المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

كما أن ما يحويه القرآن من آيات وأحكام ومعجزات ومعلومات - تفسير الشعراوي - جـ ١٣

[الشعراوي]

الفصل: كما أن ما يحويه القرآن من آيات وأحكام ومعجزات ومعلومات

كما أن ما يحويه القرآن من آيات وأحكام ومعجزات ومعلومات يحتاج في تعلُّمه إلى وقت طويل يتتلمذ فيه محمد على يد هؤلاء، وما جرّبْتم على محمد شيئاً من هذا كله.

وهل يُعقل أن ما في القرآن يمكن أن يطويه صَدْرُ واحدٍ من هؤلاء؟! لو حدث لكان له من المكانة والمنزلة بين قومه ما كان للنبي صلى الله عليه وسلم َ من منزلة، ولأشاروا إليه بالبنان ولذَاع صِيتُه، واشتُهر أمره، وشيء من ذلك لم يحدث.

وقوله تعالى:

{وهذا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ} [النحل: 103] .

أي: لغته صلى الله عليه وسلم َ، ولغة القرآن الكريم عربية واضحة مُبِينة، لا لَبْسَ فيها ولا غموض.

ثم يقول الحق سبحانه: {إِنَّ الذين لَا يُؤْمِنُونَ. .} .

ص: 8227

الحق تبارك وتعالى في قوله:

{إِنَّ الذين لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ الله. .} [النحل:‌

‌ 104]

.

ينفي عن هؤلاء صفة الإيمان، فكيف يقول بعدها:

{لَا يَهْدِيهِمُ الله

} [النحل: 104] .

ص: 8227

أليسوا غير مؤمنين، وغير مُهْتدين؟

قُلْنا: إن الهداية نوعان:

هداية دلالة وإرشاد، وهذه يستوي فيها المؤمن والكافر، فقد دَلَّ الله الجميع، وأوضح الطريق للجميع، ومنها قوله تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فاستحبوا العمى عَلَى الهدى

} [فصلت: 17] أي: أرشدناهم ودَلَلْناهم.

وهداية المعونة والتوفيق، وهذه لا تكون إلا للمؤمن، ومنها قوله تعالى:{والذين اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ} [محمد: 17] .

إذن: معنى:

{لَا يَهْدِيهِمُ الله. .} [النحل: 104] .

أي: هداية معونة وتوفيق.

ويصح أن نقول أيضاً: إن الجهة هنا مُنفكّة إلى شيء آخر، فيكون المعنى: لا يهديهم إلى طريق الجنة، بل إلى طريق النار، كما قال تعالى:{إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ لَمْ يَكُنِ الله لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً إِلَاّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ. .} [النساء: 168 - 169] .

بدليل قوله تعالى بعدها:

ص: 8228

{وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النحل: 104] .

ولأنه سبحانه في المقابل عندما تحدِّث عن المؤمنين قال: {وَيُدْخِلُهُمُ الجنة عَرَّفَهَا لَهُمْ} [محمد: 6] .

أي: هداهم لها وعرَّفهم طريقها.

ثم يقول الحق تبارك وتعالى: {إِنَّمَا يَفْتَرِي. .} .

ص: 8229

كأن الحق سبحانه وتعالى يقول: وإن افتريتم على رسول الله واتهمتموه بالكذب الحقيقي أنْ تُكذِّبوا بآيات الله، ولا تؤمنوا بها.

ونلاحظ في تذييل هذه الآية أن الحق سبحانه لم يَقُلْ: وأولئك هم الكافرون. بل قال: الكاذبون. ليدل على شناعة الكذب، وأنه صفة لا تليق بمؤمن.

ولذلك حينما «سُئِل رسول الله صلى الله عليه وسلم َ: أيسرق المؤمن؟ قال:» نعم «لأن الله قال: {والسارق والسارقة} [المائدة: 38] .

فما دام قد شرَّع حُكْماً، وجعل عليه عقوبة فقد أصبح الأمر وارداً ومحتمل الحدوث.»

ص: 8229

وسئل: أيزني المؤمن؟ قال: «نعم» ، لأن الله قال:{الزانية والزاني} [النور: 2] . «وسئل: أيكذب المؤمن؟ قال:» لا «.

