الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الخامس: في أنّ المسيح عليه السلام وإن قُصدَ وطُلبَ فما قُتلَ وما صُلبَ
نورد هذا الفصل على نصّه لتقفوا عليه وتعجبوا من هذه النقائص التي نسبها النصارى إلى المسيح مع قولهم بربوبيته واعتقادهم أنه خالق السماء والأرض وجامع الناس ليوم العرض1.
قال النصارى: بينما بسوع [جالس] 2 مع تلاميذه ليلة الجمعة لثلاث عشرة ليلة خلت من شهر نيسان إذ جاء يهوذا الإسخريوطي أحد الاثني عشر ومعه جماعة معهم السيوف والعصي من عند رؤساء الكهنة ومشائخ الشعب وقد قال لهم يهوذا: الرجل الذي أُقبله هو هو فأمسكوه، ثم جاء يهوذا وقال / (1/120/أ) : السلام عليك يا معلم، ثم قبله فقال يسوع: ألهذا جئت يا صاحب؟ فوضعوا أيديهم عليه وربطوه3 فتركه التلاميذ كلهم هربوا فقال يسوع: مثل ما يفعل بالصوص خرجتم إليَّ بالسيف والعصى وأنا عندكم في الهيكل كل يوم أُعلم
1 إننا نعجب ونستنكر - أيضاً - من تناقض الأناجيل بعضها ببعض في سرد الأحداث التي جرت قبل الصلب وبعده وأحداث قيامة المسيح من الموت - حسب زعمهم - وأمام هذه التناقضات الواضحة - فيما سنرى - لا يسع العاقل إلاّ أن يرفض تلك الروايات المكذوبة المتناقضة ويحكم ببطلانها جميعاً لعدم إمكان تمييز الصادق والكاذب منها.
2 في ص (جالسا) والصواب ما أثبته.
3 إن حادثة القبض على المسيح عليه السلام ترويها الأناجيل بصورة متناقضة مع بعضها، فقد اتّفقت روايتا متى 26/47-50، ومرقس 14/43-46 على أنّ يهوذا الإسخريوطي الخائن قد قبل المسيح حينما جاء بالجند للقبض عليه - وقد كانت القُبلة هي العلامة المتّفق عليها بين يهوذا والجند لتمييز المسيح عن تلاميذه -.
أما رواية لوقا 22/47، 48، فتذكر بأنه: "بينما هو - أي: المسيح - يتكلم إذا جمع والذي يدعي يهوذا أحد الاثني عشر يتقدمهم، فدنا من يسوع ليقبله فقال له: يسوع: يا يهوذا. أبقبلة تسلم ابن الإنسان؟!
…
فأخذوه وساقوه".
وأما رواية يوحنا 18/1-12، فإنها لا تذكر شيئاً عن تلك القبلة. (ر: نصّ رواية يوحنا في ص 223) .
ويظهر تناقض آخر في هذه الحادثة وهو: أن كلاً من متى ومرقس يذكران أنّ تحية وكلاماً قد جرى بين يهوذا والمسيح أثناء القبض، بينما يصمت لوقا عن ذكر تلك التحية، ولا يذكر يوحنا عن يهوذا شيئاً سوى الصمت التام بعد أن قاد الجند إلى مكان المسيح للقبض عليه.
فلم تعرضوا لي1، لكن هذه ساعة سلطان الظلمة2، إلى رئيس الكهنة3 حيث يجتمع الشيوخ4 - وتبعه بطرس من بعيد ودخل معه الدار ليلاً وجلس ناحيةً منها متنكراً ليرى ما يؤول أمره إليه5 - فالتمس المشائخ على يسوع شهادة ليقتلوه بها فجاء جماعة من شهود الزور، ثم تقدم منهم اثنان فشهدا أن يسوع قال: أنا أقدر أنقض هيكل الله وأبنيه في ثلاثة أيام، فقال له الرئيس: أما تجيب عن نفسك بشيء؟ فسكت يسوع فأقسم عليه رئيس الكهنة بالله الحي: أنت المسيح؟ فقال له المسيح: أنت قلت ذلك وأنا أقول لكم إنكم من الآن لا ترون ابن الإنسان حتى ترونه جالساً عن يمين القوة وآتيا في سحاب السماء. فلما سمع رئيس الكهنة ذلك شقَّ ثيابه وقال: ما
1 متى 26/55، 56، مرقس 14/48-50، لوقا 22-52، 53.
2 انفرد بهذه العبارة لوقا 22/53.
3 رواية متى 26/57، ومرقس 14/53، لوقا 22/54، تفيد أن الجند ذهبوا بالمسيح إلى رئيس الكهنة مباشرة. أما رواية يوحنا 18/12-14، فإنها تذكر أن الجند ذهبوا بالمسيح إلى حنا أوّلاً - وهو حنا قيافا رئيس الكهنة - بدلاً من الذهاب إلى رئيس الكهنة مباشرة كما ذكر الثلاثة الآخرون.
4 تفيد روايات متى 26/57-60، ومرقس 14/53-55، ويوحنا 18/15-20، أن محاكمة المسيح أمام مجمع اليهود كان في الليل عقب القبض عليه مباشرة. أما رواية لوقا 22/54-71 فإنها تفيد أن المحكمة كانت في صباح اليوم التالي لعملية القبض.
5 إن قصّة إنكار بطرس للمسيح بعد القبض عليه من مواضع الخلاف الواضح بين ما ترويه الأناجيل. قارن: رواية متى 26/58-75، ومرقس 13/53-72، ولوقا 22/54-61، ويوحنا 18/16-27. وذلك الخلاف الواضح بين الروايات دفع نينهام - استاذ اللاهوت بجامعة لندن - أن يقول: إنّ قصة إنكار بطرس تثير عدداً من المشاكل
…
ويرى بولتمان أنه أسطورية
…
". اهـ. (ر: تفسير إنجيل مرقس ص 401، 409، نقلاً من كتاب: (المسيح في مصادر ص 155، لأحمد عبد الوهّاب) .
حاجتنا إلى شهادة هوذا / (1/120/ب) قد سمعتم تجديفه، ماذا ترون في أمره؟ فقالوا: هذا مستوجب الموت. فحينئذٍ بصقوا في وجهه ولطموه وضربوه وهزؤوا به جدّاً وجعلوا يلطمونه ويقولون له: بيِّن لنا أيّها المسيح من لطمك1، ولما كان من الغد أسلموه لفلاطس القائد فتصايح الشعب بأسره وقال: يصلب يصلب.
فتحرج فيلاطس من قتله وقال: أيُّ شيء فعل هذا؟ فقال الشيوخ: دمه عليهم وعلى أولادهمم2، فحينئذٍ ساقه جند القائد إلى الأبروطورون3 واجتمع عليه الشعب ونزعوا ثيابه وألبسوه لباساً أحمر [فضفَّروا] 4 إكيلاً من الشوك وتركوه على رأسه وجعلوا في يده قصبه، ثم جثوا على ركبهم يهزءون به ويقولون: السلام عليك يا ملك اليهود، وشرعوا يبصقون عليه ويضربونه في
1 متى 26/59-68، مرقس 14/55-65، أما رواية لوقا 22/63-71، ويوحنا 18/19-13، فلم تذكر قصة شهود الزور على المسيح.
2 متى 27/1، 2، 11/26، مرقس 15/1-14، يوحنا 18/28-40.
أما رواية لوقا 23/1-25، فقد انفردت بأن محاكمة المسيح أمام بيلاطس (والي اليهودية) حدثت على مرحلتين: الأولى: عندما قام جمهورية اليهودية وجاءوا بالمسيح إلى بيلاطس. والثانية: بعد محاكمة أخرى كانت أمام هيرودس - (حاكم الجليل) والتي قد انفرد بذكرها أيضاً لوقا دون سائر الأناجيل.
3 دار الولاية. وكلمة (وال) ترجمة عربية لكلمتين لاتينيتين: (بروقنصل) أو (بروتوكوراتور) . (ر: قاموس الكتاب ص 1040) .
4 في ص (فطفروا) والصواب ما أثبته.
رأسه1، ثم ذهبوا به وهو يحمل صليبه2 إلى موضع يعرف بالجمجمة3 فصلبوه4 وسمَّروا يديه على الخشبة: وسألهم شربة ماء، فأعطوه خلاً مذاباً بمر فذاقه ولم يسغه، فنادى على الخشبة: إلهي إلهي لم خذلتني؟ 5 وجلس الشرط فاقتسموا ثيابه بينهم بالقرعة وجعلوا عند رأسه لوحاً مكتوباً هذا يسوع ملك/ (1/121/أ) اليهود6استهزاءً به، ثم جاءوابلصين فجعلوهما عن يمينه وشماله تحقيراً له7، وكان اليهود يقولون له: يا ناقض الهيكل وبانيه في ثلاثة أيام خَلص نفسك إن كنت ابن الله كما تقول أنزل عن الصليب.
وقال اليهود: هذا يزعم أنه خلص غيره فكيف لم يقدر على خلاص نفسه؟! أن كان متوكلاً على الله فهو ينجيه مما هو فيه8،
1 رواية متى 27/27-28، ومرقس 15/16-19، ويوحنا 19/1-5، تفيد أن الجنود الذين سخروا من المسيح واضطهدوه هم جنود الوالي بيلاطس. لكن رواية لوقا 23/11، تفيد بأنهم جنود هيرودس وليس جنود بيلاطس.
2 نجد حسب رواية متى 27/32، ومرقس 15/11ت، ولوقا 23/26، أن شخصاً مجهولاً يدعى سمعان القيرواني هو الذي سخره الرومان لحمل الصليب بدلاً من المسيح، لكن يوحنا 19/16، 17، لم يذكر ذلك.
3 الجمجمة: هي مضوع الجلجثة حيث يزعم النصارى أن المسيح صلب هناك. ويقول نينهام: "وبالنسبة لموضع جلجثة فإن التقاليد تقول: إنه يقع داخل كنيسة القبر المقدس، لا يمكن إرجاعها لأبعد من القرن الرابع، كما أنها لا تزال موضع جدل، ولقد اقترحت أماكن أخرى في عصرنا الحاضر، إلاّ أنّ القطع بواحد منها لا يزال بعيداً عن التحقيق". (ر: تفسير إنجيل مرقس ص 422، فاقوس ص 267، 268) .
4 إن هناك اختلافاً واضحاً في تجديد وقت الصلب، حيث يقول مرقس 15/25:"وكانت الساعة الثالثة فصلبوه". ا. هـ. لكن يوحنا 19/14-16، يقول:"إن الصلب حدث بعد الساعة السادسة"!!!.
5 لم ترد هذه العبارة في هذا الموضع بالأناجيل، ولعله وهم من المؤلِّف.
6 متى27/34-37، مرقس15/23-26، لوقا 23/36-38، يوحنا19/19-29.
7 يتّفق متى 27/38، 44، مع مرقس 15/27، 32، في أن اللصين اللذين صلبا مع المسيح كانا يعيرانه.
لكن لوقا 23/39-43، يذكر أن أحد اللصين كان يعير المسيح، أما اللص الآخر فكان ينهر اللص الأوّل ويطلب الدعاء من المسيح بأن يكون معه في ملكوته. أما يوحنا 19/18 فلم يذكر شيئاً عن موقف اللصين من المسيح.
8 متى 27/39-43، مرقس 15/29-32، لوقا 23/35-36. أما يوحنا فلم يذكر شيئاً من ذلك. (ر: الإصحاح (16".
ولما كان ست ساعات من نهار الجمعة صرخ يسوع وهو على الصليب بصوت عظيم فقال: " [ألوى ألوى لما شبقتني] 1 تفسيره (إلهي إلهي لم تركتني؟ "2. فأخذ اليهود أسفنجة فيها خل ورفعها أحدهم إلى قصبة وسقاه وقال آخر منهم: دعوه حتى نرى من يخلصه، فصرخ يسوع وأمال رأسه وأسلم الروح3 فأنشق جدار الهيكل وتزلزلت الأرض وانشقت الصخور وتفتحت القبور وقام كثير من القديسين من قبورهم فدخلوا المدينة المقدسة وظهوراً للناس4، ولما كان المساء جاء رجل من الرامة يسمى يوسف فسأل القائد جسد يسوع فأمر له به فلفه يوسف بلفائفنقيه وتركه في قبر كان قد نحته في صخرة، ثم جغل على باب القبر حجراً ظيماً5، / (1/121/ب) وجاء مشائخ اليهود من الغد الذي بعد الجمعة إلى فيلاطس القائد فقالوا: يا سيد ذكرنا أن ذاك الضال كان قد قال لتلاميذه: أنا أقوم بعد ثلاثة أيام، فلو أمرت من يغلق القبر ويحرسه حتى تمضي المدّة كيلا يأتي تلاميذه ويسرقونه ثم يشيعون في الشعب أنه قد قام فتكون الضالة الثاني [شرّاً] 6 من الأولى، فقال لهم القائد: اذهبوا وسدوا عليه وحَرِّسُوا كما تريدون، فمضوا وفعلوا ما أرادوا7،
1 في ص (الوى الوى إيما صاصا) والمثبت من إنجيل مرقس 15/34.
2 هذه العبارة من رواية مرقس 15/34.
أما رواية متى 27/46 فهي: "إيلي إيلي لما شبقتني. أي: إلهي إلهي لماذا تركتني؟ ". بينما لم يذكر لوقا ويوحنا هذه العبارة في إنجيلهما.
ويتساءل هنا المؤرِّخ ول ديورانت: "هل يمكن أن يكون الإيمان العظيم الذي أعاد المسيح في موقفه أمام بيلاطس". (ر: يوحنا 18/33-39) . قد انقلب في تلك اللحظات المريرة إلى شكّ أسود؟! ولعل لوقا قد رأى أن هذه العبارة لا تتّفق مع عقائد بولس الدينية فبدّلها بقوله: "يا أبتاه في يديك استودع روحي". وهي عبارة تردد صدى الفقرة الخامسة من المزمور الحادي والثلاثين ترديداً يثير الريب لما فيه من دقة". اهـ.
3 متى 27/47-50، مرقس 15/35-37، لوقا 23/46، يوحنا 19/28-30.
4 إن الأحداث التي وقعت عقب الصلب ترويها الأناجيل بصورة متناقضة يظهر فيها الكذب والخيال الفاضح. انظر: ص 228، لبيان التفصيل في ذلك.
5 متى27/57-60،مرقس 15/42-47، لوقا 23/50-54، يوحنا 19/38-42.
6 في ص (شر) والصواب ما أثبته.
7 انفرد متى 27/62 - عن سائر الأناجيل الأخرى - بما ذكره عن طلب اليهود من بيلاطس أن يرسل حراساً لضبط القبر واستجابته لهم.
وفي عشية يوم السبت جاءت مريم المجدلانية ومريم رفيقها لينظرن إلى القبر1 - وفي إنجيل مرقس - إنما جاءت مريم يوم الأحد بغلس2، وجلس عنده وعليه ثياب بيض كالبرق، فكاد الحراس يموتون من هيبته، ثم قال للنسوة: لا تخافا قد علمت أنكما جئتما [تطلبان] 3 يسوع المصلوب ليس هو هاهنا إنه قد قام تعالين فانظرن إلى المكان الذي كان فيه الرّبّ واذهبا وقولا لتلاميذه: إنه يسبقكم إلى الجليل، فمضتا وأخبرتا التلاميذ4، ودخل / (1/122/أ) الحرس وأخبروا رؤساء الكهنة الخبر، فقالوا: لا تنطقوا بهذا وأرشوهم بفضة على كتمان القضية فقبلوها منهم وأشاعوا أن تلاميذه جاءوا وسرقوه ومهدت المشائخ عذرهم عند القائد5، ومضت الأحد عشر تلميذاً إلى الجليل6، وقد شكّ بعضهم
1 ذكر ذلك متى في إنجيله 18/1، أما لوقا 24/1، 2، فيذكر أن الزائرات للقبر جمع من النساء، أما يوحنا 20/1، فيجعل مريم المجدلية هي المرأة الوحيدة التي ذهبت ليزارة القبر ثم ذهبت فأحضرت معها بطرس ويوحنا.
2 مرقس 16/1، ويذكر أن الزائرات للقبر كن ثلاث نسوة.
3 في ص (تطلبن) والصواب ما أثبته.
4 ذكر ذلك متى في إنجيله 18/1، أما رواية مرقس 16/5-8، فتذكر أن النساء رأين شاباً جالساً عن اليمين في القبر لابساً حلة بيضاء
…
، وأما رواية لوقا 24/4-9، فتذكر بأن النساء رأين رجلين بثياب براقة، وفي يوحنا 20/11-13، نجد أنهما ملاكين بثياب بيض جالسين - في القبر - واحداً عند الرأس والآخر عند الرجلين. ويعلق فرانك موريسون في كتابه:(من دحرج الحجر؟ ص 182)، على هذه الرويات بقوله:"إن هذه الروايات - التي نقل عنها كل من متى ولوقا - قد تطورت واختلفت بفعل النسيان، وهكذا فإن الشاب الواحد الذي كان عند المقبرة - والذي كان في الحقيقة شاباً واحداً حسب القصة الأصلية - قد أصبح بمرور الزمن الملاك العظيم في إنجيل متى، والزائرين السماويين بثياب براقة في إنجيل لوقا. وهكذا أيضاً فإن دحرجة الحجر بعيداً (عن القبر) . - قد أصبحت موضوعاً للكثير من الحدس والتخمين، فقال: بعضهم: إن الحجر دحرج نفسه بعيداً، بيمنا قال آخرون: قد دحرجته الملائكة". اهـ.
5 انفرد متى 2/11-15 بذكر ذلك عن سائر الأناجيل الأخرى.
6 يتّفق متى 28/16، 17، مع مرقس 16/7، 14، على أن لقاء المسيح بتلاميذه حدث في الجليل، واختلفا بذلك مع لوقا 24/33-36، ويوحنا 20/19-22، اللذين جعلا مكان اللقاء في أورشليم.
