الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقد آمن عمرو بن العاص، وعكرمة بن أبي جهل وغيرهم. ومن هؤلاء الذين نَجَوْا كان خالد بن الوليد سيف الله المسلول.
{فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} [النحل: 61] .
أي: إذا جاءت النهاية فلا تُؤخَّر، وهذا شيء معقول، ولكن كيف: ولا يستقدمون؟ إذا جاء الأجل كيف لا يستقدِمون؟ المسألة إذن ممتنعة مستحيلة. . كيف إذا جاء الأجل يكون قد أتى قبل ذلك؟
…
هذا لا يستقيم، لكن يستقيم المعنى تماماً على أن:
{وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} [النحل: 61] .
ليست من جواب إذا، بل تم الجواب عند (ساعة)، فيكون المعنى: إذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة، وإذا لم يجيء لا يستقدمون. والله أعلم.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ
…
} .
قوله تعالى:
{وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ
…
} [النحل:
62]
.
الأليق أن الذي يُخرج لله يجب أن يكون من أطيب ما أعطاه الله، فإذا أردت أن تتصدقَ تصدَّقْ بأحسن ما عندك، أو على الأقل من أوسط ما عندك. . لكن أنْ تتصدَّق بأخسِّ الأشياء وأرذلها. . أن تتصدق مما تكرهه، كالذي يتصدق بخبز غير جيد أو لحم تغيِّر، أو ملابس مُهَلْهَلة، فهذا يجعل لله ما يكره.
والحقيقة أن الناس إذا وثِقوا بجزاء الله على ما يعطيه العبد لأَعطَوْا ربهم أفضل ما يُحبون. . لماذا؟ لأن ذلك دليلٌ على حبّك للآخرة، وأنك من أهلها، فأنت تعمرها بما تحب، أما صاحب الدنيا المحبّ لها فيعطي أقل ما عنده؛ لأن الدنيا في نظره أهمّ من الآخرة.
وبهذا يستطيع الإنسان أنْ يقيسَ نفسه: أهو من أهل الآخرة، أم من أهل الدنيا بما يعطي لله عز وجل؟
قوله تعالى:
{وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ
…
} [النحل: 62] .
أي: مما ذكر في الآيات السابقة من قولهم: {لِلَّهِ البنات. .} [النحل: 57] .
وأن الملائكة بنات الله، وجعلوا بينه وبين الجنَّة نسباً، إلى غير ذلك من أقوالهم، وجعلوا لله البنات وهم يكرهون البنات؛ لذلك:{وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بالأنثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ} [النحل: 58] .
والمسألة هنا ليستْ مسألة جَعْل البنات لله، بل مُطْلق الجَعْل
منهم مردود عليهم، فلو جعلوا لله ما يحبون من الذكْران ما تُقبّل منهم أيضاً؛ لأنهم جعلوا لله ما لم يجعل لنفسه.
فالذين قالوا: عزير ابن الله. والذين قالوا: المسيح ابن الله. لا يُقبَل منهم؛ لأنهم جعلوا لله سبحانه ما لم يجعلْه لنفسه، فهذا مرفوض، وذلك مرفوض؛ لأننا لا نجعل لله إلا ما جعله الله لنفسه سبحانه.
فنحن نجعل لله ما نحب مما أباح الله، كما جاء في قوله تعالى: {لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ
…
} [آل عمران: 92] .
وقوله: {وَيُطْعِمُونَ الطعام على حُبِّهِ. .} [الإنسان: 8] .
ولذلك قال الحق سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم َ: {قُلْ إِن كَانَ للرحمن وَلَدٌ فَأَنَاْ أَوَّلُ العابدين} [الزخرف: 81] .
فلو كان له ولد لآمنتُ بذلك، لكن الحقيقة أنه ليس له ولد. . إذن: ليست المسألة في جَعْل ما يكرهون لله بل في مُطْلَق الجعلْ، ذلك لأننا عبيد نتقرّب إلى الله بالعبادة، والعابد يتقرّب إلى المعبود بما يحب المعبود أن يتقرّب به إليه، فلو جعل الله لنفسه شيئاً فهو على العين والرأس، كما في أمره أن ننفق مما نُحب، ومن أجود ما نملك.
ولذلك قوله تعالى: {لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92] .
رَاعِ حق الفقير وضرورة أنْ تجعله كنفسك، لا يكُنْ هيِّناً عليك فتعطيه أردأ ما عندك. . والحق تبارك وتعالى لما أراد أن نتقرّب إليه بالنّسُك وذَبْح الهَدْي والأضاحي قال:
{فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ البآئس الفقير} [الحج: 28] .
لأنك إذا علمتَ أنك ستأكل منها سوف تختار أجود ما عندك.