والحديث يُوضّح لنا فظاعة الكذب وشناعته، وكيف أنه أعظم من كل هذه المنكرات، فقد جعل الله لكل منها عقوبة معلومة في حين ترك عقوبة الكذب ليدل على أنها جريمة أعلى من العقوبة وأعظم.

إذن: الكذب صفة لا تليق بالمؤمن، ولا تُتصوّر في حَقِّه؛ ذلك لأنه إذا اشتُهِر عن واحد أنه كذاب لما اعتاده الناس من كذبه، فنخشى أن يقول مرة: أشهد ألَاّ إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله فيقول قائل: إنه كذاب وهذه كذبة من أكاذيبه.

ثم يقول الحق سبحانه: {مَن كَفَرَ بالله

} .

ص: 8230

الحق سبحانه وتعالى سبق وأنْ تحدث عن حكم المؤمنين وحكم الكافرين، ثم تحدّث عن الذين يخلفون العهد ولا يُوفون به، ثم تحدث عن الذين افترَوْا على رسول الله والذين كذَّبوا بآيات الله، وهذه كلها قضايا إيمانية كان لا بُدَّ أنْ تُثار.

وفي هذه الآية الكريمة يوضح لنا الحق سبحانه وتعالى أن الإيمان ليس مجرد أن تقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله. فالقول وحده لا يكفي ولا بُدَّ وأنْ تشهدَ بذلك، ومعنى تشهد أنْ يُواطِيء القلب واللسان كل منهما الآخر في هذه المقولة.

والمتأمل لهذه القضية يجد أن القسمة المنطقية تقتضي أن يكون لدينا أربع حالات:

الأولى: أنْ يُواطِيءَ القلب اللسان إيجاباً بالإيمان؛ ولذلك نقول: إن المؤمن منطقيّ في إيمانه؛ لأنه يقول ما يُضمره قلبه.

الثانية: أنْ يُواطِيءَ القلب اللسان سلباً أي: بالكفر، وكذلك الكافر منطقي في كفره بالمعنى السابق.

الثالثة: أنْ يؤمن بلسانه ويُضمِرَ الكفر في قلبه، وهذه حالة المنافق، وهو غير منطقي في إيمانه حيث أظهر خلاف ما يبطن ليستفيد من مزايا الإيمان.

الرابعة: أن يؤمن بقلبه، وينطق كلمة الكفر بلسانه.

وهذه الحالة الرابعة هي المرادة في هذه الآية. فالحق تبارك وتعالى يعطينا هنا تفصيلاً لمن كفر بعد إيمان، وما سبب هذا الكفر؟ وما جزاؤه؟

ص: 8231

قوله:

{مَن كَفَرَ بالله مِن بَعْدِ إيمَانِهِ. .} [النحل: 106] .

هذه جملة الشرط تأخَّر جوابها إلى آخر الآية الكريمة، لنقف أولاً على تفصيل هذا الكفر، فإما أن يكون عن إكراه لا دَخْلَ للإنسان فيه، فيُجبر على كلمة الكفر، في حين قلبه مطمئن بالإيمان.

{مَن كَفَرَ بالله مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلَاّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بالإيمان. .} [النحل: 106] .

ثم سكت عنه القرآن الكريم ليدلّنا على أنه لا شيءَ عليه، ولا بأسَ أن يأخذ المؤمن بالتقية، وهي رخصة تقي الإنسان موارد الهلاك في مثل هذه الأحوال.

وفي تاريخ الإسلام نماذج متعددة أخذت بهذه الرخصة، ونطقتْ كلمة الكفر وهي مطمئنة بالإيمان.

وفي الحديث الشريف: «رفع عن أمتي: الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه» .

ويذكر التاريخ أن ياسر أبا عمار وزوجه سُمية أول شهيدين في الإسلام، فكيف استشهدا؟ كانا من المسلمين الأوائل، وتعرّضوا لكثير من التعذيب حتى عرض عليهم الكفار النطق بكلمة مقابل

ص: 8232

العفو عنهما، فماذا حدث من هذين الشهيدين؟ صَدَعا بالحق وأصرَّا على الإيمان حتى نالا الشهادة في سبيل الله، ولم يأخذا برخصة التقية.

