الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مثال ذلك أيضاً في قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ الله عَلَيْكُمُ الليل سَرْمَداً إلى يَوْمِ القيامة مَنْ إله غَيْرُ الله يَأْتِيكُمْ بِضِيَآءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ} [القصص: 71] .
فالضياء يُرى لا يُسمع. . لكنه قال: {أَفَلَا تَسْمَعُونَ} لأنه يتكلم عن الليل، ووسيلة الإدراك في الليل هي السمع.
ثم يقول الحق تبارك وتعالى: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي
…
} .
الكون الذي خلقه الله تعالى فيه أجناس متعددة، أدناها الجماد المتمثل في الأرض والجبال والمياه وغيرها، ثم النبات، ثم الحيوان، ثم الإنسان.
وفي الآية السابقة أعطانا الحق تبارك وتعالى نموذجاً للجماد الذي اهتزَّ بالمطر وأعطانا النبات، وهنا تنقلنا هذه الآية إلى جنس أعلى وهو الحيوان.
{وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأنعام لَعِبْرَةً
…
} [النحل:
66]
.
والمقصود بالأنعام: الإبل والبقر والغنم والماعز، وقد ذُكِرتْ في سورة الأنعام في قوله تعالى: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مَّنَ الضأن اثنين وَمِنَ المعز اثنين قُلْءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأنثيين أَمَّا اشتملت عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأنثيين نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ وَمِنَ الإبل اثنين وَمِنَ البقر اثنين
…
} [الأنعام: 143 - 144] .
هذه هي الأنعام.
وقوله سبحانه: {لَعِبْرَةً} العِبْرة: الشيء الذي تعتبرون به، وتستنجون منه ما يدلكم على قدرة الصانع الحكيم سبحانه وتعالى، وتأخذون من هذه الأشياء دليلاً على صِدْق منهجه سبحانه فتصدقونه.
ومن معاني العبرة: العبور والانتقال من شيء لآخر. . أي: أن تأخذ من شيء عبرة تفيد في شيء آخر. ومنها العَبْرة (الدمعة)، وهي: شيء دفين نبهْتَ عنه وأظهرتَهُ.
والمراد بالعبرة في خلق الأنعام:
{نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَناً خَالِصاً سَآئِغاً لِلشَّارِبِينَ} [النحل: 66] .
مادة: سقى جاءت في القرآن مرة «سقى» . ومرة «أَسْقى» ، وبعضهم قال: إن معناهما واحد، ولكن التحقيق أن لكل منهما
معنًى، وإن اتفقا في المعنى العام. سقى: كما في قوله تعالى: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً} [الإنسان: 21] .
أي: أعطاهم ما يشربونه. . ومضارعه يَسقي. ومنها قوله تعالى في قصة موسى عليه السلام: {فسقى لَهُمَا
…
} [القصص: 24] .
أما أسقى: كما في قوله تعالى: {فَأَنزَلْنَا مِنَ السمآء مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَآ أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ} [الحجر: 22] .
فمعناه أنه سبحانه أنزل الماء من السماء لا يشربه الناس في حال نزوله، ولكن ليكون في الأرض لمن أراد أنْ يشربَ. . فالحق تبارك وتعالى لم يفتح أفواه الناس أثناء نزول المطر ليشربوا منه. . لا. . بل هو مخزون في الأرض لمن أراده. والمضارع من أَسْقى: يُسقي.
إذن: هناك فَرْق بين الكلمتين، وإنِ اتفقنا في المعنى العام. . وفرْق بين أن تُعطي ما يُستفَادُ منه في ساعته، مثل قوله:{وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ. .} [الإنسان: 21] .
وبين أنْ تعطي ما يمكن الاستفادة منه فيما بعد كما في قوله:
{فَأَنزَلْنَا مِنَ السمآء مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ} [الحجر: 22] .
لذلك يقولون: إن الذي يصنع الخير قد يصنعه عاجلاً، فيعطي المحتاج مثلاً رغيفاً يأكله، وقد يصنعه مؤُجّلاً فيعطيه ما يساعده على الكسْب الدائم ليأكل هو متى يشاء من كسْبه.
