المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

ولكن الحال في الآخرة يختلف، وينطبق عليه قول الحق سبحانه - تفسير الشعراوي - جـ ١٣

[الشعراوي]

الفصل: ولكن الحال في الآخرة يختلف، وينطبق عليه قول الحق سبحانه

ولكن الحال في الآخرة يختلف، وينطبق عليه قول الحق سبحانه في الآية التالية: {لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا

} .

ص: 7714

وحياتُكَ في الآخرة إنْ أصلحتَ عملك وكنت من المؤمنين - تختلف عن حياتك في الدنيا؛ فأنت تعلم أنك في الدنيا تَحْيا مع أسباب الله المَمْدودة لك؛ وتضرب في الأرض من أجل الرزق، وتجتهد وتتعب من أجل أَنْ يهبكَ اللهُ ما في الأسباب من عطاء.

وحينئذ تصبح من المُفْلِحِين الذين يهديهم الله جنته. يقول الحق جل عُلَاه: {والذين يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ وبالآخرة هُمْ يُوقِنُونَ أولئك على هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وأولئك هُمُ المفلحون} [البقرة: 4 - 5] .

وشاء الحق سبحانه أن يأتي بلفظ المُفْلِح كصفة للمؤمن في الجنة، لأن المؤمن قد حرثَ الدنيا بالعمل الصالح وبذل جهده ليقيمَ منهج الله في الأرض، ونصَبَ قامته، ونعلم أن نَصْب القَامَة يدلُّ على أن مَنْ يعمل قد أصابه التعب، وذلك في الحياة الدنيا.

أما في الجنة، فيقول الحق:

{لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ} [الحجر:‌

‌ 48]

.

ص: 7714

أي: لا يصيبهم فيها تعب، ولا يُخْرَجون من الجنة، ذلك أنهم قد نَالُوا فيها الخلود.

وهكذا تكلَّم سبحانه عن الغَاوين، وقد كانوا أخلَاّء في الدنيا يمرحُون فيها بالمعاصي؛ وهم مَنْ ينتظرهم عقابُ الجحيم. وتكلَّم عن العباد المُخلصين الذين سيدخلون الجنة؛ ومنهم مَنِ اختلفتْ رُؤَاه في الدنيا، ولم يربط بينهم تآلفٌ أو محبّة؛ لكنهم يدخلون الجنة، وتتصافَى قلوبهم من أيِّ خلاف قد سبق في الدنيا.

ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك: {نَبِّىءْ عِبَادِي

} .

ص: 7715

والخطاب هنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم َ. والإنباء هو الإخبار بأمر له خطورته وعظمته؛ ولا يقال (نبيء) في خبر بسيط. وسبق أن قال الحق سبحانه عن هذا النبأ: {عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ عَنِ النبإ العظيم} [النبأ: 1 - 2] .

وقال سبحانه أيضاً عن النبأ: {قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ} [ص: 67 - 68] .

ونفهم من القول الكريم أنه الإخبار بنبأ الآخرة ما سوف يحدثُ فيها، وهنا يأتي سبحانه بخبر غُفْرانه ورحمته الذي يختصُّ به عباده المخلصين المُتقِين الذين يدخلون الجنة، ويتمتَّعون بخيْراتها خالدين فيها.

ولقائل أنْ يسأل: أليستْ المغفرة تقتضي ذَنْباً؟

ص: 7715

ونقول: إن الحق سبحانه خلقنا ويعلم أن للنفس هواجسَ؛ ولا يمكن أنْ تسلمَ النفس من بعض الأخطاء والذنوب والوسوسة؛ بدليل أنه سبحانه قد حَرَّم الكثير من الأفعال على المسلم؛ حمايةً للفرد وحمايةً للمجتمع أيضاً، ليعيش المجتمع في الاستقرار الآمن.

فقد حرَّم الحق سبحانه على المسلم السرقة والزِّنَا وشُرْب الخمر، وغيرها من المُوبِقات والخطايا، والهواجس التي تقوده إلى الإفساد في الأرض، وما دام قد حرَّم كل ذلك فهذا يعني أنها سوف تقع، ونزل منهجه سبحانه مُحرِّماً ومُجَرِّماً لمن يفعل ذلك، كما يُلزم كل المؤمنين به بضرورة تجنُّب هذه الخطايا.

وهنا يُوضِّح سبحانه أن مَنْ يغفل من المؤمنين ويرتكب معصية ثم يتوب عنها، عليه ألَاّ يُؤرِّق نفسه بتلك الغفلات؛ فسبحانه رءوفٌ رحيم.

ونحن حين نقرأ العربية التي قد شرَّف اللهُ أهلَها بنزول القرآن بها، نجد أقسامَ الكلام إما شِعْراً أو نَثْراً، والشعر له وَزْن وقافية، وله نَغَم وموسيقى، أما النثر فليس له تلك الصِّفات، بل قد يكون مَسْجوعاً أو غَيْرَ مسجوع.