وقوله تعالى:
{وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الكذب. .} [النحل: 62] .
الكذب: قضية ينطق بها اللسان ليس لها واقع في الوجود، أي مخالفة للواقع المشهود به من القلب. . ولماذا يشهد عليه القلب؟
قالوا: لأنه قد يطابق الكلام الواقع، ونحكم عليه مع ذلك بالكذب، كما جاء في قوله تعالى:{إِذَا جَآءَكَ المنافقون قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ الله والله يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ والله يَشْهَدُ إِنَّ المنافقين لَكَاذِبُونَ} [المنافقون: 1] .
بالله، أهذه القضية صِدْق أم لا؟ إنها قضية صادقة. . أنت رسول الله وقد وافق كلامهم ما يعلمه الله. . فلماذا شهد عليهم الحق تبارك وتعالى أنهم (كاذبون) ؟
وفي أيِّ شيء هم كاذبون؟
قالوا: الحقيقة أنهم صادقون في قولهم: إنك لرسول الله، ولكنهم كذبوا في شهادتهم:
{نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ الله
…
} [المنافقون: 1] .
لأنهم لا يشهدون فعلاً؛ لأن الشهادة تحتاج أنْ يُواطئَ القلبُ اللسانَ ويسانده، وهذه الشهادة منهم من اللسان فقط لا يساندها القلب.
الإنسان عُرْضة لأن يقول الصدق مرة والكذب مرة، لكن هؤلاء بمجرد أن يقولوا (نشهد) فهم كاذبون، وهذا معنى:
{وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الكذب} [النحل: 62] .
لأنهم حينما يقولون مثلاً: العزير ابن الله، المسيح ابن الله، الملائكة بنات الله. هذه كلها قضايا باطلة ليس لها واقع يوافق منطوق اللسان. . فألسنتهم تصف الكذب.
وإنْ أردتَ أن تعرف الكذب الذي لا يطابق الواقع فاستمع إليه فبمجرد أنْ يُقال تعلم أنه كذب. . مثل ما حدث مع مُسيْلمة الذي ادَّعى النبوة، مجرد أنْ قال: أنا نبي قلنا: مسيلمة الكذاب.
ويقول الحق سبحانه:
{أَنَّ لَهُمُ الحسنى. .} [النحل: 62] .
أي: أن الكذب في قولهم (لهم الحسنى) فهذا اغترار وتمنٍّ على الله دون حق، ومثل هذه المقولة في سورة الكهف، في قصةِ أصحاب الجنتين، يقول تعالى:{وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَآ أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هذه أَبَداً وَمَآ أَظُنُّ الساعة قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إلى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنْقَلَباً} [الكهف: 35 - 36] .
فهذه مقولات ثلاث كاذبة:
قوله: {مَآ أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هذه أَبَداً} [الكهف: 35] .
هذه الأولى، فكم من أشياء تغيَّرت، ومن يضمن لك بقاء ما أنت فيه، والحق تبارك وتعالى يقول في آية أخرى:{إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَآ أَصْحَابَ الجنة إِذْ أَقْسَمُواْ لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ وَلَا يَسْتَثْنُونَ فَطَافَ عَلَيْهَا طَآئِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَآئِمُونَ فَأَصْبَحَتْ كالصريم} [القلم: 17 - 20] .
الكذبة الثانية: {وَمَآ أَظُنُّ الساعة قَائِمَةً} [الكهف: 36] .
فقد أنكر الساعة.
الكذبة الثالثة: {وَلَئِن رُّدِدتُّ إلى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنْقَلَباً} [الكهف: 36] .
وهذا هو الشاهد في الآية هنا، ففيها اغترار وتمنٍّ على الله دون حقٍّ، كمن ادعوْا أن لهم الحسنى، وهم ليسوا أهلاً لها.
وفي موضع آخر تأتي نفس المقولة:
وهكذا الإنسان في طَبْعه أنه لا يسأم من طلب الخير، وكلما وصل فيه إلى مرتبة تمنّى أعلى منها، يقنط إنْ مسَّه شر، وإنْ رفع الله عنه ورحمه قال: هذا لي. . أنا استحقه، وأنا جدير به. . ألَا قلتَ: هذا فضل من الله ونعمة، ثم بعد ذلك هو يتمنى على الله الأماني ويقول:{إِنَّ لِي عِندَهُ للحسنى} [فصلت: 50] .
ويُروى أن سيدنا داود عليه السلام مع ما أعطاه الله من الملْك والعظمة أنه صعد يوماً سطح منزله، فابتلاه الله بسِرْب من الجراد الذهب، فحينما رآه داود جعل يجمع منه في ثوبه، فقال له ربه: ألم أُغْنِك يا داود؟ قال: نعم ولكن لا غِنَى لي عن فضلك.