والحق تبارك وتعالى أعطانا هذه الفكرة في سورة الكهف، في قصة ذي القرنين، قال تعالى:
{حتى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْماً لَاّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً} [الكهف: 93] .
فما داموا لا يفقهون قَوْلاً. . فكيف تفاهم معهم ذو القرنين، وكيف قالوا:{ياذا القرنين إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأرض فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً على أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً} [الكهف: 94] .
نقول: الذي يريد أن يفعل الخير والمعروف يسعى إليه ويحتال للوصول إليه وكأنه احتال أنْ يفهمهم، وصبر عليهم حتى توصّل إلى طريقة للتفاهم معهم، في حين أنه كان قادراً على ترْكهم والانصراف عنهم، وحُجّته أنهم لا يفقهون ولا يتكلمون.
فلما أراد ذو القرنين أن يبني لهم السد لن يَبْنِ هو بنفسه، بل علَّمهم كيف يكون البناء، حتى يقوموا به بأنفسهم متى أرادوا ولا يحتاجون إليه. . فقال:
إذن: علَّمهم وأحسن إليهم إحساناً دائماً لا ينتهي.
وقوله: {مِّمَّا فِي بُطُونِهِ
…
} [النحل: 66] .
أي: مما في بطون الأنعام، فقد ذكَّر الضمير في (بطونه) باعتبار إرادة الجنس.
وقد أراد الحق سبحانه أن يخرج هذا اللبن:
{مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَناً خَالِصاً} [النحل: 66] .
والفَرْث في كرش الحيوان من فضلات طعامه.
فالعبرة هنا أن الله تعالى أعطانا من بين الفَرْث، وهو رَوَثُ الأنعام وبقايا الطعام في كرشها، وهذا له رائحة كريهة، وشكل قذر مُنفّر، ومن بين دم، والدم له لونه الأحمر، وهو أيضاً غير مستساغ؛ ومنهما يُخرِج لنا الخالق سبحانه لبناً خالصاً من الشوائب نقياً سليماً من لون الدم ورائحة الفَرْث.
ومَنْ يقدر على ذلك إلا الخالق سبحانه؟
ويُنهي الحق سبحانه الآية بقوله واصفاً هذا اللبن:
{لَّبَناً خَالِصاً سَآئِغاً لِلشَّارِبِينَ} [النحل: 66] .
أي: يسيغه شاربه ويستلذّ به، ولا يُغَصُّ به شاربه، بل هو مُسْتساغ سَهْل الانزلاق أثناء الشُّرْب؛ لأن من الطعام أو الشراب ما يحلو لك ويسُوغ وتهنأ به، ولكنه قد لا يكون مريئاً.
ولذلك، فالحق سبحانه يقول:{فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً} [النساء: 4] .
هنيئاً أي: تستلِذّون به، ومريئاً: أي نافعاً للجسم، يمري عليك؛ لأنك قد تجد لَذة في شيء أثناء أَكْله أو شُرْبه، ثم يسبِّب لك متاعب فيما بَعْد، فهو هَنِيءٌ ولكنه غير مَرِيء.
فاللبن من نِعَم الله الدالة على قدرته سبحانه، وفي إخراجه من بين فَرْث ودم عبرة وعِظَة، وكأن الحق سبحانه يعطينا هذه العبرة لينقلنا من المعنى الحسيِّ الذي نشاهده إلى المعنى القيميّ في المنهج، فالذي صنع لنا هذه العبرة لإصلاح قالبنا قادرٌ على أن يصنعَ لنا من المنهج ما يُصلِح قلوبنا.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَمِن ثَمَرَاتِ
…
} .
ثمرات النخيل هي: البلح. والأعناب هو: العنب الذي نُسمّيه الكَرْم. والتعبير القرآني هنا وإن امتنَّ على عباده بالرزق الحسن، فإنه لا يمتنّ عليهم بأن يتخذوا من الأعناب سكراً: أي مُسْكِراً، ولكن يعطينا الحق سبحانه هنا عبرةً فقد نزلتْ هذه الآيات قبل تحريم الخمر.
وكأن الآية تحمل مُقدّمة لتحريم الخمر الذي يستحسنونه الآن ويمتدحونه؛ ولذلك يقول العلماء: إن الذي يقرأ هذه الآية بفِطنة المستقْبِل عن الله يعلم أن لله حُكْماً في السَّكر سيأتي.