وجاءهم وكلمهم، وقال لهم: اذهبوا فعمدواكلّ الأمم وعلموهم ما أصيكم به وهوذا أنا معكم إلى انقضاء1 الدهر2.
قال المؤلِّف - عفا الله عنه -: أوّل ما نفاتح النصارى أن نقول: ما ادعيتموه من قتل المسيح وصلبه أتنقلونه تواتراً أو آحاداً؟.
فإن زعموا أنهم ينقلونه نقل الآحاد لم تقم بذلك حجة ولم يثبت العلم الضروري، إذ الآحاد لا يؤمن عليهم السهو والغفلة والتواطؤ على الكذب، وإذا كان الآحاد يعرض [لهم] 3 ذلك فلا يحتج بهم في القطعيات4.
1 نصّ المؤلِّف مقتبس من إنجيل متى 28/17-20، وأشار إليه مرقس 16/14، 15، ولوقا /36، 24-47.
2 وبعد هذه التعليقات المختصرة ما ذكر في الباب السابق في بيان ما في الأناجيل من التناقضات وخصوصاً في حادثة الصلب المزعومة نخلص إلى النتيجة التي توصل إليه ول ديورانت حيث يقول: "وملاك القول أن ثمة تناقضاً بين بعض الأناجيل والبعض الآخر، وأن فيها نقطاً تاريخية مشكوك في صحتها، وكثيراً من القصص الباعثة على الريبة والشبهة بما يروي عن آلهة الوثنيين، وكثيراً من الحوادث التي يبدو أنها وضعت عن قصد لإثبات وقوع كثير من النبوءات الواردة في العهد القديم، وفقرات كثيرة، ربما كان المقصود منها تقدير أساس تاريخي لعقيدة متأخرة من عقائد الكنيسة أو طقس متأخر من طقوسها
…
، ويبدو أن ما تنقله الأناجيل من أحاديث وخطب قد تعرضت لما تتعرض له ذاكرة الأميين من ضعف وعيوب ولما يرتكبه النساخ من أخطاء أو تصحيح".اهـ. (ر: قصة الحضارة 11/210، بتصرف يسير) . فهذه شهادة عالم من علمائهم واعتراف منه بوقوع التحريف بالزيادة والنقصان في أناجيلهم.
3 إضافة يقتضيها السياق.
4 يعلّق الإمام القرافي على قصة الصلب في الأناجيل بقوله: "فإنه لو وقع الصلب ونقل بأخبار الآحاد لم يحصل لنا علم بالصلب؛ لأن المتواترات إذ نقلت بأخبار الآحاد سقط اعتبارها في إفادة لاعلم لجواز كذب الناقل فلا يكون عدد التواتر حاصلاً في نفس الأمر". اهـ. (ر: الأجوبة الفاخرة ص 53) .
ويقول الإمام ابن القيم في مختصر الصواعق ص 571: "خبر الواحد بحسب الدليل الدال عليه، فتارة يجزم بكذبه لقيام دليل كذبه، وتارة يظن كذبه إذا كان دليل كذبه ظنياً، وتارة يتوقف فيه فلا يترجح صدقه ولا كذبه إذا لم يقم دليل أحدهما، وتارة يترجح صدقه ولا يجزم به، وتارة بصدقه جزماً لا يبقى معه شك.
فليس خبر كلّ واحد يفيد العلم ولا الظن، ولا يجوز أن ينفى عن خبر الواحد مطلقاً أنه يحصل العلم فلا وجه لإقامة الدليل على أن خبر الواحد لا يفيد العلم وإلاّ اجتمع النقيضان". اهـ.
وإن عزوا ذلك إلى التواتر، قلنا لهم: شرط التواتر استواء الطرفين فيه والواسطة، وهو أن ينقل الجم الغفير عن الجم الغفير الذين
وعلى هذا فإن الخبر الوارد في الأناجيل بصلب المسيح لا يثبت له العلم الضروري بل يجزم بكذبه لقيام الأدلة على ذلك منها:
أ- أنه بالنسبة لنا - نحن المسلمين - فقد ورد النّصّ الصريح من القرآن الكريم بتكذيب اليهود والنصارى فيما زعموه، فقال تعالى:{وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} .
ب- أنه لا يمكن الوثوق بالمصادر النصرانية لجهالة مؤلفي الزناجيل ومترجميها ثم عدم السند المتّصل لصحة نسبها إلى أصحابها، وقد سبق الحديث عن ذلك.
ج- تناقض الأناجيل بعضها ببعض واختلافها لفظاً ومعنىً خاصة فيما يتعلق بأحداث الصلب، وهو ما بينه المؤلِّف في هذا الباب وقد سبق التعليق على بعض ذلك.
د- أنه لا يلزم تصديق النصارى في ذلك؛ لأن مرجعهم إلى خبر اليهود الذين دخلوا على المسيح في البيت وادعوا القبض عليه وصلبه، وهم عدد قليل لا يبعد تواطؤهم على الكذب، ولأنهم لم يكونوا على علم بمن قتلوه حتى أكثروا رجلاً يدلهم عليه مع اشتهار أمر المسيح ووضوح دعوته عند الناس.
هـ- أنه لم يحضر أحد من كاتبي الأناجيل حادثة الصلب والقتل كما هو ظاهر في الأناجيل، فخبرهم إذاً لم يكن عن أمر محسوس ومشاهد.
وأن المسيح عليه السلام يجري على يديه من الآيات وخوارق العادات-التي هي من معجزاته-ما لا يستبعد معه قلب الحقائق فيما يبدو للناظر وإن كان محسوساً.
ز- أن قصة صلب المسيح كحادثة وقعت أو كعقيدة تكفيراً عن الخطيئة ليست أمراً مجمعاً عليه عند جمع النصارى، فقد ورد في تاريخ موسهيم المؤرخ البروتستانتي - الذي يدرس في مدارس اللاهوت الإنجلية - أن كثيراً من فرق النصارى كانت ترفض حصول الصلب رفضاً كليّاً؛ لأن البعض منهم كان يعده إهانة لشرف المسيح ونقصاً يلحق به، والبعض الآخر كان يرفض استناداً على الأدلة التاريخية، وهؤلاء الجاحدون للصلب طوائف كثيرة منها:
1-
الساطرينوسيوف
2-
والكاربوكراتيون
3-
والمركيرنيون
4-
والبارديسانيون
5-
والتاتبانيسيون
6-
والمايتسيون
7-
البارسكاليونيون
8-
واليولبيسيون
9-
والدوسيتية
10-
المرسيونية
11-
الفلتطائيائية " اهـ.
وكذلك طائفة الباسيليديون. (ر: كتاب عقيدة المسلمين في بعض المسائل النصراينة ص 49، لـ دوارسيوس الفرنسي، نقلاً عن كتاب الفارق بين الخلق والمخلوق، ص 281، لـ عبد الرحمن البغدادي، (باجة ذي زادة) ، المسيح في مصادر العقائد المسيحية ص 273-276، مهندس أحمد عبد الوهّاب".
ح- وجود أناجيل أخرى قد أنكرت صلب المسيح عليه السلام، ومنها:(إنجيل برنابا) وفيه نجاة المسيح من كيد اليهود رفعه إلى السماء حيا وأن الصلب والقتل إنما وقع على
به وعلموه ضرورة، فإن / (1/122/ب) اختل شيء من ذلك فلا تواتر، وإن زعم النصارى أن خبرهم في قتل المسيح وصلبه بهذه الصفة أكذبتهم نصوص الإنجيل التي بأيديهم إذ قال نقلته الذين دونوه لكم وعليهم معولكم:"إن المأخوذ للقتل كان في شرذمة من تلاميذه فلما قبض عليه هربوا بأسرهم ولم يتبعه سوى بطرس من بعيد فما دخل الدار حيث اجتمعوا نظرت جارية منهم إلى بطرس فعرفته فقالت: وهذا كان معه، فحلف بطرس أنه لا يعرف يسوع ولا يقول بقوله وخادعهم فذهب ولم يعد، وأن شاباً تبعه وعليه إزار فتعلقوا به فترك إزاره في أيديهم وأفلت عرياناً"1.
فهؤلاء أصحابه وأتباعه لم يحضر منهم ولا رجل واحد بشهادة الأناجيل، وأما أعداؤه من اليهود الذين تزعم النصارى أنهم حضروا الأمر فلم يبلغوا عدد التواتر أصلاً بل كانوا آحاداً وأفراداً، فمن نازع فيما قلناه ونقلناه فهذا الإنجيل
يهوذا الإسخريوطي الذي أخذ الرشوة من اليهود ليدلهم على مكان المسيح عليه السلام. (ر: إنجيل برنابا الإصحاح (14) وما بعده إلى نهاية الإنجيل".
ط- وردت تنبوءات كثيرة في سفر المزامير بنجاة المسيح عليه السلام من الصلب والقتل منها: مزمور 20/1-6: "ليستجيب لك الرّبّ في يوم الضيق ليرفعك اسم إله يعقوب، ليرسل لك عوناً من قدسه
…
الآن عرفت أن الرّبّ مخلص مسيحه
…
". مزمور 4/1، 22: "في يوم الشّرّ ينجيه الرّبّ، الرّبّ يحفظه ويحييه ويغتبط في الأرض ولا يسلمه إلى مرام أعدائه
…
". (للتوسع في تنبوءات المزامير انظر: الدراسة القيمة للمهندس أحمد عبد الوهّاب في كتابه: (المسيح في مصادر ص 207-270) .
فآحاد هذه الأدلة كافية في إبطال دعوى النصارى بصلب المسيح وقتله، فكيف بمجموعها؟!!.
ولم يبق أمام أصحاب العقول والأفهام من اليهود والنصارى، إلاّ الإيمان بما ورد في القرآن الكريم والسنة الصحيحة بأن المسيح عليه السلام لم يصلب ولم يقتل بل رفعه الله إلى السماء الدنيا حيّاً بجسده وروحه عليه السلام إلى أن يحين نزوله إلى الأرض - ويكون ذلك من علامات الساعة الكبرى - فيقتل المسيح الدجال ويكسر الصليب ويقتل الخنْزِير ويضع الحرب ويحكم بشريعة نبيّنا محمّد صلى الله عليه وسلم. (ر: صحيح البخاري بشرحه فتح الباري 2/256، وصحيح مسلم 1/135، وكتاب التصريح بما تواتر من نزول المسيح للشيخ محمّد أنور شاه الكشيمري، وكتاب عيسى بن مريم آخر الزمان للأمام السيوطي، وفتوى صادرة من اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء رقم الفتوى 1621، في 11/7/1397هـ) . 1 متى الإصحاح (26) ، مرقس الإصحاح (14) ، لوقا الإصحاح (22) ، يوحنا الإصحاح (18) .
الذي بأيديهم حكماً فيما بيننا وبينه، وإذا ثبت أن أتباع المسيح لم يحضر منهم أحد، واليهود الذين حضروا عصابة / (1/123/أ) قليلة دون عدد التواتر يجوز عليهم السهو الغلط واعتماد الكذب؛ لم يجب قبول أقوالهم.
فلا جرم قُدم تواتر الكتاب العزيز وهو قوله تعالى: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُم} . [سورة النساء، الآية: 157] .
ومما يزيد الأمر وضوحاً قول الإنجيل: "إن مريم لما جاءت لزيارة القبر رأت مَلَكاً قد نزل من السماء برَجة عظيمة، فدحرج الحجر عن فم القبر وجلس عنده فكان الحراس يموتون من هيبته، وبادروا من فورهم إلى مشائخ اليهود وأعلموهم بالقصّة، فأرشاهم المشائخ بشروة وتقدموا إليهم بستر القصة والإشاعة أن تلاميذ المصلوب سرقوه ومهدوا لهم عذرهم عند القائد"1.
وإذا كان الأمر كذلك فما يؤمنكم أن تكون هذه العصابة من اليهود قد صلبوا شخصاً من أصحاب يسوع وأتباعه وأوهموا الناس أنه المسيح ليغضوا منه ويحطوا من قدره، حيث جهدوا جهدهم في طلبه فلم يقدروا عليه وأعوزتهم وجوه الحيل في مغالبته كما فعلوا في ستر الآية التي ذكرتهم؟ !
وإذا كان أصحابكم الموقنون العدول / (1/123/ب) عندكم لم يحضر منهم أحد البتة واليهود الكفار المدَلِّسون شرذمة قليلة وأكثرهم لم يعرف المسيح، لم يحصل لكم غلبة ظنٍ بقتل المسيح فضلاً عن حصول العلم الضروري.
1 متى 28/1-15.
وها نحن نورد من الحجج المقبولة عندكم ما يقضي بغلطكم في قتل المسيح وصلبه ويحقّق لكم أن المفعول به ذلك سواه هو الشبه الذي نقول به إن شاء الله تعالى.
- الحجّة الأولى:
لا شكّ ولا خفاء أن كتابكم ينطق في غير موضع: "أن المسيح نشأ بين أظهر اليهود وتردد معهم في مواسمهم وأعيادهم وزاحهم في مجامع قراراتهم يعرفونه ويعرفون أمه وسبطه، وأنه حين بهر في علم التوراة والنبوات كان يعلم عندهم في الهيكل بأورشليم ويناظر أحبارهم فيبهتهم بحسن التعليم فيقولون: أليس هذا ابن يوسف؟! أليس أمه مريم؟! أليس أخواته عندنا؟! فمن أين له هذه الحكمة؟! "1.
وإذا كان اليهود عارفين بعينه واسمه، ونسبه، فما حاجتهم إلى أن أكتروا رجلاً من تلاميذه بالأجرة حتى عرَّفهم / (1/124/أ) بشخصه لولا وقوع الشبه الذي نقول به.
- الحجّة الثانية:
على أن المفعول به ذلك غير المسيح وأنه كان قد شبه لهم قوله نقلة الإنجيل: "إن رئيس الكهنة أقسم على المأخوذ بالله الحيّ: أأنت المسيح ابن الله الحيّ؟! فقال له: أنت قلت"2. ولم يجبه بأنه هو المسيح فلو كان المقسم عليه هو المسيح لقال له: نعم ولم يستجز أن يُوري في الجواب وهو يحلف بالله الحيّ، وهذا دليل على أنه غير المسيح، ثم المسيح إنما جاء لبثّ الحقّ ونشر الصّدق فكيف تجشَّم لشيء ثم يكتمه؟!
1 متى الإصحاح (4) ، مرقس لإصحاح (1) ،لوقا لإصحاح (2) ، يوحن الإصحاح (2) .
2 متى 26/63.
فإن قال النصارى: هذا أيضاً لنا إذ لو كان غيره لم يخف ذلك ولبينه وقال: لست المسيح بل أنا رجل سواه.
قلنا: يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون الشبه قد أدركته دهشة منعته من البيان والإفصاح عن حاله كما يجري للبشر، وهذا لا بُعد فيه أن يأخذ الله على لسانه ويسد عنه مادة الكلام صوناً لنبيّه المسيح أن يفصح الرجل عن أمره.
والوجه الثاني: أن يكون الشبه لِصديقيّته آثر المسيح بنفسه وفعل ذلك بعهد عهده إليه المسيح رغبة منه في / (1/124/ب) الشهادة فلهذا ورى في الجواب وجمجم في القول، ويؤيد هذا الوجه قول التلاميذ للمسيح أيام الخوف من إيقاع اليهود به:"بأنه لو دفعنا إلى الموت معك لمتنا"1. والشبه كان من جملة التلاميذ فلهذا وفَّى بما وعد من نفسه وهذا شيء لم تزل تفعله أصحاب الأنبياء في الحروب وغيرها [أن] 2 يقوا بأنفسهم أنبيائهم فينالون بذلك الثناء في الدنيا والثواب في العقبى.
فقد وضح أن المجيب لرئيس الكهنة غير المسيح إذ لو كان المسيح لم ينكر ولم يُورِّ.
- الحجّة الثالث:
على حماية الله المسيح عليه السلام وأن المصلوب غيره. قال لوقا: "صعد يسوع إلى جبل الجلي ومعه بطرس ويعقوب ويوحنا فبينا هو يصلي إذ تغير منظر وجهه عما كان عليه، وابيضت ثيابه فصارت تلمع كالبرق، وإذا
1 مرقس 14/27-31، وذكره المؤلِّف بالمعنى.
2 إضفاة يقتضيها السياق، ولعلها سقطت من الناسخ. والله أعلم.
موسى بن عمران وإلياء قد ظهرا له، وجاءت سحابة فأظلتهم، فأما الذين كانوا مع يسوع فوقع عليهم النوم فناموا"1 قلت: هذا من أوضح الدلالة على رفع المسيح وحصول الشبه الذي نقول به؛ لأن تغيُّر صورة المسيح وتبدل لون ثيابه عما كانت عليه / (1/125/أ) وظهور موسى النبيّ عليه السلام وإلياء عليه السلام ومجيء السحاب يظللهم ووقوع النوم على التلاميذ من أقوى ما يتمسك به في حماية المسيح ووقوع شبهه على آخر سواه، فلا معنى لظهور هذين النّبيّين له ووقوع النوم على أصحابه إلاّ رفعه عليه السلام.
مما يؤيّده قول الإنجيل: "إن اليهود حين رفعوا المصلوب على الخشبة قالوا: دعه حتى نرى إن كان إلياء يأتي فيخلصه"2. وهم يظنون أن المصلوب هو المسيح، وقد كان المسيح يقول لأصحابه: إن إلياء سيأتي.
والدليل على غلط النصارى: قول فولس الرسول في صدر رسائله زاريا عليهم: "أنهم لم يعرفوا الله تعالى، لكن أظلمت قلوبهم التي لا تفقه، فجهلوا واستدلوا بالله الذي لا يناله فساد شبه صورة الإنسان الفاسد؛ فلذلك أهملهم الله وتركهم وشهوات قلوبهم النجسة، فبدلوا حقّ الله بالكذب، وعبدوا الخلائق وآثروها على خالقها الذي له التسابيح والبركات، فلذلك وكلّهم الله إلى أولاد الفاضحة"3.
