المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فالآية هنا: {وَلَمْ يَكُ مِنَ المشركين} [النحل: 120] . أي: الشرك - تفسير الشعراوي - جـ ١٣

[الشعراوي]

الفصل: فالآية هنا: {وَلَمْ يَكُ مِنَ المشركين} [النحل: 120] . أي: الشرك

فالآية هنا: {وَلَمْ يَكُ مِنَ المشركين} [النحل: 120] .

أي: الشرك الخفي، فالأوصاف السابقة نفتْ عنه الشرك الأكبر، فأراد سبحانه أن ينفي عنه شركَ الأسباب أيضاً، وهو دقيق خفيّ.

ولذلك عندما أُلقِيَ عليه السلام في النار لم يلتفت إلى الأسباب وإنْ جاءت على يد جبريل عليه السلام، فقال له حينما عرض عليه المساعدة: أما إليك فلا. فأين الشرك الخفي إذن والأسباب عنده معدومة من البداية؟

ثم يقول الحق سبحانه: {شَاكِراً لأَنْعُمِهِ. .} .

ص: 8273

قوله تعالى: {شَاكِراً لأَنْعُمِهِ} [النحل:‌

‌ 121]

.

فيه تلميح لأهل مكة الذين جحدوا نعمة الله وكفروها، وكانت بلدهم آمنة مطمئنة، فلا يليق بكم هذا الكفر والجحود، وأنتم تدَّعُون أنكم على ملِّة إبراهيم عليه السلام فإبراهيم لم يكن كذلك، بل كان شاكراً لله على نعمه.

وقوله: {اجتباه} [النحل: 121] .

اصطفاه واختاره للنبوة، واجتباء إبراهيم عليه السلام كان عن اختبار، كما قال تعالى:{وَإِذِ ابتلى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ. .} [البقرة: 124] .

أي: اختبره ببعض التكاليف، فأتمها إبراهيم على أكمل وجه، فقال له ربه:

ص: 8273

{قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} [البقرة: 124] .

ولكنه لحبه أن تتصل الإمامة في ذريته قال: {قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي} [البقرة: 124] .

فعدَّل الله له هذه الرغبة، وصحَّح له، بأن ذريتك ستكون منها الظالم، فقال:{لَا يَنَالُ عَهْدِي الظالمين} [البقرة: 124] .

لذلك تعلَّم إبراهيم عليه السلام من هذا الموقف، وأراد أن يحتاط لنفسه بعد ذلك، فعندما أراد أن يطلب من ربه أن يرزق أهل مكة من الثمرات قال:{رَبِّ اجعل هذا بَلَداً آمِناً وارزق أَهْلَهُ مِنَ الثمرات مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بالله واليوم الآخر. .} [البقرة: 126] .

فصحَّح الله له أيضاً هذا المطلب، فالموقف هنا مختلف عن الأول، الأول كان في إمامة القيم والدين، وهذه لا يقوم بها ظالم، أما هذه فرزق وعطاء ربوبية يشمل المؤمن والكافر والطائع والعاصي، فالجميع في الرزق سواء، فقال تعالى:{وَمَن كَفَرَ. .} [البقرة: 126] .

أي: سأرزق الكافر أيضاً.

ص: 8274

وهنا تتجلى عظمة الربوبية التي تُربِّي الأنبياء، وتصنعهم على عَيْنها، فكل مواقف الأنبياء تتجمع في النهاية، وتعطينا خلاصة الكمال البشري.

ويدل على دقة إبراهيم عليه السلام في أداء ما طُلِب منه موقفه في بناء البيت، فبعد أن دَلَّه الله على مكانه أخذ يُزيح عنه آثار السيول، ويكشف عن قواعده، وكان يكفي إبراهيم لتنفيذ أمر ربه أنْ يرفع البناء إلى ما تناله يده من ارتفاع، ولكنه أحب أن يأتي بالأمر على أتمِّ وجوهه، وينفذه بدقة واحتياط، ففكَّر أن يأتي بحجر مرتفع، ويقف عليه ليزيد من ارتفاع البناء، فجاء بالحجر الذي هو مقام إبراهيم، كل ذلك وولده يساعده؛ لذلك لما أتى بالحجر جاء بحجر لا يرفعه إلا رجلان.

وكذلك موقفه الإيماني وتخلِّيه عن الأسباب، حينما ترك زوجه هاجر وصغيره إسماعيل في وادٍ غير ذي زرع، وفي مكان خالٍ من مُقوِّمات الحياة وأسباب العيش.

إنه لا يؤمن بالأسباب، إنما يؤمن بمُسبِّبها، وطالما أنه سبحانه موجود فسوف يُوفِّر لهم من الأسباب ما يحفظ حياتهم؛ لذلك حينما سألته هاجر: أهذا منزل أنزلكه الله أم من عندك؟

فلما علمت أنه من الله قالت: إذن لن يُضيِّعنا. وكأن إيمان

ص: 8275

إبراهيم نضح على زوجته، وملأ قلبها يقيناً في الله تعالى.

وقوله سبحانه:

{وَهَدَاهُ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [النحل: 121] .

كيف. . بعد كل هذه الأوصاف الإيمانية تقول الآيات (وَهَدَاهُ) أليست هذه كلها هداية؟

نقول: المراد زاده هداية، كما قال تعالى:{والذين اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ} [محمد: 17] .

ثم يقول الحق سبحانه: {وَآتَيْنَاهُ فِي الدنيا. .} .

ص: 8276

الحق سبحانه يُبيِّن أن جزاء إبراهيم عليه السلام عظيم في الدنيا قبل جزاء الآخرة، والمراد بحسنة الدنيا محبة جميع أهل الأديان له، وكثرة الأنبياء في ذريته والسيرة الطيبة والذكر الحسن.

وها نحن نتحدث عن صفاته ومناقبه ونفخر ونعتز به. وهذا العطاء من الله لإبراهيم في الدنيا؛ لأنه بالغ في طاعة ربه وعبادته.

وقد طلب إبراهيم عليه السلام من ربه هذه المكانة، فقال:{رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بالصالحين واجعل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخرين} [الشعراء: 83 - 84] .

حُكْماً: أي: حكمة أضع بها الأشياء في مواضعها.

ص: 8276