كيف توصَّلوا إلى أن لله تعالى حُكْماً سيأتي في السَّكر؟
قالوا: لأنه قال في وصف الرزق بأنه حسن، في حين لم يَصِفْ السَّكر بأنه حسن، فمعنى ذلك أنه ليس حسناً؛ ذلك لأننا نأكل ثمرات النخيل (البلح) كما هو، وكذلك نأكل العنب مباشرة دون تدخُّل مِنّا فيما خلق الله لنا.
أما أنْ نُغيّر من طبيعته حتى يصير خمراً مُسْكراً، فهذا إفساد في الطبيعة التي اختارها الله لنا لتكون رزقاً حَسناً.
وكأنه سبحانه يُنبّه عباده، أنَا لا أمتنُّ عليكم بما حرَّمْتُ، فأنا لم أُحرِّمه بَعْد، فاجعلوا هذا السَّكر كما ترونه متعةً لكم، ولكن خذوا منه عبرة أَنِّي لم أَصِفْه بالحُسْن؛ لأنه إنْ لم يكُنْ حَسَناً فهو قبيح، فإذا ما جاء التحريم فقد نبهتكم من بداية الأمر.
ثم يقول تعالى:
{إِنَّ فِي ذلك لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [النحل: 67] .
لأن العقل يقتضي أنْ نُوازِنَ بين الشيئين، وأن نسأل: لماذا لم يوصف السَّكر بأنه حَسَن؟ . . أليس معناه أن الله تعالى لا يحب هذا الأمر ولا يرضاه لكم؟
إذن: كأن في الآية نيّة التحريم، فإذا ما أنزل الله تحريم الخمر كان هذا تمهيداً له.
والآية هي: الأمر العجيب الذي يُنبئكم الله الذي خلق لكم هذه الأشياء لسلامة مبانيكم وقوالبكم المادية، قادر ومأمون على أن يُشرّع لكم ما يضمن سلامة معانيكم وقلوبكم القيمية الروحية.
ثم يقول الحق سبحانه: {وأوحى رَبُّكَ. .} .
النحل خَلْق من خَلْق الله، وكل خَلْق لله أودع الله فيه وفي غرائزه ما يُقيم مصالحه، يشرح ذلك قوله تعالى:{الذي خَلَقَ فسوى والذي قَدَّرَ فهدى} [الأعلى: 2 - 3] .
أي: خلق هذه كذا، وهذه كذا حَسْب ما يتناسب مع طبيعته؛ ولذلك تجد ما دون الإنسان يسير على منهج لا يختلف. . فالإنسان مثلاً قد يأكل فوق طاقته، وقد يصل إلى حَدِّ التُّخْمة، ثم بعد ذلك يشتكي مرضاً ويطلب له الدواء.
أما الحيوان فإذا ما أكل وجبته، وأخذ ما يكفيه فلا يزيد عليه أبداً، وإنْ أجبرته على الأكل؛ ذلك لأنه محكوم بالغريزة الميكانيكية، وليس له عقل يختار به.
وضربنا مثلاً للغريزة في الحيوان بالحمار الذي يتهمونه دائماً ويأخذونه مثلاً للغباء، إذا سُقْتَه ليتخطى قناة ماء مثلاً وجدته ينظر إليها وكأنه يقيس المسافة بدقة. . فإذا ما وجدها في مقدوره قفزها دون تردد، وإذا وجدها فوق طاقته، وأكبر من قدرته تراجع
ولم يُقدِم عليها، وإنْ ضربتَه وصِحْتَ به. . فلا تستطيع أبداً إجباره على شيء فوق قدرته.
ذلك لأنه محكوم بالغريزة الآلية التي جعلها الله سبحانه فيه، على خلاف الإنسان الذي يفكر في مثل هذه الأمور ليختار منها ما يناسبه، فهذه تكون كذا، وهذه تكون كذا، فنستطيع أن نُشبِّه هذه الغريزة في الحيوان بالعقل الإلكتروني الذي لا يعطيك إلا ما غذَّيته به من معلومات. . أما العقل البشري الرباني فهو قادر على التفكير والاختيار والمفاضلة بين البدائل.