فهذا فولس كأنما ألهم ما سيفتريه متأخرو النصارى/ (1/125/ب) إلهاماً، فنطق بذلك ردّاً عليهم وإزراء بعقولهم وتصريحاً بكفرهم وضلالهم.
1 متى 17/1-8، مرقس 9/2-8، لوقا 9/28-36.
2 مرقس 15/36.
3 رسالة بولس إلى رومية 1/21-26، بألفاظ متقاربة.
- الحجّة الرّابعة:
على حماية المسيح مما نسب إليه، قول الأناجيل:"إن المأخوذ كان قد [غُيِّرَتْ] 1 صورته وشوهت هيئته، وسيق ذليلاً وتوج من الشوك إكليلاً، وألبس أرجواناً وأبلس هوناً، وجذب وسحب وشقي وسجن ولدم وضرب، وحمل خشبته التي عليها صلب وأعنف به في سحبه، فكُرّب وما ركب".
قال يوحنا: "أُخذ في ليلة باردة من بستان بوادي الأرز، كان يخلو فيه مع تلاميذه"2. فاجتمع في القصة ما يصحح الغلط ويرجع في النقل اللغلط، وهو أن المصلوب أخذ في حندس3 ليل مظلم على حين فترة، فلم يصل به الشرط حتى طمست صور محاسنه لَدْماً وضرباً ونسخت سور حلاه جذباً وسحباً، فكان جميع ما جرى إنما هو على الشبه، ومع احتواش القصة بهذه الشبه لا يجزم بأنه المسيح.
فالذي نقله لوقا فيه أعظم الدلالة على إلقاء الشبه، ثم ظهور موسى وإلياء ووقوع النوم / (1/126/أ) على القوم دليل واضح على رفع المسيح إلى السماء وصونه عن أيدي الأعداء.
- الحجّة الخامسة على ما قلناه:
قال يوحنا التلميذ: "كان يسوع مع تلاميذه بالبستان، فجاء اليهود في طلبه، فخرج إليهم يسوع وقال لهم: من تريدون؟ قالوا: يسوع، وقد خفي شخصه
1 في ص (غرر) والتصويب من المحقِّق. والله أعلم.
2 يوحنا 18/1.
3 الحندس: الليل المظلم والظلمة، جممه: حنادس. (ر: القاموس ص 695) .
عنهم، فقال: أنا يسوع، وفعل ذلك مرتين، وهم قد أنكروا صورته"1. وذلك دليل على الشبه ورفع المسيح؛ إذ أنكروا صورته وهو الناشئ بينهم والمربي في جماعتهم.
- الحجّة السادسة:
قول لوقا في إنجيله: "إن المسيح بعد قيامه صحب رجلين من أورشليم، وهما يطلبان قرية يقال لها: عمواس، فتبعهما وماشاهما، وكانت عيونهما ممسوكة عن معرفته فلما كلمهما عرفاه بعد ذلك"2.
وقد حكى بعض النصارى أن المسيح قد أعطي قوة التحول من صورة إلى صورة، وذلك كلّه يشهد بصحة ما قلناه، وإذ التبس أمره على خواص أصحابه وتلاميذه حتى أنكروا هيئته وصورته وثيابه فما ظنك بغيرهم؟!
وقال لوقا أيضاً: "بينا التلاميذ / (1/126/ب) في غرفة لهم إذ وقف المسيح في وسطهم بعد قيامه، والتمس منهم شيئاً يأكله فأطعموه جزءاً من حوت، وشيئاً من شهد العسل"3. وذلك كلّه يشهد بما قلناه حمايته في وصونه من أعدائه وإلقاء الشبه على غيره.
1 ورد النّصّ في إنجيل يوحنا 18/1-1 كالآتي: "فأخذ يهوذا الجند وخداماً من عند رؤساء الكهنة والفريسيين، وجاء إلى هناك بمشاعل ومصابيح وسلاح، فخرج يسوع وهو عالم بكل ما يأتي عليه، وقال لهم: من تطلبون؟ أجابوه: يسوع النصاري، قال لهم يسوع: أنا هو، وكان يهوذا مُسَلِّمُه أيضاً واقفاً معهم فلما قال لهم: إني أنا هو، رجعوا إلى الوراء وسقطوا على الأرض، فسألهم أيضاً: من تطلبون؟ فقالوا: يسوع النصاري. أجاب يسوع: قد قلت لكم إني أنا هو. فإن كنتم تطلبوني فدعوا هؤلاء يذهبون
…
ثم إن الجند والقائد وخدام اليهود قبضوا على يسوع وأوثقوه". إن رواية يوحنا تعطينا صورة مختلفة تماماً عما روته الأناجيل الثلاثة عن حادثة القبض على المسيح وملابساتها، وقد سبق بيان ذلك.
2 لوقا 24/13-31، في سياق طويل، وقد ذكره المؤلِّف مختصراً. إن رواية لوقا لهذه الحادثة في إنجيله تفيد أن هذين التلميذين هما أوّل من رأى المسيح بعد قيامته من الموت - حسب زعمهم - وهي رواية تخالف ما ورد في أناجيل متى 28/9-17، ومرقس 16/9-14، ويوحنا 20-13-26، 21/1-14،ـ وفيها:"أن أوّل من رأى المسيح بعد قيامه هي مريم المجدلية التي لم تعرفه".
3 لوقا 22/36-43.
- الحجّة السابعة:
قال يوحنا: "وقف المسيح على تلاميذه وهم يصيدون السمك، فقال: يا فتيان هل عندكم من طعام؟ فلم يعرفوه. فقالوا: لا. فقال: ألقوا الشبكة من الجانب الأيمن. ففعلوا. فرفعت سمكاً كثيراً فحينئذٍ عرفوه. وقالوا: هو المسيح. وكان أحدهم عرياناً، فأخذ مئزره حين عرف أنه المسيح"1.
[فهؤلاء] 2 التلاميذ وخواص أصحاب المسيح يشهدون بما صرنا إليه من تغيير شبه المسيح عليهم وتصديق قول من يقول منهم: إن المسيح كان قد أعطي قوة التحول من هيئة الصبوة إلى هيئة الكهولة والشيوخية وغير ذلك. وإلاّ فكيف يخفي وجهه عن مثل الاثني عشر من أصحابه وتلاميذه ويستبعد ذلك من اليهود؟
- الحجّة الثّامنة:
إن القول بقتل المسيح يؤدّي إلى تكذيب الميسح، وما أدى إلى تكذيبه فهو باطل، وبيانه هو أن المسيح عليه السلام / (1/127/أ) قد بَشَّر في إنجيله بمحمّد صلى الله عليه وسلم وقال: إنه النّبيّ الصّادق الآتي بعده؛ ومحمّد جاء وأخبر بأن المسيح ما قُتل وما صُلب، فالقول بقتل المسيح يفضي إلى تكذيب من صدَّقه المسيح، فكان تكذيباً للمسيح، وسنبيّن بشرى المسيح وموسى وغيره من الأنبياء بمحمّد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الباب الأخير من هذا الكتاب.
1 يوحنا 21/1-7، في سياق طويل.
2 في ص (فهذه) والتصويب من المحقِّق.
- الحجّة التّاسعة:
لو قد صحّ قتل المسيح وصلبه لبطلت الدلالة على وجود الباري تعالى، وبيانه: هو أن في ذلك إبطال بشائر الأنبياء عليهم السلام بمحمّد صلى الله عليه وسلم، وإظهار كذبهم فيما شهدوا به من النبوة والرسالة وصدق المقالة وذلك يَعْكُر على نبواتهم بالإفساد، إذ أخلفت أقوالهم، ولم تَصْدق أخبارهم، وذلك يخرم الثقة بجميع ما أخبروا به من حدث العالم ووجود الصانع تعالى، وما أدى إلى ذلك فهو مردود من أصله.
- الحجّة العاشرة:
قال لوقا: "لما كان في الشهر السادس من حمل اليصابات زوجة زكريا بيحيى ابنها جاء جبريل إلى مريم العذراء بالناصرة من أرض الجليل، وهي / (1/127/ب) إذ ذاك خطيبة لرجل من نسل داود يقال له: يوسف. فقال لها جبريل: أبشري يا ممتلئة بنعمة الرّبّ، مباركة أنت في النساء. فلما رأته اضطربت من كلامه، فقال لها جبرئيل: لا تخافي يا مريم فقد [ظفرت] 1 بنعمة من عند الله وأنت تقبلين حبلاً بولد يدعى يسوع، يكون عظيماً وابن [العلي] 2 يُدعى، يعطيه الرّبّ كرسي أبيه داود. ويملك على بيت يعقوب. فقالت مريم: أتاني ذلك ولم أعرف رجلاً. فقال جبريل: روح القدس يحل عليك وقوة العلي تظللك، وهذه اليصابات نسيبتك حبلى بابن على كبر سنها لأنه ليس عند الله أمر عسير. فقالت مريم: أنا ذا عبدة الرّبّ فليكن ما قلت"3.
1 في ص (ظفرتي) والصواب ما أثبته.
2 في ص (العلاء) والصواب ما أثبته.
3 لوقا 1/26-38.
ورد ذلك من الله على مريم مَوْرد الامتنان والإنعام وهو أن يجلس ولدها في دست1 داود ويُمَلِّكه رقاب اليهود، فالقول بأن المسيح هلك وما ملك يقضي بالسخرية من البتول، أو البداء من المرسِل2، أو الكذب من الرسول، والكلّ محال، فالقول بقتل المسيح وصلبه محال.
فهذه عشر حجج كلّها تقضي بالثّلب على مدّعي الصلب، ومما يدلّكم على فساد دعوى القتل والصلب ما اشتمل عليه الفصل / (1/128/أ) من الاضطراب وقبيح الألفاظ كقوله لرئيس الكنة:"إنكم من الآن لا ترون ابن الإنسان حتى ترونه جالساً عن يمين القوّة وآتياً في سحاب السماء"3، يريد بالقوّة: الله تعالى.
وكقوله: "إن ناساً من القيام هاهنا لا يذوقون الموت حتّى يرون ابن الإنسان آتياً في ملكوته"4.
وكقول الملك للنسوة: "تعالين فانظرن إلى الموضع الذي كان فيه الرّبّ في القبر"5.
ما أخلق هذه المواضع أن يكون بعض مجان اليهود قد أدرجها في كتاب النصارى ليضحك منهم الناس.
أسمعتم يا معشر النوكى بربٍّ في قبرٍ، وإلهٍ في لحدٍ؟! أيُّ جَدَثٍ وسعه؟! أيُّ كفنٍ واراه؟! أيُّ نعشٍ حمله؟! هل نجا من ضغطة القبر؟! هل لُقِّن حجته عند السؤال؟! هل ثبت جأشه عند طلعة الملك؟!
1 الدست: صدر البيت، والمقصود هنا ملك داود. (ر: القاموس ص 194) .
2 بدا له في الأمر بَدْواً وبداءاً وبداةً: نشأ له فيه رأي، وهو ذو بدوات. (كما في القاموس ص 1629) . ومعنى: (أو البداء من المرسِل" أي: البداء من الله - تعالى وتنَزَّه عن ذلك علوّاً كبييراً.
3 مرقس 14/61، 62.
4 متى 16/28، مرقس 9/1، لوقا 9/27.
5 متى 28/6.
أُفٍّ لترابٍ تغَشَّى وجه هذا الإله، وتبّاً لكفن ستر محاسنه، وسحقاً لجذع انتصب تحته صلب عليه، عجباً للسماء كيف لم تَبِدْ وهو سامكها وللأرض كيف مل تَمِدْ وهو ماسكها، وللبحار كيف لم تَغِض وهو مجريها، وللجبال كيف لم تَسِر وهو / (1/128/ب) مرسيها، وللحيوان كيف لم يصعق وهو مشبعه، وللكون كيف لم يمحق وهو مخترعه؟! وأنَّى استقام الوجود والرّبّ في اللحود، وثبت العالم على نظام والإله في الرحام؟! لقد لبس الكون ثوباً من القحة صفيقاً، واستمر على البقاء وكان بالفناء خليقاً - فإنا لله وإنا إليه راجعون على المصيبة بهذا الرّبّ والرّزية بهذا الإله، لقد ثكلته أمه التي خلقها وصوَّرها وعدمته الدنيا التي أبدعها وفطرها، فليت شعري هل قُسم ميرائه وعمل مأتمه؟ وهل أخذ بثأره أو سُلم مسلمه؟! هذا وأيبكـ1 الخذلان والتلاعب بالأديان.
وفي الفصل موضعان آخران يشعران بأن المصلوب رجل غير المسيح: أحدهما: شكواه العطش، فإنا نعلم أن الإنجيل مصرّح:"بأنّ المسيح كان يطوي أربعين يوماً أو أربعين ليلة"2.
ويقول لتلاميذه: "إن لي طعاماً لستم تعرفونه"3. ومن صبر عن الماء والطعام ثمانين [يوماً] 4 وليلة لا يجزع من فراقه ساعة واحدة. وبذلك يتحقق أن العطشان غيره والمستسقي سواه.
والموضع الآخر: / (1/129/أ) قوله: "إلهي وإلهي لِمَ تركتني وخذلتني؟ "، (لِمَ) كما يُعلم كلمة تنافي الرضى بمر القضاء، وتناقض التسليم لأحكام الحكيم ويجل عن ذلك رتبة الصالحين فضلاً عن أكابر المرسلين.
فهذا وما شاكله من كلام المصلوب يوضح ما قلناه في الشبه، فإن أبى النصارى إلاّ أن يكون قائل هذا هو المسيح، قلنا لهم: ألم تزعموا أن المسيح تعنَّى
1 هكذا في ص.
2 متى 4/2.
3 يوحنا 4/32.
4 في ص (يوم) والتصويب من المحقِّق.
ونزل ليؤثر العالم بنفسه ويُخلِّصه من الشيطان ورجسه؟! أفتقولون إنه تبرّم بالإيثار واستقال العِثار؟ 1.
آلم ترووا لنا عن التوراة أن إبراهيم وإسحاق ويعقوب وموسى وهارون كانوا حين احتضروا مستبشرين بلقاء ربّهم فرحين بانقلابهم إلى شعبهم، لم يجزعوا من الموت ولا هابوه ولا استَوبلَوا2 مذاقه ولا أعابوه، هذا وهم عبيد. والمسيح بزعمكم ولدٌ وربٌّ، أفكان وثوقهم بالله فوق وثوقه، أم حظ المسيح عند الأب دون حظ رقيقه؟!
وأما قولهم في الفصل: "إن يسوع صرخ وأمال رأسه وأسلم روحه"، فمناسب لكلام/ (1/129/ب) المجانين، وإلاّ فكيف يتولى الميت في حال النزع تسليم روحه مع شدّة الأمر وعظم الخطب واشتغال البال في ذلك الوقت عن التسليم والتسلم؟! وإن امرءاً تجذب روحه من تحت كلّ شعره من جسده وقد أوثق كتاف ذبيحه، وبر بصره، وانحل عقد تماسكه، واستولت عليه الآلام، ورشقته من جميع جهاته سهام الحمام لغير مختار في تسليم روحه، والعجب من تجاسر هذا الحاكي على قول ما يقطع بكذبه فيه، وذلك أن تسليم روحه غير مشاهد بالعيان فيقع عليه بصر إنسان.
أين قول النصارى في شريعة إيمانهم: "نؤمن بالرّبّ الواحد يسوع المسيح الذي بيده أتقنت العوالم وخلق كلّ شيء، وليس بمصنوع الذي نزل من السماء لخلاص معشر الناس؟!!.
وكيف يصحّ لهم هذه الدعوى والمصلوب ينادي بحضرة اليهود: "إلهي إلهي كيف تركتني وخذلتني؟!! ".
1 العثار: الشّرّ. (ر: القاموس ص 560) .
2 استوبل الأرض: إذا لم توافقه وإن كان محبّاً لها. (ر: القاموس ص 1378) .
وكيف يكون خالق السماوات والأرض مقروناً باللصوص مصلوباً على الخشب له إله يدعوه ويسأله أن لا يتركه ولا يخذله؟!!.
فإن كانت / (1/130أ) الأمانة صادقة فالإله الأزلي قد بكى واستغاث وسأل شربة من الماء وقُرِن بالذُّعار وعلُق على الخشب وسمرت يداه بالمسامير، وإن كان الإله الرّبّ الأزلي، يتعالى عن هذه النقائص يتقدس عن أن تناله هذه الرذائل، فالأمانة باطلة، وأقوال مَن عقدها لهم فاجرة، وآراؤهم غاشَّة، وسنأتي على أمانتهم إذا انتهينا إليها، ونوضح فسادها وغشّ من ألفها وسوء رأيه في دين النصرانية إن شاء الله تعالى.
وأما قولهم في الفصل: "إنه حين مات يسوع على الصليب انشقّ حجاب الهيكل، وتزلزت الأرض كلّها، وتشققت الصخور، وتفتحت القبور، وقام القديسيون من قبورهم ودخلوا المدينة حتّى رآهم الناس"
1. "وأظلمت
1 هذه رواية متى في إنجيله 27/51-54، ويعلّق عليها نورتن - المحامي عن الإنجيل - فيقول:"هذه الحكاية كاذبة، والغالب أن أمثال هذه الحكايات كانت رائجة في اليهود بعدما صارت أورشليم خراباً، فلعل أحداً كتب في حاشية النسخة العبرانية لإنجيل متى، وأدخلها الكُتاب في المتن، وهذا المتن وقع في يد المترجم فترجمها على حسبه". اهـ. ويدل على كذبها الأوجه الآتية:
- الأوّل: إن متى ذكر بعد ذلك 27/62-66: "إن اليهود ذهبوا إلى بيلاطس في اليوم الثاني من الصلب قائلين: يا سيد تذكرنا أن ذلك المضل قال وهو حيّ: إني بعد ثلاثة أيام أقوم، فمُرْ بضبط القبر إلى اليوم الثالث
…
". كما قد صرّح متّى في نفس الإصحاح أن بيلاطس وامرأته كانا غير راضيين بقتله، فلو ظهرت هذه الحوادث العجيبة لما استطاع اليهود أن يتجرؤوا بالذهاب إلى بيلاطس ويقولوا بأن المسيح كان مضلاً ويطلبوا منه إقامة الحرس على قبره، لاسيما وأن بيلاطس كان غير راضٍ عن قتله منذ البداية، فإذا رأى هذه الحوادث فإنه لا بدّ أن يكذّب اليهود وينقلب عليهم، وكذلك غيره من الناس.