وقوله تعالى:
{لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النار
…
} [النحل: 62] .
لا جرم: أي حقاً أن لهم النار على ما تقدم منهم أن جعلوا لله ما يكرهون، وتصف ألسنتهم الكذب، وهذه أفعال يستحقون النار عليها.
وكلمة {لَا جَرَمَ} منها جارم بمعنى مجرم، فالمعنى: لا جريمة في عقاب هؤلاء، لأنه لا يُقال على عقوبة الجريمة أنها
جريمة. . إذن: لها معنيان، لا بُدَّ أن لهم النار، أو لا جريمة في أن لهم النار جزاء أعمالهم.
{وَأَنَّهُمْ مُّفْرَطُونَ} [النحل: 62] .
جاءت في كلمة مُفْرطون عدة قراءات: مفرَطون، مفرِطون، مفرِّطون، مفرَّطون. وجمعيها تلتقي في المعنى.
نحن حينما نصلي على جنازة مثلاً، إذا كان الميت مكلّفاً نقول في الدعاء له:«اللهم اغفر له، اللهم ارحمه. . اللهم إنْ كان مُحسناً فزِدْ في إحسانه، وإنْ كان مُسِيئاً فتجاوز عن سيئاته» . فإنْ كان صغيراً غير مُكلَّف قُلْنا في الدعاء له «اللهم اجعله فرَطاً وذخراً» . فما معنى فرَطاً هنا؟
معناه: أن يكون الطفل فَرَطاً لأبويه ومُقدّمة لهما إلى الجنة. . يمرُّ بين يديْ والديْه ويسبقهما إلى الجنة، وكأنه يقدم عليهما لِيُمهد لهما الطريق ليغفر الله لهما. . إذن: معنى مُفْرطون أي مُقدِّمون. ولكن إلى النار.
ومنه قوله تعالى عن فرعون: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ القيامة. .} [هود: 98] .
أي: يتقدمهم إلى النار. . كما كنتَ مُقدّماً عليهم، وإماماً لهم في الدنيا، فسوف تتقدمهم هنا وتسبقهم إلى النار.
نعلم أن الحق سبحانه وتعالى يُقسِم بما يشاء على ما يشاء، أما نحن فلا نقسم إلا بالله، وفي الحديث الشريف:«مَنْ كان حالفاً، فليحلف بالله أو ليصمت» .
والحق تبارك وتعالى هنا يحلف بذاته سبحانه {تالله} ، مثل: والله وبالله.
وقد جاء القسم لتأكيد المعنى؛ ولذلك يقول أحد الصالحين: من أغضب الكريم حتى ألجأه أن يقسم؟!
وقد يؤكد الحق سبحانه القسم بذاته، أو القسم ببعض خَلْقه، وقد ينفي القسم وهو يُقسِم، كما في قوله تعالى:{لَا أُقْسِمُ بهذا البلد} [البلد: 1] .
وقوله: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النجوم وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} [الواقعة: 75 - 76] .
ومعنى: لا أقسم أن هذا الأمر واضح جَليّ وضوحاً لا يحتاج إلى القسم، ولو كنت مُقسِماً لأقسمتُ به، بدليل قوله:{وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} [الواقعة: 76] .
إذن: الحق سبحانه يُقسِم بذاته ليؤكد لنا الأمر تأكيداً، وتأكيد الأمر عند الحكم في القضاء مَثلاً: إما بالإقرار، وإما باليمين. . فإذا ما أقسمت له وحلفتَ فقد سددْتَ عليه منافذ التكذيب.
والحق سبحانه يقول:
{لَقَدْ أَرْسَلْنَآ إلى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ} [النحل: 63] .
أي: لسْتَ بِدْعاً في أنْ تُكذَّب من قومك، فهذه طبيعة الذين يستقبلون الدعوة من الله على ألسنة الرسل؛ لأن الرسل لا يرسلهم الله إلا حينما يطمّ الفساد ويعُم.
ومعنى إرسال الرسل إذن أنه لا حَلَّ إلا أنْ تتدخلَ السماء؛ ذلك لأن الإنسان فيه مناعات يقينية في ذاته، وهي نفسه اللوامة التي تلومه إذا أخطأ وتُعدِّل من سلوكه، فهي رادع له من نفسه.
فإذا ما تبلَّدتْ هذه النفس، وتعوَّدتْ على الخطأ قام المجتمع من حولها بهذه المهمة، فمَنْ لا تُردِعه نفسه اللوامة يُردعه المجتمع من حوله. . فإذا ما فسدَ المجتمع أيضاً، فماذا يكون الحل؟ الحل أن تتدخل السماء لإنقاذ هؤلاء.