يقول الحق سبحانه:
{وأوحى رَبُّكَ إلى النحل
…
} [النحل: 68] .
الحق تبارك وتعالى قد يمتنّ على بعض عبادة ويُعلّمهم لغة الطير والحيوان، فيستطيعون التفاهم معه ومخاطبته كما في قصة سليمان عليه السلام. . والله سبحانه الذي خلقها وأبدعها يُوحِي إليها ما يشاء. . فما هو الوحي؟
الوحي: إعلام من مُعْلِم أعلى لمُعْلَم أدنى بطريق خفيّ لا نعلمه نحن، فلو أعلمه بطريق صريح فلا يكون وَحْياً.
فالوَحْي إذن يقتضي: مُوحِياً وهو الأعلى، ومُوحَىً إليه وهو الأَدْنَى، ومُوحًى به وهو المعنى المراد من الوَحْي.
والحق تبارك وتعالى له طلاقة القدرة في أنْ يُوحي ما يشاء لما يشاء من خَلْقه. . وقد أوحى الحق سبحانه وتعالى إلى الجماد في قوله تعالى: {إِذَا زُلْزِلَتِ الأرض زِلْزَالَهَا وَأَخْرَجَتِ الأرض أَثْقَالَهَا وَقَالَ الإنسان مَا لَهَا يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا بِأَنَّ رَبَّكَ أوحى لَهَا} [الزلزلة: 1 - 5] .
أعلمها بطريق خفيّ خاص بقدرة الخالق في مخلوقه.
وهنا أوحى الله إلى النحل.
وأوحى الله إلى الملائكة: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الملائكة أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الذين آمَنُواْ
…
} [الأنفال: 12] .
وأوحى إلى الرسل: {إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ كَمَآ أَوْحَيْنَآ إلى نُوحٍ والنبيين مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَآ إلى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ والأسباط وعيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ
…
}
[النساء: 163] .
وأوحى إلى المقربين من عباده: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الحواريين أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي. .} [المائدة: 111] .
وقد أوحى إليهم بخواطر نورانية تمرُّ بقلوبهم
وأوحى سبحانه إلى أم موسى:
{وَأَوْحَيْنَآ إلى أُمِّ موسى أَنْ أَرْضِعِيهِ. .} [القصص: 7] .
هذا هو وَحْي الله إلى ما يشاء من خَلْقه: إلى الملائكة، إلى الأرض، إلى الرسل، إلى عباده المقرّبين، إلى أم موسى، إلى النحل. . الخ.
وقد يكون الوحي من غيره سبحانه، ويُسمَّى وَحْياً أيضاً، كما في قوله تعالى:{وَإِنَّ الشياطين لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَآئِهِمْ. .} [الأنعام: 121] .
وقوله: {يُوحِي بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ زُخْرُفَ القول غُرُوراً. .} [الأنعام: 112] .
لكن إذا أُطلِقَتْ كلمة (الوَحْي) مُطْلقاً بدون تقييد انصرفتْ إلى الوحي من الله إلى الرسل؛ لذلك يقول علماء الفقه: الوحي هو إِعلامُ الله نبيه بمنهجه، ويتركون الأنواع الأخرى: وَحْي الغرائز، وَحْي التَكوين، وَحْي الفطرة. . الخ.
وقوله: {أَنِ اتخذي مِنَ الجبال بُيُوتاً وَمِنَ الشجر وَمِمَّا يَعْرِشُونَ} [النحل: 68] .
كثير من الباحثين شغوفون بدراسة النحل ومراحل حياته منذ القدم، ومن هؤلاء باحث تتبّع المراحل التاريخية للنحل، فتوصّل إلى أن النحل أول ما وُجِد عاش في الجبال، ثم اتخذ الشجر، وجعل فيها أعشاشه، ثم اتخذ العرائش التي صنعها له البشر، وهي ما نعرفه الآن باسم الخلية الصناعية أو المنحل، ووَجْه العجب هنا أن هذا الباحث لا يعرف القرآن الكريم، ومع ذلك فقد تطابق ما ذهب إليه مع القرآن تمام التطابق.