- الثاني: إن هذه الحوادث من الآيات العظيمة التي لو ظهرت لآمن كثير من الروم واليهود على ما جرت به العادة، ألا ترى أنه لما نزل روح القدس على الحواريين - كما يزعم النصارى - وتكلموا بألسنة مختلفة تعجب الناس، وآمن نحو ثلاثة آلاف رجل كما جاء في سفر أعمال الرسل الإصحاح الثاني؟!
- الثالث: إن قيام كثيرين من أجساد القديسين مناقض لكلام بولس، الذي صرح بأن المسيح عليه السلام أوّل القائمين وباكورة الراقدين. (ر: رسالة بولس إلى كورنثوس 15/20، 22، 23، وفي رسالته إلى كولوسي 1/18) ، ر: إظهار الحقّ ص 158، 159، للشيخ رحمة الله الهندي، بتصرف يسير.
الشمس وحال لون القمر"1. فذلك كذب ومحال وبهت لا يخفى بحال؛ لأنه لو كان صحيحاً لأطبق الناس على نقله ولم يبق إخفاء مثله، ولزال الشّكّ عن تلك الجموع في أمر يسوع، فحيث داموا على الحجّة له والتّكذيب عنه دلّ ذلك على كذب هذا النّقل.
ومما يوضح ما قلناه / (1/130/ب) أن الأناجيل تشهد في تمام هذا الفصل "أن جماعة من أصحاب يسوع شكوا فيه بعد ذلك فرجعوا عن رأيهم الأوّل"2. وذلك يكذب قول من قال: "إن العالم تشوش لمصرع يسوع"3. فإن قيل: إنما لم يشتهر ذلك لأن أصحاب يسوع لم يحضر منهم أحد خوفاً من اليهود، واليهود الذين شاهدوا هذه الآيات تواطؤا على كتمانها بغياً وحسداً.
قلنا: هذه الآيات إذا وقعت عَمَّ عِلْمُها من حضر ومن غاب من الأعداء والأحباب لأنها آيات نهارية، فما بال الهنود والسند والصين والسودان والفرس والترك وسائر الطوائف الذين لم يتعصبوا للأديان ولا انحازوا الملة وشريعة لم ينقلوا هذه الآيات ويلهجوا بها خلفاً عن سلف حقباً بعد حقب؟!!.
1 هذه رواية لوقا في إنجيله 23/44، 45، ونصّها كالآتي: "فكانت ظلمة على الأرض كلّها إلى الساعة التاسعة وأظلمت الشمس وانشق حجاب الهيكل من وسطه
…
". ويعلّق على ذلك د. كيرد في كتابه: (تفسير إنجيل لوقا ص 253) بقوله: "إن حدوث كسوف للشمس بينما يكون القمر بدراً - كما كان وقت الصلب - إنما هو ظاهرة فلكية مستحيلة الحدوث
…
ولقد كان الشائع قديماً أن الأحداث الكبيرة المفجعة يصحبها نذير سوء، وكأن الطبيعة تواسي الإنسان بسبب تعاسته". اهـ. (نقلاً من المسيح في مصادر ص 174، لأحمد عبد الوهّاب) .
2 ورد في سياق طويل في إنجيل لوقا الإصحاح (24) ، ويوحنا الإصحاح (20) ، وقد ذكره المؤلِّف مختصراً بالمعنى..
3 إن روايات الأناجيل متناقضة في سرد الأحداث التي أعقبت الصلب، مما يؤكّد عدم الثقة في روايتها، فإن متّى قد انفرد بذكر الأمور العجيبة كتزلزل الأرض وتشقق
…
الخ. ومرقس 15/38، يقول: "وانشق حجاب الهيكل إلى اثنين من فوق إلى أسفل
…
". ولوقا 23/44، زاد على ما ذكره مرقس بكسوف الشمس. وأما يوحنا فإنه لا يعلم عن كلّ ذلك شيئاً. (ر: الإصحاح 19) . وهذا من أعجب العجب!!!.
وقد نقل المؤخرون في صحفهم أموراً هي أنزر وأقل خطراً من هذا الأمر الذي يَدَّعي النصارى أنه طبَّق العالم الأعلى والأسفل، فلما رأينا هذه الأمم الخالية عن الأهواء والتعصب للشرائع والتزام الأحكام علىكثرتها لم تنقل مما حكاه1 النصارى حرفاً واحداً علمنا بالضرورة أن ذلك اخترعه كذبة النصارى ليخدعوا به ضعفائهم،/ (1/131/أ) وسنأتي على قطعة من ذكر حيل القسيسين ومخاريق الرهبان عند وصولنا إلى بابه، فيتوسلون بهذه المخارق إلى جلب الحطام وجذب الدنيا الدّنية بالخطام، والحقّ مستغن عن أن يقوى بهذه الترهات.
وأما قولهم في الفصل: "إن يسوع جاء التلاميذ الأحد عشر بالجليل، وأوصاهم أن يعمدوا الناس، وأنه يكون معهم إلى انقضاء الدّهر"2. فأقول: انطفأ السراج على التلميذ الثاني عشر، وهو المشهود له في الإنجيل بولاية حساب بني إسرائيل، وبقي كرسيه شاغراً ودسته في القيامة غامراً، وصار أحد الأسباط في القيامة ليس له من يدينه، فاستراح من العتاب وسوء الحساب.
قال المؤلِّف: قلت لنصراني من عقلائهم: "قال يسوع لتلاميذه الاثني عشر وفيهم يهوذا الأسخريوطي الذي أسلمه للقتل والصلب: أتم ستجلسون يوم القيامة على اثني عشر كرسياً تدينون اثني عشر سبط إسرائيل"3. وذلك شهادة لكل بالزعامة في4 القيامة، فكيف صنع أصحابكم في يهوذا وسبطه؟ فإن المسيح يقول: "الويل لمن يُسلم ابن الإنسان كان [خيراً له ألا / (1/131/ب) يولد] 5".
1 في ص زاد: (حكاه) .
2 متى 28/16-20.
3 متى 19/27، 28.
4 في ص زاد: (في) .
5 في ص (الخيرة له ألا بولد) والتصويب من النصّ في إنجيل متى 14/21،لوقا 22/22.
فقال: قد عوَّضوه برجل غيره ونصبناه بدلاً منه لتتم العدة1.
قلت: فليس هذا المُعوَّض هو المخاطب بوعد المسيح بل غيره فقد أخلف قوله: "إن كرسيه لا يجلس عليه غيره، ولا يدين سبطه سواه". فأبلس العلج2، ولم يحر جواباً.
وأما حكايتهم عنه: "أنه معهم إلى انقضاء الدهر"، فإنه نسألهم فنقول: هل تقولون إن هذا الكلام محمول على ظهره أو محمول على معناه دون ظاهر؟ فإن زعموا أنه محمول على الظاهر لزم منه أن يكون التلاميذ الأحد عشر الآن في قيد الحياة، وسِيَرُهم تُكَذِّب ذلك، إذ يقول إنّ القوم اخترموا موتاً وقتلاً.
وإن قالوا: إن ذلك محمول على المعنى دون الظاهر وهو أن الآن مع كلّ جاثليق وأسقف ومطران وقس وراهب3 منهم، قيل: أهو معهم بذاته أم بعلمه؟! فإن زعموا أن المسيح معهم بذاته أكذبتهم شواهد العقول وشواهد
1 يزعم النصارى أن الحواريين قد اجتمعوا - بعد صعود المسيح - برئاسة بطرس بعد الصلاة وبمشورة الروح القدس؛ ليختاروا بالقرعة بديلاً عن يهوذا الأسخريوطي من تلاميذ المسيح، فوقعت القرعة على:"متياس". (انظر: سفر أعمال الرسل الإصحاح الأوّل) ولا يعلمون شيئاً عن حياته وخدمته. (ر: قاموس ص 836) .
2 العِلْجِ: الرجل من كفار العجم، ج علوج وأعلاج. (ر: القاموس ص 254) .
3 إن النصرانية المحرفة من الديانات الكهنوتية التي تعتد في قامة طقوسها على الكهنة أو ما يسمى بـ: (رجال الدين)، ومما يدلّ على اختراع النصارى للكنيسة - ومعناها (مجمع) وهي مأخوذة من كلمة:(اكليزيا) اليوناينة - وللرتب الكنسية وتأثرهم في ذلك بالثقافات الوثنية ما ذكره البروفيسور شارل جنيبر في كتابه: (المسيحية نشأتها وتطوّرها ص 130، 131، 135)، حيث يقول: "إن المسيح لم ينشئ الكنيسة ولم يردها، ولعلّ هذه القضية أكثر الأمور المحققة ثبوتاً لدى أي باحث يدرس النصوص الإنجيلية من غير ما تحيز
…
كما أن المسيح لم يصنع من الحواريين قساوسة، حيث لم يكن في حاجة إلى ذلك، وبدراسة ما قام به الحواريون فإننا لا نجد أنهم فكّروا في إنشاء الكنيسة، إذ ظلوا على إخلاصهم للدين اليهودي، وداوموا بكل دقّة على شعائره - ثم يقول -: ومن المرجح أن تأثير الجماعات الوثنية وتأثير النظم اليهودية وقعا عليهم (النصارى) في آنٍ واحدٍ، مع ترجيح اتّجاه على الآخر حسب ظروف الزمان والمكان، وقد فرضت الضرورات أنواع الوظائف، وسمى الموظفون بأسماء أخذت عن اللغة الشائعة مثل:(بريسبيتيروس) أي: شيخ، و (ايبسكوبوس)، أي: مشرف، و (دياكونوس)، أي: خادم، وقد تطورت معاني هذه الكلمات فيما بعد إلى: قسّ، أسقف، وشماس". أهـ. بتصرف يسير.
وهناك اختلاف في هذه الرتب بين الكنائس، فالكنيسة الكاثوليكية تتبع النظام البابوي ويرأسه الباب والكرادلة، وهم أصحاب الحقّ في تنظيم الكنيسة، وتنقسم الكنيسة إلى أبروشيات على رأس كلّ منها مطران، وفي كلّ أبروشية عدة كنائس يديرها الكهنة.
أما الكنيسة الأرثوذكسية (ومنها: الكنيسة القبطية) فإنها تتبع نظام الإكليروس ويبدأ من البطريرك ثم المطارنة، ثم الجثالقة، ثم الأساقفة، ثم القسس الممتازون ويسمون (القماصة) ، ثم القسس العاديون ويسمون (القساوسة) - وهؤلاء جميعاً أصحاب الرأي في تنظيم الكنيسة - ثم الشماس (دياكون) ، ثم معين الشماس (ايبودياكون) ، ثم القارئ (الأغنسطس) ، ثم المرتل (الأبصلتس)، ولكلّ منهم وظيفة محدَّدة في الكنيسة. (ر: أسرار الكنيسة السبعة ص 186، وما بعدها - حبيب جرجس، الوسائل العملية للإصلاحات القبطية ص 128، 129، حبيب جرجس، المسيحية ص 238-240، د. أحمد شلبي) .
الإنجيل، أما شواهد العقول: فإن العقل فاضٍ بأن الشخص الواحد لا يكون حالاً في عدّة مواضع في حالة واحدة، بل إن شغل مكاناً فرغ من الآخر لا محالة. وأما شواهد الإنجيل: فإنها / (1/132/أ) مصرحة بأن المسيح كان إن حلّ بالناصرة فارق أورشليم، وإن حلّ بأورشليم فارق الناصرة، ولم يتحدّد له ما يرفع هذا الحكم.
فإن قالوا: لم يرد المعية بذاته بل بعلمه كقول الكتاب العزيز: {وَهُوَ مَعَكُم أَيْنَمَا كُنْتُم} 1. قلنا: فاسلكوا التأويل في جميع ظواهر الإنجيل ترشدوا.
فلو ألهم النصارى رشدهم لمحوا هذا الفصل من الإنجيل ودرسوا2 خبره، وعفوا أثره، وأدبوا من ينطق به، فإن اللافظ به إنما يُعَرض سبّ إلههم والتنقص من معبدوهم، وإنه فصل وخيم، والعار عليهم في نشره عظيم، إذ مضمونه أن اليهود الملاعين والعبيد المدبرين عدوا على إلههم، ورصدوه، وتوقعوا غرته، فقصدوه، فوضعوا أيديهم عليه ذليلاً، وأناطوا به جوامع وكبولاً، ولم يجد إلى الإفلات منهم سبيلاً.
وهرب تلاميذه عنه وأسلموه، فتناوله أعداؤه بيد القسر وتسلموه وساقوه بينهم يحمل جذعة أسيراً، ثم لُطم حتى حُطِّم، وأُرضع لبان الهوان حتى ودَّ لو قُطم، وتفل في وجهه القيام والقعود من أراذل اليهود، فنَزل به من الدهش
1 {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} . [سورة الحديد، الآية: 4] .
2 درس: عفا: محا من المحو، والإمحاء. كما في القاموس ص 701، 1693.
والعطش والكرب ما لا / (1/132/ب) يقصر في الألم عن القتل والصلب، وأنه استسقاهم ماء فسقوه خلاًّ، وسأل البقيا فأسمعوه كلاً، فصرخ على جذعه إلهي إلهي كيف تركتني؟!.
وصرح بالعبودية لا يتلقب ولا يكتني، ولم يزل ينزع في قوس النزاع حتى مرق سهم روحه، ولقد راموا كسر ساقيه كفعلهم برفيقيه، فعُجلت عليه منيته وأُبطلت عنه أمنيته، وأعول عليه أحبابه وتفرق من الفرق أصحابه، وسأل الوالي جسده فدفن وتصدق عليه بالكفن، وهذه لعمرك مَعَرَّة يأنف العاقل من إلصاقها بكلبه، فكيف يلصقها بربّه؟!.
وما أرى مُلحق هذا الفصل بكتاب النصارى إلاّ قد جعل له اليهود جُعْلاً على إلحاقه، ولستُ أُبعد ذلك، فإن يهوذا الأسخريوطي - أحد الاثني عشر المشهود له بالزعامة في المحشر - زعموا أنه ارتشى على يسوع ثلاثين درهماً من اليهود حتى أنزل به من الهوان ألواناً، وإذا كان هذا فعل يهوذا الذي هو أسنى من غيره وأفضل وأرمى عن قوس الصحبة القديمة وأفضل، وقد استمالته الدنيا فادَّرع الفضيحة واستهواه الهوى فحلّ عقيد1 / (1/133/أ) الصحيحة.
فما ظنك بمن لم يصحب المسيح ولم يلقه ومرض بداء الحسد فلم ينقه؟!.
فنسأل الله الذي شرفنا بالإسلام وعرفنا نبيّه عليه السلام أن يقطع عنا أشطان الشيطان ويصلنا بعباده الذين ليس له عليهم سلطان.
ومن أدل الدلالة على كذب النصارى في دعوى القتل والصلب: ما رواه متَّى في إنجيله قال متى: "سأل اليهود المسيح أن يريهم آية فقال: الجيل الشرير
1 العَقِيد والمُعَاقد: المُعاهد. (ر: القاموس ص 384) .
الفاسق يطلب آية فلا يعطى إلاّ آية يونان - النّبيّ: يعني: [يونس] 1 عليه السلام لأن يونان أقام في بطن الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليالٍ، وكذلك ابن الإنسان يقيم في بطن الأرض ثلاثة أيام وثلاث ليالٍ"2.
قال المؤلِّف: وكذلك كذب وغلط بإجماع نقلة الإنجيل؛ لأنه لا خلاف بينهم أن المأخوذ صلب في الساعة الثالثة من يوم الجمعة، ثم أنزل من يومه ذاك فدفن ليلة السبت، وأقام السبت كلّه مدفوناً ثم طلب ليلة الأحد بغلس فلم يوجد، فمنهم من قال: قام ليلة الأحد، ومنهم من ذكر أنه قام يوم الأحد باكراً، وإذا كان الأمر كذلك فلم يقم في بطن الأرض سوى يوم واحد وليلتين.
قال المؤلِّف: ولنذكر عشر / (1/133/ب) مسائل مفحمات، تفحم من وردت عليه من النصارى، من ردَّها منهم كفر بالتوراة والإنجيل والنبوات، ومن قَبِلَها كفر بالأمانة التي لهم والصلوات ودين النصرانية جملة:
المسألة الأولى من العشر المفحمات:
هو أنا نسألهم عن قول القائل: إن الله - الأزلي خالق العالم ونافخ الروح في حواء وآدم - هو إله واحد فرد حيّ عالم قادر مريد سميع بصير متكلم3، أحقّ ذلك أم باطل؟.
1 في ص (يونسا) والصواب ما أثبته.
2 متى 12/39، 40، وقد سبق بيان التناقض في هذا الخبر. (ر: ص 309) .