إذن: تتدخل السماء بإرسال الرسل حينما يعُمّ الفسادُ المجتمعَ
كله؛ ولذلك فأمة محمد صلى الله عليه وسلم َ من شرفها عند ربها أنْ قال لهم: أنتم مأمونون على رعاية منهجي في ذواتكم، لوَّامون لأنفسكم، آمرون بالمعروف، ناهون عن المنكر في غيركم؛ لذلك لن أرسل فيكم رسولاً آخر، فأنتم سوف تقومون بهذه المهمة.
لذلك قال الحق سبحانه: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بالمعروف وَتَنْهَوْنَ عَنِ المنكر
…
} [آل عمران: 110] .
فقد آمن أمة محمد صلى الله عليه وسلم َ على أن تكون حارسة لمنهجه، إما بالنفس اللوامة، وإما بالمجتمع الآمر بالمعروف الناهي عن المنكر، وهذا شرف عظيم لهذه الأمة.
إذن: يأتي الرسول حينما يعُمُّ الفساد. . فما معنى الفساد؟ . . الفساد: أن تُوجد مصالح طائفة على حساب طائفة أخرى، فأهل الفساد والمنتفعون به إذا جاءهم رسول ليُخلِّص الناس من فسادهم، كيف يقابلونه؟ أيقابلونه بالترحاب؟ بالطبع لا.
. لا بُدّ وأن يقابلوه بالكراهية والإنكار، ويعلنوا عليه الحرب دفاعاً عن مصالحهم.
ويُتبع الحق سبحانه هذا بقوله:
{فَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أَعْمَالَهُمْ. .} [النحل: 63] .
هنا يتدخل الشيطان، ويُزيّن لأهل الفساد أعمالهم، ويحثّهم على محاربة الرسل؛ فهؤلاء الذين سيقضون على نفوذكم، سوف يأخذون ما في أيديكم من مُتَع الدنيا، سوف يهزُّون مراكزكم،
ويحطُّون من مكانتكم بين الناس. . هؤلاء سوف يرفعون عليكم السِّفْلة والعبيد. .
وهكذا يتمسَّك أهل الفساد والظلم بظلمهم، ويعضون عليه بالنواجذ، ويقفون من الرسل موقف العداء، فوطِّنْ نفسك على هذا، فلن تُقابلَ من السادة إلا بالجحود وبالإنكار وبالمحاربة.
ثم يقول تعالى:
{فَهُوَ وَلِيُّهُمُ اليوم
…
} [النحل: 63] .
أي: في الآخرة، فما دام الشيطان تولَاّهم في الدنيا، وزيَّن لهم، وأغراهم بعداء الرسل، فَلْيتولَّهم الآن، وليدافع عنهم يوم القيامة. . وقد عرض لنا القرآن الكريم هذا الموقف في قوله تعالى:{كَمَثَلِ الشيطان إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكفر فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي برياء مِّنكَ إني أَخَافُ الله رَبَّ العالمين} [الحشر: 16] .
وفي جدالهم يوم القيامة مع الشيطان يقولون له: أنت أغويتَنا وزيَّنْتَ لنا. . ماذا يقول؟ يقول: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلَاّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِي فَلَا تَلُومُونِي ولوموا أَنفُسَكُمْ. .} [إبراهيم: 22] .
والسلطان هنا: إمّا بالحجة التي تُقنع، وإما بالقهر والغلبة والقوة التي تفرض ما تريد، وليس للشيطان شيء من ذلك. . لا يملك حُجة يُقنعك بها لتفعل، ولا يملك قوة يُجبرك بها أنْ تفعل وأنت كاره.
وهكذا يجادلهم الشيطان ويردُّ عليهم دعواهم، فليس له عليكم سلطان، بل مجرد الإشارة أوقعتْكم في المعصية.
وفي آية أخرى يقول الحق سبحانه: {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ اليوم مِنَ الناس وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ فَلَمَّا تَرَآءَتِ الفئتان نَكَصَ على عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي برياء مِّنْكُمْ إني أرى مَا لَا تَرَوْنَ إني أَخَافُ الله. .} [الأنفال: 48] .
وقوله:
{وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النحل: 63] .
يَصف العذاب هنا بأنه أليم شديد مُهلِك، وقد وصف الله العذاب بأنه أليم، عظيم، مُهين، شديد. . والعذاب شعور بالألم وإحساسٌ به، وقد توصَّل العلماء إلى أن الإحساس كله في الجلد؛ لذلك قال الحق سبحانه لِيُديمَ على هؤلاء العذاب:{كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ العذاب. .} [النساء: 56] .
وهكذا يستمر العذاب باستمرار الجلود وتبديلها.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الكتاب. .} .