وكذلك توصَّل إلى أن أقدمَ أنواع العسل ما وُجِد في كهوف الجبال، وقد تَوصَّلوا إلى هذه الحقيقة عن طريق حَرْق العسل وتحويله إلى كربون، ثم عن طريق قياس إشعاع الكربون يتم التوصّل إلى عمره. . وهكذا وجدوا أن عسل الكهوف أقدم أنواع العسل، ثم عسل الشجر، ثم عسل الخلايا والمناحل.
إذن: أوحى الله تعالى إلى النحل بطريق خفيّ لا نعلمه نحن، وعملية الوحي تختلف باختلاف الموحِي والموحَي إليه، ويمكن أنْ نُمثّل هذه العملية بالخادم الفَطِن الذي ينظر إليه سيده مُجرد نظرة فيفهم منها كل شيء: أهو يريد الشراب؟ أم يريد الطعام؟ أم يريد كذا؟
ثم يقول الحق سبحانه: {ثُمَّ كُلِي مِن
…
} .
عِلّة كَوْن العسل فيه شفاء للناس أنْ يأكلَ النحل من كُلِّ الثمرات ذلك لأن تنوُّع الثمرات يجعل العسل غنيّاً بالعناصر النافعة، فإذا ما تناوله الإنسان ينصرف كل عنصر منه إلى شيء في الجسم، فيكون فيه الشفاء بإذن الله.
ولكن الآن ماذا حدث؟ نرى بعض الناس يقول: أكلتُ كثيراً من
العسل، ولم أشعر له بفائدة. . نقول: لأننا تدخّلنا في هذه العملية، وأفسدنا الطبيعة التي خلقها الله لنا. . فالأصل أن نتركَ النحل يأكل من كُلّ الثمرات. . ولكن الحاصل أننا نضع له السكر مثلاً بدلاً من الزَّهْر والنوار الطبيعي، ولذلك تغيّر طعم العسل، ولم تَعُدْ له مَيْزته التي ذكرها القرآن الكريم.
لذلك؛ فالمتتبع لأسعار عسل النحل يجد تفاوتاً واضحاً في سعره بين نوع وآخر، ذلك حَسْب جودته ومدى مطابقته للطبيعة التي حكاها القرآن الكريم.
والحق سبحانه يقول:
{فاسلكي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً. .} [النحل: 69] .
أي: تنقّلي حُرّة بين الأزهار هنا وهناك؛ ولذلك لا نستطيع أنْ نَبني للنحل بيوتاً يقيم فيها، لا بُدَّ له من التنقُّل من بستان لآخر، فإذا ما جَفَّتْ الزراعات يتغذَّى النحل من عسله، ولكن الناس الآن يأخذون العسل كله لا يتركون له شيئاً، ويضعون مكانه السكر ليتغذَّى منه طوال هذه الفترة.
وقوله تعالى: {ذُلُلاً. .} [النحل: 69] .
أي: مُذلَّلة مُمهّدة طيِّعة، فتخرج النحل تسعى في هذه السُّبل، فلا يردها شيء، ولا يمنعها مانع، تطير هنا وهناك من زهرة لأخرى، وهل رأيت شجرة مثلاً رَدَّتْ نحلة؟ {. . لا. . قد ذَلَّلَ الله لها حياتها ويسَّرها.
ومن حكمته تعالى ورحمته بنا أنْ ذلَّلَ لنا سُبُل الحياة. . وذلَّل لنَا ما ننتفع به، ولولا تذليله هذه الأشياء ما انتفعنا بها. . فنرى الجمل الضخم يسوقه الصبي الصغير، ويتحكَّم فيه يُنيخه، ويُحمّله الأثقال، ويسير به كما أراد، في حين أنه إذا ثار الجمل أو غضب لا يستطيع أحدٌ التحكم فيه. . وما تحكَّم فيه الصبي الصغير بقوته ولكن بتذليل الله له.