3 هذه الصفات السبع التي يؤمن بها من ينتسب إلى مذهب الأشاعرة ولا يتعداها إلى غيرها كالاستواء واليد والعين، مع أن الإمام أبا الحسن الأشعري يؤمن بصفات الاستواء والنزول واليد والعين، وغير ذلك مما تثبته الآيات القرآنية والسنة الصحيحة. (ر: كتاب الإبانةعن أصول الديانة، رسالةإلى أهل الثغر، وكلاهمالأبي الحسن الأشعري)
وأما هذه الصفات السبع: (الحياة، العلم، القدرة، الإرادة، السمع، البصر، الكلام) ، فتسمى عند الأشاعرة بصفات المعاني، وطريق إثباتها عندهم العقل ثم النقل. (ر: أصول الدين ص 49-67، للرازي، والتبصير في الدين ص 164، للإسفرائيني، أصول ص 90، للبغدادي وغير ذلك) . وقد تعرض السفاريني لتعريف كل صفة من هذه الصفات السبع، وذكر مذهب أهل الحقّ فيها، والرّدّ على المخالفين. (ر: كتابه لوامع الأنوار البهية 1/131-152) .
فإن قالوا: إنه حقّ، أبطلوا دين النصرانية وكفروا بالأمانة والصلوات الثمانية التي لهم، إذ سائر فرق النصارى اليوم يدينون بعبادة ثلاثة آلهة قديمة أزلية وإنسان من بني آدم يُسمَّى يسوع النصارى.
فيقرؤون في أمانتهم التي هي أصل دينهم: "نؤمن بالله الأبّ الواحد ضابط الكلّ، ونؤمن بالرّبّ الإله الواحد يسوع المسيح الإله الحقّ الذي بيديه أتقنت العوالم وخلق كلّ شيء، ونؤمن بروح القدس الواحد المحيي". فعبدوا ثلاثة آلهة، والتوراة وسائر النبوات تقول: هو واحد جلّ وعلا.
ويقرؤون في صلاة لهم تعرف عندهم بصلاة النوم: "الملائكة يمدحونك بتهليلات مثلثة أيها الأبّ؛ لأنك لم تزل وابنك / (1/134/أ) نظيرك في الابتداء وروح القدس مساويك في الكرامة ثالوث واحد". فقد صرحوا في الأمانة التي لهم والصلوات بعبادة ثلاثة آلهة قديمة أزلية وإنسان من بني آدم يسمّى يسوع المسيح وذلك مضاد لتوحيد الذي سلَّموا صحته.
وإن قالوا: بل ذلك باطل وكُفر، كفروا بتوراة موسى وإنجيل عيسى ومزامير داود ونبوة أشعيا وسائر النبوات.
قال الله في التوراة: "يا موسى أنا الله ربّك وربّ آبائك إبراهيم وإسحاق ويعقوب قد ذكرت عهدي لإبراهيم، وقد عرفت ذلّ شعبي بمصر، اذهب إلى فرعون، وقل له: هكذا يقول لك إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب أرسل شعبي يعبدني، فقال موسى: يا ربّ أنا أذهب إلى بني إسرائيل فأقول الرّبّ إلهكم أرسلني إليكم، فيقولون لي: ما اسمه؟ فقال الله تعالى: قل لهم: الأزلي الذي لم يزل أرسلني إليكم"1.
وقال الله تعالى في التوراة: "إني أنا [أهيه الذي أهيه] 2 إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب هذا اسمي إلى الأبد وإلى دهر الداهرين".
1 سفر الخروج 3/6-14، في سياق طويل.
2 في ص (أهيا شر أهيا) والتصويب من النّصّ في سفر الخروج 3/15.
وقال الله لموسى في التوراة: "أنا الله / (1/134/ب) إلهك فلا يكن لك إله غيري فلا تعبده ولا تسجد له ولا تشبهه بشيء مما في السماء ولا مما في الأرض ولا مما في البحار"1.
وقال الله تعالى في التوراة: "اعلم أني أنا الله وحدي وليس معي غيري، أنا أميت وأحيي وأنا أقسم وأبرئ، ولا ينجو أحد من يدي"2. وإفراد الباري بالوحدانية ونفي الشركاء في التوراة كثير جدّا.
وقال المسيح في إنجيل متّى: "لا صالح إلاّ الله الواحد"3.
وقال المسيح في إنجيل يوحنا ورفع بصره إلى فوق: "إلهي إن الحياة الدائمة تجب للناس إذا علموا أنك الواحد الحقّ الذي أرسلت المسيح"4.
وقال أيضاً في إنجيل متّى جواباً للشيطان - حين قال له اسجد لي وأعطيك جميع ما في العالم -: "أغرب عني يا شيطان، فإنه مكتوب للرّبّ إلهك اسجد وله وحده اعبد"5.
وقال في إنجيل يوحنا "إني ذاهب إلى إلهي وإلهكم"6.
وقال في إنجيل يوحنا أيضاً: "إني لم آت لأعمل بمشيئتي بل بمشيئة من أرسلني"7.
وقال في إنجيل مرقس: "إلهي إلهي لِمَ تركتني؟ "8.
وقال في إنجيل متِّى: "يا أبت إن أمكن صرف هذا الكأس عني فأصرها / (1/135/أ) لكن كما تشاء أنت لا كما أشاء أنا"9.
وقال مرقس في إنجيله: "سأل المسيح
1 سفر الخروج 20/2-4.
2 سفر التثنية 32/39.
3 متى 19/16، 17، مرقس 1017، لوقا 18/18.
4 يوحنا 17/3.
5 متى الإصحاح (4) .
6 يوحنا 20/17.
7 يوحنا 6/38.
8 متى 27/46، مرقس 15/34.
9 متى 26/43.
عن يوم القيامة، فقال: لا يعرفها ملائكة السموات ولا الابن يعرفها ولا يعرف ذلك اليوم سوى الأبّ وحده"1.
وقال في إنجيل يوحنا في الفصل الأوّل منه:"الله لم يره أحد قط"2.
وقال فيه لليهود: "لِمَ تطلبون قتلي وأنا رجل كلمتكم بالحقّ الذي سمعته من الله تعالى؟! "3.
وقال لليهود أيضاً:"لم تمجدون الناس ولا تجدون الله الواحد؟! "4.
وقال في إنجيل متّى: "إنّ ربّكم واحد فرد"5.
وقال شمعون الصفا في كتاب فراكسيس تأليف لوقا: "يا بني إسرائيل اسمعوا مقالتي: إن يسوع الناصري رجل ظهر لكم من الله بالقوّة والأيد والعجائب التي أجراها على يده"6.
قال داود في المزمور السابع عشر: "الله لا ريب فيه، هو منجي من توكّل عليه، لا إله إلاّ الرّبّ ولا عزيز مثله"7.وذلك في المزامير كثير جدّاً.
وقال داود في المزمور التاسع والأربعين: "اسمع يا إسرائيل: أنا الله إلهك لست/ (1/135/ب) أوبخك على ذبائحك وقودك أمامي في كلّ حين"8.
وقال فولس في رسائله: "إنه لا إله إلاّ واحد"9.
وقال أيضاً: "إن كان في الأرض آلهة وأرباب كثير فإن إلهنا إله واحد، هو الأب الذي منه كلّ شيء
1 مرقس 13/32.
2 يوحنا 1/18.
3 يوحنا 8/40.
4 يوحنا 5/44.
5 متى 23/9، كالآتي:"لأن أباكم واحد الذي في السموات".
6 سفر أعمال الرسل 2/22-24.
7 مزمور 18/30، 31، بألفاظ مقاربة.
8 مزمور 50/7، 8، وهذا المزمور منسوب إلى آساف رئيس الكهنة.
9 رسالة إلى رومية 3/30، 31، وإلى غلاطية 3/20، ورسالته الأولى إلى كورنثوس 8/4.
ونحن به تعالى"1. فمن زعم أن الذي ذكرناه كُفْرٌ فقد كَفر بتوراة موسى وإنجيل عيسى ونبوات الأنبياء.
المسألة الثّانية من العشر المفحمات:
إنا نسألهم عن هذا الإله الواحد الأزلي جلّ وعلا، أهو جسم ذو لحم ودم وأعضاء وشعر وظفر أم يتنَزَّه ويتقدّس عن ذلك؟
فإن قالوا: إن الباري يتقدس عن ذلك إذ هو خالق الأجسام، أخرجوا المسيح من الربوبية إذ الإنجيل يشهد من فاتحته إلى خاتمته بأنه ذو جسد ولحم وشعر وظفر، لا يفارق المخلوقين في شيء ولا يباينهم في هيئة.
وإن وصفوا الباري بهذه النقائص أكذبتهم التوراة والإنجيل والنبوات، قال الله تعالى في التوراة:"لا تشبهوني بشيء مما في السماوات فوق ولا في الأرض أسفل ولا في البحار تحت ولا بشيء / (1/136/أ) مما يدبّ من الحشرات والهوام"2. وغير ذلك وهو معنى قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثلِه شَيءٌ
…
} 3.
وقال موسى في التوراة: "لا إله مثل إلهنا"4.
وقال أيضاً فيها: "لا إله مثل إله بني إسرائيل"5. والمسيح مما في الأرض وله أمثال وأشباه وأشكال.
وقال المسيح في الإنجيل: "إن الله لا يأكل ولا يشرب ولا رآه أحد قط"6. وذلك يقضي بنفي الجسمية عنه.
1 رسالته إلى كورنثوس 8/5، 6.
2 سفر الخروج 20/4.
3 {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} . [سورة الشورى، الآية: 11] .
4 الخروج 15/11، بنحوه.
5 التثنية 10/17.
6 تقدم تخريجه. (ر: ص 129) .
وقال داود في المزمور السبعين: "عليك توكلت يا ربّ، فلا أخزى أبداً، أنت إلهي وحافظي وحصني الذي ألجأ إليه في كلّ حين، أنت صانع العجائب لا نظير لك يا قدوس إسرائيل"1.
المسألة الثّالثة من المفحمات:
إنا نسأل النصارى عن الرّبّ الخالق الأزلي إله إبراهيم وداود وسائر العالم، هل يفتقر إلى الطعام والشراب فيجوع ويعطش وينام ويسهر وحزن ويفرح ويمشي ويركب أم لا؟
فإن قدَّسوا الباري عن هذه النقاائص تركوا القول بربوبية المسيح؛ إذ الإنجيل من فاتحته إلى خاتمته يشهد بملابسة المسيح لهذه الأمور / (1/136/ب) ، وإن جوَّزوا ذلك على الباري جلّ وعلا كفروا بالإنجيل والمزامير، قال المسيح في الإنجيل:"الله لا يأكل ولا يشرب ولا رآه أحد".
وقال داود في المزمور التاسع والأربعين2: "اسمع يا إسرائيل: أنا الله إلهك لست أوخك على ذبائحك وقودك أمامي في كلّ حين، لا أقبل ثيران بيتك ولا جداء غنمك؛ لأن لي جميع حيوان البرّ وطير السماء ووحش الصحاري، وأحسن الحقول معي، لي الدنيا وما فيها، لا آكل لحوم الثيران ولا أشرب دمّ المعزّ، أذبح ذبيحة المسيح، وأوفي للعلي نذورك، وادعني في يوم شدتك أنقذك".
وقال داود: "إن حارس بني إسرائيل لا تأخذه سنة ولا نوم"3.
1 مزمور 71/1-1.
2 ورد النّصّ في مزمور 50/7-15، وينسب هذا المزمور إلى (آساف) ، وليس إلى داود كما ذكره المؤلِّف.
3 مزمور 121/4.
فمن زعم أن الباري مفتقر إلى هذه الأمور فللحيوان البهيم عليه فضل عظيم بشهادة نبيّ الله أشعيا حيث يقول في نبوته: "عرف الثور والحمار مَن مالكه ولم يعرف بنو إسرائيل إلههم"1.
وقول داود عن الله: "لا آكل لحوم الثيران ولا أشرب دماء المعز". موافق لقول الله تعالى في الكتاب العزيز (1/137/أ) : {لَنْ يَنَالَ اللهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُم} . [سورة الحجّ، الآية: 37] .وقوله تعالى: {مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُون} . [سورة الذّاريّات، الآية: 57] .
المسألة الرّابعة من العشر المفحمات:
إنا نسألهم هل كان مع الله في أزله إله ثانٍ أو ثالث يشاركه في الربوبية ويساويه في الألوهية أم لم يزل سبحانه واحداً بغير ثانٍ وثالث؟!.
فإن قالوا: لم يزل واحداً فرداً وافقوا الملة الحنيفية، وفارقوا دين النصرانية حيث يقرؤون في الصلاة الأولى وهي التي يسمّونها صلاة السحر:"أيها المسيح ارحمنا واقبل تضرعنا، تعالوا نسجد لمسيح إلهنا، أيها الرّبّ المسيح حامل خطايا العالم ارحمنا أيها المسيح، أنت وحدك القدوس المتعالي بار كلّ يوم إلى الأبد".
وإن قالوا: بل كان معه في أزله آلهة أخرى، أكذبتهم التوراة والإنجيل والنبوات. قال الله تعالى في التوراة في السفر الأوّل منها - ويسمى سفر الخليقة -:"في البدء خلق الله السماء والأرض، وكانت الأرض خالية / (1/137/ب) خاوية غير مرئية، والظلمة غاشية وجه الغمر، روح الله يوف على المياه، فقال الله: ليكن كذا ليكن كذا، إلى أن أكمل سبحانه خلق السماء والأرض وما فيها في ستة أيام ثم خلق آدم وخلق منه حواء زوجته"2.
1 أشعيا 1/3.
2 سفر التكوين الإصحاح (1) .
فالتوراة من فاتحتها إلى خامتها مصرحة بوحدانية الله تعالى، وأنه ليس معه إله غيره، وأنه مستبد بالخلق والاختراع.
وقال التوراة:"وكلّم الله آدم"1."وكلّم الله قايين"2."وكلّم الله نوحاً"3. "وكلّم الله موسى"4.كلّ ذلك بلفظ الوحدة ونفي الشركاء.
وقد قال موسى في السفر الخامس: "إلهي، أيّ إله في السماء أو في الأرض يعمل مثل أعمالك؟ "5. وقال موسى في هذا السفر وهو يوصي بني إسرائيل: "احترسوا واحتفظوا بنفوسكم جداً، فإنكم لم تروا شبهاً في اليوم الذي كلمكم الله ورأيتم مجده، إياكم أن تبعدوا آلهة معمولة من الخشب والحجارة وغيرها، فحينئذٍ تطبون الله فلا تجدونه، أقبلوا يا بني إسرائيل إلى الله ربّكم وجده، واعبدوه، ووحّدوه، تجدونه إذا طلبتموه من كلّ قلوبكم وأنفسكم/ (1/138/أ) لأن الله ربّكم إله رحيم لا يخذل ولا يُسلِّم من عَبَده ووحَّدَه وعلم أنه لا إله غيره هو ربّ كلّ شيءٍ وإلهه، واعملوا أن الله هو إله في السماء فوق وفي الأرض أسفل وليس إله سواه"6.
وقال الله تعالى في هذا السفر من التوراة: "احفظوا ما آمركم به، ولا تحيدوا عنه يميناً ولا شمالاً، بل سيروا في الطريق التي أمركم بها إله ربّنا واحد فأحبوه من كلّ قلوبكم وأنفسكم وأموالكم، واكتبوا ذلك في قلوبكم، وتكلموا به إذا سافرتم أو أقمتم أو رقدتم وشدّوه على أبدانكم، وليكن مَيْسَماً بين أعينكم،
1 سفر التكوين الإصحاح (2، 3) .
2 سفر التكوين الإصحاح (4/6) .
3 سفر التكوين الإصحاح (6، 7) .
4 سفر التكوين الإصحاح (3، 4) .
5 سفر التثنية 3/24.
6 سفر التثنية 4/15-39، في سياق طويلٍ وقد أورده المؤلِّف مختصراً.
واكتبوا على [قوائم] 1 بيوتكم وأبوابكم. واتّقوا الله وإيّاه فاعبدوا، وباسمه فاقسموا، ولا تعبدوا آلهة أخرى، فالله ربّكم إله غيور"2.
وقال الله في التوراة: "إن دعاك قريبك أو صديقك إلى عبادة إله غير الله فاقتله ولا تحنن عليه ولا ترحمه، أنا الله وحدي وليس معي غيري"3.
وقال رجل للمسيح في الإنجيل: "يا معلم، ما أوّل الوصايا؟ فقال المسيح: أوّل الوصايا كلّها اسمع يا إسرائيل، الرّبّ واحد، أحبب الرّبّ إلهك من كلّ قلبك ومن / (1/138/ب) كلّ قوتك، ففي هذا جميع نواميس الأنبياء"4.
وقال المسيح في إنجيل يوحنا: "ورفع رأسه إلى السماء: أنت الإله الحقّ وحدك الذي أرسلت يسوع". وقد قال في النبوات: "أنا الله الأوّل، أن الله الآخر وليس معي غيري"5.
فمن زعم أن مع الله تعالى غيره فقد كفر بما تلوناه من كتب الله، وصار لا مسلماً ولا يهودياً ولا نصرانياً، ومن صرّح بذلك لم يقبل منه سوى الإسلام أو السيف.
المسألة الخامسة من العشر المفحمات:
إن نسأل النصارى عن الرّبّ الأزلي جلّ وعلا، هل يجوز أن يُقهر ويُغلب ويُقتل ويُصلب أم لا؟
فإن نزّهوا الباري عن ذلك أبطلوا قولهم في المسيح، إذ يقرؤون في صلاة الساعة السادسة:"يا من سُمِّرت يداه على الصليب خرق العُهْدة المكتوب فيها خطايانا وخلّصنا، يا من سُمِّر على الصليب وبقي حتى لصق دمه عليه، قد أحببنا الموت لموتك، نسألك يا الله بالمسامير التي سُمِّرت بهم نَجِّنَا".
1 في ص (معاقم) والتصويب من النّصّ.
2 سفر التثنية 5/31-33، 6/4-15.
3 سفر التثنية 13/6-11.
4 مرقس 12/28-30.
5 سفر أشعيا 44/6.