وكان ولدهما عمار أول مَنْ أخذ بها، حينما تعرّض لتعذيب المشركين. «وقد بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم َ أن عمار بن ياسر كفر، فأنكر صلى الله عليه وسلم َ هذا، وقال:» إن إيمان عمار من مفرق رأسه إلى قدمه، وإن الإيمان في عمار قد اختلط بلحمه ودمه «.

فلما جاء عمار أقبل على رسول الله وهو يبكي، ثم قص عليه ما تعرَّض له من أذى المشركين، وقال: والله يا رسول الله ما خلَّصني من أيديهم إلا أنِّي تناولتك وذكرت آلهتهم بخير، فما كان من النبي صلى الله عليه وسلم َ إلا أن مسح دموع عمار بيده الشريفة وقال له» إنْ عادوا إليك فَقُلْ لهم ما قلت «.

وقد أثارت هذه الرخصة غضب بعض الصحابة، فراجعوا فيها

ص: 8233

رسول الله صلى الله عليه وسلم َ وقالوا: فما بال بلال؟ فقال:» عمار استعمل رخصة، وبلال صدع بالحق «.

ولا شكَّ أن هاتين منزلتان في مواجهة الباطل وأهله، وأن الصَّدْعَ بالحق والصبر على البلاء أعْلَى منزلةً، وأَسْمَى درجة من الأَخْذ بالرخصة؛ لأن الأول آمن بقلبه ولسانه، والآخر آمن بقلبه فقط ونطق لسانه الكفر.

لذلك، «ففي حركة الردة حاول مسيلمة الكذاب أن يطوف بالقبائل لينتزع منهم شهادة بصدق نُبوّته، فقال لرجل: ما تقول في محمد؟ قال: رسُول الله، قال: فما تقول فَّي؟ فقال الرجل في لباقة: وأنت كذلك، يعني أخرج نفسه من هذا المأزق دون أن يعترف صراحة بنبوة هذا الكذاب.

فقابل آخر وسأله: ما تقول في محمد؟ قال: رسول الله، قال: وما تقول فَّي؟ فقال الرجل متهكماً: اجهر لأني أصبحت أصمَّ الآن، وأنكر على مسيلمة ما يدعيه فكان جزاؤه القتل. فلما علم رسول الله صلى الله عليه وسلم َ خبرهما قال:» أحدهما استعمل الرخصة، والآخر صدع بالحق «.

ص: 8234

وقد تحدَّث العلماء عن الإكراه في قوله تعالى:

{إِلَاّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بالإيمان. .} [النحل: 106] .

وأوضحوا وجوه الإكراه وحكم كل منها، على النحو التالي:

إذا أكره الإنسان على أمر ذاتيٍّ فيه. كأن قيل له: اشرب الخمر وإلَاّ قتلتُك أو عذبتُك قالوا: يجب عليه في هذه الحالة أنْ يشربها وينجو بنفسه؛ لأنه أمر يتعلق به، ومن الناس مَنْ يعصون الله بشربها. فإنْ قيل له: اكفر بالله وإلَاّ قتلتُك أو عذبتُك، قالوا: هو مُخيَّر بين أن يأخذ بالتقيّة هنا، ويستخدم الرخصة التي شرعها الله له، أو يصدع بالحق ويصمد.

أما إذا تعلّق الإكراه بحقٍّ من حقوق الغير، كأنْ قيل لك: اقتل فلاناً وإلا قتلتك، ففي هذه الحالة لا يجوز لك قَتْله؛ لأنك لو قتلتهُ لقُتِلْت قِصَاصاً، فما الفائدة إذن؟ .

وبعد أن تحدّث الحق تبارك وتعالى عن حكم مَنْ أكرهَ وقلبه مطمئن بالإيمان، يتحدث عن النوع الآخر:

{ولكن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً. .} [النحل: 106] .

أي: نطق كلمة الكفر راضياً بها، بل سعيدة بها نفسه، مُنْشرِحاً بها صدره، وهذا النوع هو المقصود في جواب الشرط.

{فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ الله وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل: 106] .

فإنْ كانت الآيات قد سكتت عَمَّنْ أُكرهَ، ولم تجعل له عقوبة لأنه مكره، فقد بيَّنت أن من شرح بالكفر صدراً عليه غضب من الله أي: في الدنيا. ولهم عذاب عظيم أي: في الآخرة.

ص: 8235