أما الثعبان مثلاً فهو على صِغَر حجمه يمثِّل خطراً يفزع منه الجميع ويهابون الاقتراب منه، ذلك لأن الله سبحانه لم يُذلِّلْه لنا، فأفزعنا على صِغَر حجمه. . كذلك لو تأمنا البرغوث مثلاً. . كم هو صغير حقير، ومع ذلك يقضّ مضاجعنا، ويحرمنا لذة النوم في هدوء. . فهل يستطيع أحدٌ أنْ يُذلِّل له البرغوث؟}
وفي ذلك حكمة بالغة وكأن الحق سبحانه يقول لنا: إذا ذللتُ لكم شيئاً، ولو كان اكبر المخلوقات كالجمل والفيل تستطيعون الانتفاع به، وإن لم أذلِّله لكم فلا قدرة لكم على تذليله مهما كان حقيراً صغيراً. . إذن: الأمور ليست بقدرتك، ولكن خُذْها كما خلقها الله لك.
{يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا. .} [النحل: 69] .
ذلك أن النحلة تمتصّ الرحيق من هنا ومن هنا، ثم تتم في بطنها عملية طَهْي ربانية تجعل من هذا الرحيق شَهْداً مُصفَّى؛ لأنه قد يظن أحدهم أنها تأخذ الرحيق، ثم تتقيؤه كما هو. . فلم يَقُلْ القرآن: من أفواهها، بل قال: من بطونها. . هذا المعمل الإلهي الذي يعطينا عسلاً فيه شفاء للناس.
{شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ. .} [النحل: 69] .
ما دام النحل يأكل من كُلّ الثمرات، والثمرات لها عطاءاتٌ مختلفة باختلاف مادتها، واختلاف ألوانها، واختلاف طُعومها وروائحها. . إذن: لا بُدَّ أن يكون شراباً مختلفاً ألوانه.
{فِيهِ شِفَآءٌ لِلنَّاسِ
…
} [النحل: 69] .
لذلك وجدنا كثيراً من الأطباء، جزاهم الله خيراً يهتمون بعسل النحل، ويُجْرون عليه كثيراً من التجارب لمعرفة قيمته الطبية، لكن يعوق هذه الجهود أنهم لا يجدون العسل الطبيعي كما خلقه الله.
ومع ذلك ومع تدخّل الإنسان في غذاء النحل بقيت فيه فائدة، وبقيت فيه صفة الشفاء، وأهمها امتصاص المائية من الجسم، وأيّ ميكروب تريد أنْ تقضيَ عليه قم بامتصاص المائية منه يموت فوراً.
فإذا ما توفَّر لنا العسل الطبيعي الذي خلقه الله تجلَّتْ حكمة خالقه فيه بالشفاء، ولكنه إذا تدخّل الإنسان في هذه العملية أفسدها. . فالكون كله الذي لا دَخْلَ للإنسان فيه يسير سَيْراً مستقيماً لا يتخلَّف، كالشمس والقمر والكواكب. . الخ إلا الإنسان فهو المخلوق الوحيد الذي يخرج عن منهج الله.
فالشيء الذي لك دَخْلٌ فيه، إما أنْ تتدخّل فيه بمنهج خالقه أو تتركه؛ لأنك إذا تدخلْتَ فيه بمنهج خالقه يعطيك السلامة والخير، وإنْ تدخلْتَ فيه بمنهجك أنت أفسدتَه.
والحق سبحانه وتعالى يقول:
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُواْ فِي الأرض قالوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} [البقرة: 11] .
إنهم لا يعرفون. . لا يُفرِّقون بين الفساد والصلاح.
وفي القرآن أمثلة للناس الذين يُفسِدون في الأرض ويحسَبون أنهم يُحسِنون صُنْعاً، يقول تعالى:{قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بالأخسرين أَعْمَالاً الذين ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحياة الدنيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [الكهف: 103 - 104] .
فالذي اخترع السيارة وهذه الآلات التي تنفث سمومها وتُلوّث البيئة التي خلقها الله. . صحيح وفَّر لنا الوقت والمجهود في الحمل والتنقُّل، ولكن انظر إلى ما أصاب الناس من عَطَب بسبب هذه الآلات. . انظر إلى عوادم السيارات وآثارها على صحة الإنسان.
كان يجب على مخترع هذه الآلات أنْ يوازنَ بين ما تؤديه من منفعة وما تُسبِّبه من ضرر، وأضاف إلى الأضرار الصحية ما يحدث من تصادمات وحوادث مُروّعة تزهق بسببها الأرواح. . وبالله هل رأيت أن تصادمَ جملان في يوم من الأيام. . فلا بُدَّ إذن أن نقيسَ المنافع والأضرار قبل أنْ نُقدِم على الشيء حتى لا نُفِسد الطبيعة التي خلقها الله لنا.