وإن جوّزوا ذلك على الله تعالى أكذبتهم التوراة والإنجيل والمزامير، / (1/139/أ) إذ التوراة تشهد في السفر الأوّل1 منها أن الله أنزل الطوفان، وأهلك الجبابرة والفراعنة والطغاة والنماردة وسائر الملوك من بني آدم وكلّ ذي روح من الحيوان البهيم وغيره، وكذلك تشهد أنّ الله غَرَّق فرعون وهو في ستمائة ألف فارس في البحر في ساعة واحدة2، ولم يُقْهر سبحانه ولم يغلب بل هو القاهر الغالب جلّ وعلا.
وقد قال المسيح في إنجيله: "لا صالح إلاّ الله الواحد، ولا يعلم يوم القيامة سوى الله وحد". فمن ألحق بالله شيئاً من هذه النقائص فقد افترى على الله، تعالى الله عن قول الجاهلين علوّاً كبيراً.
قال داود في المزمور السابع عشر: "لا إله إلاّ الله، لا عزيز مثل إلهنا، الذي عَلَّم يدي القتال، وشدّد ذراعي مثل قوس النحاس، يمينه نصرتي، أطلب أعدائي فأدركهم، عضّدي في الحرب، بقوته جعل الذين قاموا عليّ تحتي، سحق أعدائي مثل التراب ومثل طين الطرق أطؤهم، صيَّرهم رأساً على الشعوب"3.
المسألة السّادسة من العشر المفحمات:
إنا نسأل النصارى عن ما تضمنه الإنجيل من أقوال المسيح وأقوال تلاميذه فيه أحقّ هو أم باطل؟
فإن زعموا أنها باطلة كفروا بالمسيح، وساووا في ذلك اليهود والمجوس وغيرهم.
وإن قالوا: إنها حقّ وصدق، اعترفوا بعبودية المسيح ونبوته ورسالته
1 سفر التكوين الإصحاح (7، 8) .
2 سفر الخروج الإصحاح (14) .
3 المزمور 18/31-43.
أسوة غيره من الأنبياء والمرسلين، إذ قال المسيح في إنجيله:"أنا ذاهب إلى إلهي وإلهكم". وقال المسيح فيما حكوا عنه: "إلَهي إلَهِي لِمَ تركتني؟ ".
ولا خلاف بين النصارى أن المسيح تطهَّر وتعمَّد وصام وصلى وتعبَّد وأخلف إلى العلماء في طلب العلم وتردد: "وفاوضته امرأته من السامرة فقالت له: إن آباءنا سجدا في هذا الجبل، فكيف تقولون أنتم إنه أورشليم؟ فقال: يا هذه أنتم تسجدون لما لا تعلمون، ونحن نسجد لمن نعلم"1. أخبرها أن له ربّاً يسجد له وإلهاً يعبده، وذلك مقصد لقوله تعالى حكاية عنه: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتَانِيَ الكِتَابَ} . [سورة مريم، الآية: 30] .
وقد قال متَّى في إنجيله: "إن المسيح حين دخل أورشليم وارتجّت المدينة لدخوله، قال الناس: هذا يسوع النبي الذي من ناصرة الجليل"2.
وقال لوقا في/ (1/140/أ) إنجيله. "صحب يسوع بعد قيامه رجلين، وهما يتحدثان في أمره، فقال لهما: من تذكران؟ فقالا: يسوع الناصري كان رجلاً نبيّاً قويّاً بالأعمال"3. فأقرّهما ولم ينكر عليهما.
وقال لوقا: "لما أحيا يسوع المسيح ابن الأرملة وسلّمه إلى أمه، قال الناس: لقد قام فينا نبيّ كريم، وتعاهد الله شعبه بصلاح، فذاع ذلك في اليهودية"4. ولم ينكره عليه السلام.
وقال بوحنا في إنجيله: "كان الناس إذا سمعوا كلام المسيح ورأوا وجهه قالوا: هذا النّبيّ حقّاً"5.
وقال لوقا: "قال الفريسيون ليسوع: اخرج من هاهنا، فإن هيرودس يريد قتلك، فقال: امضوا وقولوا له إني أقيم هاهنا اليوم
1 يوحنا 4/19-22.
2 متى 21/10-11.
3 لوقا 24/13-19.
4 لوقا 7/12-17.
5 يوحنا 7/40.
[وغداً] 1 وفي اليوم الثالث أكمل لأنه لا يهلك نبي خارجاً عن أورشليم"2.
وقال يوحنا حبيب المسيح: "إن المسيح لما أطعم من حوتين وخمس خبزات جماً عظيماً، قال الناس: حقّاً إنّ هذا لهو النّبيّ الآتي إلى العالم"3.
فإن صدّق النصارى أقواله وأقوال تلاميذه فقد اعترفوا بعبوديته ونبوته، وإن ردوا أقواله كفروا به جملة، وساووا في ذلك سائر الكفار/ (1/140/ب) .
المسألة السابعة من العشر المفحمات:
إن نسأل النصارى عن يسوع المسيح، هذا الذي يتّخذونه إلهاً مع الله، هل كان آدم ونوح وإبراهيم وموسى وهارون وأهل مللهم في زمانهم يعرفونه أم لا؟.
فإن زعموا أنهم ما كانوا يعرفونه فقد أزروا على من ذكرنا من أنبياء الله وأهل صفوته وشهدوا عليهم بالكفر الصريح، إذ كانوا لا يعرفون ربّهم يسوع المسيح الذي لا يصحّ التوحيد دون معرفته.
وإن قالوا: إنهم كانوا عارفين به أنه هو ربّهم وخالقهم، أكذبتهم كبتهم ونبواتهم، إذ ليس فيها شيء من هذا القبيل، وأزروا على المسيح وعلى تلاميذه وخطوؤهم في أقوالهم، إذ يخاطبون المسيح بلفظ العبودية والنبوة والرسالة كما تقدم في بابي عبوديته ونبوته. وكيف يكون المسيح ربّ موسى وإبراهيم ومَن ذكرنا وشمعون الصفا رئيس الحوريين يقول في رسالته إلى إخوانه:"اعلموا أن الله أرسل إليكم يسوع المسيح"4. ويقول: "اعلموا أن المسيح رجل جاءكم من الله بالقوة والأيد؟ "5.
1 في ص (وغد) ولعل الصواب ما أثبته.
2 لوقا 13/31-33.
3 يوحنا 6/10-14.
4 سفر أعمال الرسل 2/26.
5 سفر أعمال الرسل 2/22-24.
فكيف يكون المسيح ربّاً وإلهاً والمعمداني يغسله / (1/141/أ) ويعمّده بالماء ويقول حين رآه: هذا الذي قلت لكم إنه يأتي بعدي وهو أقوى منّي؟!.
وكيف يكون المسيح إلهاً لداود وغيره، وداود يقول في مزاميره:"إن المسيح يكون كاهناً مؤيّداً من الله يشبه "ملكي صادق"، خادم البيت المقدس؟! "1.
وقد قال المسيح: إنه أفضل من يونس بن متّى2، وإنه أفضل من سليمان3. وقال فولس: إنه أفضل من موسى بن عمران4.
فهذه الأقوال من المسيح ومن خيار أصحابه ومن بينا عليه من الأنبياء دليل على كذب النصارى.
المسألة الثامنة من العشر المفحمات:
إنا نسألهم عن آدم عليه السلام لما زلَّ وهفا، هل استرجع وتاب وأقلع وأناب أم لا؟
فإن زعموا أن آدم لم يتب، أكذبتهم الكتب التي بأيديهم، فإنها مصرحة بأنه حين أسف وندم لجأ إلى الله، وتاب الله عليه.
وإن اعترفوا بتوبته - ولا بُدَّ لهم من ذلك - قيل لهم: فلا حاجة إذاً إلى قتل المسيح وصلبه إذ التوبة [تمحو] 5 الجريرة، ولا تدع على التائب صغيرة ولا كبيرة.
فإن قالوا: إنه لا بُدَّ من قتل المسيح، فالتوبة لا أثر لها بل حال التائب بعد التوبة النصوح حاله قبل التوبة في ملابسة القبيح / (1/141/ب) .
1 مزمور110/4، 5،وقد استشهدبه بولس في رسالته إلى العبرانيين5/6،10، 6/20.
2 متى 12/41.
3 متى 12/42.
4 رسالته إلى العبرانيين 3/3.
5 في ص (تمحوا) والصواب ما أثبته.
فالقول بصحّة التوبة ينفي القول بالقتل والصلب، والقول بالقتل والصلب ينفي صحّة التوبة.
المسألة التّاسعة من العشر المفحمات:
إن نسأل النصارى هل يوصف الباري سبحانه بالجهل بالغيب أم لا؟
فإن وصفوه بذلك تجاهلوا، إذ التوراة والإنجيل وسائر كتب التَّنْزِيل تشهد بأنه تعالى عالم بالمغيبات، محيط بما تحت تخوم الأرضين إلى أعلى السموات، {أَلَاّ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِير} . [سورة تبارك، الآية: 14] .
فإن قالوا: إنه لا يصلح مَن هذا حاله للربوبية تركوا ما يهتفون به من ربوبية المسيح إذ "سُئل عليه السلام عن القيامة وعن يومها فقال: لا أعرف يومها ولا ساعتها ولا يعرفها إلاّ الله وحده"1. و"قال لمريم ومرثا - أختي ألعازر حين مات - أين دفنتموه؟ "2. و"قال عليه السلام لرجل: منذ كم أصاب ابنك هذا المرض؟ "3. و"قصد شجرة تين ليصيب منها، فلم يجد بها ثمرة فدعا عليها"4. و"جاءته الكنعانية مؤمنة به، فلم يعلم بإيمانها"5.
فهذا مصرح بأن المسيح عليه السلام لا يعلم إلاّ ما علمه الله ربّه وإلهه، وفي ذلك تكذيب لقولهم في الأمانة التي لهم / (1/142/أ) إذ يقولون: "إن المسيح إله حقّ وإنه خالق كلّ شيء، وإنه بيديه أتقنت العوالم، فإن كانت الأمانة صحيحة فقد كذب الإنجيل، وإن كان الإنجيل صحيحاً فقد كفر من عقد لهم هذه الأمانة، التي هي في الحقيقة فساد الأمانة.
1 مرقس 13/32.
2 يوحنا 11/33، 34.
3 مرقس 9/21.
4 متى 21/19، مرقس 11/13.
5 متى 15/21-28.
المسألة العشرة من المفحمات:
إنا نسأل النصارى، هل كان الباري تعالى يوصف بالقدرة على خلاص آدم وذريته، دون قتل المسيح وصلبه والتنكيل به أم لا؟
فإن قالوا: لا يقدر على ذلك، جعلوا الله مضطراً مدفوعاً إلى قتل المسيح، عاجزاً عن خلاص عباده إلاّ بذلك، وأكذبتهم التوراة والإنجيل وسائر كتب التَّنْزِيل، إذ يقول: "إن الله خلق العالم بما فهي، وفعل من ذلك ما شاء وأراد:{لَا يُسْأَل عَمَّا يَفْعَلُ وَهُم يُسْأَلُون} . [سورة الأنبياء، الآية: 23] .
وإن وصفوا الباري بالقدرة على ذلك جَوَّروه ونسبوه إلى الحيف على المسيح، وذلك يفسد عليهم القول بالتحسين والتقبيح.
دعوى للنصارى في ما يرومونه من قتل المسيح وصلبه:
زعموا بأجمعهم أن آدم لما تخطى ما أُمر به وزلّ استحقّ العقاب، فلما توجه عليه العتاب أشفق من ذنبه وتقطع / (1/142/ب) أسفاً على مخالفة ربّه، فرحمه الله ولطف له وفداه بابنه المسيح، فكان كلّ ما نزل بالمسيح من ضربٍ وإذلالٍ وصلبٍ وموتٍ إنما هو فداء وقضاء عن آدم، فضرب عوضاً من رفاهية آدم، وأهين بدلاً من عزّه الذي أمله بالخلود في الجنة، وصلب على خشبة لتناوله الشجرة، وسُمِّرت يداه لامتداد يد آدم إلى الثمرة، وسقي المرَّ والخل عند عطشه لاستطعام آدم حلاوة ما أكله، ومات بدلاً عن موت المعصية الذي كان آدم يتوقعه لولا قتل المسيح، فاقتضت حكمة الله الأزلي أن لا يعذب عبده آدم لوجود التوبة النصوح الصادرة منه، وأن لا يُهمل مجاناً فيقع الخُلف في خبره، وذلك رحمة من الله ولطف لآدم وبنيه وإظهار الشرف للمسيح، إذ جعله كبش قربان العالم
1سورة الانبياء:23
بأسره فصبر المسيح ولم ينازع، واستسلم ولم يدافع، فهذه هي الحكمة في قتل المسيح وصلبه1.
والجواب أن نقول: أليس قد وافقتم على أن آدم لما ورد عليه العتاب استرجع وتاب وأقلع وأناب؟ وإذا كان الأمر كذلك فأيّ شيء / (1/143/أ) أنفت التوبة من ذنبه حتّى يقتل المسيح فِدَاءَ عنه؟!.
والتائب من الذنب كمن لا ذنب له فصار قتل المسيح عبثاً، والرّبّ يتعالى ويتقدّس عن العبث، وليس قوله تعالى لآدم نصاً، بل هو ظاهر يدخله النسخ والتخصيص والدليل عليه أنه لو وصله بالكلام وقال: إن عصيتني عذّبتك إلاّ أن تتوب، لقبله الكلام ولم ينب عنه، ولعُدَّ كلاماً حسناً، وإنما ترك الزيادة فلم يصلها بالكلام ليكون أدعى إلى الانكفاف، وهكذا كلّ ظاهر فإنه يرد مطلقاً بلفظ يوهم التأبيد ثم يجيئ الناسخ والمخصّص فيبيّن أن المطلوب وقتاً
1 هذا هو الأساس الثاني من أسس العقيدة النصرانية المنحرفة، وهو بإيجاز: الاعتقاد بصلب المسيح تكفيراً عن خطيئة آدم التي انتقل إثمها إلى ذريته من بعده.
ومنشأ هذه العقيدة يُبينه لنا أرنست ذي بولس الألماني في كتابه: (الإسلام والنصرانية الحقّة ص 142)، إذ يقول:"إن جميع ما يختص بمسائل الصلب والفداء هو من مبتكرات ومخترعات بولس ومن شابهه من الذين لم يروا المسيح، لا من أصول النصرانية الأصلية". اهـ.
ويضيف المؤرخ ول ديورانت بأن عوامل عديدة قد أوحت إلى بولس بتلك العقيدة، منها: انقباض نفس بولس وندمه بالصورة التي استحال إليها المسيح في خياله، وتأثره بالفلسفة الأفلاطونية والرواقية التي تنبذ المادة والجسم واعتبارهما شرّاً وخبثاً. وتأثره كذلك بالطقوس الوثنية في التضحية الفدائية للتكفير عن خطايا الناس، وتلك عقيدة موجودة عند الوثنيين في مصر وآسيا الصغرى وبلاد اليونان التي تؤمن بالآلهة التي ماتت لتفتدي بموتها بني الإنسان. (ر: قصة الحضارة 11/263-265، بتصرف) .
ولاستحالة هذه العقيدة ووضوح بطلانها في العقول والفطر السليمة فإنها كانت من أهمّ الأسباب التي أدّت بالمهتدي عبد الأحد داود إلى اعتناقه الإسلام ونبذه النصرانية وتأليفه كتاب: (الإنجيل والصليب) .
(للتوسع، ر: الفارق بين المخلوق والخالق ص 278، وما بعدها، لعبد الرحمن البغدادي، الإنجيل والصليب ص 6-10، 124-127، وكتاب العقائد الوثنية في الديانة النصرانية ص 48-57، وما بعدها للأستاذ محمّد طاهر التنير، وكتاب المسيح إنسان أم إله ص 131-162، المهتدي محمّد مجدي مرجان، وغير ذلك
…
) .
قد انقضى ومضى وأنه ليس مسترسلاً أبداً، فهو سبحانه توعد آدم إلاّ أن يتوب وقد تاب، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له، فلا معنى بعد ذلك لقتل المسيح.
ثم نقول لهم: أخبرونا عن هذا القضاء الذي تدّعونه، أليس هو استدراك مصلحة الأداء، وهو أن يأتي القاضي بمثل ما فَوَّت؟!.
فإذا قالوا: نعم. قلنا: فالذي فَوَّته آدم هو الانكفاف عن الأكل، وقد قضاه المسيح بصومه ووصاله أربعين يوماً / (1/143/ب) بلياليها كما حكيتم عنه في الإنجيل، وفي ذلك قضاء لما ضيّعه آدم؛ لأنه من جنس الأداء المفَوَّت فلا حاجة إلى قتل المسيح إذ هو خارج عن جنس الأداء المضيَّع.
فإن قالوا: إن آدم وجب عليه موت المعصية، وهو: الخلود في النيران أبداً وهو أعظم الموتتين، فجاء موت المسيح قضاء عن ذلك الموت فصار من جنسه.
فنقول: هذا باطل؛ لأنه لو كان موت المسيح من جنس موت آدم لكان المسيح قد أماته الله موت الخطيئة، فكان يكون مخلداً في دركات النار بدلاً عن آدم، فأما إذ مات موت الطبيعة - ينقضي عن صاحبه وشيكاً - فكيف جعلتم موتاً لا بقاء له مكافئاً لموت لا انتهاء له؟!!. فبطل ما عوَّلتم عليه، وإذا بطلت دعواكم بطل قتل المسيح إذ صار ساذجاً عن المعنى، فارغاً من الفائدة والرّبّ يتعالى عن العبث.
ثم نقول لهم: أليس ولد الصُّلب أولى من ولد الابن، وولد البنت في الميراث وكثير من الأحكام، فما الذي أصار المسيح على بُعْدِه/ (1/144/أ) أحق من شيث1 ومن
1 شيث عليه السلام: اسم سامي معناه: (معين أو بديل) ، ابن آدم. وقد ولد بعد قتل هابيل فكان بديلاً عنه، وقد عاش 912 سنة. (ر: تكوين 5/3، قاموس ص 531) .
