2/26/أ) من الأقانيم تسعة فيصير التثليث تتسيعا، إذ حياة كلّ واحد من الأقانيم الثلاثة وعلمه [أقنومان] له، ثم كلّ واحد من التسع الأقانيم إله حقيقة وإنما يصير إلهاً حقيقة إذا ثبت وجوده وحياته وعلمه، إذ لا يجوز خلو الإله عن الحياة والعلم وحينئذٍ يتسلسل القول إلى إثبات آلهة لا نهاية لها.
فهذا يلزم من يقول: إن كلّ واحد من الأقانيم الثلاثة له حياة وعلم.
وإن قالوا: لا يثبت هذا الوصف إلاّ لواحد منها، امتنع عليهم وصف الثاني والثالث بالألوهية حقيقة لم تقرر أن الإله يجب أن يكون حيّاً عالماً، وبطل عليهم القول بالثالوث على كلّ الوجوه1.
والله أعلم وأحكم.
1 انظر: نقد التثليث وإبطاله في رسالة الحسن بن يوسف. (ر: الجواب الصحيح 3/350) . وفي: الفصل في الملل والنحل للإمام ابن حزم 1/109-132، وفي الإعلام بما في دين النصارى للإمام القرطبي ص 55-88) ، وفي:(الجواب الصحيح للإمام ابن تيمية 3/90-115 وما بعدها) وفي النصيحة الإيمانية للمهتدي نصر بن يحيى المتطبب ص 135-143، وفي تحف الأريب للمهتدي عبد الله الترجمان ص 139-149، وفي (إظهار الحقّ للشيخ رحمة الله، ص 335-350) . وغير ذلك.