وقوله تعالى:
{فِيهِ شِفَآءٌ لِلنَّاسِ
…
.} [النحل: 69] .
الناس: جَمْعٌ مختلفُ الداءات باختلاف الأفراد وتعاطيهم لأسباب
الداءات، فكيف يكون هذا الشراب شفاءٌ لجميع الداءات على اختلاف أنواعها؟ . . نقول: لأن هذا الشراب الذي أعدَّه الله لنا بقدرته سبحانه جاء مختلفاً ألوانه. . من رحيق مُتعدِّد الأنواع والأشكال والطُّعوم والعناصر. . ليس مزيجاً واحداً يشربه كل الناس، بل جاء مختلفاً متنوعاً باختلاف الناس، وتنوّع الداءات عندهم. . وكأن كل عنصر منه يُداوِي داءً من هذه الدَّاءات.
وقوله تعالى:
{إِنَّ فِي ذلك لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 69] . التفكّر: أنْ تُفكّر فيما أنت بصدده لتستنبطَ منه شيئاً لستَ بصدده، وبذلك تُثري المعلومات؛ لأن المعلومات إذا لم تتلاقح، إذا لم يحدث فيها توالد تقف وتتجمّد، ويُصاب الإنسان بالجمود الطموحي، وإذا أصيب الإنسان بهذا الجمود توقّف الارتقاء؛ لأن الارتقاءات التي نراها في الكون هي نتيجة التفكُّر وإعمال العقل.
لذلك فالحق سبحانه يُنبِّهنا حينما نمرُّ على ظاهرة من ظواهر الكون، ألا نمر عليها غافلين مُعرضين، بل نفكر فيها ونأخذها بعين الاعتبار. . يقول تعالى:{وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السماوات والأرض يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} [يوسف: 105] .
ففي الآية حَثٌّ على التفكّر في ظواهر الكون، وفيها تحذير من الإعراض والغفلة عن آيات الله، فبالفكر نستنبط من الكون ما نستفيد به.
ولو أخذنا مثلاً الذي اخترع الآلة البخارية. . كيف توصل إلى هذا الاختراع الذي أفاد البشرية؟ نجد أنه توصل إليه حينما رأى القِدْر الذي يغلي على النار يرتفع غطاؤه مع بخار الماء المتصاعد أثناء الغليان. . فسأل نفسه: لماذا يرتفع الغطاء؟ واستعمل عقله وأعمل تفكيره حتى توصَّل إلى قوة البخار المتصاعد، واستطاع توظيف هذه القوة في تسيير ودفع العربات.
وكذلك أرشميدس وغيره كثيرون توصلوا بالاعتبار والتفكُّر في ظواهر الكون، إلى قوانين في الطبيعة أدت إلى اختراعات نافعة نتمتع نحن بها الآن، فالذي اخترع العجلة، كم كانت مشقة الإنسان في حَمْل الأثقال؟ وما أقصى ما يمكن أنْ يحمله؟ فبعد أنْ اخترعوا العجلات واستُخدِمت في الحمل تمكّن الإنسان من حَمْل وتحريك أضعاف أضعاف ما كان يحمله.
الذي اخترع خزانات المياه. . كم كانت المشقة في استخراج الماء من البئر؟ أو من النهر؟ فبعد عمل الخزانات وضَخِّ المياه أصبحنا نجد الماء في المنازل بمجرد فَتْح الصنبور.
هذه كلها ثمرات العقل حينما يتدبَّر، وحينما يُفكِّر في ظواهر الكون، ويستخدم المادة الخام التي خلقها الله وحثَّنا على التفكُّر فيها والاستنباط منها. . وكأن الحق سبحانه يقول لنا: لقد أعطيتكم ضروريات الحياة، فإنْ أردتُم ترفَ الحياة وكمالياتها فاستخدموا نعمة العقل والتفكير والتدبّر لتصلوا إلى هذه الكماليات.
وهنا الحق سبحانه يلفتنا لَفْتةً أخرى. . وهي أنه سبحانه يجعل