قال الإمام ابن كثير في قصص الأنبياء 1/57: "فلما مات آدم عليه السلام قام بأعباء الأمر بعده ولده شيث عليه السلام، وكان نبيّاً بنص الحديث الذي رواه ابن حبان في صحيحه. (ر: موارد الظمآن ص 53) عن أبي ذر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله أنزل مائة صحيفة وأربع صحف، على شيث خمسين صحيفة
…
" اهـ.
في درجته بهذا الفداء والقضاء؟ فإن قالوا: المسيح هو ابن الله ولم يصلح لفداء الخلائق وخلاص الأمم سواه.
قلنا: ليس من العدل أن يجني ابن آدم فَيُقْتَل ابن الله في جنايته. ثم نقول: أليس إسرائيل عندكم في التوراة هو بكر الله، والبِكْرُ أولى وأفضل عند أبيه من غير البكر، فهلا فداه به ولم يدع الناس في العذاب إلى حين مجيء المسيح؟!.
ثم نقول: إن المسيح عند طائفة منكم1 هو الله الأزلي، وعند أخرى2 هو ابن الله، فكيف يستقيم أن يقتل الله نفسه أو ابنه بدلاً عن عبده؟!. و {الله يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوتِهَا} . [سورة الزمر، الآية: 42] . فكيف يتوفّى نفسه، فيتّحد القاتل والقتيل فيكون قاتلاً قتيلاً؟!.
ثم نقول: أرأيتم لو أنّ رجلاً أمر عبده بأمر فخالفه فغضب عليه وتوعده فخافه العبد وأشفق من عقوبته وراجع خدمته وشمّر في مرضاته فعطف عليه مولاه فرحمه، ثم عمد إلى ولد نفسه فقتله وصلبه على أعلى جذع، ثم التفت إلى عبده فقال: هذا فداؤك، أكنتم تعدونه حكيماً؟!.
ثم نقول: ألستم عبتم قول ربّنا جلّ اسمه: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكَِن شُبِّهَ لَهُم} . [سورة النساء، الآية: 157] . وزعتم أن ذلك ظلم وحيف لا يليق بالحكمة؟ فكيف نسيتم نفوسكم هاهنا؟! وجوَّزتم أن يقتل الله المسيح ويصلبه وينكل به فداء عن آدم، ولم تجعلوا ذلك ظلماً وحيفاً؟! والجور لا يجوز على الولد كما لا يجوز على العبد والأجنبي.
1 وهم طائفة اليعقوبية كما سيأتي بيانه في الباب السابع.
2 وهم طائفة النسطورية، كما سيأتي بيانه.
ثم نقول: أليس يجب أن يكون القضاء متصوراً بصورة الأداء - هو أن يأتي القاضي بمثل ما فات - والمسيح عندكم ليس مثل آدم؛ لأن آدم إنسان محض والمسيح ليس محضاً بل قلتم إنه عبارة عن لاهوت وناسوت اتّحدا، وإذا كان الأمر كذلك فليس في قتله ما يقضي عن آدم.
فإن قالوا: هذا بمثابة مَن عليه درهم، فقضى درهماً وديناراً، فإن ذلك يُعَدُّ من حسن القضاء.
قلنا: هذا خطأ في التمثيل. بل ذلك بمثابة مَنْ عليه صوم فقضاه بصلاة أو زكاة لا يكون قضاء، وإذا كان المسيح ليس إنساناً محضاً، فكيف يكون مكائفاً لإنسان / (1/145/أ) محض وآدم صرف؟!.
ثم نقول: بم تنكرون على من يزعم أن الذي فُدِي به آدم إنما هو هابيل ابنه لصُلبه فإنه استسلم للقتل فحصلت له الشهادة ولأبيه الفداء؟!. وهذا أولى لوجهين:
أحدهما: أنه من جوهر أبيه آدم، فهو إنسان حقّ من إنسان حقّ من جوهر آدم، فأما المسيح فهو عندكم إله حقّ من إله حقّ من جوهر الله كما عقدتم في أمانتكم.
والوجه الثاني: أن في الفداء بهابيل المبادرة إلى خلاص الخلائق من الجحيم، وفي الفداء بالمسيح بقاء آدم وذريته في العذاب خمسة آلاف سنة1.
1 يعتقد النصارى - بناء على أن المسيح صلب تكفيراً عن خطيئة آدم التي انتقل إثمها إلى ذريته من بعده - أن أرواح الناس جميعاً بما فيهم الأنبياء والرسل - قبل المسيح - كانت تتعذب في نار جهنم إلى أن صلب المسيح ومات ودفن ونزل إلى الجحيم فأخرج منها أرواح آدم وذريته، ثم في اليوم الثالث قام المسيح من الأموات. (ر: قانون الإيمان ص 353، وما بعدها، تحفة الأريب للترجمان ص 150) . ويعتمد النصارى في اعتقادهم ذلك على ما ورد في نصّ قانون إيمان الرسل (الأمانة) ، الذي كان من قرارات نيقية المشهور سة 325م.
ويتملكنا العجب إذا عرفنا أن تلك العقيدة لا يشير إليها أيّ نصّ في الأناجيل الأربعة المعتمدة لديهم، وإنما وردت في إنجيل نيقوديموس (نيكوديم) 17/13 - وهو أحد رؤساء اليهود الذين آمنوا بالمسيح - وهذا الإنجيل من ضمن الأناجيل المرفوضة من النصارى. (ر: المسيح في مصادر العقائد المسيحية ص 306-309، الأسفار المقدسة ص 106، د. عليّ وافي) .
ومما لا شكّ فيه أن القول بنزول المسيح إلى جهنم وتخليص أرواح الناس والأنبياء والرسل السابقين منها إنما هو زيغ وضلال وكفر، فإنه لا يعقل أن يكون الأنبياء والصالحون في نار جهنم، وإلاّ فما الفائدة أن يسعى الناس ليكونوا صالحين إذا كانت نهايتهم سواء مع الظالمين والفاسدين في نار جهنم؟!!!. {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لا يَسْتَوُونَ} . [سورة السجدة، الآية: 18] . وكيف يكون الأنبياء في الجحيم وقد بيّن لوقا في إنجيله 16/23-25 على لسان المسيح أن الموتى من الصالحين ينتقلون فوراً إلى النعيم بينما يتلظى الأشقياء في نار الجحيم؟!!.
وكان الفداء (بهابيل) أولى ولاسيما على أصلكم، فإنكم توجبون على الله تعالى رعاية الأصلح لعباده، وليس من الصلاح فضلاً عن الأصلح أن يعاقب الله عبيده آلافاً من السنن وله مندوحة عن ذلك.
ثم نقول: ألستم رويتم عن توراتكم أن الله كان قد فدى ولد عبده إبراهيم بذبح عظيم؟! فإذا قالوا: بلى. قلنا لهم: أفكان ولد عبده أزكى لديه وأعزّ عليه من ولده المسيح / (1/145/ب) أم تقولون: إنه أعوزته الغنم فلم يقدر على رأس يذبحها ويريح العالم من الفتنة؟! وقد رويتم لنا ما يدل على أن الباري سبحانه صان المسيح عن شرّ أعدائه، وحماه من القتل والإهانة التي ذكرتم في التوراة:"إن الله تقدم إلى إبراهيم بذبح ولده، فلما عزما على امتثال أمر الله لطف الله لهما وفدى الولد"1. وتعقب ذلك الأمر الحزم والحكم الحتم رحمة لعبده، وإذا كان ذلك جائزاً في حكمه فلعل الله تعالى قد أمر المسيح في حقّ نفسه بما أمر به إبراهيم في حقّ ولده فاستسلم المسيح وانتهى إلى ما أمره الله به وصار يخبر بذلك تلاميذه كما كان إبراهيم يخبر به ولده.
1 سفر التكوين الإصحاح (22) . في سياق طويل وقد ورد فيه: "أن الله تعالى قال لإبراهيم خذ ابنك وحيدك الذي تحبه إسحاق
…
". وهذا النص مما يُظهر تحريف اليهود ويفضحهم، فقد أضاف اليهود اسم إسحاق في النص ليدعوا بأنه هو الذبيح وليس إسماعيل عليهما السلام، علماً بأن النّصّ يقول لإبراهيم: "ابنك وحيدك"، ومما هو معلوم ومذكور في التوراة أن إسماعيل بكر أبناء إبراهيم ووحيده قبل مجيء إسحاق، فكيف يدّعي اليهود أن إسحاق هو الذبيح؟!!.
ثم لما صحّ عزم المسيح على تجرع الكأس الذي أُمِرَ به لَطُفَ الله له ورحمه وفداه برجل قد حضر أجله، فإن عناية الله بالمسيح لا تتقاصر عن عنايته بولد عبده إبراهيم.
وقد حكيتم لنا: "أن [حزقيا] 1 ملك يهوذا مرض، فأوحى الله إلى أشعيا عليه السلام أن قل لحزقيا يوصي فإنه ميت من علته هذه / (1/146/أ) فدخل إليه أشعيا عليه السلام وأخبره بوحي الله، فاستقبل [حزقيا] الجدار وبكى وتضرع إلى الله تعالى، فنزل الوحي على أشعيا قبل خروجه من الدار وقال: قل [لحزقيا] إنك تعافى من علتك هذه، وتنزل إلى الهيكل بعد ثلاثة أيام، وقد زيد في عمرك خمس عشرة سنة"2.
وإذا كان هذا وشبهه غير مستحيل عند النصارى، فما الذي أحاله في حقّ المسيح، وقد تضرع إلى الله غير مرّة في صرف كأس المنية عنه كما شهد به الإنجيل؟ والمسيح لا ترد له عندهم دعوة، فلعل الله تعالى قد أجاب دعاءه ورحم نداءه وحال بين اليهود وبين ما أرادوا منه.
ثم نقول لهم: وبم تنكرون على من يرى أن الله تعالى تاب على عبده آدم، وعافا نبيّه المسيح وفداه بكافر عَجَّله3 إلى النار. أو بمؤمن عجله إلى الجنة؟! 4. فأي شيء تنكرونه من ذلك؟! وقد بينا فيما تقدم وقوع الشبه وسؤال رئيس الكهنة للشبه: أأنت المسيح؟ وتورية الشبه في الجواب، وأنه لو كان هو المسيح نفسه لما / (1/146/ب) استعمل الحيدة مع استغنائه عن ذلك.
1 في ص (حزقيال) والتصويب من النّصّ. وحزقيا: اسم عبري معناه: (الرّبّ قدقوي، أو الرّبّ قوة) .وهوابن آحازملك يهوذا، وقد مات نحو693،ق. م. (ر: قاموس ص305) .
2 سفر أشعيا 38/1-5.
3 هذا على القول بأن الذي صلب هو الخائن يهوذا الأسخريوطي الذي وشى لليهود بمكان المسيح.
4 وهذا على القول بأنه الحواري الذي فدى المسيح بنفسه وصلب بدلاً عنه.
ويقال للنصارى: ما تقولون في أحدنا اليوم إذا عصى ربّه وارتكب إثماً واحتقب1 وزراً، أتجزيه التوبة أم لا بدّ أن يقتل ويصلب؟
فإن قلتم: تجزيه التوبة، فمن أصاره بهذا التخفيف أولى من صفي الله آدم؟! إذ قلتم: لا بدّ مع توبته من قتل المسيح لأجله.
وإن قلتم: لا تجزيه التوبة، أكذبتم فولس الرسول، حيث يقول في صدر كتابه:"أنراك تقدر على الهرب من عقوبة الله الذي أنه مجتر عليه، أو لا تعلم أن إمهال الله لك إنما هو ليقبل بك إلى التوبة؟ "2.
قد صرح فولس في هذا الكلام أن التوبة مجزئة ومخلصة فلا حاجة إلى قتل وصلب. ويقال للنصارى: ألستم تعلمون أن الله إنما فدى آدم بالمسيح رحمة لآدم وامتناناً عليه، فقتل المسيح بدلاً من الموت الذي وجب على آدم؟! فإذا قالوا: بلى. قيل لهم: أليس ناسوت الميسح [إنساناً] 3 من بنى آدم يحس ويألم ويفرح ويغتم؟!.
فإذا قالوا: بلى. قيل لهم: فكيف فدى آدم ببعض آدم، فقد صارت النعمة مشوبة بالكدر والنفع الحاصل / (1/147/أ) مشوشاً بالضرر؟!
فإن قالوا: هذا بمثابة المال يشرف على الهلاك، [فتقتضي] 4 الحكمة إتلاف بعضه لصون بقيته.
فنقول: إنما ذلك لعسر الأمر على المالك، إذ هو مدفوع، إما لهلاك الكل أو البعض، فكأنه كالمكره المحمول على ذلك، والله سبحانه لا مستكره له وليس مضطراً محمولاً ولا يفعل ما يفعله لعلة، فلو عفا عن أجرم عبيده وأحسن إليه لم يعد ذلك منه إلاّ حسناً ولم ينقص الإحسان [خزائنه] 5، ولو عاقب
1 احتقب: ادخر. (ر: القاموس ص 97) .
2 رسالة بولس إلى رومية 2/3-5.
3 في ص (إنسان) والصواب ما أثبته.
4 في ص (فتتقاضى) والصواب ما أثبته.
5 في ص (حراينه) والصواب ما أثبته.
أطوع الناس لم يقبح ذلك منه1، وقد أخبرت التوراة أن الله تعالى عفا عن
1 ينفي الأشاعرة قطعاً أن يكون لشيء من أفعال الله تعالى علة مشتملة على حكمة تقضي إيجاد الفعل أو عدمه، هو ردّ فعل لقول المعتزلة بالوجوب على الله، حتى أنكر الأشاعرة كل لام تعليل في القرآن الكريم وقالوا: إن كونه يفعل شيئاً لعلة ينافي كونه مختاراً مريداً.
وهذا الأصل تسمّيه بعض كتبهم (نفي الغرض عن الله) ، ويعتبرونه من لوازم التَّنْزِيه، وجعلوا أفعاله تعالى كلّها راجعة إلى محض المشيئة، ولا تعلق بها لصفة أخرى - كالحكمة مثلاً - ورتبوا على هذا أصولاً فاسدة كقولهم بجواز أن يخلد الله في النار أخلص أوليائه، ويخلد في الجنة أفجر الكفار، وجواز التكليف بما لا يطاق ونحوها.
وسبب هذا التأصيل الباطل عدم فهمهم ألا تعارض بين المشيئة والحكمة، أو المشيئة والرحمة. (ر: منهج الأشاعر - د. الحولي ص 47، والحكمة والتعليل - د. محمّد ربيع المدخلي ص 62-67، ر: كتب الأشاعرة المواقف للإيجي ص 331، ونهاية الأقدام للشهرستاني ص 397، الاقتصاد في الاعتقاد للغزالي ص 102، وغيرها.
وأما مذهب السلف أهل السنة والجماعة في إثبات الحكمة والتعليل فهو أن أفعاله تعالى تعلل بالحَكَم والغايات الحميدة، التي تعود على الخلق بالمصالح والمنافع، ويعود إلى الله تعالى حبّه ورضاه لتلك الحِكَم وهذه الحكم مقصودة ويفعل لأجل حصولها، واستدل السلف على ذلك بأدلة منها:
أ- أجمع المسلمون على أن الله تعالى حكيم، ولا يجوز أن يخلو فعل الحكيم من الحكمة، ولا تكون الحكمة إلاّ من فاعلٍ مختارٍ يكون قاصداً بفعله تلك الحكمة، وفاعلاً لها.
ب- النصوص الواردة في القرآن الكريم التي ورد فيها التصريح بلفظ الحكمة، كقوله تعالى:{حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ} ، [سورة القمر، الآية: 5] . وقوله: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} . [سورة النساء، الآية: 113] . ولا شكّ أن المعطي الحكمة غيره يجب أن يكون حكيماً، وورد في آيات أخرى أنه عزوجل فعل كذا لكذا، كقوله تعالى:{رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} . [سورة النساء، الآية: 165] .
ج- ومن الأدلة أيضاً، إنكار الله سبحانه على من زعم أنه خلق الخلق لا لحكمة وغاية كقوله تعالى:{أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون} . [سورة المؤمنون، الآية: 115] .
هذه بعض الأدلة العقلية والنقلية التي استدل بها السلف رحمهم الله. (للتوسع، ر: الفتاوى للإمام ابن تيمية 8/35، 44، 16/299، منهاج السنة 1/447، وما بعده إلى 470، كما أطال ابن القيم في ردّ شبه الأشاعرة في شفاء العليل ص 391-521، الحكمة والتعليل في أفعال تعالى - د. محمّد ربيع المدخلي) .
السامري مع عظم جرمه1، وأهلك بلعام بن بعور مع سابق معرفته2، {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُم يُسْأَلُون} . [سورة الأنبياء، الآية: 23] .
ويقال لمن زعم خطيئة آدم قد عمّت سائر أولاده، وأنه لا يطهرهم من خطاياهم إلاّ قتل المسيح: فالتوراة والنبوات ترد هذه المقالة الشوهاء؛ وذلك أن التوراة تقول في السفر الأوّل - وهو الذي يعرف بسفر الخليقة ت لقابيل الذي قتل هابيلاً، وردّ الله عليه قربانه ولم يتقبله / (1/147/ب) :"إنك إن أحسنت تقبلت منك، وإن لم تحسن فإن الخطية رابضة ببابك"3. وإذا كان الأمر كذلك فقد صار إحسان المحسن من بني آدم مطهراً له ومخلصاً، فلا حاجة إلى شيء آخر.
وقال الله تعالى في السفر الأوّل من التوراة: "إني سأجزي هابيل عن الواحد سبعة"4. وفي ذلك مندوحة عن التطهير بقتل وصلب، إذ الجزاء طهرة وزيادة.
وقد قال الله تعالى في بعض النبوات: "لا آخذ الولد بخطية والده ولا الوالد بخطية ولده، طهارة الطاهر له تكون، وخطية الخاطئ عليه تكون"5.