وإنْ تكلمتَ بكلام نثريٍّ وجِئْتَ في وسطه ببيت من الشعر، فالذي يسمعك يُمكِنه أن يلحظ هذا الفارقَ بين الشعر والنثر. ولكن القرآن كلامُ ربٍّ قادر؛ لذلك أنت تجد هذه الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها وتقرؤها وكأنها بَيْتٌ من الشعر فهي موزونة مُقفَّاة:

ص: 7716

«نَبِّيء عِبَادِي أَنِّي أنَا الغفورُ الرَّحيمُ»

ووزنها من بَحْر المُجْتث ولكنها تأتي وَسْط آيات من قبلها ومن بعدها فلا تشعر بالفارق، ولا تشعر أنك انتقلتَ من نثرٍ إلى شعٍر، ومن شعر إلى نثر؛ لأن تضامن المعاني مع جمال الأسلوب يعطينا جلال التأثير المعجز، وتلك من أسرار عظمة القرآن.

ثم يقول الحق سبحانه فيما يخص الكافرين أهل الغواية: {وَأَنَّ عَذَابِي

} .

ص: 7717

وهكذا يكتمل النبأ بالمغفرة لِمَن آمنوا؛ والعذاب لِمَنْ كفروا، وكانوا من أهل الغواية. ونلحظ أنه سبحانه لم يُشدِّد في تأكيد العذاب، ذلك أن رحمته سبقتْ غضبه، مصداقاً لقوله صلى الله عليه وسلم َ:«إن الله تعالى خلق الرحمة يوم خلقها مائةَ رحمة، فأمسك عنده تسعاً وتسعين رحمة، وأرسل في خلَقْه كلِّهم رحمةً واحدةً، فلو يعلم الكافر بكل الذي عند الله من الرحمة لم ييئس من الجنة؛ ولو يعلم المسلم بكل الذي عند الله من العذاب؛ لم يأمن من النار» .

ونلحظ أن الآيتين السابقتين يشرحهما قَوْل الحق سبحانه:

ص: 7717

{وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ على ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ العقاب} [الرعد: 6] .

ولذلك نرى أن الآيتين قد نبَّهتا إلى مَقَامي الرجاء والخوف، وعلى المؤمن أنْ يجمعَ بينهما، وألَاّ يُؤجِّل العمل الصالح وتكاليف الإيمان، وأن يستغفر من المعاصي؛ لأن الله سبحانه وتعالى يعامل الناس بالفضل لمن أخلص النية وأحسن الطوية. لذلك يقول الحديث:«لمَّا قضى الله الخَلْق كتب في كتابه فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي سبقت غضبي» .

ثم ينقلنا الحق سبحانه من بعد الحديث عن الصفات الجلالية والجمالية في الغفران والرحمة والانتقام إلي مسألة حسِّية واقعية تُوضِّح كل تلك الصفات، فيتكلم عن إبراهيم عليه السلام ويعطيه البُشْرى، ثم ينتقل لابن أخيه لوط فيعطيه النجاة، ويُنزِل بأهله العقاب.

يقول الحق سبحانه: {وَنَبِّئْهُمْ عَن. .} .

ص: 7718

وكلمة (ضيف) تدلُّ على المائل لغيره لقِرَىً أو استئناس، ويُسمونه «المُنْضوي» لأنه ينضوي إلى غيره لطلب القِرَى، ولطلب

ص: 7718

الأمن. ومن معاني المُنْضوي أنه مالَ ناحية الضَّوْء.

وكان الكرماء من العرب من أهل السماحة؛ لا تقتصر سماحتهم على مَنْ يطرقون بابهم، ولكنهم يُعلِنون عن أنفسهم بالنار ليراها مَنْ يسير في الطريق ليهتدي إليهم.

وكلنا قرأنا ما قال حاتم الطائي للعبد الذي يخدمه:

أَوْقِد النارَ فإنَّ الليْلَ لَيْل قُرّ

والريحُ يَا غُلامُ ريحُ صِرّ

إنْ جلبت لنَا ضَيْفاً فأنت حُر

وهكذا نعرف أصلَ كلمة انضوى. أي: تَبِع الضوء.

وكلمة (ضيف) لفظ مُفْرد يُطلَق على المفرد والمُثنَّى والجمع، إناثاً أو ذكوراً، فيُقال: جاءني ضيف فأكرمته، ويقال: جاءني ضيف فأكرمتها، ويقال: جاءني ضيف فأكرمتهما، وجاءني ضيف فأكرمتهم، وجاءني ضيف فأكرمتهُنَّ.

وكلُّ ذلك لأن كلمة «ضيف» قامت مقام المصدر. ولكن هناك من أهل العربية مَنْ يجمعون «ضيف» على «أضياف» ؛ ويجمعون «ضيف» على «ضيوف» ، أو يجمعون «ضيف» على «ضِيفان» .

ولننتبه إلى أن الضيفَ إذا أُطلِق على جَمْع؛ فمعناه أن فرداً قد

ص: 7719