وذلك موافق لقول ربنا جلّ اسمه: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} . [سورة الأنعام، الآية: 164] .
1 لم يرد في التوراة المحرفة ذكر السامري، الذي صنع العجل لبني إسرائيل، فعبدوه من دون الله حينما ذهب موسى عليه السلام لميقات ربّه كما أخبرنا القرآن الكريم في سورة طهَ الآيات: 83-99. وإنما تنسب التوراة المحرفة هذا الشرك القبيح - الذي فعله السامري - إلى هارون عليه السلام حسب عادة اليهود في تحريف كتبهم ونسبة الشرك والقبائح إلى أنبيائهم، ليكون ذلك ذريعة لهم إلى فعلها. (ر: سفر الخروج الإصحاح (32) ، وقاموس الكتاب ص 944) . وقد ذكرت التوراة أن الله غفر له خطأه، وأمر برسمه وذريته كهنة على بني إسرائيل. (ر: سفر الخروج 40/12-15، وقاموس الكتاب ص 995) .
2 وردت قصته في سفر العدد (الإصحاحات: 22، 23، 24، 31)، وقد تقدم ذكرها. (ر: ص 35) .
3 سفر التكوين 4/6، 7.
4 سفر التكوين 4/15.
5 سفر حزقيال 18/20.
وقد قال الله في المزمور الرابع:"يا بني البشر حتى متى أنتم [ثقيلوا] 1 القلوب؟! لماذا تهون الباطل وتتبعون الكذب؟! اغضبوا ولا تأثموا، والذي تهمون به في قلوبكم اندموا عليه في مضاجعكم، اذبحوا الله ذبيحة البر وتوكلوا على الرّبّ"2. فهذا المزمور من مزامير داود يقول: إنه لا حاجة إلى قتل المسيح، / (1/148/أ) إذ كان الندم والتوكل على الرّبّ تعالى فيه مندوحة عن ذلك.
وقال الله تعالى في المزمور الأوّل: "طوبى لمن لم يتبع سبيل المنافقين، ولم يقف في طريق الخاطئين، ولم يجالس المستهزئين، لكن في ناموس الرّبّ يدرس الليل والنهار"3. فقد أخبر الله تعالى على لسان داود عليه السلام أن الاشتغال بأسباب الخير ومفارقة أهل الشّرّ مخلص فلا حاجة إلى الخلاص بقتل المسيح وصلبه.
وقال فولس - خطيب النصارى ومتكلمهم -: "أو لا تعلم أن إمهال الله لك إنما هو ليقبل بك إلى التوبة؟ "4. فإن كان لا بدّ من قتل المسيح لضرورة خلاصهم فلا معنى لتوبة الله على عبده.
والدليل على أن التوبة ماحية للخطيئة، قول الإنجيل:"إنه لما أُسْلِم المعمداني للقتل خرج يسوع إلى الجليل، وجعل ينادي ويقول: قد كمل الزمان واقتربت ملكوت الله، فتوبوا وآمنوا بالبشرى"5.
فقد شهد المسيح عليه السلام في هذا الكلام بأن التوبة تستقل بمحو الآثام فلا حلاجة / (1/148/ب) إلى محوها بأمر آخر.
1 في ص (ثقيلي) لصواب ما أثبته.
2 مزمور 4/2-5.
3 مزمور 1/1، 2.
4 رسالة بولس إلى رومية 2/3-5.
5 مرقس 1/14، 15.
ويقال للنصارى: ما تقولون فيمن اخترم قبل مجيء المسيح، أكفاراً كانوا أم مؤمنين؟
فإن قالوا: مؤمنين، فقد سَلَّموا أنه لا حاجة إلى قتل المسيح في تخليصهم، إذ إيمانهم هو الذي خلصهم.
وإن قالوا: بل كانوا كفاراً، أكذبهم المسيح إذ يقول في الإنجيل:"إني لم أرسل إلاّ إلى الذين ضلّوا من بيت إسرائيل، وإن الأصحاء لا يحتاجون إلى الدواء"1.
ثم نقول لهم: ألستم تزعمون أن المسيح إنما تجشَّم ونزل من السماء لخلاص معشر الناس كما عقدتم في الأمانة التي لكم؟!
فإذا قالوا: بلى. قلنا لهم: فما قولكم فيمن مات قبل نزوله عليه السلام؟!. وكيف الطريق إلى بلوغ دعوته إليهم؟!.
فإن قالوا: تعذّر تلافي أمره وفات استدراكه بموته. قلنا لهم: جوَّزتم المسيح ونسبتموه إلى الظلم والحيف حيث لم ينْزل لخلاصهم قبل موتهم، فلِمَ أخَّر ذلك حتى اخترموا على الكفر والضلال؟! وكيف صار الأحياء أحقّ برحمة المسيح عندكم من الأموات؟ وفي هذه المقالة / (1/149/أ) هدم أصلكم في التحسين والتقبيح، وإن تحامقوا وقالوا: إن المسيح لما جاء دعا الأحياء وهو حيّ، ثم مات فدعا الأموات في أجداثهم، فمن أجابه نجى ومن أبى هلك
…
، فنقول: أدعاهم في أجداثهم وهو حيّ أم دعاهم وهو ميّت؟!.
فإن قالوا: دعاهم وهو ميّت، سقطت مكالمتهم لتبيّن جنونهم.
فإن قالوا: دعاهم وهو حيّ، نقضوا قولهم أنه مات فدعا الأموات.
ثم يقال لهم: هب أنا ساعدناكم على هذا المحال، فهل لما أتى الأموات دعا المؤمنين والكفار أو اقتصر على دعاء المؤمنين فقط؟!
1 متى 9/12، 13، 15، 24، مرقس 2/17، لوقا 5/31، 32.
_________
فإن قالوا: دعا الجميع. قلنا لهم: فلعله قد دعا فرعون ونمرود فآمنا، ودعا جماعة من الموحدين فلم يجيبوا، فهل تشكون في أحد من الفريقين؟!.
فإن توقفوا في ذلك فقد جوزوا أن يكون فرعون الآن في الجنان، ومن مات على التوحيد في دركات النيران لاحتمال تغير الحال.
وإن منعوا ذلك وقالوا: بل كل من الفريقين على ما مات عليه من كفر وإيمان. قلنا: فدعاء المسيح إيّاهم / (1/149/ب) وموته بسببهم وقع عبثاً.
وإن قالوا: لا بدّ من صورة الدعوة لإقامة الحجة عليهم في القيامة. قلنا: قد دعتهم أنبياؤه ورسله وأقاموا الحجة عليهم، فما حاجته إلى تجشمه أمراً قد فرغ منه إلاّ أن تقولوا: إنه اتّهم أنبياءه في الرسالة والسفارة، أو أنه لم يعلم ما أحدثوا في التبليغ عنه فنزل ليعلم حقيقة الأمر.
ثم يقال لهم: أليس قد دعاهم في حالة حياته، فزعمتم أنهم وثبوا عليه فقتلوه فصلبوه وأهانوه؟ أَفَترون أنه في حال مماته أنهض منه في حال حياته؟!.
فما يؤمنكم أن يكون الأموات حين دعاهم في الأجداث قد وثبوا به أيضاً؟ وهذا عندكم غير مستبعدٍ، إذ قلتم إنه دعا الأموات وهو ميّت، وإذا كان الميّت لا يستحيل منه الدعوة والإجابة، فكذلك لا يستحيل الوثوب والقتل.
ثم يقال للنصارى: أليس المسيح عندكم عبارة عن لاهوت وناسوت اتّحدا فصارا مسيحاً؟! فإذا قالوا: بلى. قلنا: فالميت أيهما؟! فإذا قالوا: الناسوت، قلنا: فكيف استقل بهداية الخلق ناسوت ميّت / (1/150/أ) وعجز عن ذلك لاهوت حيّ؟!
أفتقولون: إن ناسوت المسيح أقدر على الهداية من لاهوته، وأيضاً، فإن الناسوت في حال اتّحاده أقام فوق الثلاثين سنة بالناصرة وأورشليم لم يتجاوز ذلك فلما فارق لاهوته يوماً وليلة، قلتم: إنه أتى الأموات وهم في أكناف الأرض
متفرقون فدعاهم، فما نرى الناسوت على مقتضى ذلك إلاّ أعم إحاطة من اللاهوت، وما نرى هذا اللاهوت الذي كان متّحداً بالجسد إلاّ قد حبسه عن خير كثير، إذ عطله عن الانبعاث ونشر الدعوة، فسحقاً لإله حيّ أنهض منه جسد ميّت.
ثم يقال للنصارى: إذا قلتم: إن ربّكم المسيح قد مات ثم عاش، فَمن الذي أحياه بعد إماتته؟!.
فإن قالوا: هو أحيا نفسه، فنقول لهم: هل أحياها وهو حيّ أو أحياها وهو ميّت، والقسمان باطلان على ما لا يخفى.
وإن قالوا: بل أحياه غيره وهو الذي أماته، قلنا لهم: فذلك الغير الذي تولى موته وحياته أحيّ هو أم ميّت؟ فإن قالوا: [ميّت] 1، كان ذلك محالاً إذ الميّت لا يحيى ولا يميت.
وإن قالوا: إنه حيّ قادر أمات المسيح، ثم / (1/150/ب) أحياه. قلنا: فقد اعترفتم بأن المسيح عبد من عبيد الله تعالى، تجري عليه أحكامه من الموت والإحياء، وفي ذلك بطلان شريعة إيمانكم، إذ تقولون فيها: إن المسيح إله حقّ خالق، غير مخلوق، وإنه أتقن العوالم وخلق كلّ شيء بيده.
ثم يقال لهم: أخبرونا هل إماتة المسيح ممن أَماتَه وأعدمه فضل وحكمة أم سفه وعبث؟!.
فإن قالوا: [فضل] 2 وحكمة، فقد أثنوا على اليهود؛ لأنهم ساعدوا على حصول الفضل والحكمة، ومدحوا يهوذا الإسخريوطي؛ لأنه فاز بالدلالة وأعان على حصول هذا الفضل والحكمة.
1 في ص (مينا) والصواب ما أثبته.
2 في ص (فضلا) والصواب ما أثبته.
وإن قالوا: إن إماتة المسيح سفه وعبث. فقد نسبوا الرّبّ الأزلي إلى السفه والعبث، ويتعالى عن ذلك.
وإن قالوا: إن إماتته فضل وحكمة، ولكن لَعْن اليهود ويهوذا متعيّن؛ لأن ذلك كَسْبُهم وإن وافقوا الفضل والحكمة وصادفوا ذلك مصادفة.
قلنا لهم: أزريتم على المسيح غاية الإزراء، إذ زعمتم أنه قال على الصليب:"إلهي إلَهي كيف تركتني وخذلتني؟ "1. وقال أيضاً: "إن كان يحسن / (1/151/أ) صرف هذا الكأس عني فاصرفها"2. فلزم بمقتضى قولكم أنه قد تطير بهذا الفضل والحكمة، والتمس البقيا وترك هذا الفضل، وذلك فيما زعمتم سفه يناقض الحكمة.
ثم يقال لهم: أخبرونا لو لم يتب آدم ولقي الله بخطيئته، هل كان قتل المسيح يستقل بخلاصه؟!.
فإن قالوا: لا. أحالوا الخلاص إلى التوبة دون قتل المسيح.
وإن قالوا: نعم في دم المسيح وفاء بالخلاص. وإن لم يتب آدم [وبنوه] 3، أخلوا التوبة عن الفائدة، ولزم أن يكون كل فاجر وقاتل وظالم خلصوا، فإن التزموا ذلك قيل لهم: فيهوذا الإسخريوطي وفرعون ونمرود وأشباهم قد خلصوا أيضاً، وليس في النصارى من يتجاسر على البوح بذلك، وهو لازم لهم على مقتضى قولهم هذا.
فإن قالوا: بل الخلاص بمجموع الأمرين بالتوبة ودم المسيح. قلنا: كأنكم لا ترون دم المسيح مكافئاً لآدم ما لم تنضم إليه التوبة، وهذا تصريح منكم
1 متى 27/46، مرقس 15/34.
2 متى 26/29، مرقس 14/36، لوقا 22/42.
3 في ص (بنيه) والصواب ما أثبته.
بنقصه عن مقابلة آدم وعجزه عن خلاصه لولا التوبة، ولعمري إن من عجز عن خلاص عبدٍ واحدٍ أنه عن خلاص / (1/151/ب) سائر الخلائق أعجز.
ويقال لمن زعم أنّ الخلائق لا يخرجهم من خطاياهم ويخلصهم من ذنوبهم إلاّ قتل المسيح: أليس قد رويتم عنه في الإنجيل قوله: "إذا كان في القيامة أقمت الصالحين عن يميني والظالمين عن شمالي، وأقول لأهل اليمين فعلتم بيَ كذا فاذهبوا إلى النعيم. وأقول لأهل الشمال: فعلتم بيَ كذا فاذهبوا إلى الجحيم"1.
وإذا كان ذلك صحيحاً فإحسان المحسن هو الذي اقتضى خلاصه، لا ما ادعيتم من قتل المسيح، ومما يؤيد ما قلناه قول مرقس في خاتمة إنجيله:"إن المسيح حين ودع تلاميذه صاعداً إلى السماء، قال لهم: كرِّزوا بالإنجيل في الخليقة كلها، فمن آمن خلص، ومن لا يؤمن فإنه يدان"2.
وإذا كان إيمان3 الإنسان هو يخلصه بشهادة المسيح فلا حاجة إلى الخلاص بقتل ولا صلب، وقال لوقا أيضاً:"إن امرأة صبت على رجلي المسيح دهناً كثيراً له قدر كبير، وبكت حتى بلت قدميه بدموعها، فقال لها: اذهبي إيمانك خلصك"4.
ويقال للنصارى: أخبرونا / (1/152/أ) لو لم يقتل المسيح فداء وقضاء عن آدم، ومات حتف أنفه ما كان يكون حال آدم؟!.
فإن قالوا: يعذب على خطيئته. قيل لهم: فلا معنى لقبول توبته إذاً. وإذا قالوا: لا يعذب. قيل لهم: فقتل المسيح وقع عبثاً.
1 متى 25/31-46.
2 مرقس 16/14، 15.
3 في ص: (إيمان المسيح الإنسان) ، فزاد كلمة (المسيح) والذي أراه حذفها ليستقيم المعنى. والله أعلم.
4 لوقا 7/37-50، في سياق طويل.
ويقال لهم: أخبرونا عن قول الله تعالى في التوراة لآدم: "إنك في اليوم الذي تأكل من الشجرة تموت موتاً"1. ما أراد الله سبحانه بهذا الموت؟ أموت المعصية أم موت الطبيعة؟.
فإن قالوا: موت المعصية. قلنا لهم: فقد أحيته التوبة.
وإن قالوا: موت الطبيعة، أكذبتهم التوراة والكتب القديمة؛ إذا صرحت بأن آدم بعد ملابسة الزلة عاش دهراً حتّى رزق الأولاد ورأى فيهم البَر والفاجر2، فقد لزمهم خلو قتل المسيح عن الفائدة.
ويقال لهم: أخبرونا هل كان المسيح في الثلاثين سنة قبل الدعوة يسمى ابناً ومسيحاً أم لا؟
فإن زعموا أنه كان يسمى بذلك، أكذبتهم أقوال التلاميذ في الإنجيل، إذ قالوا:"إنه في طول هذه المدّة لم يعرف إلاّ بابن داود3 وابن يوسف"4.
وإن قالوا: لم يسم ابناً إلاّ بعد التعميد، فقد اعترفوا بأن المسيح ليس مسيحاً / (1/152/ب) وابناً حقيقة، وإنما هو مسيح بالتسمية لا غير، وفي ذلك تسوية له بيعقوب وداود، وكلّ من مُسِح من أولاد هارون وسُمِّي بهذا الاسم، وعند ذلك لا نشاححهم في مجرد التسمية إذا صحّ إطلاقها على الصلحاء من بني إسرائيل، وتحقق أن فداء آدم من خطيئته برجل صالح من ذريته قد شرفه الله بأن سماه ابناً ومسيحاً كما شرف عبده إسرائيل وغيره.
1 سفر التكوين 2/16، 17.
2 سفر التكوين الإصحاح (4، 5) .
3 متى 1/1، 9/27، 21/9.
4 لوقا 3/23، يوحنا 1/45.
ويقال لهم: هل كان خلاص آدم من غير أن ينال المسيح سوء ممكن في قدرة الله أم كان عاجزاً عن ذلك؟!.
فإن قالوا: لا يمكن ذلك، جعلوا الله سبحانه مضطراً مدفوعاً عاجزاً عن سلامة عباده وصونهم عن المحن والبلايا، والتوراة والكتب تكذبهم إذ هي شاهدة بقدرة الله على كلّ ممكن.
وإن قالوا: إنه كان قادراً على ذلك، جوّروا الله وحيِّفوه ونسبوه إلى الظلم؛ إذ عذب آدم أو قتل المسيح وهو قادر على سلامته وكفايته، وذلك يشوش عليهم القول بالتحسين والقبيح.
قال المؤلِّف: إنما طوّلنا النفس في هذا الباب هدماً لقاعدتهم / (1/153/أ) في القتل والصلب. وهي قطب كفرهم1. والله أعلم.
1 لقد سبق بيان أهمية عقيدة الصلب في النصرانية. ويؤكّده قول البروفيسور جوردن مولتمان في كتابه: (الإله المصلوب) : "إن وفاة عيسى على الصليب هي عصب كلّ العقيدة النصرانية. إن كل النظريات المسيحية عن الله وعن الخليقة وعن الخطيئة وعن الموت؛ تستمد محورها من المسيح المصلوب. وكل النظريات المسيحية عن التاريخ وعن الكنيسة وعن الإيمان وعن التطهر وعن المستقبل وعن الأمل؛ إنما تنبع من (المسيح المصلوب".اهـ. (نقلاً من - مسألة صلب المسيح - للشيخ أحمد ديدات، ص 10) .